المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مجلس في استحباب البشير والتهنئة بالخير قال تعالى: - حدائق الأولياء - جـ ٢

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مجلس في استحباب البشير والتهنئة بالخير

قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}

(1)

وهذا وصف جليل، وهو الحرص على الخير استفادة وإجابة. وقال تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)}

(2)

. وفيها الترغيب بأنه مرتضى الرب تعالى، فليأنس به المتأدِّبون بالآداب والرحمة الدافعة للمضارّ، الجالبة للمسار والرضوان، الرَّافع للقدر المحصل لكل كرامة، والجنات الجامعة لكل خير ونعيم. وقال تعالى:{وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

(3)

وفيها نجاز الموعود. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)}

(4)

أي تقرُّ به العيون، وهذا من المسارّ العاجلة في الدنيا. وقال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى}

(5)

وفيه البشارة بالوسائط والرُّسل. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}

(6)

أي: فيكبر ويولد له، كما

(1)

سورة الزمر (17، 18).

أي يفهمونه ويعملون بما فيه، كقوله تبارك وتعالى لموسى. عليه الصلاة والسلام. حين آتاه التوراة:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. [تفسير ابن كثير (4/ 48)].

(2)

سورة التوبة (21).

(3)

سورة فصلت (30).

{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] أي أخلصوا العمل للَّه وعملوا بطاعة اللَّه تعالى على ما شرع اللَّه لهم، {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30]، قال مجاهد والسري وزيد ابن أسلم وابنه: يعني عند الموت، قائلين:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين، فإنا نخلفكم فيه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير. [تفسير ابن كثير (4/ 99)].

(4)

سورة الصافات (101).

(5)

سورة العنكبوت (31).

(6)

سورة الصافات (112).

ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب، وأخذ ذلك مسلما من غير حجة، وهذا كتاب اللَّه شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} [الصافات: 112]، ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ =

ص: 3

يشعر به: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)} [هود: 71]. وقال تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}

(1)

أي من بلغه الكبر، والبشارة الخير الصدق الأول. وقال تعالى:{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}

(2)

الآية. والآيات في ذلك كثيرة. وأما الأحاديث فكثيرة أيضًا جدًّا مشهورة في الصحيح وغيره، نذكر منها أربعة:

أولها: حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بشَّر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"

(3)

أخرجاه. والقَصَب هنا اللؤلؤ المجوف. والصَّخب: الصياح واللغط. والنَّصب: التعب. وما أعظم هذه البشارة، فقد حازت قصب السَّبق بسيد المرسلين.

ثانيها: حديث أبي موسى الأشعري أنه: "توضأ في بيته ثم خرج فقال: لألزمنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولأكوننَّ معه يومي هذا، فجاء إليه فوجده ببئر أريس وقد توسَّط قُفَّها وكَشَف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلَّمت عليه ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت: لأكونَنَّ بوَّابه. . . " فذكر الحديث. وفيه أن الصَّديق جاء فأذِنَ له وبشَّره بالجنة، ثم جاء عمر كذلك وفعلا كفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

، ثم جاء عثمان وأَذِنَ له

= بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] أي يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل، وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه، وهو صغير؛ لأن اللَّه تعالا قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرًا. [تفسير ابن كثير (4/ 14)].

(1)

سورة آل عمران (39).

(2)

سورة آل عمران (45).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3819) كتاب مناقب الأنصار، [20] باب تزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها، ومسلم في صحيحه [72 - (2433)] كتاب فضائل الصحابة، [12] باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

قال النووي: قال جمهور العلماء: المراد به قصب اللؤلؤ المجوف، كالقصر المنيف، وقيل: قصب من ذهب منظوم بالجوهر، قال أهل اللغة: القصب من الجوهر ما استطال منه تجويف، قالوا: ويقال لكل مجوف قصب. وقال الخطابي وغيره: المراد بالبيت هنا القصر، وأما الصخب فبفتح الصاد والخاء، وهو الصوت المختلط المرتفع، والنصب المشقة والتعب، ويقال فيه: نُصب، بضم النون فيسكان الصاد وبفتحهما، لغتان حكاهما القاضي وغيره كالحزن، والفتح أشهر وأفصح، وبه جاء القرآن، وقد نصب الرجل بفتح النون وكسر الصاد: إذا أعيا. [النووي في شرح مسلم (15/ 162) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

قوله في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما "دليا أرجلهما في البئر كمال دلاهما النبي صلى الله عليه وسلم فيها": هذا فعلاه للموافقة، وليكون أبلغ في بقاء النبي صلى الله عليه وسلم على حالته وراحته، بخلاف ما إذا لم يفعلاه، فربما استحيا منهما فرفعهما. وفي هذا دليل للغة الصحيحة أنه يجوز أن يقال: دليت الدلو في البئر، ودليت رجلي وغيرها فيه: كما يقال: أدلت، قال اللَّه تعالى:{فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19][النووي في شرح مسلم (15/ 140) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 4

وبشَّره بالجنة على بلوى تُصيبه" أخرجاه

(1)

.

الثالث: حديث أبي هريرة قال: "كنَّا قعودًا حول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر فى نفر. . . " فذكر قصة الحائط. وفيه: "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اذهب بنعلي هاتين

(2)

فما لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلَّا اللَّه مستيقنًا بها قلبُه فبشِّره بالجنة"" أخرجه مسلم

(3)

بطوله. وفيه إعطاء النعلين لتصديقه فيما يقله.

الرابع: حديث ابن شماسة

(4)

قال: "حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا وحوَّل وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشَّرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك بكذا؟ فأقبل بوجهه وقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلَّا اللَّه وأن محمد رسول اللَّه، وذكر الحديث بطوله

(5)

" أخرجه مسلم

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3674) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، [5] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذًا خليلا"، ومسلم في صحيحه [3] باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنهما.

(2)

أما إعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيدًا، وإن كان خبره مقبولا من غير هذا، واللَّه أعلم.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [52 - (31)] كتاب الإيمان، [10] باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا.

(4)

ابن شماسة المهري، وشماسة بالشين المعجمة في أوله بفتحها وضمها ذكرهما صاحب المطالع، والميم مخففة، وآخره سين مهملة ثم هاء، واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو، وقيل أبو عبد اللَّه، والمهري بفتح الميم وإسكان الهاء، وبالراء.

(5)

من أحكام الحديث عظم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان الظن باللَّه سبحانه وتعالى وذكر آيات الرجاء وأحاديث العفو عنده وتبشيره بما أعده اللَّه تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنه باللَّه تعالى ويهوى عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق.

وموضوع الدلالة له من هذا الحديث قول ابن عمرو لأبيه: أما بشرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكذا؟ وفيه ما كانت الصحابة من توقير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإجلاله. [النووي في شرح مسلم (2/ 119) طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [192 - (121)] كتاب الإيمان، [54] باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج.

ص: 5

‌مجلس في وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره والدُّعاء له وطلب الدُّعاء منه

قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}

(1)

الآية. أي لا تفارقوا الإسلام طَرْفَة عين. وسلف من الأحاديث حديث زيد بن أرقم في باب إكرام بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فينا خطيبًا فحمد اللَّه وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال: "أما بعد؛ أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولها: كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به"، فحثَّ على كتاب اللَّه ورغَّب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي، أُذكِّركم اللَّه في أهل بيتي"" أخرجه مسلم

(2)

بطوله. فروَّع بقوله: "يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب"، ووصى بكتاب اللَّه فإنه الأصل، وبأهل بيته.

وروينا من حديث أبي سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنهما قال: "أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة مُتقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا فظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عمن تركنا من أهلنا فأخبرناه، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلِّموهم ومُروهم وصلُّوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليُؤذِّن أحدكم وليؤمَّكم أكبركم""

(3)

أخرجاه. وللبخاري: "وصلُّوا كما رأيتموني أُصلي". قوله رفيقا: روي بفاء وقاف، وروي بقافين.

وروينا من حديث عمر بن الخطاب قال: "استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذِنَ

(1)

سورة البقرة (132).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2408)] كتاب فضائل الصحابة، [4] باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 148، 10/ 114)، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 206)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 643).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6008) كتاب الأدب، [27] باب رحمة الناس بالبهائم، ومسلم في صحيحه [292 - (674)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [53] باب من أحق بالإمامة، والنسائي (2/ 19 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 17)، وابن خزيمة في صحيحه (397)، وأحمد في مسنده (3/ 436)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/ 297).

ص: 6

وقال: "لا تنْسنا يا أخي من دُعائك"، فقال كلمة ما يسُرّني أن لي بها الدنيا". وفي لفظ:"أشركنا يا أخي في دعائك"

(1)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث سالم عن أبيه أنه: "كان يقول للرجل إذا أراد سفرًا: ادنُ منِّي أُودعك كما كان رسول اللَّه يودِّعنا فيقول: أستودع اللَّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك"

(2)

. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن يزيد الخطمي الصحابي قال: "كان رسول اللَّه إذا أراد أن يودِّع الجيش قال: "أستودع اللَّه دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم"

(3)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، إني أُريد سفرًا فزوِّدني. قال:"زوَّدك اللَّه التقوى" قال: زدني. قال: "وغفر ذنبك" قال: زدني. قعال: "ويسَّر لك الخير حيث ما كنت""

(4)

رواه الترمذي وحسَّنه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (1498) كتاب الصلاة، باب الدعاء، والترمذي (3562) كتاب الدعوات، باب [110]، منه باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه في سننه (2894) كتاب المناسك، باب فضل دعاء الحاج، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 251)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 325، 406)، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 397)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (379).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (3443) كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا ودع إنسانا، وأبو داود في سننه (2600) كتاب الجهاد، باب في الدعاء عند الوداع، والنسائي في الكبرى في السير، باب ما يقول إذا ودع، وفي عمل اليوم والليلة (ص 164)، باب ذكر الاختلاف على حنظلة ابن أبي سفيان، في باب ما يقول عند الوداع، وابن ماجه في سننه (2826)، وأحمد في مسنده (2/ 25، 38، 136)، والحاكم في المستدرك (1/ 442، 2/ 97)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2435)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 325، 6/ 400، 401) والعجلوني في كشف الخفا (1/ 137).

(3)

أخرجه أبو داود في سنه (2601) كتاب الجهاد، باب في الدعاء عند الوداع، والترمذي في سننه (3442)، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا ودع إنسانا، والحاكم في المستدرك (2/ 97)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 173)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 325).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (3444) كتاب الدعوات، باب [25] منه، باب ما يقول إذا ودع إنسانًا، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 325، 6/ 401، 402)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (437)، وابن حجر في المطالب العالية (1908)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (500، 527).

ص: 7

‌مجلس في الاستخارة والمشاورة

قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}

(1)

. أمر تعالى به أعلم الخلق وأعقلهم وأسدَّهم رأيا، فما الظن بغيره؟! وقال:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}

(2)

أي يتشاورون فيه.

وروينا من حديث جابر قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول

(3)

: "إذا همَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشيب وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاقدُرْهُ لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني وأصرفني عنه، واقدُر ليَ الخير حيث كان ثم رضِّني به" ويسمي حاجته"

(4)

أخرجه البخاري

(5)

. والاستخارة إنما هو في الإتيان بذلك الفعل في ذلك الوقت والحال لا في استبانة كونه خيرًا.

(1)

سورة آل عمران (159). كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو أن يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى علبه ذلك السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، إلى آخره. [تفسير ابن كثير (1/ 420)].

(2)

سورة الشورى (38).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6382) كتاب الدعوات، [50] باب الدعاء عند الاستخارة، وأبو داود في سننه (1538) كتاب الصلاة، باب في الاستخارة، والترمذي في سننه (480) في الصلاة، باب ما جاء في صلاة الاستخارة، والنسائي (6/ 80 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1383)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 52، 9/ 249)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1323)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 135)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 469).

(4)

قال الترمذي: حديث جابر حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي، وهو شيخ مدني ثقة، قال الثميخ أحمد شاكر بهامش الترمذي: وعبد الرحمن ثقة كما قال الترمذي، وحديثه هذا حديث صحيح، وقد أنكر عليه بعض العلماء هذا الحديث؛ ففي التهذيب قال أبو طالب عن أحمد: كان يروي حديثا منكرا عن جابر في الاستخارة، ليس يرويه غيره، وفيه قال ابن عدي: هو مستقيم الحديث، والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد روى حديث الاستخارة غير واحد من الصحابة، كما رواه ابن أبي الموالي. انتهى. [انظر هامش الترمذي للشيخ أحمد شاكر رحمه الله (2/ 346) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

تقدم تخريجه أول الحديث.

ص: 8

‌مجلس في استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج والغزو ونحوها من طريق والرجوع من طريق آخر لتكثير مواضع العبادة

روينا من حديث جابر رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق"

(1)

أخرجه البخاري. يعني ذهب في طريق ورجع في آخر.

وروينا من حديث ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المُعرَّس، وإذا دخل مكة دخل من الثَّنيَّة العليا وخرج من الثَّنيَّة السفلى"

(2)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (986) كتاب العيدين، [24] باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1434)، والألباني في إرواء الغليل (3/ 104)، وابن حجر في تغليق التعليق (386).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1533) كتاب الحج، [15] باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة، ومسلم في صحيحه [223 - (1257)] كتاب الحج، [37] باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا، والخروج منها من الثنية السفلى، ودخول بلده من طريق غير التي خرج منها، وأبو داود في سننه (1867)، وأحمد في مسنده (2/ 29، 30)، والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 84).

ص: 9

‌مجلس في استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم

كالوضوء والغسل والتَّيمم ولبس الثوب والنعل والحق والسراويل ودخول المسجد والسواك والاكتحال وقمى الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والسَّلام في الصلاة والأكل والشرب

(1)

والمصافحة واستلام الحجر الأسود والخروج من الخلاء والأخذ والعطاء وغير ذلك مما هو في معناه. ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط والبصاق عن اليسار ودخول الخلاء والخروج من المسجد وخلع الخُفِّ والنعل والسراويل والثوب والاستنجاء وفعل المستقذرات وشبه ذلك. قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)}

(2)

فالمفلح يؤتى كتابه بيمينه لأنه كتاب كريم، وضدُّه بخلافه. وقال تعالى:{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)}

(3)

. أخبر تعالى أن أصحاب الميمنة لهم شأن لأنهم

(1)

قال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال" وفي رواية ابن عمر "يأكل بشماله ويشرب بشماله": فيه استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهتهما بالشمال، وقد زاد نافع الأخذ والإعطاء، وهذا إذا لم يكن عذر، فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال، وفيه أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشيطان، وأن للشيطان يدين. [النووي في شرح مسلم (3/ 162) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

سورة الحاقة (19).

يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه:{هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] أي خذوا اقرأوا كتابيه؛ لأنه يحلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة؛ لأنه ممن بدل اللَّه سيئاته حسنات، قال عبد الرحمن ابن زيد: معنى {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] أي ها اقرأوا كتابيه، و"ؤم" زائدة، كذا قال، والظاهر أنها بمعنى "هاكم". [تفسير ابن كثير (4/ 415)].

(3)

سورة الواقعة (8، 9).

هكذا قسمهم إلي هذه الأنواع الثلانة، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 3] الآية، وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه.

وقال الإمام أحمد في مسنده بسنده عن معاذ بن جبل: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {وَأَصْحَابُ =

ص: 10

كرام على اللَّه تعالى فحازهم إلى الميمنة. أما الجنة العالية أو كل يمن وبركة مما لا يوصف. وأصحاب المشأمة بخلاف ذلك.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعجبه التيمُّن في شأنه كله؛ في طهوره وترجُّله وتنعُّله"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديثها أيضًا قالت: "كانت يد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اليُمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخَلائه، وما كان من أذى"

(2)

أخرجه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.

وروينا من حديث أم عطية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لهنَّ في غُسل ابنته: "ابدأْن بميامنها ومواضع الوضوء منها"

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمين أولهما تنعل وآخرهما تنزع"

(4)

أخرجاه.

= الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27]{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 41] فقبض بيده قبضتين فقال: "هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي". [تفسير ابن كثير (4/ 283)].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (168) كتاب الوضوء، [31] باب التيمن في الوضوء والغسل، ورقم (426) كتاب الصلاة، [47] باب التيمن في دخول المسجد وغيره، ورقم (5380) كتاب الأطعمة، [5] باب التيمن في الأكل وغيره، ورقم (5854) كتاب اللباس، [38] باب يبدأ بالنعل اليمنى، ورقم (5926)، [77] باب الترجيل، ومسلم في صحيحه [67 - (268)] كتاب الطهارة، [19] باب التيمن في الطهور وغيره، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 86، 216)، وأحمد في مسنده (6/ 188)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 409).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (32) كتاب الطهارة، باب كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء، وأحمد في مسنده (6/ 288).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (167) كتاب الوضوء، [31] باب التيمن في الوضوء والغسل، ورقم (1255) في الجنائز [10] باب يبدأ بميامن الميت، ورقم (1256)[11] باب مواضع الوضوء من الميت، ومسلم في صحيحه [42 - (939)] كتاب الجنائز (43)، [12] باب في غسل الميت.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5855) كتاب اللباس، [39] باب ينزع نعل اليسرى، ومسلم في صحيحه [67 - (2097)] كتاب اللباس والزينة، [19] باب استحباب لبس النعل في اليمنى أولا، والخلع من اليسرى أولا وكراهة المشي في نعل واحد، وأبو داود في سننه (4139) والترمذي في سننه (1779)، وابن ماجه (3616)، وأحمد في مسند (2/ 233، 245، 265)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 423)، والطبراني في المعجم الصغير (25)، وعبد الرزاق في مصنفه (20215).

ص: 11

وروينا من حديث حفصة: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه، ويجعل يساره لما سوى ذلك"

(1)

رواه أبو داود وغيره.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بمَيامِنكم"

(2)

حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.

وروينا من حديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس" أخرجاه

(3)

. وفي رواية أنه: "حلق شِقَّه الأيمن ثم الأيسر وقال لأبي طلحة: "اقسمه بين الناس""

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (32) كتاب الطهارة، باب كراهية مس الذكر بيمينه في الاستبراء، والحاكم في المستدرك (1/ 109) والزبيدي في الإتحاف (5/ 218).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4141)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 86)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (401)، والزيلعي في نصب الراية (1/ 34)، وابن حبان في صحيحه (147، 1452 - الموارد).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (171) كتاب الوضوء، [33] باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، ومسلم في صحيحه [323 - (1305)] كتاب الحج، [56] باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق.

(4)

أخرجه البخاري، تقدم قبل هذا بنحوه، ومسلم في صحيحه [326 - (1305)] كتاب الحج، [56] باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق، والترمذي في سننه (913) كتاب الحج، باب ما جاء بأي جانب الرأس يبدأ في الحلق، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 134)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 80).

ص: 12

‌مجلس في آداب الطعام

وفيه فصول

‌الأول: في التسمية في أوله والحمد في آخره

روينا من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سَمِّ اللَّه وكُلْ بيمينك وكل مما يليك"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللَّه تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم اللَّه -تعالى- في أوله فليقل: بسم اللَّه أوله وآخره"

(2)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث جابر مرفوعًا: "إذا دخل الرجل بيته فذكر اللَّه تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذا دخل فلم يذكر اللَّه تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر اللَّه تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء"

(3)

أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5376) كتاب الأطعمة، [2] باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، ومسلم في صحيحه [108 - 2022] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما.

قال النووي: في هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن الأكل وهي: التسمية والأكل باليمين والأكل مما يليه؛ لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة، وترك مروءة، وقد يتقذر صاحبه ولا سيما في الأمراق وشبهها، وهذا هو في الثريد والأمراق وشبهها، فإن كان ثمرا أو أجناسا فقد نقلوا إباحة اختلات الأيدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص. [النووي في شرح مسلم (13/ 163) طبعة دار الكتب العلمة].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3767) كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، والترمذي في سننه (1858) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام، والنسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا نسي التسمية ثم ذكر.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [103 - (2018)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأبو داود في سننه (3765)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 346)، وابن ماجه في سننه (3887)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 276)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4161)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 59).

ص: 13

وسبب إدراكهم العشاء استحلالهم ما لم يذكر اسم اللَّه عليه كما سيأتي، والموجب لذلك الغفلةُ عن التسمية.

وروينا من حديث حذيفة رضي الله عنهما قال: "كنَّا إذا حضرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعامًا لم نضع أيدينا فيه حتى يبدأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنَّا حضرنا معه مرَّة طعامًا فجاءت جارية كأنها تُدفع، فذهبت لتضع يدها فأخذ رسول اللَّه بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يُدفع فأخذ بيده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يستحلُّ الطعام أن لا يُذكر اسم اللَّه عليه

(1)

، وانه جاء بهذه الجارية ليستحلَّ بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحلَّ به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما"، ثم ذكر اللَّه تعالى وأكل"

(2)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أمية بن مخشى

(3)

الصحابي رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا ورجل يأكل فلم يُسمّ حتى لم يبق من طعامه إلَّا لقمة، فلما رفعها قال: بسم اللَّه أوله وآخره، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "ما زال الشيطان يأكل معه، فلما ذكر اسم اللَّه استَقَاء ما في بطنه"."

(4)

رواه أبو داود والنسائي.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فاكله بلقمتين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أما إنه لو سمَّى لكفاكم".

(5)

أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.

(1)

التسمية في شرب الماء واللبن والعسل والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام، وتحصل التسمية بقول: بسم اللَّه، فإن قال بسم اللَّه الرحمن الرحيم كان حسنا، وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض وغيرهما، وينبغي أن يسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصل أصل السنة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ويستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم اللَّه تعالى عليه. [النووي في شرح مسلم (13/ 160) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [102 - (2017)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأحمد في مسنده (5/ 383)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 125)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (160، 4237)، وأخلاق النبوة (193).

(3)

أمية بن مخشي أو مجتبى أبو عبد اللَّه الخزاعي المدني الأزدي، صحابي، أخرج له أبو داود والنسائي، تهذيب التهذيب (1/ 372)، تقريب (1/ 84).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (3768) كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، وأحمد في مسنده (4/ 363)، والحاكم في المستدرك (4/ 108) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 124)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 268، 269)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4203)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 7).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (1858) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام، =

ص: 14

وروينا من حديث أبي أمامة قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع مائدته قال: "الحمد للَّه كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيه غير مكفي ولا مُودَّع ولا مُستغنى عنه ربَّنا"."

(1)

أخرجه البخاري.

وروينا من حديث معاذ بن أنس مرفوعًا: "من أكل طعاما فقال: الحمد للَّه الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منِّي ولا قوة، غُفر له ما تقدم من ذنبه"

(2)

رواه الترمذي وحسَّنه.

‌الفصل الثاني: في عدم إعابة الطعام واستحباب مدحه

روينا من حديث أبي هريرة قال: "ما عاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاما قط، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه"

(3)

أخرجاه.

وروينا في مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الإدام فقالوا: ما عندنا إلَّا خَلّ، فدعا به فجعل يأكل ويقول:"نِعم الإدام الخل، نِعم الإدام الخل"

(4)

.

‌الفصل الثالث: فيما يقوله من حضره طعام وهو صائم إذ لم يُفطر

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا دُعيَ أحدكم فليجب، فإن كان صائما

= والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 124)، وابن حبان في صحيحه (1341 - الموارد).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5458) كتاب الأطعمة، [55] باب ما يقول إذا فرغ من طعامه، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 286)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 124، 5/ 227).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4023) كتاب اللباس في فاتحته، والترمذي في سننه (3458) كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3285) كتاب الأطعمة، باب ما يقال إذا فرغ من الطعام، وأحمد في مسنده (3/ 439)، والحاكم في المستدرك (4/ 192، 507)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 101، 227)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 93)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4343)، والشجري في أماليه (1/ 251)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 361).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5409) كتاب الأطعمة، [22] باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما، ومسلم في صحيحه [187 - (2064)] كتاب الأشربة، [35] باب لا يعيب الطعام، وأبو داود في سننه (3763)، والترمذي في سننه (2031)، وابن ماجه في سننه (3259)، وابن تيمية في الكلم الطيب (184).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [166 - (2052)] كتاب الأشربة، [30] باب فضيلة الخل والتأدم به، وأبو داود في سننه (3820)، والترمذي في سننه (1839، 1840، 1842)، وابن ماجه في سننه (3316، 3317، 3318)، وأحمد في مسنده (3/ 301، 304، 353)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 280، 10/ 63)، والحاكم في المستدرك (4/ 54)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 149).

ص: 15

فليُصلّ وإن كان مُفْطِرا فليَطْعم"

(1)

رواه مسلم. معنى فليُصل: فليدع، ومعنى فليَطعَم: فليأكل.

‌الفصل الرابع: فيما يقوله من دُعيَ إلى طعام وتبعه غيره

روينا من حديث أبي مسعود البدري قال: "دعا رجل النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة فتبعهم رجل، فلمَّا بلغ الباب قال رسول اللَّه: "إن هذا تبِعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع". قال: بل آذن له يا رسول اللَّه"

(2)

أخرجاه.

‌الفصل الخامس: في الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يُسيء أكله

روينا من حديث عمر بن أبي سلمة قال: "كنت غلامًا في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَةِ، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سَمِّ اللَّه، وكُل بيمينك وكُل مما يليك"

(3)

أخرجاه. ومعنى تطيش: تتحرَّك وتمتد إلى نوَاحي الصحفة.

وروينا من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما: "أن رجلا أكل عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كُل بيمينك" قال: لا أستطيع. قال: "لا استطعت، ما منعه إلَّا الكبر". قال: فما رفعها إلى فِيه"

(4)

أخرجه مسلم.

‌فصل في النهي عن القِرَانِ بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلَّا بإذن رفيقه

روينا في الصحيحين من حديث جَبَلَة بن سُحيم قال: "أصابنا عام سنة ابن

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [106 - (1431)] كتاب النكاح، [16] باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوته، وأحمد في مسنده (2/ 507)، وأبو داود في سننه (2460)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 264)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2078)، وابن حجر في المطالب العالية (2384).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5434) كتاب الأطعمة، [35] باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه، ومسلم في صحيحه [38 - (2036)] كتاب الأشربة [19] باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام، واستحباب إذن صاحب الطعام لتابع.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5376) كتاب الأطعمة، [2] التسمية على الطعام والأكل باليمين، ومسلم في صحيحه [108 - (2022)] كتاب الأشربة [13] آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وابن ماجه في سننه (3267)، وأحمد في مسنده (4/ 26)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 104)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 277)، والقرطبي في تفسيره (4/ 78).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [107 - (202)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأحمد في مسنده (4/ 46)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 277)، والطبراني في =

ص: 16

الزبير فرُزقنا تمرًا فكان عبد اللَّه بن عمر يمرُّ بنا ونحن نأكل فيقول: لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القِران، ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل أخاه"

(1)

أخرجاه.

‌فصل فيما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع

روينا في سنن أبي داود من حديث وحْشِيِّ بن حرب رضي الله عنهما أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه، إنَّا نأكل ولا نشبع. قال:"فلعلَّكم تفترقون". قالوا: نعم. قال: "فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللَّه عليه يُبارك لكم فيه"

(2)

.

‌فصل في الأمر بالأكل من جانب القَصْعَة والنهي عن الأكل من وسطها

فيه حديث الأمر بالأكل من جانب الصفحة والنهي عن الأكل من وسطها إلى آخره وقد سلف

(3)

.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا

(4)

: "البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه". رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن بُسر رضي الله عنهما قال

(5)

: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم قَصْعَة يقال لها

= المعجم الكبير (7/ 15)، والقاضي عياض في الشفا (1/ 632)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 105)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 522).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2490) كتاب الشركة، [4] باب القران في التمر بين الشركاء حتى يستأذن أصحابه، ومسلم في صحيحه [150 - (2045)] كتاب الأشربة، [25] باب نهي الآكل مع جماعة عن قران تمرتين ونحوهما في لقمة إلا بإذن أصحابه، والترمذي (1814)، وابن ماجه (3331)، وأحمد في مسنده (2/ 60)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 233)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 40).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3764) كتاب الأطعمة؛ باب في الاجتماع على الطعام، وأحمد في مسنده (3/ 501)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4252)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 119).

(3)

انظر ما تقدم في نهي النبي لابن أبي سلمة، وقد تقدم.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (3772) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة، والترمذي في سننه (1805) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام، والنسائي في الكبرى، في الوليمة، باب الأكل من جوانب الثريد، وابن ماجه في الأطعمة، باب النهي عن الأكل من ذروة الثريد.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (3773) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه في سننه (3263)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4251)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 130)، والخطيب في تاريخ بغداد (6/ 46)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (393)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 541).

ص: 17

الغرَّاء يحملها أربعة رجال، فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتى بتلك القصعة. يعني وقد ثُرِدَ فيها. فالتفُّوا عليها، فلما كثروا جثى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبَّارًا عنيدا"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كُلوا من حَوَاليها ودعوا ذُروتها يُبارك فيها"

(1)

رواه أبو داود بإسناد جيد. ذُروتها: أعلاها، بكسر الذال وضمِّها.

‌فصل في كراهة الأكل مُتَّكئًا

روينا من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا آكل متَّكئا"

(2)

أخرجه البخاري. قال الخطَّابي: الاتكاء هنا هو الجالس معتمدا على وطاء تحته، قال: وأراد أنه لا يقعد على الوطاء والوثائر

(3)

كفعل من يريد الإكثار من الطعام، بل يقعد مستوفرا لا مستوطئا ويأكل (بلغة) هذا كلامه. وأشار غيره إلى أن المتَّكئ هو المائل على جنب.

وروينا من حديث أنس قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالسًا مُقْعيا يأكل تمرا"

(4)

رواه مسلم. المقعي هو الذي يلصق أليته بالأرض وينصب ساقيه.

‌فصل في استحباب الأكل بثلاثة أصابع واستحباب لَعْقها وكراهة مسحها قبل لعقها

واستحباب لعق القصعة وأخذ اللقمة التي سقط منها وأكلها، وجواز مسحها بغير اللعق بالساعد والقدم وغيرهما

(5)

.

(1)

تقدم تخريجه أول الحديث.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5398) كتاب الأطعمة [14] باب الأكل متكئا، وأبو داود في سننه (3769) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل متكئا، والترمذي (1830)، وأحمد بن جنبل في مسنده (4/ 308، 309)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 283)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4168)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 214، 215)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 256).

(3)

الوثر: الفراش الناعم اللين.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [148 - (2044)] كتاب الأشربة، [24] باب استحباب تواضع الآكل وصفة قعوده، وأبو داود في سننه (3771) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل متكئا.

قال النووي: قرله: "مقعيا" أي جالسا على أليته ناصبا ساقية، ومحتفزا. في الرواية الأخرى. هو بالزاي أي مستعجلا، مستوفز: غير متمكن في جلوسه، وهو بمعنى قوله مقعيا. [النووي في شرح مسلم (13/ 191) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

قال النووي بعد ذكر أحاديث كثيرة: في هذه الأحاديث أنواع من سنن الأكل: منها: استحباب لعق اليد محافظة على بركة الطعام وتنظيفا لها، واستحباب الأكل بثلاث أصابع، ولا يضم إليها =

ص: 18

روينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث كعب بن مالك قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها" رواه مسلم

(2)

.

وروينا من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"

(3)

. وعنه أيضًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليُمِط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدَعْها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة"

(4)

أخرجهما. ولمسلم أيضًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليُمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة"

(5)

.

= الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا وغيره مما لا يمكن، وغير ذلك من الأعذار، واستحباب لعق القصعة وغيرها، واستحباب أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، فإن وقعت على موضع نجس تنجست ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان، ومنها إثبات الشياطين وأنهم يأكلون. [النووي في شرح مسلم (13/ 172، 173) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5456) كتاب الأطعمة، [53] باب لعق الأصابع ومصها قبل أن تمسح بالمنديل، ومسلم في صحيحه [129 - (2031)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأبو داود في سننه (3847) كتاب الأطعمة، باب في الأطعمة.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [131، 132 - (2032)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [133 - (2033)] كتاب الأشربة [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 177)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 108).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [134 - (2033)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأحمد في مسنده (3/ 177)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 220، 7/ 123).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [135 - (2033)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها.

ص: 19

وروينا عن أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان". وأمرنا أن نَسْلُت القصعة، قال: "فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"

(1)

أخرجهما مسلم.

وروينا من حديث سعيد بن الحارث أنه: "سأل جابرًا عن الوضوء مما مسَّت النار فقال: لا، وقد كنَّا زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلَّا قليلا، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل

(2)

إلَّا أكُفَّنا وسواعدنا وأقدامنا ثم نُصَلِّي ولا نتوضأ" أخرجه البخاري

(3)

.

‌فصل في تكثير الأيدي على الطعام

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة"

(4)

. ولمسلم عن جابر مرفوعًا: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية"

(5)

.

آخر المجلس وللَّه الحمد.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [136 - (2034)] كتاب الأشربة، [18] باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأبو داود في سننه (3845) كتاب الأطعمة، باب في اللقمة تسقط، وأحمد في مسنده (3/ 100)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 27)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 396)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10981).

(2)

المنديل معروف، وهو بكسر المنديل، قال ابن فارس في المجمل: لعله مأخوذ من الميم وهو النقل، وقال غيره: هو مأخوذ من الندل، وهو الوسخ؛ لأنه يندل به. قال أهل اللغة يقال: تندات بالمنديل، قال الجوهري: ويقال أيضًا تمندلت، قال: وأنكر الكسائي "تمندلت". [النووي في شرح مسلم (13/ 174) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5457) كتاب الأطعمة، [54] باب المنديل.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5392) كتاب الأطعمة، [11] باب طعام الواحد يكفي الاثنين، ومسلم في صحيحه [178 - (2058)] كتاب الأشربة، [33] باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [179، 181 - (2059)] كتاب الأشربة، [33] باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك.

ص: 20

‌مجلس في أدب الشرب واستحباب التنفس ثلاثا خارج الإناء وكراهية التنفس في الإناء

واستحباب إدارة الإناء على الأيمن فالأيمن بعد المبتدي.

روينا من حديث أنس رضي الله عنهما: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشرب ثلاثا"

(1)

أخرجاه، يعني يتنفس خارج الإناء.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا تشربوا واحدًا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسمُّوا إذا أنتم شربتم واحمدوا اللَّه إذا أنتم رفعتم"

(2)

رواه الترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث

(3)

أبي قتادة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُتَنَفَّسَ في الإناء".

وروينا من حديث أن: "أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شِيبَ بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: "الأيمن فالأيمن""

(4)

أخرجاه. وشِيبَ: خُلِطَ.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5631) كتاب الأشربة، [26] باب الشرب بنفسين أو ثلاثة.

ومسلم في صحيحه [122 - (2028)] كتاب الأشربة، [16] باب كراهة التنفس في نفس الإناء واستحباب التنفس ثلاثا خارج الإناء، والترمذي في سننه (1884)، وابن ماجه في سننه (3416)، وأحمد في مسنده (3/ 118، 119)، والحاكم في المستدرك (4/ 138)، والمنذري في الترغيب (3/ 129).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1885) كتاب الأشربة، باب ما جاء في التنفس في الإناء، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4278)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 93) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 398)، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (1/ 109).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1888) كتاب الأشربة، باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، وأبو داود في سننه (3728) في الأشربة، باب في النفخ في الشراب، والتنفس فيه وأحمد في مسنده (5/ 295)، والحاكم في المستدرك (4/ 138).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5612) كتاب الأشربة، [14] باب شوب اللبن بالماء، ومسلم في صحيحه [124 - (2029)] كتاب الأشربة، [17] باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ، وأبو داود في سننه (3726) كتاب الأشربة، باب في الساقي متى يشرب والترمذي (1893) كتاب الأشربة، باب ما جاء أن الأيمنين أحق بالشراب، وابن ماجه (3425)، وأحمد في مسنده (3/ 110)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 374)، ومالك في الموطأ (956).

ص: 21

وروينا من حديث سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم: "أتى بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: "أتأذن لي أن أُعطي هؤلاء؟ " فقال الغلام: لا واللَّه لا أوثرُ بنصيبي منك أحدًا. قال: فتلَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في يده"

(1)

أخرجاه. تلَّه

(2)

: أي وضعه، وهذا الغلام هو ابن عباس.

‌فصل في كراهية الشرب من فم القربة ونحوها على وجه التنزيه لا التحريم

روينا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن نشرب من فيّ السِّقاء والقربة"

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت. رضي الله عنه وعنها. قالت: "دخل علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة مُعَلَّقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته". رواه الترمذي

(4)

وقال: حسن صحيح. وإنما قطعتها لتحفظ موضع فمه صلى الله عليه وسلم وتتبرك به وتصونه عن الابتذال. وهذا الحديث محمول على بيان الجواز

(5)

، وما قبله لبيان الأفضل والأكمل.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5620) كتاب الأشربة، [119] باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشراب ليعطي الأكبر، ومسلم في صحيحه [127 - (2030)] كتاب الأشربة، [17] باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ، وأحمد في مسنده (5/ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 286)، ومالك في الموطأ (927).

(2)

وقوله: "فتله في يده" أي وضعه فيها، وقد جاء في مسند أبي بكر بن أبي شيبة أن هذا الغلام هو عبد اللَّه بن عباس، ومن الأشياخ خالد بن الوليد رضي الله عنه، قيل: إنما استأذن الغلام دون الأعرابي إدلالا على الغلام، وهو ابن عباس، وثقة بطيب نفسه بأصل الاستئذان، لاسيما والأشياخ أقاربه، قال القاضي عياض: وفي بعض الروايات عمك وابن عمك أتأذن لي أن أعطيهم، وفعل ذلك أيضًا تألفا لقلوب الأشياخ وإعلاما بودهم وإيثار كرامتهم إذا لم تمنع منها السنة. [النووي في شرح مسلم (13/ 169، 170) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5625، 5626) كتاب الأشربة، [23] باب اختناث الأسقية، وبلفظه عن أبي هريرة في البخاري (5627) كتاب الأشربة، [24] باب الشرب من فم السقاء ومسلم في صحيحه [110، 111 - (2023)] كتاب الأشربة، [13] باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، والترمذي (1890) كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن اختناث الأسقية، وابن ماجه (3421)، وأحمد في مسنده (2/ 230، 487)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 285)، والدارمي في سننه (2/ 119).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (1892) كتاب الأشربة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، وابن ماجه في سننه في الأشربة، باب الشرب قائمًا.

(5)

قال النووي: اتفقوا على أن النهي عن اختناثها نهي تنزيه لا تحريم، ثم قيل سببه: إنه لا يؤمن =

ص: 22

‌فصل في كراهية النفخ في الشراب

روينا من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال: القَذَاةَ أراها في الإناء؟ فقال: "اهرقها". قال: فإني لا أروى من نفس واحد. قال: "فأَبِنِ القدح إذن عن فيك"

(1)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُتَنَفَّس في الإناء أو يُنفخ فيه"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

‌فصل في بيان جواز الشرب قائمًا وبيان أن الأفضل والأكمل الشرب قاعدا

فيه حديث كبشة السابق.

وروينا من حديث ابن عباس قال: "سَقَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم"

(3)

أخرجاه. ولعلَّه لغلبة الزِّحام أو فقد المجلس ولعله من حديث كبشة لعُذر التعليق.

وروينا في صحيح البخاري من حديث النزال بن سبرة

(4)

قال: "أتى على باب

= أن يكون في السقاء ما يؤذيه في جوفه ولا يدري، وقيل لأنه يقذره على غيره، وقيل: إنه ينتنه، أو لأنه مستقذر، وقد روى الترمذي وغيره عن كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله عنهما. . . وذكر الحديث المتقدم، وقطعها لفم القربة لوجهين أن تصون موضعا أصابه فم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والثاني أن تحفظه للتبرك به والاستشفاء واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (13/ 164) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (1887) كتاب الأشربة، باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 309، 357)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 32)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 83، 5/ 20)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 258)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 398).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1888) كتاب الأشربة، باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، وأبو داود في سننه (3728) كتاب الأشربة، باب في النفخ في الشراب والتنفس فيه وابن ماجه في سننه، كتاب الأشربة، باب النفخ في الشراب رقم (3425)، وأحمد في مسنده (5/ 295)، والحاكم في المستدرك (4/ 138)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 29، 33).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1637) كتاب الحج، باب ما جاء في زمزم، ورقم (5617) كتاب الأشربة، [16] باب الشرب قائمًا، ومسلم في صحيحه [117 - (202)] كتاب الأشربة، [15] باب في الشرب من زمزم قائمًا.

(4)

النزال بن سبرة الهلالي الكوفي العامري، يقال إن له صحبة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه. تهذيب التهذيب (10/ 423)، والتقريب (2/ 298).

ص: 23

الرَّحبة فشرب قائمًا وقال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت"

(1)

.

وروينا من حديث ابن عمر قال: "كُنَّا نأكل على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب عن قيام"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشرب قائمًا وقاعدا"

(3)

رواه الترمذي أيضًا وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أنس: "نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائما، قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ فقال: "ذاك أشرُّ وأخبث""

(4)

رواه مسلم. وفي رواية له: "أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائمًا"

(5)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يشربنَّ أحدكم قائما، فمن نسي فليستقيء"

(6)

رواه مسلم

(7)

.

‌فصل في استحباب كون ساقي القوم آخرهم شُربًا

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ساقي القوم آخرهم. يعني شربًا"

(8)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

‌فصل في جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة

غير الذهب والفضة وجواز الكرع. وهو الشرب بالفم. من النهر وغيره بغير إناء

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5615) كتاب الأشربة، [16] باب الشرب قائمًا.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1880) كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن الشرب قائما، وابن ماجه في سننه (3301) كتاب الأطعمة، [25] باب الأكل قائمًا.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1883) كتاب الأشربة، باب ما جاء في الرخصة في الشرب قائما، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 55، 5/ 79، 80).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [113 - (2024)] كتاب الأشربة، [14] باب كراهية الشرب قائما، وأبو داود (3717)، والترمذي في سننه (1879)، وأحمد في مسنده (2/ 327، 3/ 45)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4266).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [112 - (2024)] كتاب الأشربة، [14] باب كراهية الشرب قائمًا.

(6)

قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن نسي فليستقئ" فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائمًا أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح؛ فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب. [النووي في شرح مسلم (13/ 165) طبعة دار الكتب العلمية].

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [116 - (2026)] كتاب الأشربة، [14] باب كراهية الشرب قائما، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 282)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 222)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4267)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 82).

(8)

أخرجه الترمذي في سننه (1894) كتاب الأشربة، باب ما جاء أن ساقي القوم آخرهم شربا وعن =

ص: 24

ولا يد، وتحريم استعمال أواني الذهب والفضة

(1)

في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمالات. روينا من حديث أنس قال: "حضرت الصلاة فقام من كان قريبًا من الدار إلى أهله وبقي قوم، فأُتِيَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمخضب من الحجارة، فصغُر المخضب أن يَبسُط فيه كفَّه، فتوضأ القوم كلهم، قالوا: كم كنتم؟ قالوا: ثمانين وزيادة"

(2)

أخرجاه، والسياق للبخاري. وفي رواية لهما أنه صلى الله عليه وسلم:"دعا بإناء من ماء فأتى بقدح رَحْرَاح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس: فحَزرْتُ من توضَّأ منه ما بين السبعين وإلى الثمانين"

(3)

.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن زيد قال: "أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجنا له ماء في تَورٍ من صُفْرِ فتوضأ"

(4)

رواه البخاري. الصُّفْرُ: النحاس، والتور كالقدح وهو بالمثنَّاة فوق.

وروينا من حديث جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنَّةٍ وإلَّا كَرَعْنا"" رواه البخاري

(5)

. والشنُّ: القربة.

وروينا من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهانا عن الحرير والدِّيباج والشرب في

= ابن أبي أوفى أخرجه أبو داود في سننه (3725) كتاب الأشربة، باب في الساقي متى يشرب، وابن ماجه في سننه (3434) كتاب الأشربة، باب ساقي القوم أخرهم شربا، وأحمد في مسنده (4/ 354، 383، 5/ 303)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 28، 286) والطبراني في المعجم الصغير (2/ 420)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 183)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 186)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 23).

(1)

في تحريم آنية الذهب والفضة قال النووي: قال أصحابنا: انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمال في إناء ذهب أو فضة إلا ما حكي عن داود وقول الشافعي في القديم، فهما مردودان بالنصوص والإجماع. [النووي في شرح مسلم (14/ 26) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (195) كتاب الوضوء، [47] باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، ومسلم في صحيحه [6 - (2279)] كتاب الفضائل [3] باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (200) كتاب الوضوء، [48] باب الوضوء من التور، ومسلم في صحيحه [4 - (2279)] كتاب الفضائل [3] باب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (197) كتاب الوضوء، [47] باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5621) كتاب الأشربة، [20] باب الكرع من الحوض.

ص: 25

آنية الذهب والفضة، وقال:"هُنَّ لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة"

(1)

.

وروينا من حديث أم سلمة مرفوعًا

(2)

: "الذي يشرب في آنية الذهب إنما يُجَرْجِر في بطنه نار جهنم" أخرجاهما. ولمسلم: أن "الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب فإنما يُجرجر في بطنه نارًا من جهنم"

(3)

. وسلف في المناهي.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5632) كتاب الأشربة، [27] باب الشرب في آنية الذهب.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5634) كتاب الأشربة، [28] باب آنية الفضة، ومسلم في صحيحه [1 - (2065)] كتاب اللباس والزينة، [1] باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء، ولفظه في أول الحديث.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (2065)]، ولفظه في آخر الحديث، كتاب اللباس والزينة، [1] باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء.

ص: 26

‌مجلس في اللباس

‌فصل في استحباب الثوب الأبيض

وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود وجوازه من قطن وكتَّان وشعر وصوف وغيرها إلَّا الحرير.

قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ}

(1)

. وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}

(2)

.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث سمرة مرفوعًا: "البسوا البياض فإنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم"

(4)

رواه النسائي والحاكم وقال: حديث صحيح.

وروينا من حديث البراء بن عازب قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مربوعا، وقد رأيته في حُلَّة حمراء ما رأيت شيئًا قطُّ أحسن منه"

(5)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي جحيفة قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قُبَّة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه فمن نائل وناضح، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حُلَّة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضأ وأذَّن بلال" الحديث، وفي آخره:"فصلى"

(6)

أخرجاه. وهو ظاهر في أنه لم يكره أن يصلي فيها.

(1)

سورة الأعراف (26).

(2)

سورة النحل (81).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3878) كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، ورقم (4061) كتاب اللباس، باب في البياض، والترمذي في سننه (994) كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، وابن ماجه في سننه (1472) كاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2810) كتاب الأدب، باب ما جاء في لبس البياض، والنسائي في الكبرى، فى الزينة، لعله باب الأمر بلبس الثياب البيض، والحاكم في مستدركه (1/ 354، 4/ 185).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3551) كتاب المناقب، [23] باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقم (5848) كتاب اللباس، [35] باب الثوب الأحمر، ومسلم في صحيحه [91 - (2337)] كتاب الفضائل، [باب] في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجها.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (376) كتاب الصلاة، [17] باب الصلاة في الثوب الأحمر، =

ص: 27

وروينا من حديث أبي رَمْثَة رفاعة التيمي

(1)

رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران"

(2)

رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح.

وروينا من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم: "دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء"

(3)

أخرجه مسلم.

وروينا فيه من حديث أبي سعيد عمرو بن حريث قال: "كأني أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه"

(4)

. وفي رواية له أنه صلى الله عليه وسلم: "خطب الناس وعليه عمامة سوداء"

(5)

.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كُفِّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سُحوليَّة من كُرْسُفِ ليس فيها قميص ولا عمامة"

(6)

أخرجاه.

وروينا في صحيح مسلم عنها قالت: "خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل"

(7)

. المِرْطُ: الكساء، والمُرَحَّل بالحاء المهملة: الذي فيه صورة رحال الإبل وهي الأكوار.

= ومسلم في صحيحه [249 - (503)] كتاب الصلاة، [47] باب سترة المصلي.

قال النووي: قوله: "عليه حلة حمراء" قال أهل اللغة: الحلة ثوبان لا يكون واحدا، وهما إزار ورداء ونحوهما، وفيه جواز لباس الأحمر. [النووي في شرح مسلم (4/ 185) طبعة دار الكتب العلمية]

(1)

رفاعة بن يثربي، أبو رمثة التيمي البلوي، وقيل: اسمه يثربي ابن رفاعة، وقيل: عمارة بن يثربي، وقيل: حيان بن وهب، وقيل: جندب، صحابي، قال ابن سعد: مات بإفريقية، أخرج له: أبو داود والترمذي وابن ماجه.

ترجمته: تهذيب التهذيب (3/ 282)، تقريب التهذيب (1/ 251، 2/ 423)، التاريخ الكبير للبخاري (3273)، التاريخ الصغير (1/ 196) الجرح والتعديل (3/ 228).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4065) كتاب اللباس، باب في الخضرة.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [451 - (1358)] كتاب الحج، [84] باب جواز دخول مكة بغير إحرام، وأبو داود (4076) كتاب اللباس، باب في العمائم، والترمذي (1735) في اللباس، باب ما جاء في العمائم السوداء، وابن ماجه (2822) كتاب الجهاد، باب لبس العمائم في الحرب.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [453 - (1359)] كتاب الحج، [84] باب جواز دخول مكة بغير إحرام.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [452 - (1359)] كتاب الحج، [84] باب جواز دخول مكة بغير إحرام.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (1273) كتاب الجنائز، [24] باب موت يوم الاثنين، ومسلم في صحيحه [45 - (941)] كتاب الجنائز، [13] باب في كفن الميت، والترمذي (996) كتاب الجنائز، باب في كفن النبي صلى الله عليه وسلم.

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2081)] كتاب اللبس والزينة، [6] باب التواضع في اللباس والاقتصار على الغليظ منه، واليسير في اللباس والفراش وغيرهما.

ص: 28

وروينا من حديث المغيرة بن شعبة قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير. . . " الحديث. وفيه: "ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوَة فغسل وجهه وعليه جُبَّة من صوف، فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجُبَّة، فغسل ذراعيه ثم ذكر الحديث في مسح الخفين". أخرجاه

(1)

. وفي رواية: "وعليه جُبَّة شاميَّة ضيِّقة الكمَّين"

(2)

. وفي أخرى: أن هذه القصة كانت في غزوة تبوك.

‌فصل في استحباب القميص

روينا من حديث أم سلمة قالت: "كان أحب الثياب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القميص"

(3)

رواه الترمذي وحسَّنه.

‌فصل في صفة القميص والكُمِّ والإزار وطرف العمامة

وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخُيلاء وكراهته من غير خُيلاء. روينا من حديث أسماء بنت يزيد الأنصاريَّة قالت: "كان كُمُّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسْغ"

(4)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه، إن أحد شِقَّي إزاري يسترخي إلَّا أن أتعاهد ذلك منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لست ممن يصنعه خيلاء"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (203) كتاب الوضوء [50] باب المسح على الخفين، ورقم (5799) كتاب اللباس، [11] باب لبس جبة الصوف في الغزو، ومسلم في صحيحه [75، 76، 79 - (274)] كتاب الطهارة، [22] باب المسح على الخفين.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [77 - (274)] كتاب الطهارة، [22] المسح على الخفين.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1762) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، وانظر (1763)، وأبو داود (4025) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، والنسائي في الكبرى، الزينة، باب لبس القميص، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 88) والزبيدي في الإتحاف (7/ 103، 126)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4328).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4027) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، والترمذي في سننه (1765) كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، والنسائي في الكبرى، في الزينة، باب لبس القميص، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4329)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 211).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5784) كتاب اللباس، باب من جر إزاره من غير خيلاء، ومسلم في صحيحه [44 - (2085)] كتاب اللباس والزينة، [9] باب تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه، وما يستحب، والنسائي (8/ 209 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 33، 6/ 147)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 199، 200)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 346)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 341).

ص: 29

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا ينظر اللَّه يوم القيامة إلى من جرَّ إزارهُ بطرًا"

(1)

أخرجاه.

وروينا عنه مرفوعًا: "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار"

(2)

رواه البخاري.

وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" فقرأها رسول اللَّه ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابُوا وخسروا، من هم يا رسول اللَّه؟ قال:"المُسبل، والمنَّان، والمنفق سِلعته بالحلِفِ الكاذب"

(3)

. وعدم تكليمه له للتحقير، والنظر للغضب، والنافي لرفضه مراضي مولاه سبحانه، وإنه لأبلغ تهديد.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرَّ شيئًا خُيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة"

(4)

رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.

وروينا من حديث أبي جُريّ جابر بن سليم

(5)

قال: "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئًا إلَّا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: رسول اللَّه. قلت:

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5788) كتاب اللباس [5] باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم في صحيحه [48 - (2087)] كتاب اللباس والزينة، [9] باب تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه، وما يستحب.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5787) كتاب اللباس، [4] باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، والنسائي (8/ 207 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (3573)، وأحمد في مسنده (2/ 461)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 204)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 88)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 192).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [171 - (106)] كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف.

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "المسبل إزاره" فمعناه المرخي له الجار طرفه خيلاء، كما جاء مفسرًا في الحديث الآخر:"لا ينظر اللَّه إلى من يجر ثوبه خيلاء" والخيلاء الكبر، وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل إزاره، ويدل على أن المراد بالوعيد من جره خيلاء، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصديق، وقال:"لست منهم" إذ كان جره لغير الخيلاء.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4094) كتاب اللباس، باب في قدر موضع الإزار، والنسائي (8/ 208 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (3576)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 89)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 207)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 347)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4332)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 311).

(5)

ابن جُريّ جابر بن سليم الهجيمي، صحابي معروف، أخرج له البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي.

ص: 30

عليك السلام يا رسول اللَّه، مرتين، قال:"لا تقل عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى، قل: السلام عليك" قال: قلت: أنت رسول اللَّه؟ قال: "أنا رسول اللَّه الذي إذا أصابك ضُرٌّ فدعوته كشفه، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلَّت راحلتك فدعوته ردَّها عليك"، قال: قلت: اعهد إليَّ. قال: "لا تسُبَّنَّ أحدًا". قال: فما سببت بعده حُرًّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة. قال: "ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، وأن تكلِّم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق وإن أبيت فإلى الكعبين، وإيَّاك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن اللَّه لا يحب المخيَّلة، وإن امرؤ شتمك وعيَّرك بما يعلم فيك فلا تعير بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه"

(1)

. رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مُسبِلًا إزاره فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اذهب فتوضأ" فذهب فتوضأ ثم جاء، ثم قال: "اذهب فتوضأ". فقال له رجل: يا رسول اللَّه، ما لك أمرتَهُ أن يتوضا ثم سكتَ عنه؟ قال: "إنه كان يُصلِّي وهو مُسبلٌ إزاره، وإن اللَّه لا يقبل صلاة رجل مُسبِلٍ""

(2)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم. والأمر بالوضوء فيه إشعار بأن الحَدَثَ في الدين يحتاج إلى الطهارة، وهو تنفير بليغ.

وروينا من حديث ابن الحنظلية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جُمَّته وإسبال إزاره". فبلغ ذلك خريما فعجل وأخذ شفرة فقطع بها جُمَّته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه

(3)

رواه أبو داود مطوَّلا بإسناد على شرط مسلم.

= انظر: تهذيب التهذيب (2/ 39) والتقريب (1/ 122) والتاريخ الكبير للبخاري (2/ 205) والجرح والتعديل (2/ 2027).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4084) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، والترمذي في سننه (2722) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في جاء في كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئا، والنسائي في عمل اليوم والليلة (113).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (638) كتاب الصلاة، باب الإسبال في الصلاة، ورقم (4086) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، وأحمد في مسنده (5/ 379)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 92)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 347)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (761)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 125).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4089) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، وأحمد في مسنده (4/ 180)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 114)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4461)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 215).

ص: 31

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إِزْرَةُ المسلم إلى نصف الساق ولا حرج. أو لا جناح. فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، من جرَّ إزاره بطرا لم ينظر اللَّه إليه"

(1)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث ابن عمر

(2)

قال: "مررت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: "يا عبد اللَّه، ارفع إزارك"، فرفعته ثم قال: "زِدْ" فزدت، فما زلت أتحرَّاها بعد، فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: أنصاف الساقين"

(3)

رواه مسلم. وعنه مرفوعًا: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة"، فقالت أم سلمة: فكيف يصنعن النساء بذيُولهنَّ؟ قال: "يُرْخين شبرًا"، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهنَّ. قال: "فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه"

(4)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

‌فصل في فضل الجوع وخشونة العيش جملا تتعلق بذلك.

وروينا في جامع الترمذي محسَّنا من حديث معاذ بن أنس مرفوعًا: "من ترك اللباس تواضعا للَّه وهو يقدر عليه دعاه اللَّه يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخيِّره من أي حُلل الإيمان شاء يَلبَسُها"

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4093) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، وأحمد في مسنده (3/ 44، 52).

(2)

في حديث ابن عمر قال النووي: أما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار فنصف الساقين كما في حديث ابن عمر المذكور، وفي حديث أبي سعيد "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بية وبين الكعبين، ما أسفل من ذلك فهو في النار" فالمستحب نصف الساقين، والجائز بلا كراهة ما تحت إلى الكعبين، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع. [النووي في شرح مسلم (14/ 53) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [47 - (2086)] كتاب اللباس والزينة، [9] باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه وما يستحب، وأحمد في مسنده (2/ 96)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 244)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4368)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 123).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4117) كتاب اللباس، باب في قدر الذيل، والترمذي في سننه (1731) كتاب اللباس، باب ما جاء في جر ذيول النساء، والنسائي (8/ 209 - المجتبى)، وفي الكبرى، في الزينة، باب ذيول النساء، وأحمد بن حنبل في مسنده (6/ 315)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 347)، وعبد الرزاق في مصنفه (19984)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4335).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (2481) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب [39]، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 439)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 273)، والحاكم في المستدرك (1/ 61، 4/ 83)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 107)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 382)، =

ص: 32

‌فصل في استحباب التوسط في اللباس ولا يقتصر على ما يزرى به لغير حاجة ولا مقصود شرعي.

روينا من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"إن اللَّه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"

(1)

. رواه الترمذي وقال: حسن.

‌فصل في تحريم لباس الحرير على الرجال وتحريم جلوسهم عليه واستنادهم إليه وجواز لباسه للنساء

روينا من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة"

(2)

. وعنه مرفوعًا: "إنما يلبس الحرير من لا خلاق له"

(3)

أخرجاهما. وفي رواية للبخاري: "من لا خلاق له في الآخرة". معنى لا خلاق له: لا نصيب. وأي حسرة تداني ذلك.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"

(4)

أخرجاه. وأي تهديد أبلغ من هذا، ولباس أهل الجنة الحرير.

وروينا من حديث عليٍّ قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه

= وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 48)، والشجري في أماليه (2/ 217).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (28191) كتاب الأدب، باب ما جاء إن اللَّه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وأحمد في مسنده (2/ 213)، والحاكم في المستدرك (4/ 135)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 311)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 79)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (435)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 427).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5830) كتاب اللباس، [25] باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم في صحيحه [1 - (2069)] كتاب الباس والزينة، [2] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 162)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 96، 100).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5835) كتاب اللباس، [25] باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم في صحيحه [9 - (2068)] كتاب اللباس والزينة، [2] باب تحريم استعمال إناه الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل، وأبو داود في سننه (1076، 4040)، والنسائي (3/ 96، 181، 197 - المجتبى)، وابن ماجه فى سننه (3591)، وأحمد فى مسنده (2/ 20، 103)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 422، 3/ 241، 275).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5832) كتاب اللباس، [25] باب لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم في صحيحه [21 - (2073)] كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء.

ص: 33

وذهبا فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين محرَّمان على ذكور أمَّتي"

(1)

رواه أبو داود بإسناد حسن.

وروينا من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: "حُرِّم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأُحلَّ لإناثهم"

(2)

. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث حذيفة قال: "نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها، وعن لباس الحرير والديباج وأن نجلس عليه"

(3)

رواه البخاري.

‌فصل في جواز لبس الحرير للحكة

روينا في الصحيحين من حديث أنس قال: "رخَّص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكَّة بهما"

(4)

.

‌فصل في النهي عن افتراش جلود النمور والركوب عليها

روينا من حديث معاوية مرفوعًا: "لا تركبوا الخُزَّ والنِّمار"

(5)

رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن. وعن أبي المليح عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن جلود السِّباع"

(6)

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4057) كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء، والنسائي (8/ 160 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (3595، 3597)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 115)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 425)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 96)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4394)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 143).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1720) كتاب اللباس، [1] باب ما جاء في الحرير والذهب، والزيلعي في نصب الراية (4/ 223)، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (1/ 76)، والألباني في إرواء الغليل (1/ 305).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5837) كتاب اللباس، [27] باب افتراش الحرير، وأحمد في مسنده (5/ 398، 400، 408)، والدارقطني في سننه (4/ 293)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 246).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5839) كتاب اللباس، [29] باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة) ومسلم في صحيحه [24 - (2076)] كتاب اللباس والزينة [3] باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4129) كتاب اللباس، باب في جلود النمور والسباع، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 22، 3/ 272)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4357)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 328).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (4132) كتاب اللباس، باب في جلود النمور والسباع، والترمذي في سننه (1771) كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع، والنسائي (7/ 1706 =

ص: 34

رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحاح. وفي رواية للترمذي: "نهى عن جلود السباع أن تُفترش"

(1)

.

‌فصل فيما يقوله إذا لبس ثوبا جديدا أو نعلا ونحوه

روينا من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول اللَّه إذا استجد ثوبا سمَّاه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء، ثم يقول: "اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صنع له".

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

‌فصل في استحباب الابتداء باليمين في اللباس

قد أسلفنا مقصوده وسُقنا الأحاديث الصحيحة فيه

(3)

.

آخر المجلس وللَّه الحمد

= المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 74، 75)، والحاكم في المستدرك (1/ 144)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 21)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 249، 250).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (1770 م) كتاب اللباس، باب ما جاء في النهي عن جلود السباع.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4020) كتاب اللباس، في فاتحته، والترمذي في سننه (1767) كتاب اللباس، باب ما يقول إذا لبس ثوبًا جديدًا، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 110) باب ما يقول إذا استجد ثوبًا، وأحمد في مسنده (3/ 30، 50)، والحاكم في المستدرك (4/ 192)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 101).

(3)

انظر ما تقدم من الأحاديث الدالة على ذلك.

ص: 35

‌مجلس في آداب النوم والاضطجاع

روينا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شِقِّه الأيمن ثم قال: "أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك وألجات ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت"."

(1)

. رواه البخاري في كتاب الأدب

(2)

من صحيحه بهذا اللفظ، وفيه آداب اتخاذ فراش يأوي إليه والاضطجاع دون القعود ونحوه، وأن يكون على الجنب، وأن يكون الأيمن، والذكر المأثور.

وروينا عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة

(3)

ثم اضطجع على شِقِّك الأيمن وقل. . . " وذكر نحوه، وفيه: "واجعله من آخر ما تقول" أخرجاه

(4)

. وفيه النوم على طهارة وترك الكلام بعد الذكر.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشر ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقِّه الأيمن حتى يجيء المؤذن

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6315) كتاب الدعوات، [9] باب النوم على الشق الأيمن، ومسلم في صحيحه [57 - (2710)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [17] باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، وأبو داود في سننه (5046، 5047)، والترمذي في سننه (3394)، وابن ماجه (3876).

(2)

وجدناه في كتاب الدعوات كما تقدم قبل هذا.

(3)

في هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة: أحدها: الوضوء عند إرادة النوم، فإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء؛ لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، ويكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه.

الثانية: النوم على الشق الأيمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن، ولأنه أسرع إلى الانتباه.

الثالثة: ذكر اللَّه تعالى ليكون خاتمة عمله. [النووي في شرح مسلم (17/ 27) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (247) كتاب الوضوء، [79] باب فضل من بات على الوضوء، ورقم (6311) كتاب الدعوات، [61] باب إذا بات طاهرا، ومسلم في صحيحه [56 - (2710)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [17] باب ما يقول عند النوء وأخذ المضجع، وأبو داود في سننه (5046) كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم.

ص: 36

فيؤذنه"

(1)

أخرجاه. وفيه أن الاضطجاع الفاصل منه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.

وروينا من حديث حذيفة رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خدِّه ثم يقول: "اللهم باسمك أموت وأحيا"، وإذا استيقظ قال:"الحمد للَّه الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور""

(2)

أخرجه البخاري. ووضع اليد تحت الخد للتخشُّع.

وروينا من حديث يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنهما قال: "بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجل يحركني برجله، فقال: "إن هذه ضجعة يبغضها اللَّه"، قال: فنظرت فإذا رسول اللَّه"

(3)

رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفيه تجنب الاضطجاع على البطن والنفرة من ذلك.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من قعد مقعدا لم يذكر اللَّه تعالى فيه كانت عليه من اللَّه تِرَة، ومن اضطجع مضجعا لم يذكر اللَّه فيه كانت عليه من اللَّه تِرَة"

(4)

رواه أبو داود بإسناد حسن. التِرَةُ بكسر التاء المُثثاة فوق: النقص أو الحسرة أو الندامة. وهو بليغ في تهديد من ترك الذكر.

‌فصل في جواز الاستلقاء على القفا

ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة، وجواز القعود متربِّعا ومحتبيا. روينا من حديث عبد اللَّه بن زيد رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6310) كتاب الدعوات، [5] باب الضجع على الشق الأيمن، ومسلم في صحيحه [121 - (736)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [17] باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، وأن الوتر ركعة، وأبو داود في سننه (1335)، والترمذي في سننه (440)، والنسائي (3/ 234، 243)، وأحمد في مسنده (6/ 35، 182).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6312) كتاب الدعوات [7] باب ما يقول إذا نام، وأبو داود (5049) كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، والترمذي في سننه (3413) والنسائي في عمل اليوم والليلة (747، 857)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 252).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (5040) كتاب الأدب، باب في الرجل ينبطح على بطنه، وأحمد في مسنده (3/ 430، 5/ 426) وعبد الرزاق في مصنفه (18802)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 393)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 57)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 374)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4719)، والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 366).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4856) كتاب الأدب، باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر اللَّه، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 409) والتبريزي في مشكاة المصابيح (2272)، وابن تيمية في الكلم الطيب (5)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث المصابيح (78).

ص: 37

اللَّه صلى الله عليه وسلم مُستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربَّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء"

(2)

. حديث صحيح، رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة مُحتبيا بيديه هكذا، ووصف بيديه الاحتباء وهو القُرفصاء"

(3)

رواه البخاري.

وروينا من حديث قيلة بنت مخرمة

(4)

قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القُرفصاء، فلما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المُتخشِّع أُرعدت من الفرق"

(5)

رواه أبو داود والترمذي. وهو دال على أن القُرفصاء قعود التخشُّع وأن تواضع الكبير يزيده مهابة.

وروينا من حديث الشريد بن سويد قال: "مرَّ بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال: "أتقعُد قعدة المغضوب عليهم؟ ""

(6)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفيه كراهية هذه القعدة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5969) كتاب اللباس، [103] باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى، ومسلم في صحيحه [75 - (2100)] كتاب اللباس والزينة، [22] باب في إباحة الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4850) كتاب الأدب، باب في الرجل يجلس متربعا، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 298)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 404)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4715).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (6272) كتاب الاستئذان، [24] باب الاحتباء باليد وهو القرفصاء.

(4)

قيلة بنت مخرمة العنبرية الغنوية العنزية، وقيل التميمية، صحابية لها حديث طويل، أخرج لها البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي.

ترجمتها: تهذيب التهذيب (2/ 446)، التقريب (2/ 611)، الثقات (3/ 349)، أسد الغابة (7/ 245)، الإصابة (8/ 83).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4847) كتاب الأدب، باب في جلوس الرجل.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (4848) كتاب الأدب، باب في الجلسة المكروهة، وأحمد في مسنده (4/ 388)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 236)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4730)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 16).

ص: 38

‌مجلس في آداب المجلس والجليس

روينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا يُقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسَّعوا وتفسَّحوا". وكان ابن عمر إذا قام له رَجُلٌ من مجلسه لم يجلس فيه. أخرجاه

(1)

. وفيه النهي عن ذلك والأمر بالتوسُّع.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"

(2)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: "كنَّا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث سلمان مرفوعًا: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهَّر ما استطاع من طُهر ويدَّهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ثم يخرُجُ فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كُتب له ثم يُنصت إذا تكلم الإمام إلَّا غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6269) كتاب الاستئذان، [31] باب لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ورقم (6270) كتاب الاستئذان، [32] باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} [المجادلة: 11]، ومسلم في صحيحه [29 - (2177)] كتاب السلام، [11] باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، وأحمد في مسنده (2/ 124)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 51)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 232).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [31 - (2179)] كتاب السلام، [12] باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به، وابن ماجه في سننه (3717)، وأحمد ابن حنبل (2/ 283)، والدارمي في سننه (2/ 282)، وعبد الرزاق في مصنفه (1792)، وابن خزيمة في صحيحه (1821)، والبخاري في الأدب المفرد (1138).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4825) كتاب الأدب، باب في التحلق، وأحمد في مسنده (5/ 98)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4729).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (883) كتاب الجمعة، [6] باب الدهن للجمعة، ورقم (910) كتاب الجمعة [19] باب لا يفرق بين اثنين بوم الجمعة، وأحمد في مسنده (5/ 478)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 243)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 487)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 251)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 152).

ص: 39

وروينا من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"لا يحل لرجل أن يُفرِّق بين اثنين إلَّا بإذنهما"

(1)

.

وروينا من حديث حذيفة رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ من جلس وسط الحلقة"

(2)

. رواه أبو داود بإسناد حسن. وروى الترمذي عن أبي مجلز أن رجلا قعد وسط حلقة فقال حذيفة: "ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. أو لَعَنَ اللَّه على لسان محمد. من جلس وسط الحلقة"

(3)

ثم قال: حسن صحيح.

وروينا من حيث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "خير المجالس أوسعها"

(4)

رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من جلس في مجلس فكثُر فيه لَغَطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. إلَّا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك"

(5)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أبي برزة رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك" فقال رجل: يا رسول اللَّه، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى. قال:"كفَّارة لما يكون في المجلس"

(6)

رواه أبو داود، وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4845) كتاب الأدب، باب الرجل يجدس بين الرجلين بغير إذنهما، وأحمد في مسنده (2/ 213)، والمنذري فى الترغيب والترهيب (4/ 51)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4703)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 522).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4826) كتاب الأدب، باب الجلوس وسط الحلقة، والخطيب في تاريخ بغداد (12/ 9)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 222).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2753) كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية الجلوس وسط الحلقة.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4820) كتاب الأدب، باب في سعة المجلس، والحاكم في المستدرك (4/ 269)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 59)، وابن حجر في المطالب العالية (2806)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 52).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (3433) كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس، وأحمد في مسنده (2/ 494)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (134) باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، وأحمد في مسنده (2/ 494)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 248)، والقرطبي في تفسيره (17/ 78)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 190)، وابن تيمية في الكلم الطيب (222).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (4859) كتاب الأدب باب في كفارة المجلس، والحاكم في المستدرك =

ص: 40

عائشة وقال: صحيح الإسناد.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "قلَّما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعوا بهؤلاء الدعوات: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلِّغُنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مُصيبات الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منَّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تُسلِّط علينا من لا يرحمنا""

(1)

رواه الترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون اللَّه تعالى فيه إلَّا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة"

(2)

رواه أبو داود بإسناد صحيح. وعنه مرفوعًا: "ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا اللَّه فيه ولم يصلُّوا على نبيهم إلَّا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم"

(3)

. رواه الترمذي وحسَّنه.

= (2/ 537)، وابن حبان في صحيحه (2366 - الموارد)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 80، 6/ 249)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 289)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (441)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 323).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (3502) كتاب الدعوات، والحاكم في المستدرك (1/ 528، 2/ 142).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4855) كتاب الأدب، باب كراهية أن يقوم الرجل من مجلسه ولا يذكر اللَّه، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 410) وابن تيمية في الكلم الطيب (24).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (3380) كتاب الدعوات، باب في القوم يجلسون ولا يذكرون اللَّه، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 409)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 9)، وابن حبان في صحيحه (2321 - الموارد).

ص: 41

‌مجلس في الرؤيا وما يتعلق بها

قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}

(1)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لم يبق من النبوَّة إلَّا المبشِّرات". قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة"

(2)

رواه البخاري.

وروينا عنه مرفوعًا: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء في ستة وأربعين جزءًا من النبوَّة"

(3)

أخرجاه.

وفي رواية: "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا"

(4)

. فأصدقها باعتبار الوقت اقتراب الزمان، وباعتبار الرأي صدق الحديث.

وروينا عنه مرفوعًا: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي"

(5)

. أخرجاه، وهذا أصدقها باعتبار المرئي.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من اللَّه، فليحمد اللَّه عليها وليُحدِّث بها"

(6)

. وفي رواية: "فلا يحدِّث بها إلَّا من

(1)

سورة الروم (23).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6990) كتاب التعبير، [5] باب المبشرات، والزبيدي في الإتحاف (10/ 428)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (10/ 428)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 312)، والألباني في إرواء الغليل (8/ 129).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7017) كتاب التعببر، [26] باب القيد في المنام، ومسلم في صحيحه [6 - (2263)] كتاب الرؤيا، في مقدمته، والترمذي في سننه (227)، وأبو داود (5019)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 507)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4614)، والدارمي في سننه (2/ 125)، والسيوطي في الدر النثور (3/ 312).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [6 - (2263)] كتاب الرؤيا، في مقدمته، وأبو داود في سننه (5019) كتاب الأدب، باب ما جاء في الرؤيا.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6993) كتاب التعبير، [10] باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ومسلم في صحيحه [11 - (2666)] كتاب الرؤيا، [1] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من رآني فقد رآني"، وأبو داود في سننه (5023)، والترمذي (2276) وابن ماجه (3900، 3901)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 306)، والحاكم في المستدرك (4/ 393).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6985) كتاب التعبير [3] باب الرؤيا من اللَّه، وأبو داود =

ص: 42

يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرِّها ولا يذكرها لأحد؛ فإنها لا تضره"

(1)

أخرجاه. وفيه بيان نوعي الرؤيا؛ المحبوب والمذموم، وبيان ما يقابل عليه كل واحد منهما.

وروينا من حديث أبي قتادة مرفوعًا: "الرؤيا الصالحة -وفي رواية: الحسنة- من اللَّه، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثا وليتعوَّذ من الشيطان فإنها لا تضره"

(2)

أخرجاه. النفث: نفخ لطيف لا ريق معه.

وروينا من حديث جابر مرفوعًا: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق على يساره ثلاثا، وليستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه"

(3)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أبي الأسقع واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه أو يُرِي عينه ما لم تر، أو يقول على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل" أخرجه البخاري

(4)

.

آخره وللَّه الحمد

= (5022)، والترمذي في سننه (3453)، وأحمد في مسنده (3/ 8)، والحاكم في المستدرك (4/ 392)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 312).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6985) كتاب التعبير [3] باب الرؤيا من اللَّه، ومسلم في صحيحه [4 - (2261)] كتاب الرؤيا، في مقدمته، وأحمد في مسنده (5/ 303)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (765).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6995) كتاب التعبير، [10] باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ومسلم في صحيحه [4 - (2261)] كتاب الرؤيا في مقدمته، والدارمي في سننه (2/ 124)، ومالك في الموطأ (957).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [5 - (2262)] كتاب الرؤيا، في مقدمته، وأبو داود في سننه (5022)، وابن ماجه في سننه (3908)، والحاكم في المستدرك (4/ 392)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4613)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 484)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (766).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3509) كتاب المناقب، باب [5]، وأحمد في مسنده (4/ 106).

ص: 43

‌مجلس في السلام وأحكامه

‌فصل في فضله والأمر بإفشائه

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}

(1)

. وقال: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}

(2)

وقال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(3)

. وقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ}

(4)

. ففي الآية الأولى: السلام قبل دخول دار الغير. وفي الثانية: السَّلام بعد الدخول. وفي الثالثة: الأمر بالرَّدِّ. وفي الرابعة: بيان صفة السلام ابتداء وردًّا.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رجلا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تُطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ومن لم تعرف"

(5)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لما خلق اللَّه آدم قال: اذهب فسلِّم على أولئك النَّفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يجيبونك فإنها تحيَّتك وتحيَّة ذريَّتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة اللَّه، قال: فزادوه

(1)

سورة النور (27).

(2)

سورة النور (61).

(3)

سورة النساء (86).

(4)

سورة الذاريات (24، 25).

قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات: 24]؛ أي الذي أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك، كما هو ظاهر التنزيل، وقوله تعالى:{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69]، الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم، ولهذا قال:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فالخليل اختار الأفضل. [تفسير ابن كثير (4/ 235)].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (12) كتاب الإيمان، [6] باب إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم في صحيحه [63 - (39)] كتاب الإيمان، [14] باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، وأبو داود في سننه (5194)، وابن ماجه (3253)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 62)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 93)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4629)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 237، 5/ 239)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 287، 3/ 424).

ص: 44

ورحمة اللَّه"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث البراء بن عازب: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبع وعدَّ منها: إفشاء السلام"

(2)

أخرجاه أيضا.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أَوَلَا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم"

(3)

. وأي فائدة أجلُّ من هذه وهي التحابب.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن سلام مرفوعًا: "يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلُّوا بالليل والناس نيام تدخلُون الجنة بسلام"

(4)

رواه الترمذي وصححه.

وروينا من حديث الطفيل بن أبي بن كعب أنه: "كان يأتي عبد اللَّه بن عمر فيغدوا معه إلى السوق، قال: فإذا كدونا إلى السوق لم يمرَّ عبد اللَّه على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلَّا سلَّم علبه، قال الطُفيل

(5)

: فجئت عبد اللَّه بن عمر يوما

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6227) كتاب الاستئذان، [1] باب بدء السلام، ومسلم في صحيحه [28 - (2841)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [11] باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6227) كتاب الأدب، [12] باب تشميت العاطس إذا حمد اللَّه، ومسلم في صحيحه [3 - (2066)] كتاب اللباس والزينة، [2] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجل، والترمذي (2809) كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والصبي.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [93 - (54)] كتاب الإيمان، [22] باب بيان أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، وأبو داود في سننه في الأدب، باب في إفشاء السلام (5193)، والترمذي في سننه (2688)، وابن ماجه في سننه (3692)، وأحمد في مسنده (2/ 391، 477)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 232)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 454)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 226) والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 3)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 375)، والشجري في أماليه (2/ 145).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2485) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجه في سننه (1334) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، وفي الأطعمة، باب إطعام الطعام، والحاكم في المستدرك (10/ 131، 4/ 160)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 436، 348)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 425)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1907).

(5)

الطفيل بن أُبَيّ بن كعب، أبو بطن. لكبر بطنه. الأنصاري البخاري الخزرجي المدني، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أخرج له البخاري في الأدب وأبو داود وابن ماجه، ثقة. =

ص: 45

فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: ما تصنع بالسوق؟ وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق، وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدَّث. فقال: يا أبا بطن. وكان الطُفيل ذا بطن. إنما نغدوا من أجل السلام، نسلِّم على من لقينا". رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح.

‌فصل في كيفيته

(1)

يستحب أن يقول المبتديء به: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته، فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحدا، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة اللَّه وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم.

وروينا من حديث عمران بن الحصين قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السَّلام عليكم. فردَّ عليه ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عشر". ثم جاء آخر فقال: السَّلام عليكم ورحمة اللَّه. فردَّ عليه فجلس، فقال: "عشرون". ثم جاء آخر فقال: السَّلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته. فردَّ عليه، فجلس، فقال: "ثلاثون"

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثا حتى نفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثًا"

(3)

رواه البخاري. وهو

= ترجمته: تهذيب التهذيب (5/ 14)، تقريب التهذيب (1/ 378)، والكاشف (2/ 42)، تاريخ البخاري الكبير (4/ 364)، والجرح والتعديل (4/ 2151)، الثقات (4/ 397).

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام بينكم" فيه الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف. والسلام أول أيباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، واظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس لزوم التواضع واعظام حرمات المسلمين. [النووي في شرح مسلم (2/ 31) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (5195) كتاب الأدب، باب كيف السلام، والترمذي (2689) كتاب الاستئذان، باب ما ذكر في فضل السلام، وأحمد في مسنده (4/ 339، 440)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 134)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 428، 429)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4644)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 31)، وابن الجوزي في العلل المتناهية.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (94، 95) كتاب العلم، [31] باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه، ورقم (6244) كتاب الاستئذان، [13] باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، والحاكم في مستدركه (4/ 273)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 213)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (208)، والقرطبي في تفسيره (12/ 215).

ص: 46

محمول على ما إذا كان الجمع كثيرًا.

وروينا من حديث المقداد في حديثه الطويل، قال:"كنَّا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل فيسلِّم تسليما لا يُوقظ نائما ويُسمع اليقظان، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلَّم"

(1)

أخرجه مسلم. وهو تسليم بين سلامين بحسب الحاجة.

وروينا من حديث أسماء بنت يزيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "مرَّ في المسجد يوما وعُصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتَّسْليم"

(2)

رواه الترمذي وحسَّنه. وهو محمول على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين اللفظ والإشارة تأكيدا، ويؤيده أن في رواية أبي داود:"فسلَّم علينا"

(3)

.

وروينا من حديث أبي جُرَى الهجيمي رضي الله عنهما قال: "أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول اللَّه. قال: "لا تقل عليك السَّلام، فإن عليك السلام تحية الموتى""

(4)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وهو يعني: عليك السَّلام يا فلان، مشهور عند العرب في المراثي، فلذلك نهى عنه.

‌فصل في آداب السَّلام

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يُسلَّم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير"

(5)

أخرجاه. وللبخاري: "والصغير على الكبير".

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [174 - (2055)] كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره.

وقال النووي: هذا فيه آداب السلام على الإيقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم، وأن يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة بحيث يسمع الأيقاظ ولا يهوش على غيرهم، وكذلك أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (6/ 3)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (450)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 174)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 85).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2697) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على النساء، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 24)، وأخرجه أبو داود كما سيأتي بلفظ:"فسلم علينا"، انظر: أبو داود في سننه (5204) كتاب الأدب، باب في السلام على النساء، وابن ماجه في سننه (3701) كتاب الأدب، باب السلام على الصبيان والنساء.

(3)

انظر ما تقدم قبل هذا.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4084) كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار، ورقم (5209) كتاب الأدب، باب كراهية أن يقول: عليك السلام، والترمذي في سننه (2722) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في كراهية أن يقول: عليك السلام مبتدئا، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 204، 429)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 74).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6233) كتاب الاستئذان، [6] باب تسليم الماشي على القاعد، =

ص: 47

وروينا من حديث أبي أمامة رضي الله عنهما مرفوعًا: "إن أولى الناس باللَّه من بدأهم بالسلام"

(1)

رواه أبو داود بإسناد جيِّد. ورواه الترمذي عن أبي أُمامة، قيل: يا رسول اللَّه، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال:"أولاهُما باللَّه"

(2)

. قال الترمذي: حديث حسن. وفي الحديث الأول بيان من الحق عليه أن يبدأ، وفي الثاني من الفضل له أن يبدأ.

‌فصل في استحباب إعادة السَّلام

على من تكرَّر لقاؤه على قرب، بأن دخل ثم خرج ثم دخل في الحال أو حال بينهما شجرة ونحوها.

روينا من حديث أبي هريرة في حديث صلاة الرجل أنه "جاء فصلَّى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه السَّلام

(3)

فقال: "ارجع فصل إنك لم تُصلّ"، ثم رجع فصلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى فعل ذلك ثلاثا"

(4)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا: "إذا لقي أحدكم أخاه فليسلِّم عليه،

= ومسلم في صحيحه [1 - (2160)] كتاب السلام، [1] باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير، وأبو داود في سننه (5198)، والترمذي في سننه (2703، 2704)، وأحمد في مسنده (2/ 510)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 203) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 427)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4632).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5197) كتاب الأدب، باب في فضل من بدأ بالسلام، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 427)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4646).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2694) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في فضل الذي يبدأ بالسلام، والمننذي في الترغيب والترهيب (3/ 427).

(3)

ذكر النووي فوائد عديدة لهذا الحديث، فقال: فيه اسحباب السلام عند اللقاء ووجوب رده، وأنه يستحب تكراره إذا تكرر اللقاء وإن قرب العهد، وأنه يجب رده عن كل مرة، وأن صيغة الجواب: وعيكم السلام، أو: وعليك، بالواو وهذه الواو مستحبة عند الجمهور، وأوجبها بعض أصحابنا، وليى بشيء، بل الصواب أنها سنة. [النووي في شرح مسلم (4/ 93) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6251) كتاب الاستئذان، [18] باب من رد فقال عليك السلام، ومسلم في صحيحه [45 - (397)] كتاب الصلاة، [11] باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر من غيرها، وأبو داود في سننه (856) كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (303)، والنسائي (3/ 59، 60 - المجتبى) وابن ماجه في سننه (1060)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 437، 4/ 390)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 15، 37، 62)، والحاكم في المستدرك (1/ 241).

ص: 48

فإن حال بينهما شجر أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلِّم عليه"

(1)

رواه أبو داود.

‌فصل في استحبابه إذا دخل بيته

قد سلف فيه الآية.

وروينا من حديث أنس قال

(2)

: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا بُني، إذا دخلت على أهل بيتك على أهلك فسلِّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

‌فصل في السلام على الصِّبيان

روينا من حديث أنس أنه "مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم وقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله"

(3)

أخرجاه.

‌فصل في سلام

(4)

الرجل على زوجته

والمرأة من محارمه، وعلى أجنبية وأجنبيات لا يخاف الفتنة بهنَّ وسلامهنَّ بهذا الشرط.

روينا من حديث سهل بن سعد قال: "كانت فينا امرأة. وفي لفظ: كانت لنا عجوز. تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتُكَرْكِرُ حبَّات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ونُسلِّم عليها فتقدمه إلينا". رواه البخاري

(5)

. تُكَرْكِرُ: تطحن.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5200) كتاب الأدب باب في الرجل يفارق الرجل ثم يلقاه أيسلم عليه، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 93)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (186).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2698) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم إذا دخل بيته، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 460).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6247) كتاب الاستئذان، [15] باب التسليم على الصبيان، ومسلم في صحيحه [14، 15 - (2168)] كتاب السلام، والترمذي في سننه (2696) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على الصبيان.

(4)

اعلم أن ابتداء السلام سنة، ورده واجب، فإن كان المسلم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم؛ إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلم عليه واحدا تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإذا رد واحد منهم سقط الحرج على الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع. [النووي في شرح مسلم (14/ 118) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (938) كتاب الجمعة، [40] باب قول اللَّه تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ، ورقم (6248) كتاب الاستئذان، [16] باب =

ص: 49

وروينا من حديث أم هانيء فاختة بنت أبي طالب قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يغتسل وفاطمة تستره، فسلَّمت. . . " وذكر الحديث. أخرجه مسلم

(1)

.

وروينا عن أسماء بنت يزيد قالت: "مرَّ علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلَّم علينا"

(2)

. رواه أبو داود والترمذي وحسنَّه، واللفظ لأبي داود. ولفظ الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم "مرَّ في المسجد يوما وعُصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم".

‌فصل في تحريم ابتداء الكافر بالسَّلام وكيفية الرد عليهم واستحباب السلام على أهل مجلس فيهم مسلمون وكُفار

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسَّلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطَّروهم إلى أضيقهِ"

(3)

رواه مسلم.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم"

(4)

أخرجاه.

وروينا من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم "مرَّ على ملأ فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، فسلَّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم"

(5)

أخرجاه.

= تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال، ورقم (5403) كتاب الأطعمة، [18] باب السلق والشعير.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [70 - (336)] كتاب الحيض، [16] باب تستر المغتسل بثوب ونحوه.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (5204) كتاب الأدب، باب في السلام على النساء، والترمذي في سننه (2697) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم على النساء، وابن ماجه في سننه (3701)، كتاب الأدب، [14] باب السلام على الصبيان والنساء، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 24).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [13 - (2167)] كتاب السلام، [4] باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، وأبو داود في سننه (5205) كتاب الأدب، باب في السلام على أهل الذمة، والترمذي في سننه (1602، 1700)، وأحمد في مسنده (2/ 266)، وعبد الرزاق في مصنفه (19457)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 435)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 126)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4635).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6258) كتاب الاستئذان، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام، ومسلم في صحيحه [6 - (2163)] كتاب السلام [4] باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، والترمذي في سننه (3301)، وابن ماجه في سننه (3697)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 442)، وابن حبان في صحيحه (1941 - الموارد)، والسيوطي في الدر المنثور (7/ 88).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6254) كتاب الاستئذان، [20] باب التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين.

ص: 50

‌فصل في استحباب السَّلام إذا قام من المجلس وفارق جُلساءه ومجلسه.

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلِّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة"

(1)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

فصل في الاستئذان وآدابه قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}

(2)

. وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا

(3)

: "الاستئذان ثلاث، فإن أُذن وإلَّا فارجع". ومن حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إنما جُعِلَ الاستئذان من أجل البصر"

(4)

أخرجاهما.

وروينا من حديث ربعي بن حراش قال: "حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أألِج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان فقل له: قُل السَّلام عليكم، أأدخل؟ " فسمعه الرجل فقال: السَّلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل"

(5)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث كلدة بن حنبل رضي الله عنهما قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه فلم أُسلِّم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقل: السَّلام عليكم، أأدخل؟ "". رواه أبو داود والترمذي

(6)

وحسَّنه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5208) كتاب الأدب، باب في السلام إذا قام من المجلس، والترمذي في سننه (2706) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم عند القيام وعند القعود، وأحمد في مسنده (2/ 230).

(2)

سورة النور (27).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (2153)] كتاب الأدب، [7] باب الاستئذان، والترمذي (2690) كتاب الاستئذان، باب في الاستئذان ثلاثة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6241) كتاب الاستئذان، [11] باب الاستئذان من أجل البصر، ومسلم في صحيحه [40، 41 - (2156)] كتاب الآداب، [9] باب تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي (2709)، وأحمد في مسنده (5/ 33) وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 569)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 437)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 39).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (5177) كتاب الأدب، باب كيف الاستئذان، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 340)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 419)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 38).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (5176) كتاب الأدب، باب كيف الاستئذان، والترمذي في سننه (2710) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان، والنسائي في الكبرى، =

ص: 51

‌فصل في بيان أن السُّنة إذا قيل للمستأذن من أنت؟ أن يقول فلان، فيُسمِّي نفسه بما يُعرف به من اسم أو كنية، وكراهة قوله أنا ونحوها.

روينا من حديث أنس المشهور في الإسراء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "ثم صَعَدَ بي جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. ثم صعد بي إلى السماء الثانية والثالثة وسائرهُنَّ، ويقال في كل سماء: من هذا؟ فيقول: جبريل"

(1)

.

وروينا من حديث أبي ذر قال: "خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، فجعلت أمشي في ظلِّ القمر، فالتفت فرآني فقال: "من هذا؟ " فقلت: أبو ذر"

(2)

.

وروينا من حديث أم هانيء قالت: "أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره، فقال "من هذه؟ " فقلت: أنا أم هانيء"

(3)

.

وروينا من حديث جابر قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب فقال: "من ذا؟ " فقلت: أنا. فقال: "أنا أنا" كأنه كرهها"

(4)

متفق عليهن. وفي الأول إجابة من هذا باسمه، وفي الثاني والثالث الإجابة بالكنية بأب أو أم، وفي الرابع كراهة الإجابة بأنا.

= الوليمة، باب الضغابيس، وفي عمل اليوم والليلة (ص 112، 113) باب كيف يستأذن، وأحمد في مسنده (3/ 414)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 340)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4671)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 374).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [259 - (162)] كتاب الإيمان، [74] باب الإسراء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.

قال النووي: فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه، فقيل له من أنت فينبغي أن يقول زيد مثلا إذا كان اسمه زيدًا، ولا يقول أنا؛ فقد جاء الحديث بالنهي عنه؛ ولأنه لا فائدة فيه. [النووي في شرح مسلم (2/ 185) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

و

(3)

تقدم من قبل بتخريجه فانظره.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6250) كتاب الاستئذان، [17] باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا، ومسلم في صحيحه [38، 39 - (2155)] كتاب الآداب، [8] باب كراهة قول المستأذن: أنا، إذا قيل من هذا.

قال النووي: قال العلماء: إذا استأذن فقيل له: من أنت أو من هذا كره أن يقول: أنا، لهذا الحديث؛ ولأنه لم يحصل بقوله: أنا، فائدة ولا زيادة، بل الإيهام باق، بل ينبغي أن يقول: فلان باسمه، وإن قال: أنا فلان فلا بأس، كما قالت أم هانئ حين استأذنت فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من هذه؟ "، فقالت: أنا أم هانئ. ولا بأس بقوله: أنا أبو فلان أو القاضي فلان، أو الشيخ فلان، إذا لم يحصل التعريف بالاسم لخفائه. [النووي في شرح مسلم (14/ 114) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 52

‌مجلس في استحباب تشميت العاطس إذا حمد اللَّه تعالى وكراهة التشميت والعطاس والتثاوب

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن اللَّه يحب العطاس ويكره التثاؤُب، فإذا عطس أحدكم وحمد اللَّه كان حقًا على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك اللَّه، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاوب أحدكم فليردَّه ما استطاع فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان"

(1)

أخرجه البخاري. وفيه عنه مرفوعًا: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد للَّه، وليقل له أخوه. أو صاحبه: يرحمك اللَّه، فإذا قال له: يرحمك اللَّه، فليقل: يهديكم اللَّه ويصلح بالكم"

(2)

.

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إذا عطس أحدكم فحمد اللَّه فشمِّتوه، فإن لم يحمد اللَّه فلا تُشمِّتوه". أخرجه مسلم

(3)

.

وروينا من حديث أنس قال: "عطس رجلان عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشمَّت أحدهما ولم يُشمِّت الآخر، فقال الرجل: يا رسول اللَّه، شمَّت هذا ولم تُشمِّتني. قال: "إن هذا حمد اللَّه وانك لم تحمد اللَّه""

(4)

أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6223) كتاب الأدب، [12] باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، وأبو داود (5028)، والترمذي في السنن (2746، 2747)، وأحمد في مسنده (2/ 265، 458)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 289)، والحاكم في المستدرك (4/ 263، 264).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6224) كتاب الأدب، باب إذا عطس كيف يشمت، وأبو داود في سننه (5033) كتاب الأدب، باب ما جاء في تشميت العاطس، والترمذي في سننه (2741) كتاب الأدب، باب ما جاء كيف تشميت العاطس، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 83، 84) باب ما يقول إذا عطس، وابن ماجه في سننه (3715) كتاب الأدب، باب تشميت العاطس، وأحمد في مسنده (5/ 419)، والحاكم في المستدرك (4/ 266، 267)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 501)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 163).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [54 - (2992)] كتاب الزهد والرقائق، [9] باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6225) كتاب الأدب، [127] باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد اللَّه، ومسلم في صحيحه [53 - (2991)] كتاب الزهد والرقائق، [9] باب تشميت العاطس =

ص: 53

وروينا من حديث أبي هريرة قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا عَطَسَ وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غَضَّ بها صوته -شك الراوي-"

(1)

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وفيه استحباب ذلك.

وروينا من حديث أبي موسى قال: "كان اليهود يتعاطسون عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمك اللَّه، فيقول: "يهديكم ويصلح بالكم"." رواه أبو داود والترمذي

(2)

وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فِيهِ، فإن الشيطان يدخل" أخرجه مسلم

(3)

.

= وكراهة التثاؤب، وأبو داود (5039)، وابن ماجه (3183)، وأحمد في مسنده (3/ 100، 117)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 49)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 34).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5029) كتاب الأدب، باب في العطاس، والترمذي في سننه (2745) كتاب الأدب، باب ما جاء في خفض الصوت وتخمير الوجه عند العطاس، وأحمد في مسنده (2/ 439)، والحاكم في المستدرك (4/ 293)، والزبيدي فى الإتحاف (2/ 286)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 42)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4738).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (5038) كتاب الأدب، باب كيف يشمت الذمي، والترمذي، في سننه (2739) كتاب الأدب، باب ما جاء كيف تشميت العاطس، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 90)، باب ما يقول لأهل الكتاب إذا تعاطسوا، وأحمد في مسنده (1/ 204، 4/ 400)، والحاكم في المستدرك (4/ 268)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4740)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 411)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 15، 6/ 285).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [57، 58، 59 - (2995)] كتاب الزهد والرقائق، [9] باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب، وأحمد في مسنده (3/ 93، 96)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 289)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (986).

ص: 54

‌مجلس في استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه وتقبيل يد الرجل الصالح وتقبيل ولده شفقة ومعانقة القادم من سفر وكراهة الانحناء

روينا من حديث قتادة قال: "قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم"

(1)

رواه البخاري. وفيه أن المصافحة من شأن خير أمة في خير القرون، وإنها كانت شائعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عهده وبعده.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: "لما جاء أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة"

(2)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث البراء بن عازب مرفوعًا

(3)

: "ما من مسلمَيْن يلتقيان فيتصافحان إلَّا غفر لهما قبل أن يفترقا". رواه أبو داود.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنهما قال: "قال رجل: يا رسول اللَّه، الرجل منَّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: "لا"، قال: أفيلتزمه ويُقبلُهُ؟ قال: "لا" قال: أفيأخذه ويصافحه؟ قال: "نعم""

(4)

رواه الترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث صفوان بن عسَّال قال: "قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي. فقال صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك كان له أربعة أعين. فأتيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات". فذكر الحديث إلى قوله: "فقبّلوا يده ورجله

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6263) كتاب الاستئذان، [27] باب المصافحة، والترمذي في سننه (2729) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4677).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (5213) كتاب الأدب، باب في المصافحة.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (5212) كتاب الأدب، باب في المصافحة، والترمذي في سننه (2727) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة، وابن ماجه في سننه (3703) كتاب الأدب باب المصافحة، وأحمد في مسنده (4/ 289، 303)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 99)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 432)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 281، 283).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2728) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المصافحة، وابن ماجه في سننه (3702) كتاب الأدب، [15] باب المصافحة.

ص: 55

وقالوا: نشهد إنك نبي"

(1)

. رواه الترمذي بأسانيد صحيحة.

وروينا من حديث عائشة قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي، فآتاه فقرع الباب فقام إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عُريانا يجُرُّ ثوبه، واللَّه ما رأيته عُريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبَّله"

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث أبي ذر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق"

(3)

رواه مسلم.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي والأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يرحم لا يُرحم"

(4)

أخرجاه. آخر المجلس وللَّه الحمد.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2733) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في قبلة اليد والرجل، ورقم (3144) كتاب التفسير، والنسائي (7/ 111 - المجتبى)، وابن ماجه مختصرا (3705) كتاب الأدب، [16] باب الرجل يقبل يد الرجل، وأحمد في مسنده (4/ 239)، والحاكم في المستدرك (1/ 9، 4، 351) وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 98)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 43، 44، 8/ 84).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2732) كتاب الاستئذان، باب ما جاء في المعانقة والقبلة.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [144 - (2626)] كتاب البر والصلة والآداب، [43] باب استحباب طلاقة الرجه عند اللقاء.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5997) كتاب الأدب، [18] باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم في صحيحه [65 - (2318)] كتاب الفضائل، [15] باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه، وفضل ذلك، وأبو داود (5218)، وأحمد في مسنده (2/ 241، 514)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 69)، وابن حبان في صحيحه (2236)، وابن أبي شيبة في مصنفه (392، 393)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 363)، والتبريزي في الإتحاف (7/ 501).

ص: 56

‌مجلس في عيادة المريض وتشييع الميت والصلاة عليه وحضور دفنه والمكث عند قبره بعد دفنه

روينا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبع، فعدَّ منها عيادة المريض واتباع الجنائز"

(1)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "حقُّ المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتِّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس"

(2)

متفق عليهما.

وروينا من حديث أبي هريرة أيضًا موفوعًا: "إن اللَّه عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعُدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مَرِضَ فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عُدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتُك فلم تُطعمني. قال: يا رب وكيف أُطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تُطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقيتُك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي"

(3)

أخرجه مسلم. وفيه رتبة العيادة المتوجهة إلى الرب تعالى ووجد أنه عنده، وأي لسان يقدر على أن يُعبِّر عن هذه الرتبة؟! وفي ضِمْنه تخجيل عظيم لمن ترك ذلك وتحذير من خَسِره خسران فوائده العلمية.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1239) كتاب الجنائز، [2] باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم في صحيحه [3 - (2066)] كتاب اللباس، [2] باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وأحمد في مسنده (4/ 299)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 5).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1240) كتاب الجنائز، [2] باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم في صحيحه [4 - (2162)] كتاب السلام، [3] باب من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأحمد في مسنده (2/ 540)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 386)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 145، 426)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1524).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [43 - (2569)] كتاب البر والصلة والآداب، [13] باب فضل عيادة المريض.

ص: 57

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكُّوا العاني"

(1)

رواه البخاري. والعاني: الأسير، وأمر بفكه ليتبدل من ذِلَّة الرِّقِّ وضيق الحبس، وأمر بإطعام الجائع ليُزيل الألم ليقوم المهجة وتعود القوى.

وروينا من حديث ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة". قيل: يا رسول اللَّه، وما خُرفة الجنة؟ قال:"جَنَاها"

(2)

أخرجه مسلم. وفيه ذكر فوائد العيادة عاجلًا وآجلًا، وما أطيب وأكثر خرفة الجنة.

وروينا من حديث علي مرفوعًا: "ما من مسلم يعود مسلما غدوة إلَّا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يُمسي، وإن عاده عشيَّة إلَّا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح وكان له خريف في الجنة"

(3)

رواه الترمذي وحسَّنه. الخريف: التمر المخزون؛ أي المجتنى، وما أبهج هذا وأعلاه وأعظم اعتناه. وفيه تنبيه على المباردة إلى العيادة أوَّل النهار وأول الليل، فكلما كانت صلاة الملائكة أكثر كانت أبهج وأكسب.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فآتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: "أسلِم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد للَّه الذي أنقذه

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5174) كتاب النكاح، [72] باب حق إجابة الوليمة والدعوة ومن أولم سبعة أيام ونحوه، وأحمد في مسنده (3/ 23، 32)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 379، 10/ 3)، وابن حبان في صحيحه (709)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 39)، وعبد الرزاق في مصنفه (6761)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 318)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 235)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 299)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 257).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [42 - (2568)] كتاب البر والصلة والآداب، [13] باب فضل عيادة المريض، والترمذي في سننه (968) كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 279، 283)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 319)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1527)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 113).

قال النووي: "خُرْفَة الجنة" بضم الخاء: قيل يا رسول اللَّه ما خرفة الجنة؟ قال: "جناها" أي يؤول به ذلك إلى الجنة واجتناء ثمارها. [النووي في شرح مسلم (16/ 102) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (969) كتاب الجنائز، باب ما جاء في عيادة المريض، وأبو داود في سننه (3098) كتاب الجنائز، باب في فضل العيادة على وضوء، وابن ماجه في سننه (1442) كتاب الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عاد مريضا، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 118)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 320)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1553)، والشجري في أماليه (2/ 285).

ص: 58

من النار"

(1)

أخرجه البخاري. وفيه أن من له حق خدمة وجوار ونحو ذلك ولو كان ذمِّيًّا فإنه يحل أن يُعاد كالمسلم، وفيه الإشارة على من يعوده بما هو من مصالحه كتوبة ونحوها.

‌فصل فيما يدعى به للمريض

روينا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قُرحة أو جُرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا، ووضع سفيان بن عيينة الراوي سبابته بالأرض ثم رفعها وقال: "بسم اللَّه تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا"."

(2)

أخرجاه. وفيه استعمال دواء من ريق ينفخ ويخلل وتراب يُجفَّف.

وروينا من حديث عائشة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يعود بعض أهله، يمسح بيده اليُمنى ويقول: "اللهم رب الناس أذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلَّا شفاؤك شفاء لا يُغادر سقما"."

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه أنه "قال لثابت: ألا أُرقيك برقية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: اللهم رب الناس مذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شافي إلَّا أنت شفاء لا يُغادر

(4)

سَقَمًا"

(5)

أخرجه البخاري.

وروينا من حديث سعد بن أبي وقَّاص قال: "عادني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبكى، قال: "ما يُبكيك؟ " فقال: قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1356) كتاب الجنائز، [79] باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وأحمد في مسنده (3/ 227)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 383).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5745، 5746) كتاب الطب، [38] باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [54 - (2194)] كتاب السلام، [21] باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، والحميدي في مسنده (252)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 106، 9/ 518)، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (1/ 163).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5750) كتاب الطب، [40] باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى، ومسلم في صحيحه [46 - (2191)] كتاب السلام، [19] باب استحباب رقية المريض، وأبو داود في سننه (3890)، وأحمد في مسنده (3/ 151)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 417)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 257)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 297).

(4)

وفيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له، وقد جاءت روايات كثيرة صحيحة، والمذكور هنا من أحسنها، ومعنى لا يغادر سقما أي لا يترك، والسقم بضم السين وإسكان القاف وبفتحها لغتان. [النووي في شرح مسلم (14/ 151) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5742) كتاب الطب، [38] باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 59

سعدًا"."

(1)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث عثمان بن أبي العاص أنه "شكى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم اللَّه ثلاثا، وقل سبع مرَّات: أعوذ باللَّه وقدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر"."

(2)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلَّا عافاه اللَّه من ذلك المرض"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري.

وروينا من حديثه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم "دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على من يعوده قال: "لا بأس، طهور إن شاء اللَّه". رواه البخاري

(4)

.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن جبريل صلى الله عليه وسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (1628)] كتاب الوصية، [1] باب الوصية بالثلث، وأبو داود في سننه (3104، 3401)، وأحمد في مسنده (1/ 1689)، والحاكم في المستدرك (1/ 3429)، وابن خزيمة في صحيحه (2355).

قال النووي: فيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس، ومعنى أشفيت على الموت أي قاربته وآشرفت عليه، يقال: أشفى عليه وأشاف، قاله الهروي، وقال ابن قتيبة: لا يقال أشفى إلا في الشر، قال إبراهيم الحربي: الوجع اسم لكل مرض، وفيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حاله ونحو ذلك. [النووي في شرح مسلم (11/ 64، 65) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [67 - (2202)] كتاب السلام، [24] باب استحباب وضع يده على مرضع الألم مع الدعاء، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 305)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1533)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 297)، والقرطبي في تفسيره (1/ 98)، وابن تيمية في الكلم الطيب (148)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1258).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (3106) كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، والترمذي في سننه (2083) كتاب الطب، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 301، 302) باب مجلس الإنسان من المريض عند الدعاء له، والحاكم في المستدرك (1/ 342، 4/ 213)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 322)، وابن تيمية في الكلم الطيب (149)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 297).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5656) كتاب المرض والطب، [10] باب عيادة الأعراب، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 383)، والطبراني فى المعجم الكبير (11/ 342)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1529).

ص: 60

اشتكيتَ يا محمد؟ قال: "نعم". قال: باسم اللَّه أُرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك"

(1)

رواه مسلم.

وروينا من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شَهِدا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر صدَّقه ربه فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا هو وحده، قال: يقول: لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، قال: يقول: صَدَقَ عبدي، لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، قال: يقول: لا إله إلا أنا، لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، قال: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن.

‌فصل في استحباب سؤال أهل المريض عن حاله

روينا من حديث ابن عباس: "أن علي بن أبى طالب خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول اللَّه؟ قال: أصبح بحمد اللَّه بارئا"

(3)

رواه البخاري.

‌فصل ما يقول من أُويس من حياته

روينا من حديث عائشة قالت: "سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مستند إليَّ يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى".

(4)

أخرجاه. وفيه اهتمام بالمآل.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [40 - (2186)] كتاب السلام، [16] باب الطب والمرض والرقى، والترمذي في سننه (972، 3523، 3524) والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (1/ 64) وابن السني في عمل اليوم والليلة (563).

(2)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 323)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 17).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4447) كتاب المغازي، [85] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

وفيه: فأخذ بيده عباس بن عبد الطلب فقال له: "أنت واللَّه بعد ثلاث عبد العصا، واني واللَّه لأرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سوف يتوفي من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر. . . . . " الحديث.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (4440) كتاب المغازي، [85] باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ورقم (5674) كتاب المرضى والطب، [19] باب تمني المريض الموت، ومسلم في صحيحه [85 - (2444)] كتاب فضائل الصحابة، [13] باب في فضل عائشة، والترمذى في سننه (3496)، وابن ماجه في سننه (1619)، وأحمد في مسنده (6/ 231).

ص: 61

وروينا من حديثها أيضًا قالت: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في الموت وعنده قدح فيه ماء وهو يُدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعني على غمرات الموت" أو: "سكرات الموت"" رواه الترمذي

(1)

، وفيه اهتمام بالحال لنزول الأوجاع.

‌فصل في استحباب وصية أهل المريض ومن يخدمه بالإحسان إليه واحتماله والصبر على ما يشق من أمره

وكذا الوصية عن قرب سبب موته بحد أو قصاص ونحوهما.

روينا من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حُبْلى

(2)

من الزنا، فقالت: يا رسول اللَّه، أصبت حدَّا فأقمه عليَّ، فدعا نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم وليَّها فقال:"أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل، فأمر بها نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فشُكَّت عليها ثيابها ثم أمر بها فرُجِمت ثم صلى عليها"

(3)

أخرجه مسلم.

‌فصل في جواز قول المريض: أنا وجِع أو شديد الوجع أو مَوْعُوك أو وارأساه ونحو ذلك، وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على السخط وإظهار الجذع

روينا عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال

(4)

: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُوعك، فمسسته

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (978) كتاب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت، وابن ماجه في سننه (1623) كتاب الجنائز باب ما جاء في ذكر مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (6/ 64، 7/ 171) والحاكم في المستدرك (2/ 465)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1564)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 13، 10/ 263)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 105)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 140).

(2)

مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والمشهور من مذهب مالك أنها لا ترجم حتى تجد من ترضعه، فإن لم تجد أرضعته حتى تفطمه ثم رجمت، وقال أبو حنيفة ومالك في رواية عنه: إذا وضعت رجمت ولا ينتظر حصول مرضعة. وقوله: "فشكت"، وفي بعضها فشدت بالدال بدل الكاف: وهو معنى الأول، وفي هذا استحباب جمع أثوابها عليها وشدها بحيث لا تنكشف عورتها [النووي في شرح مسلم (11/ 169، 171) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [24 - (1696)] كتاب الحدود، [5] باب من اعترف على نفسه بالزنى، وأبو داود في سننه (4440) كتاب الحدود، باب المرأة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها من جهينة، والنسائي (4/ 66 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 335، 337)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 321) والألباني في إرواء الغليل (7/ 366)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 177).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5667) كتاب المرضى والطب، [16] باب قول المريض إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، ومسلم في صحيحه [45 - (2571)] كتاب البر والصلة والآداب، =

ص: 62

فقلت: إنك لتُوعك وعكًا شديدًا، فقال: "فإني أجد كما يُوعك

(1)

رجلان منكم"" أخرجاه.

وروينا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: "جاءني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتدَّ بي، فقلت: بَلَغَ بي ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلَّا ابنتي. . . " وذكر الحديث أخرجاه

(2)

.

وروينا من حديث القاسم بن محمد قال: "قالت عائشة: وارأساه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وارأساه. . . "." وذكر الحديث. رواه البخاري

(3)

.

‌فصل في تلقين المحتضر لا إله إلَّا اللَّه

روينا من حديث معاذ مرفوعًا: "من كان آخر كلامه لا إله إلَّا اللَّه دخل الجنة"

(4)

رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لقِّنوا موتاكم لا إله إلَّا اللَّه"

(5)

أخرجه مسلم. أي من قارب الموت، وما أعظمه من ترغيب وأجزله من ثواب، وإنما يُلقَّن بها إذا تكلَّم من غيرها.

= باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، وأحمد في مسنده (1/ 441، 445)، والدارمي في سننه (2/ 316)، وابن حبان في صحيحه (701)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 128)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 229).

(1)

الوعك: بإسكان العين، قيل: هي الحمى، وقيل ألمها ومغثها، وقد وعك الرجل يوعك فهو موعوك.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5668) كتاب المرضى والطب، [16] باب قول المريض إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، ومسلم في صحيحه [5 - (1628)] كتاب الوصية، [1] باب الوصية بالثلث.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5666) كتاب المرضى والطب، [16] باب قول المريض إني وجع أو وارأساه أو اشتد بي الوجع، وأحمد في مسنده (6/ 228)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 378)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 185)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5971).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (3116)، وأحمد في مسنده (5/ 233، 247)، والحاكم في المستدرك (1/ 351، 500).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (916)] كتاب الجنائز، [1] باب تلقين الموتي لا إله إلا اللَّه، وأبو داود في سننه (3117)، والترمذي في سننه (976)، والنسائي (4/ 5 - المجتبى)، وابن ماجه (1446)، وابن حبان في صحيحه (719 - الموارد)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 125)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 237)، والشجري في أماليه (1/ 13)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 323) والزبيدي في الإتحاف (5/ 11، 10/ 274)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1616، 1626).

ص: 63

‌فصل فيما يقوله بعد تغميض الموت

وروينا من حديث أم سلمة قالت: "دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقَّ بصره، فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قُبض تبعه البصر"، فضجَّ ناس من أهله فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلَّا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"، ثم قال: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره ونوِّر له فيه""

(1)

.

‌فصل فيما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت

روينا من حديث أم سلمة مرفوعًا: "إذا حضر المريض أو الميت فقولوا خيرا؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" قالت: "فلما مات أبو سلمة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إن أبا سلمة قد مات، قال: "قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عُقبى حسنة". قالت: فقلت، فأعقبني اللَّه من هو خير لي منه؛ محمد صلى الله عليه وسلم"

(2)

. رواه مسلم كذلك. ورواه أبو داود وغيره: الميت من غير شك.

وروينا عنها أيضًا مرفوعًا: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره في مصيبته وأخلف له خيرًا منها". قالت: "فلما تُوفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأخلف اللَّه لي خيرًا منه، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(3)

رواه مسلم.

وروينا من حديث أبي موسى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ولد العبد قال اللَّه تعالى للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول اللَّه: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمُّوه بيت الحمد"

(4)

رواه الترمذي وحسَّنه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (920)] كتاب الجنائز، [4] باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، وأبو داود في سننه (3118)، وأحمد في مسنده (6/ 297)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 384)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 103).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [6 - (919)] كتاب الجنائز، [3] باب ما يقال عند المريض والميت، وأبو داود (3412)، والترمذي (977)، وابن ماجه (1447)، وأحمد في مسنده (6/ 291).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [4 - (918)] كتاب الجنائز، [2] باب ما يقال عند المصيبة، وأحمد في مسنده (6/ 309)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 336)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 103)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 157)، وابن عبد البر في التمهيد (3/ 183).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (1021) كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب، والمنذري في =

ص: 64

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يقول اللَّه تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلَّا الجنة"

(1)

رواه البخاري. والاحتساب يستلزم الكفَّ عن كلمات السخط والتكلم بما يرضي الرب تعالى.

وروينا من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت، فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن للَّه ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمّى، فمُرها فلتصبر ولتحتسب"" وذكر تمام الحديث أخرجاه

(2)

.

‌فصل في جواز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة

والنياحة حرام كما سيأتي في النهي إن شاء اللَّه تعالى والبكاء جائز بدونهما، والأحاديث الواردة بالنهي عنه، وأن الميت يُعذب ببكاء أهله، أوَّلَهُ على من أوصى به وعلى الذي فيه ندب ونياحة.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم "عاد سعد بن عُبادة

(3)

ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص وعبد اللَّه بن مسعود، فلما دخل عليه فوجده في عاشية أهله فقال:"قد قضي؟ " قالوا: لا يا رسول اللَّه. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال:"ألا تسمعون؟ إن اللَّه لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا. وأشار إلى لسانه""

(4)

.

= الترغيب والترهيب (4/ 337) وابن حبان في صحيحه (726 - الموارد)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1736)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 157)، وابن المبارك في الزهد (2/ 27).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6424) كتاب الرقاق، [6] باب العمل الذي يبتغى به وجه اللَّه تعالى، وأحمد في مسنده (2/ 417)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1731).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1284) كتاب الجنائز، [32] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته"، وانظر رقم (5655) في المرضى والطب، باب عيادة الصبيان، ومسلم في صحيحه [11 - (923)] كتاب الجنائز، [6] باب البكاء على الميت، وأحمد في مسنده (5/ 204)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 65)، والحاكم في المستدرك (2/ 118)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1723)، وعبد الرزاق في مصنفه (6670).

(3)

سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة، أبو ثابت، ويقال: أبو قيس، أبو الخباب الساعدي الأنصاري، سيد الخزرج المدني، أحد النقباء، صحابي مشهور، أخرج له أصحاب السنن الأربعة، توفي سنة (15، 14، 11).

ترجمته: تهذيب (3/ 476)، تقريب التهذيب (1/ 288)، التاريخ الكبير (4/ 44)، الجرح والتعديل (4/ 382)، أسد الغابة (2/ 356).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1304) كتاب الجنائز، [44] باب البكاء عند المريض، ومسلم في =

ص: 65

وروينا فيهما من حديث أسماء بنت يزيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رُفع إليه ابن بنته وهو في الموت ففاضت عينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له سعد: ما هذا يا رسول اللَّه؟! قال: "هذه رحمة جعلها اللَّه تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء"

(1)

.

وروينا من حديث أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول اللَّه؟! فقال: "يا ابن عوف، إنها رحمة"، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم:"إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلَّا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"

(2)

أخرجه البخاري، ولمسلم بعضه. والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة في الصحيح.

‌فصل في الكفِّ عما يرى في الميت من مكروه

روينا من حديث أبي رافع أسلم

(3)

مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسَّل ميتا فكتم عليه غفر اللَّه له أربعين مرة"

(4)

رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.

= صحيحه [12 - (924)] كتاب الجنائز، [6] باب البكاء على الميت، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 69)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1724)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 292)، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (138).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1284) كتاب الجنائز [32] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، ومسلم في صحيحه [11 - (923)] كتاب الجنائز، [6] باب البكاء على الميت، وأحمد في مسنده (1/ 268، 4/ 205)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 65)، وعبد الرزاق في مصنفه (6670)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1723).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1303) كتاب الجنائز، [43] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا بك لمحزونون"، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1722).

(3)

أسلم أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي حاتم: كان قبطيا مدنيا، روى عنه ابناه الحسن وعبيد اللَّه، وعطاء بن يسار، سمعت أبي يقول ذلك. وقال أبو زرعة عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم: كان قبطيا اسمه أسلم، لكن يحيى بن معين قال: اسمه إبراهيم، وقال: قال لي ذلك ابنه معمر، يعني معمر بن محمد بن عبيد اللَّه بن علي بن أبي رافع.

ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 267)، تقريب التهذيب (1/ 64)، الجرح والتعديل (2/ 306).

(4)

أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 354)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 388)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 21)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 294).

ص: 66

‌فصل في الصلاة عليه وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز

قد سبق فصل التشييع.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تًدفن فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط"

(2)

رواه البخاري.

وروينا من حديث أم عطية قالت: "نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا"

(3)

أخرجاه. ومعناه: لم يشدد في النهي كما يشدد في سائر المحرَّمات.

‌فصل في استحباب تكثير المصلين على الجنازة وجعلهم صفوفهم ثلاثة فأكثر

وروينا في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: "ما من ميت يُصلُّون عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلَّا شفعوا فيه"

(4)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1325) كتاب الجنائز، [باب من انتظر حتى تدفن، ومسلم في صحيحه [52 - (945)] كتاب الجنائز، [17] باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها وأحمد في مسنده (2/ 401) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 412)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 314).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1323) كتاب الجنائز، [57] باب فضل اتباع الجنائز، والنسائي (8/ 121 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 341).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1278) كتاب الجنائز، [29] باب اتباع النساء الجنائز، ومسلم في صحيحه [34 - (938)] كتاب الجنائز، [11] باب نهي النساء عن اتباع الجنائز، وابن ماجه في سننه (1577)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 77).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [58 - (947)] كتاب الجنائز، [18] باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، وأحمد في مسنده (3/ 266، 6/ 40)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 30)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 343، 344)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 406، 3/ 456)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1661).

ص: 67

على جنازته أربعون رجلا لا يشركون باللَّه شيئًا إلَّا شفَّعهم اللَّه فيه"

(1)

.

وروينا من حديث مرثد بن عبد اللَّه اليزني قال: "كان مالك بن هبيرة إذا صلَّى على الجنازة فتقالَّ الناس عليهم جزأهم ثلاثة أجزاء ثم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليه ثلاثة صفوت فقد أوجب""

(2)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

‌فصل فيما يفعل في صلاة الجنازة

يكبر أربعا؛ ثم يقرأ الفاتحة في الأولى، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية ولا يفعل كما يفعله كثير من العوام قراءتهم:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} [الأحزاب: 56] الآية؛ فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه، ويدعوا للميت وللمسلمين في الثالثة، ويدعوا في الرابعة ومن أحسنه:"اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله"

(3)

. والمختار أن يُطوِّل في الدعاء في الرابعة خلاف ما يعتاده أكثر الناس. وفيه حديث ابن أبي أوفى صححه الحاكم، ومما صح في الدعاء في الثالثة: حديث عوف بن مالك في صحيح مسلم، وحديث أبي هريرة وأبي قتادة، قال الحاكم: حديث أبي هريرة صحيح على شرط الشيخين. قال الترمذي عن البخاري: أصح روايات هذا

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [59 - (948)] كتاب الجنائز، [19] باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 381)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 343)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 456)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1660)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 205).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3166) كتاب الجنائز، باب الصفوف على الجنازة، والترمذي في سننه (1028) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، وابن ماجه في سننه (1490) كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن صلى عليه جماعة من المسلمين، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1687)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 456).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (6/ 71)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 60)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 103).

قال البخاري تعليقا في الجنائز [56] باب سنة الصلاة على الجنائز، وقال:"صلوا على صاحبكم" وقال: "صلوا على النجاشي" سماها صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يتكلم فيها، وفيها تكبير وتسليم، وكان ابن عمرو لا يصلي إلا طاهرا، ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها، ويرفع يديه، وقال الحسن: أدركت الناس وأحقهم على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم، وإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم، وإذا انتهى إلى الجنازة وهم يصلون يدخل معهم بتكبيرة، وقال ابن المسيب: يكبر بالليل والنهار والسفر والحضر أربعا، وروى البخاري في صحيحه (1335) كتاب الجنائز [65] باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة: عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة فقرئا بفاتحة الكتاب، قال: ليعلموا أنها سنة.

ص: 68

الحديث رواية الأشهلي، قال البخاري: وأصح شيء في الباب حديث عوف بن مالك وحديث واثلة وأبي هريرة أيضًا في سنن أبي داود، والكل موضَّح في كتب الفروع. وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء"

(1)

.

‌فصل في الإسراع بالجنازة

روينا من حديث أبي هريرة مرفوع: "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها، وإن تك سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم"

(2)

أخرجاه، ولمسلم:"يقدمونها عليه".

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني. وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلَّا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصُعِق""

(3)

أخرجه البخاري.

‌فصل في تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلَّا أن يموت فجأة فيُترك حتى يُتيقن من موته

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "نفس المؤمن مُعلَّقة بدينه حتى يُقضى عنه"

(4)

رواه الترمذي وحسَّنه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (3199) كتاب الجنائز باب الدعاء للميت، وابن ماجه في سننه (1497) كتاب الجنائز، باب ما جاء في الدعاء في الصلاة على الجنائز، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 40)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1674)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 122).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1315) كتاب الجنائز، [51] باب السرعة بالجنازة، ومسلم في صحيحه [51 - (944)] كتاب الجنائز، [16] باب الإسراع بالجنازة، وأبو داود في سننه (3181)، والترمذي (1015)، والنسائي (4/ 42 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1477)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 240)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 21)، والتبريزي في مكشاة المصابيح (1646)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 345)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 302)، وابن أبي شيبة في مصنف (3/ 281).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1316) كتاب الجنائز، [52] باب قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، وأحمد مسنده (3/ 58)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 29)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1647)، والبغوي في شرح السنة (5/ 325).

(4)

أخرجه الترمذى في سننه (1078) كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"، وابن ماجه (2413) كتاب الصدقات، باب التشديد في =

ص: 69

وروينا من حديث حصين بن وحوح

(1)

أن طلحة بن البراء مرض، فآتاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعوده فقال:"إني لا أرى طلحة إلَّا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجِّلوا؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله"

(2)

رواه أبو داود.

‌فصل في الوعظ على القبر

روينا من حديث علي رضي الله عنه قال: كنَّا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"ما منكم من أحد إلَّا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة"، قالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتَّكل؟ فقال:"اعملوا، فكلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له"

(3)

وذكر تمام الحديث، أخرجاه.

‌فصل في الدعاء للميت بعد دفنه والقعود عند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار والقراءة

روينا من حديث عثمان بن عفان قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل""

(4)

أخرجاه.

= الدين، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 49، 76)، والحاكم في المستدرك (2/ 26، 27)، والطبراني في الصغير (2/ 133) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 606).

(1)

حصين ابن وحوح الأنصاري الأوسي المدني الأشهلي، صحابي له حديث، استشهد بالقادسية، أخرج له أبو داود.

ترجمته: تهذيب التهذيب (2/ 393)، تقريب التهذيب (1/ 184)، التاريخ الكبير للبخاري (3/ 5)، الجرح والتعديل (3/ 851)، أسد الغابة (2/ 28).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3159) كتاب الجنائز، باب التعجيل بالجنازة وكراهية حبسها، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1645)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 37).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1362) كتاب الجنائز، [82] باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله، ورقم (4945) كتاب تفسير القرآن، [3] باب قوله:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5](4946)، [5] باب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل: 7]، وانظر أرقام (4947، 4948، 6217، 6605، 7752) ومسلم في صحيحه [6، 7 - (2647)] كتاب القدر، [1] باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، والترمذي (2136، 3344)، وابن ماجه (78)، وأحمد في مسنده (1/ 42، 153، 375)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 61)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 359).

(4)

أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه (1329) كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى، ومسلم [63 - (951)] كتاب الجنائز، [22] باب في التكبير على الجنائز، وبلفظه في أبي داود في سننه (3221) كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت، والنسائي (4/ 27، 94 - المجتبى)، والحاكم في المستدرك (2/ 370)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 35).

ص: 70

وروينا عن عمرو بن العاص قال: "إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما يُنحر جزور ويقسَّم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أُراجع به رُسل ربي" أخرجه مسلم

(1)

. قال الشافعي: ويستحب أن يُقرأ عنده شيء من القرآن، فإن ختموا القرآن كله كان حسنا.

‌فصل في الصدقة على الميت والدعاء له

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} [الحشر: 10]

(2)

الآية.

وروينا من حديث عائشة أن رجلا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتُلِتَت نفسها وأُراها لو تكلَّمت تصدَّقت، فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال:"نعم"

(3)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية. . . "

(4)

الحديث، أخرجه مسلم. ويدخل فيه ما وقفه أجنبي عليه أيضا.

‌فصل في ثناء الناس على الميت

روينا من حديث أنس قال: "مرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت" ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت". فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيثم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء اللَّه في الأرض"

(5)

أخرجاه. وللبخاري من

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [192 - (121)] كتاب الإيمان، [54] باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 184)، والقرطبي في تفسيره (7/ 402) وابن الجوزي في زاد المسير (3/ 357)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 98).

(2)

سورة الحشر (10).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2760) كتاب الوصايا، [19] باب ما يستحب لمن توفى فجأة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت، ومسلم في صحيحه [51 - (1004)] كتاب الزكاة [15] باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، وأبو داود في سننه (2882) كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات من غير وصية يتصدق عنه، والترمذي (669) كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة عن الميت.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (1631)] كتاب الوصية، [13] باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، وأبو داود (2880)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 372)، والترمذي في سننه (1376)، والنسائي (6/ 251 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 278)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (203)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 114، 5/ 288)، والشجري في أماليه (1/ 69، 70) والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 95).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1367) كتاب الجنائز، [85] باب ثناء الناس على الميت، ومسلم =

ص: 71

حديث عمر: ""أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله اللَّه الجنة" قلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة" قلنا: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد"

(1)

.

‌فصل في فضل من مات له أولاد صغار

روينا من حديث أنى مرفوعًا: "ما من مسلم يموت له ثلاثة ثم لم يبلغوا الحنث إلا أدخله اللَّه الجنة بفضل رحمته إيَّاهم" أخرجاه

(2)

. ولهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يموت لأحد من المسلميبن ثلاثة من الولد لا تمسَّه النار إلَّا تحلَّة القسم؛ أي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} "

(3)

والورود هو العبور على الصراط وهو جسر منصوب على ظهر جهنم، عافانا اللَّه منها. ولهما من حديث أبي سعيد مرفوعًا:"ما منكن من امرأة تقدِّم ثلاثة من الولد إلَّا كانوا لها حجابا من النار"، فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "واثنين واثنين واثنين"

(4)

.

‌فصل في البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم وإظهار الافتقار إلى اللَّه تعالى والتحذير من الغفلة عن ذلك

روينا من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحجر ديار ثمود: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين حَذَرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم"

(5)

= في صحيحه [60 - (949)] كتاب الجنائز، [20] باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1368) كتاب الجنائز، [85] باب ثناء الناس على الميت.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1248) كتاب الجنائز، [6] باب فضل من مات له ولد فاحتسب، ومسلم في صحيحه [150 - (2632)] كتاب البر والصلة والآداب، [47] باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، وابن ماجه (1604)، وأحمد في مسنده (2/ 473)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 74)، وابن عبد البر في التمهيد (7/ 186).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1251) كتاب الجنائز، [6] باب فضل من مات له ولد فاحتسب، ومسلم في صحيحه [150 - (2632)] كتاب البر والصلة والآداب، [47] باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، والترمذي في سننه (1060)، والنسائي (4/ 25 - المجتبى)، وابن ماجه (1603)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 67، 7/ 78)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 75)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 359).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1249) كتاب الجنائز، [6] باب فضل من مات له ولد فاحتسبه، ومسلم في صحيحه [152 - (2633)] كتاب البر والصلة والآداب، [47] باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه، وأحمد في مسنده (3/ 34)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 77).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3381) كتاب أحاديث الأنبياء، [18] باب قوله تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ، ومسلم في صحيحه [38 - (2980)] كتاب الزهد، [1] باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين.

ص: 72

أخرجاه. وفي رواية

(1)

: لما مرَّ بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم"، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4419) كتاب المغازي، [82] باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، والبخاري في صحيحه أيضًا (3380) كتاب أحاديث الأنبياء، [18] باب {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، ومسلم في صحيحه [39 - (2980)] كتاب الزهد والرقائق، [1] باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين.

ص: 73

‌مجلس في آداب السفر

‌فصل في استحباب الخروج يوم الخميس واستحبابه أول النهار

روينا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة تبوك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس"

(1)

أخرجاه. وفي رواية لهما: "لقلَّما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج إلا يوم الخميس"

(2)

.

وروينا من حديث صخر بن وادعة الغامدي رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لأُمتي في بكورها" وكان صخر تاجرًا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثُر ماله"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

‌فصل في استحباب طلب الرفقة وتأمرهُم على أنفسهم أحدا يطيعونه

روينا من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده"

(4)

أخرجه البخاري.

وروينا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب". رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة

(5)

وحسَّنه الترمذي.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2950) كتاب الجهاد والسير، [103] باب من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس، ومسلم في صحيحه [531 - (2769)] كتاب التوبة، [9]، باب حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2949) كتاب الجهاد والسير، [103] باب من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس.

(3)

أخرجه أبو داود فى سننه (2606) كتاب الجهاد، باب الابتكار في السفر، والترمذي في سننه (1212) كتاب البيوع، باب ما جاء في التبكير بالتجارة، وابن ماجه (2236) كتاب التجارات، باب ما يرجى منه البركة في البكور، وأحمد في مسنده (3/ 416، 417).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2998) كتاب الجهاد والسير، [135] باب السير وحده، والترمذي في سننه (1673) كتاب الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (2607) كتاب الجهاد، باب في الرجل يسافر وحده، والترمذي في سننه (1674) كناب الجهاد، باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده، والنسائي في الكبرى، السير، باب النهي عن سير الراكب وحده، وأحمد في مسنده (2/ 186، 214)، =

ص: 74

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يُغلب اثنا عشر ألفا من قلَّة"

(1)

رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

‌فصل في آداب السير والنزول والمبيت والنوم في السفر، واستحباب السرى والرفق في الدواب، ومراعاة مصلحتها وأمر من قصَّر في حقها، وجواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتم في السَّنة فبادروا بها نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل"

(2)

أخرجه مسلم. ومعنى "أعطوا الدواب حظَّها من الأرض": ارفقوا بها في السير لترعى في حال سيرها، والنِّقى: المخ، أي أسرعوا حتى تصلوا المقصد قبل أن تذهب من ضنك السير، والتعريس: النزول في الليل

(3)

.

وروينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنهما قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فعرَّس بليل اضطجع عن يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه"

(4)

أخرجه مسلم. وإنما نصب ذراعه لئلا يستغرق في النوم فتفوت صلاة الصبح عن

= والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 257)، والحاكم في المستدرك (2/ 102).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2611) كتاب الجهاد، باب فيما يستحب من الجيوش والرفقاء والسرايا، والترمذي في سننه (1/ 555) كتاب السير، باب ما جاء في السرايا، وأحمد في مسنده (1/ 294)، والحاكم في المستدرك (1/ 443، 2/ 101).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [178 - (1926)] كتاب الإمارة، [54] باب مراعاة مصلحة الدواب في السير والنهي عن التعريس في الطريق، وأبو داود في سننه (2569)، والترمذي في سننه (2858) وأحمد في مسنده (2/ 337)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 265)، وابن خزيمة في صحيحه (2550)

(3)

معنى الحديث الحث على الرفق بالدواب ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قللوا لسير وتركوها ترعى في بعض النهار، وفي اثناء السير فتأخذ حظها هن الأرض بما ترعاه منها، وإن سافروا في القحط عجلوا السير ليصلوا المقصد وفيها بقية من قوتها، ولا يقللوا السير فيلحقها الضرر؛ لأنها لا تجد ما ترعى فتضعف ويذهب نقيها، وربما كلت ووقفت. [النووي في شرح مسلم (13/ 59، 60) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [313 - (683)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [55] باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.

ص: 75

وقتها أو عن أول وقتها.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "عليكم بالدُّلجة فإن الأرض تطوى بالليل"

(1)

رواه أبو داود بإسناد حسن. والدُّلجة: السير في الليل.

وروينا من حديث ثعلبة الخشني قال: "كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرَّقوا في الشعاب والأودية فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان". فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض"

(2)

رواه أبو داود بإسناد حسن.

وروينا من حديث سهل بن عمرو الأنصاري المعروف بابن الحنظلية. وهو من أهل بيعة الرضوان. قال: "مرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: "اتقوا اللَّه في حق هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة"

(3)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديث أبي جعفر عبد اللَّه بن جعفر رضي الله عنهما قال: "أردفني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأسر إليَّ حديثًا إلَّا أُحدِّث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هدف أو حائش نخل"

(4)

رواه مسلم هكذا مختصرا. وزاد فيه البرقاني بإسناد مسلم هذا بعد قوله: "حائش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلمَّا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فآتاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمسح سِراته. أي سِنامه. وذفرته، فسكن فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ " فجاء فتى من الأنصار فقال: هذا لي يا رسول اللَّه. قال: "أفلا تتقي اللَّه في هذه البهيمة التي ملَّكك اللَّه إيَّاها؟ فإنه يشكو إليَّ أنك تجيعه وتُدئبُهُ"

(5)

أخرجه أبو داود كذلك.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2571)، وأحمد في مسنده (3/ 382)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 206).

(2)

أخرجه ابو داود في سننه (2628)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 152)، والحاكم في المستدرك (2/ 115)، وابن حبان في صحيحه (1664).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2548)، وأحمد في مسنده (4/ 181)، وابن خزيمة في صحيحه (2545).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [491 - (342)] كتاب الحيض، [20] باب ما يستتر به لقضاء الحاجة، وابن ماجه في سننه (34)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 94)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 181)، وابن كثير في البداية والنهاية (6/ 157).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (2549) كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 13)، والحاكم في المستدرك (2/ 100)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 206)، والمنذري فى الترغيب والترهيب (3/ 206).

ص: 76

وروينا من حديث أنس قال: "كنا إذا نزلنا منزلا لا نُسبِّح حتى نحُلَّ الرحال"

(1)

رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم. معنى لا نُسبِّح: أي إنَّا مع حرصنا على الصلاة لا نُقدمها على حطِّ الرحال وراحة الدواب.

‌فصل في إعانة الرفيق

سلف منه حديث: "واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"

(2)

.

وحديث: "كل معروف صدقة"

(3)

وشبهها.

وروينا من حديث أبي سعيد الخدري قال: "بينما نحن في سفر إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له"، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"

(4)

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث جابر عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أراد أن يغزوا فقال: "يا معشر المهاجرين والأنصار، إن من إخوانكم قوما ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عقبة كعقبة"، -يعني أحدهم- فضممت إليَّ اثنين أو ثلاثة، قال: ما لي إلا عقبة كعُقبة أحدهم من جملي"

(5)

رواه أبو داود. وعنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتخلَّف في المسير فيُزْجي الضعيف ويُرْدف ويدعوا لهم"

(6)

رواه أبو داود بإسناد حسن.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2551) كتاب الجهاد، باب في نزول المنازل.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1425) كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم، وأبو داود في سننه (4990) كتاب الأدب، باب في المعونة للمسلم.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 13)، ومسلم في الزكاة (52)، وأبو داود في سننه (4947)، وأحمد في مسنده (4/ 207، 5/ 397)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188، 10/ 242)، والحاكم في المستدرك (2/ 50).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (1728)] كتاب اللقطة، [4] باب استحباب المواساة بفضول الماء، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 182)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3898).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (2534) كتاب الجهاد، باب الرجل يتحمل بمال غيره ليغزو، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 172)، والحاكم في المستدرك (2/ 510، 4/ 541)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 358)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (309).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (2639) كتاب الجهاد، باب في لزوم الساقة، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 257)، والحاكم في المستدرك (2/ 115).

ص: 77

‌فصل فيما يقوله إذا ركب دابة للسفر

قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}

(1)

الآية.

وروينا من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبَّر ثلاثا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنَّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وَعْثَاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل" وإذا رجع قالهن وزاد فيهن:"آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون"."

(2)

يعني مقرنين: مطيعين، والوَعثاء بفتح الواو وإسكان العين المهملة وبالمثلَّثة وبالمد وهي الشِّدَّة. والكآبة بالمد وهي تغير النفس من حُزن ونحوه. والمنقلَب: المرجع.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن سرجس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوَّذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحَورِ بعد الكَون

(3)

ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال

(4)

رواه مسلم. هكذا بالنون، وكذا رواه الترمذي والنسائي. وروى بالراء كما ذكره الترمذي، ومعناهما جميعا الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص، فالنون من الكون مصدر "كان يكون كونا" إذا وُجدَ واستقر، والراء من تكوير العمامة وهو كفها وجمعها.

وروينا من حديث علي بن ربيعة قال: "شهدت عليًّا أُتِيَ بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم اللَّه، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد للَّه، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم قال:

(1)

سورة الزخرف (12).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [420 - (1342)] كتاب الحج، [75] باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، وأبو داود في سننه (2599)، وأحمد في مسنده (2/ 150)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 315)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 328، 431).

(3)

قال القاضي: قال إبراهيم الحربي: يقال إن عاصما. يقصد الأحول من رواة الحديث. وهم فيه، وأن صوابه الكور، بالراء. قلت: وليس كما قال الحربي، بل كلامهما روايتان، وممن ذكر الروايتين جميعا الترمذي في جامعه، وخلائف من المحدثين، وذكرهما أبو عبيد وخلائق من أهل اللغة وغريب الحديث. [النووي في شرح مسلم (9/ 94) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [426 - (1343)] كتاب الحج، [75] باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، والنسائي (8/ 273 - المجتبى).

ص: 78

الحمد للَّه ثلاث مرَّات، ثم قال: اللَّه أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلَّا أنت، ثم ضحك فقيل: يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول اللَّه، من أي شيء ضحكت؟ قال:"إن ربك يعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري"

(1)

رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي وحسَّنه، وفي بعض النسخ تصحيحه.

‌فصل في تكبير المسافر إذا صعد الثنايا وشبهها وتسبيحه إذا هبط الأودية ونحوها والنهي عن المبالغة برفع الصوت بالتكبير ونحوه

روينا من حديث جابر قال: "كنا إذا صعدنا كبَّرنا، وإذا تصوَّبنا سبَّحنا"

(2)

رواه البخاري.

وروينا من حديث ابن عمر قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وجيوشه إذا علوا الثنايا كبَّروا وإذا هبطوا سبَّحوا"

(3)

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

وروينا من حديثه أيضًا قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الحج أو العمرة كلما أوفى على ثنيَّة أو فدْفد كبَّر ثلاثا ثم قال: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق اللَّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" أخرجاه. ولفظ مسلم:"إذا قفل من الجيوش أو السرايا أو الحج أو العمرة"

(4)

معنى أوفى:

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2602) كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا ركب، والترمذي في سننه (3447)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2443).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2994) كتاب الجهاد والسير، [133] باب التكبير إذا علا شرفا، وابن خزيمة في صحيحه (2562)، والدارمي في سننه (2/ 288)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2453).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2599) كتاب الجهاد ما يقول الرجل إذا سافر، وعبد الرزاق في مصنفه (9245)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 332).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2995) كتاب الجهاد والسير، [133] باب التكبير إذا علا شرفا، ومسلم في صحيحه [428 - (1344)] كتاب الحج، [76] باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "صدق اللَّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، أي صدق وعده في إظهار الدين وكون العاقبة للمتقين وغير ذلك من وعده سبحانه، إن اللَّه لا يخلف الميعاد، "وهزم الأحزاب وحده" أي من غير قتال الآدميين، والمراد الأحزاب الذين اجتمعوا يوم الخندق وتحزبوا =

ص: 79

ارتفع، والفدفد: المرتفع من الأرض.

وروينا من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول اللَّه، إنى أريد أن أُسافر فأوصني. قال:"عليك بتقوى اللَّه والتكبير على كل شرف"، فلما ولَّى الرجل قال:"اللهم اطوِ له البعد، وهوِّن عليه السفر"

(1)

رواه الترمذي وحسنه.

وروينا من حديث أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبَّرنا، ارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، اربَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم إنه سميع قريب"

(2)

أخرجاه. واربعوا بفتح الباء الموحدة: ارفقوا بأنفسكم.

‌فصل في استحباب الدعاء في السفر

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده"

(3)

رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وليس في أبي داود "على ولده".

‌فصل فيما يدعو به إذا خاف ناسًا وغيرهم

روينا من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قومًا قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شروروهم"

(4)

رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.

‌فصل فيما يقوله إذا ترك منزلًا

روينا من حديث خولة بنت حكيم مرفوغًا: "من نزل منزلًا ثم قال: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك"

(5)

أخرجه مسلم.

= على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسل اللَّه عليهم ريحا وجنودًا لم تروها. [النووي في شرح مسلم (9/ 95) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (3445) كتاب الدعوات، باب منه [45]، ما يقول إذا ودع إنسانا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2992) كتاب الجهاد والسير، [131] باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم في صحيحه [44 - (2704)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1536) كتاب الصلاة، باب الدعاء بظهر الغيب، والترمذي في سننه (1905) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في دعوة الوالدين.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1537) كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا خات قوما، وأحمد في مسنده (4/ 415)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2441).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [54 - (2708)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، والترمذي في سننه (3437)، وأحمد في مسنده (6/ 377)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 253).

ص: 80

وروينا من حديث عمر قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال: "يا أرض ربي وربك اللَّه أعوذ باللَّه من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، وأعوذ باللَّه من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكن البلد، ومن والد وما ولد""

(1)

رواه أبو داود. الأسود: الشخص، وساكن البلد: الجن الذين هم سكان الأرض، والبلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان، وإن لم يكن فيه بناء ومنازل، ويحتمل كما قال الخطابي أن المراد بالوالد إبليس، وما ولد الشيطان.

‌فصل في استحباب تعجيل المسافر والرجوع إلى أهله إذا قضى حاجته

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "السفر قطعة من العذاب؛ يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل إلى أهله"

(2)

. نهمته: مقصوده.

‌فصل في استحباب القدوم على أهله نهارًا وكراهته ليلًا لغير حاجة

روينا من حديث جابر مرفوعًا: "إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلًا" وفي لفظة أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلًا

(3)

أخرجاه.

وروينا عن أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلًا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية"

(4)

أخرجاه أيضًا.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2603) كتاب الجهاد، باب ما يقول الرجل إذا نزل المنزل، والحاكم في (1/ 447، 2/ 100)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 253).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3001) كتاب الجهاد والسير، [136] باب السرعة في السير، ومسلم في صحيحه [179 - (1927)] كتاب الإمارة، [55] باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر إلى أهله بعد قضاء شغله.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1801) كتاب العمرة [16] باب لا يطرق أهله إذا بلغ المدينة، ومسلم في صحيحه [183 - (1928)] كتاب الإمارة [56] باب كراهية الطروق. وهو الدخول. ليلا لمن ورد من سفر، وأحمد في مسنده (1/ 175، 3/ 302).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1800) كتاب العمرة، باب الدخول بالعشي، ومسلم في صحيحه [180 - (1928)] كتاب الإمارة [56] باب كراهية الطروق -وهو الدخول- ليلا لمن ورد من سفر، وأحمد في مسنده (3/ 125، 204)، والبيهقي في السنن الكبرى (0/ 260).

ص: 81

‌فصل فيما يقوله إذا رجع وإذا رأى بلدته

فيه حديث ابن عمر السالف في تكبير المسافر إذا صعد الثنايا

(1)

.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: "أقبلنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: "آيبون

(2)

تائبون عابدون لربنا حامدون" فلم يزل يفعل ذلك حتى قدمنا المدينة"

(3)

أخرجه مسلم.

‌فصل في استحباب ابتداء القادم بالمسجد الذي في جواره وصلاته فيه ركعتين

روينا من حديث كعب بن مالك: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين"

(4)

أخرجاه. .

‌فصل في تحريم سفر المرأة وحدها

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها"

(5)

أخرجاه.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اُكتتِبتُ في غزوة كذا وكذا قال:"انطلق فحج مع امرأتك" أخرجاه

(6)

.

(1)

تقدم تخريجه قريبا.

(2)

آيبون: أي راجعون.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [429 - (1345)] كتاب الحج، [76] باب ما يقول إذا قفل من سفر، حج وغيره.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3088) كتاب الجهاد والسير، [198] باب الصلاة إذا قدم من سفر، ومسلم في صحيحه [53 - (2769)] كتاب التوبة [9] باب حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1088) كتاب تقصير الصلاة، [4] باب في كم يقصر الصلاة، ومسلم في صحيحه [419 - (1339)] كتاب الحج، [74] باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (5233) كتاب النكاح، 112 - باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول علي المغيبة.

ومسلم في صحيحه [424 - (1341)] كتاب الحج، 74 - باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.

ص: 82

‌مجلس في فضل قراءة القرآن

روينا من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه"

(1)

أخرجه مسلم.

وفيه إظهار العناية بحامله وتكريمه بنصبه شافعًا له بعد تحقق خوفه.

وروينا من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تَقدُمُهُ سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما"

(2)

.

أخرجه مسلم.

وفيه إكرامه بذلك.

وروينا من حديث عثمان مرفوعًا: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه"

(3)

. أخرجه البخاري، وما أشرفه من منقبة، بها وراثة النبوة.

وروينا من حديث عائشة مرفوعًا: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السَّفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"

(4)

أخرجاه.

= وأبو داود (1727)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 227، 8/ 30) والزبيدي في الإتحاف (7/ 429)، وابن خزيمة في صحيحه (2529).

وابن أبي شيبه في مصنفه (4/ 6)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 56).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [252 - (804)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 42 - باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، وأحمد في مسنده (5/ 249، 5/ 255، 257)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 395)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 369)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (212)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 18).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [253 - (805)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 42 - باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة. وأحمد في مسنده (4/ 183)، والترمذي فى سننه (2883) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة آل عمران.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5027) كتاب فضائل القرآن، 21 - باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وأبو داود (1452)، والترمذي (2907)، وابن ماجه (211)، وأحمد فى مسنده (1/ 58، 69).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (4937) كتاب تفسير القرآن، من سورة عبس، ومسلم في صحيحه =

ص: 83

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مُرٌ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مُرٌ"

(1)

أخرجاه.

وفيه تحمل القارئ بروائح عطرة، وإن كان منافقًا.

وروينا من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "إن اللَّه يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين"

(2)

رواه مسلم.

فيبلغ به المولى والمملوك منازل الملوك.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه اللَّه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه اللَّه مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"

(3)

أخرجاه.

الآناء: الساعات.

وحق لمن نال من النفائس الغالية ما يحق لمثله أن يحسد ويغبط بمثله.

وروينا من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها فلما

= [244 - (798)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 38 - باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه، والترمذي في سننه (2904) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل قارئ القرآن.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5427) كتب الأطعمة، 31 - باب ذكر الطعام، ومسلم في صحيحه [243 - (797)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 37 - باب فضيلة حافظ القرآن، وأبو داود في سننه (4829) كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. والترمذي (2865) كتاب الأمثال، باب ما جاء في مثل المؤمن القارئ للقرآن وغير القارئ، والنسائي (8/ 125 - المجتبى)، وابن ماجه (214)، وأحمد في مسنده (4/ 397).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [269 - (817)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 47 - باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، وابن ماجه (218)، وأحمد في مسنده (1/ 35) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 89)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2115) والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 57).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7529) كتاب التوحيد، 45 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رد رجل آتاه اللَّه القرآن فهو يقوم به آناه الليل والنهار، ومسلم في صحيحه [266 - (815)] كتب صلاة المسافرين وقصرها، 47 - باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها.

ص: 84

أصبح آتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال "تلك السكينة، تنزلت للقرآن"

(1)

.

والشَطن: بفتح الشين المعجمة، والطاء المهملة: الحبل.

وروينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "من قرأ حرفًا من كتاب اللَّه فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"

(2)

رواه الترمذي وصححه.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب"

(3)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

فما أعمر بيتًا حواه وكيف لا وقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه؟

وروينا من حديث ابن عمر ومرفوعًا: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت تُرتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها"

(4)

أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح ويا لهذا من منزل عال.

‌فصل في الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان

روينا من حديث أبي موسى مرفوعًا: "تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتًا من الإبل في عُقُلها"

(5)

.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3614) كاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ورقم (4839) كتاب التفسير، 4 - باب رهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] من سورة الفتح، ورقم (5011) كتاب فضائل القرآن، 11 - باب فضل سورة الكهف، ومسلم في صحيحه [240 - (795)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 36 - باب نزول السكينة لقراءة القرآن.

(2)

أخرجه الترمذي في صحيحه (2910) كتاب فضائل القرآن، باب فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2913) كتاب فضائل القرآن، باب 18 - منه.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1464) كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة، والترمذي في سننه (2914) كتاب فضائل القرآن، باب 18 - منه. وأحمد في مسنده (2/ 192)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 53)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 350)، وابن حبان في صحيحه (1790)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2134).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5033) كتاب فضائل القرآن، 23 - باب استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم في صحيحه [321 - (791)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 33 - باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا وجواز قول أنسيتها، والحاكم في المستدرك (1/ 553)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 188)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 169)، والخطيب في تاريخ بغداد (10/ 424).

ص: 85

المُعَقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت"

(1)

أخرجاهما.

‌فصل في استحسان تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما أذن اللَّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به"

(2)

أخرجاه ومعنى أذن اللَّه أي استمع، وهو إشارة إلى الرضا والقبول.

وروينا من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"

(3)

أخرجاه.

ولمسلم: إنه قال: "لو رأيتني وإنا أستمع لقراءتك البارحة"

(4)

وما أعظم هذه منقبة.

وروينا من حديث البراء قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه

(5)

. أخرجاه.

وروينا من حديث أبي لبابة بشير بن عبد المنذر مرفوعًا: "من لم يتغن بالقرآن

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5031) كتاب فضائل القرآن، 23 - باب استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم في صحيحه [226 - (789)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 33 - باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آيه كذا، وجواز قول أنسيتها، وأحمد في مسنده (2/ 112)، والإمام مالك في الموطأ (202)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 395)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 362)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2189).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7544) كتاب التوحيد، 52 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الماهر بالقرآن مع الكرام البررة" و"زينوا القرآن بأصواتكم"، ورقم (5023، 5024) في فضائل القرآن، 19 - باب من لم يتغن بالقرآن، ورقم (7482) كتاب التوحيد 32 - باب قوله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا} . . الآية، ومسلم في صحيحه [233 - (792)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 34 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5048) كتاب فضائل القرآن، 31 - باب تحسين الصوت بالقرآن، ومسلم في صحيحه [235 - (793)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 34 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [236 - (793)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 34 - باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (7546) كتاب التوحيد، 52 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الماهر بالقرآن مع الكرام البررة" و"زينوا القرآن بأصواتكم"، ومسلم في صحيحه [177 - (464)] كتاب الصلاة، 36 - باب القراءة في العشاء.

ص: 86

فليس منا"

(1)

رواه أبو داود بإسناد جيد، ومعنى يتغنى يحسن صوته بالقرآن.

وروينا من حديث ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول اللَّه أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "فإني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء حتي بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} قال: "أمسك" فإذا عيناه تذرفان

(2)

أخرجاه.

‌فصل في الحث على سور وآيات مخصوصة

ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رافع بن المعلي

(3)

: "إن الفاتحة أعظم سورة في القرآن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت"

(4)

أي في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا} معقبًا بوعظ لا تهدن أي مغْنمًا أتيناك أغنى منه.

وفيه من حديث أبي سعيد الخدري: "إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن"

(5)

وفي لفظ له: "أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟ " فشق ذلك عليهم وقالوا: أيِّنا يطيق ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} ثلث القرآن"

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (1471) كتاب الصلاة، باب استحباب الترتل في القراءة، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 231)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 267).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4582) كتاب تفسير القرآن، من سورة النساء، 9 - باب:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} ، ومسلم في صحيحه [247 - (800)]، (248) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 40 - باب فضل استماع القرآن وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، والترمذي (3025)، وابن ماجه (4194)، وأحمد في مسنده (1/ 380، 433)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 231)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 563).

(3)

أبو سعيد بن المعلى رضي الله عنه الأنصاري المدني يقال اسمه: رافع بن أوس، وقيل: الحارث، وقيل نفيع، صحابي، أخرج له: البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، توفي سنة (73) وقيل غير ذلك.

ترجمته: تهذيب التهذيب (12/ 107)، تقريب التهذيب (2/ 427)، الجرح والتعديل (9/ 375)، الجمع بين رجال الصحيحين (1327)، التاريخ الكبير (9/ 34)، طبقات ابن سعد (5/ 87).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5006) كتاب فضائل القرآن، 9 - باب فاتحة الكتاب.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5013) كتاب فضائل القرآن، 13 - باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، وانظر أرقام (6643، 7374).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (5015) كتاب فضائل القرآن، 13 - باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 45 - باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} =

ص: 87

ولمسلم من حديث أبي هريرة: "إنها لتعدل ثلث القرآن"

(1)

.

وللترمذي

(2)

من حديث أنس، وقال: حسن.

وللبخاري تعليقًا أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه إني أُحب هذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص] قال: "إن حُبها أدخلك الجنة"

(3)

.

ولمسلم من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}

(4)

.

وللترمذي محسنًا من حديث أبي سعيد: "كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ باللَّه من الجان، وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلت أخذهما وترك ما سواهما"

(5)

.

ولأبي داود والترمذي محسِنا من حديث أبي هريرة مرفوعًا "إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت"

(6)

.

ولأبي داود: "تشفع لرجل حتى غفر له، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] قلت: طوبي لمن قرأها كل ليلة.

وفي الصحيحين من حديث أبي مسعود مرفوعًا: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"

(7)

قيل: كفتاه عن كل مكروه، وقيل: عن قيامها، ويجوز أن يكون عنهما.

= [الإخلاص]، والترمذي (2894) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: ا]، وابن ماجه (3787، 3788)، والنسائي (1/ 172 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 23، 4/ 122، 5/ 418).

(1)

أخرجه: مسلم فى صحيحه [261 - (812)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 45 - باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الاخلاص: 1].

(2)

أخرجه الترمذي (2893) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (774 م) كتاب الآذان، 106 - باب الجمع بين السورتين في الركعة.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [264 - (414)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 46 - باب فضل قراءة المعوذتين.

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (2058) كتاب الطب، باب ما جاء في الرقية بالمعوذتين، والنسائي في الاستعاذة، باب الاستعاذة من عين الجان، وابن ماجه (3511) كتاب الطب، 33 - باب من استرقى من العين.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (1400) كتاب الصلاة، باب في عدد الآي، والترمذي (2891) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة الملك.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه (5009) كتاب فضائل القرآن، 10 - باب فضل البقرة، ومسلم في =

ص: 88

ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة"

(1)

. وإذا كان هذا شأن البيت فما ظنك بالقارئ.

وله من حديث أُبي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

: "يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟ " قال: قلت اللَّه ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب اللَّه معك أعظم؟، قال: قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]

(3)

، قال: فضرب في صدري وقال واللَّه ليهنك العلم أبا المنذر".

وفي البخاري من حديث أبي هريرة لمَّا وكله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وأتاه آت. . وذكر الحديث، وفيه أنه قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من اللَّه حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صَدَقك وهو كذُوب"

(4)

.

ولمسلم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِم من الدجال"

(5)

.

= صحيحه [255 - (807)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 43 - باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، والترمذي (2881) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في آخر سورة البقرة.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [212 - (780)] كتاب صلاة المسافرين، 29 - باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [258 - (810)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 44 - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.

(3)

قال القاضي عياض: فيه حجة للقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب اللَّه تعالى، قال، وفيه خلاف للعلماء فمنع منه أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والعلماء؛ لأن تفضيل بعضه يقتضي نقص المفضول وليس في كلام اللَّه نقص به، وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق أعظم وأفضل في بعض الآيات والسور، بمعنى عظيم وفاضل، وأجاز ذلك إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين قالوا: وهو راجع إلى عظيم أجر قارئ ذلك وجزيل ثوابه، والمختار جواز قول: هذه الآية أو السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر، وهو معنى الحديث واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (6/ 81، 82) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5010) كتاب فضائل القرآن، 10 - باب فضل سورة البقرة.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [257 - (809)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 44 - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، وأبو داود في سننه (4323)، وأحمد في مسنده (6/ 449)،=

ص: 89

وله أيضًا: "من آخر سورة الكهف".

وله من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم نزل عليه ملك لم ينزل عليه قط إلا اليوم فسلَّم وقال: "أبشر بنورين أُوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعطيته"

(1)

.

‌فصل في استحباب الاجتماع على القراءة

روينا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت اللَّه يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم اللَّه فيمن عنده"

(2)

أخرجه مسلم.

= والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 249)، الحاكم في المستدرك (2/ 368) والتبريزي في مشكاة المصابيح (2126)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 209).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [254 - (806)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 43 - باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (2699)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 11 - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر وأبو داود (1455)، وابن ماجه (225).

ص: 90

‌مجلس في فضل يوم الجمعة ومتعلقاته

قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}

(1)

الآية.

وهو مؤذن بقبول الزيارة والدعاء والعبادة والربح في التجارة بعدها إذ الابتغاء يتناول الكل.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها"

(2)

فهو خير أيام السنة، وخُصِ بعظائم الأمور التي منها مبدأ النوع الإنساني وتكريمه بالجنة وإخراجه إلى دار التشريف بخطاب التكليف.

وفيه من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفرَ له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا"

(3)

.

وفيه من حديثه أيضًا مرفوعًا: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"

(4)

.

(1)

سورة الجمعة (10).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [17 - (854)] كتاب الجمعة، 5 - باب فضل يوم الجمعة، وأبو داود (1046)، والترمذي (491)، والنسائي (3/ 90، 114 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 401، 418)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 251)، والحاكم في المستدرك (1/ 278)، وابن خزيمة في صحيحه (1729)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 590)، ابن حبان في صحيحه (1024 - الموارد) وأحمد في مسنده (2/ 401، 418)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1356، 1359)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 216، 282).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [27 - (857)] كتاب الجمعة، 8 - باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة، وأحمد في مسنده (1/ 19، 57)، والحاكم في المستدرك (1/ 131، 208) وابن حبان في صحيحه (567 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 97)، وابن خزيمة في صحيحه (2) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 123)، التبريزي في مشكاة المصابيح (1383) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 482).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (233)] كتاب الطهارة، 5 - باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، والترمذي في سننه (214)، وابن ماجه (598) وأحمد في مسنده (2/ 359، 400)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 466، 467).

ص: 91

وفيه من حديثه ابن عمر أيضًا: "لينتهينَّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنَّ اللَّه على قلوبهم ثم ليكونَنَّ من الغافلين"

(1)

.

وفي الصحيحين عن ابن عمر: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل"

(2)

.

ومن حديث أبي سعيد الخدري: غسل الجمعة واجب على كل مُحتلِم"

(3)

أي متأكد على كل بالغ.

وروينا في سنن أبي داود، وجامع الترمذي وحسَّنه من حديث سمرة مرفوعًا:"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغُسل أفضل"

(4)

.

وفي صحيح البخاري عن سلمان مرفوعًا: "لا يغتسل الرجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويدَّهِنُ من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يُفرِّق بين اثنين، ثم يُصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى"

(5)

.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرَّب بدنة"

(6)

الحديث.

أي غُسْلًا كغسل الجنابة في الصفة.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [40 - (865)] كتاب الجمعة، 12 - باب التغليظ في ترك الجمعة. والنسائي (3/ 88 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (794)، وأحمد في مسنده (1/ 239، 254) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 171)، وابن حبان في صحيحه (550 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 154).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (877) كتاب الجمعة، 2 - باب فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم في صحيحه [2 - (844)] كتاب الجمعة، في فاتحته.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (789) كتاب الجمعة، 2 - باب فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم في صحيحه [5 - (846)] كتاب الجمعة 1 - باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال وبيان ما أمروا به.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (354) كتاب الطهارة، باب في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والترمذي (497) في الصلاة، باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، وابن ماجه في سننه (1091)، وأحمد في مسنده (5/ 15، 16، 22)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 295، 296).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (883) كتاب الجمعة، 6 - باب الدهن للجمعة، ورقم (910) 19 - باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة، وأحمد في مسنده (5/ 440، 478)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 243) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 152).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (881) كتاب الجمعة، 4 - باب فضل الجمعة، ومسلم في صحيحه [10 - (850)] كتاب الجمعة، 2 - باب الطيب والسواك يوم الجمعة، وأبو داود في سننه (351) كتاب الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة، والترمذي (499) في الصلاة، ياب ما جاء في التبكير إلى الجمعة.

ص: 92

وفيهما عنه مرفوعًا: ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يُصلي يسأل اللَّه تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه" وأشار بيده يُقلُلها

(1)

.

وفي مسلم من حديث أبي بردة عن أبيه مرفوعًا: "إنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة"

(2)

.

وفي سنن أبى داود بإسناد صحيح من حديث أوس بن أوس مرفوعًا: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلائكم معروضة عليَّ"

(3)

.

‌فصل في يوم الجمعة فضائل

أولها: أن من (حضر)

(4)

فيه إملاك رجل مسلم كان كمق صام يومًا في سبيل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (935) كتاب الجمعة، 37 - باب الساعة التي في يوم الجمعة وانظر أرقام (5294) كتاب الطلاق، 24 - باب الإشارة في الطلاق والأمور، ورقم (6400) كتاب الدعوات، 63 - باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة ومسلم [13 - (852)]، (14) كتاب الجمعة، 4 - باب في الساعة التي فى يوم الجمعة، وأحمد في مسنده (2/ 486، 504)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 250)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 279)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 331).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (853)] كتاب الجمعة، 4 - باب في الساعة التي في يوم الجمعة.

قال النووي في اختلف السلف في وقت هذه الساعة وفى معنى قائم يصلي، فقال بعضهم: هي من بعد العصر إلى الغروب، قالوا: ومعنى يصلي يدعو، ومعنى قائم ملازم ومواظب. وقال آخرون: هي من حين خروج الإمام إلى فراغ الصلاة، وقال آخرون: من حين تقام الصلاة حتى يفرغ. . . إلى آخر كلامه [النووي في شرح مسلم (6/ 122) طبعة دار الكتاب العلمية].

(3)

أخرجه أبو داود (1047) كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، والنسائي (3/ 91 المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1085، 1636)، والحاكم في المستدرك (1/ 278، 4/ 560)، وابن خزيمة في صحيحه (1733)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1361)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 338)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 491)، وابن حبان في صحيحه، (550 - الموارد) وابن أبي شيبة فى مصنفه (2/ 149، 516)، قال القاضي عياض: الظاهر أن هذه الفضائل المعدودة ليست لذكر فضيله لأن إخراج آدم وقيام الساعة لا يعد فضيلة، وإنما هو بيان لما وقع فيه من الأمور العظام وما سيقع ليتأهب العبد فيه بالأعمال الصالحة لنيل رحمة اللَّه ورفع نقمته. هذا كلام القاضي، وقال أبو بكر بن العربي في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي: الجميع من الفضائل وخروج آدم من الجنة هو سبب وجود الذرية، وهذا النسل العظيم ووجود الرسل والأنبياء والصالحين والأولياء، ولم يخرج منها طردًا يل لقضاء أوطار ثم يعود إليها، وأما قيام الساعة فسبب لتعجيل جزاء الأنبياء والصديقين والأولياء وغيرهم وإظهار كرامتهم وشرفهم [النووي في شرح مسلم (6/ 123) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

كذا بالأصل.

ص: 93

اللَّه، واليوم بسبعمائة.

ثانيها: أنه أفضل من يوم عرفة في وجه.

ثالثها: أن ليلته أفضل من ليلة القدر. في رواية عن أحمد.

رابعها: أن صلاته أحب إلى ابن عباس وسعيد بن جبير من حج التطوع، فيما رواه عنهما ابن عساكر بإسناده.

خامسًا: أن من مات فيه أو في ليلته وُقِيَ فتنة القبر وعذابه ولقى اللَّه لا حساب عليه وأعتق من النار.

سادسًا: أن من صلى فيه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة.

سابعًا: أن فيه ساعة الإجابة.

وفيها سبعة وعشرون قولًا.

وروى فيه كعب الأحبار سبعة أشياء: خلق آدم وإدخاله الجنة، وإخراجه منها، والتوبة عليه، وقيام الساعة، وبعث موسى، وإخراج يوسف من الجُب.

ص: 94

‌مجلس مهم في فضل الصلوات ومتعلقاتها

قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}

(1)

.

الفحشاء: ما وضح قبحه كأنواع الفسوق والعصيان.

والمنكر: ما لم يعرف شرعًا كالمحدثات.

فمن لم تنهه صلاته عن ذلك فليس بصلاة، لكن الراعي بصدد الزجر، ومن شأنها أن يوجد ذلك لاسيَّما إِذا كان متلبسًا بها.

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}

(2)

وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا

(3)

: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقي من درنه شيء؟ ".

قالوا: لا يبقى من درنه شيء.

قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو اللَّه بهن الخطايا".

وثبت في صحيح مسلم من حديث جابر: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات"

(4)

.

والغَمْر: بالعين المعجمة الكثير أنها كأبلغ نهر مطهر.

وثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللَّه تعالى {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78] الآية. فقال

(1)

سورة العنكبوت (45).

(2)

سورة المؤمنون (1).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (528) كتاب مواقيت الصلاة، 6 - باب الصلوات الخمس كفارة. ومسلم في صحيحه [283 - (667)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 51 - باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، والترمذي (2868)، كتاب الأمثال، باب مثل الصلوات الخمس، والنسائي (1/ 231 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 379).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [284 - (668)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 51 - باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 426، 3/ 305)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 63)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 389)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 234)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 289).

ص: 95

الرجل: إليَّ هذا؟ قال: "لجميع أمتي"

(1)

.

فالتضاد مانع من الاجتماع والإحباط، "فرحمتي غلبت غضبي".

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إِلى رمضان مكفرات ما بينهن، إِذا اجتنبت الكبائر"

(2)

ومن حديث عثمان بن عفان مرفوعًا: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إِلَّا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله"

(3)

.

لا لخصوصية مكان ولا زمان ولا شخص ولا حال فالإحسان زائد وتعميم التكفير متزايد.

وقال عبد اللَّه بن مسعود: "ما دمت في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع بابه يفتح له".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (526) كتاب مواقيت الصلاة، 4 - باب الصلاة، ورقم (4687) كتاب تفسير القرآن، من سورة هود، 6 - باب قوله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]. ومسلم في صحيحه [39 - (2763)، كتاب التوبة، 7 - باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، والترمذي (3113) كتاب تفسير القرآن، من سورة هود، وأحمد في مسنده (1/ 445، 5/ 244)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 239، 6/ 73).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [16 - (233)] كتاب الطهارة، 5 - باب "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، والترمذي (214)، وابن ماجه (598)، وأحمد في مسنده (2/ 359، 400)، والبيهقي في السننن الكبرى (2/ 466، 467) وابن خزيمة في صحيحه (314، 1814)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 233، 483)، والشجري في أماليه (1/ 270)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5640).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (228)] كتاب الطهارة، 4 - باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.

ص: 96

‌مجلس في فضل صلاة الصبح والعصر

ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى مرفوعًا: "من صلى البردين دخل الجنة"

(1)

.

(وهما هما)

(2)

فحصلت له العيشة المرضية.

ومن حديث أبي هريرة: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهو يصلون وأتيناهم وهم يصلون"

(3)

.

ومن حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي قال: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القمر لا تُضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبُوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا"

(4)

.

لتروا ربكم أتم رؤية.

ولم يعبر بالصبح لِلَطائف نظرية للفطن العارف. ومن ألطفها تفهم العوام أن

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (574) كتاب مواقيت الصلاة، 27 - باب فضل صلاة الفجر، ومسلم في صحيحه [215 - (635)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 37 - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، وأحمد في مسنده (4/ 80)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 466)، وابن حبان في صحيحه (282 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 290).

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (555) كتاب مواقيت الصلاة، 17 - باب فضك صلاة العصر، ورقم (3223، 7429، 7486)، ومسلم في صحيحه [210 - (632)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 37 - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، والنسائي (1/ 240 - المجتبى)، ومالك في الموطأ (170)، وأحمد في مسنده (2/ 486)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 240، 293).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7434) كتاب التوحيد، 24 - باب قول اللَّه تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} ومسلم في صحيحه [211 - (633)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 37 - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، وأبو داود (4729)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (177)، وأحمد في مسنده (4/ 360)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 359).

ص: 97

وجود الشمس ليس مفضيًا للتعهد بدليل ما قبل طلوعها، وليس مانعًا منه، بدليل غروبها، أي وجهت وجهي. وأي مقام أعلى من هذا المقام، وكمال أسنى من هذا الاهتمام.

وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي زهير عمارة بن رؤيبة

(1)

مرفوعًا: "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني الفجر والعصر

(2)

ولا راحة أعظم من السلامة منها، وقطع المفاز {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].

ومن حديث جندب بن سفيان مرفوعًا: "من صلى الصبح فهو في ذمة اللَّه، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنَّك اللَّه من ذمته بشيء"

(3)

وإذا صار إلى هذا المقام أعني في جوار الملك العلام زال الضرر وحصل له الفوز وكمال الظفر.

وثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة مرفوعًا: "من ترك صلاة العصر حبط عمله"

(4)

.

وما أشد هذا من اهتمام، اللهم ألهمنا المحافظة عليها يا علَّام.

(1)

عمارة بن رؤيبة، أبو زهير، الثقفي، الكوفي صحابي نزل الكوفة، أخرج له: مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، توفي بعد سنة (7) ترجمته: تهذيب التهذيب (7/ 416)، تقريب التهذيب (2/ 49)، الكاشف (2/ 302)، التاريخ الكبير للبخاري (6/ 494)، الجرح والتعديل (6/ 365) الثقات (3/ 294)، أسد الغابة (4/ 138).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [213 - (634)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 37 - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، والنسائي (1/ 235)، وأحمد في مسنده (4/ 136)، وابن خزيمة في صحيحه (419، 320)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 290)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 386).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [261 - (657)]، (262) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 46 - باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، والترمذي في سننه (222، 2164)، وابن ماجه في سننه (3945، 3946)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 240)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 96).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (553) كتاب مواقيت الصلاة، 16 - باب من ترك العصر، ورقم (594) 35 - باب التبكير بالصلاة في يوم غيم، والنسائي (1/ 236 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 350، 360)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 444، 445)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 259)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 64، 308)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (595).

ص: 98

‌مجلس في فضل الوضوء

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية، إلى قوله {تَشْكُرُونَ}

(1)

أي ليزيدهم من فضلة، وما أحسن هذا من مشافهة.

الهيئة، ناداهم بوصف الإيمان وطلب إقبالهم عليه واستجابتهم لما دعاهم لما يحييهم ويصيروا أعلام الأعلام.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرًّا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم إن يطيل غرته فليفعل"

(2)

.

أي ليحصل له كمال الحلل النورآنية.

وثبت في صحيح مسلم من حديثه: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"

(3)

أي لينال الأساور العرفانية، لا جرم ذكر المؤمن من الحلية والأمة مع العزة.

ومن حديث ابن عفان مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أظفاره"

(4)

ومن حديثه أيضًا قال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة""

(5)

وغير هذا بالغفران، وفيما قبله بالخروج وهنا بالذنب، وهناك

(1)

سورة المائدة (6).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (136) كتاب الوضوء، 3 - باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، ومسلم في صحيحه [35 - (246)] كتاب الطهارة 12 - باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، وأحمد في مسنده 2/ 400، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 149)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (290)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 361).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [40 - (250)] كتاب الطهارة 13 - باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، وأحمد في مسنده (2/ 371)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 57) والتبريزي في مشكاة المصابيح (291)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 149)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 221).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (245)] كتاب الطهارة، 11 - باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (229)] كتاب الطهارة، 3 - باب فضل الوضوء والصلاة عقبه.

ص: 99

بالخطيئة. ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا

(1)

: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء

(2)

أو مع آخر قطر الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب" وهذا تفصيل لما أُجمل أولًا. وفيه من المبالغة والتوكيد ما ليس بغيره من (الملأ)

(3)

.

ومن حديثه أنه صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، وددت إنَّا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول اللَّه؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول اللَّه؟ فقال: "أرأيت لو أن رجلًا له خيل غير محجلة بين ظهري خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"فإنهم يأتون غُرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطُهُم على الحوض"

(4)

.

قلت: أي الموصوف بكوثر الخير وكفى به فرطًا.

ومن حديثه أيضًا: "ألا أدلكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (244)] كتاب الطهارة 11 - باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء، والترمذي (2) في الطهارة، باب ما جاء في فضل الطهور، وأحمد في مسنده (2/ 303)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 81)، وابن خزيمة في صحيحه (4)، والإمام مالك في الموطأ (32) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 151)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 375).

(2)

قوله: "مع الماء أو مع آخر قطر الماء" هو شك، والمراد بالخطايا الصغائر دون الكبائر؛ قال القاضي: والمراد بخروجها مع الماء المجاز والاستعارة في غفرانها لأنها ليست بأجسام فخرج حقيقية واللَّه أعلم.

وفي هذا الحديث دليل على الرافضة وإبطال لقولهم الواجب مسح الرجلين.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "بطشتها يداه ومشتها رجلاه" معناه اكتسبتها [النووي في شرح مسلم (3/ 114) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [39 - (249)] كتاب الطهارة، 12 - باب استحباب إطاله الغرة والتحجيل في الوضوء، وأبو داود (2337)، والنسائي (1/ 94 - المجتبى) وابن ماجه (1546)، وأحمد في مسنده (2/ 375).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [41 - (251)] كتاب الطهارة، 14 - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والترمذي (51) في الطهارة، باب ما جاء في إسباغ الوضوء، والبيهقي في السنن =

ص: 100

ففيه رفع الدرجات بين طوائف الأمم السالفات، ثم منازل الجنة تبع لذلك، والمنازل الرفيعات.

ومن حديث أبي مالك الأشعري مرفوعًا "الطهور شطر الإيمان"

(1)

أي ينتهي تضعيف أجره إلى أن يكون في الميزان كنصف أجر الإيمان.

وحديث البطاقة كاشف عن درايته وعظيم قدرها وكرامة الجنة ونعيمها تبع لذلك.

وهو حديث عظيم مشتمل على أنواع من الخيرات وقد سلف في الصبر بطوله.

ومن حديث عمر مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ. أو فيسبغ. الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا عبد اللَّه ورسوله إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء"

(2)

زاد الترمذي: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين".

وفيه من العناية والإكرام ما لا يحصى من الإنعام ومناسبته لرفع الدرجات ومضاعفة الأجور الكثيرات وللَّه منح ومواهب وعطايا وسوالف.

وحاصل ما ذكرناه من الأحاديث ومهمها على ما يثمره الوضوء من النفع والكمال.

فالنفع راحة أو تمتع بلذة، والكمال ثلاثة أشعة أنوار الصفات الإلهية، والتزين بأنواع الحلي من الحقائق التوحيدية ومعاني التجليات الأحدية الذاتية، والواحدية الصفاتيه، وما يترتب على ذلك من الرهبة والربوبية والملكة فحلل أنوار الأحوال والمواهب والأخلاق والمكاسب وحلي الحقائق الكسبية والمعارف الذوقية نائلة لفاعل ذلك، فقدره حق اليقين بحد نفعه يوم الدين.

= الكبرى (3/ 62)، وابن حبان في صحيحه (161 - الموارد) وابن خزيمة في صحيحه (5) والزبيدي في الإتحاف (2/ 374)، والتبريزي في المشكاة (282) والسيوطي في الدر المنثور (2/ 114)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 158) وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 238).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (223)] كتاب الطهارة، 1 - باب فضل الوضوء، وأحمد في مسنده (5/ 342، 343) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 10، 42)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 6)، والزبيدي فى الإتحاف (2/ 303، 5/ 15)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 156، 248)، والتبريزى فى مشكاة المصابيح (281)، والسيوطي (1/ 12)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 322).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [17 - (234)] كتاب الطهارة، 6 - باب الذكر المستحب عقب الوضوء، والترمذي في سننه (55) في الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، وأحمد في مسنده (4/ 145، 146) والزبيدي في الإتحاف (10/ 525)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (289) والسيوطي في الدر المنثور (5/ 343).

ص: 101

‌مجلس في فضل الأذان

ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهُما ولو حبوًا"

(1)

.

الاستهام: الاقتراع.

والتهجير: التبكير إلى الصلاة وعدم علمهم يحتمل لعدم تعلُّمِهُم، والظاهر أنه لكلال كثير من الأفهام عما فيه من الفضل الخارج عن الطاقة البعيد عن الحصر والإحصاء. وثبت في صحيح مسلم من حديث معاوية مرفوعًا "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة"

(2)

.

أعناقًا: بفتح الهمزة على حقيقته.

ومن رواه بكسرها أراد إسراعًا، ويبعد قوله أطول.

ومن فسره بالأعمال والاتباع فأبعد.

والمراد بيان أنهم سادة، وأن لهم من الكرامة ما يباين حال الخاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي أو من أن يلجمهم العرق، فشأنهم رفيع رحمة لهم وكرمًا.

وروينا في صحيح البخاري

(3)

من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال لعبد

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (615) كتاب الأذان، 9 - باب الاستهام في الأذان، ومسلم في صحيحه [129 - (437)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول، والنسائي (1/ 269، 2/ 23 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 248)، وأحمد في مسنده (2/ 236).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [14 - (387)] كتاب الصلاة، 8 - باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، وابن ماجه في سننه (725)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 433)، وابن حبان في صحيحه (293 - الموارد)، وابن شيبة في مصنفه (1/ 225)، وعبد الرزاق في مصنفه (1861)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 321، 327)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 364) والتبريزي في مشكاة المصابيح (654).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (609) كتاب الأذان، 5 - باب رفع الصوت بالنداء، ورقم (3296) كتاب بدء الخلق، 12 - باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم، ورقم (7548) كتاب التوحيد، 52 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الماهر بالقرآن مع الكرام البررة" و"زينوا القرآن بأصواتكم"، وأحمد في مسنده (3/ 35)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 397، 427)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ =

ص: 102

الرحمن بن أبي صعصعة

(1)

: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك. أو باديتك. فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدي صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة". قال أبو سعيد: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وخلق التمييز في هذه الأشياء ليس على اللَّه بعزيز، وإنطاق الكافر به حجة عليه وتشريفًا للمؤذن.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا نودى بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذ ثُوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول: اذكُر كذا، اذكُر كذا لما لم يكن حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى"

(2)

.

والتثويب: الإقامة قبل إدباره حتى لا يسمع فيشهد والأظهر لِعِظَمِ أمره لاشتماله على قواعد التوحيد، وإعلان الدين وإظهار شعائر الإسلام.

ويؤيده حديث: "إذا تغولت الغيلان فأعلنوا الأذان"

(3)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرا، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة"

(4)

.

= 174) والزبيدي في الإتحاف (3/ 5، 8/ 318).

(1)

عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري المازني، هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، ثقة، أخرج له: البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، توفي سنة (139)، ترجمته: تهذيب التهذيب (6/ 199)، وتقريب التهذيب (1/ 485)، وتاريخ البخاري الكبير (5/ 303) والجرح والتعديل (5/ 1196)، وميزان الاعتدال (7/ 64).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (608) كتاب الأذان، 4 - باب فضل التأذين، ورقم (1222) كتاب العمل في الصلاة، 18 - باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة، وانظر رقم (1231، 1232) كتاب السهو، 7 - باب السهو في الفرض والتطوع، ورقم (3285) كتاب بدء الخلق، 11 - باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في صحيحه [83 - (389)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 19 - باب السهو في الصلاة والسجود له.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 305)، وعبد الرزاق في مصنفه (9352)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 351).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [11 - (384)] كتاب الصلاة، 7 - باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل اللَّه له الوسيلة، وأبو داود في سننه (523) كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن، والترمذي (208)، والنسائي (2/ 23 - المجتبى)، =

ص: 103

وأخرجا صدره من حديث أبي سعيد بلفظ "فقولوا كما يقول"

(1)

.

قلت: فيحصل له الراحة من كرب المؤجل وإغلاق الغضب وإحراز الخيرات.

وروينا في صحيح البخاري من حديث جابر رفعه: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتى يوم القيامة"

(2)

وهذا ظاهر في إجابة الأذان والاعتناء بهذا الدعاء عقبه ليحصل الفوز والامتنان.

وروينا في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت باللَّه ربًا وبمحمد رسولًا، وبالإسلام دينًا، غُفر له ذنبه"

(3)

.

قلت: وأي راحة أعظم من ذلك وسعادة أبلغ مما هنالك، وقد زال الخوف، والقلق، ونامت العين، وزال الأرق.

وروينا في جامع الترمذي محسنًا وسنن أبي داود من حديث أنس مرفوعًا: "الدعاء لا يُرد بين الأذان والإقامة"

(4)

فليكثر المؤمن من ذكر حاجاته، فالكريم

= والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 408)، ومالك في الموطأ (67)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 378).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (611) كتاب الأذان، 7 - باب ما يقول إذا سمع المنادي، ومسلم في صحيحه [10 - (383)] كتاب الصلاة، 7 - باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل اللَّه له الوسيلة، وأبو داود في سننه (522) كتاب الصلاة 6 - باب ما يقول إذا سمع المؤذن.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (614) كتاب الأذان، 8 - باب الدعاء عند النداء، وأبو داود (529) كتاب الصلاة، باب ما جاء في الدعاء عند الأذان، والنسائي (2/ 27 المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 354)، والبيهقى في السنن الكبرى (1/ 410)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 240) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 185)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (659)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 6، 5/ 50)، وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 210)، والشجري في أماليه (1/ 241).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [13 - (386)] كتاب الصلاة، 7 - باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمحه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل اللَّه له الوسيلة، وأبو داود في سننه (525)، والترمذي في سننه (210)، والنسائي (2/ 26 - المجتبى)، والحاكم في المستدرك (1/ 203)، وأحمد في مسنده (1/ 181)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 185)، وابن خزيمة في صحيحه (421).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (3594، 3595) كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، وأبو داود في سننه (521) كتاب الصلاة، باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة، والنسائي في عمل اليوم والليلة (صـ 40) باب الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة، وأحمد في مسنده (3/ 119)، =

ص: 104

معطاه، وبابه مفتوح.

وحاصل ما ذكرناه من الأحاديث أن الثلاثة الأول لها تُرغِّب في مباشرته، والباقي في فضائله ومتعلقاته ومدارها على مهمين: بيان ما يثمره الأذان من كمال ونفع، والبيان إجمالي كما في الحديث الأول، وتفصيلي كما في باقي الحاديث، وكما له رفعة شأن ولسان صدق، فالأول في الحديث الثاني، والثاني في الثالث، وكمال الأذان في نفسه في الرابع، ونفعه أمن وسرور، من الأمن والراحة إدبار الشيطان وتباعده من محل الأذان ستة وثلاثين ميلًا، وقد أُذِّن عند بعض المحتضرين وما أحسنه يسلم من الوسواس فيختم له (بالأساس)

(1)

.

‌فصل في المشى إلى المساجد

روينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللَّه له في الجنة نُزلًا كلما غدا أو راح"

(2)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديثه أيضًا مرفوعًا: "من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت اللَّه ليقضي فريضة من فرائض اللَّه، كانت خطوتاه إحداهما تَحُطْ خطيئة، والأخرى ترفع درجة"

(3)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث كعب قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم رجلًا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، قال: فقيل له: قلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"قد جمع اللَّه لك ذلك كله"

(4)

.

= والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 272)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 485).

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (662) كتاب الأذان، 37 - باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم في صحيحه [285 - (669)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 51 - باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، وابن خزيمة في صحيحه (1496)، أبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 229)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 212)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 317).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [282 - (666)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 5 - باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 62)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 36).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [278 - (663)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد.

ص: 105

وروينا فيه من حديث جابر قال: "خَلَت البقاعُ حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد" قالوا: نعم، يا رسول اللَّه، قد أردنا ذلك. فقال: "يا بني سلمة دياركم تُكتَب آثاركم، دياركم تُكتَب آثاركم" فقالوا: ما كان يسُرنا أنَّا كنا تَحولنا"

(1)

.

وروى البخاري معناه من رواية أنس.

وروينا فيهما من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر. . الحديث"

(2)

.

وروينا من حديث بريدة مرفوعًا: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"

(3)

.

وروينا في الترمذي محسنًا من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان" قال اللَّه تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية

(4)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا "ألا أدُلكُم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [280، 281 - (665)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 64)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (700)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 260)، وابن جرير في تفسيره (22/ 100).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [277 - (662)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 63، 10/ 78) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 209)، وابن خزيمة في صحيحه (1501).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (561) كتاب الصلاة باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم، والترمذي في سننه (223) في الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة العشاء والفجر في الجماعة، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 272)، والحاكم في المستدرك (1/ 212)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 63).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2617) كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، وابن ماجه في سننه (802) كتاب المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، وأحمد في مسنده (3/ 68)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 66)، وابن حبان في صحيحه (310 - الموارد).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [41 - (251)] كتاب الطهارة، 14 - باب فضل إسباغ الوضوء على =

ص: 106

وهذه الأحاديث خلاصتها حُملت على جلب المنافع ورفع المضار

(1)

فالأول إعداد المنزل وياله من لذَّة.

وفي الحديث الثاني رفع الدرجات وما أعظمه من ملذة، وفي الثالث تكثير الحسنات، وكذا الرابع وهو أعم من المشى والركوب، وفي الخامس أن بُعد المشى يحصل للفوز بالأجر ودفع المضار كما في الحديث السادس؛ لأن بالنون يحصل دفع حرف السقوط في المهاوي.

وكذا السابع، فيحصل دفع المضار بمحو الخطايا وهو كالأساس لشمول المحو، ما إذا كان لسبب البعد، وبسبب التكرير مرة بعد أخرى، وفي الأخير يحصل به لسان صدق، وفي ضمنه كف اللسان عما يجب كفه عن أهل الإيمان واللَّه الهادي لقوى الأركان.

‌فصل في انتظار الصلاة

قد أسلفنا حديث أبي هريرة فيه آنفًا.

وروينا في الصحيحين من حديثه أيضًا مرفوعًا: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة"

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديثه أيضًا مرفوعًا: "الملائكة تُصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"

(3)

.

= المكاره، والترمذي (51)، والبيهقى في السنن الكبرى (3/ 62)، وابن خزيمة في صحيحه.

(1)

قال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات": قال القاضي عياض: محو الخطايا كناية عن غفرانها قال: ويحتمل محوها من كتاب الحفظة ويكون دليلًا على غفرانها. ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة. وإسباغ الوضوء إتمامه والمكاره بشدة البرد وألم الجسم ونحو ذلك. وكثرة الخطا تكون ببعد الدار وكثرة التكرار. وانتظار الصلاة بعد الصلاة.

[النووي في شرح مسلم (3/ 12) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (659) كتاب الأذان، 36 - باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، ومسلم في صحيحه [275 - (649)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 49 - باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 65)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 281).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (445) كتاب الصلاة، 61 - باب الحدث في المسجد، وأبو داود في سننه (469) كتاب الصلاة، وباب في فضل القعود في المسجد، وأحمد في مسنده (2/ 312، 486)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 186)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 132)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 29).

ص: 107

فالمنتظر يحصل له، كمالان: أجر المصلى وإن طال الزمن كشطر الليل كما سيأتي، وصلاة الملائكة عليه.

وروينا في جامع الترمذي من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أخَّر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل، ثم أقبل بوجهه بعدما صلى فقال:"صلى الناس ورقدوا ولم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها"

(1)

.

‌فصل في فضل صلاة الجماعة

روينا في صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"

(2)

.

وروينا فيهما من حديث أبي هريرة خمسًا وعشرين ضعفًا"

(3)

.

وفرق بين الضَّعف والدرجة.

وروينا في صحيح مسلم من حديثه أيضًا: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول اللَّه إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُرخص له فيصلي في بيته، فرخص له

(4)

، فلما وَلَّى دعاه فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ " فقال: نعم. قال: "فأجب"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (572) كتاب مواقيت الصلاة، 26 - باب وقت العشاء إلى نصف الليل، ومسلم في صحيحه [222 - (640)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 39 - باب وقت العشاء وتأخيرها.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (645) كتاب الأذان، 30 - باب فضل صلاة الجماعة، ورقم (649)، 31 - باب فضل صلاة الفجر في جماعة ومسلم في صحيحه [249 - (650)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 42 - باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، والنسائي (2/ 103 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 55).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (647) كتاب الأذان، 30 - باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم في صحيحه [245 - (649)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 42 - باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.

(4)

ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم له ثم رده وقوله: "فأجب" فيحتمل أنه بوحي نزل في الحال، ويحتمل أنه تغير اجتهاده صلى الله عليه وسلم إذا قلنا بالصحيح وقول الأكثرين أنه يجوز له الاجتهاد، ويحتمل أنه رخص له أولًا وأراد أنه لا يجب عليك الحضور إما لعذر وإما لأن فرض الكفاية حاصل بحضور غيره، وإما للأمرين، ثم ندبه إلى الأفضل فقال: الأفضل لك والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر، فأجاب واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (5/ 132) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [255 - (653)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 43 - باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء.

ص: 108

وروينا في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث عبد اللَّه ابن أم مكتوم، وقيل: عمرو أنه قال: يا رسول اللَّه إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال:"تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ " قال: نعم.

قال: "فحي هلا" أي تعال.

(1)

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمُر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤُم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأُحرِّق

(2)

عليهم بيوتهم"

(3)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى ومن سنن الهدى، الصلاة في المسجد الذي يُؤَذَّن فيه

(4)

وله رواية أخري أطول من هذه.

وروينا في سنن أبي داود، وصحيح الحاكم من حديث أبي الدرداء مرفوعًا:"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية"

(5)

وحاصل هذه الأحاديث بيان عظم أجرها وتأكد أثرها، وما في تركها من الخطر وترك الترخيص مع كثرة الهوام والسباع،

(1)

أخرجه أبو داود (553) كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة.

(2)

قال النووي: هذا مما استدل به من قال: الجماعة فرض عين، وهو مذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وابن خزيمة وأبو داود، وقال الجمهور: ليست فرض عين، واختلفوا هل هي سنة أم فرض كفاية كما قدمناه، وأجابوا عن هذا الحديث بأن هؤلاء المتخلفين كانوا منافقين، وسياق الحديث يقتضيه فإنه لا يظن بالمؤمنين من الصحابة أنهم يؤثرون العظم السمين على حضور الجماعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي مسجده [النووي في شرح مسلم (5/ 131) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (644) كتاب الأذان، 29 - باب وجوب صلاة الجماعة ورقم (657) 34 - باب فضل صلاة العشاء في الجماعة، ورقم (2420) كتاب الخصومات، 5 - باب إخراج أهل المعاصى والخصوم من البيوت بعد المعرفة، ورقم (7224) كتاب الأحكام، 53 - باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة وقد أخرج عمر أخت أبي بكر حين ناحت، ومسلم في صحيحه [251، 252، 253 - (651)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 42 - باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [256 - (654)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 44 - باب صلاة الجماعة من سنن الهدى.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (547) كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة والنسائي (2/ 106 - المجتبى)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 186)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2728)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1067).

ص: 109

والمهمة النبوية بتحريق بيت تاركها عليه، وإن تاركها تارك السُّنة المحمدية، واستحواذ الشيطان على من لم يقم بها، وأي مصيبة من استحقاق الحريق والضلال واستحواذ الشيطان نسأل اللَّه العصمة والغفران.

‌فصل في الحث على حضور الجماعة في الصبح والعشاء

روينا في صحيح مسلم من حديث عثمان مرفوعًا: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله"

(1)

، رواه الترمذي وقال حسن صحيح بلفظ:"من شهد العشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة"

(2)

وهي توضحها.

وقد سلف حديث أبي هريرة: "ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا"

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديثه أيضًا مرفوعًا: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهُما ولو حبوًا"

(4)

.

وهذه الأحاديث دالة على إحراز عظيم الأجر المفصل والمجمل والتمييز بمواظبتها على المنافق.

‌فصل في الآمر بالمحافظة على المكتوبات والنهى الأكيد والوعد الشديد في تركهن

قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}

(5)

وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}

(6)

الآية.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن مسعود: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي الأعمال

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [260 - (656)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 46 - باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 267) وأبو عوانة في مسنده (2/ 4)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 24).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (221) أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، وأحمد في مسنده (1/ 58، 68)، والقرطبي في تفسيره (3/ 212، 14/ 101).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (654) كتاب الأذان، 32 - باب فضل التهجير إلى الظهر.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (657) كتاب الأذان، 34 - باب فضل صلاة العشاء في الجماعة، ومسلم في صحيحه [252 - (651)] كتاب صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها.

(5)

سورة البقرة (238).

(6)

سورة التوبة (5).

ص: 110

أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها"

(1)

الحديث.

وفيهما من حديث ابن عمر مرفوعًا: "بنى الإسلام على خمس"

(2)

وعدَّ منه إقام الصلاة، وفيهما من حديثه: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة"

(3)

الحديث.

وفيهما من حديث معاذ بن جبل: فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات

(4)

الحديث.

وفي صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"

(5)

.

وفي جامع الترمذي قال: حسن صحيح عن بريدة: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"

(6)

.

وفيه عن شقيق بن عبد اللَّه التابعي بإسناد صحيح قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (527) كتاب مواقيت الصلاة، 5 - باب فضل الصلاة لوقتها، ومسلم في صحيحه [137 - (85)] كتاب الإيمان، 36 - باب كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، وأحمد في مسنده (1/ 410، 439) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 256).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (8) كتاب الإيمان، 2 - باب دعاؤكم إيمانكم، ومسلم في صحيحه [20. (16)] كتاب الإيمان، 5 - باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، والترمذي في سننه (2609)، وأحمد في مسنده (2/ 26، 93، 120)، البيهقي في السنن الكبرى (1/ 358، 4/ 81، 199)، وابن خزيمة في صحيحه (308، 309)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 229).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه [25] كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [التوبة: 5]: ومسلم في صحيحه [32 - (20)] كتاب الإيمان 8 - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

قال النووي: قال الخطابي. رحمه الله: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا اللَّه ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر قبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك أيضًا عن أحمد بن حنبل، [النووي في شرح مسلم (1/ 184) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 147، 9/ 140) ومسلم في صحيحه [29 - (19)] كتاب الإيمان 7 - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

(5)

أخرجه مسلم [134 - (82)] كتاب الإيمان، 35 - باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.

(6)

أخرجه الترمذي (2621) كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، وابن ماجه (1079) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة.

ص: 111

لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة"

(1)

.

وفيه محسنًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامه من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عز وجل: انظروا أهل لعبدى من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك"

(2)

وحاصلها أن الصلاة أفضل الأعمال وأحد مباني الإسلام ودعائمه العظام، وعصم الدم والمال، وثانية التوحيد فيما يدعى إليه الأنام وتركها كُفر، وهو بين الكُفر والشرك

(3)

، وفسادها سبب الخيبة والخسران.

‌فصل في فضل الصف الأول

والأمر بإتمام الصفوف الأول وتسويتها والتراص فيها.

روينا في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تصفون كما تُصف الملائكة عند ربها؟ " فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تُصف الملائكة عند ربها؟ قال:"يُتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف"

(4)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يَجدُوا إلا أن يستهمُوا عليه لاستهمُوا"

(5)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2622) كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (413) في الصلاة باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد اليوم القيامة الصلاة، والنسائي (1/ 233 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 387)، والحاكم في المستدرك (1/ 263)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 256) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 342)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1330، 1331) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (3/ 169).

(3)

معنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة أن الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة، فإن تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل، بل دخل فيه، ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر باللَّه تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم باللَّه تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (2/ 62) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [119 - (430)] كتاب الصلاة، 27 - باب الأمر بالسكون في الصلاة، والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (615) كتاب الأذان، 9 - باب الاستهام في الأذان، ومسلم في صحيحه [129 - (437)] كتاب الصلاة 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول =

ص: 112

وفي صحيح مسلم من حديثه مرفوعًا: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرُها أولها"

(1)

وفيه من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخرًا فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللَّه"

(2)

، وفيه من حديث أبي مسعود: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونَهُم ثم الذين يَلونَهُم"

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس مرفوعًا: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"

(4)

.

وفي رواية للبخاري "من إقامة الصلاة"

(5)

وفيهما واللفظ للبخاري من حديثه أيضا قال: أُقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفُوفكُم

= منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وأحمد في مسنده (2/ 236، 278)، والنسائي (1/ 269، 2/ 23 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 248، 10/ 288).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [132 - (440)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وأبو داود في سننه (678)، والترمذي في سننه (224)، والنسائي (2/ 93، 94 - المجتبى)، وابن ماجه (1000، 1001)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 247)، والبيهقى في السنن الكبرى (3/ 90، 97، 98)، وابن خزيمة في صحيحه (1561، 1693)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 316)، وابن أبى شيبة في مصنفه (2/ 386)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 91)، والهيثمى في مجمع الزوائد (2/ 93)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 266)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1092).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [130 - (438)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وأبو داود في سننه (680) كتاب الصلاة، باب صف النساء وكراهية التأخر عن الصف الأول، وابن ماجه في سننه (978)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 34، 54)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 103)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 324)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 187).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [122 - (432)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وأبو داود في سننه (674) كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر.

وأحمد في مسنده (4/ 276)، وابن خزيمة في صحيحه (1542)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 325)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 27).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (723) كتاب الأذان، 74 - باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم في صحيحه [124 - (433)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (723) كتاب الأذان، 74 - باب إقامة الصف من تمام الصلاة.

ص: 113

وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري"

(1)

.

وفي رواية للبخاري: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه"

(2)

.

وروينا فيهما أيضًا من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "لتسوُّن صفُوفكُم، أو ليخالفنَّ اللَّه بين وجُوهكُم"

(3)

.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وكان يقول: "إن اللَّه وملائكته يصلون على الصفوف الأول"

(4)

.

وفيهما أيضًا بإسناد صحيح من حديث ابن عمر: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسُدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم" لم يقل عيسى: "بأيدي إخوانكم ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومن وصل صفًا وصله اللَّه، ومن قطع صفًا قطعه اللَّه"

(5)

.

وفيهما بإسناد على شرط مسلم من حديث أنس رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحَذَف"

(6)

أي غنم صغار سود تكون باليمن.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (719) كتاب الأذان، 72 - باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف، والنسائي (2/ 92، 105 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 103)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 21)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 320)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 309).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (725) كتاب الأذان، 76 - باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (717) كتاب الأذان، 71 - باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، ومسلم في صحيحه [127 - (436)] كتاب الصلاة 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وأبو داود في سننه (663) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وأحمد في مسنده (4/ 277) وأبو عوانة في مسنده (2/ 40).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (664) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وأحمد في مسنده (4/ 122)، والحاكم في المستدرك (1/ 573، 2/ 8)، وابن خزيمة في صحيحه (1556، 1557) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 318).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (666) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (667) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 100)، وابن حبان في صحيحه (387)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1093)، وابن خزيمة في صحيحه (1545)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 318).

ص: 114

وفيهما بإسناد حسن عنه

(1)

"أتموا المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر".

وفيهما أيضًا بإسناد على شرط مسلم من حديث عائشة: "إن اللَّه وملائكته يصلون على ميامن الصفوف".

وفيهما من حديث أبي هريرة: "وسطوا الإمام وسدوا الخلل"

(2)

.

وفي صحيح مسلم من حديث البراء كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، فسمعته يقول:"رَبٌ قنى عذابك يوم تَبعثُ عبادك"

(3)

. وحاصل هذه الأحاديث فضل إتمام الصفوف وفضل أولها وتسويتها وتراصِّها وميامنها وتوسط الإمام والترغيب في إتمامها والأمر والتحضيض وهما في الحديث الثالث عشر.

والأول والثاني مرغب في الصف الأول إجمالًا والثالث تفصيلًا: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)} [الحجر: 24]، والتهاون عن تخالف القلوب اعتقادًا وتباغضًا

(4)

كما في الحديث الخامس.

وإحراز إتمام الصلاة وإقامتها المطلوبة كما في السادس، والحرص على تحسين ما يحب اللَّه ورسوله كما في السابع، والاحتراز عن المخالفة بين الوجوه، وسحائم

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (671) كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، والنسائي (2/ 93 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (3/ 132، 225)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 102)، وابن حبان في صحيحه (390 الموارد).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (681) كتاب الصلاة، باب مقام الإمام من الصف، وابن ماجه (1005)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 103)، وابن حبان في صحيحه (3193 - الموارد)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1096).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [62 - (709)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 8 - باب استحباب يمين الإمام، وأبو داود (615) كتاب الصلاة، باب الإمام ينحرف بعد التسليم، والترمذي في سننه (3398، 3399)، وأحمد في مسنده (4/ 290، 298)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 182)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 321)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 75)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 344).

(4)

في قوله صلى الله عليه وسلم: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم" قيل: معناه يمسخها ويحولها عن صورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "يجعل اللَّه تعالى صورته صورة حمار"، وقيل: يغير صفاتها والأظهر واللَّه أعلم أن معناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب كما يقال تغير وجه فلان عليَّ أي ظهر لي من وجهه كراهة لى وتغير قلبه عليَّ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. [النووي في شرح مسلم (4/ 131) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 115

المخالفة بين القلوب كما في الثامن. والترغيب فيما كان الشارع يعتني به أشد الاعتناء كما في التاسع.

ومن اعتنائه تخللها من صف إلى صف كما في العاشر امتثالًا للأوامر الشريفة من إقامة الصفوف ومحاذاة المناكب، والحذر من ترك فرجات الشيطان كما في الثاني عشر.

والترغيب في ميامن الصفوف

(1)

كما في الرابع عشر والتيمن بوجه الإمام أول إقباله عليهم كما في الأخير.

‌فصل في فضل السنن الراتبة مع الفرائض

وبيان أقلها وأكملها وما بينهما أي أوسطها وغير ذلك مما يتعلق به.

روينا في صحيح مسلم عن أم حبيبة رملة

(2)

أم المؤمنين مرفوعًا: "ما من عبد مسلم يصلي للَّه تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة إلا بنى اللَّه له بيتًا في الجنة، أو إلا بُنِيَ له بيت في الجنة"

(3)

.

ويا بشرى من وقع له ذلك، فإنه دال على حُسن الخاتمة.

(1)

في حديث البراء: "كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون على يمينه" قال النووي: قال القاضي: يحتمل أن يكون التيامن عند التسليم، وهو الأظهر لأن عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه قال: وإقباله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد قيامه من الصلاة أن يكون حين ينفتل [النووي في شرح مسلم (5/ 187) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

رملة بنت أبي سفيان بن صخر بن حرب، أم حبيبة، القرشية، الأموية، أم المؤمنين أخرج لها: البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة توفيت سنة (42، 44) وقيل (49) وقيل (50) ترجمتها: تهذيب التهذيب (12/ 419)، وتقريب التهذيب (2/ 598)، والثقات (3/ 131)، وأسد الغابة (7/ 115)، وأعلام النساء (1/ 397)، والسمط الثمين (111)، الكاشف (3/ 471)، والاستيعاب (4/ 1843) والإصابة (7/ 651)، تجريد أسماء الصحابة (2/ 268) والخلاصة (3/ 382، 405).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [103 - (728)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 15 - باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن، وأحمد في مسنده (6/ 327)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 396).

قال النووي بعد ما ذكر روايات هذه السنن: قال أصحابنا وجمهور العلماء بهذه الأحاديث كلها واستحبوا جميع هذه النوافل المذكورة في الأحاديث ولا خلاف في شيء منها عند أصحابنا إلا في الركعتين قبل المغرب ففيهما وجهان لأصحابنا أشهرهما: لا يستحب والصحيح عند المحققين استحبابهما بحديثي ابن مغفل. [النووي في شرح مسلم (6/ 8) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 116

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: "صل ركعتين قبل الظهر ومثلهما بعدها، وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء"

(1)

.

وفيهما من حديث عبد اللَّه بن مغفل الأمر بركعتين قبل المغرب

(2)

.

وفي البخاري من حديث عائشة كان لا يدع أربعًا قبل الظهر

(3)

.

وفي مسلم فعلها أيضًا.

وفي أبي داود والترمذي وقال: حسن صحيح من حديث أم حبيبة: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها حرمه اللَّه على النار

(4)

وفيه من حديث عائشة أنه لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر

(5)

.

وفي البخاري عنها: كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة

(6)

.

وفي مسلم عنها: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها وإنهما أحب إليَّ من الدنيا جميعها"

(7)

.

وفي أبي داود بإسناد جيد من حديث بلال في ركعتي الفجر: "إنك أصبحت جدًا"، قال: لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما وأحسنتهما وأجملتهما"

(8)

.

وفي الصحيحين من حديث عائشة وغيرها تخفيفهما، وفي مسلم من حديث ابن عباس أنه كان يقرأ في الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136]

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1172) كتاب التهجد، 29 - باب التطوع بعد المكتوبة، ومسلم في صحيحه [104 - (729)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 15 - باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1183) كتاب التهجد، 35 - باب الصلاة قبل المغرب، ومسلم [302 - (836)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 55 - باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1182) كتاب التهجد 34 - باب الركعتين قبل الظهر.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1269) كتاب الصلاة، باب الأربع قبل الظهر وبعدها، والترمذي (428)، والنسائي (3/ 266 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 472)، والحاكم في المستدرك (1/ 312)، وابن خزيمة في صحيحه (1190)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1167)، وابن حجر في المطالب العالية (556)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 94، 7/ 36).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (1254) كتاب الصلاة، باب ركعتي الفجر.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (1182) كتاب التهجد، 34 - باب الركعتين قبل الظهر.

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [96 - (725)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 14 - باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما.

(8)

أخرجه أبو داود (1257) كتاب الصلاة باب في تخفيفهما.

ص: 117

الآية التي في البقرة "وفي الثانية {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}

(1)

وفي رواية له وفي الثانية التي في آل عمران {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية

(2)

.

وفيه من حديث أبي هريرة: قراءة سورة الإخلاص فيهما

(3)

.

وفي الترمذي محسْنًا من حديث ابن عباس: "رَمقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شهرًا يقرأهما فيهما"

(4)

والكل سُنة.

ويستحب الاضطجاع بعدهما على جنبه الأيمن فقد صحت الأحاديث فيه وسواء كان تهجد بالليل أم لا؛ ففي البخاري من حديث عائشة: "أنه كان إذا صلى الفجر اضطجع على شقه الأيمن"

(5)

.

وفي مسلم عنها فعله لها وكان تهجد ليلًا، وفي أبي داود وللترمذي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح

(6)

: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه" قال الترمذي: حسن صحيح.

فرع: في جامع الترمذي محسَّنًا من حديث عبد اللَّه بن السائب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال:"إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح"

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1171) كتاب التهجد، 28 - باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، ومسلم في صحيحه [92 - (723)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 14 - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [99 - (727)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 14 - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، وتخفيفهما والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [100 - (727)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 14 - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما، مسلم في صحيحه [98 - (726)] كتاب صلاة المسافربن وقصرها، 14 - باب استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما.

(4)

الترمذي في سننه (417) في الصلاة، باب ما جاء في تخفيف ركعتي الفجر.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1160) كتاب التهجد، 23 - باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتى الفجر.

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (1261) كتاب الصلاة، باب الاضطجاع بعدها، والترمذي في سننه (420) في الصلاة، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتى الفجر، وابن حبان في صحيحه (612 - الموارد)، وابن خزيمة في صحيحه (1120)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1206).

(7)

أخرجه الترمذي في سننه (478) في الصلاة، باب ما جاء في الصلاة عند الزوال، وأحمد في =

ص: 118

قلت: وهذه سُنة الزوال، ومتى أُخرَت عن أوائله فاتت. والنووي في رياضه جعلها مضافة إلى رابعة الظهر، لكن بوَّب باب سنة الظهر.

فرع: في جامع الترمذي من حديث عائشة وقال: حسن، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يصلي أربعًا قبل الظهر صلاهُن بعدها

(1)

.

فرع: في جامع الترمذي من حديث علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر أربعًا بتسليم

(2)

.

وفي أبي داود من حديث عمر: "رحم اللَّه امرءًا صلى قبل العصر أربعًا"

(3)

وقال في كل منهما حديث حسن.

وفي أبي داود من حديث علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر ركعتين

(4)

.

فكلٌّ سنة، ويا سعادة من دخل في دعوته الجامعة.

فرع: في سُنَّة العشاء قبلها، فيه حديث:"بين كل أذانين صلاة"

(5)

.

فرع: ثبت بعد الجمعة أربع وأنها في البيت وركعتان وكل النوافل كذلك إلا ما استثنى.

وقال الغزالى: ست ركعات بعدها.

= مسنده (3/ 411)، (5/ 418)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 400)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1169)، والطبراني في المعجم الكبير (4/ 203).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (426) في الصلاة، باب منه. ما جاء في الركعتين بعد الظهر.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (329) كتاب الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 327)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 349)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1171).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1271) كتاب الصلاة، باب الصلاة قبل العصر، والترمذي في سننه (430) في الصلاة، باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وأحمد في مسنده (2/ 117)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 473)، وابن حبان في صحيحه (616 - الموارد) والتبريزي في مشكاة المصابيح (1705)، وابن حجر في تلخيص الحبير (1212).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1272) كتاب الصلاة، باب الصلاة قبل العصر.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (627) كتاب الأذان، 16 - باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء، ومسلم في صحيحه [304 - (838)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 56 - باب بين كل أذانين صلاة، وأبو داود في سننه (1283)، والترمذي (185)، وابن ماجه (1162)، وأحمد في مسنده (3/ 86، 5/ 54، 56)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 19)، وابن خزيمة في صحيحه (1287، 1773)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (662)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 351، 353) والهيثمى في مجمع الزوائد (2/ 231).

ص: 119

فرع: يستحسن أن ينتقل للنفل من موضع فرضه، أو الفصل بينهما بكلام، كما أخرجه مسلم من حديث معاوية.

فرع: الوتر محثوث على فعله وهو سُنَّة ووقته ما بين فعل الفريضة والفجر.

ومحل الخوض في ذلك في كتب الفروع.

‌فصل

روينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أوصاني خليلي بركعتى الضحى"

(1)

.

فينبغي المداومة عليهما عملًا بالوصية النبوية.

وفي مسلم من حديث أبي ذر: أنها تجزئ عن جميع صدقات السلاميات

(2)

.

وفيه من حديث زيد بن أرقم: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال"

(3)

.

‌فصل

روينا في الصحيحين من حديث أبي قتادة مرفوعًا: "إذا دخل أحدكم المسجد يجلس حتى يصلي ركعتين"

(4)

.

ومن حديث جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: "صلي ركعتين"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1178) كتاب التهجد، 33 - باب صلاة الضحى في الحضر ورقم (1981) كتاب الصوم، 60 - باب صيام أيام البيض، ومسلم في صحيحه [85 - (721)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 13 - باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست، والحث على المحافظة عليها، قال النووي: قوله: "أوصاني خليلي" لا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا من أمتى خليلًا. . . " لأن الممتنع أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم غيره خليلًا ولا يمتنع اتخاذ الصحابى وغيره النبي صلى الله عليه وسلم خليلًا. [النووي في شرح مسلم (5/ 198) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [84 - (720)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 13 - باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [143 - (748)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 19 - باب صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، وأحمد في مسنده (4 - 366) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 49)، وابن خزيمة في صحيحه (1227).

(4)

البخاري في صحيحه (1163) كتاب التهجد 25 - باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم في صحيحه [69 - (714)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 11 - باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة في جميع الأوقات.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1166) كتاب التهجد، 25 - باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، =

ص: 120

‌فصل في استحباب ركعتين بعد الوضوء

فيه قصة بلال مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجاه.

‌فصل في سجود الشكر

فيه حديث سعد بن أبي وقاص في سنن أبي داود.

‌فصل في فضل قيام الليل ومتعلقات القيام

قال اللَّه تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}

(2)

.

أمر اللَّه تعالى أحب الخلق إليه وأكرمهم لديه به وتقديم "من الليل" مُشعر بالاهتمام بشأنه وتفخيم قيامه ومادته مُشعرة برفض النوم وإن شقَّ على النفس. فالليل وقت المناجاة، واقتطاف ثمار وصال الأحبة وهو رأس مال المريد، وبه يحصل المزيد، ومعنى "نافلة لك" زيادة في الربح والفضل.

و {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] لا مرغب مثله، إذ أمر يرجى به ذلك يقبل علمه، ولا يُفرِّط ولهان لديه، ويهتم به أشد الاهتمام ويعول عليه.

وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}

(3)

الآية وهذا مدح منه لهم تعالى.

= ومسلم في صحيحه [71 - (715)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 11 - باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهية الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة في جميع الأوقات.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1149) كتاب التهجد، 17 - باب فضل الطهور بالليل والنهار ومسلم في صحيحه [108 - (2458)] كتاب فضائل الصحابة، 21 - باب من فضائل بلال رضي الله عنهما.

(2)

سورة الإسراء (79).

أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة كما ورد في صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "صلاة الليل" ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد ما كان بعد نوم، واختلف في معنى قوله تعالى:{نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة، وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التى عليه، وقوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] أي: افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقامًا محمودًا يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى [تفسير ابن كثير (3/ 56)].

(3)

سورة السجدة (16).

يعنى بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة، قال مجاهد والحسن في قوله تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] يعني بذلك قيام الليل، وعن أنس =

ص: 121

ويتحيل بأن لا مؤمن بآياته سواهم، فالمهمة إليهم تتعالى، وقوله:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] بيان أن ذلك لاحق منهم ولا أهم وأعنى بالعبادة.

وقوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ما أحسنه من أجر، وما ألطفه من وفاء، وما أدهشه وأطربه وأرقصه وأهيجه وأعجبه، وقال تعالى:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17].

وروينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه،

(1)

فقالت عائشة: لِمَ تصنع هذا يا رسول اللَّه وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"

(2)

.

وعن المغيرة

(3)

نحوه. أخرجاه.

وكان يقتضي المداومة أو الأكثرية.

والتَّفطُّر: التشقق وهو أبلغ من التورّم، لأن التورّم مبادئه.

وفي قوله: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

الإشعار بمزية قيام الليل على غيره من العبادات.

وروينا فيهما من حديث على أنه صلى الله عليه وسلم طرقهُ وفاطمة ليلًا وقال: "ألا تصليان"

(4)

طرَقهُ: أتاه ليلًا.

= وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة هو الصلاة بين العشاءين، وعن أنس أيضًا هو انتظار صلاة العتمة [تفسير ابن كثير (3/ 475)].

(1)

حتى تتفطر، وفي رواية تفطرت رجلاه، معنى تفطرت تشققت، قالوا: ومنه فطر لصائم وأفطره لأنه خرق صومه وشقه، قال القاضي: الشكر معرفه إحسان المحسن والتحدث به، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرًا لأنها تتضمن الثناء عليه وشكر العبد اللَّه تعالى اعترافه بنعمه وثناؤه عليه وتمام مواظبته على طاعته، وأما شكر اللَّه تعالى أفعال عباده مجازاته إياهم عليها وتضعيف ثوابها وثناؤه بما أنعم به عليهم فهو المعطى والمثنى سبحانه، والشكور من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (17/ 134) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

حديث عائشة أخرجه البخاري في صحيحه (4837) كتاب تفسير القرآن، من سورة الفتح، باب قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)} [الفتح: 2]، ومسلم في صحيحه [81 - (2820)] كتاب صفات المناففين وأحكامهم، 18 - باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1130) كتاب التهجد، 6 - باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورم قدماه، عن المغيرة، ومسلم في صحيحه [79 - (2819)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 18 - باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، عن المغيرة.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1127) كتاب التهجد، 5 - باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل =

ص: 122

وفيه اهتمام شديد بأمرهما وحثهما على الصلاة والاستنكار لتركه وتعجب من الإخلال به

(1)

.

وروينا فيهما أيضًا من حديث سالم عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الرجل عبد اللَّه، لو كان يصلي من الليل"

(2)

.

قال سالم: فكان عبد اللَّه بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلًا.

فتمنى ذلك له، فدل على الاعتناء به وقد جَدَّ فيه، ومن حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا "يا عبد اللَّه لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل"

(3)

.

يحتمل إنه كان يقومه كله، فمل فترك ما وظَّفه على نفسه أو تركه جملة من باب من طلبه كله فاته كله، ويحتمل أنه ترك القيام، فلا تك مثله في الترك.

وروينا فيهما من حديث ابن مسعود قال: ذُكِرَ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح، قال:"ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه" أو قال: "في أذنه"

(4)

.

= والنوافل من غير إيجاب وطرق النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا. عليهما السلام. ليلة للصلاة، ومسلم في صحيحه [206 - (775)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 28 - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.

(1)

قال النووي في قوله: "سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: "{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} " المختار في معناه أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه، وقيل: قاله تسليمًا لعذرهما وأنه لا عتب عليهما، وفي هذا الحديث الحث على صلاة الليل وأمر الإنسان صاحبه بها وتعهد الإمام والكبير رعيته بالنظر في مصالح دينهم ودنياهم. [النووي في شرح مسلم].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1122) كتاب التهجد، 2 - باب فضل قيام الليل، ومسلم في صحيحه [140 - (2479)] كتاب فضائل الصحابة، 31 - باب من فضائل عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1152) كتاب التهجد، 19 - باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، ومسلم في صحيحه [185 - (1159)] كتاب الصيام 35 - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فَوَّت به حقًا أو لم يفطر العيدين والتشريق.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1144) كتاب التهجد، 13 - باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه، ورقم (3270) كتاب بدء الخلق، 11 - باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم في صحيحه [205 - (774)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 28 - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح.

قال النووي: اختلفوا في معناه فقال ابن قتيبة: معناه أفسده يقال بال في كذا إذا أفسده، وقال المهلب والطحاوي وآخرون: هو استعارة وإشارة إلى انقياده للشيطان وتحكمه فيه وعقده على قافية رأسه: عليك ليل طويل، وإذلاله له، وقيل: معناه استخف به واحتقره واستعلى عليه؛ يقال لمن استخف بإنسان وخدعه: بال في أذنه وأصل ذلك في دابة تفعل لك بالأسد إذلالًا له، وقال الحربي: معناه ظهر عليه وسخر منه. [النووي في شرح مسلم (6/ 57) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 123

يحتمل منعه ذلك عن القيام وذمَّه لتعاطي ما يُمكِّن به منه الشيطان حتى عطَّل عليه الخير العظيم.

ويحتمل أن نومه سبب بول الشيطان، وغير خاف أن بوله مفسد لقوة السمع النافع من قرآن وغيره، وإنها لمصيبة ما مثلها:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)} [الشعراء: 212].

ورواية البخاري مؤذنة بأن الرجل لم يُصلِّ العشاء نفسها. وروينا فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عُقد إذا نام بكل عقدة يضرب: عليك ليل طويل، فإذا استيقظ فذكر اللَّه انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس وإلَّا أصبح خبيث النفس كسلان"

(1)

.

قافية الرأس آخره.

والنشاط ذكر للترغيب في القيام، كما أن ضده للتنفير من تركه المفسدة بالخبث للنفس الباطنة وبالكسل للأعضاء الظاهرة.

وروينا في جامع الترمذي وقال حسن صحيح من حديث عبد اللَّه بن سلام قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام"

(2)

.

وما أحسن هذا وأجمعه للسعادتين الشامل لهما قوله جل جلاله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}

(3)

ناهيك به فوزًا.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1142) كتاب التهجد، 12 - باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل، ومسلم في صحيحه [207 - (776)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 28 - باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، وأبو داود في سننه (1306)، وابن ماجه (1329) وأحمد في مسنده (2/ 243)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 501، 3/ 15)، وابن خزيمة في صحيحه (1131).

(2)

أخرجه الترمذي في صحيحه (2485)، (3251)، وابن ماجه في سننه (1334)، والحاكم في المستدرك (3/ 131، 4/ 160) وأحمد مسنده (5/ 451)، وابن أبى شيبة في مصنفه (8/ 436)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 425)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1907) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (569).

(3)

سورة آل عمران (185).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [202 - (1163)] كتاب الصيام، 38 - باب فضل صوم المحرم، وأبو =

ص: 124

وروينا في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا: "صلاة الليل مثنى، فإذا خِفْتَ الصبح فأوتر بواحدة"

(1)

.

المراد الركعات، ويبعد إرادة الذكر والدعاء بدليل باقى الحديث.

وروينا فيهما من حديثه أيضًا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر، وكان لا تشاءُ أن تراه من الليل مصلِّيًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته"

(3)

.

فيحتمل كان يكثر منهما، ويحتمل أنه كان يفعل نشاطه.

وروينا فيه من حديث عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "كان يصلي إحدى عشرة ركعة يعني في الليل، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة"

(4)

.

وهذه الإحدى عشرة الظاهر أنها كانت صلاته كلها، ويحتمل أن يكون الوتر الذي خاتمه التهجد.

ويبعده حديث عائشة الآتي على الوتر.

= داود (2429)، والترمذي (74، 438)، والنسائي (3/ 207). المجتبى، وأحمد في مسنده (2/ 344، 535) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 291).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (990) كتاب الوتر، 1 - باب ما جاء في الوتر، ومسلم في صحيحه [147. (749)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 20 - باب صلاة الليل مثنى والوتر ركعة من آخر الليل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (995) كتاب الوتر، 2 - باب ساعات الوتر، ومسلم في صحيحه [157 - (749)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 20 - باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، والترمذي في سننه (461) في الصلاة، باب ما جاء في الوتر بركعة، وابن ماجه (1174، 1318)، والهيثمى في مجمع الزوائد (2/ 242).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1141) كتاب التهجد، 11 - باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ونومه، وما نسخ من قيام الليل، ورقم (1972) كتاب الصوم، 53 - باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره، وكذا رفم (1973)، ورقم (3561).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1123) كتاب التهجد، 3 - باب طول السجود في قيام الليل، والنسائي في قيام الليل باب (35)، وأحمد في مسنده (6/ 88) والبيهقي في السنن الكبرى (73، 44).

ص: 125

وروينا في الصحيحين

(1)

من حديثها أيضًا، قالت:"ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطُولهنَّ، ثم يصلي ثلاثًا"، قالت عائشة:"يا رسول اللَّه أتنام قبل أن توتر؟ "، فقال:"يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي".

وروينا فيهما أيضًا من حديثها أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي

(2)

.

وهو دال على أفضلية الأخير.

وفيهما أيضًا من حديث ابن مسعود قال: صلَّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت؟

قال: أن أجلس وأدَعَه

(3)

أي من الزيادة في التطويل.

وروينا في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنهما قال: صلَّيت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها

(4)

يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1147) كتاب التهجد، 16 - باب قام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره، ومسلم في صحيحه [125 - (738)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 17 - باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل وأن الوتر ركعة وأن الركعة صلاة صحيحة، والترمذي في سننه (439) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 496)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 384).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1146) كتاب التهجد، 15 - باب من نام أول الليل وأحيى آخره، ومسلم في صحيحه [139 - (746)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 18 - باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1135) كتاب التهجد، 9 - باب طول القيام في صلاة الليل، ومسلم في صحيحه [204 - (773)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 27 - باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

قال النووي: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار وأن لا يخالفوا بفعل ولا قول ما لم يكن حرامًا، واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود للتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. [النووي في شرح مسلم (6/ 56)].

(4)

قال القاضي عياض: فيه دليل من يقول: إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وكله إلى أمته بعده، قال: وهذا قول مالك وجمهور العلماء واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، قال ابن الباقلاني هو أصح القولين مع احتمالهما، قال: والذي نقوله: أن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين والتعليم وأنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم. [النووي في شرح مسلم (6/ 55) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 126

ركع فجعل يقول: "سبحان ربي العظيم" فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال:"سمع اللَّه لمن حمده" ثم قام طويلًا قريبًا مما ركع، ثم سجد فقال:"سبحان ربي الأعلى" فكان سجوده قريبًا من قيامه.

(1)

وروينا فيه أيضًا من حديث جابر قال: سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت"

(2)

.

المراد بالقنوت القيام لأن ذكره القرآن هنا، وهى أفضل الأذكار، وأربية الساجد لا تُعارضه فالمزية لا توجد الأفضلية، ويزيل أثر السهر والسآمة ما سبق من التسبيح والسؤال والاستعاذة، وكفى بذلك (أفضلية)

(3)

.

وروينا في الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: "أحب الصلاة إلى اللَّه صلاة داود صلى الله عليه وسلم وأحب الصيام إلى اللَّه صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سُدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا"

(4)

.

ووجهه أن بنومه السدس يذهب أثر السهر رأسًا.

وروينا في صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: "إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه خيرًا من أمر الدنيا والآخره إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [203 - (772)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 27 - باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [165 - (756)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 22 - باب أفضل الصلاة طول القنوت، والترمذي في سننه (387)، والنسائي (5/ 58 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1421) وأحمد في مسنده (3/ 302، 314)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 8)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 48)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 409)، وابن حبان في صحيحه (94 - الموارد)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 357).

(3)

في الأصل: "إحماضة" والتصويب واضح من السياق.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1131) كتاب التهجد، 7 - باب من نام عند السحر، ومسلم في صحيحه [189 - (1159)] كتاب الصيام، 35 - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فَوَّت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم، وأبو داود في سننه (2448)، وابن ماجه (1712)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 296) وأحمد في مسنده (2/ 206، 2/ 160)، والنسائي (3/ 214 - المجتبى)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 131).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [166 - (757)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 23 - باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، وأحمد في مسنده (3/ 313، 331)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 29)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 427).

ص: 127

ومن حديث أبي هريرة كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين

(1)

.

قلت: يحتمل أن تكون سنة الوضوء أو نافلة مطلقة أو من جملة العدد السالف.

ومثله حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين"

(2)

.

أخرجه مسلم أيضًا.

وروينا فيه أيضًا من حديثها قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة"

(3)

.

وإنما زاد واحدة على الإحدى عشرة من أجل أن صلاة النهار لا وتر فيها مروى.

ومن حديث عمر مرفوعًا: "من نام عن حزبه أو شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل"

(4)

.

قلت: ولا مانع من أن يراد بالقراءة الصلاة وبعد صلاة الفجر إنما تكره صلاة لا سبب لها.

وروينا في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "رحم اللَّه رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم اللَّه امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء"

(5)

لأنه مزيل للنوم، ولا شك في إجابة هذا الدعاء.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [198 - (768)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 26 - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، والترمذي (3420)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 166).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [197 - (767)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 26 - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [140 - (746)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها 18 - باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنها أو مرض، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 485)، وأحمد في مسنده (6/ 95، 258).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [142 - (747)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 18 - باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، وأبو داود في سننه (1313)، والترمذي (581)، والنسائي (3/ 259، 260 - المجتبى) وابن ماجه (1343)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 484، 485)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 7)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 326)، والشجري في أماليه (1/ 221).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (1308) كتاب الصلاة، باب قيام الليل، ورقم (1450) كتاب الصلاة، باب الحث على قيام الليل، والنسائي (3/ 205 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1336)، =

ص: 128

وروينا فيهما أيضًا بإسناد صحيح من حديثه، ومن حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعًا كُتب في الذاكرين والذاكرات"

(1)

.

وروينا في الصحيحين من حديث عائشة مرفوعًا: "إذا نعس أحدكم فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسُبَّ نفسه"

(2)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريوة مرفوعًا: "إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضطجع"

(3)

.

‌فصل في استحباب قيام رمضان ويحصل بالتراويح

روينا في الصحيحين من حديث أبي هريوة مرفوعًا: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه"

(4)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديثه أيضًا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه"

(5)

.

= وأحمد في مسنده (2/ 250، 436)، وابن حبان في صحيحه (647 - الموارد) وابن أبى شيبة في مصنفه (2/ 271)، وابن خزيمة في صحيحه (1148)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 428)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 120)، والتبريزى في مشكاة المصابيح (1230).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (1309) كتاب الصلاة، باب قيام الليل، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 81)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 429)، والتبريزى في مشكاة المصابيح (1238).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (212) كتاب الوضوء، 55 - باب الوضوء من النوم ومن لم ير من النعسة، والنعستين أو الحفقة وضوءًا، ومسلم في صحيحه [222 - (786)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 31 - باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، والترمذي (355)، وأحمد في مسنده (6/ 202).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [223 - (787)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 31 - باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، وأبو داود في سننه (1311)، والنسائي (1/ 215 - المجتبى) وابن ماجه (1372)، وأحمد في مسنده (2/ 279)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 16).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2009) كتاب صلاة التراويح، 1 - باب فضل من قام رمضان، ومسلم في صحيحه [173 - (759)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [174 - (759)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 25 - باب الترغيب =

ص: 129

‌فصل في فضيلة قيام ليلة القدر وبيان أرجى لياليها

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}

(1)

إلى آخر السورة، وسميت ليلة القدر - أي ليلة الشرف أو التي فيها المقادير الجسام

(2)

، وهى خير من ألف شهر لا من ألف ليلة مثلها، بل من ثلاثين ألفًا، والإذن لشرف البشر المعظم شأنهم، وكلها سلام إما كثرته، وإما السلامة من كل آفة، فهى طالع مقبل ووقت سعيد.

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}

(3)

الآيات، وهى ليلة القدر على الأصح.

وقيل: ليلة نصف شعبان، وسياق الآية يرده.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه"

(4)

ومن أرجى لياليها السبع الأواخر. أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر

(5)

، بل والعشر كلها كما أخرجاه من حديث عائشة

(6)

= في قيام رمضان وهو التراويح، وأبو داود في سننه (1371) كتاب رمضان 1 - باب قيام شهر رمضان، والترمذي في سننه (808) كتاب الصوم، باب الترغيب في قيام رمضان وما جاء من الفضل وأحمد في مسنده (2/ 281)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 492، 493)، وابن شيبة في مصنفه (2/ 395).

(1)

سورة القدر (1).

(2)

قال العلماء: وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)} [الدخان: 4]، وقوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4]، ومعناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علم اللَّه تعالى به وتقديره له، وقيل: سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها، وأجمع من يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة. [النووي في شرح مسلم (8/ 46) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة الدخان (3).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2014) كتاب فضل ليلة القدر، 1 - باب فضل ليلة القدر، ومسلم في صحيحه [175 - (760)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.

(5)

أخرجه البخاري (2015) كتاب فضل ليلة القدر 2 - باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، ومسلم في صحيحه [205 - (1165)] كتاب الصيام 40 - باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (2020) كتاب فضل ليلة القدر، 3 - باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر فيه عبادة، ومسلم في صحيحه [219 - (1169)] كتاب الصيام، 40 - باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها.

ص: 130

وأرجاها أوتاره كما في حديثها في صحيح البخاري

(1)

.

وقد قيل إنها في كل ليلة من ليالي العشر الأخير، لكن ليالي الوتر أرجاها.

فرع: ليلة القدر أفضل ليالي السنة، وهى مختصَّة بهذه الأمة ولم تكن لمن قبلنا.

وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر قال: "يا رسول اللَّه أخبرني عن ليلة القدر في زمن الأنبياء ينزل الوحي عليهم فاقبضوا رُفعت؟

قال: "بل هى إلى يوم القيامة"

(2)

.

فرع: علامتها أنها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، وأن الشمس تطلع في ذلك اليوم لا شعاع لها.

ثم قال: وقد روى في حديثين ضعيفين في صفة الهواء ليلة القدر فقال في أحدهما: "إنها ليلة سمحة لا حارة ولا باردة، تطلع شمس صبيحتها ضعيفة حمراء"، وفي الأخر معناه.

ثم روى من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة

(3)

قال: ذُقت ماء البحر ليلة سبع وعشرين، فإذا هو عذب.

فرع: قال الشافعى في القديم، ويجتهد في يومها كليلتها.

فرع: الحكمة في إخفائها اجتهاد الناس في طلبها رجاء إصابتها.

(1)

البخاري في صحيحه (2017) في كتاب فضل ليلة القدر، 3 - باب تحري ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 307)، والطحاوى في شرح معانى الآثار (3/ 85)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 177)، وابن عبد البر في التمهيد (2/ 213).

(3)

عبدة بن أبي لبابة، أبو القاسم الأسدي مولاهم الغاضرى، ويقال مولى قريش البزار الكوفي، ثقة، أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود في المسائل والترمذي، والنسائي وابن ماجه، توفي سنة (123) ترجمته: تهذيب التهذيب (6/ 461)، وتقريب التهذيب (1/ 530)، والكاشف (2/ 223)، وتاريخ البخاري الكبير (6/ 114)، وتاريخ البخاري الصغير (1/ 315، 327)، والجرح والتعديل (6/ 455)، وسير أعلام النبلاء (5/ 299)، وحلية الأولياء (6/ 112) الثقات (5/ 145)، روى مسلم في صحيحه [220 - (1169)] عن أُبَيِّ بن كعب وفيه "إنها ليلة سبع وعشرين فقلت: بأى شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة أو بالآية التى أخبرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنها تطلع يومئذ لا شعاع لها"، قال النووي: الشعاع بضم الشيم قال أهل اللغة هو ما يرى من ضوئها عند بروزها مثل الجبال والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت إليها، قال صاحب المحكم بعد أن ذكر هذا المشهور: وقيل: هو الذي تراه ممتدًا بعد الطلوع، قال: وقيل: هو انتشار ضوئها، وجمعه أشعة وشُعُع بضم الشين والعين قال القاضي: قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها اللَّه تعالى لها.

ص: 131

فرع: يُسنّ لمن رآها كَتْمُها، قاله الماوردي.

فرع: لا عبرة بمن شكَّ فادَّعى رفعها، ولا بمن قال لا يُمكنه رُؤيتها حقيقة.

والصواب بقاؤها إلى يوم القيامة، ورؤيتها حقيقة.

فرع: روينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله"

(1)

.

وظاهرة في نفي الهجوع أصلًا والنهي عن ذلك مخصوص يخرج عنه الليالي المنصوص عليها. وروينا في صحيح مسلم عنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره"

(2)

.

فرع: روينا في الترمذي عنها -أعني عائشة- وقال حسن صحيح: قلت: يا رسول اللَّه أرأيت إن علمت أي ليلة، ليلة القدر ما أقول فيها؟

قال: قولي: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني"

(3)

.

‌فصل في حكايات مناسبة لما نحن فيه

الأولى: كان علي بن الحسين

(4)

رحمه الله إذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده، وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة.

فقيل له: مَا لَكَ؟ فقال: ما ترون، بين يدي من أقوم ومن أناجي. ووقع حريق في بيت هو فيه، وهو ساجد فجعلوا يقولون له: النار، فما رفع رأسه حتى طُفِئَت.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2024) كتاب فضل ليلة القدر، 5 - باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، ومسلم في صحيحه [7 - (1174)] كاتب الاعتكاف 3 - باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان والنسائي (3/ 218 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 313)، وابن أبى شية في مصنفه (2/ 513)، وعبد الرزاق في مصنفه (7702، 7704).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (1175)] كتاب الاعتكاف، 3 - باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، والترمذي (796)، وابن ماجه (1767) وأحمد في مسنده (6/ 256)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 314).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (3513) كتاب الدعوات، باب (85)، والنسائي في الكبرى في النعوت باب العفو، وفي عمل اليوم واليلة (صـ 257)، باب ما يقول إذا وافق ليلة القدر، وأحمد في مسنده (6/ 171).

(4)

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين أبو الحسن، أبو محمد، أبو عبد اللَّه، الهاشمي، المدنى زين العابدين، القرشي الأكبر، ثقة ثبت، عابد فقيه، فاضل، مشهور، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (93، 94، 95)، ترجمته: تهذيب التهذيب (7/ 304)، وتقريب التهذيب (2/ 35)، والكاشف (2/ 282)، وتاريخ البخاري الكبير (6/ 266)، والجرح والتعديل (6/ 977) وتراجم الأخبار (3/ 109)، والثقات (5/ 159).

ص: 132

فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال النار الكبرى.

وقع ببعضهما الأكلة في رجله فوُصِفَ قطعها، وقيل: إن لم تُقطَعْ مات، فقيل: اتركوه حتى يدخل في الصلاة فإنه لا يحس بشيء، إذا دخل فيها.

فلما دخل قُطِعَت رجله، فلم يحس بها.

الثانية: سئل أبو حازم كيف تصلي؟

فقال: إذا قرب وقت الصلاة، أكملت الوضوء، واستقبلت القبلة، وأُمثّل الكعبة بين حاجبي والجنة عن يمينى، والنار عن شمالي والصراط تحت قدمي، واللَّه مطلع علي، وأظُنُّ أن صلاتي تلك لا أُصلي بعدها، وأُكبِّر بتعظيم، وأقرأ بتفكُّر، وأركع بتذلل، وأسجد بتواضع، وأُسلِم على التمام وأقوم على الوجل

(1)

، ثم لا أدري أتُقْبل مني أم يُضرَب بها وجهي.

قال له السائل: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة.

قال: وددت لو صليت في عمري صلاة واحدة مثل هذه وأكون من الفائزين.

الثالثة: عن العباس بن حمزة قال: صليت عند أبي يزيد صلاة الظهر، فلما أراد أن يرفع يديه ليكبر، لم يقدر إجلالًا لاسم اللَّه، فارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه، فهالني ذلك.

الرابعة: عن بعضهم قال: صلَّيت خلف ذي النون العصر، فقال: اللَّه، ثم بُهِتَ كأنه جسد ليس فيه روح من إجلاله تعالى، ثم قال: أكبر فظننت أن قلبي قد انخلع من هيبة تكبيره.

الخامسة: عن سماك بن حرب قال: لما نزل في عين ابن عباس الماء، فقيل له: نُعَاِلجك بشرط أن تترك الصلاة خمسة أيام.

فقال: لا واللَّه ولا ركعة واحدة، إني حُدِّثت أنه:"من ترك صلاة واحدة متعمدًا لقى اللَّه وهو عليه غضبان"

(2)

.

السادسة: عن عبد الواحد بن زيد

(3)

رحمه الله قال: نمت عن وردي ليلة،

(1)

وَجِل: خاف وفزع فهو أوجل، أوجله: أخافه.

(2)

أخرجه السيوطي في الدر المنثور (1/ 298) والطبراني في المعجم الكبير (11/ 294).

(3)

عبد الواحد بن زيد، أبو عبيدة، القاص، البصري العابد، أخرج له أحمد في المسند، قال ابن معين ليس بشيء، وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه انظر: الجرح والتعديل (6/ 107)، وتاريخ البخاري الكبير (6/ 62)، والثقات (7/ 124)، وسير الأعلام (7/ 178)، والمغني (3869)، وميزان الاعتدال (2/ 672).

ص: 133

فإذا أنا بجارية لم أر أحسن منها وجهًا عليها ثياب حرير خُضر، وفي رجليها نعلان يُسبحان، والزمامان يُقدِّسان وهي تقول: يا ابن زيد، جِدَّ في طلبي فإني طلبتك.

ثم جعلت تقول:

من يشترينى ومن يكن سكنى

يا من في ريحه من الغبن

قلت: ما ثمنك؟ فأنشأت تقول:

محبة اللَّه ثم طاعته

وطول فكر يُشَاب بالحزن

فقلت: لمن أنت؟ فقالت:

لمالك لا يرد لي ثمنًا

من خاطب قد أتاه بالثمن

قال الراوي: فانتبه عبد الواحد وآلى على نفسه أن لا ينام الليل، وكان من الجماعة الذين يصلون الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة من السلف الصالح رحمهم الله ونفعنا بهم.

السابعة: عن الشيخ أبي بكر الضرير رحمه الله قال: كان في جواري شاب حسن الوجه يصوم النهار ولا يُفطر، ويقوم الليل ولا ينام، فجاء يومًا وقال: يا أستاذ إني نمت عن وردي الليلة فرأيت كأن محرابي قد انشق، وكأني، بجواري قد خرجن من المحراب لم أر أحسن وجهًا منهُنّ، وإذا فيهنَّ واحدة سوها لم أر أقبح منها منظرًا.

فقلت: لمن أنتنَّ ولمن هذه؟

فقُلنّ: نحن لياليك التي مضين، وهذه ليلة يومك فلو مِت في ليلتك هذه لكانت هذه حظُك.

ثم أنشأت تقول:

اسأل لمولاك وأرددنى إلى حالى

فأنت قبحتنى من بين أشكالى

لا ترقُدنَّ الليالي ما حييت فإن

نمت الليالي مَهَنَ الدهر أمثالى

نحن السرور لمن نار السرور بنا

جوف الظلام بسكنى المنزل العالى

وقد أُردْت بخير إذا وُعِظتَ بنا

فأبشر فأنت من الموالى على بالى

قال: فأجابتها جارية من الحسان تقول:

أبشر بخير فقد نلت الغنى أبدًا

في جنه الخلد في روضات جنات

نحن الليالي اللواتي كنت تخطُبنا

جوف الظلام بلوعات وزفرات

(1)

(1)

زفر: زفرًا وزفيرًا: أخرج نفسه بعد مدَّه إياه.

ص: 134

أبشر فقد نلت ما ترجو من مَلِكٍ

بَرٍّ يجود بأفضال وفرجات

غدًا تراه غير محتجب

تدنى إليه وتحظى بالتحيات

قال: ثم شهق شهقة خرَّ ميتًا رحمة اللَّه عليه ونفعنا به آمين.

الثامنة: عن بعض العارفين قال: نمت عن حزبي فرأيت في المنام جارية حسناء لم أر أحسن منها وجهًا ولا أطيب منها ريحًا، فناولتني رقعة في يدها فقالت: اقرأ ما فيها، فقرأته فإذا هو:

لذذت بنومه عن خير عيش

مع الوالدان في غرف الجنان

تعيش مُخلَّدًا لا موت فيها

وتبقى الجنان مع الحسان

تيقظ من منامك إن خيرًا

من النوم التهجد بالقرآن

قال: فاستيقظت مرعوبًا، فواللَّه ما ذكرتها قط إلا طار نومي.

التاسعة: قال مُضر القاري: كان رجل من العباد قلَّ ما ينام بالليل فغلبته عيناه ذات ليلة، فنام عن حزبه، فرأى فيما يرى النائم كأن جارية وقفت عليه كأن وجهها القمر المستنير ومعها رق فيه كتاب.

فقالت: أتقرأ أيها الشيخ؟ قال: نعم، قالت: فاقرأ هذا الكتاب.

قال: فأخذته من يدها ففتحته، فإذا فيه مكتوب:

آلمتك لذة نوم عن نعيم غدًا

مع الخيِّرات في غرف الجنان

تعيش مُخلَّدًا لا موت فيها

وتنعم في الجنان مع الحسان

قال فواللَّه ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم.

العاشرة: عن أحمد بن أبي الحوارى رحمه الله قال: قال لي أبو سليمان الداراني: يا أحمد إني مُحدثك بحديث فلا تُحدِّث به حتى أموت، نمت الليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء نبَّهتنى وتقول: يا أبا سليمان أتنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ وسمعته يقول: بينما أنا ساجد إذ ذهب بي النوم، وإذا أنا بها يعنى الحوراء قد ركضتنى برجلها وقالت: حبيبي أترقُد عيناك، والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم بؤسًا لعين آثرت لذَّة نوم على مُناجاة العزيز. قُم فقد دنا الفراغ، ولقى المحبُّوبون بعضهم بعضًا، فما هذا الرقاد حبيبي وقُرَّة عيني، أترقد عيناك وأنا أُربي لك في الخدور

(1)

منذ كذا وكذا، فوثبت فزعًا وقد عرقت استحياء

(1)

الخدْرُ: كل ما وَاراك من بيت ونحوه، وستر يُمدُّ للمرأة في ناحية البيت. وجمعها: خدور، وأخدار.

ص: 135

من توبيخها إياي. وأنشدوا:

يجوع للإله لكي يراه

نحيل الجسم من طول الصيام

وقام لربه في الليل حتى

أضْنَ بجسمه طول القيام

ستُجزى في جنان الخُلد حُورًا

نواعم قاصرات في الخيام

وتلقوا مع حسان ناعمات

جوار اللَّه في دار السلام

الحادية عشرة: عن عبد اللَّه بن نافع رحمه الله قال: حدثنى أبو أيوب المقدسي أن امرأة من أهله كانت تجتهد في العبادة وتُديم الصيام وتُطيل القيام فأتاها الملعون فقال: إلى كم تُعذبين هذا الجسد، وهذه الروح لو أفطرت وقصرت عن الصلاة كان أدوم لك وأقوى.

قالت: فلم يزل يوسوس لي حتى هممت بالتقصير. ثم دخلت إلى مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُعتصمة بقبره، وذلك بين المغرب والعشاء فذكرت اللَّه وصلَّيت على رسوله، ثم ذكرت ما نزل بي من وسواس الشيطان واستغفرت اللَّه عز وجل أن يصرف عني كيده.

قالت: فسمعت صوتًا من ناحية القبر يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}

(1)

.

قالت: فرجعت مذعورة وجلة القلب، واللَّه ما عاودتني تلك الوسوسة بعد.

الثانية عشرة: عن بعض الملوك إنه كانت له جارية اسمها جوهرة فأعتقها، فمرت بأبي عبد اللَّه البراني وهو في كوخ له يتعبد، فتزوجت به وتعبَّدت معه فرأت في منامها خيامًا مضروبة فقالت: لمن ضُربت هذه الخيام؟

فقيل: للمجتهدين بالقرآن، فكانت بعد لا تنام، وكانت توقظ زوجها وتقول: يا أبا عبد اللَّه قد سارت القافلة.

وأنشدوا:

أراني بعيد الدار لا أقرب الحِمى

(2)

وقد نُصِبَت للسائرين خيام

علامة طردى طول ليلي نائم

وغيري يري أن المنام حرام

الثالثة عشرة: عن أحمد بن أبي الحوارى رحمه الله.

(1)

سورة فاطر (6).

أى هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6][انظر تفسير ابن كثير (3/ 565)].

(2)

الحِمَى: الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى.

ص: 136

قال: دخلت على أبي سليمان الداراني رحمه الله فوجدته يبكي، فقلت: ما يُبكيك؟

فقال: يا أبا أحمد ولم لا أبكي وإذا جنَّ الليل ونامت العيون وخلا كل حبيب بحبيبة، وافترشت أهل المحبة أقدامهم، وجوت دموعهم على خُدودهم، وقطرت من محاربهم، أشرف الجليل سبحانه وتعالى فنادى جبريل لهم يناديهم ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيبًا يُعذِّب أحباءه؟ أم كيف يجُمل أن أعذب أقوامًا إذا جنهم الليل تملقونى، فبي حلفت إذا وردوا على القيامة أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إليَّ وأنظر إليهم.

الرابعة عشرة: عن ذي النون المصري

(1)

: سمعت بعض المجتهدين بساحل الشام يقول: إن للَّه عبادًا عرفوه بيقين معرفته فشمَّروا قصدًا إليه احتملوا فيه المصائب لما يرجون عنده من الرغائب، صحبوا الدنيا بالأشجان وتنعَّموا فيها بطول الأحزان فما نظروا إليها بعين الرغائب وما تزودوا منها إلا كزاد الراكب، خافوا البيات فأسرعوا، ورجوا النجاة فأزمعوا، بذلوا مُهج أنفسهم في رضى سيدهم، نصبوا الآخرة نُصب أعينهم، لبسوا من اللباس أطمارًا بالية، وسكنوا من البلاد قفرًا خالية هربوا من الأوطان، واستبدلوا الوحدة من الأحزان فلو رأيتهم لرأيت قومًا قد ذبحهم الليل بسكاكين السهر وفصل أعضاءهم بخناجر التعب خمِص لطول السُّرَى، شُعثُ لفقد الكَرى، قد وصلوا الكلال بالكلال وتأهبوا النقلة والارتحال وفي مثلهم قال القائل:

أنت بالصدق قد خَبَرتَ رجالا

قد أطالوا البكاء إذا الليل طالا

وملأت القلوب منهم بنوره

من يقين اليقين يا من تعالا

وتوليتهم وكنت دليلًا

وكسوت الجميل منهم جمالا

فإذا الظلام جنَّ عليهم

وصلوا بالكلال منهم كلالا

عفَّرُوا بالتراب منهم وجوهًا

ذاك للَّه خشية وابتهالا

بما جدت للمنام منهم عيون

فاستطار المنام عنهم وزالا

الخامسة عشر: خرج عابد من عباد البصرة يشتري حزمة حطب، فسمع الإقامة

(1)

ذو النون المصري الزاهد رحمه الله اسمه ثوبان بن إبراهيم ويقال: أبو الفيضى بن أحمد ويقال ابن إبراهيم أبو الفيض، قال الدارقطنى: روى عن مالك أحاديث فيها نظر، وكان واعظًا وقال ابن يونس: كان عالمًا فصيحًا حكيمًا. أصله من النوبة. [تاريخ الإسلام وفيات (241 - 250)].

ص: 137

في بعض المساجد فمال إليه وترك السوق.

فرأى صرة في طريقه مكتوب عليها فيها مائة دينار فتركها وأقبل على صلاته، ثم رجع إلى السوق فاشترى حزمة الحطب ودخل بها بيته.

فلما حلَّها وجد الصرة فيها، فرفع رأسة إلى السماء وقال: اللهم كما لم تنس عبدك من رزقك فلا تنساه في وقت طاعتك وخدمتك، وجعل يقول: لو أقبلت في خدمته ونهيت نفسك عن معصيته ولِّيت لطائف إحسانه ونعمته.

وأنشدوا:

قلوب العارفين تحنُّ حتى

تحل بقربه في كل راج

(1)

صفت في ورد مولاها فليست

لها من ورد مولاها من براح

السادسة عشر: عن الشيخ مطهر السعدى أنه بكى شوقًا إلى اللَّه ستين سنة فرأى في النوم كأنه بجنب نهر يجرى بالمسك الأذفر

(2)

، حافتاه شجر اللؤلؤ، وقضبان الذهب، وإذا بجواري مزَّينات يقُلن بصوت واحد: سبحان المُسبَّح بكل لسان سبحانه.

سبحانه الموجود بكل مكان سبحانه، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه فقلت: من أنتنَّ؟ فقلن: من الرحمن سبحانه. فقلت: ما تصنعن؟ فقُلن:

برأنا إله الناس رب محمد

لقوم على الأقدام بالليل قُوَّمُ

يُناجون رب العالمين إلههم

فتسرى هموم القوم والناس نُوَّمُ

السابعة عشرة: عن الشيخ عبد الواحد بن زيد

(3)

قال: أصابتني علة في ساقي، فكنت أتحامل عليها في الصلاة فقمت عليها من الليل فأجهدت وجعًا، ثم لففت إزاري في محرابي ووضعت رأسي عليه ونمت فبينا أنا كذلك إذا أنا بجارية تفوق الدنيا حسنًا تخطر بين جوار مزيَّنات حتى وقفن عليَّ وهُنَّ خلفها فقالت لبعضهن: ارفعنه ولا توقظنه ففعلن فقالت لغيرهن: افرشن له، ومهدن ووطئن ووسدنه ففرشن تحتي سبع حشايا لم أر لهن في الدنيا مثيلًا ووضعن تحت رأسي مرافق خضرًا

(1)

راجت السلعة رواجًا: كثر طلابها.

(2)

زفر الشيء زفرًا، اشتدت رائحته فهو ذفر وهي ذفرة وهو أذفر وهي ذفراء.

(3)

قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سلمان: أصاب عبد الواحد الفالج فسأل اللَّه أن يطلقه في وقت الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ انطلق وإذا رجع إلى سريره فُلِجَ، وعن محمد بن عبد اللَّه الخزاعي قال: صلى عبد الواحد بن زيد الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة [تاريخ الإسلام وفيات (151 - 160)].

ص: 138

حسانا، ثم قالت للاتي حملنني اجعلنه على الفراش رويدًا لأنهجنه، فجُعلت على تلك الفراش.

ثم قالت: احففنه بياسمين فحففن به الفراش، ثم قامت إليَّ فوضعت يدها على موضع العلة التي كنت أجد، فمسحت ذلك المكان بيدها ثم قالت: قم شفاك اللَّه إلى صلاتك غير مضرور فاستيقظت واللَّه كأني نشطت من عقال فما اشتكيت تلك العلة بعد ليلتي تلك ولا ذهب من فمي حلاوة منطقها السالف.

ص: 139

‌مجلس في الحج

فيه آيات: الأولى: قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}

(1)

.

أي كفر بفريضته أو كفر بالآيات التي في المقام، واللام لام الاستحقاق، فهو تصريح بالوجوب والاستحقاق وذكر اسم الألوهية مع معنى وعموم وجوبه المتعلق بالناس كافة والاستطاعة معتبرة في وجوب مباشرته بالإجماع، لكنها مختلفة بين أهل الاتباع فعند الإمام مالك إنها حاصلة بقوة المشي عند الإطاقة، وعند الباقي الآية مظنة المشقة والطاقة. وقد روي عن سيد الأنام من طرق تفسيرها بالزاد والراحلة

(2)

وفيه مقنع لمن اعتبر ووالي وابتصر، وفرق بين استطاعة واستطاعة فيه. وذلك يصل إلى الحقيقة، وإضافة سبيله إلى البيت المفخم لعظم شأنه ومكانته ومكانه.

الثانية: قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}

(3)

.

(1)

سورة آل عمران (97).

هذه آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل: بل هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] والأول أظهر، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. [تفسير ابن كثير (1/ 385)].

(2)

روى الترمذي في سننه (812) كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ في ترك الحج، عن علي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا" وذلك أن اللَّه يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].

(3)

سورة الحج (27، 28).

أى نادي في الناس داعيا لهم إلى الحج هذا البيت الذى أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم، فقال: نادي وعلينا البلاغ، فقام على مقامه وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبى قبيس وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب اللَّه أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك. [تفسير ابن كثير (3/ 222)].

ص: 140

قال مجاهد: هى منافع الدنيا والآخرة.

وعن جماعات من السلف أنهم قالوا في تفسيرها: غُفر لهم ورب الكعبة، إذ المخاطب بهذه الآية إبراهيم، فقال: رب أين يبلغ نِداي؟ فقال تعالى: عليك النداء وعليَّ البلاغ.

فصعد إبراهيم على المقام وقال: عباد اللَّه أجيبوا داعي اللَّه. فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك داعي ربنا، لبيك.

فيقال: إنه لا يحج إلا من أجاب هذه الدعوة.

وروى إن أول من أجابه أهل اليمن.

وأول من حج آدم صلى الله عليه وسلم، حج أربعين سنة من الهند ماشيًا

(1)

، وما من نبي إلا حجَّه.

الثالثة: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}

(2)

.

أي قوامًا لهم في أمر دينهم ودنياهم، فلا يزال في الأرض دين ما حجَّت، وعندها المعاش والمكاسب.

وقال الحسن وغيره في قوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}

(3)

.

إنه طريق مكة.

والمعنى: أصدَّهم عن الحج.

ويؤيده ما روى عن أنس مرفوعًا: "إن لإبليس لعنه اللَّه شياطين ومردة يقول لهم: عليكم بالحجاج والمجاهدين، فأضلوهم عن السبيل"

(4)

.

(1)

قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] الآية قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيًا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبًا لأنه قدمهم في الذكر فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبًا أفضل اقتداء برسول صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكبًا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم[تفسير ابن كثير (3/ 222)].

(2)

سورة المائدة (97).

(3)

سورة الأعراف (16).

يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14]، واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد فقال:{فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} أي: كما أغويتني، قال ابن عباس: كما أضللتني، وقال غيره كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] أي: طريق الحق وسبيل النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياى. [تفسير ابن كثير (2/ 209)].

(4)

أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 215)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7/ 288)، =

ص: 141

الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}

(1)

يعنى مباركًا كثير الخير، وهذي متعبدهم وقبلتهم.

وقوله: {فِيهِ} أي في شأنه و {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125]

(2)

عطف بيان على آيات وقيل: إن الآيات: المقام والأمن، ومن آياته وقع هيبته في القلوب، وخشوع القلب عنده، وجريان الدموع لديه، وامتناع الطير من العلو والجلوس عليه، إلا أن يكون مريضًا فيجلس عليه مستشفيًا والحجر الأسود وحفظه وائتلاف الظباء والسباع فيه، وتتبعها في الحل، فإذا دخلت الحرم تركها.

والغيث إذا عم البيت كان عامًا، وإذا كان في جهة منه خصها، ولا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم، وإنما يخرج منه إلى الحل.

والجمار كل سنة على كثرتها تمتحق، ولا يؤذي في منى ذباب ولا حدأة.

واتساعها للخلق مع ضيقها، وتعجيل العقوبة لمن غشى كأصحاب الفيل

(3)

.

وقوله {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]

(4)

معناه من دخل على الصفا حصل على الوفا.

وقيل من دخله مع الشارع في عمرة القضاء.

قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}

(5)

الآية.

= والطبراني في المعجم الكبير (11/ 162) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (680).

(1)

سورة آل عمران (96، 97).

(2)

قوله تعالى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] أى: دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم وأن اللَّه عظمه وشرفه ثم قال تعالى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه، والجدران حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل وقد كان ملتصقًا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف. [تفسير ابن كثير (1/ 384)].

(3)

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} ، وهذه من النعم التي امتن اللَّه بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم اللَّه وأرغم آنافهم وخيب سعيهم وأضل عملهم وردهم بشر خيبة.

(4)

يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج.

(5)

سورة الفتح (27).

ص: 142

الخامسة: قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}

(1)

.

أي افعلوهما على التمام.

السادسة: قوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}

(2)

أي تحن، ولو حذف المضاف من لهجة (الملل)

(3)

.

ويروى أن الجليل جل جلاله يلحظ الكعبة في كل عام لحظة في نصف شعبان. فعند ذلك تحن إليه قلوب المؤمنين.

وقيل: سببها أن الرب تعالى أخذ الميثاق من بني آدم يعرفه فاستخرجهم هناك من صُلب أبيهم ونثرهم بين يديه كهيئة الذر، ثم كلمهم فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}

(4)

وكتب أقدارهم في رق وأشهد فيه بعضهم على بعض ثم ألقمه الحجر الأسود. ومن أجل ذلك استحب لموافيه

(5)

أن يقول: "اللهم إيمانًا بك ووفاء بعهدك"

(6)

وهذا ينزع إلى معنى حب الأوطان، فإنها دلت على أن ذلك أول الأوطان وقد قيل:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدًا لأول منزل

وقيل لذي النون المصرى: أين أنت من قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ؟ قال كأنه بأذني.

(1)

سورة البقرة (196).

(2)

سورة إبراهيم (37).

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال:{مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] فاختص به المسلمون.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

سورة الأعراف (172).

روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: أخرج اللَّه ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذى من الماء. وقال أيضًا بسنده عن ابن عباس: إن اللَّه مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفي به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يُقرّبه لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة [تفسير ابن كثير (2/ 268)].

(5)

روى البخاري في صحيحه (1603) كتاب الحج، 56 - باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثًا، عن ابن عمر قال:"رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخُبُّ ثلاثة أطواف من السبع".

(6)

أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 240) والزبيدي في الإتحاف (4/ 349).

ص: 143

ويروى أن اللَّه تعالى أوحى إلى الكعبة عند بنائها: "إني خالق بشرًا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه، ويذفون إليك ذفيف

(1)

النشور".

قالوا توق رجال الحي أن لهم

عينًا عليك إذا ما نمت لم تنم

إن كان سفك دمى (أغلي)

(2)

مرادهم

فما غلت نظرة منهم بسفك دمى

واللَّه لو علمت نفسي بمن هويت

سارت على رأسها فضلًا عن القدم

غيره

ما بال قلبي لا يقر سببه

ذكر الحجاز أثم مغناطيسة

غيره

ما بال قلبي لا يقر قراره

حتى يقضى من منى أوطاره

ما ذاك إلا أنه من شوقه

يسبيه من وادي الحمى تذكاره

يا سائق الأضعان إن جزت الحمى

سلِّم على من بالمحصب

(3)

داره

واشرح له ما يلتقي مشتاقة

من فرط شوق أحرقته ناره

يصبو إذا ذكر الحطيم وزمزم

والركن والبيت المكرم جاره

ويهيم من شوق يفتت كبده

إذ عز ملقاة وطال مزاره

وأما الأحاديث فكثيرة نذكر منها ثمانين حديثًا:

صح: "إن الإسلام بني على خمس"

(4)

منها الحج.

وصح: "إن أفضل الأعمال حج مبرور"

(5)

بعد الإيمان والجهاد والمبرور المتقبل.

(1)

ذف الطائر ذفًا وذفيفًا: أسرع، والذفيف السريع الخفيف.

(2)

في بالأصل "أقلعي".

(3)

روى البخاري في صحيحه (1766) كتاب الحج، 148 - باب المحصب، عن ابن عباس قال:"ليس المحصب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقبله في رقم (1765) عن عائشة: "إنما كان منزلًا ينزله النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه". تعنى بالأبطح.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (8) كتاب الإيمان 2 - باب دعاؤكم إيمانكم لقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} ، ومسلم في صحيحه [19 - (16)]، (20، 21، 22) كتاب الإيمان، 5 - باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، والترمذي (2609)، وأحمد في مسنده (2/ 26، 93) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 358، 4/ 81)، والحميدي في مسنده (703)، وابن خزيمة في صحيحه (308، 309)، وابن عبد البر في التمهيد (9/ 246) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 229).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (26) كتاب الإيمان، باب من قال إن الإيمان هو العمل، السيوطي في الدر المنثور (1/ 210) ومسلم في صحيحه [135 - (83)] كتاب الإيمان، 36 - باب بيان كون =

ص: 144

إذا حججت بمال أصله سحت

فما حججت ولكن حجت العير

لا يقبل اللَّه إلا كل طيبة

ما كل من حج بيت اللَّه مبرور

وصح أيضًا: "من حج للَّه" وفي رواية "واعتمر فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"

(1)

وصح أيضًا: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"

(2)

.

وصح أيضًا: "الحج يهدم ما قبله"

(3)

.

وصح أيضًا: "الحج المبرور يكفر خطايا سنة"

(4)

.

وصح أيضًا: "أفضل الجهاد حج مبرور"

(5)

.

وصح أيضا: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة"

(6)

. وفي لفظ: "متابعة ما بينهما يزيد في العمر والرزق" وصح: "أن اللَّه تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يغد إلى الحرم لمحروم"

(7)

.

= الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1521) كتاب الحج، 4 - باب فضل الحج المبرور والنسائي (5/ 114 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (2889)، وأحمد في مسنده (2/ 410) والحميدي في مسنده (1004)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 143، 8/ 126)، والشجري في أماليه (2/ 67)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 136)، والتبريزى في مشكاة المصابيح (2507).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1773) كتاب العمرة، 1 - باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها. ومسلم في صحيحه (437) كتاب الحج، والترمذي في سننه (933)، والنسائي (5/ 112، 115 - المجتبى) وابن ماجه في سننه (2888)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 343).

(3)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 163)، وابن خزيمة في صحيحه (2515)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 210).

(4)

أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (2/ 442).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1520) كتاب الحج، 4 - باب فضل الحج المبرور ورقم (1861) كتاب جزاء الصيد، 26 - باب حج النساء ورقم (2784) كتاب الجهاد والسير، 1 - باب فضل الجهاد والسير، ورقم (2875)، 6 - باب جهاد النساء وكذا رقم (2876).

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (810) كتاب الحج، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة والنسائي في الحج، 6 - باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة، وابن ماجه في سننه (2887)، وأحمد في مسنده (1/ 25، 387)، وابن حبان في صحيحه (967 - الموارد)، وابن خزيمة في صحيحه (2512) وأبو نعيم في حليه الأولياء (4/ 110)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 165، 188) والزبيدي في الإتحاف (4/ 406).

(7)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 262).

ص: 145

وصح أيضا: "وفد اللَّه تعالى ثلاثة: الحاج والمعتمر والغازي"

(1)

.

وصح: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي"

(2)

.

وجاء: "إن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل اللَّه، الدرهم بسبعمائة ضعف"

(3)

.

وجاء: "ثلاثة أصوات يباهي اللَّه بهنَّ الملائكة الأذان، والتكبير في سبيل اللَّه، ورفع الصوت للتلبية، وما من رجل يضع ثوبه وهو محرم فتصيبه الشمس حتى تغرب إلا غربت بذنوبه"

(4)

.

وصح: "من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة لا يضع قدمًا ويرفع أخرى إلا حطَّ اللَّه بها عنه خطيئة وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة وكان كعدل رقبة"

(5)

.

وجاء: "من طاف بهذا البيت سبعًا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب ماء زمزم غُفرت له ذنوبه بالغة ما بلغت"

(6)

.

وصح: "إن الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضًا من الثلح فسودته خطايا بني آدم، ويبعث يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق، وإن الرُّكن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن اللَّه طمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب"

(7)

.

(1)

أخرجه النسائي في الحج، وكذا في الجهاد باب (11)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 262) وابن خزيمة في صحيحه (2511)، والحاكم في المستدرك (1/ 441)، وابن حجر في المطالب العالية (1088)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 327)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 475).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [222 - (1256)] كتاب الحج، 36 - باب فضل العمرة في رمضان، وأبو داود (1988) كتاب المناسك، 79 - باب العمرة والترمذي في سننه (939) كتاب الحج، باب ما جاء في عمرة رمضان، وابن ماجه في سننه (2991 - 2995) كتاب المناسك، 45 - باب العمرة في رمضان.

(3)

أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (5/ 355)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 332)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 180).

(4)

أخرجه ابن حجر في المطالب العالية (1086).

(5)

أخرجه أحمد في مسنده (2/ 95)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 392)، والحاكم في المستدرك (1/ 489)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 573، 359) والعجلوني في كشف الخفا (2/ 358)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 241).

(6)

أخرجه ابن القيسراني في تذكرة الموضوعات (843).

(7)

أخرجه النسائي (5/ 226 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (1/ 307، 329، 373)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 195)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 276)، والعجلوني في كشف الخفا =

ص: 146

وجاء: "ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة"

(1)

.

و"الملتزم يُستجاب فيه الدعاء"

(2)

.

و"النظر إلى البيت عبادة، ومن دخله دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورًا له"

(3)

.

وصح: "ماء زمزم طعام طُعم وشفاء سُقم، وإنه لِمَ شُرب له"

(4)

.

وجاء: "إن الطواف بين الصفا والمروة تعدل عتق سبعين رقبة".

وجاء: "من أحيا الليالي الأربع، وجبت له الجنة ليلة الرويَّة

(5)

، وليلة عرفة، وليلة الفطر، وليلة النحر"

(6)

.

وصح: "ما من يوم أكثر أن يعتق اللَّه فيه عبدًا من النار من يوم عرفة. وإنه ليدنو ثم يباهى بهم ملائكته يقول: ما أراد هؤلاء"

(7)

.

وجاء: "ما رُئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر، ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام

(8)

إلا ما رُئي يوم بدر فإنه رأى جبريل نزع الملائكة" أي يقودهم.

= (1/ 417)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 242)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 362).

(1)

أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 156).

(2)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (4/ 353).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (9173، 9174).

(4)

أخرجه ابن ماجه في سننه (3062)، وأحمد في مسنده (3/ 357)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 202، 248)، والحاكم في المستدرك (1/ 473)، والدارقطني في سننه (2/ 289)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 210)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 221)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 248).

(5)

يقصد بها ليلة يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة.

(6)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (3/ 410، 5/ 206)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (522).

(7)

أخرجه النسائي في الحج، باب (188)، وابن ماجه في سننه (3014) كتاب المناسك، 56 - باب الدعاء بعرفة، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 204)، والدارقطني فى سننه (2/ 301)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 366).

(8)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 201)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 271)، والتبريزى في مشكاة المصابيح (3600) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 228)، ومالك في الموطأ (422)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 240)، والقرطبي في التفسير (2/ 419، 8/ 27).

ص: 147

وصح أيضًا: "ما من يوم أفضل عند اللَّه من يوم عرفة ينزل اللَّه تعالى إلى سماء الدنيا فيُباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي شُعثًا ضاحين جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة"

(1)

.

وصح أيضًا: "إن العبد إذا وقف بعرفة فإن اللَّه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي شُعثا غُبرًا، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإن كانت عدد قطر الماء، ورمل عالج"

(2)

.

وجاء: "أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير يوم الجمعة"

(3)

.

وجاء: "إذا كان يوم عرفه يوم جمعة غَفَرَ اللَّه لجميع أهل الموقف".

وصح: "أفضل الأيام عند اللَّه يوم النحر

(4)

، ويوم النفر"

(5)

.

وجاء: "إن رامى الجمار لا يدري ما له حتى يوفاه يوم القيامة".

وصح: "إن للحالق بكل شعرة سقطت من رأسه نورًا يوم القيامة".

وجاء: "أنه صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًا منهم موسى، وإن به دُفِنَ آدم وقُبِرَ سبعين نبيًا"

(6)

.

‌فصل

روينا من حديث ابن عباس أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن فريضة اللَّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 58) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 200)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 227)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (40/ 438)، والسيوطي في الحبائك في الملائك (140)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 253).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 58) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 200، 205) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 227)، وفي الحبائك في الملائك (140)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 438)، والبيهقي في الأسماء والصفات (210).

(3)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (4/ 274).

(4)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (1044 - الموارد) والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 35)، والشجري في أماليه (2/ 77).

(5)

كذا بالأصل.

(6)

أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 297)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 185)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 453).

ص: 148

"نعم"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث لقيط بن عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعن، قال:"حج عن أبيك واعتمر"

(2)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

فإن قلت هذا أمر استئذان فهو للإباحة.

قلت: إن سَلِم فهو لإباحة النيابة، ثم النيابة مُشعرة بالموجب.

وروينا عن السائب بن يزيد قال: "حج بي أبي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين"

(3)

رواه البخاري.

وروينا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالروحاء فقال: "مَنْ القوم" فقالوا: المسلمون فقالوا: مَنْ أنت؟ قال: "رسول اللَّه".

فرفعت إليه امرأة صبيًا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1513) كتاب الحج، 1 - باب وجوب الحج وفضله ورقم (1854) كتاب جزاء الصيد، 23 - باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، ورقم (1855) 24 - باب حج المرأة عن الرجل ورقم (4399) كتاب المغازى، 79 - باب حجة الوداع، ورقم (6228) كاب الاستئذان، 2 - باب قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآية، ومسلم في صحيحه [407 - (1334)] كتاب الحج، 71 - باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما أو للموت.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (930) كتاب الحج، باب منه - ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت، وأبو داود في سننه (930) كتاب المناسك 25 - باب الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه (2904، 2906) والنسائي (5/ 111، 317، 8/ 229 - المجتبى) والحاكم في المستدرك (1/ 481)، وأحمد في مسنده (1/ 244، 4/ 10، 11، 12)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 329)، وابن خزيمة في صحيحه (3035، 3040)، وابن حبان في صحيحه (961 - الموارد)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 18)، والتبريزى في مشكاة المصابيح (2528).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1858) كتاب جزاء الصيد، 25 - باب حج الصبيان، والترمذي في سننه (925) كتاب الحج، باب ما جاء في حج الصبي، وقال الترمذي: وقد أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك، لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلًا، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [409 - (1336)] كتاب الحج، 72 - باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، وأبو داود في سننه (1736) كتاب المناسك باب في الصبي يحج، والترمذي في سننه (924) كتاب الحج، باب ما جاء في حج الصبي، والنسائي (5/ 121 - المجتبى) وابن ماجه في سننه (2910) كتاب المناسك، 11 - باب حج الصبي، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ =

ص: 149

أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم حجُّ على رحلٍ وكانت زامِلتَهُ"

(1)

.

رواه البخاري.

وروينا فيه عن ابن عباس قال: كانت عكاظُ ومجنَّةُ وذُو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن يتَّجروا في الموسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] أي في مواسم الحج

(2)

.

‌فصل ما بين المسجدين والمدينة ومسجدها وما يتعلق بذلك

ثبت في صحيح مسلم

(3)

أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها"

(4)

.

وجاء: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليَّ فأسكني في أحب البلاد إليك".

وصح: "إنما المدينة كالكير تنفي خبثًا ويَنْصعُ طيَّبُها"

(5)

.

وصح أيضًا: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلُمّ إلى الرَّخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده، لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف اللَّه فيها خيرًا منه أي إن المدينة كالكير، تُخرج الخبيث، لا

= 219، 244)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 155، 156)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 52، 414)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 96، 8/ 295)، ومالك في الموطأ (422).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1517) كتاب الحج، 3 - باب الحج على الرحل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4519) كتاب تفسير القرآن، من سورة البقرة، 34 - باب {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} .

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [232 - (146)] كتاب الإيمان، 65 - باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين، وابن ماجه (3986، 3988)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 278)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (159).

(4)

انظر تخريجه أوله، وقد روى البخاري (176) كتاب فضائل المدينة، 6 - باب الإيمان يأرز إلى المدينة، عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها".

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (7209) كتاب الأحكام، 45 - باب بيعة الأعراب، ورقم (7322) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 16 - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم في صحيحه [489 - (1383)] كتاب الحج، 88 - باب المدينة تنفي شرارها، والترمذي (3920) كتاب المناقب، باب في فضل المدينة، والنسائي (7/ 151 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 385).

ص: 150

تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد"

(1)

.

وصح أيضًا: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدَّتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا"

(2)

.

وصح أيضًا: "من أراد أهلها -يعنى المدينة- بسوء أذابه اللَّه تعالى كما يذوب الملح في الماء"

(3)

.

وصح أيضًا: "لا يكيد أهل المدينة أحدا إلا انماع كما ينماع الملح في الماء"

(4)

وصح أيضًا: "إن إبراهيم حرَّم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يُقطع عضاهُها، ولا يُصاد صيدها ولا يحدث فيها حدث

(5)

من أحدث حدثًا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين

(6)

اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وأنا عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه"

(7)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [487 - 13811)] كتاب الحج، 88 - باب المدينة تنفي شرارها.

قال النووي: قال القاضي: الأظهر أن هذا مختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يصبر عن الهجرة والمقام معه إلَّا من ثبت إيمانه، وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال ذلك الأعرابي الذي أصابه الوعك أقلني بيعتي هذا كلام القاضي وهذا الذي ادعى أنه الأظهر ليس بالأظهر لأن هذا الحديث الأول في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد وهذا واللَّه أعلم في زمن الدجال. [النووي في شرح مسلم (9/ 130) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [484 - (1378)] كتاب الحج، 86 - باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، والترمذي في سننه (3924) كتاب المناقب باب في فضل المدينة، وأحمد في مسنده (2/ 133، 439)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 219)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 428)، والتبريزى في مثسكاة المصابيح (2730) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 347).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [493 - (1386)] كتاب الحج، 89 - باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللَّه، وابن ماجه في سننه (3114)، وأحمد في مسنده (2/ 357، 279)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 238).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1877) كتاب فضائل المدينة، 7 - باب إثم من كاد أهل المدينة.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [458 - (1362)] كتاب الحج، 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة وبيان تحريمها.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [463 - (1366)] كتاب الحج 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [473 - (1373)] كتاب الحج، 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها، والترمذي في سننه (3454) كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا رأى باكورة من الثمر.

ص: 151

وصح أيضًا: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور"

(1)

.

وصح أيضًا: "اللهم بارك لنا في تمرنا ومُدَّنا وصاعنا ومدينتنا"

(2)

.

وجاء أيضًا: "غبار المدينة شفاء من الجذام"

(3)

.

والمدينة فيها قبري وبها بيتي وتربتي وحق على كل مسلم زيارتها

(4)

.

وصح أيضًا: "إن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها"

(5)

.

وصح أيضًا: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"

(6)

.

وصح أيضًا: "لا يدخلها رُعبُ المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان وسماها اللَّه طابة"

(7)

وفي لفظ "طيبة ومن سماها يثرب فليستغفر اللَّه".

وصح أيضًا: "من ظلم أهل المدينة أو أخافهم فأخفه وعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا"

(8)

.

وجاء: "أول من أشفع له من أمتى يوم القيامة أهل المدينة وأهل الطائف"

(9)

.

وجاء: "رمضان في المدينة خير من ألف رمضان فيما سواه من البلدان"

(10)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [467 - (1370)] كتاب الحج، 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [473 - (1373)] كتاب الحج، 85 - باب فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها.

(3)

أخرجه العجلوني في كشف الخفا (2/ 101).

(4)

انظر ابن عدي في الكامل (5/ 1762) والهيثمى في المجمع (3/ 310).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1876) كتاب فضائل المدينة، 6 - باب الإيمان بأرز إلى المدينة، ومسلم في صحيحه [233 - (147)] كتاب الإيمان، 65 - باب أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وأنه يأرز بين المسجدين، وابن ماجه في سننه (3111)، وأحمد في مسنده (2/ 286).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (1880) كتاب فضائل المدينة، 9 - باب لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم في صحيحه [485 - (1379)] كتاب الحج 87 - باب صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه (1879) كتاب فضائل المدينة، 9 - باب لا يدخل الدجال المدينة، ورقم (7124)، (7126) كتاب الفتن، 27 - باب ذكر الدجال.

(8)

أخرجه بنحوه مسلم في صحيحه [468 - (1370)] كتاب الحج، 85 - باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها.

(9)

أخرجه ابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 377)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 428).

(10)

أخرجه المنذري في الترغيب والرهيب (2/ 216)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 301)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 359).

ص: 152

وصح: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"

(1)

.

وصح: "إن مسجد المدينة هو الذي أُسس على التقوى وإن صلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه بمائة ألف صلاة فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد"

(2)

.

وجاء: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة كتب له براءة من النار، وبراءة من العذاب، وبرئ من النفاق"

(3)

.

وصح: "من أتى مسجدى هذا لم يأته إلا لخير يتعلَّمه أو تعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل اللَّه، وما جاء لغير ذلك لهو بمنزلة الراحل إلى متاع غيره".

وجاء: "من خرج على طُهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة"

(4)

.

وصح: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"

(5)

.

وجاء: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"

(6)

، "ومن جاءني زائرًا لا يعلم حاجة

(1)

أخرجه البخاري في صححيحه (2/ 76، 77، 3/ 25، 26)، ومسلم في صحيحه [511 - (1397)] كتاب الحج، 95 - باب لا تشد الرحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد، وأبو داود في سننه (2033)، والترمذي فى سننه (326)، والنسائي (2/ 73 - المجتبى)، وابن ماجه (409، 2410)، وأحمد في مسنده (2/ 234) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 244)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 310).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [507 - (1394)] كتاب الحج، 94 - باب فضل الصلاة بمَسْجِدَيْ مكة والمدينة، والنسائي في سننه (5/ 213 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 16، 53، 54)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 83)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 214).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 155)، والمنذري في الترغيب (2/ 215)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 8) والزبيدي في الإتحاف (3/ 16، 4/ 415)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (364).

(4)

أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (8/ 379).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1195، 1196) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 5 - باب فضل ما بين القبر والمنبر، ورقم (1888) كتاب فضائل المدينة، 13 - باب الذي يلي باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، ورقم (6588) كتاب الرقاق، 53 - باب في الحوض، ورقم (7335) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، 16 - باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحضَّ على اتفاق أهل العلم، ومسلم في صحيحه [502 - (1391)] كتاب الحج، 92 - باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة.

(6)

أخرجه الدارقطني في سننه (2/ 278)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 2)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 267)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 417، 10/ 363).

ص: 153

إلا زيارتي كان حقًا عليَّ أن أكون شفيعًا له يوم القيامة"

(1)

، ولا عذر لمن كان له سعة من أمته ولم يزره.

"وما من أحد يسلم علي إلا رد اللَّه علي روحي حتى أرد عليه السَّلام

(2)

ومن صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى علي ثانيًا بلغته"

(3)

.

"ومن حج وزار قبرى بعد موتى كان كمن زارني في حياتي ومن لم يزر قبرى فقد جفاني، ومن زارني أتى المدينة متعمدا كان في جواري إلى يوم القيامة"

(4)

.

"ومن مات في أحد الحرمين بُعث من الأمنين يوم القيامة، واستوجب الشفاعة"

(5)

.

"ومن زارني كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة"

(6)

.

وصح: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن يموت بها"

(7)

.

وجاء: "يبعث من مقبرة البقيع سبعون ألفًا على صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب"

(8)

.

و"أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكون أول من يبعث، فأخرج أنا وأبو بكر وعمر إلى أهل البقيع فيبعثون، ثم يبعث أهل مكة"

(9)

و"إن مقبرة تُضئ لأهل السماء

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 291).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2041) كتاب المناسك، باب زيارة القبور، وأحمد في مسنده (2/ 527)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 245)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 162)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 499).

(3)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (3/ 289، 10/ 365) والتبريزي في مشكاة المصابيح (934)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 219)، وفي الملائك في الحبائك (99).

(4)

أخرجه السيوطي في الدر المنثور (1/ 237)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 338، 382)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 172).

(5)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (4/ 416)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 55، 1/ 237).

(6)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 224).

(7)

أخرجه الترمذي في سننه (3917) كتاب المناقب، باب في فضل المدينة، وابن ماجه في سننه (3112) كتاب المناسك، باب فضل المدينة، وابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 179)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 285، 428)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 223)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 312)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 245)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2750).

(8)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (9/ 388، 10/ 567) القول المسدد لابن حجر (9)، وعبد الرزاق بنحوه في مصنفه (6731).

(9)

أخرجه الترمذي (3692) كتاب المناقب باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأحمد في مسنده =

ص: 154

كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا".

و"من دفناه في مقبرتنا هذه شفعنا له".

وصح: "إن الصلاة في مسجد قباء كعمرة"

(1)

.

وجاء: "من توضأ فأحسن وضوءه ثم ركع فيه أربع ركعات، كان ذلك عدل عتق رقبة"

(2)

.

وصح في أُحد "إنه جبل يُحُبنا ونحبه"

(3)

.

وورد: "من مات إثر حجة أو عمرة، أو عقب رمضان أو غزو، مات شهيدًا".

وصح: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج"

(4)

.

كفى شرفًا أني مضاف إليكم

وأني بكم أدعى وأرعى وأعرف

وأما الحكايات: فخمسون حكاية بزيادة.

الأولى: حج رجل من أهل الصلاح فرأى في منامه كأن أعمال الحج تعرض على اللَّه تعالى، فقيل: فلان قال: يُكتب حاجًا، فقيل: وفلان.

قال: تاجر. أعنى بلغ إليه. فقال: يُكتب تاجرًا. فقمت من نومى فقلت: ولِمَ ولست بتاجر؟ فقال: بلى، حَملت كبَّة غزل تبيعها على أهل مكة.

الثانية: جاء بعض الناس إلى بعض السلف فقال: أريد الحج، فقال: كم معك؟ قال: ألفا درهم. قال: أما حججت؟ قال: بلى، قال: فأنا أدُلَّك على أفضل من الحج،

= (1/ 281، 3/ 2، 33)، والحاكم في المستدرك (2/ 465)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 442)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 278، 424)، وابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 98، 135)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 126)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 198).

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (324) في الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، والحاكم في المستدرك (1/ 487)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 277، 278)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 425).

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/ 91) والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 11).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 152)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 106)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 13)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 165)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 230).

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 261) والحاكم في المستدرك (1/ 441)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 167)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 213)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 210)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 114) وابن خزيمة في صحيحه (2516)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 275)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 269).

ص: 155

اقض دين مدين، فرِّج عن مكروب، فسكت. قال: مالك؟ قال: ما أريد إلا الحج. قال: إنما تريد أن تركب وتجئ

(1)

، ويقال: قد حج فلان.

ويروى مرفوعًا: "يأتي على الناس زمان يحج أغنياء أمتي للنزهة، وأوساطهم للتجارة وفقراؤهم للمسألة وقُراؤهم للرياء والسمعة".

الثالثة: خرجت أم أيمن بنت عليٍّ امرأة الشيخ أبي علي الروذباري من مصر وقت خروج الحاج إلى الصحراء، والجمال تمر بها، وهى تبكي وتقول: واضعفاه وتنشد على إثر قولها:

فقلت دعوني واتباعى ركابكم

أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد

وما بال رغمى لا يهون عليهم

وقد علموا أن ليس لي منهم بُد

وتقول: هذه حسرة من انقطع عن البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن رب البيت.

وللشريف الرضي رحمه الله:

خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى

فلاقى به ليلًا نسيم رُبى

(2)

فإن بذاك الحي حيًّا عهدته

وبالرغم مني أن يطول به عهدي

ولولا تداوي القلب من ألم الهوى

بذكر تلاقينا قضيت من الوجد

(3)

شممت بنجد شيحه حاجريه

فأمطرتها دموعي وأرشتها خدي

ولي لمجلوب لي الشوق كلما

تنفس بالك أو تألم ذو وجد

تعرص رسل الشوق والركب فأجد

فيوقظهم من بين نوامهم وجدي

وما شرب العشاق إلا بقيتي

ولا وردوا في الحب إلا على وِرْدِي

الرابعة: حكي عن بعض السلف أنه قال: جاءني صاحب لي فقال: رافقني رجلًا ترضاه لمرافقتي فجئته برجل له صلاح ودين. فلما كان يوم الرحيل جعل

(1)

في حديث "إنما الأعمال بالنيات" قال النووي: أجمع المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده قال الشافعي وآخرون: هو ثلث الإسلام وقال الشافعي يدخل في سبعين بابا من الفقه، وقال آخرون هو ربع الإسلام، وقال جماهير العلماء: تقرير هذا الحديث أن الأعمال تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية، وفيه دليل على أن الطهارة وهى الوضوء والغسل والتيمم لا تصلح إلَّا بالنية، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات. [النووي فى شرح مسلم (13/ 47) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

الرابية: ما ارتفع من الأرض، جمعها روابٍ وربا الشيء ربوًّا: علا وارتفع.

(3)

وَجدَ فلان وجدًا: حزن.

ص: 156

الرفيق يبكي فقال: ليس هذا برفيق قد ابتدأ بالبكاء فقال الباكي: إني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة.

فقال: هذا كان ينبغي له مرافقة داود الطائي

(1)

وأشباهه.

فحجَّا ثم رجعا، فجئت أُسلم على صاحبي فقال: جزاك اللَّه يا أخي خيرًا، ما رأيت مثل هذا الرفيق؛ كان يتفضل عليَّ في النفقة وهو معدوم، وأنا موسر وفي الخدمة، وأنا شاب وهو شيخ ويطبخ لي وأنا مُفطر وهو صائم، ولقد أبكاني إذا بكى، وأبكى الرُّفقة.

ثم خرجت من عنده وأتيت الرجل فقلت: كيف رأيت صاحبك؟

قال: خير صاحب، كثير الذكر طويل التلاوة وسريع الدمعة، جزاك اللَّه عني خيرًا.

فائدة: قال علقمة لابنه أصحب من الرجال من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإن سألته أعطاك، وإن لم تسأله ابتداك، اصحب من لا يأتيك منه البوائق ولا يختلف منه عليك الخلائق، ولا يخذلك عند الحقائق.

نادرة: يقال: من أمَّ البيت ولم يكن فيه ثلاث خصال فلا حاجة للَّه في حجه: من لم يكن له حلم يغلب جهله، وورع يكفه عن الحرام، وحسن الصحبة لمن صحب.

قال مجاهد

(2)

: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمنى أكثر.

وقال ابن عون لشخص وقد أمره بالوصية: عليك بالكظم والبذل.

الخامسة: كان عبد اللَّه بن المبارك

(3)

إذا جاء وقت الحج اجتمع إليه إخوانه

(1)

داود الطائي هو أبو سليمان داود بن نصير الطائي الكوفي الفقيه الزاهد، أحد الأعلام، وكان من كبار أصحاب الرأي لكنه آثر الخمول والإخلاص وفر بدينه، وكان سفيان الثوري يقول: أبصر داود أمره وقال ابن المبارك: هل الأمر إلَّا ما كان عليه داود، ومن أقواله: كفى باليقين زهدًا، وكفى بالعلم عبادة، وكفى بالعبادة شغلًا، توفي داود سنة (162) وقبل (165)[تاريخ الإسلام وفيات (161 - 170)].

(2)

مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، المخزومي، مولاهم المقرئ، المفسر، ثقة، إمام في التفسير وفي العلم، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (101، 102، 103، 104). ترجمته: تهذيب التهذيب (10/ 42)، تقريب التهذيب (2/ 229)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 411)، وميزان الاعتدال (3/ 439)، والجرح والتعديل (8/ 1469).

(3)

عبد اللَّه بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي، التميمي مولاهم المروزي، ثقه ثبت فقيه عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (181) ترجمته: تهذيب التهذيب (5/ 382)، وتقريب التهذيب (1/ 445)، والكاشف (2/ 123) والتاريخ الكبير (5/ 212)، والجرح والتعديل (5/ 838) والثقات (7/ 8)، وسير الأعلام (8/ =

ص: 157

من أهل مرو فيقولون له: الصُّحبة.

فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذها، فتُجعل في صندوق ثم يكترى لهم من مرو إلى بغداد، ثم إلى المدينة المنورة وينفق عليهم ويُطعمهم أطيب الطعام والحلوى ويخرجهم بأحسن زيّ، فإذا وصلوا اشترى لهم ما أمرهم عزالهم من طُرَف المدينة، ثم من مكة كذلك، ولا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فإذا وصلوا كساهم، فإذا كان بعد ثلاث صنع لهم وليمة ودعاهم، فإذا فرغوا دعا بالصندوق، وأعطى كل واحد صرته بعد أن كتب عليها اسمه.

ويروى أنه عمل آخر سَفْرة سافرها دعوة، فقدم الناس إلى خمسة عشر خوانًا فالوذج

(1)

.

السادسة: قال بعض السلف خرجت إلى مكة فمكثنا أيامًا لم نجد ما نأكُل فوقعنا إلى حي في البرية فإذا بأعرابية معها شاة، فقلنا لها: بكم هذه؟ فقالت: بخمسين درهمًا، فقلنا لها: أحسني، فقالت: بخمسة، فقلنا: تهزى. فقالت: لا واللَّه، ولكن سألتموني الإحسان، وبي جهد، ولو أمكننى لم آخذ شيئًا، فقلت: لأصحابي: ايش معكم؟ قالوا: ستمائة درهم.

فقلت: أعطوها واتركوا الشاة عليها فما سافرنا سَفْرَة أطيب منها.

السابعة: يروى أن هارون الرشيد حج في زينة عظيمة وموكب كثير، والناس يصرفون عن طريقه يمينًا وشمالًا، فمر في طريقه على بهلول وهو يعظ الناس، فتقدم الغلمان إليه وقالوا له: اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فلما حاذاه الهودج قال: حدثني يا أمير المؤمنين أيمن بن نايل

(2)

قال: حدثني قدامة بن عبد اللَّه

(3)

قال:

=378) والوافي بالوفيات (17/ 419).

(1)

اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين ومحمد بن النضر وقالوا: تعالوا حتى نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد، والشعر والفصاحة وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه. [انظر المرجع السابق].

(2)

أيمن بن نايل، أبو عمران، وقيل: أبو عمرو الحبشي، المكي، الكوفي، صدوق يهم، أخرج له: البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، توفي سنة (160)، ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 393)، وتقريب التهذيب (1/ 88)، والكاشف (1/ 144)، والجرح والتعديل (2/ 319)، وميزان الاعتدال (1/ 283)، ولسان الميزان (7/ 181)، والوافي بالوفيات (10/ 30) وسير الأعلام (6/ 309)، وتفسير الطبرى (5/ 601).

(3)

قدامة بن عبد اللَّه بن عمار بن معاوية، أبو عبد اللَّه الكلابي، العامري، صحابي قليل الحديث، أخرج له: الترمذي والنسائي وابن ماجه، ترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 364)، تقريب التهذيب =

ص: 158

رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحلٍ رثّ، فلم يكن ثم طرد ولا ضرب ولا إليك إليك فقيل: يا أمير المؤمنين إنه بهلول المجنون

(1)

، فقال هارون: قد عرفت، قل يا بهلول

(2)

فقال:

هب أنك قد ملكت الأرض طرًا

وكان لك البلاد إذا فماذا

أليس غدًا مصيرك جوف قبر

ويحثوا التراب هذا ثم هذا

فقال الرشيد: أفغيره، فقال: يا أمير المؤمنين من رزقه اللَّه جمالا ومالا فعفَّ عن جَمَاله، وواسى في ماله، كُتِبَ في ديوان الأبرار.

فظن الرشيد إنه عرض بذلك يريد شيئًا. فقال قد امرنا بقضاء دينك يا بهلول، فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين لا تقض دينًا بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك. قال: قد أمرنا أن نجري عليك.

فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك وينساني.

أجري على الذي أجرى عليك، لا حاجة لي في جرايتك.

الثامنة: يروى أن الرشيد حج ماشيًا من المدينة إلى مكة، ففرش له في الطريق اللَّبود

(3)

المدغرى فاستند يومًا إلى ميل ليستريح وقد تعب فإذا هو بسعدون المجنون قد عارضه وهو يقول:

هب الدنيا تواتيك

أليس الموت يأتيك

فما تصنع بالدنيا

وظل الميل يكفيك

وأيا طالب الدنيا

دع الدنيا لشانيك

وكما أضحكك الدهر

كذاك الدهر يُبكيك

فشهق الرشيد شهقة خرّ مغشيًا عليه.

التاسعة: كان ابن عمر إذا رأى ما أحدث الناس من الزينة والمحامل يقول:

= (2/ 124)، تاريخ البخاري الكبير (7/ 178) الجرح والتعديل (7/ 127)، الثقات (3/ 344) أسد الغابة (4/ 393)، الإصابة (5/ 422)، سير الأعلام (3/ 451).

(1)

تأتي ترجمته عقب هذا.

(2)

البهلول بن عمرو، أبو وهب الصيرفي الكوفي وُسْوِسَ في عقله، وما أظنه اختلط أو قد كان يصحو في وقت، وهو معدود في عقلاء المجانين، له كلام حسن وحكايات، وقد حدث عن عمرو بن دينار وعاصم بهدلة، وأيمن بن نايل، وما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، ولا كتب عنه الطلبة، كان حيًّا في دولة الرشيد. [تاريخ الإسلام وفيات (181 - 190)].

(3)

اللَّبد: كل شعر أو صوف متلبد وما يوضع تحت السرج.

ص: 159

الحاج قليل والركب كثير ثم ينظر إلى رجل مسكين رثّ الهيئة، تحته حوالق فيقول: هذا نعم من الحاج.

وقال له مجاهد

(1)

وقد دخلت القوافل ما أكثر الحاج، فقال: ما أقلهم، ولكن قل: ما أكثر الركب.

إلا إن ركاب الفيافي

(2)

إلى الحمى

كثير وأما الواصلون قليل

وإن رجالا قد علاها جمالكم

وإن قطعت أكبادنا الخبائث

وإذا المطى

(3)

متى بلغن محمدًا

فظهورهن على الرجال حرام

قريتنا من خير من وطئ الثرى

فلها علينا ذمة وذمام

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

تُريدن إدراك المعالى رخيصة

ولابد دون الشهد من إبر النحل

العاشرة: يروى أن رجلًا قال للفضيل بن عياض

(4)

: إني أريد الخروج إلى مكة شرَّفها اللَّه تعالى فأوصني فقال له الفضيل: شمِّر إزارك، وانظر إلى أين تذهب وإلى من تذهب، فخرَّ الفضيل مغشيًا عليه وسقط الرجل من ساعته ميتًا.

سكنتم رُبا الداري فأضحت لأجلكم

زيارته فرضًا على كل مسلم

بكم أصبح الوادي معظمًا شأنه

ولولاكم قد كان غير معظم

أمُرُّ على الديار ديار ليلى

اقبِّل ذا الجدار وذا الجدار

وما حُب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديار

شاردة: قال بعض الأولياء: العجب ممن يقطع المفاوز ليصل إلى بيته، ويري آثار النبوة كيف لا يقطع نفسه وهواه ليصل إلى قلبه، فيرى آثار ربه.

الحادية عشرة: قال الإمام مالك: اختلفت إلى جعفر بن محمد

(5)

زمانًا وما

(1)

مجاهد بن جبر المفسر تقدمت ترجمته قريبًا.

(2)

الفيفاء: الصحراء الواسعة المستوية، جمعها: الفيافي.

(3)

المطية: من الدواب ما يمتطى، جمعها: مطايا، ومطى.

(4)

الفضيل بن بن عياض بن مسعود بن بشر، أبو علي التميمي، اليربوعي الخراساني، ثقة، عابد، إمام، أخرج له: أصحاب الكتب الستة خلا ابن ماجه. توفي سنة (178) أو قبلها، ترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 298)، وتقريب التهذيب (2/ 113)، وتاريخ البخاري الكبير (7/ 123) والجرح والتعديل (7/ 416)، وميزان الاعتدال (3/ 36) وسير الأعلام (8/ 421)، والثقات (7/ 315).

(5)

جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد اللَّه القرشي الهاشمي، العلوي، =

ص: 160

كنت أراه إلا على ثلاث خصال، إما مُصل وإما صائم، وإما يقرأ القرآن وما رأيته يحدث إلا على طهارة.

كان من العلماء العباد الذين يخشون اللَّه.

ولقد حججت معه سنة فلمَّا أتى الشجرة وأراد أن يهل كاد يغشى عليه.

فكلمته في ذلك وكان يكرمني وينبسط إلي فقال: إني أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك فيقول: لا لبيك ولا سعديك.

قال مالك: ولقد أحرم جده علي بن الحسين

(1)

، فلما أراد أن يقول لبيك اللهم لبيك، أو قالها غشي عليه وسقط من ناقته فهشم وجهه.

قلت: ويشبه هذه حكايات ثلاث:

الأولى: مروية عن أحمد بن أبي الحواري قال: كنت مع أبي سليمان الداراني حين أراد أن يُحرم فلم يُلبي حتى سرنا ميلًا، ثم غُشى عليه فأفاق وقال: يا أحمد أوحى اللَّه تعالى إلى موسى - عليه أفضل الصلاة والسلام: مُرّ ظلمة بنى إسرائيل أن لا يذكروني فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة ويحك يا أحمد بلغني أن من حجَّ من غير حِلّ، ثم لبى قال اللَّه:"لا لبيك ولا سعديك"، فلا تأمن أن يقال لنا ذلك.

الثانية: رواية عن بعض السلف قال: كنت بذي الحليفة

(2)

وشاب يريد أن يحرم فكان يقول: يا رب أريد أن أقول لبيك وأخشى أن يجيبني بلا لبيك ولا سعديك، وجعل يردد ذلك مرارًا ثم قال: لبيك اللهم لبيك مد بها صوته وخرجت روحه.

الثالثة: مروية عن مالك بن دينار قال: خرجت إلى مكة فبينما أنا سائر إذا بشاب وهو ساكت لا يذكر اللَّه فيما يرى حتى إذا جنَّه الليل رفع رأسه إلى السماء

= المدني الصادق، صدوق، فقيه، إمام، أخرج له: البخاري في الأدب وباقي الستة، توفي سنة (148، 140)، انظر تهذيب التهذيب (2/ 103)، وتقريب التهذيب (1/ 132).

(1)

هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسين، أبو الحسن، أبو محمد، أبو عبد اللَّه الهاشمي، المدني، زين العابدين، القرشي الأكبر، ثقة، ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (93، 94، 95)، انظر: تهذيب التهذيب (7/ 403)، وتقريب التهذيب (2/ 35)، والتاريخ الكبير للبخاري (6/ 266).

(2)

روى البخاري في صحيحه (1524) كتاب الحج 7 - باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، عن ابن عباس قال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم وَقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى أهل مكة من مكة". قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة".

ص: 161

وهو يقول: يا من تسرُّه الطاعة ولا تضره المعصية هب لي ما يَسرُّك واغفر لي ما لا يَضرُّك قال: ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه والناس يلبون وهو لا يلبي، فقلت له في ذلك فقال: يا شيخ أخاف أن أجاب بلا لبيك ولا سعديك، ولا أسمع كلامك ولا أنظر إليك فقلت له: لا تفعل فإنه كريم إذا غضب رضي، وإذا رضي لم يغضب، وإذا وعد وفَّى، وإذا تَوَعَّد عفى

(1)

.

فقال لي: يا شيخ: أتُشير عليَّ بالتلبية؟ فقلت: نعم.

فبادر إلى الأرض واضطجع وجعل خده على الأرض وأخذ حجزا فجعله على خده الأخر، وأسبل دموعه وأقبل يقول: لبيك اللهم لبيك، قد خضعت لك وهذا مصرعي بين يديك، فأقام كذلك ساعة ثم قام ومضى.

الثانية عشرة: يُحكى أنه عنَّ لبعض كبار الوزراء في أثناء وزارته فكرة وموعظة من نفسه فتاب.

فلما سمع شيوخ الحرم بقدومه خرجوا للسلام عليه فرأوا شعثه وما نزل به من تغير البهجة، ورثاثة الحال فقالوا له كالمتعجبين منه: نرى الشيخ بعد تلك النَّضرة والنعيم قطع هذه المفاوز حافيًا على قدميه فقال لهم: وكيف يأتي العبد إذا قاد نفسه إلى باب مولاه لو قدرت لجئت على رأسي.

فائدة: يروى عن ابن عباس أنه قال: حج الحواريون فلما دخلوا الحرم مشوا تعظيمًا له

(2)

، وكذلك الأنبياء كانوا يدخلونه مشاة حفاة، بل كبار الحيتان لم تأكل صغارها في الحرم زمن الطوفان تعظيمًا للحرم.

الثالثة عشرة: يروى أن امرأة عابدة حجت فلما دخلت مكة جعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فقيل لها: هذا بيت ربك فاشتدت نحوه تسعى حتى ألصقت جنبيها بحائط البيت فما رفعت إلا ميتة.

(1)

رواه الترمذي في سننه (3540) كتاب الدعوات عن أنس قال سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول اللَّه سبحانه وتعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".

(2)

في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} لآيات يعني: الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم الذي يزعم كل من طائفتى النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر اللَّه له في ذلك ونادى الناس إلى حجه. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقًا، والصحيح قول علي؛ أي قوله: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة اللَّه [تفسير ابن كثير (1/ 383)].

ص: 162

الرابعة عشرة: قال سعيد بن جبير

(1)

رأيت امرأة جاءت فقامت في الملتزم فجعلت تدعو وتبكي حتى ماتت.

الخامسة عشرة: حج الشبلي فلما وصل إلى مكة، وعظم عنده قدر ما ناله أنشد طربًا مستعظمًا حاله:

أبُطْحَانُ مكة هذا الذي

أراه عيانًا وهذا أنا

ثم لم يزل يكررها حتى غُشي عليه.

السادسة عشرة: دخل أبو الفضل الجوهري الحرم، ونظر إلى الكعبة وقال وقد داخله الطرب: هذه ديار المحبوب، فأين المحبون؟

هذه آثار أسرار القلوب فأين المشتاقون؟ هذه ساعة الاطلاع على الدموع فأين البكاؤون؟

ثم شهق شهقة وأنشد:

هذه دارهم وأنت محب

ما بقى الدموع في الآماق

(2)

وروى أن الشبلي لما حج على التجريد، ورأى مكة وقع مغشيًا عليه، فلما أفاق أنشد البيت المذكور وزاره:

وقديمًا عهدت أفنية

(3)

الدار

وفيها مصارع العشاق

السابعة عشرة: طاف رجل بالبيت فبرق له ساعد امرأة موضع ساعده على ساعدها يتلذذ به فلُصِقَا، فقال له بعض الصالحين: ارجع إلى المكان الذي فعلته فيه فعاهد رب البيت أن لا تعود بصدق نية وإخلاص، ففعل فخلي عنه.

الثامنة عشرة: يُروى أن امرأة عاذت من ظالم فجاء فمد يده إليها، فيبست يده وصار أشل.

التاسعة عشرة: عن بعض السلف أنه دخل الحجر ليلًا، وصلى تحت الميزاب وأنه سَمِعَ وهو ساجد كلامًا بين أستار الكعبة والحجارة وهو: أشكو إلى اللَّه ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي من إساءتهم فأوَّلت أن البيت شكى.

(1)

سعيد بن جبير بن هشام، أبو محمد، أبو عبد اللَّه الأسدي مولاهم الوالي الكوفي، الفقيه، ثقة، ثبت فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (95، 94). [انظر تقريب التهذيب (1/ 292)].

(2)

أمق العين: طرفها مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع، جمعه: آماق، والمآقى هى مجارى الدمع.

(3)

الفناء: الساحة في الدار، أو بجانبها جمعها: أفنية.

ص: 163

العشرون: يروى أن أُبي بن خلف

(1)

، وعبيد اللَّه بن عثمان أنهما كانا في الحجر في رجب، فلم يشعُرا إلا بحية قد أقبلت حتى مرت بهما فدخلت تحت أستار الكعبة، وسمعا كلامًا من حيث دخلت تقول: يا معشر قريش كُفُّوا عما تأتون من الظلم قبل أن تنزل بكم النقم، كُفُّوا سفهاءكم فإنكم في بلد عظيم حرمته.

الحادية بعد العشرين: يروى عن أبي يعقوب البهرجوري قال: رأيت في الطواف رجلًا له عين واحدة وهو يقول في طوافه: أعوذ بك منك، فقلت له: ما هذا الدعاء؟

فقال: إني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت إلى شخص يومًا فاستحسنته، فإذا بلطمة وقعت على عيني، فسالت عيني على خدي. فقلت: آه، فوقعت أخرى وقائل يقول: لو زدت لزدناك.

الثانية بعد العشرين: يروى عن إبراهيم الخواص قال: رأيت شابا في الطواف مئتزرًا بعباءة متوشحًا بأخرى كثير الطواف والصلاة، مشتغلًا باللَّه تعالى لا بغيره، فوقعت في قلبي محبته، ففتح علي بأربعمائة درهم.

فجئت بها إليه وهو جالس خلف المقام فوضعتها على طرف عباءته فقلت له: يا أخي اصرف هذه القطيعات في بعض حوائجك. فقام وبددها في الحصى وقال: يا إبراهيم اشتريت من اللَّه هذه الجلسة بسبعين ألف دينار، أتريد أن تخدعني عن اللَّه تعالى بهذا الوسخ.

قال إبراهيم: فما رأيت أذل من نفسي وأنا أجمعها من بين الحصى.

وما رأيت أعز منه وهو ينظر إليَّ، ثم ذهب.

الثالثة بعد العشرين: يروى أن الجنيد

(2)

طاف بالبيت في جوف الليل، فسمع

(1)

كان أُبي بن خلف قال حين افتدى يوم بدر: واللَّه إن عدى لفرسًا أعلفها كل يوم فرق ذرة ولأقتلن محمدًا. فبلغ قوله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء اللَّه، فأقبل أبي مقنعًا من الحديد على فرسه تلك يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال موسى: قال سعيد بن المسيب: فاعترض له رجال، فأمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخلوا طريقه فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقتل مصعب وأبصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترقوة أُبَيٍّ من فرجه بين سابغة البيضة والدرع فطعنه فيها بحربته فوقع أُبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم. [تاريخ الإسلام في السيرة العطرة - غزوة أحد].

(2)

الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم النهاوندي الأصل البغدادي القواريري الخزاز، وقيل: كان أبوه قواريريًا، يعني زجاجًا، وكان هو خزازًا، كان شيخ العارفين وقدوة السارين. وعلم الأولياء في زمانه -رحمة اللَّه عليه- ولد ببغداد بعد سنة (220) فيما أحسب أو قبلها، وتفقه على =

ص: 164

جارية تطوف وهى تقول:

أبى الحب أن يخفيى وكم قد كتمته

فأصبح عندي قد أناخ وطنبا

إذا اشتدَّ شوقي هام قلبي بذكره

وإن مت قُربًا من حبيبي تقربًا

فقلت لها يا جارية ألا تتقين اللَّه، تتكلمين في مثل هذا البيت بمثل هذا الكلام، فالتفتت إلي وقالت:

يا جنيد:

لولا التقى لم ترني

أهجر طيب الوسن

إن التقى شردني

كما ترى عن وطني

أَخِرُ من وجدي به

فحُبُّه هَيَّمنِي

ثم قالت: يا جنيد تطوف بالبيت أو برب البيت؟ قلت: أطوف بالبيت، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار، ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربة

إليك وهم أقسى قلوبًا من الصخر

في أبيات أنشدتها.

قال الجنيد: فغُشِيَ عليَّ من قولها، فلما أفقت لم أرها.

الرابعة بعد العشرين: قال أبو يزيد البسطامي حججت ثلاث حجج، في الحجة الأولى رأيت البيت ولم أر رب البيت. وفي الثانية: رأيت البيت ورب البيت. وفي الثالثة: رأيت رب البيت ولم أر البيت.

الخامسة بعد العشرين: عن مالك بن دينار

(1)

قال: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة إذا أنا بجويرية متعلقة بأستار الكعبة وهى تقول: يا رب ذهبت اللذات وبقيت التبعات، يا رب كم من شهوة ساعة قد أورثت صاحبها حزنًا طويلًا. يا رب أما لك

= أبي ثور، وسمع من الحسن بن عرفة وغيره، واختص بمحبة السري السقطي والحرمي وأبي حمزة البغدادي وأتقن العلم ثم أقبل على شبابه واشتغل بما خلق له، وحدث بشيء يسير. تُوفِيَ سنة (298). [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (291 - 200)].

(1)

مالك بن ديار، أبو يحيى، أبو هاشم السلمي الناجي، البصري، الزاهد، القرشي، صدوق، عابد، أخرج له البخاري تعليقًا وأصحاب السنن الأربعة، توفي سنة (123، 124، 125، 126).

ترجمته: تهذيب التهذيب (10/ 14)، وتقريب التهذيب (2/ 224)، والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 309) والجرح والتعديل (8/ 916)، وميزان الاعتدال (3/ 226).

ص: 165

عقوبة ولا أدب إلا النار، فما زال ذلك قولها حتى طلع الفجر، فوضع مالك يده على رأسه صارخا يبكي يقول: ثكلت مالكًا أمه وعدمته جويرية منذ الليلة قد بطلته.

السادسة بعد العشرين: تعلق رجل بأستار الكعبة.

وأنشد:

ستور بيتك ذيل الأمن منك وقد

علقتها مستجير أيها الباري

وما أظنك لما أن علقت بها

خوفًا من النار تدنيني من المنال

وها أنا جار بيت أنت قلت لنا

حجوا إليه وقد أوصيت بالجار

السابعة بعد العشرين: عن صالح المري أنه كان يطوف بالبيت فسمع أعرابيًا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة: إلهي إن استغفاري إياك مع إصراري على كثرة ذنوبي للوم وإن ترك استغفاري على سعة رحمتك لعجز كم تتقرب إليَّ بالنعم على غناك عني، وكم أتباعد عنك بالمعاصي على فقري إليك، فيا من إذا وعد وفَّى وإذا تَوَعَّدَ عفى، أدخل عظيم جرمي في سعة رحمتك، إنك أنت الوهاب.

قال صالح: فواللَّه ما سمعت في حجتي تلك أبلغ من الأعرابي.

الثامنة بعد العشرين: قال علي بن الموفق: طفت بالبيت ليلة، وصليت ركعتين بالحجر واستندت إلى جدار الحجر أبكي وأقول: كم أحضر هذا البيت الشريف، ولا أزداد في نفسي خيرًا، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذا هتف بي هاتف: يا علي سمعنا مقالتك، أَوَ تدعو أنت إلى بيتك من لا تحبه.

ويروى عنه أنه قال: جلست يومًا في الحرم وقد حججت ستين حجة فقلت في نفسي: إلى كم أتردد في هذه المسالك والقفار، ثم غلبتني عيني فنمت، وإذا بقائل يقول: يا ابن الموفق هل تدعو إلى بيتك إلا من تحب، فطوبى لمن أحب المولى، وحمله إلى المقام الأعلى.

ثم أنشأ يقول:

دعوت إلى الزيارة أهل ودي

ولم أطلب بها أحدًا سواهم

فجاءوني إلى بيتي كراما

فأهلًا بالكرام ومن دعاهم

التاسعة بعد العشرين: قال الأوزاعي

(1)

: رأيت رجلًا متعلقًا بأستار الكعبة وهو يقول:

(1)

الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد أبو عمرو الأوزاعي الشامي الفقيه، الدمشقي، إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، كان يسكن بظاهر باب الفراديس بمحلة الأوزاع ثم تحول إلى =

ص: 166

يا رب إني فقير كما ترى

وصبيتي قد عروا كما ترى

وناقتي قد عجفت كما ترى

وبردتي قد بليت كما ترى

فما ترى فيما ترى

يا من يَرى ولا يُرى

فإذا بصوت من خلفه: يا عاصم يا عاصم الحق عمك قد هلك بالطائف وخلَّف ألف نعجة وثلاثمائة ناقة وأربعمائة دينار، وأربعة أعبد، وثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك.

قال الأوزاعي: فقلت له يا عاصم إن الذي دعوته لقد كان منك قريبًا.

فقال يا هذا أما سمعت قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}

(1)

.

الثلاثون: يروى عن فضيل بن عياض أنه وقف بعرفة والناس يدعون فبكى بكاء الثكلى المحترقة فلما كادت الشمس أن تسقط، قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: واسوءتاه وإن عفوت.

وروي أنه قال والناس بالموقف: ما تقولون لو قصد هؤلاء الوفد بعض الكرماء يطلبون منه دانقا أكان يردهم؟ قالوا: لا واللَّه.

قال: واللَّه لمغفرته في جنب كرمه أهون على اللَّه من الدانق فى جنب ذلك الرجل.

الحادية بعد الثلاثين: يروى أنه قيل ليونس بن عبيد

(2)

وقد انصرف من عرفات: كيف كان الناس، فقال: لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم. يقول لعلهم لم يرحموا بسببي.

الثانية بعد الثلاثين: يروى عن شعيب بن حرب قال بينما أنا أطوف بالبيت إذ لكزني رجل بمرفقه فإذا أنا بالفضيل بن عياض، فقال لي: يا أبا صالح فقلت: لبيك يا أبا علي.

قال: إن كنت تظن أنه شهد الموسم شَرٌّ مني ومنك فبئس ما ظننت.

= بيروت فرابط إلى أن مات، قال ابن سعد: الأوزاع بطن من همدان وهو من أنفسهم، ولد سنة (88)، وكان ثقة مأمونًا فاضلًا خيرًا كثير العلم والحديث والفقه، حجة، وتوفي رحمه الله سنة (157). [تاريخ الإسلام وفيات (151 - 160)].

(1)

سورة البقرة (186).

(2)

يونس بن عبيد بن دينار، أبو عبيد، أبو عبد اللَّه العبدي، مولاهم البصري، الكوفي البصري، ثقة ثبت، فاضل، ورع، أخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (139) انظر: تهذيب التهذيب (11/ 442)، وتقريب التهذيب (2/ 385).

ص: 167

الثالثة بعد الثلاثين: قال بعض السلف رأيت شابا في الموقف مطرقًا رأسه إلى الأرض منذ وقف الناس إلى أن سقط القرص.

فقلت: يا هذا أبسط يدك للدعاء. فقال لي: ثمَّ وحشة. فقلت له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يده ففي بسط يده وقع ميتًا.

وحُكِيت عن الفضيل أيضا قال: رأيت شابًا ساكتًا وعليه أثر الذِّلة والخشوع والناس يسألون الحوائج. فقلت: يا فتى اخرج يدك واسأل حاجة، فقال: يا شيخ وقعت بيننا وحشة وليس ثمَّ وجه، قال: فإذا كان كذلك فإن الوقت يفوت، فقال لي: ولا بُدَّ، فلما أراد أن يرفع يده بالدعاء صاح صيحة وخرَّ ميتًا.

ويُروى أنه كان أكثر دعائه اللهم ارحمني فإنك بي عالم ولا تعذبني فأنت علي قادر.

الرابعة بعد الثلاثين: قيل لبعض السلف وقد ضحى للشمس بعرفة في يوم شديد الحر: لو أخذت بالتوسعة، فأنشد:

ضحيت له كي أستظل بظله

إذا الظل أضحى في القيامة قالصًا

(1)

فيا أسفى إن كان سعيي باطلًا

ويا حسرتى إن كان حظي ناقصًا

الخامسة بعد الثلاثين: قال بعض السلف: كنت بالمزدلفة وأنا أحيى الليل، فإذا بامرأة تصلي حتى الصباح ومعها شيخ.

فسمعته وهو يقول: اللهم إنا قد جئنا من حيث تعلم وحججنا كما أمرتنا، ووقفنا كما دللتنا، وقد رأينا أهل الدنيا إذا شابَ المملوك في خدمتهم تذمموا أن يبيعوه، وقد شبنا في ملكك فارحمنا

(2)

.

السادسة بعد الثلاثين: عن علي بن الموفق قال: حججت نيفًا وخمسين حجة، وجعلت ثوابها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وللخلفاء الأربعة ولأبويَّ، فبقيت حجة، فنظر إلى أهل الموقف بعرفات وضجيج أصواتهم فقلت: اللهم إن كان في هؤلاء أحد لم تقبل منه حجه فقد وهبت له هذه الحجة ليكون ثوابها له.

فبت تلك الليلة بالمزدلفة فرأيت ربي عز وجل في المنام فقال لي: يا ابن الموفق عليَّ تتسخَّى، قد غفرت لأهل الموقف ومثلهم وأضعاف ذلك وشفَّعت كل رجل منهم

(1)

تقلص الشيء: تدانى وانضم، والثوب بعد الغسل، انكمش وقصر، والظل: انقبض ونقص.

(2)

وجدنا بالهامش: وقد نظر معناه بعضهم فقال: إن الملوك إذا شاب عندهما في رقهم أعتقوهم عتق أحرار، وأنت يا رب أولى منهم كرمًا، قد شبت في الرق، فاعتقني من النار

ص: 168

في أهل بيته وخاصته وجيرانه وأنا أهل التقوى وأهل المغفرة.

(1)

روى الترمذي في سننه (3328) في تفسير القرآن في سورة المدثر، عن أنس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنه قال في هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قال: قال اللَّه عز وجل أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهًا فأنا أهل أن أغفر له".

السابعة بعد الثلاثين: عن مالك بن دينار قال: رأيت في بعض الأيام شابا عليه آثار الدعاء ونور الإجابة، ودموعه تتساقط على وجهه فعرفته وكنت أعهده بالبصرة ذا نعمة فبكيت لما رأيت من حاله على تلك الصفة وبكى الآخر لما رآني، وبدأني بالسلام، وقال: يا مالك باللَّه عليك إلا ما ذكرتني في وقت خلواتك، وسألت لي التوبة والمغفرة لعله يرحمني ويغفر لي، ثم أنشأ يقول:

وعرض بذكري حين

(2)

تسمع زينب

وقل ليس يخلو ساعة منك باله

عساها إذا ما مر ذكري بسمعها

تقول فلان عندكم كيف حاله

قال مالك: ثم ولى ودموعه تستبق، فلما دخلت أشهر الحج توجهت إلى مكة فبينما أنا في المسجد الحرام إذ رأيت حلقة يجتمع إليها الناس فإذا بفتى يتضرع وقد قطع على الناس طوافهم بكثرة بكائه.

فوقفت عليه أنظر مع الناس إليه، فإذا هو صاحبي فسررت به، فسلمت عليه وقلت: الحمد للَّه الذي أبدلك بخوفك أمنا وأعطاك ما تتمنى.

فأنشأ يقول:

ساروا بلا خوف إلى خيف أمنهم

فلما أناخوا في منى بلغوا المُنا

تمنوا فأعطاهم مناهم وصانهم

بتوبته الخلصاء عن الفحش (والخنا)

(3)

وسامح عن كل الذنوب التي جرت

وما اجترح العبد المسيء وما جنا

لدار عليهم ساقي القوم خمرة

فنادوا من الساقي فقال لهم أنا

أنا اللَّه ادعونى فإني ربكم

لي المجد والعلياء والملك والسنا

قال مالك: ثم قلت له: باللَّه عليك أطلعني على أمرك كيف كان؟

(1)

رواه الترمذي في سننه (3328) في تفسير القرآن، من سورة المدثر، عن أنس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال في: هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]، قال:"قال اللَّه عز وجل: أنا أهل أن أُتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له".

(2)

في هامش الأصل "لعله حيث".

(3)

في الأصل "مالخنا".

ص: 169

فقال: ما كان إلا حين دعاني بفضله فأجبته فأعطاني كل ما طلبته، ثم عاد إلى طوافه وتركني ومضى. فلم أراه بعد.

الثامنة بعد الثلاثين: عن أبي عبد اللَّه الجوهري، قال: كنت سنة بعرفات، فلما كان آخر الليل نمت، فرأيت ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: كم وقف في هذه السنة؟

قال: ستمائة ألف، ولم يقبل إلا ستة أنفس قال: فهممت أن ألطم وجهي وأنوح على نفسي. قال: فما فعل اللَّه في الجميع؟ قال: نظر إليهم بعين الكرم فوهب لكل واحد منهم مائة ألف.

التاسعة بعد الثلاثين: ركب جماعة من التجار في البحر متوجهين إلى الحج، فانكسر المركب وضاق الوقت عن الحج، وفيهم إنسان كان معه بضاعة بخمسين ألف درهم، فتركها وتوجه إلى الحج.

فقيل له: لو أقمت لعله يخرج لك بعض بضاعتك. فقال: واللَّه لو حصلت لي الدنيا كلها ما اخترتها على الحج. ودعا من شهده من الأولياء بعد أن رأيت منهم ما رأيت، قالوا: وما رأيت؟

قال: كنا مرة متوجهين إلى الحج فأصابنا عطش في بعض الأيام، وبلغت الشربة كذا وكذا، ودرت في الركب من أوله إلى آخره فلم يحصل لي ما يبيع ولا غيره وبلغ العطش مني الجهد. فتقدمت قليلا، وإذا بفقير معه عكازه وركوة، وقد ركز العكاز في ساقية بركة، والماء ينبع من تحت العكاز، ويجري في الساقية إلى البركة فجئت إلى البركة فشربت وملأت قربتي، ثم أعلمت الركب فاستقوا كلهم منها وتركوها وهي تطفح.

الأربعون: عن سهل بن عبد اللَّه قال: مخالطة الولي للناس ذل وتعزيزه عز، قال: ما رأيت وليا للَّه إلا منفردا.

إن عبد اللَّه بن صالح كان رجلا له سابقة وموهبة جزيلة، وكان يفر من الناس من بلد إلى بلد، حتى أتى مكة فطال مقامه بها، فقلت له: لقد طال مقامك بها.

فقال: لِمَ لا أُقيم بها ولم أر بلدا تنزل فيه الرحمة والبركة أكثر منها، والملائكة تغدو وتروح، وإني أرى فيه أعاجيب كثيرة، وأرى الملائكة يطوفون بالبيت على صور شتى، لا يقطعون ذلك ولو قلت كلما رأيت لصغرت عنه عقول قوم ليسوا بمؤمنين.

فقلت: سألت باللَّه إلا ما أخبرتني بشيء من ذلك.

فقال: ما من ولي صحت ولايته إلا وهو يحضر هذا البيت في كل ليلة جمعة لا يتأخر عنه، فمقامي لأجل رؤياهم.

ص: 170

ولقد رأيت رجلا يقال له: مالك بن القاسم الجيلي وقد جاء وبيده غمر فقلت له إنك قريب عهد بالأكل. فقال لي: استغفر اللَّه، فإني منذ أسبوع لم آكل ولكن أطعمت والدي وسريت لألحق صلاة الفجر وبينه وبين الموضع الذي جاء منه تسعمائة فرسخ فهل أنت مؤمن بذلك؟ قلت: نعم.

قال: الحمد للَّه الذي أراني مؤمنا.

الحادية بعد الأربعين: قال بعضهم: كنت بالمدينة النبوية شرفها اللَّه فجئت عند القبر المشرف فإذا بعجمي كبير القامة يودع، فتبعته لما خرج، فلما بلغ مسجد ذي الحليفة صلى ولبى، فصليت ولبيت وخرجت خلفه، فالتفت فرآني فقال: ما تريد؟ فقلت: أريد أن أتبعك فأبى، فألححت عليه فقال: إن كان ولابد فلا تضع قدمك إلا على أثر قدمي. فقلت: نعم.

فمشى على غير الطريق، فلما مرَّ هويٌّ من الليل، إذا بضوء سراج فالتفت إليَّ وقال: هذا مسجد عائشة فتقدم أنت أو أتقدم أنا. فقلت ما تختار، فتقدم.

ونمت أنا حتى إذا كان وقت السحر، ودخلت مكة فطفت، وسعيت وجئت إلى عند الشيخ أبي بكر الكتاني وجماعة الشيوخ قعود، فسلمت عليهم فقال لي الكتاني: متى قدمت؟ قلت: الساعة، قال: من أين؟ قلت: من المدينة، قال: كم لك منها؟ قلت: البارحة.

فنظر بعضهم إلى بعض فقال الكتاني: مع من جئت؟ فقلت: مع رجل من حاله وقصته كذا وكذا، فقال: ذاك أبو جعفر الدامغاني، وهذا في حاله قليل.

ثم قال: قوموا فاطلبوه وقال لي: يا ولدي علمت أن هذا ليس حالك، كيف كنت تحس بالأرض تحت قدميك؟ قلت: مثل الموج إذا دخلت تحت السفينة.

الثانية بعد الأربعين: عن شقيق البلخي رحمه الله قال: خرجت حاجا سنة، فنزلت القادسية فبينما أنا أنظر إلى الناس وزينتهم وكثرتهم، نظرت فتى حسن الوجه فوق ثيابه ثوب صوف مشتملا بشملة، وفي رجليه نعلان وقد جلس منفردا.

فقلت في نفسي: هذا الفتى صوفي يريد أن يكون كلًّا على الناس في طريقهم، واللَّه لأمضين إليه ولأوبخنه.

فلما رآني مقبلا، قال: يا شقيق {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}

(1)

فتعجبت منه، فأردت أن أجالسه، فغاب عني.

(1)

سورة الحجرات (12).

ص: 171

فلما نزلنا منزلة أخرى إذا به يصلي وأعضاؤه تظهر ودموعه تجرى، فأقبلت نحوه.

فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق اقرأ: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}

(1)

ثم تركني ومضى.

فقلت: إن هذا لمن الأبدال، ثم رأيته ثالثة، وإذا هو على بئر وبيده ركوة للاستقاء، فسقطت منه في البئر، فرمق السماء وقال: أنت ربي إذا ظمئت من الماء، وقوتي إذا أردت الطعام اللهم سيدي ما لي سواها، فلا تعدمني إياها قال شقيق: فواللَّه لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤه، فمد يده وأخذ ركوته وملأها وتوضأ وصلى أربعا، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يفيض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب فأقبلت إليه وسلَّمت عليه فرد عليَّ السلام فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم اللَّه عليك. فقال: يا شقيق لم تزل نعمة اللَّه علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك.

ثم ناولني الركوة فشربت منها، فإذا هو سويق وسكر، فواللَّه ما شربت قط ألذ منه، ولا أطيب، فشربت ورويت وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا. ثم رأيته بعد ذلك بمكة في جنب قبة الشراب نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل، فلما رأى الفجر، جلس في مصلاه يسبح، ثم قام يصلي، فلما سلم من صلاة الصبح طاف بالبيت أسبوعا وخرج فتبعته.

وإذا له حاشية ومال وأقبل الناس يسلمون عليه، وإذا هو موسى

(2)

بن جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فعرفت إن هذا من ذاك الأصل.

الثالثة بعد الأربعين: عن الشيخ أبي سعيد الخزاز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان يسأل فقلت في نفسي: مثل هذا يكدي.

فنظر إلي وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}

(3)

.

(1)

سورة طه (82) أي كل من تاب إليَّ تبت عليه من أي ذنب كان حتى إنه تاب تعالى على من عبد العجل من بنى إسرائيل، وقوله تعالى:"تاب" أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وقوله:"آمن" أي: بقلبه "وعمل صالحا" أي: بجوارحه، وقوله "ثم اهتدى" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي ثم لم يشكك، وقال سعيد بن جبير:"ثم اهتدى" أي لزم على السنة والجماعة [تفسير ابن كثير (3/ 166)].

(2)

موسى بن جعفر بن محمد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين أبو الحسن الهاشمي العلوي المدني، الكاظم، صدوق، عابد، أخرج له: الترمذي وابن ماجه، توفي سنة (183). [التقريب (2/ 282)].

(3)

سورة البقرة (235). =

ص: 172

فاستغفرت في سري، فناداني {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}

(1)

.

الرابعة بعد الأربعين: قال بعضهم: بينما أنا أمشي في البرية إذا رأيت فقيرًا حافي القدمين حاسر الرأس عليه خرقتان مؤتزر بواحدة مرتد بالأخرى ليس معه زاد ولا ركوة. فقلت في نفسي: لو كان مع هذا ركوة وحبل، إذا رأى الماء توضأ وصلى، كان خيرًا له.

ثم لحقت وقد اشتدت الهاجرة فقلت له: يا فتى لو جعلت هذه الخرقة التي على كتفك على رأسك تتقي بها حر الشمس، كان خيرًا لك فسكت ومشى، فلما كان بعد ساعة قلت: أنت حاف إيش ترى في نعليَّ تلبسها ساعة، وأنا أخرى قال: أراك كثير الفضول، ألم تكتب الحديث؟

قلت: بلى.

قال: فلم تكتب حديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"

(2)

.

فسكت ومشينا فعطشت ونحن على ساحل البحر فالتفت إليَّ وقال: أنت عطشان؟ فقلت: لا.

فمشينا ساعة وقد كظني العطش، ثم التفت إليَّ فقال: أنت عطشان؟

فقلت: نعم، وما معي في مثل هذا الموضوع ماء.

فأخذ الركوة مني ودخل البحر فغرف وجاءني وقال: اشرب، فشربت ماء أعذب من ماء النيل وأصفى لونًا، وفيه حشيش.

وما أحسن من قال:

إذا وردوا الأطلال تاهت بهم عجبًا

وإن لم عودا وهي غضة رطبًا

وإن وطئوا يومًا على ظهر صخرة

لأنبتت الصماء من وطئهم عشبًا

وإن وردوا البحر الأجاج لشربه

لأصبح ماء البحر من ريقهم عذبًا

= توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يوئيسهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . [تفسير ابن كثير (1/ 287)].

(1)

سورة الشورى (25).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2318). كتاب الزهد، باب (11) يلي باب - فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، وابن ماجه في سننه (3976) كتاب الفتن 12 - باب كف اللسان في الفتنة، وبها بهامش ابن ماجه: أي من جملة محاسن إسلام الشخص وكمال إيمانه تركه ما لا يعنيه، وعبد الرزاق في مصنفه (20617)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 171).

ص: 173

قال: فقلت في نفسي هذا ولِيُّ اللَّه.

فلما وافينا المنزلة سألته الصحبة فأبى وتركني، ورششت من ذلك الماء على عليل فبرأ.

الخامسة بعد الأربعين: قال بعض الصالحين: بينما أنا جالس عند الكعبة إذ جاء شيخ قد شال ثوبه على وجهه، ودخل زمزم فاستقى بركوة وشرب فأخذت فضله. فإذا هو ماء مخلوط بعسل لم أذق شيئًا قط أطيب منه، فالتفت لأنظره، فإذا هو قد ذهب.

ثم عدت من الغد فجلست عند البئر وإذا به قد أقبل وثوبه مسدول على وجهه فدخل زمزم فاستقى دلوًا وشرب. فأخذت فضلته فشربت منها، فإذا هو لبن ممزوج بسكر لم أذق شيئًا أطيب منه.

السادسة بعد الأربعين: قال علي بن الموفق: حججت سنة من السنين في محمل، فرأيت رحالة فأحببت المشي معهم وأركبت واحدًا في محملي، ومشيت معهم، فتقدمنا إلى البرية، وعدلنا عن الطريق فنمت. فرأيت في منامي جوراي معهن طسوت من ذهب وأباريق فضة يغسلون أرجل المشاة، فبقيت أنا فقالت إحداهن لصواحبها: أليس هذا منهم؟ قلن: هذا له محمل.

قالت: بلى هو منهم لأنه لأحب المشي معهم.

فغسلن رجلي، فذهب عني كل وجع كنت أجده.

السابعة بعد الأربعين: قال بعضهم: كنت أسير في البادية مع القافلة فرأيت امرأة تمشي بين يديها فقلت: هذه ضعيفة سبقت القافلة لئلا تتقطع، وكان معي دُرَيْهمات فأخرجتها من جيبي وقلت لها خذيها، فإذا نزلت القافلة فاطلبيني لأجمع لك شيئًا تكترين به مركوبًا يحملك.

فمدت يدها وقبضت شيئًا من الهواء فإذا في يدها دراهم، فناولتني إياها وقالت: أنت أخذتها من الجيب، ونحن أخذناها من الغيب.

الثامنة بعد الأربعين: عن الشيخ فتح الموصلي

(1)

قال: رأيت في البادية غلامًا لم يبلغ الحنث يمشي ويحرك شفتيه. فسلمت عليه، فرد الجواب فقلت له: إلى أين يا غلام؟ فقال إلى بيت اللَّه الحرام. قلت: فبماذا تحرك شفتيك؟ قال: بالقرآن. قلت:

(1)

فتح الموصلي هو فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي، الزاهد، أحد العارفين، ذكر المعافي بن عمران شيخ الموصلي أنه لقي ثمانمائة شيخ ما فيهم أعقل من فتح، وكان مشهورًا بالعبادة والفضل، وهو فتح الموصلي الكبير، لا فتح الصغير، وأرسل إليه المعافي بألف درهم فردها وأخذ منها درهمًا مع شدة فاقة أهله، وقيل: إنه كان لا ينام إلا قاعدًا، وكان كثير البكاء من خشية اللَّه ملازمًا لقيام الليل، توفي سنة (165). [الذهبي في تاريخ الإسلام وفيات (161 - 170)].

ص: 174

فإنه لم يجر عليك قلم التكليف. قال: رأيت الموت يأخذ من هو أصغر مني سنًا. قلت: خطوك صغير، وطريقك بعيد.

فقال: إنما علي نقل الخطا، وعلى اللَّه الإبلاغ. قلت: فأين الزاد والراحلة؟ قال زادي يقيني وراحلتي رجلاي.

قلت: أسألك عن الخبز والماء. قال: يا عماه أرأيت لو أن مخلوقًا دعاك إلى منزله أكان يجمل بك أن تحمل معك زادك؟ فقلت: لا.

قال: سيدي دعا عباده إلى بيته، وأذن لهم في زيارته، فحملهم ضعف يقينهم على حمل أزوادهم وأنا استقبحت ذلك وحفظت الأدب معه، أفتراه يضيعني؟ فقلت: كلا وحاشا.

ثم غاب عن عيني، فلم أره إلا بمكة. فلما رآني قال: يا شيخ أنت بعد ذلك الضعف في اليقين، ثم أنشأ يقول:

مالك العالمين ضامن رزقي

فلماذا أكلف الخلق رزقي

قد قضى لي بما قضى لي ومالي

مالكي في قضائه

(1)

قبل خلقي

صاحب البذل والنداء في يساري

ورفيقي في عسرتي حسن خلقي

فكما لا يرد عجزي رزقي

فكذا لا يجيء برزقي حذقي

التاسعة بعد الأربعين: عن ذي النون المصري قال: رأيت في البادية حدثًا كأنه سبيكة فضة قد ولع بجسمه الوله، يريد الحج. فصحبته وأوصيته وذكرت له بعض المشقة. فأنشأ يقول:

بعيد على الكسلان أو ذي ملالة

وأما على المشتاق غير بعيد

الخمسون: قال شقيق البلخي: رأيت في طريق مكة مُقْعَدًا يزحف على الأرض فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من سمرقند.

قلت: وكم لك في الطريق؟

فذكر أعوامًا تزيد على العشرة، فرفعت طرفي أنظر إليه متعجًا فقال لي: ما لك

(1)

قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار اللَّه سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضائه وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن علم اللَّه سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها، قال: والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . [النووي في شرح مسلم (1/ 139) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 175

يا شقيق؟ أما بعد سفرتي فالشوق يقربها، وأما ضعف مهجتي فمولاها يحملها.

يا شقيق أتعجب من عبد ضعيف يحمله المولى اللطيف، ثم أنشأ يقول:

أزوركم والهوى صعب مسالكه

والشوق يحمل من لا مال يسعده

ليس المحب الذي يخشى مهالكه

كلا ولا شدة الأسفار تبعده

الحادية بعد الخمسين: عن بعضهم قال: رأيت كهلًا قد أجهدته العبادة وبيده عصا وهو يطوف معتمدًا عليها، فسألته عن بلده فقال: خراسان.

ثم قال: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين أو ثلاثة. قال: أفلا تحجون كل عام؟ فقلت له: كم بينك وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين. قلت: هذا واللَّه هي المحبة الصادقة.

فأنشأ يقول:

زر من هويت وإن شطت بك الدار

وحال من دونه حُجُبٌ وأسفار

لا يمنعك بعد من زيارته

إن المحب لمن يهواه زوار

الثانية بعد الخمسين: قال علي بن الموفق

(1)

: سمعت امرأة متعلقة بأستار الكعبة تنشد وتقول:

يا حبيب القلوب مالي سواكا

فارحم اليوم زائرًا قد أتاكا

عيل صبري وزاد فيك اشتياقي

وأبي القلب أن يحب سواكا

أنت سؤلي وبغيتي ومرادي

ليت شعري متى يكون لقاكا

ليس قصدي من الجنان نعيمًا

غير إني أريدها لأراكا

ونختم المجلس بما وعدنا به في مجلس الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال: كنت جالسًا عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه، السلام عليك يا صفوة اللَّه، سمعت اللَّه تعالى يقول:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}

(2)

الآية، وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي.

(1)

علي بن الموفق الزاهد، أحد مشايخ الطرق، له أحوال ومقامات، صحب منصور بن عمار، وأحمد بن أبي الحواري، حكى عنه أبو العباس السراج: سمعت علي بن الموفق يقول: خرجت على رحلي ستين سنة، وقرأت نحو اثني عشر ألف ختمة، وضحيت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة وسبعين أضحية، وجعلت في حجاتي ثلاثين عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت. أي الذهبي. وفد ناس فيهم أبو العباس السراج فضحى عن النبي كذا وكذا أضحية.

توفي علي بن الموفق سنة (265)[تاريخ الإسلام للذهبي (261/ 270)].

(2)

سورة النساء (64).

ص: 176

ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف فحملتني عيناي فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عتبي الحق الأعرابي فبشره بأن اللَّه تعالى غفر له

(1)

.

وزاد بعضهم على بيتي العتبي ثالثًا:

أنت النبي الذي ترجى شفاعته

عند الصراط إذا زلت القدم

وزاد بعضهم على الأولين:

وفيه شمس التقى والدين قد غربت

من بعد ما أشرقت من نورها الظلم

حاشا لوجهك أن يبلى

(2)

وقد هديت

في الشرق والغرب من أنواره الأمم

لئن رأيناه قبرًا إن باطنه

لروضة من رياض الخلد تبتسم

طافت به من حواليه ملائك

في كل يوم كالتي تسعى وهي تزدحم

لو كنت أبصرته حيًا لقلت له

لا تمشي إلا على خدي لك القدم

لقيت ربك والإسلام صارمه

ماض وقد كان جيش الكفر يصطدم

فقمت فيه مقام المرسلين إلي

إن عز فهو على الأديان يحتكم

ثم رأيت مؤلفًا ذكر فيه بعد البيتين الأولين:

أنت البشير النذير المستفاء به

وشافع الخلق إذا يغشاهم الندم

تخصهم بنعيم لا نفاد له

والحور في جنة المأوى لهم خدم

تسقى لمن شئت يا خير الأنام وكم

قوم لعظم الشقاء والبعد قد حرموا

صلى عليه إله العرض ما طلعت

شمس وحن إليه الضال والسلم

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 519، 520) ونسبها فقال: وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال:. . . . وذكر القصة. [انظر تفسير ابن كثير (1/ 519، 520)].

(2)

رواه أبو داود في سننه (1047) كتاب الجمعة باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، عن أوس بن أوس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ" قالوا: يا رسول اللَّه وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟. يقولون بليت. فقال: "إن اللَّه عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء" وقد رواه ابن ماجه (1085، 1636)، وأحمد في مسنده (4/ 8).

ص: 177

‌مجلس في تحريم الظلم والأمر برد المظالم

وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. ممن أشبه أباه فما ظلم، من استرعى الذنب فقد ظلم.

ثم اشتهر في تعاطي ما لم يأذن به الرب جل جلاله.

قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}

(2)

وهو بيان للحميم السالف في الآية التي قبلها.

أي لا حبيب لهم، صديق ولا قريب ولا ودود ولا ناصر لهم، لا بشفاعة ولا بقهر.

وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

(3)

الآية.

وقد ذكرنا حديث أبي ذر الطويل: "يا عبادي

(4)

"، وفيه وروينا في صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"

(5)

.

(1)

سورة غافر (18/ 19).

أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك باللَّه من قريب منهم ينفعهم ولا شفيع يشفع فيهم بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19] يخبر عز وجل عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها دقيقها ولطيفها، ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من اللَّه تعالى حق الحياء ويتقوه حق تقواه [تفسير بن كثير (4/ 75)].

(2)

سورة الحج (71).

(3)

سورة الأنبياء (47).

(4)

يقصد ما رواه مسلم في صحيحه [55 - (2577)] كتاب البر والصلة والآداب، 15 - باب تحريم الظلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. . . الحديث".

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (2578)] كتاب البر والصلة والآداب، 15 - باب تحريم الظلم، =

ص: 178

فالظلم ظلمات يوم يسعى نور المؤمنين بأيديهم وبأيمانهم

(1)

فأبان بهذا أن من خاصيته إطفاء نور الإيمان أو غلبة ظلمته عليه" كأنما {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس: 27]

(2)

.

ولا منفر مثل هذا، وسببه شح النفس، فليحذر فإنه الحامل على سفك الدماء واستحلال المحارم {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]

(3)

.

وروينا فيه أيضًا: من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء"

(4)

.

فاستيلاء الظالم مردود لأهله، وما قدر انتفاعه بالمظالم، فالدنيا كساعة من نهار أضغاث أحلام {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)} [النازعات: 46]

(5)

.

فلولا الوهم والخيال، ونسيان دار القرار ما ظلم ظالم، ولا استقر هائم.

وروينا في صحيح البخاري من حديث ابن عمر بعد أن ذكر الدجال: "ألا إن اللَّه حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد ثلاثًا.

ويلكم -أو ويحكم- لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"

(6)

.

وروى مسلم بعضه.

فحرمة الظلم كحرمة يوم النحر في البلد الحرام، وإنه ننحر القلوب في بلد

= وأحمد في مسنده (2/ 92)، والحاكم في المستدرك (1/ 11)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 93، 10/ 134)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 535)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 196)، والعجلوني في كشف الخفاء (1/ 46) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (858) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (5/ 100).

(1)

في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الحديد].

(2)

سورة يونس (27).

(3)

سورة الحشر (9).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [60 - (2528)، كتاب البر والصلة والآداب، 15 - باب تحريم الظلم، والترمذي في سننه (2420) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، وأحمد في مسنده (2/ 235، 301، 372)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 93)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 401) والتبريزي في مشكاة المصابيح (5128).

(5)

سورة النازعات (46).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (4403) كتاب المغازي، 79 - باب حجة الوداع والطبراني في =

ص: 179

التكاليف، إنما الجنة هي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

(1)

، فهو جناية على جناب الحق بانتهاك محارمه، فكأن الظالم لم يرض به ربًا ولا على دينه الذي ارتضاه في كتبه، وعلى ألسنة رسله.

إذ رماه الظالم بيده وراء ظهره، ولم يرض به دينا، وعلى مملكته.

إذ الظلم خراب للعالم لا جرم.

قال صاحب الشرع إثر ذلك: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"

(2)

وعلى المظلوم إذا لم يرع الظالم له حرمة.

وروينا فيهما من حديث عائشة مرفوعًا: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين".

أي فكل درهم يؤخذ ظلمًا فعليه إثمه وإثم لوازمه كلها.

فهذا تعدد في ضرر الظلم، باعتبار لوازم المظلمة وإيجابها وجهاته.

والذي قبله تعدد فيه باعتبار من يتأذى به.

وروينا فيهما من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: "إن اللَّه يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته"، ثم تلى قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} .

(3)

الآية.

= المعجم الكبير (15/ 328) وروي مسلم آخره [120 - (66)] كتاب الإيمان 29 - باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [2 - (2824)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، في فاتحته، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال اللَّه عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 438)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 521، 557)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 568، 10/ 535).

(2)

تقدم تخريجه، وقال النووي في معناه: قيل في معناه سبعة أقوال: أحدها: أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق، والثاني: المراد كفر النعمة وحق الإسلام، والثالث: أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه، والرابع: أنه فعل كفعل الكفار، والخامس: المراد حقيقة الكفر ومعناه: لا تكفروا بل دوموا مسلمين، والسادس: حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار والمتكفرون بالسلاح والسابع: قاله الخطابي معناه لا يُكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضًا، وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض. [النووي في شرح مسلم (2/ 48) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4686) كتاب تفسير القرآن، سورة هود - باب قوله:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]، ومسلم في صحيحه [61 - (2583)] كتاب البر والصلة والآداب، 15 - باب تحريم الظلم، والترمذي في سننه (3110) كتاب تفسير القرآن باب من سورة هود، وابن ماجه (4018)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 185)، والشجري في أماليه (2/ 188).

ص: 180

ولا شيء أسوأ من هذا الحال.

وروينا فيهما من حديث معاذ قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: "إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه" الحديث، وفي آخره:"واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب"

(1)

.

وأي عناية كهذا، فلا يسرف في الأسف إنه كان منصورًا.

وروينا فيهما من حديث أبي حميد عبد الرحمن الساعدي قال: استعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى إلي

(2)

.

فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني اللَّه، فيأتي ويقول: "هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا واللَّه لا يأخذ منكم شيئًا بغير حقه إلا لقى اللَّه يحمله يوم القيامة، فلا عرفت أحدًا منكم لقي اللَّه يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر.

ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه فقال: اللهم قد بلغت"

(3)

.

(1)

أخرجه: البخاري في صحيحه (4347) كتاب المغازي، 62 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم في صحيحه [29 - (19)] كتاب الإيمان 7 - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام. والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 96، 7/ 7)، وابن خزيمة في صحيحه (3275)، وإبن حجر في تلخيص الحبير (2/ 152، 154)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 194).

(2)

في هذا الحديث بيان أن هدايا العمل حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدى إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغال وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وإنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة. [النووي في شرح مسلم (12/ 184) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7174) باب هدايا العمال، (7197) كتاب الأحكام، 41 - باب محاسبة الإمام عماله، ومسلم في صحيحه [27 - (1832)] كتاب الإمارة، 7 - باب تحريم هدايا العمال.

قال النووي: قوله: "ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه" هي بضم العين المهملة وفتحها والفاء ساكنة فيهما وممن ذكر اللغتين في العين القاضي هنا وفي المشارق وصاحب المطالع والأشهر الصم قال الأصمعي وآخرون: عفرة الإبط هي البياض بالناصح بل فيه شيء كلون الأرض. قالوا: مأخوذ من عفر الأرض بفتح العين والفاء وهو وجهها. [النووي في شرح مسلم (12/ 184) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 181

فهدايا العمال ظلم ورشوة وسحت وإن سميت بغير اسم الظلم والسحت.

تغير الاسم لا تغيير الحقيقة التي هي أخذ شيء بغير حقه {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}

(1)

.

حتى يلقى اللَّه وهو يحمل وزره على ظهره {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري

(3)

من حديث أبي هريرة مرفوعًا:

"من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه".

فالمخلص ليس إلا التحلل من المظلوم بأي طريق تيسر قبل يوم التغابن.

وروينا في الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا

(4)

: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه".

فمن لا يسلم المسلمون من لسانه ويده

(5)

فليس بمسلم ليأتي عكس، أو عكس نقيض، ومن ليس مسلمًا فهو أهل الظلم والعدوان وأما المسلم فحاشاه.

وفي ذكر اليد واللسان تنويع الظلم وتعميمه بغالب الآية.

وروينا في صحيح البخاري من حديثه قال: كان على ثقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلٌ

(1)

سورة البقرة (9).

(2)

سورة النحل (25).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6534) كتاب الرقاق، 48 - باب القصاص يوم القيامة، وأحمد في مسنده (2/ 506)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 65، 83، 3/ 369)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 186)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 70)، والقرطبي في تفسيره (1/ 378).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (10) كتاب الإيمان، 4 - باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ورقم (6484) كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، ومسلم في صحيحه [64 - (40)] كتاب الإيمان، 14 - باب بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، والترمذي (2627)، وأبو داود (2481) والنسائي (8/ 105 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 163، 192) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 187)، والحاكم في المستدرك (1/ 10، 3/ 517).

(5)

قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" معناه: من لم يؤذ مسلمًا بقول ولا فعل وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لما ذكرناه.

قالوا: معناه المسلم الكامل وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة، بل هذا كما يقال العلم ما نفع أو العالم زيد، أي الكامل أو المحبوب. [النووي في شرح مسلم (2/ 10) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 182

يقال له كركرة، فمات فقال صلى الله عليه وسلم "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها

(1)

.

فمآل الظالم النار، ولو كان هذا الخادم في حقير عباءة فالحذر الحذر.

وروينا في الصحيحين أيضًا من حديث أبي بكر مرفوعًا:

"إن الزمان قد استدار" الحديث وفيه "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"

(2)

إلى آخره.

وصح من حديث أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي مرفوعًا: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللَّه له النار، وحرم عليه الجنة".

فقال: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول اللَّه؟ فقال: "وإن كان قضيبًا من أراك"

(3)

.

ولا أوكد من هذا، فمنه اقتطاع حق امرئ مسلم بيمين فاجرة، ولا أعم من مغلول حق في كل عين ودين ومنفعة وانتفاع واختصاص واستحقاق وعرض ورجاء وإلزام وحسم وجد، وغير ذلك، ولا من تنكيره في الشرط.

وروينا في صحيح مسلم من حديث عدي بن عميرة مرفوعًا: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولًا، يأتي به يوم القيامة".

فقام إليه رجل أسود من الأنصار، كأني أنظر إليه فقال "يا رسول اللَّه اقبل عني عملي؟

قال: وما لك؟ " قال: سمعتك تقول كذا وكذا قال: وأنا أقوله الآن، فما استعملناه منكم على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهى عنه

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3074) كتاب الجهاد والسير، 190 - باب القليل من الغلول وابن ماجه في سننه (2849) كتاب الجهاد، باب الغلول، وأحمد في مسنده (2/ 160)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 261، 8/ 336)، وابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 491)، وعبد الرزاق في مصنفه (9504)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 214).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 7،83/ 129)، ومسلم في صحيحه [29 - (1679)] كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات.

9 -

باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، وأبو داود في سننه (1947)، وأحمد في مسنده (5/ 37، 73)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 166)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 268)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2659)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 34، 236).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [218 - (137)] كتاب الإيمان، 61 - باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، والنسائي (8/ 246 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 260)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 625)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3760)، ومالك في الموطأ (727).

ص: 183

انتهى"

(1)

.

وهو ما قبله بيان لأنواع الظلم، وإن منها الحجة والجناية المحوجين إلى اليمين الفاجرة، وإن منها الاختلاس فيما علم، والكتمان فيما لم يعلم.

وقوله: "مخيطًا فما فوقه" يحتمل ما فوقه من القلة.

ومنها السرقة والغلول المانع للشهادة، والموقع في النار، كما سيأتي.

ومنها الدين الذي صنع على صاحبه، بأنه لم يترك وفاءه أو لم يشهد به، أو نحو ذلك.

وروينا في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد.

فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في بردة غلها أو عباءة"

(2)

وروينا فيه أيضًا من حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي إنه صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم إن الجهاد في سبيل اللَّه، والإيمان باللَّه أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: أرأيت يا رسول اللَّه أرأيت إن قتلت في سبيل اللَّه تكفر خطاياي؟

فقال: نعم، إن قتلت في سبيل اللَّه، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر.

قال: كيف قلت؟ فأعاده.

فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الدين، فإن جبريل صلى الله عليه وسلم قال لي ذلك

(3)

.

وكل ذلك مؤكد، للتنفير من الدين.

نعوذ باللَّه من غلبته، ومن قهر الرجال.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [30 - (1833)] كتاب الإمارة، 7 - باب تحريم هدايا العمال، وأحمد في مسنده (4/ 192)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 158)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 548، 549)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 563)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1780).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [182 - (114)] كتاب الإيمان، 48 - باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأحمد في مسنده (1/ 30)، وابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 466) والتبريزي في مشكاة المصابيح (4034)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 307).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [117 - (1885)] كتاب الإمارة، 32 - باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه، إلا الدين، والترمذي في سننه (1712) كتاب الجهاد، باب ما جاء فيمن يستشهدون وعليهم دين، وأحمد في مسنده (5/ 304) والمنذري فى الترغيب والترهيب (2/ 311).

ص: 184

وفيه تنبيه من باب أولى على النهب والمحاربة، كل استيلاء باطل

(1)

. وروينا أيضًا من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس من أمتي قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار"

(2)

.

وهذا هو المفلس الحق، يقي وغير خاف.

أن إذ تفرق غرماؤه حسناته التي كأمثال الجبال، ثم وضعت عليه سيئاتهم، وطرح في النار، لا حسرة كحسرته، وأي أمر حصل له من مظالمه يقابل هذا الإفلاس الشديد في أضيق الأوقات.

وروينا فيهما من حديث أم سلمة مرفوعًا: "وإنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار"

(3)

.

فالحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا فليكن الإنسان على بصيرة ولو ألقى معاذيره.

واعلم أن أحكام الدنيا والآخرة لون، وأحكام الجزاء والحاقة لون، فلا يتوهم أن إذن الحاكم يحمي الحساب أو يمنع العذاب.

(1)

قال النووي: فيه هذه الفضيلة العظيمة للمجاهد وهي تكفير خطاياه كلها إلا حقوق الآدميين، وإنما يكون تكفيرها بهذه الشروط المذكورة وهو أن يقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، وفيه أن الأعمال لا تنفع إلا بالنية والإخلاص للَّه تعالى وقوله صلى الله عليه وسلم:"مقبل غير مدبر" لعله احتراز مما يقبل في وقت ويدبر في وقت، والمحتسب هو المخلص للَّه تعالى فإن قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره. [النووي في شرح مسلم (13/ 26، 27) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [59 - (2581)] كتاب البر والصلة والآداب، 15 - باب تحريم الظلم، والترمذي في سننه (2418) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 93)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 23).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7181) كتاب الأحكام، 29 - باب من قضى له بحق أخيه فلا يأخذه فإذ قضاء الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، ومسلم في صحيحه [4 - (1713)] كتاب الأقضية، 3 - باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، وأبو داود في سننه (3583)، ومالك في الموطأ (719)، والبيهقي في السنن الكبرى (90/ 149)، وتلخيص الحبير (4/ 192)، والتبريزي في مشكاهّ المصابيح (3761)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 203).

ص: 185

وروينا في صحيح البخاري من حديث ابن عمر مرفوعًا: "لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصيب دمًا حرامًا"

(1)

.

وما أخشى أن يكون هذا إنذارًا بسوء الخاتمة.

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}

(2)

{ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}

(3)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث خولة بنت عامر الأنصارية

(4)

وهي امرأة حمزة رضي الله عنهما وعنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجالا يتخوضون في مال اللَّه بغير حق، فلهم النار يوم القيامة"

(5)

أي لأن خصمه اللَّه، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}

(6)

.

ومدار ما ذكرناه من الأحاديث على عشر مهمات.

بيان تحريم الظلم وخاصيته وسببه، وأن نفعه وهمي وقليل، وضرره متعدد كثير، وسوء حال الظالم والاعتبار بالمظلوم.

والتنبيه على ما لم يحسب ظلمًا أو يحسب أنه يخلص وما به التخلص، وبيان أهله وما يؤول إليه أمرهم أو بيان أنواعه وما فيه من الحسرة الناجمة عنه، وما لا يحله باطلًا، وإن سُلِّط عليه ظاهرًا، وظلم لا فسحة للدين معه، وحكم ما لا يطالب به.

إلا الرب جل جلاله.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6862) كتاب الديات، باب قول اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، وأحمد في مسنده (2/ 94)، والحاكم في المستدرك (4/ 351) والتبريزي في مشكاة المصابيح (3447).

(2)

سورة التوبة (77).

(3)

سورة البقرة (61)، آل عمران (112)، المائدة (78).

(4)

خولة بنت ثامر الخولانية، البخارية الأنصارية، صحابية زوج حمزة بن عبد المطلب، ولدها حديث، أخرج لها: البخاري والترمذي. ترجمتها: تهذيب التهذيب (12/ 414)، وتقريب التهذيب (2/ 596)، وأسد الغابة (7/ 91)، والثقات (3/ 116)، والاستيعاب (4/ 1380)، والإصابة (7/ 617) والكاشف (3/ 469)، والخلاصة (3/ 381) وأسماء الصحابة الرواة (538).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3118) كتاب فرض الخمس، 7 - باب قول اللَّه تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} يعني للرسول قسم ذلك.

وأحمد في مسنده (6/ 410)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3746، 3995).

(6)

سورة فاطر (5).

ص: 186

‌مجلس في النصيحة

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

(1)

.

فيجب صفاء السرائر، وبذل الجهد في دفع الضرائر.

وقال تعالى إخبارًا عن نوح عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}

(2)

.

وعن هود عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}

(3)

فالنصح من شأن الكرام، وحقيقته الصدق، والنقاء من كل غش، وأثره بذل الجهد في الإصلاح، ولم كل شعث وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري مرفوعًا:"الدين النصيحة". قلنا: لمن؟ قال للَّه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"

(4)

.

وروينا في الصحيحين من حديث جرير: "بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"

(5)

.

وروينا فيهما من حديث أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"

(6)

.

(1)

سورة الحجرات (10).

(2)

سورة الأعراف (62).

(3)

سورة الأعراف (68).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [95 - (55)] كتاب الإيمان، 23 - باب بيان أن الدين النصيحة وذكره البخاري تعليقًا في كتاب الإيمان، 43 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، والترمذي في سننه (1926) كتاب البر والصلة باب ما جاء في النصيحة، والنسائي (7/ 157) المجتبى، وأحمد في مسنده (2/ 297).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (57) كتاب الإيمان، 43 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة للَّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، ورقم (524) كتاب مواقيت الصلاة، باب البيعة على إقام الصلاة، ورقم (1401) كتاب الزكاة، 2 - باب البيعة على إيتاء الزكاة، ورقم (2157) كتاب البيوع، 68 - باب هل يبع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ وانظر كذلك أرقام (2705، 2714، 7204)، ومسلم في صحيحه [97 - (256)، كتاب الإيمان،23 - باب بيان أن الدين النصيحة.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (13) كتاب الإيمان، 7 - باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب =

ص: 187

ومدار هذه الأحاديث على بيان مزية النصح ومجاريه وصفته وموجبه، ودلائل التحقق بمنازلته.

ومن الحكايات اللائقة بذلك: ما روي عن علي بن أبي طالب الوراق إن يوسف بن الحسين رؤي في المنام فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟

فقال: غفر لي ورحمني.

فقيل: بماذا؟

فقال: بكلمة أو بكلمات قلتها عند الموت، قلت: اللهم إني نصحت الناس قولًا وخنت نفسي فعلًا فهو خيانة نفسي لنصح قولي.

الثانية: قال الأحنف

(1)

قال عمر: يا حنيف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه كانت النار أولى به.

الثالثة: قال وديعة سمعت عمر يقول وهو يعظ رجلًا: لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا مات يخشى اللَّه، ولا تصح مع الفاجر فيعلمك من فجره، ولا تطلعه على سرك ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون اللَّه بك.

الرابعة: قال محمد بن علي: أوصاني أبي فقال: لا تصحبنى خمسة، ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق. قلت: جعلت فداك يا أبت من هؤلاء الخمسة؟

قال: لا تصحبن فاسقًا، فإنه يُتْبِعُك بالكلمة فما دونها.

قال: تطمع فيها، ثم لا تنالها. قلت: يا أبت ومن الثاني؟

قال: لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما تكون إليه.

= لنفسه، ومسلم في صحيحه [71 - (45)] كتاب الإيمان، 17 - باب الدليل على أن خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، والترمذي (2551) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع.

(1)

الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين أبو بحر التميمي: الذي يضرب به المثل في الحلم، من كبار التابعين وأشرافهم، اسمه الضحاك، ويقال: صخر، وغلب عليه الأحنف لاعوجاج رجليه وكان سيدًا مطاعًا في قومه، أسلم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفد على عمر، وحدث عن عمر وعثمان وعلي وأبي ذر والعباس وابن مسعود، قال ابن سعد: كان الأحنف ثقة مأمونًا قليل الحديث، وكان صديقًا لمصعب بن الزبير فوفد عليه إلى الكوفة فتوفي عنده سنة (67، 71)[تاريخ الإسلام وفيات (61 - 70)].

ص: 188

فقلت: يا أبت ومن الثالث؟

قال: لا تصحبن كذابا فإنه بمنزلة السراب، يبعد عنك القريب، ويقرب منك البعيد.

قلت: يا أبت ومن الرابع؟ قال: لا تصحبن أحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. قلت: قد قيل عدو عاقل خير من صديق أحمق.

قلت: يا أبت ومن الخامس؟

قال: لا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب اللَّه عز وجل في ثلاثة مواضع.

الخامسة: عن ابن عباس أنه قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانتفاعي بكتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب، كتب إليَّ:

أما بعد، فإن المرء ليسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ويسره درك ما لم يكن ليفوته.

فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها.

وما نلت من دنياك فلا تكثرن به قدحًا، وما فاتك منها فلا تأس جزعًا.

السادسة: قال ثابت بن الحجاج

(1)

: قال عمر بن الخطاب: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}

(2)

.

السابعة: قال عبد الرحمن: أتى رجل الضحاك فقال: يا أبا عبد الرحمن علمني كلمات جوامع بدائع.

قال: لا تشرك باللَّه شيئًا، وزُلْ مع الحق حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه، وإن كان بغيضًا.

ومن جاءك بالباطل فاردده عليه، وإن كان حبيبًا.

الثامنة: عن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر عند الكعبة فقال: أيها الناس أنا جندب الغفاري

(3)

هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق.

(1)

ثابت بن الحجاج الكلابي الجزرى الرقي، ثقة أخرج له أبو داود.

ترجمته: تهذيب التهذيب (2/ 4)، وتقريب التهذيب (1/ 115)، والكاشف (1/ 170)، وتاريخ البخاري الكبير (2/ 162)، والجرح والتعديل (2/ 1810).

(2)

سورة الحاقة (18).

(3)

أبو ذر الغفاري اسمه جندب بن جنادة، أحد السابقين الأولين، يقال كان خامسًا في الإسلام ثم =

ص: 189

فاكتنفه الناس فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفرًا أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلي.

قال: فسفر طريق الآخرة أبعد ما تريدون فخذوا ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يومًا شديدًا حره لطول النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة سواد الليل لوحشة القبور. كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء فتسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرة. اجعل الدنيا مجلسين، مجلس في طلب الحلال، ومجلس في طلب الآخرة.

والمجلس الثالث يضرك ولا ينفعك، فلا ترده.

واجعل المال درهمين، درهمًا تنفقه على عيالك من حله، ودرهمًا تنفقه لآخرتك.

والمال يضرك ولا ينفعك، فلا ترده.

ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس قد قتلكم حرص لا تدركونه أبدًا.

التاسعة: كتب أبو الدرداء

(1)

إلى سلمان الفارسي: يا أخي اغتنم صحتك وفراغك قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع العباد رده، واغتنم دعوة المبتلى ويا أخي ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن المسجد بيت كل تقي، وقد ضمن اللَّه تعالى لمن كانت المساجد بيوتهم الروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان اللَّه، ويا أخي ارحم اليتيم وأدنه، أطعمه من طعامك فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول وأتاه رجل يشتكي قساوة قلبه فقال:"أتحب أن يلن قلبك"

(2)

.

قال: نعم، قال:"أدنِ اليتيم منك وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، فإن ذلك يلين قلبك، وتقدر على حاجتك".

يا أخي لا تجمع ما لا تستطيع شكره، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول

(3)

= انصرف إلى بلاد قومه وأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم هاجر أبو ذر إلى المدينة.

(1)

أبو الدرداء عويمر بن عبد اللَّه، وقيل ابن زيد وقيل ابن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، وقيل عويمر بن قيس بن زيد، ويقال عامر بن مالك، حكيم هذه الأمة، له عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث. توفي سنة (32) هـ.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 384)، وعبد الرزاق في مصنفه (20029)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 214)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 349)، والهيثمي فى مجمع الزوائد (8/ 160).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20029)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 214)، والزبيدى في الإتحاف (8/ 146).

ص: 190

يجاء بصاحب الدنيا يوم القيامة الذي أطاع اللَّه فيها وهو بين يدي ماله، وماله خلفه، كلما تكفى به الصراط قال له ماله: امض فقد أديت الحق الذي عليك.

قال: ويجاء بالذي لم يطع اللَّه عز وجل وماله بين كتفيه فيعيره ماله ويقول له: ويلك هلا عملت بطاعة اللَّه في، فلا يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور".

ويا أخي حُدِثْتُ إنك اشتريت خادمًا، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يزال العبد من اللَّه زهو منه ما لم يخدم، فإذا خدم وجب عليه الحساب"

(1)

.

ويا أخي لا تغترن بصحبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنا عشنا بعده دهرًا طويلًا، واللَّه أعلم بالذي أصابنا بعده.

العاشرة: عن بعض الشيوخ قال: دخلت أنا وعشرة نفر في جبل لكام، فسرنا فيه أيامًا، فانحدرنا إلى واد، فإذا فيه بحيرة ماء عذب، وإذا على شاطئ البحيرة مسجد مبني من حجر أبيض، وإذا بعين ماء تحت المسجد تجري إلى البحيرة، فجلسنا فيه، فلما كان وقت الظهر جاء رجل أذن وأقام، ثم دخل المسجد، فسلم علينا وصلى ركعتين، ثم أقام الصلاة فدخل شيخ ومعه ثلاثون رجلًا، فتقدم إلى المحراب وصلى بنا، ثم انصرفوا، ولم يكلمونا، ولم نكلمهم، فلما كان بعد ساعة جاء رجل منهم معه شيء فوضعه في زاوية المسجد، ثم قال لنا: هلموا رحمكم اللَّه.

فقمنا إليه فإذا نحن بمنديل أبيض لم نر مثله تحت مكبة من زمرد أخضر.

فكشفناها فإذا مائدة من ياقوت أحمر عليه طعام يشبه الثريد، فأكلنا منه.

فكنا نأكل ولا ينقص منه شيء.

فلما كان وقت السحر جاء ذلك الرجل فحمل المائدة ثم أذن وأقام الصلاة فتقدم الشيخ فصلى بنا وجلس في محرابه وختم القرآن وحمد اللَّه وأثنى عليه، ودعا بدعاء حسن.

ثم قال: إن اللَّه تعالى افترض على خلقه فريضتين في آية واحدة، والخلق عنها غافلون.

فقلت: ما هي يرحمك اللَّه؟

فقال لي: تقدم جبرك اللَّه، فقدمني على الجماعة وقال لي: يا بني جبرك اللَّه قال الجليل جل جلاله {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6] ونتحصن منه قال: اعلم رحمك اللَّه إن اللَّه جل جلاله جعل لكل مؤمن سبعة حصون.

(1)

أخرجه عبد الرازق في مصنفه (20029)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 215).

ص: 191

فقلت وما هذه الحصون؟

قال: الحصن الأول: من ذهب: وهو معرفة اللَّه تعالى وحوله: حصن من فضة، وهو الإيمان باللَّه، وحوله حصن من حديد وهو التوكل على اللَّه وحوله حصن من حجارة وهو الشكر والرضا عن اللَّه وحوله حصن من فخار وهو الأمر والنهي والقيام بهما، وحوله حصن من زمرد وهو الصدق والإخلاص في جميع الأحوال.

وحوله حصن من لؤلؤ رطب وهو أدب النفس.

والمؤمن من داخل هذه الحصون، وإبليس من ورائها ينبح كما ينبح الكلب، والمؤمن لا يبالي به لأنه قد تحصن بهذه الحصون.

فينبغي للمؤمن أن لا يترك أدب النفس في أحواله ولا يتهاون به في كل ما يأتيه، فإنه من ترك أدب النفس وتهاون به يأتيه الخذلان من فوق لتركه الأدب، ولا يزال إبليس يعالجه ويطمع فيه حتى يأخذ منه الحصن الأول ثم لا يزال يأخذ منه حصنًا بعد حصن إذا ترك الأدب، ويطمع فيه، ويأتيه الخذلان من اللَّه لتركه حسن الأدب حتى يأخذ منه جميع الحصون، ويرده إلى الكفر فيخلد في النار، نعوذ باللَّه من جميع ذلك، ونسأله التوفيق وحسن الأدب.

قال: فقلت له: أوصني بوصية.

قال: نعم جبرك اللَّه، اجتهد في رضى خالقك بقدر ما تجتهد في رضى نفسك، واعمل في الدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل لربك بقدر حاجتك إليه، وأطع إبليس لعنه اللَّه بقدر نصحه لك، وارتكب من المعاصي بقدر طاقتك على النار، واحفظ لسانك عما لا ترجو فيه ثوابا كما تحفظ نفسك من سلعة لا ترجو فيها ربحًا.

واترك أربعة لأربعة، ثم لا تبالي متى مت اترك الشهوات إلى الجنة والنوم إلى القبر، والراحة إلى الصراط والفخر إلى الميزان.

ثم قام فمشى، فأقمنا يومنا ذلك.

فلما كان اليوم الرابع ودعناهم فقال الشيخ في آخر كلامه لنا: يا فتيان استروا المكان يستركم اللَّه في الدنيا والآخرة.

الحادية عشرة: عن أبي عامر الواعظ قال: بينما أنا جالس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ جاءني غلام أسود برقعة فإذا فيها مكتوب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم متعك اللَّه بمسامرة الفكرة ونعمك بمؤانسة العبرة، وأفردك بحب الخلق، يا أبا عامر أنا رجل من إخوانك بلغني قدومك المدينة، فسررت بذلك، وأحببت زيارتك.

وبي من الشوق إلى مجالستك والاستماع إلى مجالستك والاستماع إلى محادثتك ما لو كان فوقي لأظلني أو كان تحتي لأقلني فسألتك بالذي حباك بالبلاغة

ص: 192

لما أتحفتني جناح التوصل بزيارتك. والسلام.

قال أبو عامر: فقمت مع الرسول أتى بي إلى فناء، فأدخلني منزلًا رحيبًا، فقال لي: قف هنا حتى أستأذن لك.

فوقفت، فخرج إليَّ وقال: لج، فدخلت فإذا ببيت مفرد في الخربة له باب من جريد النخل، وإذا بشيخ قاعد مستقبل القبلة بحالة من الوَلَه مكروبًا من الخشية محزونًا قد ظهرت في وجهه أحزانه.

وذهبت من البكاء عيناه، مرضت أجفانه.

فسلمت عليه، فرد علي السلام، فإذا به أعمى مقعد مقام.

فقال لي: يا أبا عامر غسل اللَّه من أوزار الذنوب قلبك، لم يزل قلبي إليك تواقًا، وإلى سماع الموعظة منك مشتاقًا، وبي جرح ثقل قد أعيا الواعظين دواءه، وعجز المطيبين شفاؤه.

وقد بلغني نفع مراهمك الجراح والآلام.

فلا بأس رحمك اللَّه، مر (وابقاع)

(1)

الترياق، وإن كان مر المذاق، فإني ممن يصبر على ألم الدواء، رجاء الشفاء قال أبو عامر: فنظرت إلى منظر هولني، وسمعت كلامًا قطعني، وفكرت طويلًا.

ثم أتاني من كلامه ما أتاني من الكلام، وسهل عني صعوبته ما منه تابا، وبرق الأفهام.

فقلت: يا شيخ ارم ببصرك قلبك في ملكوت السموات فأجل فسقع معرفتك في سكان الأرجاء، وتمقل بحقيقة إيمانك إلى جنة المأوى، فترى ما أعد اللَّه فيها للأولياء.

ثم تُشرف على نار فنرى فيها ما أعد اللَّه للأشقياء فشتان ما بين الدارين، ليس الفريقان في الموت سواء.

قال: فأنَّ وأنه صاح صيحة، وزفر والتوى وبكى حتى أروى الثرى.

وقال: يا أبا عامر وقع دواؤك على دائي، وأرجو أن يكون عندك شفائي، زدني رحمك اللَّه.

قلت: يا شيخ إن اللَّه عالم سريرتك، مطلع على حقيقة ساهرتك في خلوتك، بعينه عند استتارك من خلقه ومبارزته.

(1)

كذا بالأصل.

ص: 193

فصاح صيحة كصيحته الأولى، ثم قال: من لفقري، من لفاقتي، من لذنبي، من لخطيئتي، أنت لي يا مولاي إليك منقلبي، ثم خر ميتًا.

فخرجت إليَّ جارية عليها مدرعة من صوف وخمار من صوف قد ذهب السجود بجبهتها وأنفها، واصفر لطول القيام لونها، وتورمت قدماها فقالت: واللَّه يا حادي قلوب العارفين ومثير أشجان عليل المحزونين لا ينسى لك هذا المقام من رب العالمين.

هذا الشيخ والدي مبتلي بالسقم منذ عشرين سنة، صلى حتى أقعد، وبكى حتى عمي، وكان يتمناك على اللَّه ويقول: حضرت مجلس أبي عامر، فأحيى موات قلبي وطرد وسن نومي، وإن سمعته ثانيًا قتلني، فجزاك اللَّه من واعظ خيرًا، ومتعك من حكمتك بما أعطاك.

ثم أكبت على أبيها تقبل بين عينيه وتبكي وتقول: واأبتاه، يا من أعماه البكاء على ذنبه، يا من قتله وعيد ربه، ثم علا البكاء والاستغفار والدعاء والنحيب وجعلت تقول: يا حليف الحرقة والبكاء، يا جليس الابتهال والدعاء، يا صريع المذكرين والخطباء.

يا قتيل الوعاظ والحكماء.

قال أبو عامر: فأجبتها فقلت: أيتها الباكية الحيراء، والنادبة الثكلاء، إن أباك نحبه قضي، وورد دار الجزاء، وعاين كل ما عمل، وعليه يحصى في كتاب عند ربه {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] فمحسن فله الزلفى، ومسيء فوارد دار من أساء.

فصاحت الجارية وجعلت ترشح عرقًا، ثم ماتت.

فخرجت مبادرًا إلى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم وفزعت إلى الصلاة والدعاء والاستغفار حتى كان عند العصر، فجاءني غلام أسود يؤذنني بجنازتهما وقال: أحضر للصلاة عليهما ودفنهما.

فحضرت وسألت عنهما فقيل لي: هما من ولد الحسن والحسين بن علي بن أبي طالب

(1)

، فما زلت جزعًا مما جنيت عليهما حتى رأيتهما في المنام عليهما

(1)

رواه الترمذي في سننه (3768) كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروي البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته عن ابن عمر: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا".

ص: 194

حلتان خضراوتان، قلت: مرحبًا بكما وأهلًا، ما زلت حذرًا مما وعظتكما به فما صنع اللَّه بكما؟ فقال الشيخ:

أنت شريكي في الذي نلته

مستأهلًا ذاك أبا عامر

وكل من أيقظ ذا غفلة

فنصف ما يعطاه للآمر

من رد عبدًا مذنبًا

كان كمن راقب للقاهر

واجتمعا في دار عدن وفي

جوار رب سيد غافر

يا أبا عامر وردت على رب كريم راض غير غضبان، فاسكنني الجنان وزوجني من الحور الحسان، فاحرص يا أبا عامر أن تكثر من الاستغفار:

إذا أمسى فراشي من تراب

وبت مجاور الرب الرحيم

فهنوني يا أصحابي وقولوا

لك البشرى قدمت على كريم

ص: 195

‌مجلس في التواضع وخفض الجناح للمؤمنين

قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]

(1)

.

وهذا خطاب لسيد الأولين والآخرين، فما بالك بآحاد المخلوقين.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}

(2)

.

وهذا شرح خفض الجناح، فوصف المحبوبين للَّه المحبين له بذلك.

ولنتمنَّ الذلة معنى التحصن عداد (بعلي)

(3)

فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(4)

.

فإذا كان الأمر كذلك فلم لا يتواضع، والناس في ذلك سواء، فلا وجه للترفع إذن.

وإن تفرعوا للشعوب والقبائل فهو للتعارف لا للتفاخر.

وقال اللَّه تعالى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}

(5)

فلا يتوهم فاعله ترفعه

(1)

سورة الحجر (88).

(2)

سورة المائدة (54).

يقول تعالى مخبرًا عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن اللَّه يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلًا كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} أي بممتنع ولا صعب. [تفسير ابن كثير (2/ 71)].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

سورة الحجرات (13).

يقول تعالى مخبرًا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها وهما آدم وحواء وجعلهم شعوبًا وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك، وقيل المراد بالشعوب بطون العجم وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل.

وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، أي إنما تتفاضلون عند اللَّه تعالى بالتقوى لا بالأحساب. [تفسير ابن كثير (4/ 217)].

(5)

سورة النجم (32).

ص: 196

ومكانه، فإنه تزكية منهي عنها بقوله:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} .

وقال اللَّه تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}

(1)

الآية، ولنذكر أحاديث في ذكر ما يرغب في التواضع ويجذب إليه، وما يحذر من عواقب الرفعة الدنيوية، والمراتب العلية.

وقد روينا في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار -بالراء- مرفوعًا:- "إن اللَّه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"

(2)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما نقصت صدقة من مال، ولا زاد اللَّه عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد للَّه إلا رفعه اللَّه"

(3)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أنس: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.

وروينا في الصحيحين من حديثه أيضًا أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله"

(4)

.

(1)

سورة الأعراف (48).

قال حذيفة: إن أصحاب الأعراف قوم تكاثفت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة وقصرت بهم سيئاتهم عن النار فجعلوا على الأعراف يعرفون الناس بسيماهم فلما قضى اللَّه بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة فأتوا آدم فقالوا يا آدم أنت أبونا فأشفع لنا عند ربك. . . الحديث بطوله. [تفسير ابن كثير (2/ 223)].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [64 - (2865)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 16 - باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، وأبو داود في سننه (4895)، وابن ماجه في سننه (4178، 4214)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 234)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 365)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 558)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 17).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [69 - (2588)] كتاب البر والصلة والآداب، 19 - باب استحباب العفو والتواضع، والترمذي في سننه (2029)، وأحمد في مسنده (2/ 235)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 235). وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "وما تواضع أحد للَّه إلا رفعه اللَّه" فيه أيضًا وجهان: أحدهما: يرفعه في الدنيا وثبت له بتواضعه في القلوب منزلة ويرفعه اللَّه عند الناس ويجل مكانه، والثاني أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في الحادة معروفة وقد يكون المراد الوجهان معًا جميعها في الدنيا والآخرة واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (6/ 116) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6347) كتاب الاستئذان، 15 - باب التسليم على الصبيان، ومسلم في صحيحه [14 - (2168)] 1 - (15) كتاب السلام 5 - باب استحباب السلام على الصبيان.

ص: 197

وروينا في صحيح البخاري من حديث الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟

قالت: كان يكون في مهنة أهله، -يعني في خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة

(1)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي رفاعة تميم بن أسد قال: انتهيت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول اللَّه رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدرى ما دينه؟

فأقبل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأُتِيَ بكرسي فقعد عليه وجعل يعلمني ما علمه اللَّه.

ثم أتى خطبته فأتم آخرها

(2)

.

وروينا فيه من حديث أنس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث قال: وقال: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان"، وأمر بسلت القصعة قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة"

(3)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما بعث اللَّه نبيًا إلا رعى الغنم".

قال أصحابه: وأنت؟

قال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (676) كتاب الأذان، 4 - باب من كان في حاجة أهله فأقمت الصلاة فخرج، ورقم (5363) كتاب النفقات، 8 - باب خدمة الرجل في أهله، ورقم (6039) كتاب الآداب، 40 - باب كيف يكون الرجل في أهله، والترمذي (2489)، وأحمد في مسنده (6/ 126، 206) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 215) والزبيدي في الإتحاف (7/ 98)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5816).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [60 - (876)] كتاب الجمعة، 15 - باب حديث التعليم في الخطبة، قال النووي: فيه استحباب تلطف السائل في عبارته وسؤاله العالم، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم، وفيه المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور، فأهمها ولعله كان يسأل عن الإيمان وقواعده المهمة، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور. [النووي في شرح مسلم (6/ 144) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [135 - (2033)] كتاب الأشربة، 18 - باب استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى وكراهة مسح اليد قبل لعقها، وأبو داود في سننه (3845) وأحمد في مسنده (3/ 100) والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 27).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2262) كتاب الإجارة، 2 - باب رعي الغنم على قراريط، وابن =

ص: 198

وروينا فيه أيضًا عنه مرفوعًا: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى ذراع أو كراع لقبلت"

(1)

.

وروينا فيه أيضًا عن أنس قال: كانت ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العضباء لا تُسبق، ولا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها.

فشق ذلك على المسلمين حتى عرف.

فقال: "حق على اللَّه إن لا يرفع شيء من الدنيا إلا وضعه"

(2)

.

وروينا عن حماد بن زيد قال: قال لي أيوب السخستاني: إن قومًا يريدون أن يرفعوا فيأبي اللَّه إلا أن يضعهم، وآخرين يريدون أن يتواضعوا ويأبى اللَّه إلا أن يرفعهم.

وقال خلف: جاءني أحمد بن حنبل يسمع الحديث فاجتهدت أن أرفعه، فأبى وقال: لا أجلس إلا بين يديك فقد أمرنا بالتواضع لمن نتعلم منه.

وقال علي بن أبي طالب فيما رواه الشعبي

(3)

عنه: يا أيها الناس عُدُّوا عني هذه الكلمات، فلو ركبتم المطايا حتى تضنوها ما أصبتم منها: لا يرجَونَّ عبدًا إلا ربه، ولا يخافَنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا لم يتعلم أن يتعلم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم.

واعلموا أن الصبر مع الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له.

= ماجه (2149)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 118).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2568) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، 2 - باب القليل من الهبة، ورقم (5178) كتاب النكاح، 74 - باب أجاب إلى كراع، وابن حبان في صحيحه (1064)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 169)، وأحمد في مسنده (2/ 479، 2/ 424)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 53) والتبريزي في مشكاة المصابيح (1827)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 241).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6501) كتاب الرقاق، 38 - باب التواضع، وأبو داود في سننه (4802) كتاب الأدب باب في كراهية الرقعة في الأمور، والنسائي (6/ 288 - المجتبى)، وابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 58) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 255) والقرطبي في تفسيره (9/ 146)، والدارقطني في سننه (4/ 303).

(3)

عامر بن شراحيل بن عبد، أبو عمرو الشعبي الحميري، الكوفي، الهمداني، ثقة، مشهور، فقيه فاضل، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة 109، 105، 104).

ترجمته: تهذيب التهذيب (5/ 65)، وتقريب التهذيب (1/ 387)، تاريخ البخاري الكبير (6/ 450) سير الأعلام (4/ 294)، والثقات (5/ 185)، والوافي بالوفيات (16/ 587)، والجرح والتعديل (6/ 1802)، والتاريخ الصغير للبخاري (1/ 243، 253).

ص: 199

وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب

(1)

: ما دخل قلب رجل شيء من الكبر إلا نقص من عقله قدر ما دخله من ذلك، قل أو كثر.

وعنه: أن والده كان يحب أن لا يعينه على طهوره أحد، كان يستقي الماء لطهوره، ويحضره قبل أن ينام فإذا أقام من الليل بدأ بالسواك، ثم يتوضأ ويأخذ في صلاته، وكان يقول: عجبت للمتكبر الفجور الذي كان أمس نطفة ثم يكون غدًا جيفة وعجبت كل العجب من يرد دار البقاء، ويعمل لدار الفناء.

وقال الشبلي: إذا أردت أن تنظر إلى ما أنت، فانظر إلى ما يخرج منك في دخولك الخلاء، فمن كان هذا حاله فلا يجوز له أن يتطاول أو يتكبر على من هو مثله.

وللحسن البصري عجبت من معجب بصورته، وكان بالأمس نطفة مذرة، وهو على تيهه ورونقه ما بين جنبيه يحمل العذرة.

وروي أن إبراهيم بن أدهم

(2)

كان يعمل في الحصاد ويحفظ السلتين. فجاءه يومًا جندي وطلب منه أن يعطيه شيئًا من الفاكهة فأبى.

فقلب الجندي سوطه وضرب رأسه، فطاطأ إبراهيم رأسه وقال: اضرب رأسًا طال ما عصى اللَّه، فلما عرفه الجندي اعتذر إليه فقال له إبراهيم: الرأس الذي يحتاج إلى الاعتذار تركته ببلخ.

وقال همام: قال لي عروة: كلمة احتملتها أورثتني عزًا طويلًا.

وقال إبراهيم بن أدهم: رأيت جبريل في المنام وفي يده قرطاس، فقلت له ما تصغ بهذا؟ قال: اكتب فيه أسماء المحبين.

فقلت: أكتب محبهم محب المحبين إبراهيم بن أدهم.

فنودي يا جبريل قال: اكتبه هو أولهم.

وروي أن الشيخ محمد بن الكيس كان يجتمع بالخضر

(3)

في أكثر الأوقات،

(1)

تقدمت ترجمته من قبل.

(2)

قال القشيري: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر أبو إسحاق العجلي، وقيل: التميمي البلخي الزاهد، أحد الأعلام، كان من أبناء الملوك، فخرج يتصيد وأثار ثعليًا أو أرنبًا وهو في طلبه، فهتف به هاتف، ألهذا خلقت أم لهذا أمرت فنزل عن دابته وصادف راعيًا لأبيه، وأخذ جبته الصوف فلبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم إنه دخل البادية إلى أن قال: ومات بالشام وكان يأكل من عمل يده، من الحصاد، وحفظ البساتين، ورأى في البادية رجلًا علمه اسم اللَّه الأعظم، فدعا به بعده فرأى الخضر وقال: إنما علمك أخي داود الاسم الاعظم. [تاريخ الإسلام وفيات (161 - 170)].

(3)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح =

ص: 200

وكان له صاحب موسر كثير المعروف فقال له: يا أخي مالي منك نصيب؟ قال: فبماذا؟ قال: تجمع بيني وبين الخضر وتسأله أن يظهر لي حتى أراه. قال: أنا أقول له.

فقال للخضر: صاحبي فلان قصد رؤيتك. فقال: صاحبك لما يريد أن يراني؟

قال: سبحان اللَّه هكذا قال لي.

فقال له الخضر قل له أنا يوم الجمعة أقصد في زويته.

فلما كان يوم الجمعة بادر الرجل فتطهر وجلس على سجادته يذكر اللَّه.

فدق الباب رجل، فقيل إنما عليه أطمار رثة ويريد الاجتماع بك.

فقال هذا مسكين، لا شك إنه يريد من القمح الذي سمع عنه، قولي له يرجع بعد الصلاة، وإذا هو الخضر.

فلما كان بعد الصلاة قال لابن الكيس: انتظرته فلم أره.

فقال: يا قليل التوفيق هو الذي جاءك ورددته تريد أن تجتمع بالخضر وعلى بابك الحجاب؟

فاعتق جواريه، وصار يخرج بنفسه إلى الباب إذا دق.

وحكي أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم مر في موكبه والطير تظله والدواب وسائر الحيوانات يمينه ويساره

(1)

فمَر بعابد من عُبَّاد بني إسرائيل.

فقال: واللَّه يا ابن داود لقد أتاك اللَّه ملكًا عظيمًا فسمع ذلك سليمان فقال: لتسبيحه في صحيفة مؤمن خير مما أُعطى ابن داود.

فما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى.

ولبعضهم:

إذا لم تكن مَلِكًا مطاعًا

فكن عبدًا لمالكه مطيعًا

= والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجواب ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك. [النووي في شرح مسلم (15/ 111) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

وذلك في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} [النمل: 17]، وقال ابن كثير: أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس، وكانوا هم الذين يلونه والجن وهم بعدهم في المنزلة والطير ومنزلتها فوق رأسه، فإن كان حرًا أظلته منه بأجنحتها، وقوله:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 83] أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. [تفسير ابن كثير (3/ 370)].

ص: 201

وإن لم تملك الدنيا جميعًا

كما تختار فاتركها جميعًا

هما سببان من ملك ونسك

ينيلان الفتى شرفًا رفيعًا

ومن يقنع من الدنيا بشيء

سوى هذين يجئ به وضيعًا

وروينا عن الشيخ أبي يزيد البسطامي قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: كيف الطريق إليك؟

فقال: اترك نفسك وتعال.

وروي مرفوعًا:

(1)

إن اللَّه يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء الشَعِثةُ رؤوسهم المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطوا المُنَعَّمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يُشْهَدُوا.

قالوا: يا رسول اللَّه كيف لنا برجل منهم؟

قال: ذاك أويس القرني

(2)

أشهل ذو صهوبة بعيد ما بين المنكبين، (ممتد)

(3)

القامة، آدم شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره رام بصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله لا يؤبه له، متزر بإزار من صوف، ورداء صوف مجهول في أهل الأرض معروف في أهل السماء، لو أقسم على اللَّه لأبرَّ قسمه، وإن تحت منكبه لمعة بيضاء.

ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: ادخلوا الجنة وقيل لأويس: قم فاشفع فيشفعه اللَّه في مثل ربيعة ومضر.

يا عمر ويا علي إذا أنتما لقيتماه، فاطلبا إليه أن يستغفر لكما، يغفر اللَّه لكما.

قال: فكانا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه.

(1)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 81)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (3/ 166).

(2)

رواه مسلم في صحيحه [223 - (2542)] كتاب فضائل الصحابة، 55 - باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنهما وفيه: فقال عمر: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا اللَّه فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم".

في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن لقيه منكم فليستغفر لكم" وفي الرواية الأخرى قال لعمر: "فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل" هذه منقبة ظاهرة لأويىس القرني رضي الله عنهما، فيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل منهم. [شرح مسلم للنووي (16/ 77) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

في الأصل "مفسد".

ص: 202

فلما كان في آخر السنة التي مات فيها عمر، قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته، يا أهل البيداء أفيكم أويس؟

فقال شيخ كبير طويل اللحية فقال: إنا لا ندرى من أويس ولكن ابن أخ لي يقال له أويس، وهو أخمل ذكرًا وأقل مالا وأهون أمرًا من إن نرفعه إليك، وإنه ليرعي إبلًا حقير بين أظهرنا، فعمي عليه عمر كأنه لا يرقيه.

وقال: ابن أخيك هذا تحرمناه هو.

قال: نعم، قال: وأين يصاب؟

قال: بأراك عرفات، فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله ترعى، فشدا حماريهما، ثم أقبلا عليه فقالا: السلام عليك ورحمة اللَّه.

فخفف أويس من الصلاة، ثم رد عليهما السلام.

فقالا: من الرجل؟

قال: راعي إبل، وأجير قوم.

قلنا: لسنا نسألك عن الرعاية، ولا عن الإجارة.

ما اسمك؟ قال: عبد اللَّه.

قالا: قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد اللَّه، فما اسمك الذي سمتك به أمك؟

قال: يا هذان أينما تريدان إليَّ؟

قالا: وصف لنا محمد صلى الله عليه وسلم أويسًا القرني وقد عرفنا الصهوبة والشهولة.

وأخبرنا محمد صلى الله عليه وسلم أن تحت منكبه الأيمن لمعة بيضاء، فأوضحها لنا، فإن كانت بك، فأنت هو، فأوضح لهما منكبه، فإذا اللمعة.

فابتدرا يقبلانه وقالا نشهد أنك أويس القرني فاستغفر لنا يغفر اللَّه لك.

قال أويس: ما أخص باستغفاري نفسي، ولا أحدًا من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر في المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.

يا هذان قد شهر اللَّه لكما حاشيها، وعرَّفكما أمري فمن أنتما؟

قال علي: أما هذا فعمر أمير المؤمنين، وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فاستوى أويس قائمًا قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللَّه وبركاته.

وأنت يا ابن أبي طالب.

فجزاكما اللَّه عن هذه الأمة خيرًا.

قالا: وأنت جزاك اللَّه عن نفسك خيرًا. فقال عمر: مكانك رحمك اللَّه حتى

ص: 203

أدخل مكة، فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي.

هذا المكان ميعاد بيني وبينك.

قال: يا أمير المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك لا أراك بعد اليوم، فعرفني ما أصنع بالنفقة، ما أصنع بالكسوة، أما ترى علي إزار من صوف، ورداء من صوف.

متى تراني أخرقهما؟ أما ترى نعلي مخصوفتان متى تراني أبليهما؟.

أما ترى إني أخذت من رعايتي أربعة دراهم متى تراني آكلها؟.

يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويلك عقبة كؤودًا إلا ضامر مخف مهزول، فأخف رحمك اللَّه.

فلما سمع عمر ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته ألا ليت عمر لم تلده أمه، يا ليتها عقيمًا لم تعالج حملها ألا من يأخذها بما فيها يعني الخلافة ثم قال: يا أمير المؤمنين خذ أنت.

فهنا تولى عمر ناحية مكة، وساق أويس فوافى القوم فأعطاهم المير، وخلى الرعاية، وأقبل على العبادة حتى لحق باللَّه.

وروي عن عمار بن سيف الضبي أنه قال: قال رجل لأويس كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟

فقال له أويس: أصبحت أحب اللَّه، وأمسيت أحمده.

وما يسأل عن حال رجل إذا أصبح ظن إنه لا يمسي وإذا أمسى ظن أنه لا يصبح.

إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحًا، وإن حق اللَّه في مال المسلم لم يدع له في ماله فضة ولا ذهبًا.

فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن صديقًا.

وروي عنه إنه كان يقتات من المزابل، ويكتسي منها فنبحه كلب يومًا على مزبلة، فقال له أويس:"كل مما يليك، فأنا آكل مما يليني، ولا تنبحني، فإن جزت الصراط، فأنا خير منك، وإلا فأنت خير مني".

ولسيدي عبد اللَّه اليافعي:

سقى اللَّه قومًا من شراب وداده

فهانوا به ما بين باد وحاضر

يظنهم الجهال جُنًا وما بهم

جنون سوى حُبِّ على القوم ظاهر

سقوا بكؤوس الحب راحًا من الهوى

فراحوا سكارى بالحبيب المسامر

ص: 204

يناجونه في ظلمة الليل عندما

به قد خلوا أويس بن عامر

(1)

وحكي عن بعضهم أنه دعي إلى دار مرارًا كثيرة في ساعة واحدة كلما وصل باب الدار رده الداعي اختبارًا له وهو طيب بذلك لم يظهر منه انزعاج.

فتعجب الداعي من حلمه وصبره واستعظمه منه فقال: لا تستعظم ذلك مني، هذه صفة الكلب؛ كلما دعي أجاب وكلما طرد ذهب وحكي عن الحسن البصري أنه قال: في الكل عشر خصال ينبغي لكل مؤمن أن تكون فيه:

1 -

أن يكون خائفًا فإنه من آداب الصالحين

2 -

لا مكان له يعرف، وذلك من آداب المتوكلين.

3 -

لا ينام من الليل إلا قليلا، وذلك من صفات المحبين.

4 -

لا ميراث له بعد موته، وذلك من صفات الزاهدين.

5 -

لا يترك صاحبه وإن جناه، وذلك من علامات المريدين الصادقين.

6 -

وإن يرضي من الأرض بأدنى المواضع، وذلك من علامات المتواضعين.

7 -

وإذا غلب على مكانه تركه وانصرف إلى غيره، وذلك من علامات الراضين.

8 -

وإذا ضرب وطرد وجفي ثم طرحت له كسرة أجاب ولم يحقد على ما مضى، وذلك من علامات الخاشعين.

9 -

وإذا حضر الآكل جلس بعيدا ينتظر، وهذا من علامات المساكين.

10 -

وإذا رحل من مكانه لا يلتفت إليه، وهذا من علامات المحزونين.

وحكي عن بعضهم إنه رأى كلابا في كهف في جبل مقيمة به لا تخرج منه، ولا تدخل البلد إلا يومًا واحدًا في الأسبوع.

تدخل وتأكل من المزابل وتعود إلى مكانها.

هكذا دائما، فأقام معها مدة، يدخل معها يوم دخولها، ويخرج معها يوم خروجها، ويأكل معها من المزابل مما يحل له أكله فحصل له بتلك الكلاب رياضات وآداب.

(1)

أويس بن عامر كذا رواه مسلم، وهو المشهور، قال ابن ماكولا: ويقال أويس بن عمرو، قالوا: وكنيته أبو عمرو، قال القائل: قتل بصفين وهو القرني من بني قرن بفتح القاف والراء، وهي بطن من مراد، وهو قرن بن ردمان بن ناجبة بن مراد، وقال الكلبي: ومراد اسمه جابر بن مالك بن أدد بن صعب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سياد. [النووي في شرح مسلم (16/ 77) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 205

وقال بعض الصالحين وقد جاز قوم معهم كلاب الصيد فنبحتها كلاب الدرب كأن هذه حدثت.

فقالت الأهلية لهن، رغبتن في نعم الملوك (فجنز)

(1)

ردكن، ولو قنعتن بالمنبوذ مثلنا كلنتن مخليات فقال لها كلاب الصيد: خفي عليكُنَ حالنا، نحن وأوافينا آلة الخدمة، فحبسونا لها، وقاموا لنا بالكفاية.

قالت الأهلية: فالواحد منكنَّ إذا كبر خُلِّي وصار معنا.

قالت: لأنه قصد فيما يجب عليه وكل من قصر فيما يجب عليه طُرِد.

وعن بعض الصالحين قال: اشتريت عبدًا فقلت له ما اسمك؟

فقال: يا مولاي ما سميتني به. فقلت: ما الذي تعمل؟

قال: يا مولاي ما به أمرتني.

فقلت: ما الذي تأكل.

قال: يا مولاي ما أطعمتني.

فقلت: فما لك إرادة في شيء.

قال: وأي إرادة تكون للعبد مع مولاه؟

قال: فأبكاني وذكَّرني حالي مع مولاي.

فقلت: يا هذا لقد أدبتني مع سيدي.

فأنشأ يقول:

لو تم لي كوني لعبد خادمًا

ما كنت أطلب فوق ذاك نعيمًا

فارحم بفضلك زلتي وتحيري

فلذا عرفتك محسنًا ورحيمًا

آخره وللَّه الحمد.

(1)

كذا بالأصل.

ص: 206

‌مجلس في الخوف

ومعناه انخلاع القلب من طمأنينة الأمن للشعور بمحذور يتوقع.

ويترتب عليه الورع عن محارمه، والتوقف عن كارهه قال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]

(1)

.

أي خافون، وهو أشد من الوجل الذي هو خوف لا قرار معه.

وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)} [البروج: 12]

(2)

.

والبطش: الأخذ بالعنف، فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وذلك على الرهبة واقتضاؤه وقال:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102]

(3)

.

إلى قوله: {وَشَهِيقٌ} [هود: 106].

وهذه الآيات بيان لشدة البطش.

ومعنى شديد: وجيع صعب على المأخوذ.

وهو تحذير من عاقبة الظلم لكل من ظلم غيره، أو نفسه بذنب اكتسبه، فعلى كل من أذنب أن يحذر أخذ ربه الأليم الشديد، فيبادر بالتوبة ولا يغتر بالإمهال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ} [هود: 103]

(4)

أي لعبرة له.

لأنه ينظر إلى ما أحل اللَّه بالمجرمين في الدنيا، وما هي إلا إنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فيتعظ ويعتبر وتتمة الآية تصوير لعظائم مهولة تنخلع منها الأوصال وتتقطع من أسرها الكبود لعظم الانفصال.

وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}

(5)

.

(1)

سورة البقرة (40).

(2)

سورة البروج (12). آي إذا أخذ الظالم أخذًا أليمًا شديدًا أخذ عزيز مقتدر، قال ابن أبي حاتم بسنده عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)} [البروج: 17] فقام يستمع فقال: نعم قد جاءني. [تفسير ابن كثير (4/ 496)].

(3)

سورة هود (102 - 106). روى في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} .

(4)

سورة هود (103).

(5)

سورة آل عمران (28)، (30).

ص: 207

وهذا تصريح بمضمون ذلك كله.

وأي تخويف أبلغ من ذلك، وزجر أعظم مما هنالك، وقد كرر ذلك وأعقبه بأردع وعظ، وأزجره وأقوى عزيمة وأقصمه.

وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)}

(1)

الآية وفيها تنويه هذا التحذير بأنه {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}

(2)

.

إذ يفر من أحبابه وأنصاره وهو مشتغل بما هو مدفوع إليه، ويعلم أن أحدًا منهم لا يغني عنه شيئًا {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}

(3)

.

وفي ترتيب من يفر منهم بلاغة واضحة ونكتة لامعة.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}

(4)

إلى قوله: {شَدِيدٌ} .

أي يذهل لسببه ما ذكر، وهو موضح للفرار السالف، وتقرير وقوعه في النفوس.

وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)}

(5)

الآيات.

قيل إحداهما لترك المنكرات والأخرى لفعل الخيرات الناشئ من الخوف.

وقيل: إحداهما جزاء، والأخرى زيادة من فضل اللَّه.

وقيل: إحداهما للإنسي، والأخرى للجني.

ومقام الرب جل جلاله، إما قيام الناس لرب العالمين وإما قيامه على كل نفس بما كسبت.

(1)

سورة عبس (34، 35).

أي يراهم ويفر منهم ويبتعد منهم لأن الهول عظيم والخطب جليل، قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت وتثنى بخير ما استطاعت فيقول لها فإني أطلب اليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين، فتقول له ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق أن أعطيك شيئًا أتخوف مثل الذي نخاف. . . إلى آخره في الابن. [تفسير ابن كثير (4/ 473)].

(2)

سورة هود (43).

(3)

سورة عبس (37).

(4)

سورة الحج (1، 2).

اختلف المفسرون في زلزلة الساعة، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم كما قال تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} . [تفسير ابن كثير (3/ 209)].

(5)

سورة الرحمن (46).

ص: 208

وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)}

(1)

.

إلى قوله: {الرَّحِيمُ} .

وفيه ابتهاج أهل الجنة بإشفاقهم ذكر ما استفادوه به، والآيات في الباب كثيرة.

وأما الأحاديث فمنتشرة نذكر منها ستة عشر حديثًا:

أولها: حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك".

ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح

(2)

، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد

(3)

، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.

وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق

(1)

سورة الطور (25 - 28).

أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)} [الطور: 26] أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 27] أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور: 28]، أي نتضرع إليه، فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} . [تفسير ابن كثير (4/ 242، 243)].

(2)

اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، ووقع في رواية للبخاري إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يمكث علقة مثله ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه".

(3)

المراد بجميع ما ذكر من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والعمل والذكورة والأنوثة، أنه يظهر ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته وإلا فقضاء اللَّه تعالى سابق على ذلك وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل واللَّه أعلم.

والمراد بالذراع التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقى بينه وبين موضع من الأرض ذراع، والمراد بهذا الحديث أن هذا يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم، ثم إنه من لطف اللَّه تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة وهو نحو قوله تعالى:"إن رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي". [النووي في شرح مسلم (16/ 157 - 158) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 209

عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" أخرجاه

(1)

.

وفيه ذكر سبب الخوف الشامل لكل أحد ما لم يؤمن ببشارة الهيئة، أو دخول الجنة بسابقة القفاء بالشقاوة والسعادة، والموطن الدنيا دار العمل والعطاء.

فمن لا يدرى من أي الفريقين مآله كيف يطمئن ويأمن ويقر قراره.

ومن ظهرت عليه آثار السعادة وأمارات السيادة كيف لطمئن، وقد سبق الكتاب بضده، فيبذل المشهود الظاهر بخلافه، كما وقع لإبليس وحزبه وعند صفو الليالي يحدث الكدر.

وقد خاف قوم من السابقة كما خاف آخرون من الخاتمة.

وقد ظهر إن الخوف من متعلقة في المستقبل، وظهور السابقة وأثرها وهو الخاتمة، أو ما بعد الموت.

اللهم وصلنا ولا تهلكنا بالفوت.

الحديث الثاني: حديثه أيضًا مرفوعًا: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"

(2)

أخرجه مسلم.

وفيه خوف سوء الدار بالمعاصي، ويعاين ما يشيب النواصي {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)}

(3)

.

وفرق عظيم بين علم اليقين وعين اليقين.

الحديث الثالث: حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابا، فإنه لأهونهم عذابا".

(4)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3208) كتاب بدء الخلق، 6 - باب ذكر الملائكة -صلوات اللَّه عليهم- ورقم (3332) في أحاديث الأنبياء، 1 - باب خلق آدم وذريته، ورقم (6594، 7454)، ومسلم في صحيحه كتاب القدر، 1 - باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابه رزقه وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، وأحمد في مسنده (1/ 382، 430)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 344)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (81/ 244).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [29 - (2842)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 12 - باب في شدة حر نار جهنم، وبُعْدِ قعرها، وما تأخذ من المعذبين، والحاكم في مستدركه (4/ 595)، وابن الجوزي في تلبيس إبليس (343).

(3)

سورة الفجر (23).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6562) كتاب الرقاق، 51 - باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [363 - (213)] كتاب الإيمان، 91 - باب أهون أهل النار عذابًا، وابن ماجه في سننه =

ص: 210

أخرجاه.

وفيه تفاوت قوة عذاب أهلها، وأن أخفه ذلك وإن كان أشد عنده.

الحديث الرابع: حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته"

(1)

أخرجه مسلم.

وفيه التفاوت في ذلك.

الحديث الخامس: حديث ابن عمر مرفوعًا: "يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى إنصاف أذنيه"

(2)

أخرجاه.

وهو بيان الكبرياء والعظمة، وذوبان المهابة، ورشح الجبين يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وقيل لبشر الحافي: تخاف الموت؟ فقال: القدوم على اللَّه أشد.

الحديث السادس: حديث أنس وسيأتي في فضل البكاء من خشية اللَّه.

الحديث السابع: حديث المقداد مرفوعًا: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل".

قال أحد رواته: ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم ميل العين، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق إلى كعبيه، إلى ركبتيه، إلى حقويه، من يلجمه

= (2604)، وأحمد في مسنده (4/ 271)، والحاكم في المستدرك (4/ 580)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 395)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 157، 185)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 343)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5617)، وعبد الرزاق في مصنفه (18447، 20898).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (2845)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 12 - باب في شدة حر نار جهنم، وبعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين، وأحمد في مسنده (5/ 10)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 282)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 488)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5671)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 411) وابن كثير في تفسيره (4/ 444، 445).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4938) كتاب تفسير القرآن، من سورة المطففين، 1 - باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6]، ورقم (6531) كتاب الرقاق، 47 - باب قول اللَّه تعالى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} ، ومسلم في صحيحه [60 - (2862)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 15 - باب في صفة يوم القيامة، أعاننا اللَّه على أهوالها، وأحمد في مسنده (2/ 31)، وابن حبان في صحيحه (2578).

ص: 211

العرق إلجامًا" وأشار صلى الله عليه وسلم إلى فيه"

(1)

. أخرجه مسلم.

وهو نتائج سوء الأعمال.

الحديث الثامن: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يعرق الناس يوم القيامة، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا يلجمهم حتى يبلغ آذانهم"

(2)

. أخرجاه.

الحديث التاسع: عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة فقال: "هل تدرون ما هذا؟ ". قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "هذا حجر رمي به في النار من سبعين خريفًا، فهوى في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها، فسمعتم وجبته"

(3)

رواه مسلم.

وفيه بيان بعد قعرها، وأن عمقها هذه المسافة حتى سمعت وجبة الحجر من عظمه.

الحديث العاشر: حديث عدي بن حاتم مرفوعًا: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة"

(4)

. أخرجاه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [62 - (2864)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 15 - باب في صفة يوم القيامة، أعاننا اللَّه على أهوالها.

والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 389)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 335)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5540)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 254)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1/ 4580)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 322).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6532) كتاب الرقاق، 47 - باب قول اللَّه تعالى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)} ، ومسلم في صحيحه [61 - (2863)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 15 - باب في صفة يوم القيامة أعاننا اللَّه على أهوالها، والزبيدي في الإتحاف (10/ 458)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5539)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 498).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [31 - (2844)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 12 - باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين. والآجري في الشريعة (394)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 5/ 5) والقرطبي في تفسيره (1/ 237).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (9/ 162، 181) ومسلم في صحيحه [67 - (1016)] كتاب الزكاة، 20 - باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 377، 4/ 256) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 176)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 10)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 355)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 82، 83).

ص: 212

وفيه تفخيم شأن قوله "ليس بينه وبين الرب ترجمان" والحث على الصدقة بالقليل، وإنه يتقي به النيران.

الحديث الحادي عشر: حديث أبي ذر مرفوعًا: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا للَّه، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه تعالى"

(1)

.

أخرجه الترمذي وحسنه.

والأطيط: صوت الرحل والقتب وشبههما.

ومعناه أن كثرة من في السماء من الملائكة العباد قد أثقلتها حتى أطَّت.

فهم في مقام الخضوع والتذلل لعز جلال ذي العظمة والسلطان.

الحديث الثاني عشر: حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعًا:

(2)

"لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه".

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

فليحذر الفوات.

الحديث الثالث عشر: حديث أبي هريرة قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4].

قال: "أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها"

(3)

.

رواه الترمذي أيضًا وحسنه.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2312) كتاب الزهد، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا"، وابن ماجه (4190) كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 173)، والحاكم في المستدرك (2/ 510، 4/ 544)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 264)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 238)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5347).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2417) كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب في القيامة، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 102)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 346)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 396)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/ 440).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (3353) كتاب تفسير القرآن، باب من سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ، [الزلزلة: 1]، والنسائي في الكبرى، في التفسير، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 374)، والحاكم في المستدرك (2/ 256)، وابن حبان في صحيحه (2586 - الموارد) والعجلوني في كشف الخفاء (2/ 18)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 380).

ص: 213

فليحذر المخالفة، فإنه يوم بروز المخبآت وبدو الممكنات بنميمة لا تزد، ولا تبقى، ولا تذر لا سيما والأعضاء أيضًا تشهد، وجل الأعمال وقلها بعد.

الحديث الرابع عشر: حديث أبي سعيد مرفوعًا

(1)

.

"كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر أن ينفخ ذلك"، فثقل ذلك على أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لهم:"قولوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل".

رواه الترمذي أيضًا وحسنه.

والقرن هو الصور المذكور في القرآن.

كذا فسره سيد الأنام وهو المفرق للجماعات، الهادم للذات، وتوقعه مع الأنفاس.

وفيه إن ما يثقل من ذلك خففه الحسبلة فليلذ به وبالبسملة.

الحديث الخامس عشر: حديث أبي هريرة مرفوعًا

(2)

: "من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة اللَّه غالية، إلا إن سلعة اللَّه الجنة".

رواه الترمذي وحسنه.

أدلج بإسكان الدال: سار في أول الليل.

والمراد التشمير في الطاعة.

وفيه: التنبيه على ذكر فوائد الخوف ونتائجه، وهي الإدلاج والدأب في طلب الفلاح والرضوان.

الحديث السادس عشر: حديث عائشة مرفوعًا

(3)

"يحشر الناس حفاة عراة

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2431) كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، باب ما جاء في شأن الصور، وأحمد في مسنده (1/ 326، 4/ 374)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 131، 10/ 330)، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 222)، وفي الصغير (1/ 24) وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 189) وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 352).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2450) كتاب صفة القيامة والرقاق والورع، والحاكم في المستدرك (4/ 308)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5348)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 441، 10/ 189)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 262)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 37)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 277).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6527) كتاب الرقاق، 45 - باب كيف الحشر، ومسلم في صحيحه [56 - (2859)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 14 - باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، وأحمد في مسنده (1/ 223) وابن ماجه في سننه (4276) والمنذري في الترغيب =

ص: 214

غرلًا" قلت يا رسول اللَّه الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟!

فقال: "يا عائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك"

وفي لفظ "من أن ينظر بعضهم إلى بعض".

أخرجاه.

غرلًا

(1)

: بضم الغين المعجمة، أي غير مختونين.

ففيه خاصية الخوف، وأدلة التحقق به إذ فيه الاهتمام بالأهم النافع، وباشتغال النفس بعيوبها، وما بين يديها، واللهو عن اللهو.

وحاصل هذه الأحاديث ذكر سبب الخوف، ومواطنه ومخفف ما يثقل منها، وأنواع المحو.

وجماعها حلول مكروه أو فوات محبوب، وكل نوع يتفاوت درجاته، وذكر خاصيته ونتائجه، ودلائل منازلته.

أعاننا اللَّه عليه، وأذاقنا لذته، والركون إليه.

ولنذكر إذ ذاك من الحكايات مما يليق بذلك.

ونقتصر من ذلك على ست عشرة حكاية:

الأولى: عن بعض الصالحين قال: كان رجل بالبصرة يقال له ذكوان كان سيدًا في زمانه، فلما حضرته الوفاة لم يبق أحد بالبصرة إلا شهد جنازته.

فلما انصرف الناس من دفنه، نمت عند بعض القبور وإذا ملك قد نزل من السماء وهو يقول: يا أهل القبور قوموا لآخذ أجوركم، فانشقت القبور عن أهلها، وخرج كل من كان فيها، وغابوا ساعة، ثم جاءوا وذكوان في جملتهم وعليه حلتان من الذهب الأحمر مرصع بالدر والحرير، وبين يديه غلمان يسبقونه إلى قبره.

وإذا ملك ينادي: هذا عبد كان من أهل التقوى فبنظرة واحدة نصبت إليه المحن

= والترهيب (4/ 385) والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 497) والزبيدي في الإتحاف (10/ 456)، والقرطبي في تفسيره (9/ 225، 10/ 418).

(1)

الغُرْل: بضم الغين المعجمة وإسكان الراء معناه غير مختونين جمع أغرل، وهو الذي لم تحن وبقيت معه غرلته وهي قلفته وهي الجلدة التي تقطع في الختان. قال الأزهري: وغيره هو الأغرل، والأرغل، والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة، والأقلف والأعرم بالعين المهملة وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم. والحفاة جمع حاف والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا يفقد منهم شيء حتى الغرلة تكون معهم. [النووي في شرح مسلم (17/ 159) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 215

والبلوى، فامتثلوا فيه أمر البلوى.

فقرب من جهنم، فخرج إليه لسان، أو قال ثعبان فلدع بعض وجهه فاسود ذلك الموضع.

ونودي يا ذكوان هذه النفخة بتلك النظرة، ولو زدت لزدنا.

فبينما هم كذلك وإذا برجل قد أطلع رأسه من قبر فقال: يا هولاء ما أردتم، فواللَّه لقد مت منذ تسعين سنة، فما ذهبت حرارة الموت مني حتى الآن، فادعوا اللَّه أن يعيدني كما كنت، وبين عينيه أثر السجود.

وأنشدوا:

فلست أدرى أن يومك قد دنا

أو لست تدرى إن عمرك ينفد

فعلام تضحك والمنية

(1)

قد دنت

وعلام ترقد والثرى لك مرقد

الثانية: قال وهب

(2)

.

أوحى اللَّه تعالى إلى داود صلى الله عليه وسلم: يا داود هل تدرى من أغفر له ذنوبه من عبيدي؟ قال: من يا رب؟ قال: الذي إذا ذكر ذنوبه، ارتعدت منها فرائصه.

فذلك العبد الذي آمر ملائكتي أن تمحو عنه ذنوبه.

فقال: إلهي أين أجدك إذا طلبتك؟

قال: عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي.

الثالثة: عن بشر الحافي

(3)

قال: كنت يومًا مارًا في جبال الشام، فأتيت على جبل يقال له الأفزع، فإذا بشاب قد نحل جسمه، ورق جلده، وعليه ثوب من صوف، فسلمت عليه، فرد علي السلام.

فقلت في نفسي: أقول له عظني وأبلغ.

فقال لي: قبل أن أكلمه، وأجاب عن سري: عظ نفسك بنفسك، وفك الحبس من حبسك، ولا تشتغل بموعظة غيرك من جنسك، واذكر اللَّه في اللهوات تقل

(1)

المنية: الموت، جمعها: المنايا.

(2)

وهب بن منبه بن كامل بن صيح بن ذي كناز، أبو عبد اللَّه اليماني الصنعاني، الزماري الأبتاوي، ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن الأربعة، توفي سنة (114). [التقريب (2/ 339)].

(3)

بشر الحافي بن الحارث بن عد الرحمن بن عطاء، أبو نصر المروزي، ثم البغدادي الزاهد الكبير المعروف ببشر الحافي، كان عديم النظير زاهدًا وورعًا وصلاحًا، كثير الحديث إلا أنه كان يكره الرواية، ويخاف من شهوة النفس في ذلك حتى إنه دفن كتبه، توفي سنة (227) قبل المعتصم بستة أيام وله (75 سنة)[تاريخ الإسلام وفيات (221 - 230)].

ص: 216

السيئات، وعليك بالجد والاجتهاد، ثم بكي وجعل يقول:-

شغلت النفوس بالقليل الفاني

وسحبت الأبدان بالتسويف والإماني

ثم قال: يا بشر وما رآني ولا عرفني قبل ذلك: إن للَّه عبادًا خالط قلوبهم الحزن، وأسهر ليلهم، وأظمأ نهارهم، وأبكى عيونهم، وكانوا كما وصفهم ربهم في كتابه:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} .

الرابعة: عن محمد بن محبوب قال: كنت في شارع البيمارستان وإذا بغلام قد غل وقيد، فقال: يا ابن محبوب أتراه بعد الغل والقيد راضيًا عني في حبه؟

ثم بكى وأنشأ يقول:

من ذنوبي يحق لي أن أنوحا

لم تدع لي الذنوب قلبًا صحيحًا

أخلفت بهجتي إلف المعاصي

ونعاني المشيب نعيًا صريحًا

كلما قلت قد برئ جرح قلبي

عاد قلبي في الذنوب جريحًا

إنما الفوز والنعيم لعبد

جاء في الحشر آمنًا مستريحًا

الخامسة: عن ذي النون قال: بينما أنا سائر في جبل لكام مررت على دار كثير الأشجار والنبات.

فبينما أنا واقف أتعجب من حسن زهوته، ومن خضرة العشب في جنباته إذ سمعت صوتًا أهطل مدامعي وهيج بلابل حزني.

فاتبعت الصوت حتى أوقفني بباب مغارة في سفح ذلك الوادي، فإذا كلام يخرج منها، فاطلعت فيها، فإذا برجل من أهل التعبد والاجتهاد يقول: سبحان من نزه نفوس المشتاقين في رياض الطاعة بين يديه.

سبحان من أوصل الفهم إلى عقول ذوي البصائر، فهي لا تعتمد إلا عليه.

سبحان من أورد حياض المودة نفوس أهل المحبة.

فهى لا تحن إلا إليه.

ثم أمسك فقلت: السلام عليك يا حليف الأحزان، وقريب الأشجان.

فقال: وعليك السلام، ما الذي أوصلك إلى من أفرده خوف المسألة عن الأنام، واشتغل بمحاسبة نفسه عن التقطع في الكلام.

فقلت: أوصلني إليه الرغبة في النصح والاعتبار والتماس المواهب من قلوب المقتربين والأبرار.

فقال: يا بني إن للَّه عبادًا قدح في قلوبهم زند الشغف نارا ترمق، فأرواحهم تسرح في رياض الملكلوت وتنظر إلى ما ادخر لها في حُجُب الجبروت.

ص: 217

قلت: صفهم لي.

قال: أولئك قوم أووا إلى كهف رحمته، وشربوا كؤوس راح محبته.

ثم قال لي: يا سيدي بهم فألحقني، ولأعمالهم وفقني.

فقلت: ألا توصيني بوصية؟

فقال: أحب اللَّه شوقًا إلى لقائه، فإن له يومًا يتجلى فيه لأوليائه.

ثم أنشد يقول:

قد كان لي دمع فأفنيته

وكان لي جفن فأدميته

وكان لي جسم فأبليته

وكان لي قلب فأضنيته

وكان لي سيدي ناظر

أرى به الخلق فأعميته

عبدك أضحى سيدي موثقًا

لو شئت قبل اليوم آويته

السادسة: عن ذي النون المصري أيضًا قال: وصف لي رجل من البادية باليمن قد برز على الخافقين

(1)

، وسما على المجتهدين بسيما بين الناس معروف، وباللباد حكمه والتواضع والخشوع موصوف.

فخرجت حاجًا إلى بيته، فلما قضيت الحج، قصدت زيارته لأسمع كلامه، وانتفع بموعظته، أنا وأناس كانوا معي يطلبون كما أطلب من البركة. وكان معنا شاب عليه سيما الصالحين ومنظر الخائفين.

وكان مصفر الوجه من غير سقم، أعمش العينين من غير رمد.

يحب الخلق ويأنس بالوحدة، تراه كأنه قريب بمصيبته.

وكنا نعذله على أن يرفق بنفسه.

فلا يجيب قولنا وعذلنا، ولا يزداد إلا مجاهدة.

أيها الغافلون في الحب مهلًا

حاش لي عن هواه أن أتسلى

كيف أسلوا وقد تزايد وجدي

وتبدلت بعد عزي ذلًا

قيل: تُبلى فقلت تبلى عظامي

وسط لحدي

(2)

وحكيم ليس يبلا

حبكم قد شربته في فوادي

في قديم الزمان مذ كنت طفلًا

(1)

الخافق: الأفق، وهما خافقان: أفق المثرق وأفق المغرب، جمعها: خوافق، وخوافق السماء الجهات التي تهب منها الرياح.

(2)

لحد: الميت. لحدًا، دفنه في اللحد، واللحد الشق يكون في جانب القبر للميت، جمعها: ألحاد ولحود.

ص: 218

قال: ولم يزل ذلك الشاب في محلتنا حتى انتهى معنا إلى اليمن، فسألنا عن مجلس الشيخ فأرشدنا إليه فطرقنا الباب، فخرج إلينا، فكأنما يخبر عن أهل القبور فجلسنا إليه، فبدأه الشاب بالسلام والكلام.

فصافحه وأبدى له البشر والترحيب من دوننا، وسلمنا كلنا عليه.

ثم تقدم إليه الشاب وقال: يا سيدي إن اللَّه قد جعلك وأمثالك أطباء لأسقام القلوب، ومعالجين لأوجاع الذنوب، وبي جرح قد تعل، وداء قد استمكن وأعضل.

فإن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فافعل، فأنشأ الشيخ يقول:-

إن داء القلوب داء عظيم

كيف لي بالخلاص من داء ذنبي

هل طبيب مناصح لي فإني

أعجز الخلق والأطباء طِبيِّ

آه مَا حُجلتي ويا طول حزني

من ذنوبي إذا وقفت لربي

وانقطاع الجواب مني ولم لا

وبلائي قد حل كل من خطبي

فقال الشاب للشيخ: إن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فأفعل.

فقال له الشيخ: أسأل عما بدا لك فقال له: ما علامة الخوف من اللَّه؟ قال: أن يؤمِّنك خوف اللَّه من كل خوف غير خوفه.

فانتفض الفتى جزعًا ثم خرّ مغشيًا عليه ساعة.

فلما أفاق قال: رحمك اللَّه متى يتيقن العبد خوفه من اللَّه؟ قال: إذا أنزل نفسه من الدنيا منزلة العليل السقيم فهو محمي من كل الطعام، مخافة طول السقام.

ويصبر على مضض الدوا، مخافة طول الضنا. فصاح الشاب صيحة ظننا إن روحه قد خرجت ثم قال: يرحمك اللَّه ما علامة المحبة للَّه؟ فقال: يا حبيبي إن درجة المحبة في اللَّه رفيعة فقال الشاب: أُحب أن تصفها لي فقال: يا حبيبي إن المحبين للَّه شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب إلى جلال عظمة الإله المحبوب فصارت أرواحهم روحانية، وقلوبهم حجبية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صفوف الملائكة الكرام وتشاهد تلك الأمور اليقين والعيان.

فعبدوه بمبلغ استطاعتهم له لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره.

فشهق الشاب شهقة فمات فجعل الشيخ يقلبه ويبكي ويقول: هذا مصرع الخائفين هذه درجة المحبين، هذه روح حنت فأَنَّتْ، فسمعت فاشتاقت، فشهقت فماتت.

على عظم قدر المرء يعظم خوفه

فلا عالم إلا من اللَّه خائف

فآمن مكر اللَّه باللَّه جاهل

وخائف مكر اللَّه باللَّه عارف

ص: 219

السابعة: عن الفضل بن الربيع قال: حج الرشيد فأتاني، فخرجت إليه مسرعًا.

فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك فقال: ويحك قد حاك في صدري شيء، فانظر لي رجلًا أسأله فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة

(1)

فقال: امض بنا إليه فقرعت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك فقال له: خذ لما جئنا إليه يرحمك اللَّه فحادثه ساعة ثم قال: هل عليك دَينَ؟

قال: نعم، قال هارون: يا أبا العباس، اقض دينه.

فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئًا، انظر لي رجلًا أسأله فقال: ههنا الفضيل بن عياض

(2)

قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من كتاب اللَّه ويرددها فقال: اقرع الباب فقرعته فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين فقال: ما لي وله، فقلت: سبحان اللَّه، لنا عليك طاعة أليس روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس للمؤمن أن يذل نفسه"

(3)

فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة، فأطفأ المصباح ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون إليه فقال: لا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب اللَّه فقلت في نفسي لنكلمنَّه الليلة بكلام من قلب تقي فقال له: خذ لما جئنا يرحمك اللَّه قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولِيَ الخلافة دعا سالم بن عبد اللَّه

(4)

، ومحمد بن كعب

(5)

، ورجاء بن حيوة وقال: إني ابتليت بهذا البلاء، وأشيروا عليّ.

(1)

سفيان بن عيينة، أبو محمد الهلالي الكوفي المكي، ثقة حافظ فقيه، إمام حجة إلّا أنه تغير بآخره وكان ربما دلس لكن عن الثقات، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار توفي سنة (198). [التقريب (1/ 312)].

(2)

الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، أبو علي التميمي، اليربوعي في التقريب، التيمي، الخراساني، ثقة، عابد، إمام، أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، توفي سنة (178) أو قبلها [التقريب (2/ 113)].

(3)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 106) والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 272)، وابن حجر في المطالب العالية (546)، (547)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1/ 296).

(4)

سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، أبو عمرو أبو عبد اللَّه، أبو عبيد اللَّه، أبو المنذر، العدوي، المدني، الفقيه، القرشي، أحد الفقهاء السبعة، ثقة، ثبت، عابد، فاضل، كان يُشبَّه بأبيه في الهدى والسمت، توفي سنة (106، 107، 108)، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. [التقريب (1/ 280)].

(5)

محمد بن كعب بن سليم بن أسد، أبو حمزة أبو عبد اللَّه، القرظي، المدني، الكوفي، القاص، ثقة، عالم، قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة، ولد سنة (40) على الصحيح =

ص: 220

فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة فقال سالم بن عبد اللَّه: إن أردت النجاة من عذاب الدنيا فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب اللَّه فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأواسطهم أخًا، وأصغرهم ولدًا فوقِّر أباك وارحم أخاك، وأكرم ابنك.

وقال له رجاء بن حيوة

(1)

: إن أردت النجاة من عذاب اللَّه، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت متى شئت وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك اللَّه من يشير عليك بمثل هذا فبكى الرشيد بكاءًا شديدًا حتى غشي عليه.

قال الفضل: فقلت له: يا أبا علي أرفق بأمير المؤمنين.

قال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا.

ثم قال: فقال له: زدني رحمك اللَّه قال: يا أمير المؤمين بلغني أن غلامًا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه منه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإياك أن ينصرف بك من عند اللَّه فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه فقال له: ما أقدمك عليّ؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، فلا أعود إلى ولاية حتى ألقى اللَّه.

فبكى هارون الرشيد بكاءًا شديدًا.

ثم قال له: زودني يرحمك اللَّه. قال: يا أمير المؤمنين بلغني أن العباس جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه أمرني على إمارة فقال: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة

(2)

فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل فبكى الرشيد بكاءًا شديدًا، وقال: زدني فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك اللَّه عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل وإياك أن تُصبح وتُمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أصبح وهو غاش لرعيته لم يرح رائحة الجنة"

(3)

فبكى الرشيد ثم قال: عليك دين؟

= ووهم من قال ولد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وأخرج له: أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (120). [التقريب (2/ 203)].

(1)

رجاء بن حيوة بن جرول، ويقال: جندل بن الأحنف بن السمط، أبو نصير، أبو المقدام، وقيل: أبو بكر بن امرئ القيس، الشامي، الفلسطيني، الكندي، الأزدي، ثقة فاضل، أخرج له: البخاري تعليقًا وباقي الستة، توفي سنة (112). التقريب (1/ 248).

(2)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 107).

(3)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 108).

ص: 221

قال: نعم، دين لربى يحاسبني عليه بعد، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لى إن لم أُلهم حجتي قال: إنما أعني دين العباد قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أُوحده، وأُطيع أمره، فقال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}

(1)

، إلى قوله:{الْمَتِينُ} فقال له الرشيد: هذه ألف دينار خذها فانفقها على عيالك قال: يا سبحان اللَّه، أنا أدلك على سبيل النجاة، وتكافئني أنت بمثل هذا سلمك اللَّه، ووفقك ثم صمت ولم يكلمنا.

فخرجنا من عنده، فلما صرنا على الباب قال لي هارون: يا أبا العباس إذا دللتني على رجل فدُلَّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.

شاردة: قال علي بن محمد: حضرت عند أسود بن سالم ليلة فقلت:

أمامي موقف قدَّام ربي

سينالني وينكشف الغطاء

وحسبي إذ أمرّ على صراط

كحد السيف

(2)

أسفله لظى

الثامنة: عن بعض القضاة

(3)

إنه مات، فلما حضروا قبره وجدوا فيه حيَّة عظيمة، فحفروا آخر، فوجدوها فيه، ثم كذلك إلى أن حفروا نحوًا من ثلاثين قبرًا في كل قبر يجدونها فيه.

فلما علموا إنه لا يقدر على الهرب منه هارب ولا يغلبه غالب دفنوه معها وهي عمله كما سلف في فصل اليقظة.

التاسعة: عن مالك بن دينار قال: دخلت الجبانة فإذا بسعدون قلت له: كيف

(1)

سورة الذاريات (56 - 58).

أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إلّا ليعبدون أي إلا ليقروا بعبادتي طوعًا أو كرهًا، وهذا اختيار ابن جرير، وقال ابن جريج: إلا ليعرفون، وقال الربيع بن أنس: إلّا للعبادة، وقال السدي: من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم. [تفسير ابن كثير (4/ 238)].

(2)

روى مسلم في صحيحه [302 - (183)] كتاب الإيمان 81 - باب المعرفة طريق الرؤية، عن أبي سعيد من حديثه الطويل وقال في آخره: قال أبو سعيد: "بلغني أن الجسر أدق من الشعرة وأحد من السيف".

(3)

رواه الترمذي في سننه (1322 م) كتاب الأحكام، 1 - باب ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القاضي، عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك، فذاك في النار، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة".

ص: 222

حالك؟ وكيف أنت؟.

قال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفرًا بعيدًا بلا أُهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد؟

ثم بكى بكاءًا شديدًا. فقلت: ما يُبكيك؟

فقال: واللَّه ما بكيت حرصًا على الدنيا ولا خوفًا من الموت والبلاء، ولكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني واللَّه قلة الزاد، وبعد المفازة، والعقبة الكؤود، ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أم النار.

فسمعت منه كلام حكمة فقلت: إن الناس يزعمون أنك مجنون.

قال: وأنت واغتررت بما اغتر به بنو الدنيا.

ما بي من جنة ولكن حب مولاي خالط قلبي، وأحشائي، وهو بين لحمي ودمي وعظمي.

فأنا واللَّه من حبه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون لم لا تخالط الناس وتجالسهم.

فأنشأ يقول:

كن من الناس جانبا

وأرض باللَّه صاحبا

قلّب الناس كيف شئت

تجدهم عقاربا

ولبعضهم:

ومازلت مذ لاح المشيب بمفرقي

أفتش عن هذا الورى ثم أكشف

فما عرفت الناس إلا ذممتهم

جزى اللَّه خيرًا كل من لست أعرف

العاشرة: عن بعض أصحاب فتح الموصلي

(1)

قال:

دخلت يومًا عليه فوجدته وقد خالطت دموعه صُفرة فقلت له: باللَّه عليك يا سيدي فتح هل بكيت الدم قط؟

فقال: واللَّه لولا قسمك ما أخبرتك، بكيت بالدمع وبكيت بالدم.

(1)

فتح الموصلي هو فتح بن محمد بن وشاح، الأزدي الموصلي، الزاهد، أحد العارفين، ذكر المعافى بن عمران، شيخ الموصل، أنه لقى ثمانمائة شيخ ما فيهم أعقل من فتح، وكان مشهورًا بالعبادة والفضل، وهو فتح الموصلي الكبير، لا فتح الصغير، ولقد بالغ الأزدي في "تاريخ المواصلة" في ترجمة هذا وجمع مناقبه، وكان كثير البكاء من خشية اللَّه، ملازمًا لقيام الليل، توفي سنة (165). [انظر تاريخ الإسلام وفيات (161 - 170)].

ص: 223

فقلت له: على من بكيت بالدمع؟. قال: على تخلفي عن اللَّه. فقلت: على من بكيت بالدم؟، قال: على الدموع أن لا تصلح لي.

فلما توفي رأيته في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: غفر لي وقربني وقال: يا فتح بكيت هذا البكاء على ماذا؟، فقلت: يا رب على تخلفي من حقك.

قال: والدم لما بكيته؟

قلت: يا رب على الدموع أن لا تصلح لي.

قال: يا فتح فما أردت بهذا كله، وعزتي وجلالي صعد إلي حافظاك أربعين سنة بصحيفتك وما فيها خطيئة.

الحادية عشرة: حكي عن سالم الحداد، وكان من الأبدال، ويتردد إلى فتح الموصلي إنه كان إذا سمع الأذان تغير لونه وأصفر واضطرب، ثم يثب ويترك الحانوت مفتوحًا.

وينشد:

إذا ما دعا داعيكم قمت مسرعًا

مجيبًا لمولى جل ليس له مثل

أُجيب إذا نادى بسمع وطاعته

وبي قوة لبيك يا من له الفضل

يصفر لوني خيفة ومهابة

(1)

ويرجع لي عن كل شغل به شغل

وحقكم ما لذَّ لي غير ذكركم

وذكر سواكم في فمي قط ما يحلو

متى تجمع الأيام بيني وبينكم

ويفرح مشتاق إذا اجتمع الشمل

فمن شاهدت عيناه نور جمالكم

يموت اشتياقًا نحوكم قط لا يسلو

الثانية عشرة: عن ذي النون المصري

(2)

قال: اجتمعت في جبل لكام بامرأة متعبدة كالشن الجابي كانها تخبر عن أهل المقابر، ذات اجتهاد وعبادة، لم أر مثلها فسألتها: أين وطنك؟. فقالت: مالي وطن إلا النار، أو يغفر الغفار. فقلت: يرحمك اللَّه، هل من وصية أو فائدة، قالت: أجعل كتاب اللَّه لك مائدة، وجالس وعده ووعيده، وشمِّر عن ساق الجد بالعزائم الحميدة.

(1)

هابه: هيبًا ومهابة: اجله وعظَّمه، وحذره وخافه فهو هائب، ويقال للمبالغة هَيَّاب.

(2)

دعا أمير مصر وسأله عن اعتقاده فتكلم، فرضى أمره وكتب به إلى المتوكل، فأمره بإحضاره، فحُمل على البريد فلما سمع كلامه ولع به، وأحبه وأكرمه، حتى إنه لو كان إذا ذكر العلماء يقول: إذا ذكر الصالحون فحي هلا بذي النون، وقال علي بن حاتم: سمت ذا النون يقول: القرآن كلام اللَّه غير مخلوق. [تاريخ الإسلام وفيات (241 - 250)].

ص: 224

ومع ما يتعلق به البطَّالون من الرجاء الكاذب الذي لا تحقيق لهم فيه، ولا يدرون كيف العواقب، فواللَّه لا يرد المنزل غدًا إلا المضمرون، ولا يفوز بالسبق إلا المشهرون، فخذ يا أخي لنفسك ما أمكن الأخذ بها فليس المطلوب غيرك، وكن من أهل النهى.

فقلت: ادعي لي بدعوة، فحمدت اللَّه بمحامد لم أسمع بمثلها قط، وصلّت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصلاة لم أسمع بمثلها قط، ودعت بدعاء حسن.

الثالثة عشر: عن سري السقطي: بلغني أن امرأة كانت إذا قامت من الليل قالت: اللهم إن إبليس عبد من عبيدك ناصيته بيدك، يراني من حيث لا أراه وأنت تراني من حيث لا يراك.

اللهم أنت تقدر على أمره كله، ولا يقدر على شيء من أمرك اللهم إن أرادني سوء فاردده، وإن كادني فكده، إدراء يكفي نحره، وأعوذ بك من شره، ثم بكت حتى ذهبت إحدى عينيها فقيل لها: اتقي اللَّه لا تذهب الأخرى.

فقالت: إن كانت عيني الأخرى من عيون أهل النار فأبعدها اللَّه مني.

الرابعة عشر: عن بعض الصالحين قال: كانت إلى جانبي عجوز قد أتعبتها العبادة، فسألتها أن ترفق بنفسها.

فقالت: يا شيخ أما علمت أن رفقي بنفسي غيَّبني عن باب المولى؟

ومن غاب عنه مشتغلًا، بالدنيا عرض مهجته للمحن والبلوى.

وما قدر علمي إذا اجتهدت، فكيف إذا قصَّرت، ثم قالت: واشوقاه من حسرة السباق، وفجعة الفراق.

فأما الأولي إذا قام القائمون من قبورهم، وركب الأبرار من نجائب الأنوار إلى قصر من العز والجلال.

ورفعت لهم من منازل المحبين، وقدمت بين أيديهم نجائب المقربين، وبقى المسبوق في حلة المحزونين، فعند ذلك ينقطع فؤاده حسرة وتأسفًا، ويذوب ندامة وتلهفًا.

وأما فجعة الفراق فعند تميز الناس والافتراق، وذلك أن اللَّه تعالى إذا جمع الخلق في صعيد واحد أمر ملكًا أن ينادي: أيها المجرمون امتازوا إن المتقين قد فازوا وهو قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}

(1)

.

(1)

سورة يس (59).

ص: 225

فيماز الرجل من زوجته، والولد من والديه، والحبيب من حبيبه.

هذا يُحمل مُبجَّلًا إلى رياض النعيم، وهذا يساق مسلسلًا مغلغلًا إلى دار الجحيم.

وقد طال منهم التلف والوداع، ودموعهم تجري كالأنهار ومنخعة الانقطاع وفي البين والفراق.

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا

ورأيت كيف يكون التوديعا

لعلمت أن من الدموع لأنهرا

تجري وعاينت الدما دموعا

الخامسة عشرة: عن إسماعيل بن أبي أمية

(1)

إنه قال: قيل لمسروق: لو قصّرت عن بعض ما تصنع من العبادة.

قال: لا. قيل: وكيف؟. قال: حتى تعذرني. نفسي إن دخلت جهنم لا ألومها أما بلغك قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}

(2)

.

إنما لاموا أنفسهم حتى صاروا إلى جهنم، فأعنفهم الزبانية {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}

(3)

.

وانقطعت عنهم الأماني، وارتفعت عنهم الرحمة.

وأقبل كل إنسان منهم يلوم نفسه.

السادسة عشرة: قال بعضهم: وقد ذكر حال الصالحين وكثرة خوفهم مع كثرة اجتهادهم في الأعمال.

كانوا مع الاجتهاد يخافون، وأنتم مع التفريط تأمنون.

كانوا مع العمل يبكون، وأنتم مع البطالة تضحكون.

= يقول تعالى مخبرًا عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28]. [تفسير ابن كثير (3/ 595)].

(1)

إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي، الأموي المكي، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (144، 139)، ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 283)، وتقريب التهذيب (1/ 283)، والكاشف (1/ 120)، والثقات (6/ 29)، وتاريخ البخاري الكبير (1/ 345)، وتاريخ البخاري الصغير (2/ 72)، الجرح والتعديل (2/ 159)، الوافي بالوفيات (9/ 94)، ولسان الميزان (1/ 393)، وضعفاء ابن الجوزي (1/ 110).

(2)

سورة القيامة (2).

(3)

سورة سبأ (54). =

ص: 226

كانوا مع المرض يسهرون، وأنتم مع الصحة تنامون.

كانوا على صحة الطريق يمشون، وأنتم لمسالك الغضب تسلكون.

السابعة عشرة: قال بعضهم رأيت في تيه بني إسرائيل

(1)

رجلًا قد أنحلته العبادة حتى صار كالشن البالي، فقلت له: ما الذي بلغ بك إلى هذه الحالة؟.

فنظر إليَّ متعجبًا من سؤالي وقال: يا هذا ثقل الأوزار وخوف النار، والحياء من الملك الجبار.

وأنشدوا:

لما ذكرت عذاب النار أزعجني

ذاك التذكر عن أهلي وأوطاني

وصرت في القفراء أرعى الوحش منفردًا

كما يُراعى على وجدي

(2)

وأحزاني

وذا قليل لمثلي بعد جزائه

فما عصى اللَّه عبد مثل عصياني

نادوا عليّ وقولوا في مجالسكم

هذا المسيء وهذا المجرم الجاني

فما ارعويت ولا قصّرت عن زللي

ولا غسلت بماء الدمع أجفاني

(1)

في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26] لما دعا عليهم موسى صلى الله عليه وسلم حين نكلوا عن الجهاد حكم اللَّه بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم. . . إلى آخره. [تفسير ابن كثير (2/ 41)].

(2)

وَجَدَ فلان وجدًا: حزن، وتواجد فلان: تظاهر بالوجد.

ص: 227

‌مجلس في الرجاء

وهو استقرار القلب بنيل محبوب محقن الوجود لشهود الجود، وسعة الرحمة، وصدق الوعود يترتب عليه الاجتهاد في التحقق بالأسباب الناجحة المواصلة للصواب.

قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}

(1)

، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

(2)

.

فنهى من أسرف عن الفنوط، والنهي عن القنوط أمر بضده وهو إما الرجاء، وإما تحقق الرحمة.

والثاني ملموم بقوله تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

(3)

.

فيتعين الأول فيه، ويتبين أن الرجاء ينافي اليقين من طرفي الوجود والقدم.

ثم باقي الآية فيه تقدير وتحقيق، وتوكيد لا يخفى.

وقال تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}

(4)

.

وفيها تبيين عباد اللَّه من هم، وإيضاح محل آيات الوعيد الواقعة في القنوط، بأن المجازاة إلا للكفور.

قيل: المؤمن يُكَفِّر عنه سيئاته بطاعته وحسناته، والكافر يُجازى بكل سوء يعمله.

وهو معنى قول الفراء: المؤمن يُجزَى ولا يُجَازَى أي يُجزَى بالثواب بعمله ولا يُكافأ بسيئاته، وتَمسُّك المرجئة بالآية الكريمة مردود بالبراهين القطعية.

(1)

روى أحمد في مسنده (3/ 238) بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم اللَّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللَّه عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون اللَّه فيغفر لهم".

(2)

سورة الزمر (53).

(3)

سورة الأعراف (99).

(4)

سورة سبأ (17).

ص: 228

وقيل: المعنى: وهل يُجازَى بالعقاب الآجل إلا الكفور

(1)

.

قيل: كافر الدين، وقيل: كافر النعمة.

وقال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)}

(2)

.

وهذا بيان للكفور، وإنه هذا ليس إلا.

وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}

(3)

.

وهذا بيان للرحمة المنهي عن القنوط منها.

ووصفها أن من حالها، ومن شأنها إنها واسعة يبلغ كل شيء ما من مؤمن ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا هو يتقلب في النعمة والرحمة.

وكيف يقنط من شيء من هذا شأنه.

وأما الأحاديث فنذكر منها ثمانية وعشرين حديثًا ومدارها على ذكر موجبات الرجاء من أسباب رحمة اللَّه الكريم، وعظم شأن رحمته وكثرة خيره.

وتكثير أسباب جل ذلك، خصوصًا وعزه كسبيًّا ووهبيًّا وفعليًّا، ومع بيان ما يحتاج إليه من موطن وشرط وفعل ومسهل ونحو ذلك.

الحديث الأول: حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا

(4)

: "من شهد أن لا إله إلا

(1)

{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17] قال مجاهد: ولا يعاقب إلّا الكفور، وقال الحسن البصري: صدق اللَّه العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلّا الكفور، وقال طاوس لا يناقش إلّا الكفور، وروى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن خيرة. وكان من أصحاب علي رضي الله عنه. قال:"جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة. قيل وما التعسر في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حالًا إلا جاءه من ينغصه إياها". [تفسير ابن كثير (3/ 550)].

(2)

سورة طه (48).

أي قد أخبرنا اللَّه فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات اللَّه وتولى عن طاعته كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)} ، وقال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)} [الليل]، وقال تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)} [القيامة]. [تفسير ابن كثير (3/ 159)].

(3)

سورة الأعراف (156).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3435) كتاب أحاديث الأنبياء، 49 - باب قوله عز وجل:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171] الآيات، ومسلم في صحيحه [46 - (28)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وأحمد في مسنده (5/ 313)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 413)، والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 171)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (27).

ص: 229

اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله اللَّه الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه.

ولمسلم: "من شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه حرم اللَّه عليه النار"

(1)

.

وهو دال على إيجاب الجنة، وتحريم النار على من وحَّد، وهو سبب رجاء أصل النجاة.

الحديث الثاني: حديث أبي ذر مرفوعًا: يقول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يُشرك بي شيئًا، لقيته بمثلها مغفرة"

(2)

. أخرجه مسلم.

ومعناه من تقرب إلي بطاعتي، تقربت إليه برحمتي

(3)

وإن زاد زدت، وإن أسرع في طاعتي صببت عليه رحمتي وسبغته بها، ولم أُحُوِجْه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود.

والقُراب: بضم القاف على الأشهر، وهو أفصح من الكسر، والمعنى ما يقارب ملئها.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [47 - (29)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجة قطعًا، والترمذي في سننه (2638)، والنسائي (7/ 76 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 318)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10/ 332، 562)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 413)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 63).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [22 - (2675)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 6 - باب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى اللَّه تعالى.

والتبريزي في مشكاة المصابيح (2265)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 140)، والحاكم في المستدرك (1/ 406).

(3)

قوله تعالى: "وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت إليه باعًا" الباع والبوع بضم الباء، والبوع بفتحها كله بمعنى وهو طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، قال الباجي: وهو قدر أربعة أذرع، وهذا حقيقة اللفظ، والمراد بها في هذا الحديث المجاز.

وقوله تعالى: "فله عشر أمثالها أو أزيد" معناه أن التضعيف بعشرة أمثالها لا بد بفضل اللَّه ورحمته ووعده الذي لا بخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئة اللَّه سبحانه وتعالى. [النووي في شرح مسلم (17/ 10، 11) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 230

وفي الحديث أربعة من أسباب رجاء الخيرات:

أولها: أن الحسنة سبب لرجاء كثرة الثواب.

ثانيها: أن السيئة إذا ساءت فاعلها، سبب لرجاء العدل بتقليل العقوبة، أو الجود بالمغفرة.

ثالثها: أن التقرب من الكريم سبب لرجاء العدل (الأقربيه)

(1)

.

رابعها: أن توحيد الأفعال فما فوقه سبب الغفران والحرمان من النار، ولو كانت قراب الأرض خطايا.

فالأول: للعباد الناسكين.

والثاني: للمغلوبين العارفين.

والثالث: للصابرين.

والرابع: للموحدين الفاعلين.

الحديث الثالث: حديث جابر الثابت في صحيح مسلم قال:

جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللَّه ما الموجبتان؟

قال: "من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك باللَّه دخل النار"

(2)

.

وهذا بيان موطن ذلك، وهو الموت، والموجبة: المتحتمة.

الحديث الرابع: حديث أنس الثابت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرَّحل قال: "يا معاذ".

قال: لبيك يا رسول اللَّه وسعديك.

قال: "يا معاذ"، قلت مثله ثلاثًا.

قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا عبده ورسوله صِدقًا من قلبه إلا حرّمه اللَّه على النار".

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1238) كتاب الجنائز، 1 - باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه، ومسلم في صحيحه [51 - (93)] كتاب الإيمان، 40 - باب من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، وأحمد في مسنده (1/ 382، 425)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 44)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 21، 22)، والطبراني في المعجم الكبير (4/ 204)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 226)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 170).

ص: 231

قال: يا رسول اللَّه أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟

قال: "إذا يتكلوا".

أخبرها معاذ عند موته تأثمًا أي خوفًا من الإثم في كتم هذا العلم

(1)

.

وهذا بيان محل الرجاء وصفته، وهو القلب وعلى وجه الصدق، فلا يكفي مجرد اللسان، وبيان متعلق نفي الشرك، وهو توحيد نفي الإلهية والإقرار بالرسالة المحمدية -أعني الجامعة الخاتمة-.

الحديث الخامس: عن أبي هريرة وأبي سعيد الثابت في صحيح مسلم قال: لمَّا كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول اللَّه لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادَّهنا فقال: افعلوا، فجاء عمر

(2)

فقال: يا رسول اللَّه إن فعلت قلَّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع اللَّه لهم عليها بالبركة لعل اللَّه أن يجعل في ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم.

قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمرة، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك يسير، قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال:"خذوا في أوعيتكم".

قال: فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه.

قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أشهد أن لا إله إلا اللَّه وإني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (128) كتاب العلم، 50 - باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ومسلم في صحيحه [53 - (32)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، والزبيدي في الإتحاف (9/ 180)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 84).

(2)

قوله: فقال عمر رضي الله عنه: "يا رسول اللَّه لو جمعت ما بقي من أزواد القوم" قال النووي: هذا فيه بيان جواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة لينظر الفاضل فيه، فإن ظهرت له مصلحة فعله ويقال بقي بكسر القاف وفتحها والكسر لغة أكثر العرب، وبها جاء القرآن الكريم والفتح لغة طئ، وكذا يقولون فيما أشبهه، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (1/ 198) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [45 - (27)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وأحمد في مسنده (3/ 11، 418)، والحاكم في المستدرك (2/ 618)، والشجري في أماليه (1/ 27)، وابن المبارك في الزهد (321)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 226، 230)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (548)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (149)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 147).

ص: 232

وفيه بيان الصدق وبأي قدر، وأن للموحد مع تحريم النار الجنة.

الحديث السادس: حديث عِتْبَان بن مالك البدري الثابت في الصحيحين فإنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم وحبسه على خزيرة وأنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيته ركعتين يتخذه مصلى.

وفيه ثابت رجال منهم أي جاءوا أو اجتمعوا حتى كثروا في البيت، وفي آخره:"إن اللَّه قد حرم النار على من قال: لا إله إلا اللَّه يبتغي بذلك وجه اللَّه"

(1)

.

والخريزة: بخاء معجمة، ثم زاي: دقيق يطبخ على شحم.

وفيه بيان ما هو شرط ذلك، وما ليس بشرط فيه فابتغاء وجه اللَّه تعالى هو المعتبر دون الانكفاف عن محادثة المنافقين، أو ملازمة كل مجلس تقوى.

الحديث السابع: حديث عمر الثابت في الصحيحين أيضًا قال: قُدِمَ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبيًا في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ ".

قلنا: لا واللَّه.

قال: "اللَّه أرحم بعباده من هذه بولدها"

(2)

.

الحديث الثامن: من حديث أبي هريرة أيضًا الثابت فيهما مرفوعًا: "لما خلق اللَّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي".

وفي لفظ: "غلبت"، وفي آخر "سبقت"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (425) كتاب الصلاة، 46 - باب المساجد في البيوت، ومسلم في صحيحه [263 - (33)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 47 - باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 124)، وابن خزيمة في صحيحه (1653)، والطبرانى في المعجم الكبير (18/ 30، 32).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5999) كتاب الأدب، 18 - باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته ومسلم في صحيحه [22 - (2754)] كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 98)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 228)، والزبيدي في الإتحاف (57180)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2370)، وابن كثير في تفسيره (2/ 197).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7404) كتاب التوحيد، 15 - باب قول اللَّه تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، ومسلم في صحيحه [14 - (2751)]، (15)، (16) كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، والحاكم في المستدرك (4/ 86)، وأحمد في مسنده (2/ 433، 2/ 260)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1/ 558)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 87)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 6) والقرطبي في تفسيره (20/ 121).

ص: 233

الحديث التاسع: حديثه أيضًا مرفوعًا: "جعل اللَّه الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"

(1)

.

وفي لفظ

(2)

: "إن للَّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر اللَّه تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". أخرجاه.

ولمسلم

(3)

من حديث سلمان مرفوعًا: "إن للَّه تعالى مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة".

ولمسلم: عنه أيضًا: "إن اللَّه خلق، يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة"

(4)

.

وفي هذه الأحاديث الثلاثة أسباب لرجاء الرحمة.

ففي أولها: قوتها واستدامتها.

وفي الثاني: سبقها وغلبتها للغضب

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6000) كتاب الأدب، 19 - باب جعل اللَّه الرحمة مائة جزء، ومسلم في صحيحه [17 - (2752)] كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [19 - (2752)] كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [21 - (2753)] كتاب التوبة، 4 - باب في سمة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه.

قال النووي: هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم اللَّه تعالى به فكيف الظن بمائة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (17/ 57) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [21 - (2753)] كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، والحاكم في المستدرك (1/ 56، 4/ 247)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 313)، وابن أبي شية في مصنفه (13/ 182)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 557)، والسيوطي في الدر المثور (3/ 6).

(5)

قوله تعالى: "إن رحمتي غلبت غضبي"، وفي رواية "سبقت رحمتي غضبي".

قال العلماء: غضب اللَّه تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الإثابة للمطيع ومنفعة =

ص: 234

وفي الثالث: كثرتها المستوفية أُصول مراتب العدد كلها.

وفي كل حديث من البلاغة التوكيدية ما لا يخفى.

الحديث العاشر: حديثه أيضًا: عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه تعالى قال

(1)

: "أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك".

وفي رواية: "غفرت لعبدي ثلاثًا فليعمل ما شاء"

(2)

أخرجاه.

وفيه بيان سبب آخر لرجاء التوبة والمغفرة وهو الاستغفار وتكريره لكل ذنب.

ومعنى "فليعمل ما شاء" أي ما دام يفعل هكذا: يذنب فيتوب فأغفر له، فإن التوبة تهدم ما كان قبلها.

الحديث الحادي عشر: حديثه أيضًا مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب اللَّه بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه، فيغفر لهم"

(3)

.

أخرجه مسلم.

وفيه تأنيس يزيل التوقف عن الاستغفار.

الثاني عشر: حديث أبي أيوب مرفوعًا: "لولا أنكم تُذنبون لخلق اللَّه خلقًا يذنبون فيغفر لهم".

= العبد تسمى رضاء ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبًا وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها جميع المرادات.

قالوا: والمراد بالسبق الغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه. [النووي في شرح مسلم (17/ 57) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (7507) كتاب التوحيد، 35 - باب قول اللَّه تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، ومسلم في صحيحه [29 - (2758)] كتاب التوبة، 5 - باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، وأحمد في مسنده (2/ 492)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (354)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 59، 9/ 177).

(2)

تقدم تخريجه وهو أيضًا في: السنن الكبرى للبيهقي (10/ 188)، وفي الأسماء والصفات له أيضًا (57).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [11 - (2749)] كتاب التوبة، 2 - باب سقوط الذنوب بالاستغفار، وأحمد في مسنده (2/ 309)، وعبد الرزاق في مصنفه (20271)، والبيهقي في الأسماء والصفات (55)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1950).

ص: 235

أخرجه مسلم

(1)

أيضًا.

وفيه تأنيس يزيل وحشة الذنب والاسترسال في الجفاء والبعد.

الثالث عشر: حديث أبي هريرة قال: كنا قعودًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع

(2)

دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطًا" وذكر الحديث بطوله إلى قوله: فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب بنعلي هاتين

(3)

، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا اللَّه مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة".

رواه مسلم

(4)

.

وفيه تشجيع بالتوحيد وعظم الشهادة، ولو لم يحصل في الدنيا غيرها لكفت.

شعر:

فلو لم ألق غيرك في اغترابي

لكان لقاؤك الحسن الجميلا

وفيه تنفيس من ضيق الخناق عند الغضبان إذا قال: ليت أمي لم تلدني، يا ليتني مت قبل هذا، ليت الأرض تبتلعني.

الحديث الرابع عشر: حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا

(5)

: تلي قول اللَّه عز وجل في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} .

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [9 - (2748)] كتاب التوبة، 5 - باب سقوط الذنوب بالاستغفار، توبة.

(2)

قوله: "وخشينا أن يقتطع دوننا" أي: يصاب بمكروه من عدو إما بأسره وإما بغيره وقوله: "وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع" قال القاضي عياض رحمه الله: الفزع يكون بمعنى الروع وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به وبمعنى الإغاثة قال: فتصح هذه المعاني الثلاثة، أي ذعرنا لاحتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنا ألا تراه كيف قال:"وخشينا ان يقتطع دوننا". [النووي في شرح مسلم (1/ 207) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

وأما إعطاؤه النحلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر كون هذا يفيد تأكيدًا، وإن كان خبره مقبولًا من غير هذا واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (1/ 209) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [52 - (31)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا. وأبو عوانة في مسنده (1/ 10).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [46 - (202)] كتاب الإيمان، 87 - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 205)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5577)، وعبد الرزاق في مصنفه (2697)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 551)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 158) والقرطبي في تفسيره (6/ 379)، وابن أبي الدنيا في الظن (61).

ص: 236

وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي أمتي" وبكى.

فقال اللَّه عز وجل: "يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم. فقال اللَّه: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك". رواه مسلم

(1)

.

وهو بيان سبب آخر لرجاء الرحمة وهو شفاعة أكرم الخلق على اللَّه، ووعد اللَّه له بإرضائه، وعدم إساءته في أُمته.

الحديث الخامس عشر: حديث معاذ بن جبل

(2)

قال: كنت رِدفَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: "يا معاذ هل تدري ما حق اللَّه على العباد وما حق العباد على اللَّه؟ ".

قال: قلت: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: "فإن حق اللَّه على العباد أن يعبدوا اللَّه ولا يشركون به شيئًا، وحق

(3)

العباد على اللَّه عز وجل أن لا يعذب من لا يُشرك به شيئًا".

(1)

هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها: استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها: البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها اللَّه تعالى شرفًا بما وعدها اللَّه تعالى بقوله: "سنرضيك في أمتك ولا نسوءك" وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها. [النووي في شرح مسلم (3/ 66) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (128) كتاب العلم، 5 - باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ورقم (7373) كتاب التوحيد، 1 - باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد اللَّه تبارك وتعالى، ومسلم في صحيحه [49 - (30)] كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.

(3)

قال صاحب التحرير: اعلم أن الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة واللَّه سبحانه وتعالى هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي، والموت والساعة والجنة والنار حق لأنها واقعة لا محالة، وإذا قيل للكلام الصدق حق فمعناه أن الشيء المخبر عنه بذلك الخبر واقع متحقق لا تردد فيه. وكذلك الحق المستحق على العبد من غير أن يكون فيه تردد وتحير، فحق اللَّه تعالى على العباد معناه ما يستحقه عليهم متحتمًا عليهم، وحق العباد على اللَّه تعالى محناه أنه متحقق لا محالة. هذا الكلام صاحب التحرير.

وقال غيره: إنما قال: حقهم على اللَّه تعالى على جهة المقابلة لحقه عليهم، ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه حقك واجب عليَّ أي متأكد قيامي به. [النووي في شرح مسلم (1/ 204) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 237

قال: قلت: يا رسول اللَّه، أفلا أُبشر الناس؟

قال: "لا تُبشرهم فيتكلوا". أخرجاه.

وهو ظاهر في أن السلامة من الشرك سبب لرجاء السلامة من العذاب لا من النار فقط.

وهذا أثر آخر للمغفرة والتوحيد، سبب للغفران المترتب عليه تحريم النار، بل وكل عذاب، وسبب لدخول الجنان.

الحديث السادس عشر: حديث البراء مرفوعًا: "المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، فذلك قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . أخرجاه

(1)

.

وهو ظاهر في كون الإسلام سببًا لرجاء تلقين الشهادة وهي مواضع الضرورة إليها كالقبر وسؤال الملكين.

الحديث السابع عشر: حديث أنس مرفوعًا: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا وأما المؤمن فإن اللَّه يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته"

(2)

. أخرجه مسلم.

وفي رواية له: إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة.

وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها اللَّه في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها"

(3)

.

وهو ظاهر في كون الإيمان سببًا لادخار الحسنات لدار القرار، ولإعقاب الرزق في الدنيا على الطاعات.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4699) كتاب تفسير القرآن، سورة إبراهيم، 2 - باب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} .

ومسلم في صحيحه [73/ (2871)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 17 - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [57 - (2808)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 13 - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (2808)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، 13 - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، وأحمد في مسنده (3/ 123، 125) والتبريزي في مشكاة المصابيح (5159)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 163)، وابن كثير في تفسيره (2/ 268).

ص: 238

الحديث الثامن عشر: من حديث جابر مرفوعًا: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار فَمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات"

(1)

. أخرجه مسلم.

وهو ظاهر في أن الخمس سبب لمحو الخطايا كمثل نهر غَمرٍ -أي كثير- يغتسل منه كل يوم.

الحديث التاسع عشر: حديث ابن عباس مرفوعًا: "ما من رجل يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون باللَّه شيئًا إلا شفَّعهُم اللَّه فيه"

(2)

.

أخرجه مسلم.

فقيام العدد المذكور سبب للرحمة والنجاة.

الحديث العشرون: حديث ابن مسعود: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قبة نحوًا من أربعين رجلًا، فقال:"أترضون أن تكونوا رُبع أهل الجنة؟ " قال: قلنا: نعم.

فقال: "ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة

(3)

؟ "

فقلنا: نعم.

فقال: "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذاك إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"

(4)

. أخرجاه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [284 - (668)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 51 - باب المشي إلى الصلاة تمحي به الخطايا وترفع به الدرجات، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 426، 3/ 305) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 63)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 389)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 234)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 289)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 344)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 8).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [59 - (948)] كتاب الجنائز، 19 - باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه.

(3)

أما قوله صلى الله عليه وسلم: "ربع أهل الجنة، ثم ثلث أهل الجنة، ثم الشطر، ولم يقل أولًا شطر أهل الجنة فلفائدة حسنة وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفيه فائدة أخرى هي تكرير البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضًا حملهم على تجديد شكر اللَّه تعالى وتكبيره وحمده على كثرة نعمه واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (3/ 81) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6528) كتاب الرقاق، 45 - باب كيف الحشر ورقم (6642) كتاب الإيمان والنذور، 3 - باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه [377 - (221)] كتاب الإيمان، 95 - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة، والترمذي في سننه (2547)، وابن ماجه في سننه (4283)، وأحمد في مسنده (1/ 386)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 180)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 152).

ص: 239

وفيه أن الانعداد من خير أمة سبب لرجاء دخول الجنة.

الحديث الحادي بعد العشرين: حديث أبي موسى مرفوعًا: "إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه عز وجل" إلى كل مسلم يهوديًا أو نصرانيا فيقول: هذا فكاكك من النار"

(1)

.

أخرجه مسلم.

وفي رواية له: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها اللَّه لهم"

(2)

.

وهو سبب لإقامة الفكاك والنجاة من ربقة الهلاك.

ومعنى "دفع إلى كل مسلم" إلى آخره ما جاء من حديث أبي هريرة: لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار.

لأنه مستحق ذلك بكفره.

ومعنى فكاكك

(3)

: إنك كنت معرضًا لدخولها، وهذا فكاكك لأن اللَّه تعالى قدر للنار عددًا لملؤها فإذا دخلها الكفار بذنوبهم وكفرهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.

الحديث الثاني بعد العشرين: حديث ابن عمر مرفوعًا: "يُدْنَى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟، فيقول: أي رب أعرف، قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [49 - (2767)] كتاب التوبة، 8 - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، والشجري في أماليه (2/ 175)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5552)، والزببدي في الإتحاف (9/ 176، 10/ 558)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 144، 259)، وابن كثير في تفسيره (5/ 459).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [51 - (2767)] كتاب التوبة، 5 - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.

(3)

الفكاك: بفتح الفاء وكسرها، والفتح أفصح وأشهر وهو الخلاص والفداء، ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة. . . . . انظر ما ذكره المصنف نقلا عن النووي، وأما رواية يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب فمعناه أن اللَّه تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ولا بد من هذا التأويل لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. [النووي في شرح مسلم (17/ 70) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6070) كتاب الأدب، 60 - باب ستر المؤمن على نفسه، ومسلم في صحيحه [52 - (2768)] كتاب التوبة، 8 - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، وابن ماجه (183)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 469)، والآجرى في الشريعة (268)، وابن الجوزي في =

ص: 240

أخرجاه.

فالإيمان سبب لذلك، وحشرنا اللَّه عليه فيما هنالك. وكنفه: ستره ورحمته.

الحديث الثالث بعد العشرين: حديث ابن مسعود: "إن رجلًا أصاب من امرأة قُبلة، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل اللَّه تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}

(1)

فقال الرجل: إلى هذا يا رسول اللَّه؟ قال: "لجميع أمتي كلهم"

(2)

أخرجاه.

وفيه إن الحسنات سبب لإذهاب السيئات.

الحديث الرابع بعد العشرين: حديث أنس قال جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول اللَّه أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال: وحضرت الصلاة فصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول اللَّه: إني أصبت حدًا فأقم فيّ كتاب اللَّه قال: "هل حضرت الصلاة معنا؟ " قال: نعم قال: "قد غفر لك"

(3)

. أخرجاه.

وهو ظاهر في كون الصلاة من الحسنات، وأنها تكفر أصاغر الحدود، فإن معنى أصبت حدًا: معصية توجب التعزير، وليس المراد الحد الشرعي الحقيقي كحد الزنا ونحوه.

فإن هذه الحدود لا تسقط بالصلاة، ولا يجوز للإمام تركها.

الحديث الخامس بعد العشرين: حديثه أيضًا مرفوعًا: "إن اللَّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها"

(4)

أخرجه مسلم.

= زاد المسير (1/ 343)، والقرطبي في تفسيره (3/ 423)، وابن المبارك في الزهد (54)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 216)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 268).

(1)

هذا تصريح بأن الحسنات تكفر السيئات واختلفوا في المراد بالحسنات هنا، فنقل الثعلبي أن أكثر المفسرين على أنها الصلوات الخمس، واختاره ابن جرير وغيره من الأئمة، وقال مجاهد: هي قول العبد سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقًا. [النووي في شرح مسلم (17/ 66) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (526) كتاب مواقيت الصلاة، 4 - باب الصلاة كفارة ورقم (4687) كتاب تفسير القرآن، سورة هود، 6 - باب قوله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]، والتبريزي في مشكاة المصابيح (566)، وابن كثير في تفسيره (4/ 286).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [44 - (2764)] كتاب التوبة، 7 - باب قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وأحمد في مسنده (6/ 399)، والحاكم في المستدرك (4/ 253)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 604)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 47).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [89 - (2734)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 44 - باب =

ص: 241

والأكلة بفتح الهمزة: المرة الواحدة من الأكل كالغداء والعشاء، فحمد اللَّه على المرة من ذلك سبب للرضوان الموجب للحسنات.

الحديث السادس بعد العشرين: حديث أبي موسى مرفوعًا

(1)

: "إن اللَّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".

فإقبالها سبب لبسط اللَّه الكريم يَدَ جودِهِ ورحمته لذلك

(2)

.

الحديث السابع بعد العشرين: حديث عمرو بن عبسة الطويل الثابت في صحيح مسلم في خروج الخطايا من أعضاء الوضوء.

(3)

وهو دال على أن الوضوء سبب لخروج الخطايا مع الماء.

وأن تفريغ القلب للَّه تعالى في الصلاة سبب لحط ذنوب العبد كيوم ولدته أمه.

الحديث الثامن بعد العشرين: حديث أبي موسى مرفوعًا: "إذا أراد اللَّه رحمة أمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيُها حيّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذّبوه وعصوا أمره"

(4)

.

أخرجه مسلم.

وهذا سبب آخر للرجاء إذ قبض نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- قبلنا،

= استحباب حمد اللَّه تعالى بعد الأكل والشرب. والترمذي في سننه (1816)، وأحمد في مسنده (3/ 100، 117)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 119، 10/ 344)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 148)، وابن الجوزي في زاد المسير (5/ 7)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 168)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4100).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [31 - (2759)] كتاب التوبة، 5 - باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، وأحمد في مسنده (4/ 395)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 136، 10/ 188)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 88)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2329)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 62)، والبيهقي في الأسماء والصفات (321).

(2)

ولا يختص قبولها بوقت، فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم عن الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه وهو مجاز، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق اللَّه تعالى. [النووي في شرح مسلم (17/ 64) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

تخريج الحديث تقدم من قبل.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [24 - (2288)] كتاب الفضائل، 8 - باب إذا أراد اللَّه تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 352، 3/ 77)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5968)، والبيهقي في الأسماء والصفات (154)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 370).

ص: 242

فكان فرطًا وسلفًا.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك.

الأولى: أنه لحق بني إسرائيل قحط في عهد موسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمع إليه الناس فقالوا: يا نبي اللَّه ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث.

فقام معهم فخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى صلى الله عليه وسلم

(1)

: إلهي اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرُتع، والشيوخ الرُكع، فما زادت السماء إلا صحوًا، ولا الشمس إلا حرًا. فقال موسى: إلهي إن كان خَلِقَ جاهي عندك فبجاه النبي الأمي الذي تبعثه آخر الزمان. فأوحى اللَّه إليه ما خَلِقَ جاهك عندي، وإنك عندي وجيه. ولكن فيكم عبد يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة فنادى بالناس حتى يخرج من بين أظهرهم، فبه مُنِعْتُم.

فقال موسى: إلهي وسيدي أنا عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، فأين يبلغ وهم سبعون ألفًا ويزيدون فأوحى اللَّه إليه: منك النداء وعلي البلاغ. فقام مناديًا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز اللَّه تعالى منذ أربعين سنة بالمعاصي، أخرج من بين أظهرنا. فبك منعنا المطر.

فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين، وذات الشمال فلم ير أحدًا خرج، فعلم أنه المطلوب. فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هؤلاء افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن أنا قعدت معهم مُنعوا لأجلي.

فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله

(2)

وقال: إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة، وأمهلتني. وقد أتيتك طائعًا، فاقبلني.

فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب.

فقال موسى عليه الصلاة والسلام: إلهي وسيدي بماذا سقيتنا، وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال اللَّه عز وجل: يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم.

فقال موسى صلى الله عليه وسلم: إلهي أرني هذا العبد الطائع.

(1)

رواه البخاري في صحيحه (1013) عن أنس في دعاء الاستسقاء وفيه رفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا". وروى أبو داود في سننه (1169) عن جابر مرفوعًا: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا نافعًا غير ضار عاجلًا غير آجل".

(2)

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].

وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر].

ص: 243

فقال: يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني فأفضحه وهو يطيعني؟ يا موسى أنا أبغض النمامين أفأكون نمامًا؟

الثانية: عن جويريه بنت محمد قالت: رأيت يزيد بن هارون

(1)

في المنام بعد موته بأربع ليال فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: تقبل مني الحسنات وتجاوز عن السيئات ووهب لي التبعات.

فقلت: وما كان بعد ذلك؟ فقال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم؟ غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة. قلت: بم نلت ذلك؟

قال: بمجالس الذكر، وقول الحق وصدقي الحديث وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الحق. قلت: منكر ونكير حق؟

قال: أي واللَّه الذي لا إله إلا هو أقعداني وسألاني من ربك وما دينك، ومن نبيك؟

فجعلت أنفض لحتي البيضاء من ذلك التراب وقلت: مثلي يُسأل عن هذا؟

أنا يزيد بن هارون الواسطي، مكثت في دار الدنيا سنين أُعَلِّم الناس.

فقال أحدهما: صدق، وهو يزيد بن هارون، نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم.

نادرة: قال حسان بن عطية

(2)

فيما حكاه الأوزاعي:

من طال عليه قيام الليل هون اللَّه عليه طول القيام يوم القيامة.

وقال: إن العبد إذا عمل سيئة وقف الملك لم يكتبها ثلاث ساعات، فإن لم يستغفر كتب، وإن استغفر لم يكتب.

(1)

يزيد بن هارون بن وادي، أبو خالد السلمي مولاهم الواسطي، ثقة، متقن، عابد، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وتوفي سنة (206).

ترجمته: تهذيب التهذيب (11/ 366)، تقريب التهذيب (2/ 372)، التاريخ الكبير (8/ 368)، الجرح والتعديل (9/ 1257)، التاريخ الصغير للبخاري (2/ 307، 309)، سير الأعلام (9/ 358).

(2)

حسان بن عطية، أبو بكر، المحاربي مولاهم الدمشقي، الفقيه، العابد، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكان ثقة، فقيهًا عابدًا. توفي سنة (120).

ترجمته: تهذيب التهذيب (2/ 251)، تقريب التهذيب (1/ 162)، الكاشف (1/ 217)، تاريخ البخاري الكبير (3/ 33)، الجرح والتعديل (3/ 1044)، ميزان الاعتدال (1/ 479)، لسان الميزان (7/ 196)، الوافي بالوفيات (11/ 363)، سير أعلام النبلاء (5/ 466)، الثقات (6/ 223).

ص: 244

أخرى: قال مجاهد فيما حكاه أبو يحيى: يؤمر بالعبد إلى النار يوم القيامة فيقول: يا رب ما كان هذا ظني. فيقول اللَّه تعالى: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تغفر لي.

فيقول: خلُّوا سبيله. ويدخله الجنة

(1)

.

الثالثة: حكي أنه كان رجل يشرب الخمر مع جمع من ندمائه، فدفع إلى غلامه أربعة دراهم وأمره أن يشتري بها شيئًا من الفواكه للمجلس فمرّ الغلام بباب منصور بن عمار، وهو يسأل لفقير شيئًا ويقول: من يدفع له أربعة دراهم أدعو له أربع دعوات. فدفع الغلام الدراهم إليه. فقال منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك؟

فقال: يا سيدي إن لي سيدًا أريد أن أتخلص من مملكته.

فدعا له، وقال: الأخرى.

قال: أن يخلف اللَّه على دراهمي.

فدعا له، ثم وقال: الأخرى.

قال: أن يتوب اللَّه على سيدي.

فدعا له، ثم وقال: الأخرى.

قال: أن يغفر اللَّه لي ولسيدي ولك وللقوم.

فدعا منصور ورجع الغلام إلى سيده.

فقال: ما أبطأك؟ فقصّ عليه القصّة.

فقال له: وبما دعا؟

قال: إن تعتقني.

قال: اذهب فأنت حُرٌّ لوجه اللَّه.

وإيش الثانية؟، قال: أن يخلف اللَّه عليَّ دراهمي.

قال: لك أربعة آلاف درهم.

وإيش الثالثة؟ قال: أن يتوب اللَّه عليك.

قال: تبت إلى اللَّه. قال: وإيش الرابعة؟ قال: أن يغفر اللَّه لي ولك وللمذكور وللقوم.

ص: 245

قال: هذه ليست إليَّ.

فلما كان الليل رأى في المنام كأن قائلًا يقول له فعلت ما كان إليك افتراني لا أفعل ما كان إليّ؟ قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار

(1)

، وللقوم الحاضرين.

الرابعة: قال مالك بن دينار: رأيت بالبصرة قومًا يحملون جنازة وليس معهم مشيع فسألت عنه، فقالوا: هذا رجل من كبار المذنبين العُصاة المسرفين.

قال: فصليت عليه وأنزلته في قبره، ثم انصرفت إلى الظل، فنمت. فرأيت ملكين قد نزلا من السماء فشقا القبر، ونزل أحدهما إليه وقال لصاحبه: اكتبه من أهل النار، فما فيه جارحة سَلِمَت من المعاصي والأوزار.

فقال له صاحبه: يا أخي لا تعجل، اختبر عينيه. فقال: قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بالنظر إلى محارم اللَّه.

قال: اختبر سمعه. قال: قد اختبرته فوجدته مملوءًا بسماع الفواحش والمنكرات.

قال: فاختبر لسانه.

قال: اختبرته فوجدته مملوءتين بالخوض في المحظورات وارتكاب المحرمات.

قال: فاختبر يديه. قال: قد اختبرتهما فوجدتهما مملوءتين بتناول الحرام وما لا يحل من اللذَّات والشهوات.

قال: فاختبر رجليه.

قال: قد اختبرتها فوجدتهما مملوءتين بالسعي في المذمومات.

قال يا أخي لا تعجل عليه، دعني أنزل إليه فنزل إليه الملك الثاني.

فأقام عنده ساعة وقال لصاحبه: يا أخي قد اختبرت قلبه فوجدته مملوءًا إيمانًا، فاكتبه مرحومًا سعيدًا ففضل المولى سبحانه يستغرق ما عليه من الذنوب والخطايا.

لما رأوه مبعدًا عن طاعتي

حكموا بأني لا أجود برحمتي

حكمي أجل وإن يضيق عن الورى

من ذا يجد أوامري ومشيئتي

الخامسة: عن بعض الصالحين قال: خطر لي أن أزور رابعة العدوية

(2)

وأنظر صدقها في دعاويها.

(1)

منصور بن عمار بن كثير، أبو السري السلمي الخراساني ويقال إنه بصري كان زاهدًا، واعظًا، كبير الشأن، وكان إليه المنتهى في بلاغة الموعظة وتحريك القلوب إلى اللَّه. [تاريخ الإسلام وفيات (191 - 200)].

(2)

رابعة العدوية العابدة البصرية المشهورة بالتأله والزهد، وهي رابعة بنت إسماعيل كنيتها أم =

ص: 246

فبينما أنا كذلك، وإذا بفقراء قد أقبلوا ووجوهم كالأقمار ورائحتهم كالمسك، فسلموا عليّ، وسلمت عليهم. وقلت: من أين أقبلتم؟. قالوا: يا سيدي حديثنا عجيب.

فقلت: وما هو. قالوا: نحن من أبناء التجار المتمولين، وكنا عند رابعة في مصر.

فقلت: وما ودَّاكم إليها؟ قالوا: كنا ملتهين بالأكل والشرب في بلدنا، فقيل لنا عن حُسن رابعة وحسن صوتها. فقلنا: لابد أن نروح إليها ونسمع غناها، وننظر إلى حسنها. فخرجنا من بلدنا إلى أن وصلنا إلى بلدها، ووصفوا لنا بيتها وذكروا لنا أنها قد تابت. فقال أحدنا: إن كان فاتنا حسن صوتها وغناها فإنا ننظرها وحُسنها.

فَغَيَّرنا حِلْيَتَنَا ولبسنا لبسة الفقراء، وانتهينا إلى بابها، وطرقنا الباب، فلم نشعر إلا وقد خرجت وتمرغت بين أقدامنا وقالت: لقد سعدت بزيارتكم.

فقلنا: وكيف ذلك؟

قالت: عندنا امرأة عمياء منذ أربعين سنة فلما طرقتم الباب قالت: إلهي وسيدي، بحُرمَة هؤلاء الأقوام الذين طرقوا الباب إلا مارددت عليّ بصري، فرد في الوقت.

قال: فعند ذلك نظر بعضنا إلى بعض. وقلنا: ترون لطف ربكم، ما فضح سريرتنا، فقال الذي أشار علينا بلباس الفقراء: واللَّه لا عدت أقلع هذا اللباس من على، وأنا تائب إلى اللَّه على يد رابعة. فقلنا: لكن نحن وافقناك على المعصية، فوافقنا على الطاعة والتوبة. فتبنا كُلنا على يديها، وخرجنا من أموالنا وصرنا كما ترى.

السادسة: حُكِي أن شابا كان يحضر مجلس بعض علماء السلف وكان الشاب إذا سمع الواعظ يقول: يا ستار يهتز كما تهتز السعفة. فقيل له في ذلك.

فقال: اعلموا أني كنت أُحب أن أخرج في زي النساء، وأحضر كل موضع فيه عرس أو عزاء يجتمع فيه النساء. فحضرت يومًا عرسًا لبنت بعض الملوك.

= عمرو، قال ابن أبي الدنيا بسنده عن عبدة بنت أبي شوال وكانت تخدم رابعة العدوية قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله فإذا طلع الفجر، هجعت هجعة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول: يا نفس كم تنامين، وإلي كم تقومين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومي منها إلا ليوم النشور، وتوفيت رابعة سنة (180). [تاريخ الإسلام وفيات (171 - 180)].

ص: 247

فسُرِقَ عقد بنت الملك، فصاحوا أن أغلقوا الباب وفتشوا النساء، ففتشوهن واحدة واحدة حتى لم يبق إلا واحدة، وأنا، فدعوت اللَّه وأخلصت التوبة، وقلت: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا أبدًا، فوجدوا العقد مع المرأة التي بقيت قبلي، وقالوا: أطلقوا الأخرى، يَعنُوني فأطلقوني، وسرت.

فمن حينئذ إذا سمعت ذكر الستَّار، أَذكُر ستره على، ويأخذني ما رأيتم من الاهتزاز.

السابعة: حُكِي أن رجلًا من بني إسرائيل عبد اللَّه عشرين سنة، وعصى اللَّه عشرين سنة ما أطاعه فيها طرفة عين، فلما كان بعض الأيام نظر في المرآة، فنظر شيبًا في لحيته فقال: آه الشيب والعيب، وعزتك لا عدت إلى معصيتك، وقام من وقته وتطهر للتوبة.

فلما جنَّ الليل قال: إلهي أطعتك عشرين سنة وعصيتك عشرين سنة، فيا ليت شعري إن رجعت إليك تقبلني

(1)

.

فسمع صوتًا لا يُرى قائله: أحببتنا فأحببناك وأطعتنا فأطعناك، وعصيتنا فأملهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.

أخلقت وجهي المعاصي

عند علام الغيوب

سيدي شؤم المعاصي

أبعدت منك نصيبي

سيدي قسوة قلبي

حيرت كل طبيب

يا طيب الأطباء

أنت عوني وطبيبي

اشفني هب لي إلهي

توبة تمحو ذنوبي

‌فصل في فضل الرجاء

قال تعالى إخبارًا عن العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا}

(2)

.

(1)

رواه مسلم في صحيحه [1 - (2675)] كتاب التوبة، 1 - باب في الحض على التوبة والفرح بها، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قال اللَّه عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني واللَّه للَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلى شبرا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا وإذا أقبل إلى يمشي أقبلت إليه أهرول".

(2)

سورة غافر (44، 45).

أي وأتوكل على اللَّه وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] أي: هو بصير بهم تعالى وتقدس، فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة =

ص: 248

وروينا في الصحيحين، والسياق لمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"قال اللَّه عز وجل أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني؛ إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا، تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة".

(1)

وفي رواية لهما: "وأنا معه حين يذكرني"

(2)

بالنون.

وروينا في صحيح مسلم من حديث جابر أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللَّه عز وجل"

(3)

وروينا في جامع الترمذي حديث أنس في قراب الأرض خطايا.

وقد ذكرناه في الاستغفار.

= البالغة والحكلمة التامة والقدر النافذ {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] أي: في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه اللَّه تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الآخرة فبالجنة. [تفسير ابن كثير (4/ 81)].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (7405) كتاب التوحيد، 15 - باب قول اللَّه تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، ومسلم [1 - (2675)] كتاب التوبة، 1 - باب في الحض على التوبة.

(2)

مسلم في صحيحه [2 - (2675)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 1 - باب الحث على ذكر اللَّه تعالى.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [82 - (2877)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 19 - باب الأمر بحسن الظن باللَّه تعالى عند الموت، وابن ماجه (4167)، وأحمد في مسنده (3/ 293، 315)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 378)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 362) والتبريزي في مشكاة المصابيح (2605)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 269)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 104)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 120)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 169، 10/ 278).

ص: 249

‌مجلس في الجمع بين الخوف والرجاء

المختار للعبد في صحته أن يكون خائفًا راجيًا، ويكون خوفه ورجاؤه سواء.

وفي حال المرض يتمحض الرجاء؛ وقواعد الشرع ونصوصه من الكتاب والسنة وغيرهما دالة عليه ومتظاهرة لديه.

قال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

(1)

.

وقال: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}

(2)

.

وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}

(3)

.

وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

(4)

.

فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)}

(5)

.

وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)}

(6)

الآية.

والآيات في هذا كثيرة، فاجتمع الخوف والرجاء في آيتين مقترنتين، أو آيات أو آية.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو يعلم المؤمن ما عند اللَّه من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنته أحدًا"

(7)

.

(1)

سورة الأعراف (99).

قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] أي: بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمحاصي وهو آمن. [تفسير ابن كثير (2/ 239)].

(2)

سورة يوسف (87).

(3)

سورة آل عمران (106).

(4)

سورة الأعراف (167).

(5)

سورة الانفطار (13، 14).

(6)

سورة القارعة (6).

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [23 - (2755)] كتاب التوبة، 4 - باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، والترمذي في سننه (3542)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 334، 397)، وابن =

ص: 250

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها، أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها إنسان لصعق"

(1)

.

وروينا فيه أيضًا من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"

(2)

.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك فنقول:

الحكاية الأولى: عن سليم بن منصور

(3)

قال: رأيت أبي في المنام، فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: إن الرب تبارك وتعالى قربني وأدناني، وقال يا شيخ السوء تدري لم غفرت لك؟ قلت: لا.

قال: إنك جلست يومًا مجلسًا فبكَّيتهم، فبكي فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قط فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن وهبت.

الثانية: قال منصور بن عمار

(4)

- رحمه اللَّه تعالى: رأيت في بعض الأيام شابا يصلي صلاة الخائفين فقلت في نفسي: هذا الشاب لعله وليٌّ من أولياء اللَّه تعالى، فوقفت حتى فرغ من صلاته، ثم سلمت عليه فرد عليَّ السلام.

= حبان في صحيحه (2523 - الموارد)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2367)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 262)، والقرطبي في تفسيره (1/ 34، 139).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1380) كتاب الجنائز، 90 - باب كلام الميت على الجنازة، وأحمد في مسنده (3/ 58)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 21)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1647).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6488) كتاب الرقاق، 29 - باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك، وأحمد في مسنده (1/ 387، 413)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 368)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 247)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 125)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2368)، والخطيب في تاريخ بغداد (11/ 388).

(3)

سليم بن منصور بن عمار بن كثير المروزي أبو الحسن، روى عن أبيه منصور بن عمار، وإسماعيل بن عُلية وأبي داود، وعلي بن عاصم، وعنه: أبو حاتم الرازي وحَسَّنَ أمره، وإسحاق الحربي، قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: أهل بغداد يتكلمون فيه فقال: مه. [انظر تاريخ الإسلام وفيات (231 - 240)].

(4)

منصور بن عمار تقدمت ترجمته وقال عنه أبو حاتم: صاحب مواعظ ليس بالقوي، وقال ابن يونس: قص بمصر على الناس وسمعه الليث فأعجبه ووصله بألف دينار، وقيل: إن الرشيد لما سمع وعظه قال: من أين تعلمت هذا؟ قال: تفل في فيَّ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وقال: "يا منصور قل".

ص: 251

وقلت: ألم تعلم أن في جهنم واديًا يقال: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}

(1)

؟

فشهق شهقة، فخر مغشيًا عليه.

فلما أفاق قال: زدني، قلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} .

(2)

قال: فخر ميتًا فكشفت عن ثيابه، فإذا على صدره مكتوب:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)}

(3)

قال: فلما كان الليلة الثالثة رأيته في المنام جالسًا على سرير وعلى رأسه تاج، فقلت له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي وأعطاني ثواب أهل بدر، وزادني.

فقلت له: لم؟ قال: لأنهم قتلوا بسيف الكفار، وأنا قتلت بكلام الجبار.

الثالثة: قال المزني

(4)

: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها فقلت له: كيف أصبحت؟

قال: أصبحت من الدنيا راحلًا ولإخواني مفارقًا ولكأس المنية شاربًا، ولسوء أعمالي ملاقيًا وإلى اللَّه الكريم واردًا، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها أو إلى النار فأعزيها.

ثم بكى وأنشد:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت الرجاء مني لعفوك سُلَّما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك كان عفوك أعظما

وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل

تجود وتعفو منة وتكرمًا

الرابعة: عن سعيد بن ثعلبة. رحمه اللَّه تعالى. قال: بتنا ليلة مع رجل من العباد على الساحل بسيراف فأخذ في البكاء، فلم يزل يبكي حتى خفنا طلوع الفجر ولم يتكلم بشيء، ثم قال: يا مولاي جرمي عظيم، وعفوك كثير، فاجمع بين جرمي

(1)

سورة المعارج (15 - 18).

(2)

سورة التحريم (6).

(3)

سورة الحاقة (21 - 23).

(4)

هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم، الفقيه، المزني المصري صاحب الشافعي كان زاهدًا عالمًا مجتهدًا مناظرًا محجاجًا غوَّاصًا على المعاني الدقيقة صنف كتبًا كثيرة، توفي سنة (264).

ص: 252

وعفوك يا كريم قال: فتصارخ الناس من كل ناحية.

الخامسة: روى أن سليمان بن عبد الملك

(1)

رحمه الله قال لأبي حازم. رحمه اللَّه تعالى: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟

قال: لأنكم عمرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة، وإنكم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب. قال: صدقت يا أبا حازم، ليت شعري ما لنا عند اللَّه غدًا؟

قال: أعرض عملك على كتاب اللَّه تعالى.

قال: وأين أجده من كتاب اللَّه تعالى؟ فقل: في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} .

(2)

قال سليمان: وأين رحمة اللَّه؟ قال {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

(3)

قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على اللَّه تعالى؟

قال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحًا مسرورًا، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه خائفًا محسورًا.

وأنشدوا:

عرضنا على المولى ونحن عبيده

فمنا شقي رده وسعيد

فمن كان منا ليس يصلح خادمًا

فعن بابه بالطرد ذاك بعيد

ومن كان يصلح فهو في قدس حضره

قريب ومغبوط هناك حميد

حبيب له جاه عظيم ورفعة

ومجد على من الجديد جديد

أولئك خُدَّام كرام وسادة

ونحن عبيد السوء بئس عبيد

فيا غبننا يوم التغابن عندما

يقابلهم وعد ونحن وعيد

ترى الناس إلَّا وهم سكارى وما هم

بسكارى ولكن العذاب شديد

وهم ركبوا نجائب من النور في الهوى

تطير بهم إلى الرب الكريم وُفُود

فلا فزع يحزنهم بل يقربه

لهم فرح يحلو هناك وعيد

السادسة: عن بعض السلف قال: رأيت في بعض الجبال شابا أصفر اللون غائر

(1)

سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي أمير المؤمنين أبو أيوب، وكان من خيار ملوك بني أمية ولي الخلافة سنة (96) بعد الوليد، وعن ابن سيرين قال: يرحم اللَّه سليمان بن عبد الملك افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لوقتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وتوفي سليمان سنة (99)[تاريخ الإسلام وفيات (91 - 100)].

(2)

سورة الانفطار (13، 14).

(3)

سورة الأعراف (56).

ص: 253

العينين مرتعش الأعضاء لا يستقر في الأرض كائن به وخز الأشنة وجموعه تتحادر. فقلت له: من أنت؟ قال: آبق من مولاه. قلت: تعود وتعتذر.

قال: العذر يحتاج إلى إقامة حجة، وكيف يعتذر المقصر؟

قلت: يتعلق بمن يشفع فيه. قال: كل الشفعاء يخافون منه.

قلت: من هو؟

قال: هو مولى، رباني صغيرًا فعصيته كبيرًا شرط لي فوفاني، وضمن لي فأعطاني فخنته في ضماني وعصيته وهو يراني وأحياني من صنيعته، وقبح معاملتي، فقلت: أين هذا المولى؟

قال: أين توجهت لقيت عونه، وأين استقرت قدمك ففي داره.

فقلت: أرفق بنفسك، فربما أحرقَك الخوف، فقال: احترق بنار خوفه، لعله يرض أحق وأولى.

وأنشأ يقول:

لم يبق خوفك لي دمعًا ولا جلدًا

لا شك أني بهذا ميت كمدًا

عبد كئيب أتى بالعجز معترفًا

وناره تحرق الأحشاء والكبدا

ضاقت مسالكه في الأرض من وجل

فهب له منك لطفًا إن لقيتك غدًا

فقلت: يا غلام الأمر أسهل مما تظن فقال: هذا من فتن البطالين، إنه تجاوز عني إني أنا والإخلاص والصفا، ثم صاح صيحة خرجت منها روحه، فخرجت عجوز من كهف جبل عليها ثياب رثة، فقالت: من أعان على البائس الحيران؟ فقلت: يا أمة اللَّه دعوته إلى الرجاء.

فقالت: قد دعوته إلى ذلك، فقال لي: الرجاء بلا صفا شرك.

قلت: فمن أنت منه؟ قالت: والدته، فقلت: أقيم عندك أعينك عليه. قالت: خله بين يدي قاتله عسى يراه يغير معين فيرحمه.

فلم أدر مما أعجب من صدق الغلام في خوفه، أو من قول العجوز وحسن صدقها، رحمهم الله أجمعين.

السابعة: حُكِي أنه قيل للحسن البصري. رحمه الله: يا أبا سعيد هنا رجل لم نره قط إلا جالسًا وحده خلف سارية، فمضى إليه الحسن وقال: يا عبد اللَّه أراك قد أحببت العزلة، فما يمنعك من مجالسة الناس؟

قال: أمر شغلني عن الناس. قال: فما يمنعك تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن البصري تجلس إليه؟

ص: 254

قال: أمر شغلني عن الناس وعن الحسن البصري. فقال له الحسن: ما ذاك الشغل يرحمك اللَّه؟

قال: أتى الصبح بين نعمة وذنب، فرأيت أن أشغل نفسي بالشكر على النعمة والاستغفار من الذنب.

فقال له الحسن البصري: أنت يا عبد اللَّه أفقه من الحسن فالزم ما أنت عليه.

الثامنة: قال ذو النون المصري. رحمه اللَّه تعالى: كنت في جبال بيت المقدس، وإذا برجل قد اتزر بالخوف واتشح بالرجاء، فتقدمت إليه وسلمت عليه، فرد عليَّ السلام، فقلت له: من أين أقبلت يرحمك اللَّه؟

قال: من حضرة الأنس.

قلت: إلى أين تريد؟

قال: إلى راحة النفس، ثم ولي وهو يقول:

هجر الخلق كلهم فتولى

فهو باللَّه طيب الخلوات

قال للنفس ساعديني وجدي

ليس نقض العهود فعل الثقات

ليس من يطلب الحبيب فتورا

فأسبل الدمع واهجر الترَّهات

هل رأيتم مدللًا في عذاب

وعروسًا تواصل العبرات

ملك جائع غني فقير

مشرق وجهه من الحسنات

لم يدم عرسه الذي هو ماض

إنما رام عرسه الذي هو آت

فلعمري ليخلعن عليه

خلع العز مع جزيل الهبات

التاسعة: عن الشبلي رحمه اللَّه تعالى: إنه كان يقول: ليت شعري ما اسمي عندك يا علام الغيوب وما أنت صانع بي يا غفار الذنوب، وبم يختم عملي يا مقلب القلوب، ثم أنشد وجعل يقول:

ليت شعري كيف ذكري

عند من يعلم سري

أجميل أم قبيح

أم بخير أم بشري

ليت شعري كيف موتي

بيقين أم بكفر

أترى يقبل قولي

أم ترى يشرح صدري

ليت شعري كيف حالي

يوم إحضاري وحشري

ليت شعري أين أمضي

لنعيم أم لجمري؟

العاشرة: قال صالح المدي رحمه الله: رأيت في محراب داود صلى الله عليه وسلم عجوزًا

ص: 255

عليها مدرعة شحر وقد كُفَّ بصرها وهي تصلي وتبكي قال: فتركت صلاتي، ووقفت أنظر إليها.

فلما فرغت من صلاتها رفعت وجهها إلى السماء وجعلت تنشد:

أين سؤلي وعصمتي في حياتي

أنت ذخري وعدتي في مماتي

يا عليما ما أكِنُّ وأُخْفِي

وبما في بواطن الخطرات

ليس لي مالك سواك فأرجوه

لدفع العظائم الموبقات

قال: فسلمت عليها وقلت لها: ما الذي أوجب ذهاب عينيك؟

قالت: بكائي على ما فرطت في مخالفته ومعصيته، وما كان من تقصيري في ذكره وخدمته، فإن عفي عني عوضني في الآخرة خيرًا منها، وإن لم يعف عني فما لي حاجة بعين تحرق في النار.

قال: فبكيت رحمة لها، فقالت: يا صالح أقسم عليك أن تقرأ شيئًا من كتاب اللَّه تعالى لي فقد طال وعزته شوقًا إليه.

قال: فقرأت: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} .

(1)

قالت: يا صالح من خدمه حق خدمته؟ ثم صرخت صرخة يتصدع قلب من يسمعها، وسقطت على وجهها، وإذا بها قد فارقت الدنيا.

قال: ثم إني رأيتها بعد ذلك في المنام وهي في حالة حسنة فسألتها عن أمرها كيف كان؟

قالت: لما قبضني أوقفني الحق بين يديه وقال: أهلًا بمن قتلها الأسف على تقصيرها في خدمتي، ثم ولت وهي تقول:

جاد لي بالذي أؤمل منه

وحباني بكل ما أرتجيه

في نعيم ولذة وسروره

أبدًا عنده أخلد فيه

(1)

سورة الأنعام (91).

ص: 256

‌مجلس في بيان كثرة طرق الخير

وطرقها العبادات لأن الخير سلكها ويتوصل بها إليها.

قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}

(2)

.

وقال: "وما يفعلوا من خير فلن يكفروه"

(3)

.

وقال: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}

(4)

.

وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [النحل: 97] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ}

(5)

.

وقال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}

(6)

.

وقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ}

(7)

.

وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}

(8)

.

وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}

(9)

.

وقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}

(10)

.

وقال: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}

(11)

.

وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ}

(12)

.

وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}

(13)

.

ومثقال الذرة يشمل الكيف والكم، والكم هو المتبادر.

وقال: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}

(14)

.

(1)

سورة البقرة (215).

(2)

سورة البقرة (197).

(3)

سورة آل عمران (115).

(4)

سورة الأعراف (188).

(5)

سورة النحل (97).

(6)

سورة الكهف (30).

(7)

سورة الكهف (46).

(8)

سورة الأنبياء (90).

(9)

سورة الأنبياء (94).

(10)

سورة الحج (77).

(11)

سورة فاطر (10).

(12)

سورة الذاريات (16).

(13)

سورة الزلزلة (7).

(14)

سورة البقرة (184).

ص: 257

وقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ}

(1)

.

وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}

(2)

.

وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}

(3)

.

وقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}

(4)

.

وأما الأحاديث فخمسة وعشرون حديثًا وهي مشتملة على بيان أصول الخير ومراتبه وأنواعه وغير ذلك:

الحديث الأول: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه أي الأعمال أفضل؟

قال: "الإيمان باللَّه، والجهاد في سبيله" قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟

قال: "أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنًا"

(5)

.

قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: "تعين صانعًا أو تصنع لأخرق".

قال: قلت: يا رسول اللَّه، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال:"تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك"

(6)

.

أخرجاه.

الصانع: بالصاد المهملة -وروى بالمعجمة- أي ذا ضياع، فقرأ وعيال ونحوهما.

والأخرق: الذي لا يتقن ما يحاول فعله.

(1)

سورة الروم (45).

أي يجازيهم مجازاة الفضل؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء اللَّه {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 45]، ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.

(2)

سورة الروم (44).

(3)

سورة الرعد (29).

(4)

سورة الأنبياء (73).

(5)

قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا". فالمراد به واللَّه أعلم إذ أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشتري بها رقبتين مفصولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية، فإن التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن. [النووي في شرح مسلم (2/ 68) طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (2518) كتاب العتق، 2 - باب أي الرقاب أفضل، ومسلم في صحيحه [136 - (84)] كتاب الإيمان 36 - بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، وأحمد في مسنده (5/ 150، 171)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 81، 9/ 272)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3383)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 108).

ص: 258

وهذا الحديث فيه بيان أفضل الأعمال، إما مطلقًا وإما لحال شخص.

فذكر للمطلق كل خير وهو الإيمان، وتممه بأمرين: الدعاء إليه والحجة والسيف، وفك رقبة مؤمنة وحال من لم يفعل شيئًا من ذلك إسداء المعروف إعانة واستقلالا، ولحال من ضعف عنه كف الشر.

الحديث الثاني عنه مرفوعًا

(1)

: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى".

أخرجه مسلم.

والسلامى: بضم السين المهملة وتخفيف اللام المفصل

(2)

.

وفيه بيان أن كلًّا من الأذكار الأربعة صدقة على النفس وعلى العالم، والصلاة المذكورة تجزئ من ذلك كله.

الحديث الثالث: عنه مرفوعًا: "عرضت عليَّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، وجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن"

(3)

.

أخرجه مسلم.

فإماطة الأذى من محاسن العادات، ومهم العبادات.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [84 - (720)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 13 - باب استحباب صلاة الضحى، وأبو داود في سننه (1289، 5243)، وأحمد بن حنبل (5/ 167)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 47)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 461)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 367)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1/ 2311)، والقرطبي في تفسيره (15/ 160).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "على كل سلامى من أحدكم صدقة" وهو بضم السين وتخفيف اللام وأصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في جميع عظام البدن ومفاصله، وفي الحديث وحديث أبي الدرداء الحث على الضحى وصحتها ركعتين والحث على صوم ثلاثة أيام من كل شهر وعلى الوتر وتقديمه على النوم لمن خاف أن لا يستيقظ آخر الليل. [النووي في شرح مسلم (5/ 198، 199) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [57 - (553)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 13 - باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 180)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 291)، وابن خزيمة في صحيحه (1308)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (709) والبخاري في الأدب المفرد (230)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 616) والقرطبى في تفسيره (12/ 278).

ص: 259

الحديث الرابع: عنه أيضًا أن ناسًا قالوا: يا رسول اللَّه ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أوليس قد جعل اللَّه لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة

(1)

، وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول اللَّه أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر"

(2)

.

رواه مسلم.

الدثور: بالثاء المثلثة، الأموال وأحدها دثر.

وفيه أن البضع صدقة، وهو عادي أيضًا، وهو صدقة على العالم كله، من نسل يكثر السواد ويجاهد في اللَّه حق الجهاد.

والحرام لا خير {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22].

الخامس: عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

(3)

رواه مسلم.

وهو عادي أيضًا فالطلاقة في وجه الإخوان، وعدم الاحتقار بالمعروف من المهم المألوف.

الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل سلامى

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: "وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة" فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا نكره، والثواب في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلًا، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل:"وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ من أداء ما افترضت عليه". [النووي في شرح مسلم (7/ 80) طبعة دار الكتب العلمية]

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [53 - (1006)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأحمد في مسنده (5/ 167) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 429)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188) والزبيدي في الإتحاف (7/ 16)، وفي آداب الزفاف للألباني (57).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [144 - (2626)] كتاب البر والصلة والآداب، 43 - باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، وأحمد في مسنده (3/ 483، 5/ 63)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188، 10، 236)، وابن حبان في صحيحه (866، 1450) والزبيدي في الإتحاف (7/ 482، 533).

ص: 260

من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس". قال: "تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليه متاعه، صدقة" قال:"والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة"

(1)

.

متفق عليه.

ورواه مسلم أيضًا من رواية عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنه خُلِقَ كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبّر اللَّه، وحمد اللَّه، وهلل اللَّه، وسبح اللَّه، واستغفر اللَّه، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السُلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار"

(2)

. فهذه العادات صارت عبادات.

الحديث السابع: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غدا إلى المسجد أو راح، أعد اللَّه له في الجنة نُزُلًا، كلما غدا أو راح"

(3)

.

مقفق عليه، والنزل: القوت أو الرزق، وما يُهيأ للضيف، فتكرار الخيرات تزاد به الأجور والمسرات.

الحديث الثامن: عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فِرْسنَ شاة". متفق عليه

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2707) كتاب الصلح، 11 - باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم، ورقم (2891) كتاب الجهاد والسير 72 - باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر ورقم (2989) كتاب الجهاد والسير، 128 - باب من أخذ بالركاب ونحوه، ومسلم في صحيحه [56 - (1009)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأحمد في مسنده (2/ 316)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188)، وابن خزيمة في صحيحه (1494).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [54 - (1007)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1717).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (662) كتاب الأذان، 37 - باب فضل من غدا إلى المسجد ومن راح، ومسلم في صحيحه [285 - (669)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 551 - باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 212)، وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 317).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6017) كتاب الأدب، 30 - باب لا تحقرن جارة لجارتها، ومسلم في صحيحه [90 - (1030)] كتاب الزكاة، 29 - باب الحث على الصدقة ولو بالقليل، ولا تمتنع من =

ص: 261

قال الجوهري: الفرسن من البعير كالحافر من الدابة.

قال: وربما أستعير للشاة، فترك الاحتقار من كرم النفس به يحصل كمال الأدب وطرح النفس.

الحديث التاسع: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق عليه

(1)

.

البضع: من ثلاثة إلى تسعة، بكسر الباء، قد تفتح، والشعبة: القطعة، وهو بيان لأنواع الشعب منوعة إلى العقائد والأعمال والأحوال، وبها يخلص من النصب.

الحديث العاشر: عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش

(2)

.

فقال الرجل: "لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي

(3)

، فسقي الكلب فشكر اللَّه له، فغفر له".

= القليل لاحتقاره، وأحمد في مسنده (4/ 64، 5/ 377)، ومالك في الموطأ (931)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 303).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (9) كتاب الإيمان، 3 - باب أمور الإيمان، ومسلم في صحيحه [58 - (35)] كتاب الإيمان 12 - باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان.

قال النووي: قال القاضي عياض وغيره من الشراح: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقًا واكتسابًا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم، فهو من الإيمان بهذا، ولكونه باعثًا على أفعال البر ومانعًا من المعاصي.

وقوله صلى الله عليه وسلم "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أي تنحته وإبعاده، والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر، أو شوك أو غيره. [النووي في شرح حديث مسلم (2/ 6) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم "فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش" أما الثرى فالتراب الندى، ويقال: لهث بفتح الهاء وكثرها يلهث بفتحها لا غير لهثًا بإسكانها.

والاسم اللهث بفتحها واللهاث بضم اللام، ورجل لهثان وامرأة لهثى كعطشان وعطشى وهو الذي أخرج لسانه من شدة العطش والحر.

(3)

"حتى رَقِي فسقي الكلب": يقال رقي بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى فتحها وهى لغة طئ في كل ما أشبه هذا. [النووي في شرح مسلم (14/ 202، 203) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 262

قالوا: يا رسول اللَّه، وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟

فقال: "في كل كبد رطبة أجرا"

(1)

.

وفي البخاري: فشكر اللَّه له فأدخله الجنة.

وفي رواية لهما: "بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بنى إسرائيل، فنزعت مُوقها، فسقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به"

(2)

.

المُؤق: الخُف.

يطيف: يدور حول ركيَّة: وهي البئر.

الحديث الحادي عشر: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس"

(3)

رواه مسلم.

وفي رواية: "مرّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: واللَّه لأُنحِّينَّ هذا عن المسلمين لا يُؤذيهم، فأدخل الجنة"

(4)

.

وفي رواية لهما: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخرَّه، فشكر اللَّه له فغفر له"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2363) كتاب المساقاة، باب فضل سقي الماء. ومسلم في صحيحه [153 - (2224)] كتاب قتل الحيات وغيرها، 5 - باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها. وأبو داود في سننه (2550) كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم. وأحمد في مسنده (2/ 517)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 185).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3467) كتاب أحاديث الأنبياء، 56 - باب عقب باب حديث الغار. ومسلم في صحيحه [155 - (2245)] كتاب قتل الحيات وغيرها، 5 - باب فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها. قال النووي: البغي هي الزانية، والبغاء بالمد هو الزنا، ومعنى يطيف أي يدور حولها، بضم الياء ويقال طاف به وأطاف إذا دار حوله، والموق: بضم الميم هو الخف فارسي معرب، ومعنى نزعت له بموقها أي استقت، يقال: نزعت بالدلو استقيت به من البئر ونحوها ونزعت الدلو أيضًا.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [129 - (1914)] كتاب البر والصلة والآداب، 36 - باب فضل إزالة الأذى عن الطريق والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 620) والزبيدي في الإتحاف (6/ 254)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1905).

وقال النووي: أي يتنعم في الجنة بملاذها بسبب قطعه الشجرة.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [128 - (1914)] كتاب البر والصلة والآداب، 36 - باب فضل إزالة الأذى عن الطريق.

(5)

أخرجه البخاري (652) كتاب الأذان، 32 - باب فضل التهجير إلى الظهر، ومسلم في صحيحه [127 - (1914)] كتاب البر والصلة والآداب، 36 - باب فضل إزالة الأذى عن الطريق وأحمد في مسنده (2/ 533)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 620).

ص: 263

الحديث الثاني عشر: عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام

(1)

ومن مس الحصى فقد لَغَا".

(2)

رواه مسلم.

الحديث الثالث عشر: عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال

(3)

"إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يَخْرُج نقيًا من الذنوب"

(4)

. رواه مسلم.

الحديث الرابع عشر: عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"

(5)

. رواه مسلم.

(1)

قال العلماء: معنى المغفرة له ما بين الجمعتين وثلاثة أيام أن الحسنة بعشر أمثالها، وصار يوم الجمعة الذي فعل فيه هذه الأفعال الجميلة في معنى الحسنة التي تجعل بعشر أمثالها.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [27 - (857)] كتاب الجمعة، 8 - باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة. وأحمد في مسنده (1/ 19، 57، 66)، والحاكم في المستدرك (1/ 131، 208)، وابن حبان في صحيحه (567)، وابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 97)، وابن خزيمة في صحيحه (2)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 123)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3/ 13)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 482).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (244)] كتاب الطهارة، 11 - باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء. وأحمد في مسنده (2/ 303)، والترمذي في سننه (2) في الطهارة، باب ما جاء في فضل الطهور. والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 81)، وابن خزيمة في صحيحه (4)، ومالك في الموطأ (32)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 151)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 375).

(4)

تقدم تخريجه في أوله.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [(16 - (233)] كتاب الطهارة، 5 - باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. والترمذي في سننه (214) أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس - وابن ماجه (598)، وأحمد في مسنده (2/ 359، 400)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 466، 467)، وابن خزيمة في صحيحه (314، 1814)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 183) والشجري في أماليه (1/ 270)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 233، 483)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 298، 300)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (564)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 9). وقال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما" فيه جواز قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وهذا هو الصواب، ولا وجه لإنكار من أنكره. [النووي في شرح مسلم (3/ 101) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 264

الحديث الخامس عشر: عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ ".

قالوا: بلى يا رسول اللَّه.

قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"

(1)

رواه مسلم.

الحديث السادس عشر: عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا: قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة".

(2)

متفق عليه.

البردان: الصبح والعصر.

الحديث السابع عشر: قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"

(3)

رواه البخاري.

وفيه إشارة إلى ملازمة الأوراد وصدق العزم في إرادتها. فيبلغ غاية الأغراض وتزول عنه الأعراض.

الحديث الثامن عشر: عن جابر مرفوعًا: "كل معروف صدقة"

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [(41/ (251)] كتاب الطهارة، 14 - باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره. والترمذي (51) في الطهارة، باب ما جاء في إسباغ الوضوء، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 62)، وابن حبان في صحيحه (161 - الموارد) وأحمد في مسنده (2/ 301، 303)، وابن ماجه في سننه، وابن خزيمة في صحيحه (5)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (282)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 37) وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 248)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 231).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (574) كتاب مواقيت الصلاة، 27 - باب فضل صلاة الفجر، ومسلم في صحيحه [215 - (635)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 37 - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما. وأحمد في مسنده (4/ 80)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 466)، وابن حبان في صحيحه (282)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (625)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 290).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 70)، وأحمد في مسنده (4/ 410)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 374).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6021) كتاب الأدب، 33 - باب كل معروف صدقة. ومسلم في صحيحه [52 - (1005)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. وأبو داود في سننه (4947)، وأحمد في مسنده (4/ 207، 5/ 397)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188)، والحاكم في المستدرك (2/ 50)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 136، 137)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 361)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 353، 8/ 384)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 49).

ص: 265

رواه البخاري.

ورواه مسلم من رواية حذيفة رضي الله عنهما وهو أبلغ تعظيم وأشرف تكريم.

الحديث التاسع عشر: عنه مرفوعًا: "ما من مسلم يغرسُ غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سُرِقَ منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة"

(1)

رواه مسلم.

وفي رواية له: "فلا يغرس المسلم غرسًا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة"

(2)

.

وفي رواية له: "لا يغرس مسلم غرسًا ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء، إلا كانت له صدقة"

(3)

.

وروياه جمعيا من رواية أنس

(4)

رضي الله عنهما قوله.

قوله: يَرْزَؤُهُ: أي ينقصه.

العشرون: عنه قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لهم "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد".

قالوا: نعم يا رسول اللَّه قد أردنا ذلك فقال: "يا بني سلمة دياركم تكتب أثاركم، دياركم تكتب آثاركم"

(5)

. رواه مسلم

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [7 - (1552)] كتاب المساقاة، 2 - باب فضل الغرس والزرع. والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 375)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 103) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (8). قال النووي: في هذه الأحاديث فضيلة الغرس وفضيلة الزرع وأن أجر فاعل ذلك مستمر ما دام الغراس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها فقيل التجارة وقيل الصنعة باليد وقيل الزراعة وهو الصحيح. [شرح مسلم للنووي (10/ 181) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [10 - (1552)] كتاب المساقاة، 2 - باب فضل الغرس والزرع.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [8 - (1552)] كتاب المساقاة، 2 - باب فضل الغرس والزرع، وأحمد في مسنده (3/ 192)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 137، 138)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 375)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 134).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [12 - (1553)] كتاب المساقاة، 2 - باب فضل الغرس والزرع.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [280 - (665)]، [281] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد. وأحمد في مسنده (3/ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 64)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (700)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 260)، والقرطبي في تفسيره (15/ 22).

(6)

قوله صلى الله عليه وسلم "دياركم تكتب آثاركم" معناه الزموا دياركم، فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم =

ص: 266

وفي رواية: "إن بكل خطوة درجة".

ورواه البخاري

(1)

أيضا بمعناه من رواية أنس رضي الله عنهما.

وبنو سلمة: بكسر اللام، قبيلة معروفة من الأنصار.

وآثارهم: خطاهم.

الحادي والعشرون: عن أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنهما قال

(2)

: كان رجل لا أعلم رجلا أبعد من المسجد، وكان لا تخطئه صلاة.

قال: فقيل له: أو قلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء.

قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قد جمع اللَّه لك ذلك كله"

(3)

.

رواه مسلم.

وفي رواية: "إن لك ما احتسبت"

(4)

الرمضاء: الأرض التي أصابها الحر الشديد.

= الكثيرة إلى المسجد، وبنو سلمة بكسر اللام قبيلة معروفة من الأنصار.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (655)، (656) كتاب الأذان، 33 - باب احتساب الآثار.

(2)

في هذا الحديث إثبات الثواب في الخطا في الرجوع من الصلاة كما يثبت في الذهاب. وقاله في الحديث التالي له وذكرناه بلفظة: "ما أحب أن بيتي مطنب بيت محمد صلى الله عليه وسلم أي ما أحب أنه مشدود بالأطناب وهى الجبال إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل أحب أن يكون بعيدا منه لتكثير ثوابي وخطاي إليه. [النووي في شرح مسلم (5/ 142، 143) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [278 - (663)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد. وأبو داود في سننه (557) كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة. والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 270).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [278 - (663)] عقب ما تقدم، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 50 - باب فضل كثيرة الخطا إلى المساجد - وابن ماجه في سننه (783)، وأحمد في مسنده (5/ 133)، وابن خزيمة في صحيحه (450، 1500).

ولفظه في مسلم: فقلت له: يا فلان لو إنك اشتريت حمارًا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض، قال: أم واللَّه، ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم قال: فحملت به حملا، حتى أتيت نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره الأجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن لك ما احتسبت".

ص: 267

الثانى والعشرون: عن أبي محمد عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله اللَّه بها الجنة"

(1)

. رواه البخاري.

المنيحة: أن يعطيه إياها ليأكل لبنها، ثم يردها إليه.

وهو دال على أن الأعمال التي لا يلقي لها بالا يدخل بها صاحبها الجنة في المآل.

الثالث والعشرون: عن عدي بن حاتم رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا النار، ولو بشق تمرة"

(2)

. متفق عليه.

وفي رواية لهما عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم أحد إلا سيكلِّمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قَدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة"

(3)

.

وهو دال على أن اليسير لا يخفر.

الرابع والعشرون: عن أنس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ليرضى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2631) كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، 35 - باب الاستعارة للعروس عند البناء. وأبو داود في سننه (1683) كتاب الزكاة، باب في المنيحة. والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 429).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1417) كتاب الزكاة، 11 - باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والبخاري أيضًا (6023) كتاب الأدب، 34 - باب طيب الكلام. ومسلم في صحيحه [66 - (1016)] كتاب الزكاة 20 - باب الحث على الصدقه ولو بشق تمرة والترمذي في سننه (2415) كتاب صفة القيامة، باب في القيامة.

وأحمد في مسنده (6/ 137)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 105، 106)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 43)، والزبيدي في الإتحاف (47080) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 355).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1413) كتاب الزكاة، 9 - باب الصدقة قبل الرد ورقم (3595) كتاب المناقب، 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. ورقم (6023) كتاب الأدب، 34 - باب طيب الكلام ورقم (6539) كتاب الرقاق، 49 - باب من نوقش الحساب عُذِّب.

ورقم (7512) كتاب التوحيد، 36 - كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ومسلم في صحيحه [67 - (1016)]، (68) كتاب الزكاة، 20 - باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار. وأحمد في مسنده (4/ 377)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 10)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 176)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 82، 83).

ص: 268

عن العبد أن يَأكُل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها"

(1)

. رواه مسلم.

والأكلة بفتح الهمزة وهى الغدوة أو العشوة وهو دال على أن الحمد يجلب الرضوان وأي شيء أسلم من هذا، فقد ظهر عظيم أجره وبان.

الخامس والعشرون: عن أبي موسى رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(2)

"على كل مسلم صدقة" قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق".

قال: قيل: أرأيت إن لم يستطع؟

قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف"

قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟

قال: "يأمر بالمعروف أو الخير"

قال: أرأيت إن لم يفعل؟

قال: "يُمسك عن الشرِّ فإنها صدقة"

(3)

. متفق عليه.

وهو دال على تنوع المراتب، ولا راتبه وراء الإمساك.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [89 - (2734)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 24 - باب استحباب حمد اللَّه تعالى بعد الأكل والشرب، والترمذي في سننه (1816) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا فُرغ منه.

والنسائي في الكبرى، في الوليمة، وأحمد في مسنده (3/ 100، 117)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 148)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 119، 10/ 344)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4100).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم "تعين ذا الحاجة الملهوف" الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم، وقولهم يا لهف نفسي على كذا حكمه يتحسر بها على ما فات، ويقال لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفا بإسكانها أي حزن وتحسر وكذلك التلهف.

وقوله صلى الله عليه وسلم "تمسك عن الشر فإنها صدقة" معناه صدقة على نفسها كما في غير هذه الرواية، والمراد أنه إذا أمسك عن الشر للَّه تعالى كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجرًا. [النووي في شرح مسلم (7/ 83) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6022) كتاب الأدب، 33 - باب كل معروف صدقة. ومسلم في صحيحه [55 - (1008)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. وأحمد في مسنده (4/ 395)، والنسائي (5/ 64) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 188)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 108)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 393).

ص: 269

‌مجلس في الاشتغال باللَّه والإعراض عما سواه

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

(1)

.

وروينا في الصحيحين

(2)

من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رجل أي الناس أفضل يا رسول اللَّه؟

قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه قال: ثم من؟

قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشِّعاب

(3)

، يعبد ربه".

وفي رواية: "يتقي اللَّه ويدع الناس من شرِّه"

(4)

.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك: الأولى عن ذي النون المصري

(5)

رحمه الله قال: أوحى اللَّه تبارك وتعالى إلى موسى: كن كالطير الوحداني يأكل من

(1)

سورة النساء (36).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6494) كتاب الرقاق، 34 - باب العزلة راحة من خلاط السوء. ومسلم في صحيحه [123 - (1888)] كتاب الإمارة، 34 - باب فضل الجهاد والرباط. وأحمد في مسنده (3/ 56، 88)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 238، 3/ 439)، وعبد الرزاق في مصنفه (20761)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 242).

(3)

فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفي ذلك خلاف مشهور، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص، ولقد كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك. [النووي في شرح مسلم (13/ 31) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2786) كتاب الجهاد والسير، 2 - باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه.

(5)

سأله المتوكل فقال: يا أبا الفيض صف لي أولياء اللَّه قال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم اللَّه النور الساطع من محبته وجللهم بالبهاء من أردية كرامته ووضع على مفارقهم تيجان مسرته، نَشر لهم المحبة في قلوب خليقته، ثم أخرجهم وقد ودع القلوب ذخائر الغيوب، فهي معلَّمة بمواصلة المحبوب، فقلوبهم إليه سائرة، وأعينهم إلى عظيم جلاله ناظرة. . . إلى آخر كلامه تاريخ الإسلام وفيات (241 - 250).

ص: 270

رؤوس الأشجار، ويشرب من الماء القراح أو قال من الأنهار، إذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف، واستئناسا بي واستيحاشا ممن عصاني، يا موسى إني آليت على نفسي أني لا أتُم لمدَّع عملا، ولأقطعنَّ أمل من أمل غيري، ولأقصمنَّ ظهر من استند إلى سواي، ولأطيلنَّ وحشة من آنس بغيري، ولأعرضنَّ عمن أحب حبيبًا سواي.

يا موسى إن لي عبادا إن ناجوني أصغيت إليهم وإن نادوني أقبلت عليهم، وإن أقبلوا على دانيتهم، وإن دنوا مني قربتهم، وإن تقربوا أكنفتهم، وإن والوني واليتهم وإن صافوني صافيتهم، وإن عملوا لي جزيتهم، أنا مدبر أمورهم وسائس قلوبهم ومتولى أحوالهم لم أجعل لقلوبهم رأفة إلا في ذكرى، فهو لاشفائهم شفاء وعلى قلوبهم ضياء. لا يستأنسون إلا بي، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندي، ولا يستقر قرار الإيواء إلا إلي.

الثانية: عن الواسطى رحمه الله قال: بينما أنا أسير في البادية إذا بأعرابي جالس منفرد، فدنوت منه وسلمت عليه، فرد علي السلام.

فأردت أن أكلمه فقال: اشتغل بذكر اللَّه، فإن ذكره شفاء القلوب.

ثم قال: كيف يفتر ابن آدم من ذكره وخدمته والموت في أثره واللَّه ناظر إليه. ثم بكي وبكيت معه.

فقلت له: ما لي أراك وحيدًا؟

قال: ما أنا بوحيد، واللَّه معي، وما أنا بفريد وهو أنيس.

ثم قام ومضى عني مسرعًا، وقال: سيدي أكثر خلقك مشغول عنك بغيرك، وأنت عوض عن جميع ما فات.

يا صاحب كل غريب ويا مؤنس كل وحيد، ويا مؤوى كل طريد.

وجعل يمشي وأنا أتبعه، ثم أقبل إلي وقال: ارجع عافاك اللَّه إلى من هو خير لك مني، ولا تشغلني عمن هو خير لى منك، ثم غاب عن بصري.

فائدة:- عن أبي تراب

(1)

من شغل مشغولا باللَّه عن اللَّه أدركه المقت

(2)

في الوقت أو كما قال.

الثالثة: عن عبد الواحد بن زيد قال: مررت براهب فسألته منذ كم أنت في هذا المكان؟

(1)

أبو تراب النخشبى تأتى ترجمته.

(2)

مَقَتَ فلانا مقتًا، أبغضه أشد البغض.

ص: 271

قال: منذ أربع وعشرين سنة.

قلت: من أنيسك؟

قال: الفرد الصمد.

قلت: ومن المخلوقين؟

قال: الوحش.

قلت: فما طعامك؟

قال: ذكر اللَّه.

قلت: ومن المأكولات؟

قال: ثمار هذه الأشجار، ونبات الأرض.

قلت: أفلا تشتاق إلى حبيب قلوب العارفين؟

قال: نعم.

قلت: ومن المخلوقين؟

قال: من كان شوقه إلى اللَّه، كيف يشتاق إلى غيره.

قلوب العارفين تحن شوقا

تحل بقربه في كل راح

صفت في ودِّ مولاها فليست

لها عن ودِّ مولاها براح

الرابعة: عن ذي النون قال: بينما أنا أسير في بعض جبال بيت المقدس إذ سمعت صوتا وهو يقول: ذهبت الآلام عن أبدان الخدام، وولهت

(1)

بالطاعة عن الشراب والطعام وألفت أبدانهم طول القيام بين يدي الملك العلام.

فتبعت الصوت.

فإذا شاب أمرد قد علا وجهه اصفرار يميل ميل الغصن إذا ميلته الريح.

عليه شملة قد اتزر بها، وأخرى قد اتشح بها فلما رآني توارى عني بالشجر.

فقلت له: أيُّها الغلام ليس الجفاء من أخلاق المؤمنين فكلمني وأوصني.

فخرَّ ساجدًا وجعل يقول: هذا مقام من لاذ بك، واستجار بمعرفتك، وألف محبتك.

يا إله القلوب وما تحويه من جلال عظمتك، احجبني عن القاطعين لي عنك.

ثم غاب عنِّي فلم أره.

(1)

وَلِهَ فلان - يَله ولها: اشتد حزنه حتى ذهب عقله، وتحير من شدة الوجد.

ص: 272

الخامسة: عنه أيضًا قال: بينما أنا أسير بين جبال الشام إذا بشيخ على قلعة من الأرض قد سقط حاجباه على عينيه كِبرًا.

فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام.

ثم جعل يقول: يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريبًا

(1)

، ويا من قصده الزاهدون فوجدوه حبيبًا ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه مجيبا.

ثم أنشأ يقول:

وله خصائص مصطفون بحبه

اختارهم في سالف الأزمان

اختارهم من قبل فطرة خلقه

فهم ودائع حكمة وأمان

السادسة: عن ذي النون أيضًا قال: وُصِف لي رجل من أهل المعرفة في جبل لكام فقصدته فلحقني جماعة من المتعبدين فسألتهم عنه فقالوا: تسأل عن المجانين.

قلت: وما رأيتم من جنونه؟

قالوا: نراه في أكثر أوقاته هنا قائمًا ساهيًا يكلم فلا يجيب، فلا نفقه ما يقول، وينوح في أكثر أوقاته على نفسه.

فقلت في نفسي: ما أحسن أوصاف هو المجنون ثم قلت لهم: دلوني عليه.

فقالوا: إنه يأوي في الوادي الفلاني. فانطلقت إليه، فأشرفت على واد وَعِر.

فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا، فإذا أنا بصوت محزون شُجَّ من قلب وجل وهو يقول:

ياذا الذي أنِسَ الفؤاد بذكره

أنت الذي ما أن سواه أريد

تفنى الليالي والزمان بأسره

وهواك غض في الفؤاد جديد

إني أرى غيري إليك مقربا

وأنا بسهم الهجر منك بعيد

قال: فاتبعت الصوت، فإذا أنا بفتى حسن الصورة، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رُسُومها، نحيل قد اصفر واحترق، وهو شبيه بالوَاله الحيران.

فسلمت عليه فرد السلام، وبقى شاخصًا يقول:

أعُمِيت عيني عن الدنيا وزينتها

فأنت والروح شيء ليس يفترق

إذا ذكرتك وافي مقلتي

(2)

أرق

من أول الليل حتى يطلع الفلق

ص: 273

وما تطابقت الأجفان عن سِنَةٍ

(1)

إلا رأيتك بين الجفن والحدق

ثم قال: يا ذا النون مالك تطلب المجانين؟

قلت: أو مجنون أنت؟

قال: سُمِّيت به.

قلت: لي مسألة.

قال: سَلْ.

قلت: أخبرني ما الذي حبَّب إليك الانفراد وقطعك عن المؤنسين، وهيَّمك في الأودية؟

قال: حبي له هيمني، وشوقي، إليه هيجني، ووجدي به أفردني.

ثم قال: ياليت شعري إلى متى تتركني (مغلغلا)

(2)

عن محبتى؟

فقلت له: أخبرني عن محل الحب عندك وأين مسكن الشوق منك؟

قال: مسكنه مني سواد الفؤاد.

قلت: فما الذي تجد في خُلوتك؟

قال: الحق سبحانه.

قلت: كيف تجده؟.

قال: بحيث لا حيث.

ثم قال: يا ذا النون أعجبك كلام المجانين؟

قلت: أي واللَّه وأشجاني.

ثم قلت له: ما صِدق وجدانك للحق تعالى.

فصرخ صرخه ارتج لها الجبل، ثم قال: يا ذا النون هذا موت الصادقين، ثم سقط على الأرض ميتًا فحرت في أمري ولا أدرى ما أصنع به.

وإذا هو قد غاب عني، فلم أر أين ذُهب به.

السابعة: عن الفضيل بن عياض قال: مكثت في جامع الكوفة ثلاثة أيام لم أطعم ولم أشرب فلما كان في الرابع، هذبني

(3)

الجوع.

فبينما أنا جالس إذ دخل من باب المسجد مجنون وبيده حجر كبير، وفى عنقه غُل

(4)

ثقيل.

(1)

السِنَة: هي الوسن والنعاس.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

هذَّب: نقى، ورباه وخلصه من الشوائب وتَهَذب: صار مُهَذبا.

(4)

الغُلُّ: طوق من حديد أو جلد يجعل في عنق الأسير أو المجرم أو في أيديهما.

ص: 274

والصبيان من ورائه.

فجعل يجول في المسجد حتى إذا حاذاني جعل يتفرس فيَّ، فجزعت على نفسي منه.

فقلت: إلهي وسيدي أجعتنى، وسلطت عليَّ من يقتلني.

فالتفت إليَّ فقال:

محل بيان الصبر فيك عزيزة

فياليت شعري هل لصبرك آخر

قال الفضيل: فزال عنى جزعي وطار عني هلعي.

وقلت: يا سيدي لولا الرجاء لم أصبر.

قال: فأين مستقر الرجاء منك؟

قلت: بحيث مستقر هموم العارفين.

فقال: أحسنت واللَّه يا فضيل، إنها لقلوب الهموم عمارتها، والأحزان أوطانها، عرفته فاستأنست به، وارتحلت إليه.

فعقولهم صحيحة، وقلوبهم غارقة، بالأنوار مشرقة وأرواحهم بالملكوت الأعلى مُعلقة.

ثم ولى وأنشأ يقول:

فهام ولي اللَّه في القفر سائحًا

وحطت على سيد القدوم رواحله

فعاد سجين قد جرى في ضميره

تذوب به أحشاؤه ومفاصله

قال الفضيل:

(1)

فواللَّه لقد بقيت عشرة أيام لم أطعم طعاما، ولم أشرب شرابا وجدا بكلامه.

فطوبى لمن استوحش من الخلق واستأنس بالحق.

آنست بوحدتي ولزمت بيتي

فطاب الأنس لي وصفا السرور

وأدبني الزمان فلا أبالي

هجرت فلا أزَار ولا أزور

ولست بسائل ما عشت يومًا

أسار الجندُ أم رَكِبَ الأمير

(1)

الفُضيل بن عياض بن مسعود الأستاذ الإمام شيخ الإسلام أبو علي التميمي اليربوعي المروزي الزاهد، قال ابن سعد: ولد الفُضَيل بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع من منصور، وغيره، ثم تَعبَّد ونزل مكة، وكان ثقة نبيلا فاضلًا، عابدًا، كثير الحديث.

قال ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفُضيل بن عياض، توفي سنة (187) انظر تاريخ الإسلام وفيات (181 - 190).

ص: 275

الثامنة: عن أبي يزيد البسطامي قال: طلقت الدنيا ثلاثًا لا رجعت لشيء فيها.

وسرت إلى ربي وحدي، فناديته بالاستغاثة:

إلهي أدعوك دعاء من لم يبق له غيرك.

فلما عرف صدق الدعاء من قلبي، واليأس من نفسي كان أول ما ورد عليَّ من إجابة هذا الدعاء أن أنساني نفسي بالكليَّة، وبعض الخلائق من يُرى مع إعراضي عنهم.

التاسعة: قال محمد بن أحمد: سمعت علي بن الموفق

(1)

ما لا أحصيه يقول: اللهم إن كنت تعلم أني عبدتك خوفا من نارك فعذبني بها،

(2)

وإن كنت تعلم أني عبدتك حبًا مني، وشوقًا لجنتك، وشوقا مني إليها فاحرمنيها.

وإن كنت تعلم أني إنما عبدتك حبًا مني لك، وشوقًا مني إلى وجهك الكريم فأبحنيه واصنع بي ما شئت.

العاشرة: قال بعض الصالحين: عُرضَت عليَّ الدنيا بزينتها وزخارفها وشهواتها، وأعرضت عنها ثم أعرضت علي الأخرى بجواريها وقصورها، وزينتها فأعرضت عنها.

فقيل لي: لو أقبلت على الأولى حجبناك عن الأخرى، ولو أقبلت على الأخرى حجبناك عنها (فها خن)

(3)

وقسمتك من الدارين تأتيك.

الحادية عشرة: عن بعض الصالحين قال: إن اللَّه تعالى لما أظهر الخلق في القدم

(4)

، أظهر لهم الصنائع، ثم خيرهم فيها.

فاختار كل إنسان صنعته.

فلما أبداهم إلى الوجود أجرى على لسان كل واحد ما اختار لنفسه.

وانفردت طائفة لم تخير شيئا.

(1)

علي بن الموفق الزاهد، أحد مشايخ الطرق له أحوال ومقامات، صحب منصور بن عمار، وأحمد بن أبي الحواري، توفي سنة (265). تاريخ الإسلام وفيات (261 - 270).

(2)

كيف ذلك وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من النار وعذابها: فروى البخاري في صحيحة (6376) كتاب الدعوات، 46 - باب الاستعاذة من فتنة الغنى أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يتعوذ اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر" الحديث.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية الأعراف (172).

ص: 276

فقال لها: اختاري.

فقالت ما أعجبنا شيء رأيناه فنختاره.

فأظهر لهم مقامات العبادة.

فقالت: قد اخترنا خدمتك يا مولانا.

فقال: وعزتي وجلالي لأشفعنكم غدًا فيمن عرفكم وخَدَمكُم.

وفيهم يقال:

تشاغل قوم بدنياهم

وقوم تخلوا لمولاهم

فالذمَهُم باب مرضاته

وعن سائر الخلق أغناهم

الثانية عشرة: عن أبي الحسن الشاذلي

(1)

قال: وقع لي تردد في بدايتي بين الانقطاع في البراري والرجوع إلى العمران، وصحبة العلماء والأخيار.

فوصف لي وليٌّ في رأس الجبل فقصدته، فوصلت إليه بعد ما أمسيت.

فقلت: ما أدخل عليه في هذا الليل إلى الصبح فبت على باب المغارة، فسمعته يقول من داخل المغارة: اللهم إن ناسا من عبادك سألوك أن تسخر لهم خلقك فسخرتهم لهم فرضوا عنك بذلك.

وإني أسألك أن تعرج على خلقك حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك.

فقلت: اسمعي يا نفس من أي بحر يغترف هذا الشيخ.

فلما أصبحت دخلت فسلمت عليه، ومُلئت منه رعبا، وقلت له: يا سيدى كيف حالك؟. أما أمر التدبير والاختيار فأنا أعرفه وأنا فيه الآن، فلم ترد الرضا والتسليم، ولم تشكو ذلك فقال: أخاف أن يشغلني حلاوتهما عنه.

فقلت يا سيدي: سمعتك تقول: اللهم إن أناسا من عبادك سألوك، وذكر ما سلف.

فتبسم وقال: يابني عوض ما تقول: سخر لي، قل كن لي، من كان له يحتاج إلى شيء آخر، فما هذه الجناية.

قلت لفظة: كان اللَّه لك، واللهم كُن لي.

كلمة جامعة لكل مرغوب ومرهوب فلتلازم.

الثالثة عشر: عن سري السقطي

(2)

قال: كنت يومًا أتكلم بجامع المدينة،

(1)

الشيخ أبو الحسن الشاذلي تأتى ترجمته قريبًا.

(2)

السري بن المغلس، أبو الحسن السقطي البغدادي الزاهد، علم الأولياء في زمانه، صحب =

ص: 277

فوقف علي شاب حسن الشباب، فاخر الثياب ومعه أصحابه.

فسمعني أقول في وعظي: عجبا لضعيف كيف يعصي قويا، فتغير لونه وانصرف.

فلما كان من الغد جلست في مجلس، وإذا به قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال: يا سري سمعتك بالأمس تقول: عجبا لضعيف كيف يعصي قويا، فما معناه.

فقلت: لا أقوى من اللَّه، ولا أضعف من العبد وهو يعصيه، فنهض فخرج.

ثم أقبل من الغد وعليه ثوبان أبيضان، وليس معه أحد فقال: يا سري كيف الطريق إلى اللَّه؟

فقلت له: إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل.

وإن أردت اللَّه، فاترك كل شيء سواه تصل إليه وليس إلا المساجد والخراب والمقابر.

فقام وهو يقول: واللَّه لا سلكت إلا أصعب الطريق، وولى خارجا.

فلما كان بعد أيام أتى إلى غلمان كثيرة فقالوا: ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب؟

فقلت: لا أعرف إلا رجلا جاءني من صفته كذا وكذا، ولا أعلم حاله.

فقالوا: باللَّه عليك متى عرفت حاله أخبرنا ودلنا على داره.

فبقيت سنه لا أعرف له خبرًا.

فبينما أنا ذات ليلة بعد العشاء الآخرة جالس في بيتي، وإذا بطارق يطرق الباب، فأذنت له بالدخول، فإذا أنا بالفتى عليه قطعة من كساء في وسطه، وأخرى على عاتقه، ومعه زنبيل فيه نوى.

فقبل بين عيني وقال: يا سري أعتقك اللَّه من النار كما أعتقتني من رق الدنيا.

فأومأت إلى صاحبي أن امض إلى أهله فأخبرهم فمضى فإذا زوجته جاءت ومعها ولده وغلمانه فدخلت، وألقت الولد في حجره، وعليه حُلي وحلل وقالت له.: يا سيدي أرملتني وأنت حي وأيتمت ولدك وأنت حي.

قال سري: فنظر إلي، وقال: يا سري: ما هذا وفاء، ثم أقبل عليها وقال: واللَّه إنَّك لثمرة فؤادي وحبيبة قلبي، وأن هذا ولدي لأعز الخلق عليَّ، غير أن هذا سري أخبرني أن من أراد اللَّه قطع كل ما سواه.

= معروفًا الكرخى وحدث عن الفضيل بن عياض وهشيم وأبي بكر بن عياش وغيرهم، وعنه الجنيد، وأبو الحسن النوري وأبو العباس بن مسروق وغيرهم، توفي سنة (253) تاريخ الإسلام وفيات (251 - 260).

ص: 278

ثم نزع ما على الصبي وقال ضعي هذا في الأكباد الجائعة والأجساد العارية وقطع قطعة من كسائه، فلف بها الصبي.

فقالت المرأة: لا أرى ولدى في هذه الحالة وانتزعته منه.

فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال: واللَّه ضيعتم ليلتي، بيني وبينكم اللَّه، وولى خارجًا وضجت الدار بالبكاء.

فقالت: إن عدت يا سرى سمعت له خبرًا فأعلمني.

فقلت: إن شاء اللَّه.

فلما كان بعد أيام أتتني عجوز فقالت: يا سري بالشونيزية غلام يسألك الحضور.

فمضيت فإذا به مطروح تحت رأسه لبنة.

فسلمت عليه ففتح عينيه وقال: يا سري أترى تلك الجنايات غفرت؟

فقلت: نعم.

قال: يغفر لمثلي

(1)

؟

قلت: نعم

قال: أنا غريق.

قلت: هو منجي الغرقاء.

فقال: على مظالم.

فقلت: في الخبر أنه يؤتى بالتائب يوم القيامة ومعه خصومه، فيقال لهم خلوا عنه فإن اللَّه تعالى يُعوضكم.

فقال: يا سري معي دراهم من لقط النوى، إذا أنا مت فاشتري ما أحتاج إليه وكفني، ولا تُعلم أهلي لئلا يكفنوني بحرام.

فجلست عنده قليلا، ففتح عينيه وقال:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}

(2)

.

ص: 279

ثم مات، فأخذت الدراهم فاشثريت ما يحتاج إليه وسرت نحوه.

فإذا الناس يهرعون.

فقلت: ما الخبر؟

فقيل: مات وليٌّ من أولياء اللَّه نريد أن نصلي عليه.

فجئت فغسلناه ودفناه.

فلما كان بعد مدة قدم أهله يسألون خبره، فأخبرتهم بموته.

فأقبلت امرأته باكية، فأخبرتها بحاله.

فسألتني أن أريها قبره.

فقلت: أخاف أن تُغيروا أكفانه.

فقالت: لا واللَّه.

فأريتها قبره، فبكت، وأمرت بإحضار شاهدين فأحضرا، فاعتقت جواريها، ووقفت عقارها وتصدقت بمالها، ولزمت قبره حتى ماتت.

بانوا

(1)

الذين تجنبوا الأشغالا

بذلوا النفوس وأنفقوا الأموالا

تركوا النساء كأنهن أرامل

قبل الممات وأيتموا الأطفالا

وتجرعوا

(2)

وتعطشوا وتضمروا

طلبوا السباق وخففوا الأثقالا

وتعذبوا وتغربوا عن أهلهم

حذر الفوات وفككوا الأغلالا

فطموا عن الدنيا نفوسا طال ما

كانت تتيه على النعيم دلالا

خافوا البيات فشمَّروا بعزيمة

طلب النجاة وكابدا الأهوالا

حتى إذا بليت فنى أجسادهم

ولقوا شجونا في السرى وكلالا

وردوا جنان مليكهم فحباهم

رتبا تفوق الفرقدين مثالا

الرابعة عشر: عن أحمد بن أبي الحواري قال:- سمعت أبا سليمان يقول: خطب رجل امرأة من أهل الموصل يقال لها: (المُوق)

(3)

.

فقالت للرسول قل له: ما يسرني أنك لي عبد وجميع ما تملكه لي، وإنك شغلتني عن اللَّه عز وجل طرفة عين.

(1)

بَان: منه وعنه بَينا: بعد وانفصل، ويقال بانت المرأة عن زوجها، ومنه: انفصلت بطلاق فهي بائن.

(2)

جَرع الماء بلعه، ويقال جرع الغيظ كظمه، وتجرع تابع جرعه كالمتكاره.

(3)

كذا بالأصل.

ص: 280

الخامسة عشر: قال الربيع: بتُّ أنا ومحمد بن المنكدر،

(1)

، وثابت البناني

(2)

عند ريحانة المجنونة فقامت أول الليل وهى تقول:-

قام المحب إلى المؤمل قومة

كاد الفؤاد من السرور يطير

فلما كان جوف الليل سمعتها وهى تقول:-

لا تأنس بمن توحشك نظرته

فتمنعت من التذكار في الظلم

واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن

يسقيك كأس وداد العز والكرم

فلما ذهب الليل نادت: واحزناه واسلباه.

فقلت: بماذا؟

فقالت:

ذهب الظلام بأنسه وبألفه

ليت الظلام بأنسه يتجدد

السادسة عشر: عن بعض الصالحين قال: كنت متوجهًا من منى إلى عرفات، فلقيتني جارية عليها مسح من شعر، وقناع من صوف، وبيدها سبحة وعكاز.

وعلى وجهها نور الطاعة والعبادة، وهى مهرولة في مشيتها تقول: اللَّه اللَّه.

فقلت في نفسي: هذه جارية مدَّعية.

فقالت: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}

(3)

.

فعلمت أنها ولية للَّه تعالى ققلت لها: يا جارية كُلِّي بكلَّكِ مشغول.

فقالت: يا مسكين وكُلِّي بكلك مبذول، ولكن ورائي من هو أصبى مني.

فالتفت فلم أر أحدًا، فقالت بعلو صوتها يا مادي يا كذاب، ما هكذا فعل الأحباب بالأحباب.

(1)

محمد بن المنكدر بن عبد اللَّه بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثه بن سعد بن تيم بن مرة، أبو عبد اللَّه، أبو بكر التيمي، المدني، القرشي ثقة، فاضل، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ترجمته: تهذيب التهذيب (9/ 473)، تقريب (2/ 210)،، تاريخ البخاري الكبير (1/ 219)، تاريخ البخاري الصغير (2/ 32)، الوافي بالوفيات (5/ 78)، سير الأعلام (5/ 353).

(2)

ثابت البناني هو ثابت بن أسلم، أبو محمد أحد التابعين بالبصرة، وكان رأسًا في العمل والعلم ثقةً ثبتًا رفيعًا، ولم يحسن ابن عدي بإيراده في كامله ولكنه اعتذر وقال: ما وقع في حديثه من النكرة فإنما هو من جهة الراوي عنه لأنه روى عنه جماعة ضعفاء وقال عنه أنس بن مالك: إن للخير أهلا، وإن ثابتا هذا من مفاتيح الخير، توفي سنة (127). تاريخ الإسلام وفيات (121 - 130).

(3)

سورة المائدة (99)، والنور (29).

ص: 281

أما الأولى: فإنك أسأت الظن بكلام رب الأرباب.

أما لو جئت إليه وعرفته صدقا لأوقفك على بابه لما رأيناك من بعيد حسبناك عابدا.

فلما رأيناك من قريب حسبناك عارفًا، فلما كلمتنا حسبناك عاشقا.

ولو كنت عابدا له لما اشتغلت بغيره.

ولو كنت عارفا به ما رجعت منه إلينا.

ولو كنت عاشقا لنا ما رجعت منا إلى سوانا.

ثم هربت عني مسرعة وهي تقول: ما مع اللَّه سوى اللَّه، حتى غابت عني

(1)

.

السابعة عشر: قال أبو سعيد الخراز نمت في البادية فكنت أقول:

أتيهُ فلا أدري من التيه من أنا

سوى ما يقول الناس في وفي جنسي

أتيهُ على جن البلاد وإنسها

فإن لم أجد شخصًا أتيه على نفسي

فسمعت هاتفا يهتف بي يقول:-

أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده

ويفرح بالتيه الدنيء وبالإنس

فلو كنت من أهل الوجود وحقيقته

لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي

وكنت بلا حال مع اللَّه واقفًا

تصان عن التذكار للجن والإنس

(1)

كذا ولم تذكر باقي كلامها.

ص: 282

‌مجلس في الفرج بعد الشدة

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}

(1)

.

وحديث ابن عمر في كشف الصخرة عن الثلاثة بصالح أعمالهم،

(2)

مشهور وهو ثابت في الصحيح كما مر.

وروينا عن علي بن حرب قال: خرجت أنا وبعض شباب الموصل إلى الشط، فركبنا في زورق.

فلما بعدنا من البلد وتوسطنا الشط إذا سمكة كبيرة طفرت

(3)

من الشط إلى وسط الزورق، فقام الشباب وتزلوا إلى حافة الشط ليجمعوا حطبا برسم السمكة، فنزلت معهم.

فبينما نحن نمشي على جانب الشط، وإذا بالقرب منا خرابة.

فذهبنا إليها نبصر آثارها، وإذا فيها شاب مكتوف وآخر مذبوح إلى جانبه، وبغل واقف عليه قماش فقلنا للشاب: ما قصتك؟ وما هذا المذبوح؟

فقال: إنني مكتر مع هذا المكاري، صاحب هذا البغل فعدل بي إلى هذا المكان وكتفنى كما ترون.

وقال: لابد من قتلك فعاهدته اللَّه لا يظلمني ولا يربح إثمي، ولا يعد مني روحي، بل يأخذ القماش، وهو في حِل منه.

وحلفت له باللَّه تعالى لا أغمز

(4)

عليه أبدًا.

ومازلت أناشده اللَّه تعالى، وهو ما يفعل.

(1)

سورة يوسف (110).

(2)

قال النووي: استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه، وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى اللَّه تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم. إلى أن قال النووي: وفيه إثبات كرامات الأولياء وهو مذهب أهل الحق. [النووي في شرح مسلم (17/ 47) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

طَفَرَ فلان طفرًا قفر، وطفَّر الفرس وغيره النهر ونحوه جعله يقفز من فوقه.

(4)

غمرت بفلان سعي به شرًا، وعلى فلان: طعن فيه، والمغموز: المتهم بعيب، وتغامز القوم أشار بعضهم إلى بعض بأعينهم أو بأيديهم.

ص: 283

فمدَّ يده إلى سكين كانت في وسطه فجذبها، فتعسرت عليه أن تخرج من غلافها.

فما زال يجذبها إلى أن خرجت بصعوبة، فما أخطأت حلقه، فذبحته.

فهو كما ترون، وأنا على حالتي هذه.

قال: فحللنا كتافه وأعطيناه البغل والقماش.

وراح، وعدنا إلى الذورق.

فلما صعدنا طفرت السمكة إلى الشط.

وهذا أعجب ما رأيت وسمعت.

فسبحان اللطيف الخبير.

ويحكى أن بعض الأخيار الأمناء استودعه بعض الملوك جوهرة نفيسة فوضعها ذلك الأمين في موضع في بيته.

فظفر بها ابن له صغير، فضربها بحجر فانكسرت أربع فلق.

فدخل على ذلك الرجل من الغم والخوف من الملك ما لا يطيق، وعزم على الهرب، فلقيه شخص فقال له أراك محزونًا.

فذكر له قصته وما أصابه من الضيق والخوف.

فعلمه هذه الأبيات الأربعة

(1)

.

فكم للَّه من لطف خفي

يدق خفاه عن فهم الذكي

وكم يسر أتى من بعد عُسر

وفرج كربة القلب الشجي

وكم أمر تساء به صباحا

وتأتيك المسرة بالعشى

إذا ضاقت بك الأحوال يوما

فثق بالواحد الفرد العلى

توسل بالنبي وصاحبيه

فما خاب من توسل بالنبي

(2)

وقال: قلها وكررها، والفرج يأتيك من اللَّه تعالى ففعل ما أمره به.

فبينما هو كذلك إذا برسول الملك قد جاء وقال: إن سرية الملك قد حدث بها وجع وقال الحكماء تكسر جوهرة أربع فلق وتطرح في ماء وتشربه.

والملك يقول لك: انظر لنا صائغًا عارفًا يكسر الجوهرة التي عندك أربع فلق لا

(1)

هم خمسة أبيات وليسوا أربعة كما ذكر.

(2)

التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف على أنه توسل بالدعاء وكما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وقوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تنسانا بالدعاء يا أخي" وذلك في استئذانه النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة.

ص: 284

تزيد ولا تنقص وأكد عليه في ذلك.

فقال: السمع والطاعة.

وانفرج عنه الكرب والغم، وذهب عنه الخوف والهم فحمد اللَّه وشكره على ما أولاه من النعم باللطف الخفي والكرم.

ثم حمل تلك الفلق الأربع إلى الملك.

فرأى الملك له صنيعًا في ذلك وإحسانًا، فأنعم عليه وأحسن إليه.

فعاد بالجائزة مسرورًا آمنًا ما كان محذورًا.

فسبحان اللطيف الرحمن الرحيم الذي يكشف الأحزان والثبور.

ويخلفها بالإحسان والسرور.

ما أقرب فرجه من المضطرين، ورحمته من المحسنين تبارك اللَّه رب العالمين.

وعن بعضهم قال: كنت بجبل النور بالمصيصة.

فدخل في رجلي عظم.

فاجتهدت في نفسي كل الجهد أن أخرجه، فلم أقدر على ذلك، وبقي في رجلي أيامًا كثيرة حتى ورمت وانتفخت واسودت، وصارت مثل الزِّقُّ

(1)

.

فبقيت ملقى تحت شجرة، فغلبتني عيني.

فنمت فوجدت راحة، ففتحت عيني، فإذا بحية سوداء، قد وضعت فمها على الموضع الذي فيه العظم.

وجعلت تمُصُّه وترمي القيح والدم.

فغمضت عينى فلم تزل تمُص وترمي الدم حتى وصلت إلى العظم، فحركته وأخرجته.

ثم أحسست بشيء لين مسح على رجلي، فلا أدري ذلك لسانها أو ذَنَبُها.

فجلست، فإذا أنا بالدم و العظم مطروح، وأنا لا أدري أي الرجلين كانت تؤلمني.

والحمد للَّه على ذلك كثيرًا، فسبحان اللطيف الخبير الذي هو على كل شيء قدير.

وقال الشيخ أبو حمزة الخراساني رحمه اللَّه تعالى: حججت سنة من السنين.

فبينما أنا أمشي إذا وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن أستغيث.

(1)

الزِّرقُّ: وعاء من جلد يُجزُّ شعره، يتخذ للماء والشراب وغيره.

ص: 285

فقلت: لا واللَّه لا أستغيث، فما استتم هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان، فقال أحدهما للآخر: تعالى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيها أحد.

فأتوا بقصب وباريه

(1)

، وطمسوا رأس البئر.

فهممت أن أصيح، ثم قلت في نفسي: إلى من هو أقرب منهما، فسكت.

فبينما أن بعد ساعة إذا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رجله وكأنه يقول تعلق في همهمة منه فتعلقت به، فأخرجني.

فإذا هو سبع عظيم، فمرَّ.

وهتف بي هاتف: يا أبا حمزة هذا أحسن، نجيناك من التلف بالتلف.

فمشيت وأنا أقول:

نهانى حيائي منك أن أكشف الهوى

وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف

تلطفت في أمري فأبديت شاهدي

إلى غايبى واللطف يدرك باللطف

تراءت لي بالغيب حتى كأنما

تبشرني بالغيب إنك بالكف

أراك وبي من هيبتي لك وحشة

فتؤنسني باللطف منك وباللطف

وتحيي محبًا أنت في الحب حتفه

وذا عجب كون الحياة مع الحتف

وقد أنكر بعض السلف رحمهم الله في هذه الحكاية ما فعله الشيخ أبو حمزة المذكور وقال: لا يجوز هذا الفعل.

وليس إنكاره بصحيح، لأن أبا حمزه المذكور صدر منه هذا، وقد منح يقينا كاملا وقلبًا شاهدا، وحالا غائبا.

فعليه حاجزان (. . .)

(2)

إلى غير مولاه، أو يرى معه سواه كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه اللَّه تعالى: إنا لا نرى مع الحق من الخلق أحدًا، إن كان ولا بد فكالهباء في الهواء، يشتبه فلم نجده شيئًا.

وكيف ينكر مثل هذا الحكاية على من صار فانيا عما سوى الحق صاحب قلب مشاهد، لا يرى في الملك والملكوت إلا من هو أقرب إليه من نفسه، كاشف الضر الإله الواحد.

والعجب كل العجب أن هذا الذي أنكر له شاهد في الشرع الشريف.

وذلك ما جاء أن إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام لما ألقي

(1)

البَرَى: التُراب.

(2)

بياض بالأصل.

ص: 286

في النار

(1)

عَرَض له جبريل صلى الله عليه وسلم في الهواء بأمر اللَّه تعالى فقال له: ألك حاجة؟

فقال: أما إليك فلا.

فقال: سل ربك.

فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، وقال:"حسبي اللَّه ونعم الوكيل"

(2)

.

فهل كان هذا من سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا كمال يقين، ومقام رفيع مكين صلى اللَّه على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

وعن بعض أهل العلم قال: كنت أقرأ عند أبي بكر بن مجاهد المقرئ رحمه اللَّه تعالى، فدخل عليه شيخ عليه ثياب رثة.

فسأله أبو بكر عن حال أولاده.

فقال: يا أبا بكر جاءتني البارحة ابنة ثالثة.

وطلب منى أهلي دانقا يشترون به سمنا وعسلا يحنكونها به، فلم أقدر عليه.

فبت مهموما مغمومًا محزونًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

(3)

.

فقال: "يا فلان لا تغتم ولا تحزن، إذا كان غدا أُدخل على علي بن عيسى وزير الخليفة، فأقرأ عليه مني السلام وقل له بعلامة إنك صليت عليَّ عند قبري أربعة آلاف مرة، يدفع لك مائة دينار عينًا.

قال الداوودي: فقال أبو بكر: يا أبا عبد اللَّه في هذا فائدة، وقطع على القراءة، وأخذ بيد الشيخ ودخل على الوزير.

فرأى الوزير مع ابن مجاهد شيخا لم يعرفه.

(1)

وذلك في قوله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 68 - 70].

وقال سعيد بن جبير: ويروى عن ابن عباس قال: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول متى أومر بالمطر فأرسله قال: فكان أمر اللَّه أسرع من أمره قال تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} تفسير ابن كثير (3/ 189).

(2)

روى البخاري في صحيحه (4563) كتاب تفسير القرآن من سورة آل عمران، 13 - باب "إن الناس قد جمعوا لكم" الآية عن ابن عباس:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حيث قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

(3)

روى البخاري في صحيحه (6993) كتاب التعبير، 10 - باب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي" ورقم (6996) عن أبي قتادة مرفوعًا: "من رآني فقد رأى الحق" ورقم (6997) عن أبي سعيد مرفوعًا: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتكوَّنني".

ص: 287

فقال له: من أين هذا يا أبا بكر؟

فقال: يُدنيه الوزير منه ويسمع كلامه.

قال: فناداه وقال: ما خطبك أيها الشيخ؟

فقال: إن أبا بكر يعلم أن لي ابنتين وجاءتني البارحة ابنة ثالثة، فطلب منى أهلى دانقًا يشترون به سمنا وعسلا يحنكونها به، فلم أقدر عليه، فبت مهموما مغمومًا.

فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول لي كذا وكذا، وذكر ما تقدم.

قال: فاغرورقت عينا علي بن عيسى بالدموع وقال: صدق اللَّه ورسوله، وصدقت أنت يا رجل، هذا شيء ما كان علم به إلا اللَّه ورسوله يا غلام هات الكيس.

فأحضره بين يديه، فأخرج منه ثلاثمائة دينار.

وقال: هذه المائة التي قال لك عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهذه مائة أخرى هدية، فخرج الرجل ومعه ثلاثمائة دينار، وقد زال عنه همه وغمه وحزنه.

وعن بعضهم قال: سافرت إلى العراق على قصد السياحة ورؤية المشايخ.

فرأيت مدينة، فمشيت نحوها، وقصدت مكانًا آوي إليه، فآويت إلى خربة طرف المدينة فيها أثمار دائرة.

فجلست قليلا، ثم نامت عيناى، فهتف بى هاتف في المنام.

وقال لي: قم إلى جانبك في الحائط خبيئة، فخذها فليس لها وارث، وهي ملكك.

فاستيقظت ونظرت إلى جانبي عصا، فحفرت بها في المكان قليلا، فوجدت خرقة ففتحتها، فوجدت فيها خمسمائة دينار فصررتها في طرف ثوبي.

وخرجت من ذلك المكان، ففكرت فيما أفعل فيها.

فقلت: أُنفق منها على الفقراء.

ثم قلت: اشترى بها حوانيت وأوقفها على الفقراء وخطر لي غير ذلك.

فنمت تلك الليلة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسلم علي وقال: يا فقير، إرادة وطلب زيادة من الدنيا، لا يكونان معًا.

ثم جمع السبابة والوسطى، ثم قال لي: امض بما معك إلى الشيخ أبي العباس من أهل الجزيرة الخضراء إلى بغداد في مسجد كذا وكذا وسلمها إليه.

ص: 288

قال: فانتبهت من منامي ووجدت وضوءا ثم صليت وخرجت من ساعتي إلى بغداد.

فوصلت إلى الشيخ في المكان الذي هو فيه فاجتمعت به وكتمتها وأخبرته بالقصة.

فقال: منذ كم قيل لك هذا؟

قال: منذ سبع ليال، وقال لي: إذا وصل إليك فقير ومعه رسالة فاقبلها منه وتصرف فيها.

ثم قال: يا بني إن لنا سبعة أيام لم يكن عندنا ما نقتات به، ولإنسان علينا دين قد ألح في طلبه، وقد سد اللَّه هذه الفاقة على يديك ثم قال لي: سألتك باللَّه أن تقيم عندنا، وإحدى بناتي هدية إليك.

فقلت يا شيخ وكيف لي بذلك، ولكني مشغول بما شغلني اللَّه به، وقد أخبرتك بما أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: الضيافة ثلاثة أيام

(1)

.

فقلت: نعم.

فأقمت عنده ثلاثة أيام لا يفارقني إلا في وقت يتصرف فيه، ثم ودعته وانصرفت رحمهما اللَّه تعالى.

وعن بعض الصالحين رحمه الله قال: بينما أنا أطوف بالكعبة إذا أنا بجارية على عنقها طفل، وهى تنادي: يا كريم عهدك القديم.

قال: فقلت لها: ما هذا العهد الذي بينك وبينه.

قالت: ركبت سفينة ومعنا قوم من التجار، فعصفت بنا ريح، فغرقت السفينة وجميع من فيها، ولم ينج منهم أحد غيري، وهذا الطفل في حجري على لوح ورجل أسود على لوح آخر.

فلما أضاء النهار، ونظر الأسود إلي وجعل يدفع الماء بيده حتى لصق بي

(1)

روى مسلم في صحيحه [15 - (48)] كتاب اللقطة 3 - باب الضيافة ونحوها، عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه" قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف يؤثمه؟ قال:"يقيم عنده ولا شيء له يقريه به". قال العلماء: معناه الاهتمام به في اليوم والليلة وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر ولا يزيد على عادته، وأما ما كان بعد الثلاثة فهو صدقه ومعروف إن شاء فعل، وإن شاء ترك. [النووي في شرح مسلم (12/ 28) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 289

فاستوى معا على اللوح وجعل يراودني عن نفسي.

فقلت له: يا عبد اللَّه أما تخاف اللَّه تعالى نحن في بلية نرجوا الخلاص منها بطاعته فكيف بمعصيته.

فقال: دعي هذا فواللَّه لا بُد لي من هذا الأمر.

قالت: وكان هذا الطفل نائما في حجري فقرصته قرصة فاستيقظ وبكى، فقلت له: يا عبد اللَّه دعني أُنوِّم هذا الطفل ويكون من أمرنا ما قدر اللَّه علينا فمد الأسود يده إلى الطفل ورمى به في البحر فرمقت بطرفي السماء وقلت: يا من يحول بين المرء وقلبه حل بيني وبين هذا الأسود بحولك وقوتك إنك على كل شيء قدير.

فواللَّه ما استوعبت الكلام حتى ظهرت دابة من دواب البحر، ففتحت فاها، والتقمت الأسود وخاضت به في البحر وعصمني اللَّه منه بحوله وقوته، وهو القادر على ما يشاء سبحانه وتعالى.

قالت: ومازالت الأمواج تدفعنى من كل جانب حتى رمتنى إلى جزيرة من جزائر البحر.

فقلت في نفسي آكل من بقلها وأشرب من مائها حتى يأتي اللَّه بأمره، ولا فرج لي إلا منه.

فمكثت أربعة أيام.

فلما كان في اليوم الخامس لاحت لي سفينة على بعد، فعلوت على كل شيء وأشرت إليهم بثوب كان عليّ، فخرج ثلاثة منهم في زورق.

فركبت معهم.

فلما دخلت السفينة الكبرى إذا بهذا الطفل الذي رمى به الأسود في البحر عند رجل منهم.

فلم أتمالك أن تراميت عليه.

فقال لي أهل السفينة: مجنونة أنت أم خَبَل عقلك.

فقلت: واللَّه ما أنا مجنونة ولا خَبَل عقلي، ولكن جرى كيت وكيت، وذكرت لهم القصة إلى آخرها، فلما سمعوا ذلك مني أطرقوا رؤوسهم وقالوا: يا جارية قد أخبرتينا بأمر تعجبنا منه، ونحن أيضًا نخبرك بأمر تتعجبي منه.

بينما نحن نجري بريح طيبة إذا بدابة قد اعترضتنا ووقفت أمامنا، وهذا الطفل على ظهرها، وإذا مناد ينادي إن لم تأخذوا هذا الطفل من ظهرها وإلا هلكتم، فصعد خدمنا على ظهرها وأخذوا الطفل.

ص: 290

فلما دخل به في السفينة غاصت الدابة في البحر.

وقد تعجبنا من هذا الأمر ومما أخبرتينا به.

وقد عاهدنا اللَّه تعالى أن لا يرانا على معصية بعد هذا اليوم.

قالت: فتابوا عن آخرهم.

فسبحان اللطيف جميل العوائد، سبحان مدرك الملهوف

(1)

عند الشدائد.

وفي هذا المعنى قيل:

يا مدركًا بسريع اللطف والفرج

عنها الشدائد للملهوف ذي الحرج

كلمحة الطرف بل أدنى تُغيث به

ولو في قعر بحر وجوف الحوت في اللجج

(2)

عوائد منك يا رحمن جارية

عن جميل ندا معروفك النهج

عودتنا وكم عودت من نعم

وكم بعونك بعد البؤس منتهج

فالخير منك تراه غير منقطع

والشر لسنا نراه غير منفرج

لك المحامد يا محمود أجمعها

هديتنا دين حق غير ذي عوج

(3)

بأحمد المصطفى صلى الإله على

بدر الدُّجى

(4)

مع نجوم بعده سرج

ولبعضهم في معنى هذه الحكاية:

فإذا ابتليت بشدَّة فاصبر لها

صبر الكريم فما يدوم مقامها

فلرُبَّ يوم نازلتك خطوبة

(5)

ثم انجلى قبل الظلام ظلامها

فاللَّه يبكي كي يثيب فلا تضق

ذرعًا بنازلة جرت أحكامها

ولئن جزعت فليس ذاك بنافع

إن الأمور قضى بها علَّامها

ولبعضهم:

إن خانك الدهر واشتدت نوائبه

(6)

فإن للَّه أنواعًا من الفرج

(1)

لُهف لهفًا: أصابه كرب، فهو ملهوف، واللهفان: المكروب.

(2)

اللُّجُ: معظم الماء حيث لا يدرك قعره، ولجُّ البحر: عرضه، ولُجُّ الليل: شدة ظلمته واللُّجة: معظم البحر وتردد أمواجه، واللُّجي: البحر اللُّجي: المُتلاطم الأمواج. وفي القرآن: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40].

(3)

قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان.

(4)

الدُّجى: سواد الليل وظلمته، يقال: ليلة دُجِّى، وليال دُجِّى، الدَّياجي: الظلمات.

(5)

الخَطْب: الحال والشأن والأمر الشديد يكثر فيه التخاطب، جمعها: خُطُوب.

(6)

النائبة: ما ينزل بالرجل من الكوارث والحوادث المؤلمة، جمعها: نوائب.

ص: 291

فشق بربك أن تأتيك نائبة

فإنه ينقذ الغرقاء مع السابح

ولبعضهم:

فلا تجزع لريب الدهر واصبر

فإن الصبر في العقبى

(1)

سليم

فما جزع بمغن عنك شيئًا

ولا ما فات ترجعه الهموم

إذا ضاق الخناق فكن صبورا

كريمًا فالشدائد لا تدوم

فبالصبر الجميل تنال أجرًا

وتفضي بعد ذاك لمّا تروم

(2)

فكم من محنة عظُمت ودامت

وفات

(3)

مواصل وجنا حميم

أتى فرج الإله لها صباحًا

فما أمست وأقلعت الغموم

فسلم والذي أبلى يعافي

وثق باللَّه فهو بنا عليم رحيم

‌فصل في فضل البكاء من خشية اللَّه تعالى

قال تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)}

(4)

.

أي لأنه أولًا يشتمل على التهديد والإنذار المفتت للأكباد، وخوف النار، ورهبة من الجبار.

وثانيًا مشتمل على الجلال والجمال والكمال والنوال والملك والحكمة والعدل والتدبير، والفردانية والوحدانية، وغير ذلك من الصفات الأحدية مما توجب الحسنة والخشوع والشوق إليه وإلى دار كرامته دار الحبور، وإلى رضوانه الذي إذا حل زال الكدر، وحصل الصفا، وزال الضجر.

(1)

العاقبة: الجزاء بالخير، وآخر كل شيء أو خاتمته، ومصير كل شيء، ومنها عواقب الأمور.

(2)

رامه روما: طلبه، والمرام: المطلب.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

سورة الإسراء (109).

{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} جمع ذقن وهى أسفل الوجه، سجدًا: أي له عز وجل على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلا إن ادركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109] أي خضوعًا للَّه عز وجل وإبمانا وتصديقًا لكتابه ورسوله {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] أي إيمانًا وتسليمًا كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} وقوله {وَيَخِرُّونَ} عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود. تفسير ابن كثير (3/ 70).

ص: 292

وثالثًا: مُشعر بالقرب، أو وصول الأثر، يؤذن بالوصول والظفر.

ولذلك استشرق الكليم لما كلَّم ربه، وذاق لذة التكليم، فلم يُقر قراره حتى قال:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}

(1)

.

ها أنا قد مددت يدي إليك والكلام مذكر بالمتكلم وبه يتجلى المحاسن فيخرون إذ ذاك للأذقان يبكون من الخشية والاشتياق إليه، ويتضرعون.

وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)}

(2)

.

فالغافل عن البكاء مذموم سماعه واستمرار سموده هو غاية لمرامه.

فاللهو المنافي للخشوع عن الشوق والمهابة والخضوع مناف للإقبال على المطلوب مؤذن بعدم الإقبال على المحبوب، فليس سواء عالم وجهول.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن مسعود

(3)

قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول اللَّه، أقرأ عليك وعليك أنزل؟.

قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري" فقرأت النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)}

(4)

، قال:"حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تهملان بالدموع"

(5)

.

فيه القراءة على أكبر أكابر الأولياء، وذرف المدامع.

وروينا فيهما أيضًا من حديث أنس قال: خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت

(1)

سورة الأعراف (143).

(2)

سورة النجم (59، 60).

قال تعالى منكرًا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم (تعجبون) من أن يكون صحيحا و (تضحكون) منه استهزاء وسخرية "ولا تبكون" أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 109] تفسير ابن كثير (4/ 260).

(3)

في حديث ابن مسعود هذا فوائد منها: استحباب استماع القراءة والإصغاء لها والبكاء عندها وتدبرها واستحباب طلب القراءة من غيره ليستمع له وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، وفيه تواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم. [النووي في شرح مسلم (6/ 77) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

سورة النساء (41).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (4582) كتاب التفسير، من سورة النساء 9 - باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} ، ورقم (5049) كتاب فضائل القرآن، 32 - باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره، ورقم (5050) 33 - باب قول المقرئ للقارئ حسبك، ورقم (5055) 35 - باب البكاء عند قراءة القرآن. =

ص: 293

مثلها قطُّ، قال:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا". قال: فغطى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين"

(1)

.

أي وهو بالخاء المعجمة:

(2)

وهو البكاء مع غُنَّة وانتشاق الصوت من الأنف.

وهو دال على أنه لا يقدر قدره من (. . . .)

(3)

.

قال اللَّه تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)}

(4)

.

وروينا في جامع الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يلج النار رجل بكى من خشية اللَّه حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل اللَّه ودخان جهنم"

(5)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "سبعة يظلهم اللَّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلَّا ظله، إمام عادل. . . . "

(6)

.

= ومسلم في صحيحه [247 - (800)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 40 - باب فضل استماع القران، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر. والترمذي في سننه (3025)، وابن ماجه (4194)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 231)، وأحمد في مسنده (1/ 380، 433).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4621) كتاب تفسير القرآن، من سورة المائدة، 12 - باب قوله:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ومسلم في صحيحه [134 - (2359)] كتاب الفضائل، 37 - باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يتعلق به تكليف، وما لا يقع، ونحو ذلك. والترمذى في سننه (2312، 2313)، وابن ماجه في سننه (4190، 4191)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 264)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 46).

(2)

خنين بالخاء المعجمة، هو في معظم النسخ، ولمعظم الرواة ولبعضهم بالحاء، وممن ذكر الوجهين القاضي وصاحب التحرير وآخرون، قالوا: ومعناه بالمعجمة صوت البكاء وهو نوع من البكاء دون الانتحاب قالوا: وأقل الخنين خروج الصوت من الأنف كالحنين بالمهملة من الفم، وقال الخليل: هو صوت فيه غنة، وقال الأصمعى إذا تردد بكاؤه فصار في كونه غنة فهو خنين وقال أبو زيد الخنين مثل الحنين وهو شديد البكاء. [النووي في شرح مسلم (15/ 92) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

بياض بالأصل.

(4)

سورة الزمر (47).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (1633) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل اللَّه والنسائي (6/ 12) والمجتبى في الجهاد، باب ثواب من رمي بسهم في سبيل اللَّه عز وجل. وأحمد في مسنده (2/ 505)، والحاكم في مستدركه (4/ 260)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 271، 4/ 229)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 214)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3828).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (660) كتاب الأذان، 36 - باب اثنان فما فوقهما جماعة، ورقم =

ص: 294

وذكر منهم: "ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه"

(1)

.

فمن فائدة البكاء من ذكر اللَّه لخوف أو خشية أو شوق أو غيره.

أن اللَّه يُظل صاحبه في ظلّه المنيع الحريز.

وروينا في أبي داود، وشمائل الترمذي بإسناد صحيح من حديث عبد اللَّه بن الشخير قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز الرَّحى من البكاء"

(2)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لأُبي بن كعب "إن اللَّه عز وجل أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1].

قال: وسمّاني؟

قال: "نعم". فبكى

(3)

.

قلت: وهذا البكاء سببه الهيمان أي عدم التمالك لعدم الفضل، واللطف مع غاية البعد عن استحقاق مثله عن توهم التأهيل له كما يدل عليه قوله: وسمَّاني.

وروينا في صحيح مسلم من حديثه أيضًا قال أبو بكر لعمر بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يزورها

(4)

فلما انتهينا

= (1423) كتاب الزكاة، 18 - باب الصدقة باليمين، 78 - كتاب المحاربين ورقم (6806)، باب فضل من ترك الفواحش ومسلم في صحيحه [91 - (1031)] كتاب الزكاة، 30 - باب فضل إخفاء الصدقة.

والترمذى في سننه (2391) كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه. والنسائي (8/ 222)، وأحمد بن حنبل (2/ 439) والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 217).

(1)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "ورجل ذكر اللَّه تعالى خاليا ففاضت عيناه": منه فضيلة البكاء من خشية اللَّه تعالى وفضل طاعة السر لكمال الإخلاص فيها. [النووي في شرح مسلم (7/ 109) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (904) كتاب الصلاة، باب البكاء في الصلاة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3809) وكتاب مناقب الأنصار، 16 - باب مناقب أبي بن كعب رضي الله عنهما. ورقم (4959)، (4960)، (4961) كتاب تفسير القران، ومن سورة "لم يكن" ومسلم في صحيحه [21 - (2465)]، (122)، وكتاب فضائل الصحابة، 23 - باب من فضائل أبي بن كعب وجماعة من الأنصار وأحمد في مسنده (3/ 130)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 317)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2196).

(4)

قوله: "قال أبو بكر بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يزورها" فيه زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه وزيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها واستصحاب العالم والكبير صاحبا له في الزيارة والعيادة ونحوهما والبكاء حزنا على فراق الصالحين والأصحاب =

ص: 295

إليها بكت.

فقلنا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند اللَّه خير لرسوله.

قالت: لكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء.

فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها

(1)

.

ففيه الخوف على الحبيب والاستيحاش من غيبته، وانقطاع أثاره.

وروينا في الصحيحين

(2)

من حديث ابن عمر قال: لما اشتد برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له في الصلاة.

فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس".

فقالت عائشة: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غَلَبه البكاء.

فقال: "مروه فليصل"

(3)

.

وفي رواية لهما عن عائشة قالت: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء.

وفيه رقة القلب، وشهود منازل الأحباب فقرَّ منهم.

كفى حزنا بالواله الصَّب أن يرى

منازل من يهوى معطلة فقر

يعز علينا أن نرى ربعكم بلى

وكانت به أيام حُسنكم تترا

= وإن كانوا قد انتقلوا إلى أففل مما كانوا عليه واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (16/ 8) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [103 - (5454)] كتاب فضائل الصحابة، 18 - باب من فضائل أم أيمن والتبريزي في مشكاة المصابيح (5967).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (664) كتاب الأذان، 39 - باب حد المريض أن يشهد الجماعة، ورقم (678) كتاب الأذان 46 - باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة وكذلك رقم (679، 682) في نفس الباب ومسلم في صحيحه [94 - (418)]، (95)، [101 - (420)] كتاب الصلاة، 21 - باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس، وأن من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام لزمه القيام إذا قدر عليه. والنسائي (2/ 99 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (1232، 1234)، وأحمد في مسنده (4/ 412، 413)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 250).

(3)

فيه فوائد منها: فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين وتفضيله وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم. [النووي في شرح مسلم (4/ 116) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 296

وروينا في صحيح البخاري من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف

(1)

أن والده أتى بطعام، وكان صائمًا.

فقال: قُتِلَ مصعب بن عمير، وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكفن به إلَّا بُردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه وأراه قال: قُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام

(2)

.

ففيه (عشر)

(3)

مخالفة الأحباب خوف مواقعة الأعداء فيوقع في العذاب.

وروينا في جامع الترمذي

(4)

وقال: حسن من حديث أبي أمامة مرفوعًا: ليس شيء أحب إلى اللَّه من قطرتين أو أثرين: قطرة من دموع في خشية اللَّه، وقطرة دم تهراق في سبيل اللَّه.

وأما الأثران: فأثر في سبيل اللَّه، وأثر فريضة من فرائض اللَّه.

وفيه بيان مرتبته، وأن الغاية إذا قرنت بإراقة الدم له، وعُبِّرَ عنها بما سلف.

وقد سلف في باب (. . .)

(5)

حديث العرباض

(6)

: وعظنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم موعظة

(1)

إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أبو إسحاق، أبو محمد، أبو عبد اللَّه، الزهري العوضي، المدني، قيل له رؤية، وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة، مات سنه (95، 96). أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 139)، تقريب التهذيب (1/ 38)، تاريخ البخاري الكبير (1/ 295) تاريخ البخاري الصغير (1/ 205)، الجرح والتعديل (2/ 328)، الوافي بالوفيات (6/ 42)، سير الأعلام (4/ 292)، أسد الغابة (1/ 42).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4045) كتاب المغازي، 17 - باب غزوة أحد. وفي دفنه رضي الله عنه من حديث خباب رواه البخاري في صحيحه (4082) كتاب المغازي، 28 - باب من قتل من المسلمين يوم أحد منهم حمزة بن عبد المطلب واليمان وأنس بن النضر ومصعب بن عمير وفيه:"كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجليه خرج رأسه فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر أو قال ألقوا على رجليه من الإذخر".

(3)

كذا بالأصل.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (1669) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط. والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 295) والتبريزي في مشكاة المصابيح (3837)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 285). والسيوطي في الدر المنثور (1/ 248).

(5)

بياض بالأصل.

(6)

العرباض بن سارية، أبو نجيح، أبو الحارث السلمي الفزاري، القرشي، صحابي من أهل الصفة، توفي بعد سنة (70)، أخرج له أصحاب السنن الأربعة. ترجمته: تهذيب التهذيب (7/ =

ص: 297

ذرفت منها العيون.

ومدار هذه الأحاديث على بيان هذا، ومحله وصفته وخاصته، وفائدته ومواطنه الفاضلة.

وما ليس بمانع له وأسبابه ومهيجاته ومرتبته عند اللَّه وإثارته بالمواعظ البليغة.

وأشباه ذلك فتأمله.

= 174)، تقريب التهذيب (2/ 17)، الكاشف (2/ 260) تاريخ البخاري الكبير (7/ 85)، الجرح والتعديل (7/ 39)، الثقات (3/ 321)، أسد الغابة (4/ 19)، الإصابة (4/ 482)، سير الأعلام (3/ 419).

ص: 298

‌مجلس في الجهاد

قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}

(1)

.

وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}

(2)

الآية.

وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(3)

.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}

(4)

الآية.

فأبان فيها الجزاء المهم بأن لهم الجنة بقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} .

وبقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}

(5)

.

ثم غبطهم بباقي السورة، وياله بسرور في بيع مبرور.

وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}

(6)

.

(1)

سورة التوبة (36). أي جميعهم {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج والتحريض أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البراءة منهم. تفسير ابن كثير (2/ 363).

(2)

سورة البقرة (216).

(3)

سورة التوبة (41).

(4)

سورة التوبة (111). يخبر تعالى أنه عاوض من عبادة المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين، لهذا قال الحسن البصري وقتادة بايعهم اللَّه فأغلى ثمنهم "وعدا عليه حقا" تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى (تفسير ابن كثير 2/ 399).

(5)

سورة التوبة (111).

(6)

سورة النساء (95)

روى البخاري في صحيحه (4592) كتاب تفسير القرآن، من سورة النساء، 18 باب (لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللَّه)، عن زيد بن ثابت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أملى عليه:"لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللَّه" فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلها عليَّ قال: يا رسول اللَّه واللَّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت على حتى خفت أن تُرض فخذي ثم سُري عنه فأنزل اللَّه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} .

ص: 299

فأبان فيها عن فضل المجاهدون بكل معنى ولطف زائد، بذلوا أموالهم وأنفسهم لإعلاء الإسلام فحصل لهم محبة الملك العلام.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}

(1)

الآية.

والآيات فيه كثيرة مشهورة.

ولنذكر نبذة من الأحاديث مشتملة على بيان مرتبة الجهاد وأهله ورتبة الاستعداد له وأوانه وزمانه والمهم منه وأثاره وفضله، وأفضليته على العبادات ودرجات أهله في الجنة وبيان حال من رغب فيه وحرص عليه أو سعى إليه أو مسَّه غبار منه أو ساعد فيه، وبيان أجره وإجمالًا وتفصيلًا من دفع ونفع، وكرامة ورفعة ومباهاة وابتهاج، وأناله اللَّه ذلك كله لصادق في طلبه، وإن لم يستشهد.

وبيان أقوال تناسبه، والترغيب فيما لا يتم إلَّا بها وذم من تركه إلا لعذر أو فعله غير مخلص ونقص أجر السالم الغانم.

وبيان أنه سياحة المسلم، وترك التاسي بتلقينه وبيان أنواعه وأولى الأوقات به وبيان أعون شيء عليه.

والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصر ونذكر منها ثمانية وستين حديثًا:

أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟

(2)

قال: "إيمان باللَّه ورسوله".

قيل: ثم ماذا؟

(1)

سورة الصف (10، 11).

فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف: 11] أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها. ثم قال تعالى {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات. تفسير ابن كثير (4/ 361).

(2)

معاني الأحاديث وفقهها فقد يستشكل الجمع بينها مع ما جاء في معناها من حيث أنه جعل في حديث أبي هريرة أن الأفضل الإيمان باللَّه، ثم الجهاد، ثم الحج، وفي حديث أبي ذر: الإيمان والجهاد، وفي حديث ابن مسعود: الصلاة، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد، وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو: أي الإسلام خير، قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفي حديث أبي مرسى وعبد اللَّه بن عمرو: أي المسلمين خير، قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. [النووي في شرح مسلم (2/ 66) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 300

قال: "الجهاد في سبيل اللَّه".

قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"

(1)

. أخرجاه.

فتلاه بالإيمان وأخَّر الحج المبرور عنه لما فيه من إعلاء كلمة اللَّه وإذلال غير اللَّه.

ثانيهما: حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال:

قلت: يا رسول اللَّه أي العمل أحب إلى اللَّه؟

قال: "الصلاة على وقتها".

قال: ثم أي؟

قال: "بر الوالدين"

(2)

.

قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه" أخرجاه

(3)

.

فتلاه بهما لأنه مقصود، وهما وسيلة.

فالصلاة تعظيم لأمر اللَّه، والبّر شفقة على خلق اللَّه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (26) كتاب الإيمان، 18 - باب من قال إن الإيمان هو العمل ورقم (1519) كتاب الحج، 4 - باب فضل الحج المبرور ومسلم في صحيحه [135 - (83)] كتاب الإيمان 36 - باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، والنسائي (6/ 19) المجتبى والترمذي (1658)، وأحمد في مسنده (2/ 264، 287)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 157) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 162، 283) وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 271)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 237)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 278)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2506)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 301).

(2)

أما بر الوالدين فهو الإحسان إليهما وفعل الجميل معهما وفعل ما يسرهما ويدخل فيه الإحسان إلى صديقهما، كما جاء في الصحيح:"إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"، وضد البر العقوق. قال أهل اللغة: يقال بررت والدي بكسر الراء أبره بضمهما مع فتح الباء برا وأنا برّ به بفتح الباء وبار وجمع البر الأبرار وجمع البار البررة انظر [النووي في شرح مسلم (2/ 65) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (527) كتاب مواقيت الصلاة، 5 - باب فضل الصلاة لوقتها - ورقم (2782) كتاب الجهاد والسير، 1 - باب فضل الجهاد والسير ورقم (5970) كتاب الأدب، 1 - باب البر والصلاة {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8]. ومسلم في صحيحه [139 - (85)] كتاب الإيمان، 36 - باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال. والترمذي في سننه (173، 1898)، والنسائي في المواقيت، وأحمد في مسنده (1/ 410، 439) والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 215)، والحاكم في المستدرك (4/ 287)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 256).

ص: 301

والجهاد دفع لأعداء اللَّه عن إيذاء خلق اللَّه وتهديم بيوت اللَّه.

ثالثها: حديث أبي ذر رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول اللَّه أي الأعمال أفضل؟

قال: "الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله"

(1)

. أخرجاه.

فقرنه بالإيمان لما فيه من إظهار حب اللَّه وتعظيمه ومحو الكفر.

رابعها: حديث أنس: "لغدوة في سبيل اللَّه أو روحة خير من الدنيا وما فيها"

(2)

. أخرجاه.

خامسها: حديث أبي سعيد الخدري قال: أتى رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟

قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه بنفسه وماله".

قال: ثم مَنْ؟

قال: "مؤمن في شِعب من الشِّعاب، يعبد اللَّه ربه ويدع الناس من شرّه"

(3)

. أخرجاه.

فقدم المجاهد على العابد

(4)

، وفضل عليه بأنه رفع أشرارًا كثيرة، بخلاف

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [136 - (84)] كتاب الإيمان، 36 - باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال. والنسائي (5/ 113 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 330، 388)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 262)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 283)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 134).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2792) كتاب الجهاد والسير، 5 - باب الغدوة والروحة في سبيل اللَّه، وقاب قوس أحدكم في الجنة. ورقم (2796) 6 - باب الحور العين وصفتهن ورقم (6568) كتاب الرقاق، 51 - باب صفة الجنة والنار. . ومسلم في صحيحه [112 - (1880)] كتاب الإمارة 30 - باب فضل الغدوة والروحة في سبيل اللَّه والترمذي في سننه (1651)، وأحمد في مسنده (3/ 132، 141)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 268، 4/ 532)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 284)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3792).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2786) كتاب الجهاد والسير، 2 - باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه ورقم (6494) كتاب الرقاق، 34 - باب العزلة راحة من خُلاط السوء. ومسلم في صحيحه [122 - (1888)] كتاب الإمارة، 34 - باب فضل الجهاد والرباط. والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 283)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 245).

(4)

والجمع بين الأحاديث في تقديم عمل على الآخر قال القفال: الجمع بينهما بوجهين: أحدهما أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال خير الأشياء كذا ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال أو نحو ذلك. والوجه الثاني: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال =

ص: 302

العابد، فإنه كفى شرَّه وحده.

سادسها: حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "رباط يوم في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل اللَّه أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"

(1)

. أخرجاه.

والمراد بالسوط الذي يحث به فرس الجهاد، أو يضرب به العدو.

سابعها: حديث سلمان مرفوعًا: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمِنَ الفتَّان"

(2)

. أخرجاه.

ثامنها: حديث فضالة بن عبيد مرفوعًا: "كل ميت يختم على عمله إلَّا المرابط في سبيل اللَّه، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر"

(3)

.

رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.

= كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا، فحذفت من وهى مرادة، كما يقال فلان أعقل الناس وأفضلهم ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم. . . . إلى آخر كلامه. [النووي في شرح مسلم (2/ 67) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2892) كتاب الجهاد والسير، 73 - باب فضل رباط يوم في سبيل اللَّه. والترمذي في سننه (1664) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط. وأحمد في مسنده (1/ 62، 65، 75)، والمنذري في الترغيب (2/ 242، 269)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 114)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3791).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [163 - (1913)] كتاب الإمارة، 50 - باب فضل الرباط في سبيل اللَّه عز وجل. والترمذي في سننه (1665) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الجهاد والنسائي في الجهاد، باب فضل الرباط وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 327)، وأحمد في مسنده (4/ 440)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 381)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 190)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 290) والطبراني في المعجم الكبير (6/ 272، 286) والسيوطي في الدر المنثور (2/ 114)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 261، 2/ 216).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2500) كتاب الجهاد، باب في فضل الرباط. والترمذي في سننه (1621) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من مات مرابطا. وأحمد في مسنده (4/ 157، 6/ 20) والحاكم في المستدرك (2/ 79، 144)، وابن حبان في صحيحه (1624 الموارد)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 289)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 312) والسيوطي في الدر المنثور (2/ 114، 243)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 381)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2823، 3824)، وابن كثير في تفسيره (2/ 172).

ص: 303

تاسعها: حديث عثمان مرفوعًا: "رباط يوم في سبيل اللَّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل"

(1)

. رواه الترمذي وحسنه.

عاشرها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "تَضمَّن اللَّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلَّا جهادًا في سبيلي، وإيمانًا بي، وتصديقًا برسلي، فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة

(2)

.

والذي نفس محمد بيده ما من كَلْم يُكْلم في سبيل اللَّه إلَّا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلم، لونه لون دم، وريحه مسك

(3)

.

والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل اللَّه أبدًا ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني.

والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل اللَّه فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأقتل"

(4)

. رواه مسلم. وللبخاري بعضه.

الكَلْم: الجرح، وكفى في شرفه قسم الشارع عليه وودّه لديه.

(1)

أخرجه الترمذى في سننه (1667) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط، والنسائي في سننه (6/ 40 - المجتبى) في الجهاد، باب فضل الرباط. وأحمد في مسنده (1/ 65، 75)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 38، 39)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3831)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 115)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 246)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 328)، والدارمي في سننه (2/ 211).

(2)

قوله: "أو أرجعه إلى مسكنه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" قالوا: معناه ما حصل له منه الأجر بلا غنيمة إن لم يغنم أو من الأجر والغنيمة معا إن غنموا، وقيل: إن أو هنا بمعنى الواو أي من أجر وغنيمة، وكذا وقع بالواو في رواية أبي داود. ومعنى الحديث أن اللَّه تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيرًا بكل حال، فإما أن يستشهد فيدخل الجنة، وإما أن يرجع بأجر، وإما أن يرجع بأجر وغنيمة [النووي في شرح مسلم (13/ 20) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أما الكَلْم بفتح الكاف وإسكان اللام فهو الجرح، ويكلم بإسكان الكاف أي يجرح، وفيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره، والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة اللَّه تعالى. وفيه دليل على جواز اليمين وانعقادها بقوله: والذي نفسي بيده ونحو هذه الصيغة من الحلف بما دل على الذات ولا خلاف في هذا. [النووي في شرح مسلم (13/ 20) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [103 - (1876)] كتاب الإمارة، - باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللَّه. أحمد في مسنده (2/ 399)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 39)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 39)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 269)، والقرطبي في تفسيره (5/ 277) وابن أبي شبيه في مصنفه (5/ 288).

ص: 304

الحادي عشر: حديثه أيضًا مرفوعًا: "ما من مكْلُوم يُكلم في سبيل اللَّه إلا جاء يوم القيامة وكَلْمُه يدمي اللون لون دم، والريح ريح مسك"

(1)

أخرجاه.

الثاني عشر: حديث معاذ مرفوعًا

(2)

: "من قاتل في سبيل اللَّه فُواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل اللَّه القتل من نفسه صادقًا، ثم مات أو قتل، فإن له أجر شهيد" زاد ابن المصفى: "ومن جرح جرحًا في سبيل اللَّه أو نُكِب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران، وريحها ريح المسك، (ومن خرج به خُراج في سبيل اللَّه فإن عليه طابع الشهداء)

(3)

".

رواه أبو داود، والترمذي وصححه.

وعبر بالزعفران لأنه مفرح، أو لأن لونه لون الدم ولفظ الزعفران أحشم أو لأن الجروح تتفاوت بتفاوت مقاصد أربابها.

الثالث عشر: حديث أبي هريرة قال: مرَّ رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشِعبٍ فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال: لو اعتزلت الناس

(4)

فأقمت في هذا الشِعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل اللَّه أفضل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5533) كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، 31 - باب المسك. ومسلم في صحيحه [105 - (1876)] كتاب الإمارة، 28 باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللَّه، والترمذي في سننه (1656) وأحمد في مسنده (2/ 384)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 157)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 295).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2541) كتاب الجهاد، باب فيمن سأل اللَّه تعالى الشهادة. والترمذي في سننه (1657) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يُكلم في سبيل اللَّه وأحمد في مسنده (2/ 446، 524)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 161، 170)، والحاكم في المستدرك (2/ 68، 77)، وابن حبان في صحيحه (1596 - الموارد)، وعبد الرزاق في مصنفه (9539)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 275، 280، 285)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 245، 246)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3825)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 337).

(3)

هذه الزيادة ليست بالأصل واستكملناها من أبي داود.

(4)

فذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل من العزلة بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص وقد كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك. [النووي في شرح مسلم (13/ 30، 31) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 305

من صلاته في بيته سبعين عامًا ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم ويدخلكم الجنة اغزو في سبيل اللَّه، من قاتل في سبيل اللَّه فواق ناقة وجبت له الجنة"

(1)

.

رواه الترمذي وحسنه.

والفواق: ما بين الحلبتين.

الرابع عشر: عنه أيضًا: قيل يا رسول اللَّه ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟

قال: "لا تستطيعوه".

فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا.

كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه".

وقال في الثالثة: "مثل المجاهد

(2)

في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه، لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه"

(3)

.

أخرجاه، واللفظ لمسلم.

وفي رواية للبخاري: "أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه دُلني على عمل يعدل الجهاد؟

قال: "لا أجد".

ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر".

قال: ومن يستطيع ذلك؟

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (1650) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغدُو والرواح في سبيل اللَّه. وأحمد في مسنده (2/ 524)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 160)، والحاكم في المستدرك (2/ 68)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3830)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 280) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6/ 337)، والألباني في السلسلة الصحيحة (902).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم "مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه إلى آخره" معنى القانت هنا المطيع، وفي هذا الحديث عظيم فضل الجهاد لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات اللَّه أفضل الأعمال وقد جعل المجاهد مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات، ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "لا تستطيونه" واللَّه علم. [النووي في شرح مسلم (13/ 23) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2787) كتاب الجهاد والسير، 2 - باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه ومسلم في صحيحه [110 - (1878)] كتاب الإمارة، 29 - باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه تعالى. والترمذي (1619) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الجهاد، وابن ماجه (2754) وأحمد في مسنده (4/ 272)، وابن أبي شبيه في مصنفه (5/ 287، 319)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 275).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2785) كتاب الجهاد والسير، 1 - باب فضل الجهاد والسير،=

ص: 306

الخامس عشر: عنه أيضًا مرفوعًا: "من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل اللَّه يطير على متنه، كُلَّما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانَّهُ

(1)

، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلَّا في خير"

(2)

. أخرجه مسلم.

السادس عشر: عنه مرفوعًا: "إن في الجنة مائة درجة أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"

(3)

. أخرجه البخاري.

السابع عشر: حديث أبي سعيد مرفوعًا: "من رضي باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا وجبت له الجنة" فعجب لها أبو سعيد، فقال أعِدْهَا عليَّ يا رسول اللَّه، ففعل.

ثم قال: "وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض".

قال: وما هي يا رسول اللَّه؟

قال: "الجهاد في سبيل اللَّه، الجهاد في سبيل اللَّه"

(4)

.

= والنسائي في الجهاد باب (15)، أحمد في مسنده (2/ 344)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 158)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 333).

(1)

قال النووي: معناه يسارع على ظهره وهو متنه كلما سمع هيعة وهى الصوت عند حضور العدو، وهى بفتح الهاء وإسكان الياء، والفزعة بإسكان الزاي النهوض إلى العدو. ومعنى يبتغي القتل مظانة يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة، وفى هذا الحديث فضيلة الجهاد والرباط والحرص على الشهادة. [النووي في شرح مسلم (13/ 31) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (1889)] كتاب الإمارة، 34 - باب فضل الجهاد والرباط.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2790) كتاب الجهاد والسير، 4 - باب درجات المجاهدين في سبيل اللَّه. ورقم (7423) كتاب التوحيد، 22 - باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم. وابن حبان في صحيحه (1586 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 511)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3787)، والشجري في أماليه (2/ 29)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 205)، وابن كثير في تفسيره (2/ 323، 4/ 116).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [116 - (1884)] كتاب الإمارة، 31 - باب بيان ما أعده اللَّه تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات. والنسائي في الجهاد باب (16)، والحاكم في المستدرك (2/ 93)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 288)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3851)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 205)، وابن كثير في تفسيره (2/ 323).

ص: 307

الثامن عشر: حديث أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه مرفوعًا

(1)

: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"

(2)

، فقام رجل رثّ الهيئة فقال: يا أبا موسى أنت سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟

قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه

(3)

فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قُتل.

التاسع عشر: حديث أبي عبس عبد الرحمن بن جبر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(4)

: "ما اغبرَّت قدما عبد في سبيل اللَّه فتمسه النار". أخرجه البخاري.

العشرون: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يلج النار رجل بكى من خشية اللَّه حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل اللَّه ودخان جهنم"

(5)

.

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

أي أنه بعيد عن مسّها.

الحادي بعد العشرين: حديث ابن عباس سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية اللَّه وعين باتت تحرس في سبيل اللَّه"

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [146 - (1902)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد والترمذي في سننه (1659) كتاب فضائل الجهاد، باب ما ذكر أن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف. وأحمد في مسنده (4/ 496)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 290)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 317)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3852).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف" قال العلماء: معناه إن الجهاد وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب لدخولها" [النووي في شرح مسلم (13/ 41) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

كسر جَفْنَ سيفه: هو بفتح الجيم وإسكان الفاء، وبالنون وهو غمده.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2811) كتاب الجهاد والسير، 16 - باب من اغبرت قدماه في سببل اللَّه. والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 486) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 162)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 286)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3794)، وابن حجر في المطالب العالية (1954).

(5)

أخرجه: الترمذي في سننه (1633) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل اللَّه. ورقم (2311) كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل البكاء من خشية اللَّه. والنسائي (6/ 12 - المجتبى) في الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل اللَّه على قدمه. وابن ماجه في الجهاد، باب الخروج في النفير، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 271، 4/ 229)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 248)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 214)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3828).

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (1639) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل =

ص: 308

رواه الترمذي وحسَّنه.

فبكاء العين جوهرها الكثيف، وحراستها عبادة شعاعها اللطيف.

وأيضًا الدمع دفعة باطنها، والشعاع دفعه ظاهرها.

الثاني بعد العشرين: حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: "من جهز غازيًا في سبيل اللَّه فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله فقد غزا"

(1)

. أخرجاه

(2)

.

الثالث بعد العشرين: حديث أبي أمامة مرفوعًا: "أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل اللَّه ومنيحة خادم في سبيل اللَّه، أو طروقة فحل في سبيل اللَّه"

(3)

.

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

الرابع بعد العشرين: حديث أنس أن فتى من أسلم قال: يا رسول اللَّه إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز.

فقال: "ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض"

(4)

.

= اللَّه. والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 288)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 248، 4/ 225)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3829)، والشجري في أماليه (1/ 209)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/ 360)، وابن حجر في المطالب العالية (1989، 1990)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 246).

(1)

قال النووي: أي حصل له أجر بسبب الغزو وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليلة وكثيرة ولكل خالف له في أهله بخير في قضاء حاجة لهم وانفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم. ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته. وفي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم. [النووي في شرح مسلم (13/ 35) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2843) كتاب الجهاد والسير، 38 - باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخبر. ومسلم في صحيحه [135 - (1895)] كتاب الإمارة، 38 - باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير، وأبو داود في سننه (2509). والترمذي (1628، 1631) والنسائي (6/ 46 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (4/ 115، 116)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 240) والحاكم في المستدرك (2/ 82)، والطبراني في المعجم الصغير (2/ 25)، وفي الكبير (5/ 280، 282).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1627) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الخدمة في سبيل اللَّه، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 258)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 279)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3827)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 366).

(4)

فيه فضيلة الدلالة على الخير، وفيه أن ما نوى الإنسان صرفه في جهة بر فتعذرت عليه تلك الجهة يستحب له بذله في جهة أخرى من البر ولا يلزمه ذلك ما لم يلتزمه بالنذر. [شرح مسلم للنووي (13/ 35) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 309

فأتاه فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: "أعطني الذي تجهزت به".

قال: يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئًا، فواللَّه لا تحبسي منه شيئًا فيبارك لك فيه

(1)

. أخرجه مسلم.

الخامس بعد العشرين: حديث أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

بعث إلى بني لحيان

(3)

فقال: "لينبعث من كل رجلين رجل"، ثم قال للقاعد:"أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير، كان له مثل نصف أجر الخارج".

وهذه الرواية يحتمل أن تكون بيانًا للرواية الأولى.

ويحتمل أن يكون النصف لأجل إعانته له مع أجره الكامل لأجل قعوده لمهمات البلد.

السادس بعد العشرين: حديث البراء: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنَّع بالحديد.

فقال

(4)

: يا رسول اللَّه أُقاتل وأُسلم؟

قال: "أسلم ثم قاتل".

فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "عَمِلَ قليلًا وأُجر كثيرًا".

أخرجاه، واللفظ للبخاري.

السابع بعد العشرين: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [134 - (1894)] كتاب الإمارة، 38 - باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [137 - (1896)]، (138) كتاب الإمارة، 38 - باب فضل إعانة الغازي في سبيل اللَّه بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير. وأحمد في مسنده (3/ 49، 55)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 40)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3820)، والحاكم في المستدرك (2/ 82).

(3)

أما بنو لحيان فبكسر اللام وفتحها والكسر أشهر وقد اتفق العلماء على أن بنى لحيان كانوا في ذلك الوقت كفارًا فبعث إليهم بعثًا يغزونهم وقال لذلك البحث ليخرج من كل قبيلة نصف عددها، وهو المراد بقوله من كل رجلين: أحدهما وأما كون الأجر بينهما فهو محمول على ما إذا خلف المقيم الغازي في أهله بخير كما تقدم قريبا [النووي في شرح مسلم (13/ 36)].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2808) كتاب الجهاد والسير، 13 - باب عمل صالح قبل القتال. ومسلم في صحيحه [144 - (1900)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 167) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 290) وأحمد في مسنده (4/ 357)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 363).

ص: 310

إلى الدنيا فيقتل عشر مرات

(1)

، لما يرى من الكرامة"

(2)

.

وفي لفظ: "لِمَا يرى من فضل الشهادة"

(3)

. أخرجاه.

الثامن بعد العشرين: حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "يغفر للشهيد كل شيء إلَّا الدين" أخرجه مسلم

(4)

.

وفي رواية له: "القتل في سبيل اللَّه يُكفر كل شيء إلَّا الدين"

(5)

.

التاسع بعد العشرين: حديث أبي قتادة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل اللَّه والإيمان باللَّه أفضل الأعمال فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن قُتلت في سبيل اللَّه تُكفر عني خطاياي؟

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نعم إن قتلت في سبيل اللَّه وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر"

(6)

.

ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت"؟

(1)

قال ابن الانباري: إن اللَّه تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام يشهدون له بالجنة، وقيل لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده اللَّه تعالى له من الثواب والكرامة، وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدون فيأخذون روحه، وقيل لأنه شهد له بالإيمان وخاتمه الخير بظاهر حاله، وقيل لأن عليه شاهد بكونه شهيدًا وهو الدم، وقيل لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بإبلاغ الرسالة إليهم، وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف. [النووي في شرح مسلم (13/ 23) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2817) كتاب الجهاد، 21 - باب تمنى المجاهد أن يرجع إلى الدنيا. ومسلم في صحيحه [109 - (1877)،] كتاب الإمارة، 29 - باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه تعالى.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [108 - (1877)] كتاب الإمارة، 29 - باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه تعالى.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [119 - 1886)] كتاب الإمارة، 32 - باب من قتل في سبيل اللَّه كُفِّرت خطاياه إلا الدِّين. وأحمد في مسنده (2/ 220)، والحاكم (2/ 119).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [120 - (1886)] كتاب الإمارة، 32 - باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه إلا الدَّيْن.

(6)

فيه هذه الفضيلة العظيمة للمجاهد وهى تكفير خطاياه كلها إلَّا حقوق الآدميين وإنما يكون تكفيرها بهذه الشروط المذكورة وهو أن يُقتل صابرًا محتسبًا مُقبلًا غير مدبر، وفيه أن الأعمال لا تنفع إلا بالنية والإخلاص للَّه تعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم "مقبل غير مُدبِر" لعله احتراز ممن يقبل في وقت ويدبر في وقت، والمحتسب هو المخلص للَّه تعالى، فإن قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولا غيره [النووي في شرح مسلم (13/ 27،26) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 311

قال: أرأيت إن قُتلت في سبيل اللَّه أتكفر عني خطاياي؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب، مُقبل غير مدبر، إلَّا الدين فإن جبريل صلى الله عليه وسلم قال لي ذلك"

(1)

. أخرجه مسلم. وفيه الاهتمام بأمر الدين.

الثلاثون: حديث جابر قال: قال رجل: أين أنا يا رسول اللَّه إن قتلت؟

قال: "في الجنة".

فألقى تمرات كُنَّ في يده، ثم قاتل حتى قُتل"

(2)

.

أخرجه مسلم أيضًا.

الحادي بعد الثلاثين: حديث أنس: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يَقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه"

(3)

.

فدنا المشركون فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض".

قال: يقول ابن الحمام الأنصاري: يا رسول اللَّه جنَّة عرضها السماوات والأرض؟

قال: "نعم".

قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "ما يحملك على قول بَخٍ بَخٍ".

قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه إلَّا رجاءة أن أكون من أهلها.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [117 - (1885)] كتاب الإمارة، 32 - باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه إلا الدين. والترمذي في سننه (1712) كتاب الجهاد، باب ما جاء فيمن يستشهد وعليه دين، والألباني في إرواء الغليل (5/ 18). والنسائي (6/ 34 - المجتبى) في الجهاد، باب من قاتل في سبيل اللَّه تعالى وعليه دين. قال النووي: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الدين" ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يُكفِّر حقوق اللَّه تعالى.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [143 - (1899)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد وقد رواه البخاري في صحيحه (4046) كتاب المغازي، 17 - باب غزوة أحد. والنسائي (6/ 33 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 308)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 43، 99) والحاكم في المستدرك (2/ 93)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3937)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 567)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 161، 7/ 188) والسيوطي في الدر المنثور (2/ 99، 4/ 168).

(3)

أي قدامه متقدمًا في ذلك الشيء لئلا يفوت شيء من المصالح التي لا تعلمونها.

ص: 312

قال: "فإنك من أهلها"

(1)

.

فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل

(2)

.

أخرجه مسلم.

القرن: بفتح القاف والراء هو جُعبة النشاب.

الثاني بعد الثلاثين: حديثه أيضًا: جاء أُناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالًا يعلمونا القرآن والسُّنُّة.

فبعث إليهم سبعين رجلًا من الأنصار يقال لهم القُراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمون وكانوا

(3)

بالنهار يجيثون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصُّفَّة

(4)

، وللفقراء.

فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان.

(1)

قوله: (بخ بخ) فيه لغتان إسكان الخاء وكسرها منونًا وهى كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. قوله "لا واللَّه يا رسول اللَّه إلّا رجاءة أن أكون من أهلها" هكذا في أكثر النسخ المعتمدة رَجَاءة بالمد ونصب التاء وفى بعضها رجاء بلا تنوين، وفي بعضها بالتنوين ممدودان بحذف التاء وكله صحيح معروف في اللغة، ومعناه واللَّه ما فعلته لشيء إلا لرجاء أن أكون من أهلها وقوله:"فأخرج تمرات من قَرنه" هو بقاف وراء مفتوحتين ثم نون أي جُعبة النشاب. [النووي في شرح مسلم (13/ 41) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [145 - (1901)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد وأحمد في مسنده (3/ 136)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 43، 99)، والحاكم في المستدرك (3/ 426)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 291)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 331)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3110)، وابن كثير في تفسيره (2/ 323، 4/ 30).

(3)

قوله: "وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد" معناه يضعونه في المسجد مسبلًا لمن أراد استعماله لطهارة أو شرب أو غيرهما وفيه جواز وضعه في المسجد وقد كانوا يضعون أيضا أعزاق التمر لمن أرادها في المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في جواز هذا وفضله. [النووي في شرح مسلم (13/ 41) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أصْحَاب الصُّفة هُم الفُقراء الغرباء الذين كانوا يأوون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لهم في آخره صفة وهو مكان منقطع من المسجد مظلل عليه يبيتون فيه، قاله إبراهيم الحربي والقاضي: وأصله من صفة البيت وهى شيء كالظلة قدامة، فيه فضيلة الصدقة وفضيلة الاكتساب من الحلال لها، وفيه جواز الصفة في المسجد وجواز المبيت فيه بلا كراهة، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. [المرجع السابق (13/ 41) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 313

فقالوا: اللهم بلغ عنَّا نبينا أنَّا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا.

قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه.

فقال حرام: فُزت ورب الكعبة.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن إخوانكم قد قُتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنَّا نبينا، أنَّا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا"

(1)

. أخرجاه، واللفظ لمسلم.

وما أعظم هذه النفس (والادلال)

(2)

وأنفس هذه المكانة وأعظم بتقريرهم عليها.

الثالث بعد الثلاثين: حديثه أيضًا قال: غاب عمي أنس في قتال بدر. . . الحديث

(3)

.

وقد سلف في المجاهدة.

الرابع بعد الثلاثين: حديث سمرة مرفوعًا: "رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء"

(4)

. أخرجه البخاري. وفيه طول يأتي في مجلس الكذب.

الخامس بعد الثلاثين: عن أنس رضي الله عنهما أن أم الربيع بنت البراء، وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي اللَّه ألا تحدثني عن حارثة -وكان قُتل يوم بدر

(5)

أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2801) كتاب الجهاد والسير، 9 - باب من ينكب أو يطعن في سبيل اللَّه. ومسلم في صحيحه [147 - (677)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد وأحمد في مسنده (3/ 270)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 326).

(2)

كذا بالأصل.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2805) كتاب الجهاد والسير، 12 - باب قول اللَّه تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23]، ورقم (4048) كتاب المغازي 17 - باب غزوة أحد، ورقم (4783) كتاب تفسير القرآن، من سورة الأحزاب، 2 - باب "فمنهم من قضى نَحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" ومسلم في صحيحه [148 - (1903)] كتاب الإمارة، 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2791) كتاب الجهاد والسير، 4 - باب درجات المجاهدين في سبيل اللَّه، يقال هذا سبيلي وهذه سبيلي. والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 313).

(5)

استشهد يوم بدر: مهجع، وذو الشمالين عمير بن عبد عمرو الخزاعي، وعاقل بن البكير، وصفوان بن بيضاء، وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهؤلاء من المهاجرين. وعمير بن الحمام، وابنا عفراء، وحارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث فُسحُم، ورافع بن المعلى الزرقي، وسعد بن خيثمة الأوسى، ومبشر بن عبد المنذر أخو أبي لبابة فالجملة أربعة عشر رجلًا.

ص: 314

اجتهدت عليه في البكاء.

قال: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"

(1)

.

أخرجه البخاري.

السادس بعد الثلاثين: حديث جابر قال: جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مُثِّل به ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة.

فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو.

فقال: "لِمَ تبكي -أو لا تبكي- ما زالت الملائكة تُظله بأجنحتها"

(2)

. أخرجاه.

وهذا إبهاج عجيب فالملائكة لا يعصون ويبادرون إلى ما يؤمرون.

السابع بعد الثلاثين: حديث سهل بن حنيف مرفوعًا: "من سأل اللَّه تعالى الشهادة بصدق بلَّغه اللَّه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"

(3)

.

الثامن بعد الثلاثين: حديث أنس مرفوعًا: "من طلب الشهادة صادقًا أُعطيها، ولو لم تُصبه"

(4)

. أخرجهما.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2809) كتاب الجهاد والسير، 14 - باب من أتاه سهم غرب فقتله. ورقم (3982) كتاب المغازي، 9 - باب فضل من شهد بدرا ورقم (6550، 6567) كتاب الرقاق، 51 - باب صفة الجنة والنار. والترمذي (3174)، والحاكم في المستدرك (3/ 208)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 261)، وابن حبان في صحيحه (2272، 2434 - الموارد)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 167)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 325)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3809)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 6).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2816) كتاب الجهاد والسير، 20 - باب ظل الملائكة على الشهيد. ومسلم في صحيحه [129 - (2471)] كتاب فضائل الصحابة، 26 - باب من فضائل عبد اللَّه ابن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنه وأحمد في مسنده (3/ 307)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 239). قال النووي: قال القاضي: يحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل اللَّه ورضاه عنه، وما أعد له من الكرامة عليه ازدحموا عليه إكراما له وفرحا به أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [157 - (1909)] كتاب الإمارة، 46 - باب استحباب طلب الشهادة في سبيل اللَّه تعالى. والترمذي في سننه (1653) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن سأل الشهادة. والنسائي (6/ 37 - المجتبى) في الجهاد، باب مسألة الشهادة. وابن ماجه (2797) كتاب الجهاد، باب القتال في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى. وأحمد في مسنده (5/ 244)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 170) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 275)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3808).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [156 - (1908)] كتاب الإمارة، 46 - باب استحباب طلب الشهادة في =

ص: 315

التاسع بعده: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلّا كما يجد من مسّ القرصة"

(1)

. رواه الترمذي وصححه.

الأربعون: حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس، قام فيهم فقال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو

(2)

واسألوا اللَّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف".

ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم"

(3)

. أخرجاه.

فليحتفل بهذا الدعاء، فإن الدعاء سلاح المؤمن.

الحديث الحادي بعده: حديث سهل مرفوعًا: "ثنتان لا تُردان، وقلَّ ما تُردان، الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلجم بعضهم بعضًا".

رواه أبو داود بإسناد صحيح

(4)

.

= سبيل اللَّه تعالى، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 275)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 101).

(1)

أخرجه الترمذي (1668) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط. والنسائي في الجهاد، باب ما يجد الشهيد من الألم، وابن ماجه (2802) كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه وأحمد في مسنده (2/ 297)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 316)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 99).

(2)

إنما نهى عن تمني لقاء العدو، ولما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثرق بالقوة وهي نوع بغي، وقد ضمن اللَّه تعالى لمن بُغي عليه أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم وتأوله بعضهم على النهى عن التمني في صورة خاصة وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة، والصحيح الأول ولهذا تممه صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم "واسألوا اللَّه العافية"[النووي في شرح مسلم (12/ 40، 41) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2965، 2966) كتاب الجهاد والسير، 112 - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول. ورقم (3024 - 3026) 156 - باب لا تتمنوا لقاء العدو. ومسلم في صحيحه [20 - (1742)] كتاب الجهاد والسير، 6 - باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، والترمذي (1678)، وابن ماجه (2796) وأبو داود في سننه (2631) والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 152)، وأحمد في مسنده (4/ 354)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 340)، والطبراني في المعجم الصغير (1/ 172)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 256).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2540) كتاب الجهاد، باب الدعاء عند اللقاء. والبيهقي في السنن =

ص: 316

الحديث الثاني بعده: حديث أنس كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول، وبك أصول وبك أقاتل"

(1)

. رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.

الثالث بعده: حديث أبي موسى أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قومًا قال: "اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم"

(2)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح.

الرابع بعده: حديث ابن عمر مرفوعًا: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"

(3)

. أخرجاه.

الخامس بعده: حديث عروة

(4)

مرفوعًا: مثله بزيادة "الأجر والمقيم"

(5)

أخرجاه.

السادس بعده: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من احتبس فرسًا في سبيل اللَّه إيمانًا باللَّه، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه، وريَّهُ وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة"

(6)

أخرجه البخاري.

= الكبرى (1/ 360، 400) والحاكم في المستدرك (1/ 198)، وابن حبان في صحيحه (1720 - الموارد)، ومالك في الموطأ (1/ 70) والطبراني في المعجم الكبير (6/ 166)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (673)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 495).

(1)

أخرجه أبو داود (2632) كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء. والترمذي (3578) كتاب الدعوات، وأحمد في مسنده (3/ 184)، وابن حبان في صحيحه (1661) وابن أبي شبيه في مصنفه (10/ 351، 12/ 463)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2440).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1537) كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا خاف قوما وأحمد في مسنده (4/ 415)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2441)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 105)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (328).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2849) كتاب الجهاد والسير، 43 - باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. ومسلم في صحيحه [96 - (1871)] كتاب الإمارة، 26 - باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. والترمذي (1636)، وابن ماجه (2788)، وأحمد في مسنده (2/ 49، 57، 101)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 81، 6/ 329)، والحاكم في المستدرك (5/ 2، 91).

(4)

عروة هو البارقي بالموحده والقاف وهو منسوب إلى بارق وهو جبل باليمن تركته الأزد وهم الأشد بإسكان السين فنسبوا إليه، وقيل: إلى بارق ابن عوف بن عدي، ويقال له عروة بن الجعد كما وقع في رواية مسلم وعروة بن أبي الجعد وعروة بن عياض بن أبي الجعد.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (2852) كتاب الجهاد والسير، 44 - باب الجهاد ماض مع البر والفاجر، ومسلم في صحيحه [97 - (1872)] كتاب الإمارة، 26 - باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (2853) كتاب الجهاد والسير، 45 - باب من احتبس فرسًا، =

ص: 317

السابع بعده: حديث أبي مسعود: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل اللَّه.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة"

(1)

أخرجه مسلم

(2)

.

الثامن بعده: حديث عقبة مرفوعًا: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي" ثلاثًا. أخرجه مسلم

(3)

.

التاسع بعده: حديثه أيضًا مرفوعًا: "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم اللَّه فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه" أخرجه مسلم

(4)

.

الخمسون: حديثه أيضًا مرفوعًا: "من عَلِمَ الرمي ثم تركه فليس منا، أو فقد عصى"

(5)

. أخرجه مسلم

(6)

.

= والنسائي (6/ 225 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 374)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 16)، والحاكم في المستدرك (2/ 92) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 258)، والتبريزي في مكاة المصابيح (3868)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 197).

(1)

قال النووي: معنى مخطومة أي فيها خطام وهو قريب من الزمام، قل: ويحتمل أن يكون على ظاهره ويكون له في الجنة بها سبعمائة كل واحدة منهن مخطومة يركبهن حيث شاه للتنزه كما جاء في خيل الجنة ونجبها وهذا الاحتمال أظهر واللَّه أعلم، [النووي في شرح مسلم (13/ 34) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [132 - (1892)] كتاب الإمارة، 37 - باب فضل الصدقة في سبيل اللَّه وتضعيفها. والبيهقي في السنن الكبرى (/ 118)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3799)، والسيوطي في الدُّر المنثور (1/ 336)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 348)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 229).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [167 - (1917)] كتاب الإمارة، 52 - باب فضل الرمي والحث عليه وذم من عَلِمَه ثم نَسِيَهُ. وأبو داود في سننه (2514) كتاب الجهاد، باب في الرمي.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [168 - (1918)] كتاب الإمارة، 52 - باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه. وأحمد في مسنده (4/ 157)، والقرطبي في تفسيره (8/ 35).

(5)

هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر. [النووي في شرح مسلم (13/ 57) طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [169 - (1919)] كتاب الإمارة، 52 - باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه. وأحمد في مسنده (4/ 148)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 13)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 282)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3863، 3883)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 452).

ص: 318

الحادي بعده: حديثه أيضًا مرفوعًا: "إن اللَّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومُنْبِلَهُ، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا ليس من اللهو إلَّا ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله، ورميُهُ بقوسه ونبلهِ، ومن ترك الرمي بعد ما عَلِمَه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها" أو قال: "كفرها"

(1)

أخرجه أبو داود.

الثاني بعده: حديث سلمة بن الأكوع قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا". أخرجه البخاري.

فالعرب أحق بوراثة أبيهم من كل أحد. فالانتضال كان شأن خير أمة في خير القرون.

الثالث بعده: حديث عمرو بن عبسة مرفوعًا: "من رمى بسهم في سبيل اللَّه فهو له عدل مُحرَّرٍ"

(2)

.

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

ومن المعلوم أن اللَّه يعتق من النار بكل عضو منها عضوًا من المحرر لها.

الرابع بعده: حديث خريم بن فاتك مرفوعًا: "من أنفق نفقة في سبيل اللَّه كُتِب له بسبعمائة ضعف"

(3)

. رواه الترمذي وحسنه.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2513) كتاب الجهاد، باب في الرمى، والنسائي (6/ 28، 6/ 223 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 13، 218)، والحاكم في المستدرك (2/ 95)، وعبد الرزاق في مصنفه (21010)، والتبريزي مشكاة المصابيح، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 277)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 320)، والزبيدي في الإتحاف (3680) والسيوطي في الدر المنثور (3/ 192، 193).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3966) كتاب العتق، باب أي الرقاب أفضل؟ والترمذي في السنن الكبرى (1638) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل اللَّه. والنسائي في الجهاد، 23 - باب ثواب من رمى بسهم في سبيل اللَّه عز وجل وأحمد في مسنده (4/ 113، 236، 384) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 279)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 270)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 193، 194).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1625) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل النفقة في سبيل اللَّه والنسائي (6/ 49 - المجتبى) في الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل اللَّه تعالى وأحمد في مسنده (4/ 345)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 374، 9/ 171)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 253)، وابن حبان في صحيحه (1647 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 318)،=

ص: 319

وناهيك به، ومثله قوله:{كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية.

الخامس بعده: حديث أبي سعيد مرفوعًا: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل اللَّه إلَّا باعد اللَّه بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا"

(1)

أخرجاه.

السادس بعده: حديث أبي أمامة مرفوعًا: "من صام يومًا في سبيل اللَّه جعل اللَّه بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض"

(2)

.

رواه الترمذي

(3)

، وقال: حسن صحيح.

السابع بعده: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من مات ولم يغزو ولم يُحدِّث نفسه بغزو مات على شُعبة من نفاق"

(4)

أخرجه مسلم.

وأي مصيبة أعظم من شُعبة من نفاق.

الثامن بعده: حديث جابر: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: "إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم حبسهم المرض"

(5)

.

= والحاكم في المستدرك (2/ 87، 3/ 265).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2840) كتاب الجهاد والسير، 36 - باب فضل الصوم في سبيل اللَّه ومسلم في صحيحه [167 - (1153)] كتاب الصيام، 31 - باب فضل الصيام في سبيل اللَّه لمن يطيقه، بلا ضرر ولا تفويت حق والترمذي في سننه (1623) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الصوم في سبيل اللَّه.

(2)

الطبراني في المعجم الكبير (8/ 281)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 86، 89)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2604)، والشجري في أماليه (2/ 35)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 194).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (1624) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الصوم في سبيل اللَّه.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [158 - (1910)] كتاب الإمارة، 47 - باب ذم من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو. وأبو داود (2502)، والنسائي (6/ 8 - المجتبى) وأحمد في مسنده (2/ 374)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 48)، والحاكم في المستدرك (2/ 79)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2813) وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/ 160)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 257).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [159 - (1911)] كتاب الإمارة، 47 - باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو. وأحمد في مسنده (3/ 341)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 24)، وابن حبان في صحيحه (1623 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (14/ 546)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3815، 3816)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 7). وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 126) قال النووي: هذا الحديث فضيلة النية في الخبر وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمني كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه، واللَّه أعلم.

ص: 320

وفي لفظ "العذر".

وفي لفظ: "إلَّا شركوكم في الأجر". رواه مسلم.

وأخرجه البخاري

(1)

من حديث أنس.

التاسع بعده: حديث أبي موسى: أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكر

(2)

، والرجل يقاتل ليرى مكانه.

وفي لفظ: يقاتل شجاعة، ويقاتل حميَّة.

وفي لفظ: ويُقاتل غضبًا. فمن في سبيل اللَّه؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، فهو في سبيل اللَّه"

(3)

.

الستون: حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "ما من غازية أو سرية تغزو فتغنيم وتسلم إلَّا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سريَّة تخفق وتصاب إلا تم أجورهم"

(4)

. أخرجه مسلم.

الحادي بعده: حديث أبي أمامة: أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه ائذن لي في السياحة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللَّه"

(5)

. رواه أبو داود بإسناد جيد.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2839) كتاب الجهاد والسير، 35 - باب من حبسه العذر عن الغزو.

(2)

أي ليذكره الناس بالشجاعة وهو بكسر الذال.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2810) كتاب الجهاد والسير، 15 - باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا. ورقم (7458) كتاب التوحيد، 28 - باب قوله تعالى {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} [الصافات: 171]، ومسلم في صحيحه [149 - (1904)]، (150) كتاب الإمارة، 42 - باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه. والترمذي (1646)، والنسائي (6/ 23 - المجتبى) وابن ماجه (2783)، وأحمد في مسنده (4/ 392، 397)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 168، 167) والحاكم في المستدرك (2/ 109)، وعبد الرزاق في مصنفه (9567)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 296).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [153 - (1906)]، (154) كتاب الإمارة، 44 - باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم، وأبو داود (2497)، وأحمد في مسنده (2/ 169)، الحاكم في المستدرك (2/ 78)، والنسائي (6/ 18 - المجتبى) وابن ماجه في سننه (2785)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 169) والقرطبي في تفسيره (5/ 277).

(5)

أخرجه أبو داود (2486) كتاب الجهاد باب في النهي عن السياحة. والبيهقي في السنن الكبرى =

ص: 321

الثاني بعده: حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "قفلة كغزوة"

(1)

.

رواه أبو داود بإسناد جيد.

والقفلة: الرجوع من الغزو بعد فراغه.

ومعناه أنه يثاب في رجوعه أيضًا.

الثالث بعده: حديث السائب بن زيد قال: لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تلقاه الناس تلقية مع الصبيان على ثنية الوداع"

(2)

. رواه أبو داود بإسناد صحيح كذلك.

والبخاري قال: "ذهبنا نتلقى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع"

(3)

.

الرابع بعده: حديث أبي أمامة مرفوعًا: "من لم يغز أو يُجهِّز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه اللَّه بقارعة" قال يزيد بن عبد ربه في حديثه: "قبل يوم القيامة".

رواه أبو داود

(4)

بإسناد صحيح.

والقارعة تكون في النفس أو المال دون الإيمان وإلَّا فما أشده.

الخامس بعده: حديث أنس مرفوعًا: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"

(5)

.

= (9/ 161)، والحاكم في المستدرك (2/ 73، 497)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 216)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 443) والتبريزي في مشكاة المصابيح (124)، وابن المبارك في الزهد (290)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (3/ 41)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 282).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2487) كتاب الجهاد، باب في فضل القفل في سبيل اللَّه تعالى. وأحمد في مسنده (2/ 174)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 28)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 169)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3841)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/ 270).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (2779) - كتاب الجهاد، باب في التلقي.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3083) كتاب الجهاد والسير، 196 - باب استقبال الغزاة. ورقم (4426) كتاب المغازي، 84 - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكذا رقم (4427) به.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2503) كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو. وابن ماجه في سننه (2762)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 48)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 211)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3820)، والدارمي في السنن (2/ 209)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 247).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (2504) كتاب الجهاد، باب كراهية ترك الغزو والنسائي (6/ 7 - =

ص: 322

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

السادس بعده: حديث النعمان بن مقرن قال: شهدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل من أول النهار أخَّرَ القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر"

(1)

.

رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.

وقوله: وينزل النصر. فيه إشعار بشيوعه بينهم.

السابع بعده: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم صابروا واصبروا"

(2)

. أخرجاه.

وقال تعالى: {وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128].

الثامن بعده: عنه وعن جابر مرفوعًا: "الحرب خدعة"

(3)

أخرجاه. فرب حيلة أدفع من قبيلة.

= المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 124، 251)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 20)، والحاكم في المستدرك (2/ 81) وابن حبان في صحيحه (1618 - الموارد)، والدارمي في سننه (2/ 213)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 233)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 206)، والقرطبي في تفسيره (8/ 153).

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2655) كتاب الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء والترمذي في سننه (1613) كتاب السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3026) كتاب الجهاد والسير، 156 - باب لا تتمنوا لقاء العدو. ومسلم في صحيحه [19 - (1741)] كتاب الجهاد والسير، 6 - باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء وأبو داود (2631) كتاب الجهاد، باب في كراهية تمني لقاء العدو، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 152، 76)، والحاكم في المستدرك (2/ 78) وعبد الرزاق في مصنفه (9513، 9518) والسيوطي في الدر المنثور (3/ 189).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3030) كتاب الجهاد والسير، 157 - باب الحرب خدعة ومسلم في صحيحه 171 - (1739)، كتاب الجهاد والسير، 5 - باب جواز الخداع في الحرب. وأبو داود في سننه (2636) كتاب الجهاد، باب المكر في الحرب. والترمذي في سننه (1675) كتاب الجهاد، باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب. وابن ماجه في سننه (2833، 2834)، وأحمد في مسنده (1/ 90، 2/ 312)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 40، 9/ 150)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 247)، وابن أبي شيبة في مصنفه (12/ 529، 14/ 424)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 83، 5/ 149)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 320)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3939).

ص: 323

‌فصل في بيان جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة ويغسَّلون ويصلى عليهم بخلاف القتيل في حرب الكفار

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الشهداء خمسة، المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل اللَّه"

(1)

. أخرجاه.

وروينا من حديثه أيضًا مرفوعًا

(2)

: "ما تعدون الشهداء فيكم"

قالوا: يا رسول اللَّه من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد.

قال: "إن شهداء أمتي إذًا لقليل".

قالوا: فمن هم يا رسول اللَّه.

قال: "من قتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد"

(3)

. أخرجه مسلم.

وروينا من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعا: "من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد، أخرجاه

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2829) كتاب الجهاد والسير، 30 - باب الشهادة سبع سوى القتل. ومسلم في صحيحه [165 - (1915)] كتاب الإمارة، 51 - باب بيان الشهداء والترمذي في سننه (1063)، وأحمد في مسنده (2/ 335، 533)، ومالك في الموطأ (131)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 332)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1546).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [165 - (1915)] كتاب الإمارة، 51 - باب بيان الشهداء وأحمد في مسنده (4/ 201، 5/ 313)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 86)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 87)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 300، 301).

(3)

أما المطعون فهو الذي يموت في الطاعون، وأما المبطون فهو صاحب داء البطن وهو الإسهال. قال القاضي: وقيل هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن، وقيل: هو الذي تشتكي بطنه، وقيل هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا. وأما الغرق فهو الذي يموت غريقا في الماء، وصاحب الهدم من يموت تحته وصاحب ذات الجنب معروف وهي قرحة تكون في الجنب باطنًا والحريق الذي يموت بحريق النار، وأما المرأة تموت بجمع قيل: التي تموت حاملًا جامعة ولدها في بطنها، وقيل هي البكر والصحيح الأول. [النووي في شرح مسلم (13/ 54) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3/ 179) ومسلم في صحيحه [226 - (141)] كتاب الإيمان، 62 - باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد وأبو داود في سننه (4772) كتاب الأدب، باب في قتال اللصوص. والترمذي (1418، 1419) كتاب الديات باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد.

ص: 324

وروينا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل مرفوعًا: "من قُتل دون ماله شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل أهله فهو شهيد".

أخرجه أبو داود

(1)

، والترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي

(2)

؟

قال: "فلا تعطه مالك".

قال: أرأيت إن قاتلني؟

قال: "قاتله".

قال: أرأيت إن قتلني؟

قال: "فأنت شهيد".

قال: أرأيت إن قتلته؟

قال: "هو في النار"

(3)

.

أخرجه مسلم

(4)

.

ولنذكر من الحكايات ما يتعلق بذلك:

الأولى: عن عبد الواحد بن زيد قال: بينما نحن ذات يوم في مجلسنا هذا قد

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4772) كتاب الأدب، باب في ققال اللصوص. والترمذي (1421) كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد. والنسائي (7/ 116) المجتبى، وأحمد في مسنده (1/ 190)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 339).

(2)

قال النووي: أحكام الباب فيه جواز قتل للقاصد لأخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا لعموم الحديث وهذا قول الجماهير من العلماء، وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئًا يسيرًا كالثوب والطعام، وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير، وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف وفي المدافعة عن النفى بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا، والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (2/ 140، 141) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

معناه أنه يستحق ذلك وقد يجازى وقد يعفي عنه إلا أن يكون مستحلا لذلك بغير تأويل فإنه يكفر ولا يعفى عنه واللَّه أعلم.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [225 - (140)] كتاب الإيمان، 62 - باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار وأن من قتل دون ماله فهو شهيد. والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 266) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 340) والتبريزي في مشكاة المصابيح (3512).

ص: 325

تهيأنا للخروج للغزو وقد أمرت أصحابي أن يتهيأوا لقراءة آيتين.

فقال رجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية

(1)

.

فقال غلام في مقدار خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، وقد مات أبوه، وورَّثه مالًا كثيرًا، فقال: يا عبد الواحد {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الآية.

فقلت: نعم حبيبي.

فقال: إني اشهدك أني قد بعت نفسي ومالي بأن لي الجنة.

فقلت له: إن السيف أشد من ذلك، وأنت صبي، وأنا خائف ألا تصبر وتعجز عن ذلك.

فقال: يا عبد اللَّه أُبايع اللَّه بالجنة، ثم أعجز أنا، أُشهد اللَّه أني قد بايعته، أو كما قال عبد الواحد، فتقاصرت إلينا أنفسنا وقلنا: صبي يعقد ونحن لا نعقد.

فخرج من ماله كله، وتصدق به إلَّا فرسه وسلاحه ونفقته.

فلما كان يوم الخروج كان أول من طلع علينا.

فقال: السلام عليك يا عبد الواحد.

فقلت: وعليك السلام، ربح البيع.

ثم سرنا وهو معنا يصوم النهار، ويقوم الليل ويخدمنا ويخدم دوابنا، ويحرسنا إذا نمنا حتى انتهينا إلى دار الروم.

فبينما نحن كذلك إذا به قد أقبل وهو ينادي: واشوقاه إلى العناية العيناء المرضية.

فقال أصحابي: لعله وَسْوَس هذا الغلام فاختبط عقله.

فقلت: حبيبي وما هذه العناية العيناء المرضية؟

فقال: إني غفوت غفوة فرأيت كأنه أتاني آت فقال: اذهب إلى العناية المرضية.

فهُجم بي إلى روضة فيها نهر من ماء غير آسن فإذا على شط النهر جوار عليهم من الحُلي والحُلل ما لا أقدر أن أصفه.

فلما رأينني استبشرن وقلن: هذا زوج العيناء المرضية.

(1)

سورة التوبة (111).

يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له، ولهذا قال الحسن البصري وقتادة بايعهم اللَّه فأغلى ثمنهم. تفسير ابن كثير (2/ 399).

ص: 326

فقلت: السلام عليكن أفيكن العيناء المرضية.

قلن: نحن خدمها وإماؤها، امض أمامك.

فمضيت أمامي فإذا أنا بنهر من لبن لم يتغير طعمه في روضة فيها من كل زينة، فيها جوار، لما رأيتهن افتتنت بحسنهن وجمالهن، فلما رأينني استبشرن وقلن: هذا زوج العيناء المرضية.

فقلن وعليك السلام يا وليّ الرحمن، قد دَنَا لك القدوم علينا.

فذهبت لأعتنقها فقالت: مهلًا فإنه لم يكن لك أن تعانقني لأن فيك روح الحياة، وأنت تفطر الليلة عندنا إن شاء اللَّه تعالى.

فانتبهت يا عبد الواحد، ولا صبر لي عنها.

قال عبد الواحد:

(1)

فما انقطع كلامنا حتى ارتفعت لنا سرية من العدو فحمل الغلام فعددت تسعة من العدو قتلهم، وكان هو العاشر.

فمررت به وهو يتشحط في دمه، ويضحك ملئ فيه، حتى فارق الدنيا.

وللَّه در القائل:

يا من يعانق دنيا لا بقاء لها

يمسي ويصبح مغرورًا وعزارا

هلا تركت في الدنيا معانقة

حتى تعانق في الفردوس أبكارا

إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها

فينبغي لك أن لا تأمن النارا

الثانية: عن أبي قُدامة الشامي رحمه الله قال: كنت أميرًا على جيش في بعض الغزوات فدخلت بعض البلاد فدعوت الناس إلى الغزو ورغبتهم في الثواب.

وذكرت فضل الشهادة

(2)

وما لأهلها.

ثم نفرت الناس فركبت فرسي وسرت إلى منزلي فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس تنادي يا أبا قدامة.

(1)

عبد الواحد بن زيد، أبو عبيدة البصري، العابد، القدوة، شيخ الصوية بالبصرة، روى عن الحسن وعطاء بن أبي رباح وعبادة بن نسي وعبد اللَّه بن راشد وجماعة سواهم، وعنه وكيع ومحمد بن السماك وزيد بن الحباب وأبو سليمان الداراني ومسلم بن إبراهيم وجماعة، وهو ضعيف الحديث، وقال البخاري: عبد الواحد بن زيد تركوه وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان فكثرت المناكير في حديثه، توفي سنة (150) تاريخ الإسلام وفيات (141 - 150).

(2)

قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].

ص: 327

قلت: هذه مكيدة من الشيطان، فمضيت ولم أجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون، فوقفت.

فجاءت فدفعت إليَّ رقعة وخرقة مدودة وانصرفت باكية.

فنظرت في الرقعة، فإذا هي مكتوب إنك دعوتنا إلى الجهاد، ورغبتنا في الثواب ولا قُدرة لي على ذلك، فقطعت أحسن ما في ضفيرتاي، فأنفذتها إليك لتعملها قيد فرسك لعل اللَّه يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.

فلما كانت صبيحة القتال، أخرجت الضفيرة فقيدت بها فرسي، وباكرنا الققال، فإذا بغلام يقاتل بين يدي الصفوف.

فتقدمت إليه وقلت: أنت يا فتى غلام غرّ راجل ولا آمن عليك أن تجول عليك الخيل بأرجلها، فارجع عن موضعك هذا.

فقال: أتامرني بالرجوع وقد قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}

(1)

.

فحملته على هجين كان معي.

فقال: يا أبا قدامة أقرضني ثلاثة أسهم.

فقلت: أهذا وقت القرض.

فما زال يلح على حتى قلت بشرط إن مَنَّ اللَّه عليك بالشهادة أكون في شفاعتك.

قال: نعم.

فأعطيته ثلاثة أسهم، فوضع سهمًا في قوسه وقال: السلام عليك يا أبا قدامة، فقتل روميًا، ثم رمى آخر فقال: السلام عليك سلام مودع.

فجاءه سهم، فوقع في عينه، فوضع رأسه على قربوس دابته.

فتقدمت إليه، فقلت: لا تنس.

فقال: نعم، ولكن لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فآت والدتي، فسلِّم عليها

(1)

سورة الأنفال (15).

يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] أي تفروا وتتركوا أصحابكم، {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16] أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك. تفسير ابن كثير (2/ 300).

ص: 328

وسلِّم خُرجي

(1)

إليها.

وأخبرها بأمري، فهي التي أعطتك. شعرها لتقيد به فرسك فإنها في العام الأول أُصيبت بوالدي، وفي هذا العام أُصيبت بي، ثم مات، فحفرت له ودفنته.

فلما هممت بالانصراف عن قبره، قذفته الأرض وألقته على ظهرها.

فقال أصحابي إنه غلام سوء، ولعله خرج بغير إذن أمه.

فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شرّ منه.

فقمت وصليت ركعتين، فسمعت قائلًا يقول: يا أبا قدامة اترك وفي اللَّه.

فما برحت حتى نزلت طيور فأكلته.

فلما أتيت المدينة أتيت دار والدته، فقرعت الباب، فخرجت إليَّ أخته.

فلما رأتني نادت وقالت: يا أماه، هذا أبو قدامة ليس أخي معه.

فخرجت أمه فقالت: أمُعزيًا أم مُهنئًا؟

فقلت: ما معنى هذا؟

فقالت: إن كان مات فعزني وإن كان استشهد فهنيني.

فقلت: لا بل مات شهيدًا.

فقالت: له علامة، فهل رأيتها؟

قلت: نعم، لم تقبله الأرض، ونزلت طيور فأكلت لحمه وتركت عظامه فدفنتها.

فقالت: الحمد للَّه، فسلَّمت الخُرج إليها.

ففتحته وأخرجت منه مسحا

(2)

وغِلَّا من حديد.

وقالت: إنه كان إذا جنَّه الليل، لبس هذا المِسح وغَلَّ روحه وناجا مولاه وقال في مناجاته: يا مولاي احشرني في حواصل الطيور، فقد استجاب اللَّه دعاءه.

الثالثة: عن بعضهم قال: كنت في بلاد الروم فصحبنا رجل فرأيناه لا يأكل ولا يشرب فقلت له: ما رأيتك تأكل شيئًا من القوت منذ أحد عشر يومًا.

فقال: إذًا دنا فراقي منك حدثتك حديثي.

فلما دنا الفراق قلت له: حدثنا ما وعدتنا.

(1)

الخُرْج: وعاء من شعر أو جلد ذو عدلين، يحمل على ظهر الدابة لوضع الأمتعة فيه. جمعها: خِرَجة، وأخراج.

(2)

المسح: الكساء من شعر. وثوب الراهب جمعها: أمساح، ومُسُوح.

ص: 329

قال: غزوت في أربعمائة، فخرج علينا العدو فقتل أصحابنا وخرجت أنا، فكنت بين القتلى فلما كان وقت الغروب، حسست رائحة من قبل الجو، ففتحت عيني فإذا بجوار عليهن ثياب ما رأيت مثلها.

وفي أيديهن كاسات يَصُبن في أفواه القتلى فغمضت عيني حتى وصلن إليَّ.

فقالت واحدة منهن: اصببن في حلق هذا وعجِّلن قبل أن تغلق أبواب السماء، فنبقى في الأرض.

فقالت أخرى: أسقيه وفيه رمق؟

فقالت لها: لا بأس عليك يا أختي، فصبَّت في حلقي.

فأنا منذ شربت ذلك الشراب لا أحتاج الطعام والشراب رحمه الله ونفعنا به.

وأنشدوا في هذا المعنى:

عذرتك إذ للعزّ حلت هوانا

لأنك لم تسلك طريق هوانا

تركي (الرى)

(1)

بفتى اشتغالا بصده

فاذهب عنا جوعنا وظمانا

فليس لنا في الكون أن نخشى الظمأ

ومحبوبنا بكأس الوصال سقانا

(1)

كذا بالأصل.

ص: 330

‌مجلس في وجوب الزكاة وبيان فضلها وما يتعلق بها

قال تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(1)

.

وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}

(2)

.

وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}

(3)

.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان". أخرجاه

(4)

.

(1)

سورة الحج (78)، المجادلة (13).

(2)

سورة البينة (5).

{حُنَفَاءَ} أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} وهي أشرف عبادات البدن {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج، {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة، وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان تفسير ابن كثير (4/ 537).

(3)

سورة التوبة (103).

أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا احتجوا بقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق: واللَّه لو منعوني عناقًا -وفي رواية عقالًا-كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه. تفسير ابن كثير (2/ 294).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (8) كتاب الإيمان، 2 - باب دعاؤكم إيمانكم لقوله تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، ورقم (4514) كتاب تفسير القرآن، من سورة البقرة، 30 - باب {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} .

ومسلم في صحيحه [21 - (16)] كتاب الإيمان 5 - باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام. والترمذي (2609)، وأحمد في مسنده (2/ 21، 93/ 120)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 358) والطبراني في المعجم الكبير (2/ 371، 12/ 174)، وابن خزيمة في صحيحه (308، 309).

ص: 331

وروينا من حديث طلحة بن عبيد اللَّه قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس يسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خَمس صلوات في اليوم والليلة".

قال: هل عليَّ غيرهن؟

قال: "لا إلَّا أن تطوع".

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "وصيام شهر رمضان".

قال: هل عليَّ غيره؟

قال: "لا إلَّا أن تطوع"

(1)

.

قال: وذكر له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الزكاة.

فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا إلَّا أن تطوع".

فأدبر الرجل وهو يقول: واللَّه لا أزيد على هذا ولا أنقص.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أفلح

(2)

إن صدق"

(3)

. أخرجاه.

وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه

(1)

قال أصحابنا وغيرهم من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم "إلَّا أن تطوع" استثناء منقطع، ومعناه لكن يستحب لك أن تطوع، وجعله بعض العلماء استثناء متصلا واستدلوا به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم وجب عليه إتمامه ومذهبنا أنه يستحب الإتمام ولا يجب واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (1/ 149) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

(أفلح إن صدق) قيل: هذا الفلاح راجع إلى قولها "لا أنقص خاصة، والأظهر أنه عائد إلى المجموع بمعنى أنه إذا لم يزد ولم ينقص كان مفلح وليس في هذا أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحا لأن هذا مما يعرف بالضرورة، فإنه إذ أفلح بالواجب، فلأن يفلح بالواجب والمندوب أولى [النووي في شرح مسلم (1/ 149، 150) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (46) كتاب الإيمان، 35 - باب الزكاة من الإسلام ورقم (1891) كتاب الصوم، 1 - باب وجوب صوم رمضان ورقم (2678) كتاب الشهادات، 26 - باب كيف يستحلف ورقم (6956) كتاب الحيل، 3 - باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ومسلم في صحيحة [8 - (11)]، (9) كتاب الإيمان، 2 - باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، وأبو داود (392، 3252)، والنسائي (1/ 228، 8/ 119 - المجتبى)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 466، 4/ 201).

ص: 332

افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتُرد على فقرائهم"

(1)

أخرجاه.

وروينا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلَّا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على اللَّه"

(2)

أخرجاه.

وروينا من حديث أبي هريرة قال: لما توفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب

(3)

.

فقال عمر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فمن قالها عَصم مني ماله ونفسه إلَّا بحقه وحسابه على اللَّه".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1395) كتاب الزكاة، 1 - باب وجوب الزكاة ورقم (1458) كتاب الزكاة، 43 - باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة ورقم (1496) كتاب الزكاة، 65 - باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا ورقم (4347) كتاب المغازي، 62 - باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ورقم (7372) كتاب التوحيد، 1 - باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد اللَّه تبارك وتعالى. ومسلم في صحيحه [29 - (19)] كتاب الإيمان 7 - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (25) كتاب الإيمان، 17 - باب "فإذا ثابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم" ومسلم في صحيحه [34 - (21)] كتاب الإيمان، 8 - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.

والترمذي في سننه (260، 2606)(2608، 3341)، والنسائي (5/ 14، 6، 6/ 4 - المجتبى)، وابن ماجه (71، 72، 3927)، وأحمد في مسنده (2/ 345، 423)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 84، 2/ 3)، والحاكم في المستدرك (1/ 378، 386)، وابن خزيمة (2247)، والطبراني في المعجم الكبير (2/ 347، 6/ 161)، وعبد الرزاق في مصنفه (6916، 10020)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 137) وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 159).

(3)

قال الخطابي رحمه الله: أهل الرِّدة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابزوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بنى حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبه من أهل اليمن وغيرهم وهذه الفرقة بأسرها منكره لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر حتى قتل اللَّه مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين والصنف الأخر هم الذين في فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة وواجب أدائها إلى الإمام، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصًا لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة [النووي في شرح مسلم (1/ 180) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 333

فقال: واللَّه لأُقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، واللَّه لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.

قال عمر: فواللَّه ما هو إلَّا أن رأيت أن اللَّه قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. أخرجاه

(1)

.

وروينا من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلًا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟

قال: "تعبد اللَّه لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" أخرجاه

(2)

.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة.

قال: "تعبد اللَّه لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان".

قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئًا.

فلما ولَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا"

(3)

. أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1399) كتاب الزكاة، 1 - باب وجوب الزكاة ورقم (1456، 1457) 42 - باب أخذ العناق في الصدقة ورقم (6924، 6925) كتاب استتابه المرتدين والمعاندين وقتالهم، 3 - باب قتل من أبي قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة. ورقم (7284، 7285) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، 2 - باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ومسلم في صحيحه [32 - (20)] كتاب الإيمان، 8 - باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وأبو داود (1556، 2640)، الترمذي (2606، 2607)، وابن ماجه (3927، 3928)، وأحمد في مسنده (1/ 11، 19، 35).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1396) كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة ورقم (5983) كتاب الأدب، 10 - باب فضل صلة الرحم. ومسلم في صحيحه [12 - (13)] كتاب الإيمان 4 - باب بيان الإيمان الذي به بدخل الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "تعبد اللَّه لا تشرك به شيئًا": أما العبادة في الطاعة مع خضوع فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة اللَّه تعالى والإقرار بوحدانيته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة والصوم والزكاة عليها لإدخالها في الإسلام وقوله جمع "وتصل الرحم" أي تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق وسلام أو زيارة أو طاعتهم أو غير ذلك. [النووي في شرح مسلم (1/ 145، 155) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

خرجه البخاري في صحيحه (1397) كتاب الزكاة، 1 - باب وجوب الزكاة ومسلم في صحيحه [15 - (14)] كتاب الإيمان 4 - باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما =

ص: 334

وروينا من حديث جرير رضي الله عنهما قال: "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم"

(1)

أخرجاه أيضًا

(2)

.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلَّا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".

قيل يا رسول اللَّه فالإبل، (وعبدها ووعيد لها)

(3)

البقر والغنم.

قيل: يا رسول اللَّه فالخيل، قال: "ما أنزل عليَّ فيها إلَّا هذه الآية الفاذَّة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} وأخرجاه

(4)

، والسياق لمسلم.

= أمر به دخل الجنة. وأحمد في مسنده (2/ 343، 367)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 294)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 3، 4).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1401) كتاب الزكاة، 2 - باب البيعة على إيتاء الزكاة ومسلم في صحيحه [97 - (56)] كتاب الإيمان، 23 - باب بيان أن الدين النصيحة قال النووي: وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين، وهما أهم الإسلام بعد الشهادتين وأظهرها، ولم يذكرا الصوم وغيره لدخولها في السمع والطاعة.

(2)

في الحديث منقبة ومكرمة لجرير رضي الله عنه رواها الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده اختصارها أن جريرا أمر مولاه أن يشتري له فرسا، فاشترى له فرسا بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلاثمائة درهم، أتبيعه بأربعمائة درهم، قال: ذلك إليك يا أبا عبد اللَّه، فقال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائه درهم، ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضي وجرير يقول: فرسك خير إلى أن يبلغ ثمانمائة درهم، فاشتراه بها فقيل له في ذلك فقال: إني بايعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (2/ 35) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

كذا بالأصل وأظنها "وعددها وعدد معها البقر والغنم وفي الصحيحين ذكر طائفة على هنا ولكن المصنف اختصرها.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1402) كتاب الزكاة، 3 - باب إثم مانع الزكاة وقول اللَّه تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} . ومسلم في صحيحه [24 - (987)] كتاب الزكاة، 6 - باب إثم مانع الزكاة والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 82، 119) والسيوطي في الدر المنثور (3/ 233)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1773)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 536) والشجري في أماليه (2/ 186)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 149).

ص: 335

‌مجلس في وجوب صوم رمضان وبيان فضل الصيام وما يتعلق به

قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}

(1)

.

إلى قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}

(2)

.

وهي دالة على الإيجاب من كتب عليكم، وعلى فضله باعتبار غايته المرجوة من قوله:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. وبكونه هدى أو أنزل فيه هدى.

وقد سلفت الأحاديث في الزكاة

(3)

الدالة على أنه أحد مباني الإسلام، أو أحد أجزاء الأركان ونحو ذلك.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه تعالى: كل عمل ابن آدم له إلَّا الصيام

(4)

فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم

(1)

سورة البقرة (183) يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنيةٍ خالصة للَّه عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك. تفسير ابن كثير (1/ 213).

(2)

سورة البقرة (185).

(3)

الزكاة هي في اللغة النماء والتطهير، فالمال ينمى بها من حيث لا يرى وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند اللَّه تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها وقيل: لأنها تزكى صاحبها وتشهد بصحة إيمانه قالوا: وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه. قال القاضي: قال المازري رحمه الله: قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال الثابته وهي العين والزرع والماشية. [النووي في شرح مسلم (7/ 42، 43) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات للَّه تعالى فقيل: سبب إضافته إلى اللَّه تعالى أنه لم يعبد أحد غير اللَّه تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من العصور معبودا لهم بالصيام وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ. [النووي في شرح مسلم (8/ 24) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 336

صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سَابَّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم.

والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك.

للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه"

(1)

.

أخرجاه، والسياق للبخاري.

وفي رواية له: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، الحسنة بعشرة أمثالها"

(2)

.

ولمسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللَّه عز وجل: إلَّا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلُوف فِيه أطيب عند اللَّه من ريح المسك"

(3)

.

وقد ذكر العلماء في معنى قوله: "إلَّا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" أقوالًا كثيرة:

ذكر منها أبو الخير الطالقاني في كتابه حظائر القدس زيادة على ستين قولًا، ومن أحسنها قولان: أحدهما: أن الصوم لم يُعبد به غيره، فلذلك اختص بهذا الفضل.

وثانيهما: أنه لا يطلع عليه أحد من الخلق، بخلاف غيره من العبادات.

وقوله: "جُنَّة"

(4)

أي حاجز بين الإسلام، وبين مهالكه ومؤذياته.

وفي الرواية الثانية: إشعار بمعنى الصوم، أي لا شهوة للعبد فيه برياء ولا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1904) كتاب الصوم، 9 - باب هل يقول إنى صائم إذا شُتِم. ومسلم في صحيحه [163 - (1151)] كتاب الصيام، 30 - باب فضل الصيام. وأحمد في مسنده (3/ 273)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 270)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 188، 189)، وعبد الرزاق في مصنفه (7891)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 179، 2/ 79).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1894) كتاب الصوم، 2 - باب فضل الصوم.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [64 - (1151)] كتاب الصيام، 30 - باب فضل الصيام وابن ماجه في سننه (1638، 3823)،- وأحمد في مسنده (2/ 443، 477)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 273، 304)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 5)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1959)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 81)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 369)، وابن كثير في تفسيره (1/ 468).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم "الصيام جُنَّة" هو يضم الجيم، ومعناه ستره ومانع من الرفث والآثام، ومانع أيضا من النار، ومنه المجن وهو الترس، منه الجن لاستتارهم.

ص: 337

غيره، بل هو ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل اللَّه.

وفي الثالثة: تبيين ما أبهمته الحسنة بعشر أمثالها، وإيضاح أن الصوم بغير حساب الحسنات ولو ضُوعفت سبعمائة ضعف

(1)

.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أيضًا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل اللَّه

(2)

، نودي من أبواب الجنة: يا عبد اللَّه هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة" قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبى أنت وأمي يا رسول اللَّه ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟

قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم"

(3)

.

وفيه فضل ظاهر على الصيام، فإنه قبل دخولهم من باب الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم.

فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد.

وهذا تخصيص باهر.

(1)

قوله تعالى "وأنا أجزي به" قيل معناه أنا المنفرد بعلم مقدار ثوابه أو تضعيف حسناته وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها، وقيل: هي إضافة تشريف كقوله تعالى {نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73] مع أن العالم كله للَّه تعالى وفي هذا الحديث بيان عظم فضل الصوم والحث إليه وقوله تعالى "وأنا أجزي به" بيان لعظم فضله وكثرة ثوابه لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء [النووي في شرح مسلم (8/ 25) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

قال القاضى عياض: قال الهروى في تفسير هذا الحديث: قيل وما زوجان، قال: فرسان أو عبدان أو بعيران، وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، يقال زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيرًا ببعير، وقيل: درهم ودينار أو درهم وثوب، قال: والزوج يقع على الاثنين ويقع على الواحد، وقيل إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر. [النووي في شرح مسلم (7/ 102، 103) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1897) كتاب الصوم، 4 - باب الريان للصائمين ورقم (2841) كتاب الجهاد والسير، 37 - باب فضل النفقة في سبيل اللَّه. ورقم (3216) كتاب بدء الخلق، 6 - باب ذكر الملائكة صلوات اللَّه عليهم ورقم (3666) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلا" ومسلم [85 - (1027)]، (86)، كتاب الزكاة، 27 - باب من جمع الصدقة وأعمال البر والترمذي (3674)، والنسائي (4/ 168 - المجتبى) وأحمد في مسنده (4/ 386)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 171)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 77).

ص: 338

وروينا فيهما أيضا من حديث أبي سعيد مرفوعًا:

(1)

"ما من عبد يصوم يومًا في سبيل اللَّه إلَّا باعد اللَّه بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا"

(2)

.

وسبيل اللَّه يحتمل الجهاد، ويحتمل مرضاته، ومباعدة صائم يوم واحد عن النار سبعين خريفًا يوضح أن سبعمائة ضعف بالنسبة إليه.

فإن الحسنة عشر عشر سبع المضاعفة، فاليوم سدس سدس عشر سبع السبعين خريفًا.

وروينا فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"

(3)

.

وهو يجري مجرى ذكر السبب في تلك المباعدة العظيمة.

وقوله: "إيمانًا واحتسابًا" وإن كان شرطًا في كل جزء، لكن ذكره كالمُنوه بعلو درجة ما جاء به حتى جوزي بذلك، وهو من نسبة الصوم "وأنا أجزي به" يدع كذا وكذا من أجلي.

وروينا فيهما أيضًا من حديثه مرفوعًا: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2840) كتاب الجهاد والسير، 36 - باب فضل الصوم في سبيل اللَّه. ومسلم في صحيحه [167 - (1153)] كتاب الصيام، 31 - باب فضل الصيام في سبيل اللَّه لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق والنسائي (4/ 173 - المجتبى)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 86، 266)، والدارمي في سننه (2/ 203)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 253)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 182، 682).

(2)

فيه فضيلة الصيام في سبيل اللَّه وهو محمول على من لا يتضرر به ولا يفوت به حقًا ولا يختل به ققاله ولا غيره من مهمات غزوه ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها والخريف السنة، والمراد سبعين سنة [النووي في شرح مسلم (8/ 27) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (38) كتاب الإيمان، 29 - باب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان. رقم (1901) كتاب الصوم، 6 - باب من صام رمضان إيمانا واحتسابًا ونية ورقم (2008، 2009) كتاب صلاة التراويح، 1 - باب فضل من قام رمضان ورقم (2014) كتاب فضل ليلة القدر، 1 - باب فضل ليلة القدر. ومسلم في صحيحه [175 - (760)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 25 - باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح. والنسائي (4/ 156، 157 - المجتبى)، ابن ماجه (1641)، وأحمد في مسنده (2/ 233).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1898 - 1899) كتاب الصوم، 5 - باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان. ورقم (3277) كتاب بدء الخلق، 1 - باب صفة إبليس وجنوده ومسلم في صحيحه [1 - (1079)] كتاب الصيام، 1 - باب فضل شهر رمضان وأحمد في مسنده (2/ 357)، والبيهقي في =

ص: 339

وما أعظم ذلك من فضل إذ فيه تفتح أبواب الرحمة، وتغلق فيه أبواب الغضب، ويحبس فيه أهل الإضلال والأهواء.

وروينا فيهما عنه مرفوعًا: والسياق للبخاري "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّي عليكم، فأكملوا عدة شعبان"

(1)

.

وفي رواية مسلم: "فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا"

(2)

.

وهو جامع لسبب الوجوب من رؤية، أو عدد والفطر لرؤية أو كماله.

‌فصل في الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذلك في العشر الأواخر منه

روينا في الصحيحين

(3)

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة".

وروينا فيهما أيضًا من حديث عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر

= السنن الكبرى (4/ 303، 202)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 97)، والشجري في أماليه (2/ 40)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 186).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1909) كتاب الصوم، 11 - باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا" ومسلم في صحيحه [18 - (1081)]، (19، 20) كتاب الصيام، 2 - باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوما والترمذي (684، 688)، والنسائي (4/ 133، 135 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (1/ 226، 258) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 205، 206)، والشجري في أماليه (2/ 35، 44)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 352).

(2)

مسلم في صحيحه [17 - (1081)] كتاب الصيام، 2 - باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6) كتاب بدء الوحي، ورقم (1902) كتاب الصوم 7 - باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان. ورقم (3220) كتاب بدء الخلق، 6 - باب ذكر الملائكة صلوات اللَّه عليهم. ورقم (3554) كتاب المناقب، 23 - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ورقم (4997) كتاب فضائل القرآن، 7 - باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم في صحيحه [50 - (2308)] كتاب الفضائل، 12 - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة وأحمد في مسنده (1/ 363)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 305)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 110)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 102)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2098).

ص: 340

أحيى الليل وأيقظ الأهل، وشدَّ المئزر"

(1)

. وهو كناية عن شدة الاجتهاد.

‌فصل في النهي عن تقدم رمضان بصوم بعد نصف شعبان إلَّا لمن وصله بما قبله

أو وافق عادة له بأن كان عادته صوم الاثنين والخميس فوافقه.

روينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين

(2)

إلَّا أن يكون رجل كان يوم صومه، فليصم ذلك اليوم"

(3)

.

وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حالت دونه غياية، فأكملوا ثلاثين يومًا"

(4)

.

أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.

والغياية

(5)

: بغين معجمة، ثم مثناة مكررة: السحابة.

وروينا فيه أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2024) كتاب فضائل ليلة القدر، 5 - باب العمل في العشر الأواخر من رمضان. ومسلم في صحيحه [7 - (1174)] كتاب الاعتكاف، 3 - باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان، والنسائي (3/ 218 - المجتببى) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 313) وابن أبي شيبة (2/ 512)، وعبد الرزاق في مصنفه (7702، 7704).

(2)

فيه التصريح بالنهى عن استقبال رمضان بصوم يوم ويومين لمن يصادف عادة له أو يصله بما قبله، فإن لم يصله ولا صادف عادة فهو حرام هذا هو الصحيح في مذهبنا بهذا الحديث. [النووي في شرح مسلم (7/ 169، 170) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1914) كتاب الصوم، 14 - باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين ومسلم في صحيحه [21 - (1582)] كتاب الصيام، 3 - باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 207)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1973).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (688) كتاب الصوم، باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له. وأخرجه أيضا: أبو داود (2327) كتاب الصوم، باب من قال فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين، والنسائي (4/ 136) المجتبى كتاب الصيام 12 - ذكر الاختلاف على عمرو بن دينار في حديث ابن عباس فيه.

(5)

غياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها.

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (738) كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان. وأبو داود في سننه (2337) كتاب الصوم، باب في كراهية ذلك قال =

ص: 341

ثم قال: حسن صحيح.

وروينا فيه أيضًا وقال: حسن صحيح.

وفي أبي داود من حديث عمَّار قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

والحديث الأول مقيد للنهي، والثانى مطلق، والثالث مقيد لهذا الإطلاق.

وأن المراد إذا بقي نصف شعبان لا ما قبله.

والرابع: مقيد لمن صام يوم الشك

(2)

هو وإن تقدما بيوم، لكن قد يقال: قدمن رمضان ولا يقدم فاحتيج إلى السبب عليه بخصوصه.

‌فصل في فضل السحور وتأخيره ما لم يخشى طلوع الفجر

وروينا في الصحيحين من حديث أنس مرفوعًا: "تسحروا فإن في السحور بركة"

(3)

.

وروينا فيهما أيضًا من حديث زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم

= الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ، ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم، أن يكون الرجل مفطرا، فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2334) كتاب الصوم، باب كراهية صوم يوم الشك الترمذي في سننه (686) كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك والنسائي (4/ 153 - المجتبى) كتاب الصيام، باب صيام يوم الشك. وابن ماجه في سننه (1645)، والدارقطني في سننه (2/ 157)، والألباني في إرواء الغليل (4/ 125).

(2)

والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد اللَّه بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يُشك فيه، ورأى أكثرهم إن صامه فكان من شهر رمضان أن يقضي يوما مكانه. الترمذي عقب حديث رقم (686) المتقدم قبل هذا.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1923) كتاب الصوم، 20 - باب بركة السحور في غير إيجاب ومسلم في صحيحه [45 - (1095)] كتاب الصيام، 9 - باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر والترمذي (708) كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل السحور. وابن ماجه (1692)، وأحمد في مسنده (2/ 477) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 236)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 928)، والشجري في أماليه (1/ 265، 290)، وابن حبان في صحيحه (3598) وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 35، 322).

ص: 342

قمنا إلى الصلاة. فقيل: كم كان بينهما؟

قال: قدر خمسين آية"

(1)

.

وروينا فيهما من حديث ابن عمر قال: كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن بلال يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" قال: ولم يكن بينهما إلَّا أن ينزل هذا ويصعد هذا

(2)

.

فهو دال على قرب التفاوت بينهما.

وروينا في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص مرفوعًا: "فصل ما بين صيامنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحور"

(3)

. وهو بيان لمعنى السحور ووقته.

‌فصل في تعجيل الفطر وما يفطر عليه وما يقوله عند إفطاره

روينا من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"

(4)

. أخرجاه.

وروينا من حديث أبي عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقال لها مسروق: رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلاهما لا يألو عن الخير، أحدهما يُعجل المغرب والإفطار، والآخر يؤخر المغرب والإفطار، فقالت: من يعجل المغرب والإفطار؟

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1921) كتاب الصوم، 19 - باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر ومسلم في صحيحه [47 - (1097)] كتاب الصيام، 9 - باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1918، 1919) كتاب الصوم، 17 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال" ومسلم في صحيحه [38 - (1092)] كتاب الصيام 8 - باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر والترمذي (203)، والنسائي (2/ 10 - المجتبى) وأحمد في مسنده (2/ 9، 57، 4/ 44)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 380، 382)، وابن خزيمة في صحيحه (401، 403، 424).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [46 - (1096)] كتاب الصيام، 9 - باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1957) كتاب الصوم، 45 - باب تعجيل الفطر ومسلم في صحيحه [48 - (1098)] كتاب الصيام 9 - باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر. الترمذي في سننه (699) كتاب الصوم باب ما جاء في تعجيل الإفطار وابن ماجه (1697، 1698)، وأحمد في مسنده (5/ 131، 134، 337)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 237)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 12)، وعبد الرزاق في مصنفه (7592) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 139).

ص: 343

قال: عبد اللَّه، فقالت: هكذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع"

(1)

. أخرجه مسلم.

ومعنى لا يألو: لا يُقصِّر في الخير.

والحديث الأول دال على الحث على الاتباع فإن يتركه يزول الخير.

كيف لا وهو صُنع الشارع، أما تعجيل الصلاة فعزيمة، وأما تعجيل الفطر فرخصة، والرب يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه

(2)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "قال اللَّه عز وجل: أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا"

(3)

.

رواه الترمذي وحسنه.

وتبيينه من وجوه: أحدها: أنه حفظ لحدوده تعالى من غير اعتداء بلحظة واحدة ذلك خير وأشد تبينًا.

وثانيها: أنها مبادرة إلى إذنه في التناول، كما كان الصوم مبادرة إلى منعه أول إمكانه وهو الفجر، تعمير لأول الليل يأكل رزقه

(4)

وأول النهار يتركه من أجله تحليلًا لما أحله اللَّه وتحريمًا لما حرمه.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [50 - (1099)] كتاب الصيام، 9 - باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر وأبو داود في سننه (2354) كتاب الصوم باب ما يستحب من تعجيل الفطر والنسائىٍ في الصوم، باب ذكر الاختلاف على سليمان بن مهران في حديث عائشة في تأخير السحور والترمذي في سننه (702) كتاب الصوم، باب ما جاء في تعجيل الإفطار وقال الترمذي: حسن صحيح.

(2)

حديث "إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه"، أخرجه وأحمد في مسنده (2/ 108)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 140)، وابن حبان في صحيحه (545، 913 - الموارد)، وابن خزيمة في صحيحه (950)، الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 162)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 101، 6/ 276) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 135)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 193)، والخطيب في تاريخ بغداد (10/ 347)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (194).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (700) كتاب الصوم، باب ما جاء في تعجيل الإفطار. وقال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، استحبوا تعجيل الفطر، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.

(4)

قال النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" فيه الحث على تعجيله بعد تحقيق غروب الشمس، ومعناه لا يزال أمر الأمة منتظمًا وهم بخير ما دامو محافظين على هذه السنة وإذا أخروه كان ذلك علامة على فساد يقعون فيه.

[النووي في شرح مسلم (7/ 181) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 344

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

ويشعر به قوله: عبادي.

ثالثها: أنه أجمع للنفس على أداء الصلاة ونحوها ولهذا يقدم عليها.

رابعها: أنه يشعر برأفة اللَّه ورفقه بالعبد، فيولد حب في النفوس.

خامسها: أنه مذكِّر بالليل والنهار، وهما من أعجب صنع اللَّه عز وجل.

سادسها: أنه معنى قول الخنساء:

تذكرني طلوع الشمس صخرًا

وأذكره لكل غروب شمس

فإنها إشارة بالطلوع شجاعة وقهرًا وإلى موائده بالغروب كرمًا وجودًا تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.

سابعها: أنه تحقق لما يليق بالعباد والمخلوقين المحتاجين بعد السرّ فسرع صمدية أي إن أسرع العارية ردها إلى مستحقها واعتراف بأنها حقة.

ثامنها: أنه قيام بحق النفس بعد القيام بحق الرب من غير مماطلة لها فأعط كل ذي حق حقه.

تاسعها: إنه لما كان مبادر إلى الأسباب الحكمية التي عليها أم الدنيا فإنه صاحبه يخالع الخوالق الاقتدارية بعد أن يسرف بما ناله منها على خلاف القياس رجوعًا إلى حكم الدار.

عاشرها: إنه مذكِّر بربوبيته المرتبة والمالكية والسيادة كما كان الصيام مذكِّر بالرهبة والتعظيم والمسارعة في اللمحات النورانية الروحانية القدسية، وقس على هذا وتنفح النسمات.

وروينا من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"

(1)

. أخرجاه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1954) كتاب الصوم، 43 - باب متى يحل فطر الصائم؟ ومسلم في صحيحه [51 - (1100)] كتاب الصيام 10 - باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار والترمذي في سننه (698) كتاب الصوم، باب ما جاء إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1985)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 200)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 352). قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس" قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في وادٍ نحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (7/ 182) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 345

وهو دال على أن وقت التعجيل الغروب المحقق، فكان الفطر الحكمي فيه الحسي أيضًا.

وروينا فيهما أيضًا من حديث

(1)

أبي إبراهيم عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال لبعض القوم: "يا فلان انزل فاجدح لنا".

فقال: يا رسول اللَّه أي لو أمسيت.

قال: "انزل فاجدح لنا".

قال: إن عليك نهارًا.

قال: "انزل فاجدح لنا".

قال: فنزل فجدح لهم، فشرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: "إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم - وأشار بيده قبل المشرق"

(2)

.

واجدح: بجيم ثم دال وحاء مهملتين: أي اخلط السويق بالماء.

وفيه ما يفطر عليه جوازًا وهو مجدوح السويق ونحوه.

وروينا من حديث سلمان بن عامر الضبي الصباحي مرفوعًا: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على الماء فإنه طهور"

(3)

.

(1)

معنى الحديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا صياما وكان ذلك في شهر رمضان، فلما غربت الشمس أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي بعد غروب الشمس فظن أن الفطر لا يحل إلا بعد ذهاب ذلك واحتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها فأراد تذكيره وإعلامه بذلك ويؤيد هذا قوله إن علبك نهارا لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه وفهم معنى لو أمسيت أي تأخرت حتى يدخل المساء وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم فيه الأكل مع تجويزه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرًا تامًا، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء. [النووي في شرح مسلم (7/ 182، 183) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1955) كتاب الصوم، 43 - باب متى يحل فطر الصائم؟ وكذا في رقم (1956) 44 - باب يفطر بما تيسر عليه بالماء وغيره. ورقم (1958) 45 - باب تعجبل الإفطار ومسلم في صحيحه [52 - (1101)]، (53)، كتاب الصيام، 10 - باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار وأبو داود (2352) كتاب الصوم، باب وقت فطر الصائم. وعبد الرزاق في مصنفه (7594)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 12)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 216).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2355) كتاب الصوم، باب ما يفطر عليه والترمذي في سننه (695) كتاب الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار وهو في رقم (658) كتاب الزكاة باب ما جاء في=

ص: 346

رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.

وفيه: ما يفطر عليه ندبًا وهو التمر.

قيل لما فيه ما يحدثه الصيام في التصرف، تعليل الماء بأنه طهور، إشارة إلى قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)}

(1)

.

وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]

(2)

.

وروينا فيهما محسنًا من حديث أنس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تميرات، حسا حسوات من ماء"

(3)

.

وهو دال في تقديم الرطب، ثم التمر، ثم الماء.

‌فصل في أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات السابقة ونحوها

سلف في أوائل المجلس حديث أبي هريرة في ذلك وأخرجه عنه مرفوعًا: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس للَّه حاجة أن يدع طعامه وشرابه"

(4)

.

= الصدقة على ذي القرابة. وابن ماجه (1699)، وأحمد في مسنده (4/ 17) وعبد الرزاق في مصنفه (7586)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 334)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 142)، وابن حبان في صحيحه (892 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 107)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1990).

(1)

سورة الفرقان (48) أي أنه يتطهر بها كالسحور والوجور وما جرى مجراهما فهنا أصح ما يقال في ذلك، وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل أو أنه مبنى للمبالغة والتعدي فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم. تفسير ابن كثير (3/ 331).

(2)

سورة الإنسان (21).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2356) كتاب الصوم، 21 - باب ما يفطر عليه والترمذي في سننه (696) كتاب الصوم، باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار. وأحمد في مسنده (3/ 146)، والدارقطني في سننه (2/ 185)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 230)، والقرطبي في تفسيره (2/ 330).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1903) كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم ورقم (6057) كتاب الأدب، 51 - باب قول اللَّه تعالى {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وأبو داود في سننه (2362) كتاب الصوم، باب الغيبة للصائم. وابن ماجه (1689)، وأحمد في مسنده (2/ 452، 505)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 270)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1999)، والشجري في أماليه (2/ 92)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 201)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 201).

ص: 347

وورد من حديث ابن أبي أوفى مرفوعًا: "يوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف"

(1)

.

‌فصل في جمل من الصوم

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا نسي أحدكم وأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه اللَّه وسقاه"

(2)

. أخرجاه.

وروينا من حديث لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول اللَّه أخبرني عن الوضوء؟

قال: "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، وترك المبالغة فيه خيفة سبق الماء"

(3)

.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم"

(4)

. أخرجاه.

وأخرجاه أيضًا من حديث عائشة وأم سلمة قالتا: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير حلم، ثم يصوم"

(5)

.

(1)

لم أقف عليه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1933) كتاب الصوم، 26 - باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا. ورقم (6669) كتاب الأيمان والنذور، 15 - باب إذا حنث ناسيا في الإيمان ومسلم في صحيحه [171 - (1155)] كتاب الصيام، 33 - باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر.

وقال النووي: فيه دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا لا يفطر، وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفه وداود وآخرون، وقال ربيعة ومالك: يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء والكفارة ولا شيء في الأكل [النووي في شرح مسلم (8/ 29) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2366) كتاب الصوم، باب السواك للصائم، والترمذي في سننه (788) كتاب الصوم باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم. وابن ماجه في سننه (448)، والنسائي في الطهارة باب المبالغة في الاستنشاق، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 50، 52)، والحاكم في المستدرك (1/ 147، 4/ 110)، وعبد الرزاق في مصنفه (79) وابن خزيمة في صحيحه (150).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1926) كتاب الصوم، 22 - باب الصائم يصبح جنبًا ورقم (1930) 25 - باب اغتسال الصائم ومسلم في صحيحه [76 - (109)] كتاب الصيام، 13 - باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب والترمذي (779) كتاب الصوم، باب ما جاء في الجنب يدركه الفجر وهو يريد الصوم والبيهقي في السنن (4/ 214)، وأحمد في مسنده (6/ 308، 313)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 81).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1931، 1932) كتاب الصوم، 25 - باب اغتسال الصائم ومسلم =

ص: 348

وفيه مسألة الإصباح جنبًا، فإنه جائز كما في القرآن من دلالة الإشارة.

وحديث: "من أصبح جُنبًا فلا صوم له"(1) منسوخ أو مؤول.

وحديث عائشة وأم سلمة يزيلان وهم عدم التمكن والاجتناب في الحديث قبله.

‌فصل في فضل من فطر صائمًا وفضل الصائم الذي يؤكل عنده ودعاء الآكل للمأكول عنده

روينا من حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعًا: "من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا"

(2)

.

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وروينا من حديث أم عمارة الأنصارية أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعامًا فقال: "كُلي"، فقالت: إني صائمة.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكل عنده حتى يفرغوا"

(3)

.

وربما قال: "حتى يشبعوا". رواه الترمذي وحسنه.

وروينا من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت، فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت

= في صحيحه [78 - (109)] كتاب الصيام، 13 - باب صحه صوم من طلع عليه الفجر وهو أخرجه أحمد في مسنده (2/ 248)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 293)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 320)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 109).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (807) كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل من فطر صائمًا وابن ماجه في سننه (1746) كتاب الصيام، باب في ثواب من فطر صائما. وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 192)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 240)، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 297)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 75)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 144)، والشجري في أماليه (1/ 268) والعجلوني في كشف الخفا (2/ 370).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (785) كتاب الصوم، باب ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده، وابن ماجه في سننه (174) كتاب الصيام، 46 - باب في الصائم إذا أكل عنده وأحمد في مسنده (6/ 365)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 305)، وابن حبان في صحيحه (953 - الموارد)، والمنذري في الترهيب والترغيب (2/ 945)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 86)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 65)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2081)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 181) وابن المبارك في الزهد، (500).

ص: 349

عليكم الملائكة"

(1)

.

رواه أبو داود بإسناد صحيح.

‌فصل في فضل صوم المحرم وشعبان والأشهر الحرم

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم

(2)

، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"

(3)

. أخرجه مسلم.

وروينا من حديث عائشة قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله".

وفي رواية: "كان يصوم شعبان إلَّا قليلًا". أخرجاه

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (3854) كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الدعاء لرب الطعام إذا أكل عنده. وابن ماجه في سننه (1747)، وأحمد في مسنده (3/ 118، 201)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 239، 240)، وعبد الرزاق في مصنفه (7907)، وابن حبان في صحيحه (1353 الموارد) وابن حجر في المطالب العالية (3145)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 72)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 225)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 100)، والشجري في أماليه (1/ 43).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم" تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم. وقد سبق الجواب عن إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم وذكرنا فيه جوابين أحدهما: لعله إنما علم فضله في آخر حياته والثانى: لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم "وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن تطوع الليل أفضل من تطوع النهار، وفيه حجة لأبى إسحاق المروزي من أصحابنا ومن وافقه أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة وقال أكثر أصحابنا: الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض والأول أقوى وأوفق للحديث واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (7/ 44، 45) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [202 - (1163)] كتاب الصيام، 38 - باب فضل صوم المحرم وأبو داود في سننه (2429) كتاب الصوم باب في صوم أشهر الحرم. والترمذي (438) في الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة الليل. والنسائي (3/ 207) المجتبى، وأحمد في مسنده (2/ 344، 535) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 291)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 423، 2/ 114)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 225) والشجري في أماليه (2/ 45)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2039)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 344).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1970) كتاب الصوم، 52 - باب صوم شعبان ومسلم في صحيحه [176 - (1156)] كتاب الصيام، 34 - باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان وفي الترمذي (736) كتاب الصوم، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان. وأحمد في مسنده (6/ 128، 143)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 117)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 210، 292)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 282).

ص: 350

روينا من حديث مجيبة الباهلية، عن أبيها أو عمها أنه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيأته.

فقال: يا رسول اللَّه أما تعرفني؟

قال: "لا من أنت؟ ".

قال: أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول.

قال: "فما غيَّرك وقد كنت حسن الهيئة"؟

قال: ما أكلت طعامًا إلَّا بليل منذ فارقتك.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لِمَ عذَّبت نفسك"؟

ثم قال: "صُم شهر الصبر ويومًا من كل شهر"

(1)

.

قال: زدني فإني بي قوة.

قال: "صم يومين".

قال: زدني.

قال: "صُم ثلاثة أيام"

(2)

.

قال: زدني، قال:"صم من الحُرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك".

وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.

(3)

رواه أبو داود.

(1)

قال النووي في شرح مسلم: في هذه الأحاديث أنه يستحق أن لا يخلى شهرا من صيام، وفيها أن صوم النفل غير مختص بزمان معين بل كل السنة صالحة له إلا رمضان والعيد والتشريق وقال في حديث يشبه هذا وهو حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: وحاصل الحديث بيان رفق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم وإرشادهم إلى مصالحهم، وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه ونهيهم عن التعمق والإكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أو ترك بعضها، وقد بين صلى الله عليه وسلم "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا". [النووي في شرح مسلم (8/ 30، 32) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

روى مسلم في صحيحه [194 - (1160)] كتاب الصيام، 36 - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، عن عائشة: وفيه: أنها سئلت: أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من آي آيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (2428) كتاب الصوم، باب في صوم أشهر الحرم والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 291)، والشجري في أماليه (2/ 31) وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 28)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 235)، وابن سعد في طبقاته (7/ 58)، وابن حجر في المطالب العالية (1031).

ص: 351

وشهر الصبر رمضان.

‌فصل في فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة

روينا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى اللَّه من هذه الأيام" يعني أيام العشر.

قالوا: يا رسول اللَّه ولا الجهاد في سبيل اللَّه؟

قال: "ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء"

(1)

. رواه البخاري

(2)

.

‌فصل في صوم يوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء

روينا في صحيح مسلم

(3)

من حديث أبي قتادة قال: سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة؟ قال: "يُكفر السنة الماضية والباقية".

وسئل عن صيام يوم عاشوراء؟

فقال: يُكفر السنة الماضية.

وروينا في الصحيحين من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء وأمر بصيامه

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (2438) كتاب الصوم باب في صوم العشر والترمذي في سننه (757) كتاب الصوم، باب ما جاء في العمل في أيام العشر وابن ماجه في سننه (1727) كتاب الصيام 39 - كتاب الزكاة باب صيام العشر. وأحمد في مسنده (1/ 224)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 348)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 484)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 198، 199)، وابن خزيمة في مصنفه (2865)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1460).

(2)

كذا بالأصل ولكن وجدناه فيما حققناه.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [196 - (1162)] كتاب الصيام، 36 - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس. وأحمد في مسنده (5/ 297)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 283)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 111، 115)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 455).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2004) كتاب الصوم، 69 - باب صوم يوم عاشوراء ورقم (3397) كتاب أحاديث الأنبياء، 25 - باب "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه إلى قوله - مسرف كذاب" ورقم (3943) كتاب مناقب الأنصار، 52 - باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة. ورقم (4680) كتاب تفسير القرآن، من سورة يونس، 2 - باب {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} [يونس: 90] الآية. ومسلم في صحيحه [133 - (1134)] كتاب الصيام 20 - باب أي يوم يصام في عاشوراء وأبو داود في سننه (2444) كتاب =

ص: 352

وروينا في صحيح مسلم عنه مرفوعًا: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"

(1)

.

‌فصل في استحباب صوم ستة أيام من شوال

روينا في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب مرفوعًا: "من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر"

(2)

.

‌فصل في استحباب صوم الاثنين والخميس

روينا في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم الاثنين؟ فقال: "ذلك يوم ولدت فيه، ويوم بُعثت أو أنزل علي فيه"

(3)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأُحب أن يعرض عملي وأنا صائم"

(4)

. رواه الترمذي وحسَّنه.

ورواه مسلم بغير ذكر الصوم.

وروينا من حديث عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتحرى

(5)

صوم الاثنين

= الصوم باب في صوم عاشوراء. وبنحوه في الترمذي في سننه (754، 755) كتاب الصوم، باب ما جاء عاشوراء أي يوم هو - وابن ماجه (1733)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 184).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [134 - (1134)] كتاب الصيام، 20 - باب أي يوم صيام في عاشوراء وابن ماجه في سننه (1736)، وأحمد في مسنده (1/ 225، 345)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 16). قال النووي: ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق وقال الشافعي وأصحابه به وأحمد وإسحاق وآخرون يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [204 - (1164)] كتاب الصيام، 39 - باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعًا لرمضان. والترمذي في سننه (759) كتاب الصوم باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال وابن ماجه في سننه (1716) كتاب الصيام، 33 - باب صيام ستة أيام من شوال والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 111) والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 183)، والطبراني في المعجم الكبير (4/ 160)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 214)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 66)، وعبد الرزاق في مصنفه (7920).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [197 - (1162)] كتاب الصيام، 36 - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفه وعاشوراء والاثنين والخميس.

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (747) كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 124، 3/ 458)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2056)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 258، 7/ 205، 10/ 386)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 66).

(5)

يتحرى: قال ابن الأثير التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول.

ص: 353

والخميس

(1)

. رواه الترمذي وحسَّنه.

‌فصل في استحباب صوم ثلاث أيام من كل شهر

والأفضل صومها في أيام البيض وهي الثالث عشر وتالييه.

وقيل: بإسقاط الخامس عشر، وزيادة الثاني عشر والصحيح المشهور هو الأول

(2)

.

روينا في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتر قبل أن أنام"

(3)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت "بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى وأن لا أنام حتى أُوتر"

(4)

. أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (745) كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس والنسائي (4/ 202 - المجتبى) كتاب الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم وابن ماجه في سننه (1739) كتاب الصيام، 42 - كتاب الصوم باب صيام الاثنين والخمس والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 126) وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 123)، والترمذي في الشمائل (157).

(2)

قال القاضي عياض: اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة المستحبة من كل شهر، ففسره جماعة من الصحابة والتابعين بأيام البيض وهى الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر، وبه قال أصحاب الشافعي، واختار النخعي وآخرون آخر الشهر، واختار آخرون ثلاثة من أوله منهم الحسن، واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من كل شهر ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من الشهر الذي بعده واختار آخرون الاثنين والخميس. [النووي في شرح مسلم (8/ 41، 42) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1981) كتاب الصوم 60 - باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ومسلم في صحيحه [85 - (721)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 13 - باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها. وأحمد في مسنده (2/ 233، 258، 260)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 217).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [86 - (722)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها 13 - باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها وأبو داود (1433) كتاب الصلاة، باب في الوتر قبل النوم. وأحمد في مسنده (2/ 329)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 367). قال النووي: قوله "أوصانى خليلي" لا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من آمتي خليلا لأن الممتنع أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم غيره خليلا ولا يمتنع اتخاد الصحابي وغيره النبي صلى الله عليه وسلم خليلا [النووي في شرح مسلم (5/ 189) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 354

وروينا في الصحيحين من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر كله"

(1)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث معاذة العدوية

(2)

أنها سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟

قالت: نعم.

فقلت: من أي الشهر كان يصوم؟

قالت: لم يكن يبالي من أي الشهر يصوم

(3)

.

وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا: إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر"

(4)

.

رواه الترمذي وحسَّنه.

وروينا من حديث قتادة بن ملحان

(5)

قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام أيام البيض ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة"

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1979) كتاب الصوم، 59 - باب صوم داود عليه السلام ومسلم في صحيحه [181 - (1159)] كتاب الصيام، 35 - باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وإفطار يوم والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 120، 129) والزبيدي في الإتحاف (4/ 262).

(2)

معاذة بنت عبد اللَّه، أم الصهباء العدوية البصرية، ثقة، أخرج لها: أصحاب الكتب الستة ترجمتها: تهذيب التهذيب (12/ 452)، التقريب (2/ 614)، أعلام النساء (5/ 60)، سير الأعلام (4/ 508)، تراجم الأخبار (3/ 335)، أعيان النساء (592).

(3)

مسلم في صحيحه [194 - (1160)] كتاب الصيام، 36 - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، وأبو داود (2453)، والترمذي (763).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (761) كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر. والنسائي في الصيام، 84 - باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 29)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 123)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 258).

(5)

قتادة بن ملحان القيسى الجريرى، السدوسي صحابي له حديث في الأيام البيض، أخرج له: أبو داود والنسائي وابن ماجه وترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 357)، تقريب التهذيب (2/ 123)، التاريخ الكبير (7/ 185) الجرح والتعديل (7/ 132)، والثقات (3/ 345)، أسد الغابة (4/ 389)، الإصابة (5/ 416).

(6)

أخرجه أبو داود في سننه (2449) كتاب الصوم، باب في صوم الثلاث من كل شهر والنسائي (4/ 225 - المجتبى)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 28)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 124).

ص: 355

رواه أبو داود.

وروينا من حديث ابن عباس قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر"

(1)

. رواه النسائي بإسناد حسن.

‌فصل في السواك وخصال الفطرة

روينا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لولا

(2)

أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"

(3)

. أخرجاه.

وللبخاري تعليقًا: مع كل وضوء.

وروينا من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"

(4)

. أخرجاه.

الشوص: الدلك.

وروينا من حديث عائشة قالت: "كنا نعد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سواكه وطهوره فيبعثه اللَّه ما شاء أن يبعثه من الليل، فيسوك ويصلي"

(5)

. أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه النسائي (4/ 198 - المجتبى) والتبريزي في مشكاة المصابيح (2071)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (580).

(2)

فيه دليل على أن السواك ليس بواجب، قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى: لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق، قال جماعات من العلماء من الطوائف فيه دليل على أن الأمر للوجوب وهو مذهب أكثر الفقهاء وجماعات من المتكلمين وأصحاب الأصول قالوا أوجه الدلالة أنه مسنون بالاتفاق. وقال: وجماعه أيضًا: فيه دليل على أن المندوب ليس مأمورا به وهذا فيه خلاف لأصحاب الأصول. [النووي في شرح مسلم (3/ 123) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (887) كتاب الجمعة، 8 - باب السواك يوم الجمعة ورقم (7240) كتاب التمنى، 9 - باب ما يجوز من اللو. ومسلم في صحيحه [42 - (252)] كتاب الطهارة، 15 - باب السواك وأبو داود في سننه (46، 47)، والترمذي في سننه (22، 23)، والنسائي (1/ 12 - المجتبى) وابن ماجه (287)، وأحمد في مسنده (1/ 221) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 35، 36)، والطبراني في المعجم الكبير (5/ 280)، وابن حبان في صحيحه (142 - الموارد)، وعبد الرزاق في مصنفه (2106)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 168، 169)، وأبو نعيم في حليه الأولياء (8/ 386)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (390).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (245) كتاب الوضوء، 77 - باب السواك ورقم (889) كتاب الجمعة، 8 - باب السواك يوم الجمعة ورقم (1136) كتاب التهجد، 9 - باب طول القيام في صلاة الليل ومسلم في صحيحه [46 - (255)] كتاب الطهارة 15 - باب السواك، أبو داود في سننه (55)، والنسائي (1/ 8، 3/ 212 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 382، 397)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 38)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 349).

(5)

السواك مستحب في جميع الأوقات ولكن في خمسة أوقات أشد استحبابا أحدها عند الصلاة =

ص: 356

وروينا من حديث شريح بن هانئ قال: قلت لعائشة بأي شيء يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك

(1)

. أخرجه مسلم.

وروينا من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم والسواك على لسانه"

(2)

. أخرجاه

(3)

. واللفظ لمسلم.

وروينا من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب"

(4)

.

أخرجه النسائي وابن خزيمة في صحيحه بأسانيد صحيحة.

وروينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان، والاستعداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط"

(5)

. أخرجاه.

= سواء كان متطهرًا بماء أو بتراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا ترابا، الثاني عند الوضوء، الثالث عند قراءة القرآن، والرابع: عند الاستيقاظ من النوم، الخامس عند تغير الفم. [النووي في شرح مسلم (3/ 122) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [43 - (253)] كتاب الطهارة، 15 - باب السواك. وأحمد في مسنده (6/ 188)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 192)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 113، 276). وقال النووي: فيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات وشدة الاهتمام به وتكراره واللَّه أعلم.

(2)

المستحب أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبس يجرح ولا رطب لا يزيل، والمستحب أن يستاك عرضا ولا يستاك طولا لئلا يدمي لحم أسنانه، فإن خالف واستاك طولا حصل السواك مع الكراهة ويستحب أن يمر السواك أيضا على طرف أسنانه وكراسي أضراسه وسقف حلقه امرارًا لطيفا، ويستحب أن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فيه. [النووي في شرح مسلم (3/ 122) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (244) كتاب الوضوء، 77 - باب السواك ومسلم في صحيحه [45 - (254)، كتاب الطهارة، 15 - باب السواك.

(4)

أخرجه النسائي (1/ 10 - المجتبى) ماجه (289)، وأحمد في مسنده (1/ 3، 10، 6/ 47) وابن خزيمة في صحيحه (135) والطبراني في المعجم الكبير (8/ 210، 248)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 220)، وابن أبي شيبة (1/ 169، 199)، وابن حبان في صحيحه (143 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 165)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 113، 114) وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 34، 60)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 350)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (381) وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 94، 159)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 554).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5889) كتاب اللباس، 63 - باب قص الشارب ورقم (5891) 64 - باب تقليم الأظفار ورقم (6297) كتاب الاستئذان، 51 - باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط =

ص: 357

الاستحداد: حلق العانة، وهو حلق الشعر الذي حول الفرج.

وروينا من حديث عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قصّ الشارب، وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء

(1)

".

قال الراوي: ونسيت العاشرة إلَّا ن تكون المضمضة.

قال وكيع وهو أحد رواته: انتقاص الماء يعني الاستنجاء. أخرجه مسلم

(2)

.

البراجم: بالباء الموحدة، والجيم عقد الأصابع، وإعفاء اللحية معناه لا ينقص منها شيئًا.

وروينا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "أحفوا الشوارب"

(3)

.

ولنذكر من الحكايات ما يليق بذلك:

= ومسلم في صحيحه [49 - (257)]، 50 - كتاب الطهارة، 16 - باب خصال الفطرة وأبو داود في سننه (4198) كتاب الترجل، باب في أخذ الشارب. والنسائي (1/ 14 - المجتبى) وابن ماجه في سننه (292).

(1)

أما انتقاص الماء فهو بالقاف والصاد المهملة وقد فسره وكيع في الكتاب بأنه الاستنجاء وقال أبو عبيدة وغيره معناه انتفاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره، وقيل هو الانتضاح وقد جاء في رواية الانتضاح بدل انتقاص الماء، قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقيل: هو الاستنجاء بالماء وذكر ابن الأثير أنه روى انتقاص الماء بالفاء والصاد المهملة وقال في فصل الفاء قيل الصواب أنه بالفاء قال: والمراد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نقصه وجمعها نقض وهذا الذي نقله شاذ والصواب ما سبق واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (3/ 128) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [56 - (261)] كتاب الطهارة، 16 - باب خصال الفطرة وأبو داود (53) كتاب الطهارة، باب السواك من الفطرة.

والترمذي في سننه (2757) كتاب الأدب، باب ما جاء في تقليم الأظفار والنسائي (8/ 126، 128 - المجتبى) في الزينة باب من السنن الفطرة وابن ماجه في سننه (293) كتاب الطهارة وسننها، باب الفطرة، وأحمد في مسنده (6/ 37)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 36، 53،52)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 195)، وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 66)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 350)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (379، 380).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5893) كتاب اللباس، 65 - باب إعفاء اللحى ومسلم في صحيحه [52 - (359)] كتاب الطهارة 16 - باب خصال الفطرة والترمذي (2763) كتاب الأدب، باب ما جاء في إعفاء اللحية وأبو داود (4199) كتاب الترجل، باب في أخذ الشارب، والنسائي (1/ 16، 8/ 129 - المجتبى) وابن ماجه (182)، وأحمد في مسنده (2/ 16) والطبراني في المعجم الأوسط (2/ 17)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 188).

ص: 358

الأولى: عن الشبلي قال: كنت في قافلة بالشام فخرج الأعراب فأخذوها، وجعلوا يعرضونها على أميرهم فخرج جراب فيه لوز وسكر، فأكلوا منه ولم يأكل الأمير.

فقلت: لم لا تأكل؟

فقال: إني صائم.

فقلت: تقطع الطريق وتأخذ الأموال، وتقتل الأنفس وأنت صائم.

فقال: يا شيخ اجعل للصلح موضعًا، فلما كان بعد حين رأيته يطوف حول البيت، وهو محرم كالشَّن البالي.

فقلت له: أنت ذاك الرجل.

قال: نعم ذلك الصيام أوقع الصلح بيننا.

وأنشد:

خذ من حياتك للممات نصيبًا

وتيقن السفر البعيد قريبًا

واعمل يوم ترجع الولدان من

أهواله عند القيامة شيبًا

(1)

لو كنت تخشى من أمور قد مضت

لجعلت يومك للإله رقيبًا

قُم في الدُّجى واضرع إليه لعله

يعفو وثب مدامعًا ونحيبًا

واشك السقام واقرع بابه أبدًا

تجده للسقام طبيبًا

الثانية: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرجنا غازين في البحر، فبينما نحن نسير والريح لنا طيبة، والشراع لنا مرفوع إذ سمعنا مناديًا ينادي: يا أهل السفينة قفوا أخبركم حتى (والا سبعة)

(2)

أصوات.

قال أبو موسى: فقمت على صدر السفينة.

فقلت: من أنت ومن أين أنت، أو ما ترى أين نحن، وهل نستطيع وقوفًا.

قال: فأجابني الصوت ألا أخبركم بقضاء قضاه اللَّه على نفسه؟

قلت: بلى أخبرنا.

قال: إن اللَّه تعالى قضى على نفسه أنه من عطش نفسه للَّه في يوم حار، كان حقًا على اللَّه أن يرويه يوم القيامة.

فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحرّ الذي يكاد الإنسان ينسلخ

ص: 359

فيه فيصومه.

قال أبو إدريس: صام أبو موسى حتى عاد كأنه خلال، فقيل له: لو رحمت نفسك؟

فقال: هيهات إنما يسبق من الخيل المضمرة.

فائدة: قال أبو أمامة الباهلي

(1)

: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه مُرني بعمل آخذه عنك ينفعني اللَّه به.

قال: "عليك بكثرة الصوم فإنه لا مثل له"

(2)

.

فكان أبو أمامة وامرأته وخادمه لا يوجدون إلَّا صيامًا.

فإذا رؤي في منزلهم نارًا أو دخانًا نهارًا عرفوا أنه اعتراهم ضيف.

الثالثة: عن عبد اللَّه بن مروان قال: كان الأسود بن يزيد

(3)

يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يضمر جسده.

وكان علقمة يقول له: لِمَ تُعذب هذا الجسد؟ فيقول: إن الأمر جد.

الرابعة: قال: حج الحجاج بن يوسف

(4)

فنزل في بعض المياه بين مكة والمدينة ودعا بالغذاء وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر.

فنظر نحو الجبل، فإذا بأعرابي نائم، فضربه برجله وقال: انت الأمير.

(1)

أبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان بن وهب، صحابي مشهور سكن الشام ومات فيها، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفى سنة (81، 86) انظر التقريب (1/ 366).

(2)

أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (5/ 249) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 301)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 108)، والشجري في أماليه (1/ 277) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 108).

(3)

الأسود بن يزيد بن قيس، أبو عمرو، أبو عبد الرحمن النخعي الكوفي، ثقة مكثر فقيه، مخضرم أخرج له أصحاب الكتب الستة، وتوفي سنة (74) وقيل (75). ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 342)، تقريب التهذيب (1/ 77)، الكاشف (1/ 132)، تاريخ البخاري الكبير (7/ 449)، تاريخ البخاري الصغير (1/ 146)، الجرح والتعديل (2/ 291)، والثقات (4/ 31)، والوافي بالوفيات (9/ 256)، سير الأعلام (4/ 250).

(4)

الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود الثقفى، أمير العراق، أبو محمد، ولد سنة أربعين أو إحدى وأربعين، روى عن ابن عباس وسمرة بن جندب، وأسماء بنت الصديق وابن عمر وعنه: ثابت البناني وقتيبة بن مسلم، وحميد الطويل ومالك بن دينار، ولي إمرة الحجاز، ثم ولي العراق عشرين سنة، قال النسائي: ليس ثقة ولا مأمون توفي سنة (95). تاريخ الإسلام وفيات (91 - 100).

ص: 360

فأتاه فقال له الحجاج: اغسل يدك واقعد معي.

فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته.

قال: ومن هو؟

قال: اللَّه تبارك وتعالى دعاني إلى الصوم فصمت.

قال: في هذا الحرّ الشديد؟

قال: نعم صمت ليوم هو أشد حرًا من هذا اليوم.

قال: فأفطر وصم غدًا.

قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غدٍ، فطرت.

قال

(1)

: ليس ذلك إليَّ.

قال: فكيف تسألني عاجلًا بأجل لا تقدر عليه؟

قال: إنه طعام طيب.

قال: لَمْ تُطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيَّبته العافية.

وفي هذا المعنى قيل:

وما طيب الطباخ عيشًا وانما

لعافية طاب الطعام لطاعم

إذا كان بي سقم فلا شيء طيب

وإن لم يكن طابت جميع المطاعم

(1)

قال عمر بن العزيز عن الحجاج: لو تخابثت الأمم، وجئنا بالحجاج لغلبناهم، ما كان يصلح لدنيا ولا لآخرة، ولي العراق وهو أوفر ما يكون من العمارة، فأخس به حتى صيره أربعين ألف ألف ولقد أدى إلي في عامي هذا ثمانون ألف ألف وزيادة، المرجع السابق.

ص: 361

‌مجلس في الاعتكاف

روينا في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان"

(1)

.

وروينا فيهما من حديث عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللَّه، ثم اعتكف أزواجه بعده"

(2)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام".

فلما كان العام الذي قُبضَ فيه اعتكف عشرين يومًا"

(3)

.

وقد اعتكف في شوال أيضًا

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2025) كتاب الاعتكاف، 1 - باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها ومسلم في صحيحه [1 - (1171)] كتاب الاعتكاف 1 - باب اعتكاف الأواخر من رمضان. وأبو داود (2462)، والترمذي (790، 803) وابن ماجه (1769)، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 355)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 314) والسيوطي في الدر المنثور (1/ 201)، وعبد الرزاق في مصنفه (7682)، والشجري في أماليه (2/ 23).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2026) كتاب الاعتكاف، 1 - باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها. ومسلم في صحيحه [5 - (1172)] كتاب الاعتكاف، 1 - باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان. وأبو داود (2462) كتاب الصوم، باب الاعتكاف.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2044) كتاب الاعتكاف، 17 - باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان ورقم (4998) كتاب فضائل القرآن، 7 - باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

روى البخاري في صحيحه (2041) كتاب الاعتكاف، 14 - باب الاعتكاف في شوال، عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه، قال فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة، فسمعت بها حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الغد أبصر أربع قباب، فقال:"ما هذا؟ فأخبر خبرهن، فقال: ما حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها فلا أراها"، فنزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال.

ص: 362

مجلس في فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين

قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}

(1)

.

وفي الصحيحين من حديث حارثة بن وهب: "ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف متضعف لو يُقسم على اللَّه لأبره".

ألا أخبركم بأهل النار كل عُتُلٍّ جوَّاظِ مُستكبر"

(2)

.

العُتُلِّ: الغليظ الجافي. والجوَّاظ: الجموح المنوع، أو الخصم المختال في مشيته، أو القصير البطين

(3)

. أقوال.

وفيهما من حديث سهل بن سعد الساعدي: مرّ رجل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟ ".

فقال: هذا رجل من أشراف الناس، هذا واللَّه حرّي إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع.

(1)

سورة الكهف (28).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4918) كتاب تفسير القرآن، 1 - باب عتل بعد ذلك زنيم من سورة القلم ورقم (6071) كتاب الأدب، 61 - باب الكبر ورقم (6657) كتاب الأيمان والنذور، باب قوله اللَّه تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، ومسلم في صحيحه [47 - (2853)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 13 - كتاب الصوم باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء. والترمذي في سننه (2605) كتاب صفة جهنم وأحمد في مسنده (4/ 306)، وعبد الرزاق في مصنفه (20613، 20662)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 145)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 266)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 265)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5106)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 225).

(3)

كذا ذكره النووي في شرح مسلم وقال أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وسيأتى قريبا "وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم" وفي حديث آخر "أكثر أهل الجنة البُلهُ" قال القاضي معناه سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للسنة فيدخل عليهم الفتنة. أو يدخلهم في البدعة أو غيرها فهم ثابتوا الإيمان وصحيحوا العقائد وهم أكثر المؤمنين وهم أكثر أهل الجنة، وأما العارفون والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات، قال: وقيل معنى الضعفاء هنا وفي الحديث الآخر أهل الجنة كل ضعيف متضعف أنه الخاضع للَّه تعالى المذل نفسه له سبحانه وتعالى، ضد المتجبر المستكبر. [النووي في شرح مسلم (17/ 150، 154) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 363

ثم مرَّ رجل فقال له: "ما رأيك في هذا؟ ".

فقال: هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريّ إن خطب لا يُنكح، وإن شفع لا يُشفع، وإن قال لا يُسمع لقوله. فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا خير من ملء الأرض من هذا"

(1)

.

ولعلي كرم اللَّه وجهه:

دليلك أن الفقر خير من الغنى

وأن قليل المال خير من الثرى

لقاؤك عبدًا قد عصى اللَّه بالغنى

ولم نلق عبدًا قد عصى اللَّه بالفقر

وفي مسلم

(2)

من حديث أبي سعيد الخدري قال: "احتجَّت الجنة والنار فقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبرون.

وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم.

فقضى اللَّه بينهما إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء.

وإنك النار عذابي أُعذب بك من أشاء وكليكما عليَّ ملؤها".

وفيهما من حديث أبي هريرة: "أنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يوزن عند اللَّه جناح بعوضة"

(3)

.

فالإكرام والتنعيم الدنيوي ابتلاء من اللَّه لا إكرام ولابد، وأن تقدير الرزق الجاهي والمالي ليس إهانة ولابد، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5091) كتاب النكاح، 16 - باب الأكفاء في الدين وقولها "وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا ومهرا وكان ربك قديرا". وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 222)، والطبراني في المعجم الكبير (6/ 208)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 147)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2257). والزبيدي في الإتحاف (7/ 106)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 257).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [36 - (2847)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 13 - باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء. والترمذي في سننه (2561) كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في احتجاج الجنة والنار وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 276، 450، 3/ 79)، والبخاري في الأدب المفرد (554، 589) والآجري في الشريعة (391)، وابن كثير في تفسيره (7/ 382).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4729) كتاب تفسير القرآن، من سورة مريم، 6 - باب {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} الآية. ومسلم في صحيحه [18 - (2785)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم والتبريزي في مشكاة المصابيح (5543)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1/ 376)، قال النووي: قوله، وفيه ذم السمن والحبر بفتح الحاء وكسرها، والفتح أفصح وهو العالم، [النووي في شرح مسلم (17/ 107) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 364

تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}

(1)

.

وفيهما أيضًا من حديثه: "أن امرأة سوداء كانت تقُم المسجد، أو شابًا، فقدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات.

قال: "أفلا كنتم آذنتموني" فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره.

فقال: "دلوني على قبره" فدلوه، فصلى عليها.

ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن اللَّه تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم"

(2)

. وفيه الاعتناء بقمَّام المسجد حيث سأل عنه وصلى على قبره.

وفي مسلم

(3)

من حديثه: "رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللَّه لأبره".

ففيه الاعتناء بمن هذا حاله حتى يبرّ قسمه لو أقسم.

لا تغترر بالمال والفخار

كم أشعث أغبر ذي أطمار

قد صح فيه صادق الأخبار

عن النبي السيد المختار

(1)

سورة سبأ (37).

أي ليست هذه دليلا على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم، قال أحمد في مسنده بسنده عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" ولهذا قال تعالى: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37] أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي نضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف تفسير ابن كثير (3/ 558).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (458) كتاب الصلاة، 72 - باب كنس المسجد، والتقاط الخرق والعيدان والقذى ورقم (460) 74 - باب الخدم للمسجد وفي رقم (1337) كتاب الجنائز، 66 - باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن. ومسلم في صحيحه [71 - (956)] كتاب الجنائز 23 - باب الصلاة على القبر. وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 353)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 47)، وابن عبد البر في التمهيد (6/ 266)، والدارقطني في السنن (2/ 77)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1659).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [138 - (2662)] كتاب البر والصلة والآداب، 40 - باب فضل الضعفاء والخاملين وفي رقم [48 - (2854)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 13 - باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 152) والزبيدي في الإتحاف (225). قال النووي: الأشعث الملبد الشعر المغبر غير مدهون ولا مرجل، ومدفوع بالأبواب أي لا تدر له عند الناس فهم يدفعونه عن أبوابهم ويطردونه عنهم احتقارًا له لو أقسم على اللَّه لأبره أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه اللَّه إكراما له بإجابة سؤاله وصيانته من الحنث في يمينه، وهذا لعظم منزلته عند اللَّه تعالى وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القسم هنا الدعاء وإبراره وإجابته واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (16/ 144) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 365

من دار القسم وبرّ القسم

سعادة قد سبقت في القدم

من رفع المولى علا قدره

ماضي ما شأنه من فقر

من بعد ما شاع جميل ذكره

بين الورى بجهره وسرّه

وفي الصحيحين عن أسامة رضي الله عنه رفعه: "قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجَد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أُمر بهم إلى النار.

وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء"

(1)

.

الجَدّ: بفتح الجيم: الحظ والغنى.

ومحبوسون: لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة. ففيه الاعتناء بالمساكين في الآخرة.

وحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين: "لم يتكلم في المهد إلَّا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، والصبي الذي كان يرضع"

(2)

.

شاهد لما نحن فيه، فإن فيه اعتناء الرضيع بسؤاله أن يجعله اللَّه مثل المسكين دون ذوي السيادة الخيار

(3)

.

فإنه لا يرتفع شيء من هذه الدنيا إلَّا وضعه فالضعيف يتعرض للرحمة، والوجيه متعرض للفتنة، فجزى اللَّه القلة والذَّلة عن أهلها خيرًا.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5196) كتاب النكاح، باب 88 - عقب باب 87 - باب لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه ورقم (6547) كتاب الرقاق، 51 - باب صفة الجنة والنار، ومسلم في صحيحه [93 - (2736)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 26 - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء. وأحمد في مسنده (5/ 205)، والشجري في أماليه (2/ 159، 202)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 276)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 141)، وابن عبد البر في التمهيد (3/ 322).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3436) كتاب أحاديث الأنبياء، 50 - باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} ومسلم في صحيحه [8 - (2550)] كتاب البر والصلة والآداب، 2 - باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها وأحمد في مسنده (2/ 301، 307، 308) والحاكم في المستدرك (2/ 595)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 35)، والقرطبي في تفسيره (4/ 91، 9/ 172).

(3)

وذلك فيما رواه مسلم "وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال: فكأني أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها، قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت وهي تقول: حسبي اللَّه ونعم الوكيل فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها. ثم قال: إن ذاك الرجل كان جبارًا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت ولم تزن، وسرقت، ولم تسرق، فقلت اللهم اجعلني مثلها".

ص: 366

وعارف يرفع من الحامل أشد ما يرفعِ من المشهور {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)}

(1)

.

يكفي شرفًا للفقراء بمدحهم الرب جل جلاله حيث قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} الآية

(2)

.

وحيث قال رسوله صلى الله عليه وسلم: "اصبروا حتى تلقوني، فإنكم أو زمرة تردون عليَّ"

(3)

.

وقال: "يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام، يأكلون ويشربون ويتمتعون، والأغنياء في كرب الحساب"

(4)

.

هم الفقراء فادر عنهم ذكرا

وحدث عنهم سرًا وجهرًا

هم الفقراء أهل اللَّه حقًا

ومنهم تكتسى الأكوان عطرًا

هم الفقراء والسادات حقًا

وقد حازوا بزمن الفخر فخرًا

هم الفقراء قد صبروا وذلوا

فعوضهم بذاك الصبر أجرًا

فكم صبروا على ضيم الليالي

وكم كابدوا ضيقًا وعسرًا

وقد كسروا النفوس له وذلوا

فعوضهم بذاك الكسر جبرًا

وقد زاروا الحبيب وشاهدوه

وقد سجدوا للَّه حمدًا وشكرًا

‌فصل في توقير العلماء والكبار وأهل الفضل

(5)

وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم

قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

(1)

سورة عبس (5 - 10).

(2)

سورة البقرة (273).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3792، 3793، 3794) كتاب مناقب الأنصار، 8 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" ورقم (7057) كتاب الفتن، 2 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "سترون بعدي أمورًا تنكرونها" ومسلم في صحيحه [132 - (1059)] كتاب الزكاة 46 - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ورقم [48 - (1845)] كتاب الإمارة، 11 - باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم. وأحمد في مسنده (2/ 350)، البيهقي في السنن الكبرى (6/ 144)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 173)، وابن حبان في صحيحه (2297 - الموارد).

(4)

أخرجه أحمد في مسنده (2/ 296، 451) وابن أبي شيبة في مصنفه (13/ 246)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 222)، السيوطي في الدر المنثور (2/ 212)، والشجري في أماليه (2/ 208).

(5)

في الحديث مسلم الأتي "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى" قال النووي في هذا الحديث تقديم =

ص: 367

وفي صحيح مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه. . . الحديث بطوله

(1)

.

وفيه عنه كان صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليَلِني منكم أُولوا الأحلام، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"

(2)

.

وفيه من حديث ابن مسعود: ليلني منكم أولوا الأحلام، ثم الذين يلونهم ثلاثًا، وإياكم وهيْشَات

(3)

الأسواق"

(4)

.

وفي الصحيحين من حديث سهل بن أبي خيثمة في قصة القسامة، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: كَبر كَبر أي يتكلم الأكبر"

(5)

.

وفي البخاري من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد -يعني في القبر- ثم يقول: "أيهما أكثر أخذًا للقرآن، فإذا أُشير إلى أحدِهما قدَّمه في اللَّحد"

(6)

.

= الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى. ولا يختص هذا بالصلاة بل السنة إن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس كمجلس العلم والقضاء والذكر والمشاورة ومواقف القتال وإمامة الصلاة، والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها ويكون الناس فيها على مراتبهم في الحلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب والأحاديث متعاضدة على ذلك. [النووي في شرح مسلم (4/ 130) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [290 - (673)]، (291) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 53 - باب من أحق بالإمامة. وأبو داود في سننه (582)، والنسائي (2/ 76 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (3/ 163)، والبيهقي في السنن (3/ 90، 119)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 343).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [122 - (432)] كتاب الصلاة، 28 - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، وأحمد في مسنده (4/ 276)، وابن خزيمة في صحيحه (1542)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 325)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 27)، والشجري في أماليه (1/ 115)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 351)، وابن كثير في تفسيره (8/ 73).

(3)

هيشات الأسواق: أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [123 - (432)] كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [6 - (1669)] كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، 1 - باب القسامة. وأبو داود (4521)، والنسائي (8/ 5، 7/ 11 - المجتبى)، ومالك في الموطأ (877، 878)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 181)، وابن الجارود في المنتقى (799، 800).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (1353) كتاب الجنائز، 78 - باب اللحد والشق في القبر والنسائي =

ص: 368

وفي مسلم من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر.

فقيل لي: كبْر فدفعته إلى الأكبر منهما"

(1)

.

وفي أبي داود من حديث أبي موسى: "إن من إجلال اللَّه إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المُقسط"

(2)

.

وفي أبي داود والترمذي مصححًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا"

(3)

. وفي (مسلم)

(4)

تعليقًا وأبو داود بسند حسن.

حديث عائشة: "أنزلوا الناس منازلهم"

(5)

.

وفي الترمذي وقال: غريب من حديث أنس: "ما أكرم شاب شيخًا لِسِنه إلَّا قيض اللَّه له من يُكرمه عند سنِّه"

(6)

.

= في الجنائز باب: 61، وابن ماجه (1514) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 10، 31)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 325)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 113).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (246) كتاب الوضوء، 78 - باب دفع السواك إلى الأكبر. ومسلم في صحيحه [70 - (3003)] كتاب الزهد، 15 - باب مناولة الأكبر ورقم [19 - (2271)] كتاب الرؤيا، 4 - باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم. والتبريزي في مشكاة المصابيح (385).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4843) كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 163)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4972)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 309)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 113)، والشجري في أماليه (2/ 241، 246)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 118)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2061، 207).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4943) كتاب الأدب، باب في الرحمة، والترمذي (1920) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الصبيان.

(4)

كذا بالأصل.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4842) كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم والزبيدي في الإتحاف (6/ 265)، وابن كثير في البداية والنهاية (8/ 9)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 57).

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (2022) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في إجلال الكبير، والشجري في أماليه (2/ 244) والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 194)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 12، 15، 23)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 256)، والقرطبي في تفسيره (17/ 241).

ص: 369

‌فصل في صحبة أهل الخير

قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} الآية

(1)

.

"وكان صلى الله عليه وسلم يزور أم أيمن، وكذا أبو بكر وعمر بعده". كما أخرجه مسلم

(2)

من حديث أنس.

وفيه من حديث أبي هريرة: "أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد اللَّه على مدرجته ملكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟

قال: أخًا لي في هذه القرية.

قال: هل له عليك من نعمة تَرُبُّها؟

قال: لا، غير أني أُحبه في اللَّه.

قال: فإني رسول اللَّه إليك بأن اللَّه قد أحبك كما أحببته"

(3)

.

وفي الترمذي محسنًا من حديثه: "من عاد مريضًا أو زار أخًا في اللَّه، ناداه منادٍ أن طبْتَ وطاب ممشاك، وتبوَّأت من الجنة منزلًا"

(4)

.

وفي الصحيحين من حديث لأبي موسى: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحزيكَ وإما أن تبتاع منه، وإمَّا أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك وإمَّا أن تجد منه ريحًا خبيثة"

(5)

.

(1)

سورة الكهف (66).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [103 - (2454)] كتاب فضائل الصحابة، 18 - باب من فضائل أم أيمن وقال النووي: فيه زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو دونه وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل وُدِّ صَدِيقه وزيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها واستصحاب العالم والكبير صاحبا له في الزيارة والعيادة ونحوهما والبكاء حزنا على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (16/ 8) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [38 - (2567)] كتاب البر والصلة والآداب، 12 - باب في فضل الحب في اللَّه. وأحمد في مسنده (2/ 462)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 363)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5007)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 176)، والشجري في أماليه (2/ 135)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 157)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 400، 11/ 76).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2008) كتاب البر والصلة، باب ما جاء في زيارة الإخوان والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 364) والزبيدي في الإتحاف (6/ 176، 296) والشجري في أماليه (2/ 289)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 157). وذكره الحافظ في الفتح (10/ 500).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (5534) كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد، 31 - باب =

ص: 370

تجنب قرين السوء واصرم جماله

فإن لم تجد منه محيصًا فداره

وأحبب حبيب الصدق واترك مُراه

تنل منه صفو الود ما لم تُماره

وللَّه في عرض السموات جنة

ولكنها محفوفة بالمكاره

وفيهما من حديث أبي هريرة: "تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"

(1)

.

وفي البخاري: من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا}

(2)

.

وفي أبي داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: "لا تصحب إلَّا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي"

(3)

.

وفيهما محسنًا من حديث أبي هريرة: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"

(4)

.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى: "المرء مع من أحب"

(5)

.

= المسك. ومسلم في صحيحه [146 - (2628)] كتاب البر والصلة والآداب، 45 - باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء قال النووي: فيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر من فجره وبطالته ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. [النووي في شرح مسلم (16/ 146، 147) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحة (5090) كتاب النكاح، 16 - باب الأكفاء في الدين وقوله:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)} [الفرقان: 54]. ومسلم في صحيحه [53 - (1466)] كتاب الرضاع، 15 - باب استحباب نكاح ذات الدين، باب ما جاء أن المرأة تنكح على ثلاث خصال. والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 79)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 340)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4082)، وأبو نعيم في حلية الأولاء (8/ 383)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 45).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4731) كتاب تفسير القرآن، من سورة مريم، 2 - باب قوله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]، والترمذي في سننه (3158) كتاب تفسير القرآن، من سورة مريم. وأحمد في مسنده (1/ 357)، والحاكم في المستدرك (2/ 611)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 278)، والقرطبي في تفسيره (11/ 128).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4832) كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. والترمذي (2378) كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، وأحمد في مسنده (3/ 38) والدارمي في سننه (2/ 103).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4833) كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس والترمذي في سننه (2378) كتاب الزهد.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6170) كتاب الأدب، 96 باب علامة حب اللَّه عز وجل، ومسلم =

ص: 371

وفي رواية لهما: قيل يا رسول اللَّه الرجل يحب القوم ولَما يلحق بهم.

قال: "المرء مع من أحب"

(1)

.

ولهما من حديث ابن مسعود مثله: ما أعددت لها؟

قال: حُب اللَّه ورسوله.

قال: "أنت مع من أحببت"

(2)

.

وفي رواية لهما: ما أعددت من كثرة صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن حُب اللَّه ورسوله"

(3)

.

وفي مسلم

(4)

من حديث أبي هريرة: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا.

والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"

(5)

.

= في صحيحه [65 - (2640)، كتاب البر والصلة والآداب، 50 - باب المرء مع من أحب، وأبو داود في سننه (5127) كتاب الأدب، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إليه.

والترمذي في سننه (2386) كتاب الزهد باب ما جاء أن المرء مع من أحب. وأحمد في مسنده (1/ 392) والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 26، 27)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 112) والطبراني في المعجم الصغير (1/ 58، 2/ 130)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 286).

(1)

أخرجه البخاري (6169) كتاب الأدب، 96 - باب علامة حب اللَّه عز وجل. ومسلم انظر ما تقدم قبل هذا.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6167) كتاب الأدب، 95 - باب ما جاء في قول الرجل ويلك. ومسلم في صحيحه [161 - (2639)] كتاب البر والصلة والآداب، 50 - باب المرء مع من أحب. وأحمد في مسنده (3/ 104، 110، 165) وابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 169)، وعبد الرزاق في مصنفه (20317) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 280) والطبراني في المعجم الكبير (3/ 304)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 72، 9/ 549).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6171) كتاب الأدب، 96 - باب علامة حب اللَّه عز وجل، ومسلم في صحيحه [164 - (2693)] كتاب البر والصلة والآداب، 50 - باب المرء مع من أحب. والترمذي (2385) كتاب الزهد، باب ما جاء أن المرء مع من أحب.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [160 - (2638)] كتاب البر والصلة والآداب، 49 - باب الأرواح جنود مجندة. وأحمد في مسنده (2/ 539)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 74)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (201) والخطيب في الفقيه والمتفقه (9).

(5)

قال النووي: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة أو أنواع، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها اللَّه عليه.

وقيل: إنها موافقة صفاتها التي جعلها اللَّه عليها وتناسبها في شبهها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة =

ص: 372

وللبخاري هذا الأخير من حديث عائشة.

وفي صحيح مسلم من حديث أسيد بن عمرو

(1)

، في قصة أويس، وطلب الاستغفار منه، وأنه خير التابعين

(2)

.

‌فصل في فضائلهم

قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ}

(3)

الآية.

وقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}

(4)

الآية.

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}

(5)

الآية.

وقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ}

(6)

الآية.

وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا}

(7)

الآية.

= ثم فرقت في أجساده فمن وافق بشيمه ألفه ومن باعده نافره وخالفه.

وقال الخطابي وغيره: تآلفها هو ما خلقها اللَّه عليه من السعادة أو الشقاوة في المبتدأ وكانت الأرواح قسمين متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خلقت عليه فيميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار، واللَّه أعلم. [النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 152) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أسيد بن عمرو، أو ابن جابر، أبو الخبار الكندي الكوفي، أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود في القدر والنسائي وهو ثقة. انظر التقريب (1/ 78)، التهذيب (1/ 349).

(2)

الحديث بطوله أخرجه مسلم في صحيحه [223 - (2542)] كتاب فضائل الصحابه، 55 - باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه وقال النووي: فيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالب أفضل منهم. وقوله صلى الله عليه وسلم "إن خير التابعين رجل يقال له أويس" إلى آخره. هذا صريح في أنه خير التابعين وقد يقال: قد قال أحمد بن حنبل وغيره أفضل التابعين سعيد بن المسيب، والجواب أن مرادهم أن سعيدا أفضل في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه ونحوها لا في الخير عند اللَّه تعالى، وفي هذه اللفظة معجزة ظاهرة أيضا. [شرح مسلم للنووي (16/ 78) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة النساء (69).

(4)

سورة يونس (62).

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان للَّه وليا {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62] أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما وراءهم في الدنيا وقال عبد اللَّه بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف: أولياء اللَّه الذين إذا رؤوا ذكر اللَّه تفسير ابن كثير (2/ 432).

(5)

سورة فصلت (30)، الأحقاف (13).

(6)

سورة آل عمران (113).

(7)

سورة الأحزاب (23).

ص: 373

وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}

(1)

الآية.

وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}

(2)

.

وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

(3)

.

وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}

(4)

الآية.

وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(5)

الآية.

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "يقول اللَّه تعالى

(6)

: من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه"

(7)

.

وفيه أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول اللَّه؟

قال: "مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه". قال: ثم من؟

قال: "رجل معتزل في شِعب من الشِعاب يعبد ربه"

(8)

.

(1)

سورة الحجر (42).

(2)

سورة العنكبوت (69).

يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] أي لنبصرنهم سبلنا أي طرقنا في الدنيا والآخرة [تفسير ابن كثير (3/ 436)].

(3)

سورة المائدة (54).

(4)

سورة الكهف (28).

(5)

سورة البقرة (273).

(6)

هذا من الأحاديث القدسية وهي من اللَّه سبحانه وتعالى، تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم بالإلهام أو بالمنام دون واسطة جبريل واللفظ من عند النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى من عند اللَّه، وهو خلاف القرآن، فالقرآن بلفظه تلقاه النبي من أمين الوحي جبريل من قبل اللَّه تعالى بترتيبه الذي عليه مما راجعه عليه جبريل قبل موته صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة جل وعلا، ورواه عنه والحديث النبوي ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضفه إلى اللَّه تعالى ولم يروه عنه.

(7)

أخرجه البخاري في صحيحه (6502) كتاب الرقاق، 38 - باب التواضع. وابن ماجه في سننه (3989) كتاب الفتن، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 346)، وابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 117)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 102)، والحاكم في المستدرك (4/ 328). قال ابن حجر في الفتح: المراد بولي اللَّه: العالم باللَّه تعالى المواظب على طاعته المخلص في عبادته.

(8)

انظر الحديث تقدم من قبل برواياته في الصحيحين. وقال النووي: فيه دليل لمن قال تفضيل =

ص: 374

وفي رواية لهما: "يتقي اللَّه ويدع الناس من شره".

أخص الناس بالإيمان عبد

خفيف الحاد مسكنه القفار

له في الليل حظ من صلاة

ومن صوم إذا طلع النهار

وقل الباكيات عليه لما

قضى نحبًا وليس له يسار

فذلك قد نجا من كل شدة

ولم تمسه يوم البعث نار

وفي البخاري من حديث ابن عمر: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: "كن في الدنيا غريب أو عابر سبيل"

(1)

.

وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

يا فرقة الأحباب لا بد لي منك

ويا دار دنيا إنني راحل عنك

ويا قصر الأيام ما لى وللنسا

ويا سكرات الموت ما لي وللضحك

وما لي لا أبكي لنفسي بعبرة

إذا كنت لا أبكي لنفسي فمن يبك

ألا أي حي ليس بالموت موقنًا

وأي يقين منه أشبه بالشك

وصحح الترمذي من حديث أبي هريرة: "إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام"

(2)

.

= العزلة على الاختلاط وفي ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص. [شرح مسلم للنووي (13/ 30، 31)].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6416) كتاب الرقاق، 3 - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" والترمذي في سننه (2333) كتاب الزهد، باب ما جاء في قصر الأمل. وابن ماجه في سننه (4114) كتاب الزهد، باب مثل الدنيا. والزبيدي في الإتحاف (7/ 236، 427)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 399، 418)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 242) والطبراني في المعجم الصغير (1/ 30)، والشجري في أماليه (2/ 193)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 313).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (2353)، (2354) كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم. والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير وابن ماجه (4122) كتاب الزهد، 6 - باب منزلة الفقراء، وأحمد في مسنده (2/ 343، 513) والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 139)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 121، 8/ 120)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (3/ 263، 464)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5243)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 91، 8/ 308)، والشجري في أماليه (2/ 208)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 366).

ص: 375

وقائلة ما المجد للمرء والفخر

فقلت لها شيء ليس العلا مهر

فأما بنو الدنيا ففخرهم الغنى

كرم قصير في غد بئس الزهر

وأما بنو الأخرى ففي الرب فخرهم

نضارته تزداد ما بقي الدهر

وقصة ثعلبة بن حاطب

(1)

في سبب نزول قوله تعالى:

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}

(2)

الآية مشهورة

(3)

وفي التواليف والتفاسير مسطورة.

‌فصل

صح من حديث معاذ قال: "قال اللَّه تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".

رواه الترمذي

(4)

وقال: حسن صحيح.

وللموطأ: "وجبت محبتي في المتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ والمتباذلين فيَّ"

(5)

.

تعاشر قوم في المعاصي فحالهم

غدًا للتبري والندامة عقبًا

فأين هم من فتية قد تحاببوا

على طاعة المولى وفي حبه تاهوا

هنيئًا لهم في اللَّه حبهم لقد

كفى شرفًا من أن يحبهم اللَّه

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "سبعة يُظلهم اللَّه في ظِلِّه يوم لا ظل إلَّا

(1)

قال ابن كثير في تفسيره: وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير بسنده عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "ادع اللَّه أن يرزقني مالًا"، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه". . . . . إلى آخره وفيه: "وأنزل فرائض الصدقة فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين وقال لهما مرا بثعلبة وبفلان الى أن قال: "فأنزل اللَّه عز وجل" {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآية. . . . . الحديث بطوله تفسير ابن كثير (2/ 381، 382).

(2)

سورة التوبة (75).

(3)

الحديث أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 31)، الشجري في أماليه (1/ 198)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 260)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 262)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 290).

(4)

أخرجه والترمذي في سننه (2390) كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه. وأحمد في مسنده (5/ 239)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 19)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 174)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 131).

(5)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (6/ 175، 5/ 247، 5/ 245)، وابن أبي حاتم في العلل (1830) وأحمد في مسنده (5/ 247)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (7/ 208).

ص: 376

ظله

(1)

، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة اللَّه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابَّا في اللَّه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف اللَّه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما قدمت يمينه، ورجل ذكر اللَّه خاليًا ففاضت عيناه"

(2)

.

وقد جمعهم بعض الحفاظ في بيت:

وقال النبي المصطفى أن جمعتهُ

يظلهم اللَّه العظيم بظله

محبّ عفيف ناشئ متصدق

وذاك مصل والإمام العادل

‌فصل

وورد من حديث البراء بن عازب مرفوعًا: "إن للَّه تعالى خوَّاص يسكنهم الرفيع من الجنان، كانوا أعقل الناس". قالوا: يا رسول اللَّه وكيف كانوا كذلك؟

قال: "همتهم المسابقة إلى ربهم والمسارعة إلى ما يرضيه، وزهدوا في الدنيا، وفضولها ورياستها ونعيمها، فصبروا قليلًا، واستراحوا طويلًا"

(3)

.

وعن أنس رفعه: "بدلاء أمتي أربعون رجلًا، اثنان وعشرون بالشام، وثمانية

(1)

قال القاضي: إضافة الظل إلى اللَّه تعالى إضافة ملك وكل ظل فهو للَّه وملكه وخلقه وسلطانه والمراد هنا ظل العرش كما جاء في حديث آخر مبينا والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين ودنت منهم الشمس واشتد عليهم حرها وأخذهم العرق ولا ظل هناك لشيء إلا للعرش، وقد يراد به هنا ظل الجنة وهو نعيمها والكون فيها كما قال تعالى {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}. وقال القاضي: قال ابن دينار: المراد بالظل هنا الكرامة والكنف والكف من المكاره في ذلك الموقف قال: وليس المراد ظل الشمس، قال القاضي: وما قاله معلوم في اللسان يقال: فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته. [شرح مسلم للنووي (7/ 107، 108) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (660) كتاب الأذان، 36 - باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد. ورقم (1423) كتاب الزكاة، 18 - باب الصدقة باليمين، ورقم (6479) كتاب الرقاق، 24 - باب البكاء من خشية اللَّه ورقم (6806) كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، 5 - باب فضل من ترك الفواحش ومسلم في صحيحه [91 - (1031)] كتاب الزكاة 30 - باب فضل إخفاء الصدقة. والترمذي في سننه (2391) كتاب الزهد، باب ما جاء في الحب في اللَّه. والنسائي (8/ 222 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 439)، وابن خزيمة في صحيحه (358)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 217)، وابن حجر في التلخيص (3/ 115).

(3)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 17)، وابن حجر في المطالب العالية (3299)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/ 216).

ص: 377

عشر بالعراق، كلما مات واحدًا بدَّل اللَّه مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قُبضوا"

(1)

.

وعن ابن مسعود رفعه

(2)

: "إن للَّه في الأرض ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم، وأربعون قلوبهم على قلب موسى، وسبعة على قلب إبراهيم، وخمسة على قلب جبريل، وثلاثة على قلب ميكائيل، وله واحد قلبه على قلب إسرافيل، فإذا مات واحد أبدل اللَّه مكانه من الثلاثة

(3)

.

وإذا مات من الثلاثة أبدل مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل اللَّه مكانه من السبعة وإذا مات من السبعة أبدل اللَّه مكانه من الأربعين.

وإذا مات من الأربعين أبدل اللَّه مكانه من الثلاثمائة وإذا مات من الثلاثمائة أبدل اللَّه مكانه من العامة.

يرفع اللَّه بهم البلاء عن هذه الأمة"

(4)

.

وعن عبد اللَّه بن عمر مرفوعًا: "هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق اللَّه؟

(5)

قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: أول من يدخل الجنة من خلق اللَّه الفقراء المهاجرون الذين تُسد بهم الثغور، وتُتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء.

قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما

(1)

أخرجه العجلوني في كشف الخفا (1/ 334)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (1/ 61).

(2)

أخرجه الذهبي في الميزان (5549) وابن الجوزي في الموضوعات (3/ 150) وابن حجر في لسان الميزان (4/ 349).

(3)

قال الإمام الشوكاني: اعلم إن أولياء اللَّه غير الأنبياء ليسوا بمعصومين، بل يجوز عليهم ما يجوز على سائر عباد اللَّه المؤمنين، لكنهم قد صاروا في رتبة رفيعة ومنزلة عالية، فقل أن يقع منهم ما يخالف الصواب وينافي الحق، فإذا وقع ذلك فلا يخرجهم عن كونهم أولياء للَّه. ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من اللَّه سبحانه فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب أن يعرض أقواله، وأفعاله على الكتاب والسنة فإن كانت موافقة لها فهي حق وصدق وكرامة من اللَّه سبحانه وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنه مخدوع ممكور به قد طمع منه الشيطان فلبس عليه. [انظر قطر الولي على حديث الولي صـ 35 - 37 من تحقيقنا طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

تقدم تخريجه في أوله فانظره.

(5)

روى مسلم في صحيحه [14 - (2834)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 6 - باب أول زمرة تدخل الجنة على سورة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم، عن أبي هريرة "أنه أول زمرة تدخل الجنة على سورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب وقد روى الترمذي وتقدم قريبا "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة".

ص: 378

صبرتم فنعم عقبى الدار". رواه ابن حبان

(1)

في صحيحه.

وعن أنس بعث الفقراء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه إن الفقراء

(2)

يقولون لك إن الأغنياء قد ذهبوا بالخير كله.

وفي لفظ: ذهبوا بالجنة هم يحجون ولا نقدر عليه ويتصدقون ويعتقون، ولا نقدر عليه.

وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذُخرًا لهم.

فقال صلى الله عليه وسلم: "بلِّغ الفقراء عني أن لمن صبر واحتسب منهم ثلاث خصال ليس للأغنياء منها شيء:

أما الأولى: فإن في الجنة غُرفًا من ياقوت أحمر ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى النجوم لا يدخلها إلا نبي فقير، أو شهيد فقير، أو مؤمن فقير.

والثانية: يدخل الفقراء الجنة قبلهم بنصف يوم وهو مقدار خمسمائة عام

(3)

.

والثالثة: إذا قال الفقير سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلَّا اللَّه واللَّه أكبر مخلصًا

(4)

وقال الغني مثل ذلك، لم يلحق الغني الفقير في فضله، فتضاعف الثواب، وإن أنفق الغني منها عشرة الآف درهم. وكذلك أعمال البر كلها".

فرجع الرسول فأخبرهم بذلك فقالوا: رضينا يا ربنا رضينا.

(1)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (2565 - الموارد)، وأحمد في مسنده ((2/ 168)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 347)، والهيثمي في مجمع الزوائد (25980)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 58)، وابن كثير في تفسيره (4/ 373).

(2)

روى مسلم في صحيحه [53 - (1006)] كتاب الزكاة، 16 - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، عن أبي ذر أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال:"أو ليس قد جعل اللَّه لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة. . " الحديث بطوله فانظره وقال النووي: في هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضار النية في المباحات وذكر العالم دليلا لبعض المسائل التي تخفى.

(3)

أخرجه والترمذي في سننه (2353) وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 513)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 91)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5243)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8/ 222، 9/ 287)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (3/ 363).

(4)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 287).

ص: 379

وعن عبد اللَّه بن مغفل قال:

(1)

قال رجل يا رسول اللَّه واللَّه إني لأُحبك.

فقال: "انظر ما تقول؟ "

قال: واللَّه إني أُحبك ثلاث مرات.

قال: "إن كنت تحبني فاتخذ للفقر تجفافًا

(2)

، فإن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه" حسَّنه الترمذي.

التجفاف: شيء تلبسه الفرس تقي به الأذى.

وعن الحسن البصري أنه روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(3)

"أكثروا من معرفة الفقراء، واتخذوا عندهم الأيادي، فإن لهم دولة".

قالوا: يا رسول اللَّه وما دولتهم؟

قال: "إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا إلى من أطعمكم كسرة أو كساكم ثوبًا، أو سقاكم شربة في الدنيا، فخذوا بيده، ثم امضوا به إلى الجنة"

(4)

.

وعن الحسن أيضًا رفعه:

(5)

"يؤتى بالفقير يوم القيامة فيعتذر اللَّه إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا. ويقول: وعزتي وجلالي ما زويتها عنك لهوانك عليَّ، ولكن ما أعددت لك من الكرامة والفضيلة.

أُخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فانظر إلى من أطعمك أو كساك وأراد بذلك وجهي فخُذ بيده فهو لك، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق

(6)

فيتخلل الصفوف وينظر

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (2350) كتاب الزهد، باب ما جاء في فضل الفقر وأحمد في مسنده (2/ 227)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 357). والقاضي عياض في الشفا (2/ 64)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5252)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 163)، والشجري في أماليه (1/ 32)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 302)، والعراقي في المغني عن حمل الأصفار (3/ 171)، وابن كثير في تفسيره (3/ 553).

(2)

تجفافا: أي استعد له.

(3)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 279)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 192). وقال ابن حجر في التقريب (1/ 165): عن الحسن البصري أنه كان يرسل كثيرا ويدلس، قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا، ويعني قومه الذين حدثوا أو خطبوا بالبصرة.

(4)

ورواه أيضا: ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 25)، والذهبي في ميزان الاعتدال (8915)، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (4/ 310).

(5)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 278).

(6)

روى مسلم في صحيحه [62 - (2864)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 15 - باب في صفة يوم القيامة، أعاننا اللَّه على أهوالها عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنى =

ص: 380

من فعل به ذلك في الدنيا، فيأخذ بيده ويدخله الجنة.

ويروى أن اللَّه تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى إن من عبادي من لو سألني الجنة بحذافيرها لأعطيته، ولو سألني علاقة سوط من الدنيا لم أُعطه

(1)

.

وليس ذلك من هوان له، ولكني أريد أن أدخر له في الآخرة من كرامتي

(2)

، وأخرجه من الدنيا كما يجيء الراعي غنمة من مراعي السوء.

ومن حديثه قال: ما من يوم أقر لعيني ولا أحب لنفسي من يوم آتي أهلي، فلا أجد عندهم طعامًا فيقولون: ما نقدر على قليل ولا كثير، وذلك أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه تعالى أشد حميَّة للمؤمن من الدنيا من المريض أهله الطعام والشراب.

واللَّه تعالى أشد تعاهدًا للمؤمن بالبلاء من الوالد لولده بالخير"

(3)

.

وعن ابن عمر مرفوعًا:

(4)

"لكل شيء مفتاح ومفتاح الجنة حُب المساكين، والفقراء الصُبُر جلساء اللَّه يوم القيامة".

وورد بإسناد صححه الحاكم: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في

= الشمس يوم القيامة، من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فواللَّه ما أدري ما يعنى بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين، قال:"فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما".

(1)

قال تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]. وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ: 36]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر:52].

(2)

روى مسلم في صحيحه [2 - (2824)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال اللَّه عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" وروي أيضا في رقم [22 - (2837)] عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: موسى "ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسئموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تثبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا" فذلك قوله عز وجل {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} .

(3)

أخرجه أبو نعيم في حليه الأولياء (1/ 277) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 285)، والكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية (2/ 8)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 180).

(4)

أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 82) والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9/ 283) والسيوطي في اللآلي المصنوعة (2/ 174).

ص: 381

زمرة المساكين"

(1)

.

وقد ورد أن اللَّه تعالى عرض عليه مفاتيح كنوز الأرض وخيره بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا فاستشار جبريل، فأشار عليه أن تواضع، فقال بل نبيًا عبدًا، أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فإذا جعت دعوت اللَّه، وإذا شبعت شكرت اللَّه".

فقصد أن يكون شُغله باللَّه في حالتي الشدَّة والرخاء والنعمة والبلاء.

وقد صح من حديث شداد بن أوس

(2)

: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللَّه"

(3)

. أخرجه الترمذي وحسنه.

وروى من حديث زيد بن أسلم مرفوعًا: "إذا أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف فتصدق بها وأخرج آخر درهمًا من درهمين لا يملك غيرهما طيبة نفسه صار صاحب الدرهم الواحد أفضل من صاحب مائة ألف".

ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "سبق درهم مائة ألف"

(4)

.

(1)

أخرجه والترمذي في سننه (2352) كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم. وابن ماجه في سننه (4126) كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء والحاكم في المستدرك (4/ 322)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 12)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 262)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 289، 8/ 152، 9/ 272)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1545)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 206)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 294، 6/ 75)، والقرطبي في تفسيره (8/ 169) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 274).

(2)

شداد بن أوس بن ثابت، أبو يعلى، ويقال أبو عبد الرحمن، الأنصاري، البخاري ابن أخي حسان بن ثابت، صحابي مات بالشام، أخرج له أصحاب الكتب الستة توفي سنة (58، 64) ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 347)، وتاريخ البخاري الكبير (4/ 224)، والجرح والتعديل (4/ 1434) الثقات (3/ 185)، أسد الغابة (2/ 347) الإصابة (3/ 319)، سير الأعلام (2/ 460)، الوافي بالوفيات (16/ 123)، تجريد أسماء الصحابة (1/ 253).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2459) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع وابن ماجه في سننه (4260) كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له وأحمد في مسنده (4/ 24)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 369)، والحاكم في المستدرك (1/ 57، 4/ 251)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 338، 341)، وفي الصغير (2/ 36)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 252)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 267، 8/ 174)، وابن المبارك في الزهد (56)، والعجلوني في كف الخفا (2/ 196) والتبريزي في مشكاة المصابيح (5289).

(4)

أخرجه النسائي (5/ 59 - المجتبى) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 181) والحاكم في المستدرك (1/ 416)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (4/ 127)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 23)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 531).

ص: 382

أخرجه النسائي.

ويقويه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة جهد البلاء"

(2)

.

لئن كان للأموال فخر على الثرى

فللفقر فخر بالثريا معلق

وإن أنفق النُّفاق ألف عديدة

فدرهم أهل الفقر يا صاح يسبق

وعن الضحاك

(3)

: "من مرَّ في السوق فرأى شيئًا يشتهيه ولا يقدر عليه فصبر واحتسب كان خيرًا له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل اللَّه".

وعن أبي الدرة: "أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ولهم فضول يحاسبون عليها، ونحن بُرآء منها".

وعن عبد اللَّه بن عمر قال

(4)

: يجمع اللَّه الخلق يوم القيامة فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينها فيتراؤون فيقال: ما عندكم؟

فيقولون: يا رب ابتلينا فصبرنا، وأنت أعلم، ووليت الأموال والسلطان غيرنا، قال: فيقال: صدقتم.

فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان ويبقى شدَّة الحساب على ذوي الأموال.

وعن أبي سليمان الداراني

(5)

قال: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل

(1)

سورة التوبة (79).

(2)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (4/ 11) والتبريزي في مشكاة المصابيح (1938)، والألباني في إرواء الغليل (3/ 414)، وابن كثير في تفسيره (8/ 96)، والحميدي في مسنده (1276)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/ 213) وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (569).

(3)

الضحاك بن مزاحم، أبو القاسم، أبو محمد الهلالي الخراساني، البلخي، صاحب التفسير، صدوق كثير الإرسال، أخرج له: أصحاب السنن الأربعة توفي سنة (105، 106). ترجمته: تهذيب التهذيب (4/ 453)، وتقريب التهذيب (1/ 373) تاريخ البخاري الكبير (4/ 332)، التاريخ الصغير للبخاري (1/ 243، 244)، الجرح والتعديل (4/ 2024)، ميزان الاعتدال (2/ 325)، سير الأعلام (4/ 598)، الوافي بالوفيات (16/ 359)، الثقات (6/ 480).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2557)، والحاكم في المستدرك (2/ 363، 399)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 558، 472)، حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 9)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 50، 52، 53)، والقرطبي في تفسيره (15/ 57)، وابن أبي عاصم في السنة (2/ 367، 375).

(5)

أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن أحمد وقيل عبد الرحمن بن عطية، وقيل ابن عسكر، وقيل: ابن أحمد بن عطية السيد القدوة. روى عن: سفيان الثوري، وأبي الأشهب، وعبد الواحد بن زيد، وعلقمة بن سويد، وعلي بن الحسن الزاهد، وصالح بن عبد الجليل. قال الجنيد: وقال =

ص: 383

من عبادة غني ألفي عام.

وعن ابن وهب قال: درهم الفقير أزكى عند اللَّه من دينار الغني.

وعن بعض السادة أنه جاءه إنسان فقال: ادع اللَّه لي فقد أضر بي العيال.

فقال له الشيخ: إذا قال لك عيالك: ما عندنا دقيق ولا خبز، فادع اللَّه فإن دعاءك في تلك الساعة أرجى من دعائي لك

(1)

.

وعن بعضهم أنه قال له أولاده ما عندنا عشاء فقالوا: نحن أهون على اللَّه من أن يجوعنا، إنما يجوع أحبابه - أو قال أولياؤه.

وعن الأرقم

(2)

قال: رأيت عليًا وهو يبيع سيفًا له بالسوق ويقول: من يشتري مني هذا السيف. فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته.

وعن سلمان الفارسي أنه قال: إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه الذي يعلم دواءه، فإذا اشتهى ما يضره منعه، فلا يزال يمنعه حتى يبرأ.

فكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة من العيش فيمنعه اللَّه إياه، حتى يتوفاه، فيدخله الجنة.

وعن الإمام أحمد أنه سُئل عن استعاذة

(3)

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الفقر، وقد أخبر

= أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وقال: لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء ولكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن وقال: لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا. توفي سنة (215). تاريخ الإسلام وفيات (211 - 220).

(1)

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] روى ابن أبي حاتم بسنده عن معاوية بن حيدة أن أعرابيا قال يا رسول اللَّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فتناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] إذا أمرتهم أن يدعوني فدعونني أستجيب، تفسير ابن كثير (1/ 218).

(2)

الأرقم بن أبي الأرقم بن عبد مناف بن أسد بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم المخزرمي الذي استخفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في داره المعروفة بدار الخيزران عند الصفا، أبو عبد اللَّه، نفله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيفا، واستعمله على الصدقات عاش الأرقم بضعا وثمانين سنة ومات بالمدنية وصلى عليه سعد بن أبي وقاص بوصيته وبقي ابنه عبد اللَّه إلى حدود المائة. وروى وأحمد في مسنده من حديث هشام بن زياد عن عثمان بن الأرقم عن أبيه، في ذم تخطي الرقاب يوم الجمعة رفع الحديث. توفي سنة (53) وله (83) سنة تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (51 - 60).

(3)

حديث "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة والذلة، وأعوذ بك أن أظلم أو أُظلم" أخرجه أبو داود في سننه (1544)، والنسائي (8/ 261 - المجتبى)، وابن ماجه (3842)، والحاكم في =

ص: 384

بما فيه من الثواب؟

فقال: إنما معناه فقر القلب، ولا فقر اليد.

وعن الجنيد

(1)

أنه جاءه شخص بخمسمائة دينار فوضعها بين يديه وقال: فرِّقها على هؤلاء الجماعة. فقال: ألك غيرها؟

قال: نعم لي دنانير كثيرة.

قال: أتريد زيادة على ما تملك؟

قال: نعم.

قال: خذها فإنك أحوج إليها منا، ولم يقبلها

(2)

.

لكسرةٍ من جريش الخبز تُشبعني

وشربة من قراح الماء ترويني

وخرقة من حرس السور تكفيني

حيًا فإن مت تكفيني لتكفيني

وعن إبراهيم بن أدهم

(3)

أنه جاءه رجل بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها

= المستدرك (1/ 540)، وأحمد في مسنده (2/ 305، 325، 354)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 12)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2467)، وابن حبان في صحيحه (2443 - الموارد) والألباني في إرواء الغليل (3/ 354)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 257)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 350، 9/ 271).

(1)

الجنيد بن محمد الزجاج كان أبوه يبيع الزجاج فلذلك يقال له القواريري أصله من نهاوند مولده ومنشؤه بالعراق وكان فقيها يفتي الناس على مذهب أبي ثور صاحب الإمام الشافعي وراوي مذهبه القديم. صحب خاله السرى السقطى والحارث المحاسبي ومحمد بن على القصاب وكان من كبار القوم وساداتهم وكلامه مقبول على جميع الألسنة وكان يقول إذا رأيت الفقير فلا تبدأه بالعلم وابدأه بالرفق فإن العلم يوحشه والرفق يؤنسه انظر الطبقات الكبري للشعراني (1/ 72).

(2)

ذكرها في الطبقات الكبرى وقال الذهبي: قال الجنيد: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال: يا غلام ما الشكر، فقال: أن لا يعص اللَّه بنعمه، فقال: أخشى أن يكون حظك من اللَّه لسانك، قال الجنيد: فلا أزال أذكر على هذه الكلمة التي قالها لي. وعن الجنيد قال: أعلى درجه الكبر أن ترى نفسك وأدناها أن تخطر ببالك، يعني نفسك. تاريخ الإسلام وفيات (291 - 300).

(3)

إبراهيم بن أدهم بن منصور، كان من كورة بلخ من أولاد الملوك، ومن كلامه: من علامة العارف باللَّه أن يكون أكبر همه الخير والعبادة وأكثر كلامه الثناء والمدحة. كان يقول في تفسير قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83] من حب العلو أن تستحسن شسع نعلك على شسع نعل أخيك، وكان رحمه الله إذا لم يجد الطعام الحلال يأكل التراب ومكث شهرا يأكل الطين، وكان يقلل الطعام والأكل ما استطاع. وكتب إليه الأوزاعي رحمه الله إنى أريد ان أصحبك يا إبراهيم فكتب إليه إبراهيم إن الطير إذا طار مع غير شكله طار الطير وتركه واللَّه أعلم. انظر الطبقات الكبرى (1/ 59).

ص: 385

وقال: تريد أن تمحو اسمي من ديوان الفقراء بذلك.

لا أفعل ذلك.

ولست بمال إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء في جانب الفقر

وعنه أيضًا طلب أبناء الدنيا الراحة في الدنيا فأُعطوا ولو علموا أن الملك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف.

وعن ذي النون

(1)

قال: الزهاد ملوك الآخرة، وهم فقراء العارفين.

وعن إبراهيم بن أدهم أنه قال لرجل: أتحب أن تكون وليًا؟

قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرغ نفسك للَّه، وأقبل بوجهك عليه، ليقبل عليك ويواليك.

وقد صح: ازهد في الدنيا يحبك اللَّه وازهد فيما بين أيدي الناس يحبك الناس"

(2)

.

وعن أبي يزيد البسطامي أنه قال: إن للَّه عبادًا لو حجبهم في الجنة من رؤيته لاستغاثوا من الجنة، كما يستغيث أهل النار من النار.

قلت: وسيدنا عليه أفضل الصلاة والسلام قد جمع له بين الحالين: الفقر والغنى، وهو سيد الزهاد.

وجمع الصحابة المال كعبد الرحمن بن عوف

(3)

ليس للمباهاة كما نبه عليه

(1)

اسمه ثوبان بن إبراهيم، وكان أبوه نوبيا وكان رجلا نحيفا تعلوه حمرة وليس بأبيض اللحية ومن كلامه: إياك أن تكون للمعرفة مدعيًا أو بالزهد محترفا أو بالعبادة متعلقا وفر من كل شيء إلى ربك، وتذاكر الفقراء عنده يوما في المحبة فقال لهم كفوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها، وكان يقول من القلوب: قلب يستغفر قبل أن يذنب فيثاب قبل أن يطيع. توفي سنة (245) انظر الطبقات الكبرى (1/ 60).

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه (4102) كتاب الزهد، 1 - باب الزهد في الدنيا وقال في الزوائد: في إسناده خالد بن عمرو، وهو ضعيف متفق على ضعفه، واتهم بالوضع، وأورد له العقيلي هذا الحديث وقال: ليس له أصل من حديث الثوري، لكن قال النووي عقب هذا الحديث رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة وأخرجه أيضا: والحاكم في المستدرك (4/ 313) والطبراني في المعجم الكبير (6/ 37)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5187)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 156)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 309).

(3)

قال عنه الذهبي: كان تاجرا سعيدا فتح عليه في التجارة وتمول، حتى باع مرة أرضا بأربعين ألف دينار فتصدق بها وحمل على خمسمائة فرعى في سبيل اللَّه، ثم على خمسمائة راحلة. تاريخ الإسلام وفيات (31 - 40).

ص: 386

الحارث المحاسبي

(1)

السيد، وبسَّطه.

ولست أرى السعادة جمع مال

ولكن التقي هو السعيد

فتقوى اللَّه خير الزاد جدًا

وعند اللَّه الأتقى يزيد

‌فصل

وقد كان سفيان الثوري يزور رابعة العدوية

(2)

ويتأدب معها.

وكان الإمام أحمد عند الشافعي، وجاء شيبان الراعي، فقال الإمام أحمد أُريد أن أنبه هذا على نقصان علمه ليشغل بتحصيل بعض العلوم، فقال له الشافعي لا تفعل

(3)

، فلم يطعه فقال لشيبان: ما تقول فيمن نسى صلاة من الخمس لا يدري عينها.

فقال: يا أحمد هذا قلب غفل عن اللَّه فيؤدب حتى لا يغفل عن صلاته، فغشي على أحمد.

وفي رواية عنه: يؤدب بإعادة الخمس.

فلما أفاق قال له الشافعي: ألم أنهك عن ذلك.

وكذلك لما سعى بالصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر أن تضرب أعناقهم.

فأما الجنيد فتستر بالفقه، كان يفتي على مذهب أبي ثور.

(1)

الحارث بن أسد المحاسبي أبو عبد اللَّه، من علماء مشايخ القوم بعلوم الظاهر وعلوم الأصول وعلوم المعاملات، وهو أستاذ أكثر البغداديين بصري الأصل، مات ببغداد سنة (243). ومن كلامه: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين اللَّه تعالى ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة وكان يقول خيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم آخرتهم عن ديناهم ولا دنياهم عن آخرتهم.

(2)

رابعة العدوية كانت كثيرة البكاء والحزن وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانًا وكانت تقول: استغفارنا يحتاج إلى استغفار وكانت ترد ما أعطاه الناس لها وتقول: مالي حاجة بالدنيا، وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنها شن بال تكاد تسقط إذا مشت وكان كفنها لم يزل موضوعا أمامها، وكان بموضع سجودها وكان موضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها، وسمعت سفيان الثوري يقول واحزناه فقالت له: وا قلة حزناه، ولو كنت حزينا ما هناك العيش.

(3)

قال عبد اللَّه بن أحمد، عن أبيه وذكر الشافعي عنده، فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه. وروى عنه الشافعي لكنه قال: الثقة ولم يسمه وقال عبد اللَّه بن أحمد: قلت لأبي: يا أبة أي رجل كان الشافعي؟ فإنى سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف، أو منهما عوض. وقال أبو داود: ما رأيت أحمد يميل إلى أحد إلا الشافعي، وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم سحرا أحدهم الشافعي. الذهبي في تاريخ الإسلام وفيات (241 - 250) ووفيات (201 - 210).

ص: 387

وأما الشحام والرقام والنوري

(1)

فقبض عليهم وبسط النطع لتُضرب أعناقهم.

فتقدم النوري

(2)

فقال له السياف أتدري إلى ما تبادر.

فقال: نعم.

قال: وما يعجلك؟

قال: أُوثر أصحابي بحياة ساعة.

فتحير السياف، وأنهى الأمر إلى الخليفة.

فتحيَّر الخليفة ومن عنده في ذلك، وكان عنده القاضي.

فاستأذن الخليفة أن يذهب إليهم ليبحث معهم ويختبر حالهم.

فأذن له، فآتاهم وقال: يخرج إليَّ واحد منكم حتى أبحث معه.

فخرج إليه النوري، فألقى عليه القاضي مسائل فقهية، فالتفت يمنة ويسرة، ثم أطرق ساعة ثم أجابه عن الكل

(3)

.

ثم جعل يقول: إن للَّه عبادًا إذا قاموا، قاموا باللَّه، وإذا نطقوا نطقوا باللَّه،

(1)

هو أبو الحسين أحمد بن محمد النوري الزاهد شيخ الصوفية، كان من أعلم العراقيين بلطائف القوم، صحب السري السقطي وغيره، وكان أبو القاسم الجنيد يعظمه ويحترمه وأصله خراساني بغوي، توفي سنة (295)، حكى ابن الأعرابي محنته وغيبته في أيام محنة غلام خليل، وأنه أقام بالكوفة مرة سنين متخليا عن الناس، ثم عاد إلى بغداد وقد فقد أناسه وجلاسه وأشكاله فانقبض عن الكلام لضعف قوته، وضعف بصره. انظر تاريخ الإسلام وفيات (291 - 300).

(2)

كان النوري من أقران الجنيد وكان يقول: أعز الأشياء في زماننا هذا شيئان عالم يعمل بعلمه وعارف ينطق عن حقيقة وكان يقول الجمع بالحق تفرقه عن غيره والتفرقة عن غيره جمع به وكان يقول: ليس التصوف رسومًا ولا علومًا، وإنما هو أخلاق، وكان يقول: من لم يعرف اللَّه تعالى في الدنيا لم يعرفه في الآخرة وكان يقول منذ عرفت ربى ما اشتهيت شيئا ولا استحسنت شيئا وكان يقول من رأيته يركن إلى غير أبناء جنسه ويخالطهم فلا تقربن منه، ومن رأيته يسمع القصائد ويميل إلى الرفاهية فلا ترج خيره ومن رأيته من الفقراء غافل القلب عند السماع فاتهمه. الطبقات الكبرى (1/ 74، 75).

(3)

قال أبو نعيم: سمعت عمر البنا بمكة لما كانت محنه غلام خليل ونسبوا الصوفية إلى الزندقة أمر الخليفة بالقبض عليهم، فأخذ في جملتهم النوري إلى السياف ليضرب عنقه فقيل له في ذلك فقال: آثرت حياتهم على نفسي في هذه اللحظة، فتوقف السياف فرد الخليفة أمرهم إلى قاضي القضاة إسماعيل بن إسحاق فسأله القاضي عن مسائل في العبادات فأجابه النوري، ثم قال له: وبعد هذا فلله عباد يسمعون باللَّه وينطقون باللَّه، ويأكلون باللَّه، فبكى القاضي ودخل على الخليفة وقال إن كان هؤلاء زنادقة فليس في الأرض موحد، فأطلقهم. تاريخ الإسلام الذهبي وفيات (291 - 300).

ص: 388

وسرد كلامًا أبكى القاضي

(1)

.

ثم سأله القاضي عن التفاته؟

فقال: سألتني عن المسائل ولا أعلم لها جوابًا فسألت عنها صاحب اليمين فقال لا أعلم.

وسألت عنها صاحب الشمال فقال: لا أعلم.

فسألت قلبي فأخبرني عن ربي، فأجبتك بذلك.

فأرسل القاضي إلى الخليفة وقال: إن كان هؤلاء زنادقة، فما على وجه الأرض مسلم

(2)

.

وجاء جماعات من فقهاء اليمن إلى الشيخ العارف أبي الغيث بن جميل يمتحنوه في شيء، فلمَّا دنو منه قال: مرحبًا بعبيد عبيدي.

فاستعظموا ذلك، فلقوا الشيخ إسماعيل بن محمد الحضري، فأخبروه بذلك.

فضحك وقال: صدق، أنتم عبيد الهوى والهوى عبده.

وللشيخ تاج الدين بن عطاء اللَّه

(3)

:

وكنت قديمًا أطلب الوصل منهم

فلما أتاني الحلم وارتفع الجهل

(1)

القاضي هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن يزيد بن درهم، أبو إسحاق الأزدي مولاهم البصري، شيخ مالكية الحراق وعالمهم قال الخطيب: كان عالما متقنا فقيها على مذهب مالك شرح المذهب واحتج له وصنف المسند، وصنف في علوم القرآن، واستوطن بغداد وولى قضاءها إلى أن توفي، ونشر مذهب مالك بالعراق. كان وافر الحرمة، ظاهر الحشمة، كبير القدر توفي فجأة سنة (282).

(2)

قال الخلال: كان أبو الحسين النوري إذا رأى منكرا غيره، ولو كان فيه تلفه، فنزل يوما يتوضأ فرأى زورقا فيه ثلاثون دنَّا فقال للملاح: ما هذا؟ فقال: ما يلزمك، فألح عليه. فقال: أنت واللَّه صوفي كثير الفضول، هذا خمر للمعتضد، فقال: أعطني ذلك المدري فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع فأخذه ولم يزل يكسرها دنا دنا، فلم يترك إلا واحدا، فأخذ النوري وأدخل إلى المعتضد فقال: من أنت ويلك؟. قال: قلت: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين. فأطرق ثم قال: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: شفقة مني عليك، قال: كيف خلص هذا الدن؟، قال: أنه كان يكسر الدنان ونفسه مخلصة، فلما وصل إلى هذا الدن أعجبته نفسه فارتاب في إخلاصه، فترك الدن. الذهبي في تاريخ الإسلام وفيات (291 - 300).

(3)

تاج الدين بن عطاء اللَّه السكندري الزاهد المذكر الكبير القدر تلميذ الشيخ ياقوت وقبله تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي؛ كان ينفع الناس بإشاراته ولكلامه حلاوة في النفوس وجلالة، مات سنة (707)، ومن مؤلفاته: لطائف المنن، وكتاب التنوير في إسقاط التدبير، وكتاب الحكم، وغير ذلك.

ص: 389

تيقنت أن العبد لا طلبه له

فإن قربوا فضل وإن بعدوا عدل

وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم

وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلوا

غيره

كانت لقلبي أهواء مفرقة

فاستجمعت مُذ رأتك العين أهوائي

وصار يحسدني من كنت أحسده

وصرت مولى الورى مُذ صرت مولاي

تركت للخلق دنياهم ودينهم

شغلًا بحبك يا ديني ودنياي

غيره

فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غِضَابُ

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود يا غاية المنى

فكل الذي فوق التراب تراب

ص: 390

‌مجلس في التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}

(1)

.

وقال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}

(2)

.

ينهى عن قهر اليتيم والضعيف. ونهر السائل المسكين.

وأما الأحاديث فكثيرة منها:

حديث أبي هريرة السالف: "من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب"

(3)

.

ومنها: حديث سعد بن أبي وقاص السالف في ملاطفة اليتيم.

وقوله صلى الله عليه وسلم

(4)

: "يا أبا بكر إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك".

وروينا في صحيح مسلم من حديث جندب مرفوعًا: "من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة اللَّه

(5)

، فلا يطلبنكم اللَّه من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يُدركه، ثم يَكبّه على وجهه في نار جهنم"

(6)

.

(1)

سورة الأحزاب (58).

(2)

سورة الضحي (9، 10){فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)} [الضحى: 9] أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه فلا تقهر اليتيم، أي لا تذله وتنهره وتهنه ولكن أحسن إليه وتلطف به. قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 10] السائل في العلم المسترشد، قال ابن إسحاق: أي فلا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا ولا فظا على الضعفاء من عباد اللَّه. تفسير ابن كثير (4/ 523).

(3)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (6502) كتاب الرقاق، 38 - باب التواضع وابن ماجه في سننه (3989) وكتاب الفتن والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 346)، وابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 117)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 102)، والحاكم في المستدرك (4/ 328)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1640).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [170 - 2504] كتاب فضائل الصحابة، 42 - باب من فضائل سلمان وصهيب وبلال، وأحمد في مسنده (5/ 64)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 18)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6205)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 346).

(5)

قوله صلى الله عليه وسلم "من صلى الصبح فهو في ذمة اللَّه" قيل: الذمة هى الضمان، وقيل: الأمان.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [261 - (657)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، 46 - باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة والبيهقي في السنن الكبرى والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 240)، =

ص: 391

وفي هذه الأحاديث بيان وبال ذلك.

والحرب من الجليل لا يقاوم، وما أبلغ التهديد به وإغضاب أوليائه مُوقع في إغضابه، وما أشده فإن الغضب إرادة الانتقام، وإخفار الذمة سبب الغضب فليحذر.

= وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 96)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 41، 296)، والطبراني في المعجم في الكبير (2/ 169).

ص: 392

‌مجلس في ذم الدنيا وذكر الموت وقصر الأمل

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ}

(1)

إلى آخر السورة.

وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}

(2)

الآية.

وقال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}

(3)

.

وقال: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}

(4)

. وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}

(5)

. إلى قوله: {يُرْجَعُونَ} .

فكل نفس ذائقة الموت وليس إلى الإنسان تدبير مكانه، بلى ولا يعلم بمكانه ولا زمانه قبل حلوله ولا حال حلوله ولا بعده.

وقول المحتضر: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}

(6)

، لغو.

وقال من مات: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]

(7)

. لا فائدة فيه.

(1)

سورة المنافقون (9).

يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ومخبرا لهم بأنه من النهي بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. تفسير ابن كثير (4/ 372، 373).

(2)

سورة آل عمران (185)، والأنبياء (35)، العنكبوت (57).

(3)

سورة لقمان (34).

(4)

سورة النحل (61).

(5)

سورة المؤمنون (99).

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر اللَّه تعالى وقولهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ولهذا قال: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} وكلا حرف ردع وزجر أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه، وقوله تعالى {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم. تفسير ابن كثير (3/ 263).

(6)

سورة المنافقون (10).

(7)

قال ابن كثير: وقوله لأعمل معه، ولورد لما عمل صالحا ولكان يكذب في مقالته هذه كما قال تعالى. {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] قال قتادة: واللَّه ما تمنى أن =

ص: 393

فهذه الحياة ولو طالت فهي بالموت قصيرة.

فلو علموا أن كل آت قريب ما فرحوا بالأمل ولا بالأمد الطويل.

وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}

(1)

الآية.

وفيها بيان فضل قصر الأمل

(2)

الذي هو أحسن الاستعداد الناشئ عن الإيمان الحق.

وروينا في جامع الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: نام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه.

فقلنا: يا رسول اللَّه لو اتخذنا لك وطاء.

فقال: "ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلَّا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"

(3)

.

وروينا فيه وفي السنن الثلاثة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات"

(4)

.

قال الترمذي: حسن غريب وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط مسلم.

= يرجع إلى أهل ولا إلى عشرة ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة اللَّه عز وجل، فرحم اللَّه امرءًا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار. تفسير ابن كثير (3/ 263).

(1)

سورة الحديد (16).

(2)

يقول تعالى: أما آن للمؤمين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، وقال ابن المبارك بسنده عن ابن عباس أنه قال: إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16]. تفسير ابن كثير (4/ 310).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (2377) كتاب الزهد، باب-44 وابن ماجه في سننه (4109) كتاب الزهد، 3 - باب مثل الدنيا. والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 198) والشجري في أماليه (2/ 208)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 391). وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 102) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 292).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2307) كتاب الزهد، باب ما جاء في ذكر الموت والنسائي (4/ 4 - المجتبى)، وابن ماجه (4258) في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، والحاكم في المستدرك (4/ 321)، وابن حبان في صحيحه (2559، 2562 - الموارد)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 309)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 236)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 252، 355)، وابن المبارك في الزهد (2/ 37)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (167)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 228) والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 384)، والذهبي في الميزان (5640).

ص: 394

وفيه الأمر بذكره والإكثار منه.

ولُقِّب بهاذم اللَّذات من حيث أن العدم إثرة، والمراد باللذات الجثمانية الكثيفة، فإنه يزعج عن الاحتفال بها فملابس تلك اللذَّات تتجافى عنها.

وفاقدها يتسلى عنها ولا يأسف عليها.

الموت لا شك آت فاستعد له

إن اللَّبيب

(1)

بذكر الموت مشغول

وكيف يلهو بعيش ويلذ به

من التراب على عينيه مجعول

غيره:

تزود من الدنيا قليلًا فما تدري

إذا جنَّ ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير عِلَّة

وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر

غيره:

وكيف يُلذ العيش من هو عالم

بأن إله الخلق لا بد سائله

فيأخذ منه ظُلِمه لِعبادِه

ويجزيه بالخير الذي هو فاعله

وكيف يلذ العيش من هو صائر

إلى لحد قبر فيه تبلى شمائله

(2)

ويذهب رسم الوجه فيه بعده

يبلى سريعًا جسمه ومفاصله

نادرة: قال منصور بن عمار

(3)

: إذا دنا موت العبد قسم حاله إلى خمسة أقسام: المال للوارث، والروح لملك الموت، واللحم للدود، والعظم للتراب، والحساب للخصوم.

فيا ليت الشيطان لا يذهب بالإيمان عند الموت فيكون فراقًا من الرب جل جلاله.

(1)

اللبيب: ذو اللب: وهو من كل شيء خالصه وخياره، وهو هنا العقل، وجمعها "ألباء".

(2)

الشمال، والشؤم: يقال جمع اللَّه شملهم أي ماتشتت وتفرق من أمرهم، والخلق: جمعها شمائل.

(3)

ساق عنه الذهبي قصة قال: السراج: حدثنا أحمد بن موسى الأنصاري قال منصور بن عمار: حججت، فبت بالكوفة، فخرجت في الظلماء فإذا بصارخ يقول: إلهي وعزتك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ولقد عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت أعانني عليها شقائي، وغرني سترك، والآن من ينقذني؟ فتلوت هذه الآية {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] فسمعت دكدة، فلما كان من الغد مررت هناك فإذا بجنازة، وإذا عجوز تقول: مر البارحة رجل فتلا آية، فتفطرت مرارته، فوقع ميتا. تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (191 - 200).

ص: 395

نعوذ باللَّه منه فإن كل فراق إلى الاجتماع، وفراق الرب صعب لا يدركه أحد

(1)

.

إليك من مكرك يا سيدي

كل البرايا دائمًا يحذرون

فكم عيوب وذنوب مضت

ونحن عنها سيدي غافلون

نُضيِّع بكسب الخطا

فنحن في أوقاتنا لاعبون

نشاهد الموت ولا نعتبر

ولا تنبهنا الريب المنون

(2)

بل غفلة تعمي أبصارنا

وشقوة

(3)

خابت لديها الظنون

فنحن يا رب الورى كلنا

إليك من زلَّاتنا

(4)

هاربون

لكنا نسأل رب الورى

عفوًا وصفحًا كي تقرَّ العيون

وروينا من حديث ابن عمر قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال

(5)

: "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" أخرجه البخاري

(6)

.

(1)

روي أنه رئي منصور بعد موته فقيل: ما فعل اللَّه بك؟ قال: غفر لي وقال: يا منصور قد غفرت لك على تخليطك، إلا أنك تحوش الناس إلى ذكري، وقيل هذا لأبي العتاهية:

إن يوم الحساب يوم عسير

ليس للظالمين فيه مجير

فاتخذ عدة لمطلع القبر

وهول الصراط يا منصور

(2)

المنون: الموت.

(3)

الشقوة: الشقاء، والشقاء: العسر والتعب.

(4)

الزلة: السقطة والخطيئة.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6416) كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" والترمذي في سننه (2333) كتاب الزهد، باب ما جاء في قصر الأمل وابن ماجه في سننه (4114) كتاب الزهد، باب مثل الدنيا. والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 242)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 399)، وفي المعجم الصغير (1/ 30)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5274)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 313) والزبيدي في الإتحاف (10/ 236)، والشجري في أماليه (2/ 193)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 194).

(6)

قال العجلوني: وقال النجم وفي معناه ماعند الحسن بن سفيان وأبي نعيم عن الحكم بن عمير: كونوا في الدنيا أضيافا، واتخذوا المساجد بيوتا، وعودوا قلوبكم الرقة، وأكثروا من التفكير والبكاء، ولا تختلفن بكم الأهواء، تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون. انظر العجلوني في كشف الخفا (1/ 194).

ص: 396

وفيه من أسباب ذكر الموت وفضل عدم الركون إلى الدنيا، فلا يكثر فيها تعلقه، وتتجافى عنها تجافي

(1)

الغريب وعابر

(2)

السبيل من غير وطنه.

وروينا من حديثه مرفوعًا: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي

(3)

فيه يبيت ليلتين إلَّا ووصيته مكتوبة عنده"

(4)

.

أخرجاه، والسياق للبخاري.

ولمسلم: "يبيت ثلاث ليال".

قال ابن عمر: ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلَّا وعندي وصيتي

(5)

.

وهذا سبب آخر كالأول.

وروينا من حديث أنس قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطًا وقال: "هذا الأمل، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب"

(6)

. أخرجه البخاري.

(1)

جفا: الشيء، نبا وبعد، وفلانا أعرض عنه وقطعه، وتجافى في سجوده؛ أي باعد بين عضديه وجنبيه.

(2)

العابر: يقال هو عابر سبيل: مسافر.

(3)

قال النووي: أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة وقال داود وغيره من أهل الظاهر هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه فليس فيه تصريح بإيجابها لكن إن كان على الإنسان دَيْنٌ أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك. [شرح مسلم للنووي (11/ 63) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2738) كتاب الوصايا، 1 - باب الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصية الرجل مكتوبة عنده" ومسلم في صحيحه [1 - (1627)] كتاب الوصية في مقدمته. وأبو داود في سننه (2862)، والنسائي (6/ 238، 239 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 80)، ومالك في الموطأ (761)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 272)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 352)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3070).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [4 - (1627)] كتاب الوصية، في مقدمته. قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، ويستحب تعجيلها وأن يكتبها في صحته ويشهد عليه فيها ويكتب فيها ما يحتاج إليه فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها، قالوا: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم "ووصيته مكتوبة عنده" فمعناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على الكتابة لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا: يكفي الكتاب من غير إشهاد لظاهر الحديث، واللَّه أعلم. [شرح مسلم للنووي (11/ 63، 64) طبعة دار الكتب العلمية].

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6418) كتاب الرقاق، 4 - باب في الأمل وطوله. والتبريزي في مشكاة المصابيح (5269).

ص: 397

وأخرجه أيضًا من حديث ابن مسعود قال: خط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط، وخارجًا منه، وخط خُططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط فقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله مُحيط به -أو قد أحاط به- وهذا هو الذي خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراضُ، فإن أخطأهُ هذا نهشه

(1)

هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"

(2)

.

هذا لفظه وهذه صورته.

وفيه التنبيه الدافع عن الغرور غفلته المانعة من ذكر الموت، وهو تخطي الخط الأقرب قبل خطوط الأمل البعيد فمستحضر ذلك لا يأمن هجوم الأجل في كل نفس، ثم الأجل له أسباب متكاثرة، هي الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا، فالمتيقظ لذلك لا اطمئنان له.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلَّا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفِّندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال

(3)

فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر"

(4)

. رواه الترمذي وحسنه.

(1)

روى الترمذي في سننه (2150) كتاب القدر، باب بعد باب ما جاء في القدرية، عن عبد اللَّه بن الشخير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية إن أخطاته المنايا وقع في الهرم حتى يموت.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6417) كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله. والترمذي في سننه (2454) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه ما جاء في صفة أواني الحوض. والنسائي في الكبرى في الرقائق، وابن ماجه (4231) كتاب الزهد، 27 - باب الأمل والأجل. وأحمد في مسنده (3/ 18)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5268)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 238)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 94) والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 438).

(3)

قال القاضي: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى اللَّه به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات اللَّه تعالى من إحياء الميت الذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت فيقع كل ذلك بقدره اللَّه تعالى ومشيئته ثم يعجزه اللَّه تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم ويثبت اللَّه الذين آمنوا، هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار. [شرح مسلم للنووي (18/ 46) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (2306) كتاب الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 250) والسيوطي في الدر المنثور (6/ 137). ومفندا: الفند ضعف العقل والفهم والتخليط في الكلام من الهرم.

ص: 398

وفيه أن المسبوق للعمل إذا ترك البدار إليه لا ينتظر إلَّا موانع وشواغل لاستدراك معها كما ذكر من الفقر إلى آخرها.

وروينا فيه محسَّنًا من حديث أبي بن كعب قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا اللَّه جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه".

قال أُبي: قلت يا رسول اللَّه إني أُكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟

(1)

فقال: "ما شئت".

قال: قلت: الربع.

قال: "ما شئت، فإن زدت فهو خير لك".

قلت: النصف.

قال: "ما شئت، فإن زدت فهو خير لك".

قال: قلت: فالثلثين.

قال: "ما شئت، فإن زدت فهو خير لك"

(2)

.

قلت: اجعل لك صلاتي كلها.

قال: "إذًا تُكفى همَّك، ويغفر لك ذنبك"

(3)

.

وفى الحديث دلالة على أن الذاكر من أفضل الخلق وأعظم بأمر من يريد انفصالًا عنهم واتصالًا بهم وتجريدًا عن الملهيات، وتفريدًا لاهبات، ولا يعبر عن

(1)

روى مسلم في صحيحه [70 - (408)] كتاب الصلاة، 17 - باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى على واحدة، صلى اللَّه عليه عشرا". قال القاضى: معناه رحمته وتضعيف أجره كقوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} قال: وقد يكون الصلاة على وجهها وظاهرها تشريفا له بين الملائكة، كما في الحديث، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه.

(2)

أخرجه والترمذي في سننه (2457) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 178)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 51)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (929)، وابن كثير في تفسيره (6/ 456)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 160)، والحاكم في المستدرك (2/ 513)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 500)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 256)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (17)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (954).

(3)

وأخرجه أيضا: وأحمد في مسنده (5/ 136)، والطبراني في المعجم الكبير (4/ 42).

ص: 399

شدة القرب بأحسن من قوله: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة

(1)

، جاء الموت".

وقد حصل من مجموع ما ذكرناه أسباب ذكر الموت ودفع موانعه من غفلة ونحوها.

والترغيب في الاستعداد له، والتحذير من التسويف والإشارة إلى فوائد ذكر الموت، وإنه واقع لا محالة عن قرب.

‌فصل

توفي نبينا صلى الله عليه وسلم وقد بلغ من العمر ثلاث وستين سنة

(2)

على الأصح يوم الاثنين حيث اشتد الضحى لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.

ومرض أربعة عشر يومًا ودفن ليلة الأربعاء ولما حضره الموت كان عنده قدح فيه ماء فجعل يدخل يده فيه ويمسح وجهه ويقول: "اللهم أعني على سكرات الموت"

(3)

، وسُجِّي بُرد حبر. وقيل إن الملائكة سجّته.

وكَرِبَ بعض أصحابه بموته، دهش عمر، وخرس عثمان، وأقعد علي، ولم يكن فيهم أثبت من العباس والصديق.

وأكب الصديق على وجهه يُقبله وقال: بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتبها اللَّه عليك فقد ذقتها ثم لم يصبك بها موتة أبدًا.

ثم خرج إلى الناس وحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان يعبد

(1)

قال ابن عباس: هما النفختان الأولى والثانية وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد، وعن مجاهد أما الأولى وهي قوله جل وعلا {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)} [النازعات: 6] فكقوله جلت عظمته {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14]، والثانية وهي الرادفة فهي كقوله {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة: 14] تفسير ابن كثير (4/ 466).

(2)

روى البخاري في صحيحه (4466) كتاب المغازي، 87 - باب وفاة النبي، ومسلم في صحيحه [115 - (2349)] كتاب الفضائل، 32 - باب كم سن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قبض، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة" وكذا رواه عن أنس. وفي عمر النبي صلى الله عليه وسلم قال النووي ذكر في الباب ثلاث روايات: إحداها: أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة، والثانية خمس وستون. والثالثة: ثلاث وستون وهو أصحها وأشهرها. [شرح مسلم للنووي (15/ 81) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (6/ 64، 70، 77) وابن ماجه في سننه (7/ 208)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 105)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1564)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 208) والزبيدي في الإتحاف (9/ 13، 10/ 263)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 64).

ص: 400

محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه فإن اللَّه حيُّ لا يموت

(1)

.

ثم تلى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}

(2)

الآية.

ورجع عمر إذ ذاك

(3)

ثم إن الناس سمعوا من باب الحجرة لا تُغسلوه فإنه طاهر مُطهر.

ثم سمعوا بعد ذلك غسلوه فإنما هو إبليس، وأنا الخضر وعزاهم وقال: إن في اللَّه عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت

(4)

، فباللَّه فثقوا وإياه فارحوا، فإن المصاب من حُرم الثواب.

واختلفوا في غسله هل يكون في ثيابه أو يجرد عنها، فوضع اللَّه عليهم النوم.

فقال قائل لا يدري من هو: غسّلوه في ثيابه، وانتبهوا وفعلوا ذلك، والذين تولوا غسله على، والعباس وولده الفضل، وقثم

(5)

وشقران

(6)

وأسامة مواليه،

(1)

روى البخاري في صحيحه (4454) كتاب المغازي 85 - باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته. عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر: أما بعد؛ من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد اللَّه فإن اللَّه حي لا يموت، قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] إلى قوله: {الشَّاكِرِينَ} وقال: واللَّه لكأن الناس لم يعلموا أن اللَّه أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم. . . الحديث.

(2)

سورة آل عمران (144).

(3)

وفي الحديث السابق في البخاري (4454): فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فقعدت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات".

(4)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (5/ 114).

(5)

قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الهاشمي، القرشي، صحابي صغير، أخرج له: النسائي، توفي سنة (57).

ترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 361)، تقريب التهذيب (2/ 123)، تاريخ البخاري الكبير (7/ 194)، تاريخ البخاري الصغير (1/ 142، 143)، الجرح والتعديل (7/ 145)، الثقات (3/ 337)، أسد الغابة (4/ 392)، طبقات ابن سعد (9/ 157)، تجريد أسماء الصحابة (2/ 13)، الإصابة (5/ 420)، الاستيعاب (2/ 1304)، البداية والنهاية (8/ 78)، سير الأعلام (3/ 440).

(6)

شقران مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، صحابي شهد بدرًا، أخرج له الترمذي، توفي في خلافة عثمان. ترجمته: تهذيب التهذيب (4/ 360)، التقريب (1/ 354)، الكاشف (2/ 14)، تاريخ البخاري الكبير (4/ 286)، الجرح والتعديل (4/ 1692)، أسد الغابة (2/ 527).

ص: 401

وحضرهم أوس بن حزبى من الأنصار، ونفَّضه فلم يخرج منه شيئًا.

فقال: صلى عليك اللَّه طبت حيًّا وميتًا، وكُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سَحولية

(1)

ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة وصلى عليه المسلمون أفذاذًا، لم يؤمهم أحد وفرشت تحته في القبر قطيفة حمراء

(2)

كان يتغطى بها نزل بها شقران وحفر له، ولحد وأطبق عليه بسبع لبنات.

واختلف أيُلحد أم يُضرح.

وكان بالمدينة حفاران، أحدهما: يُلحد، والآخر: يضرح، والأول أبو طلحة، والثاني أبو عبيدة، فاتفقوا على أن من جاء منهم أولًا عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد له.

وذلك في بيت عائشة ودفن معه أبو بكر ثم عمر.

‌فصل في زيارة الرجل القبور وما يقوله الزائر والدعاء لهم والقراءة عليهم

قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}

(3)

الآية.

(1)

السحولية: بفتح السنن وضمها، والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، قال ابن الأعرابي وغيره هي ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن وقال ابن قتيبة ثياب بيض ولم يخصها بالقطن وقال آخرون: هي منسوبة إلى سحول مدينة باليمن يحمل منها هذه الثياب، وبالضم ثياب بياض، وقيل إن القرية أيضا بالضم حكاه ابن الأثير في النهاية. [شرح مسلم للنووي (7/ 8) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

قال النووي: هذه القطيفة أبقاها شقران مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: كرهت أن يلبسها أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد نص الشافعي وجميع أصحابنا وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر، وشذ عنهم البغوي من أصحابنا فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهته كما قال الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك لم يوافقه غيره من الصحابة ولا علموا ذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبسها ويفترشها فلم تطب نفس شقران أن يستبدلها أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. [شرح مسلم للنووي (7/ 30) طبعة دار الكتب العلمة].

(3)

سورة الحشر (10).

هؤلاء القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفئ وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية. تفسير ابن كثير (4/ 339).

ص: 402

وورد من حديث علي مرفوعًا: "من مرّ على المقابر فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] أحد عشر مرة، ثم وهب أجرها، أعطي من الأجر بعدد الأموات"

(1)

.

وصح أنه أمر بزيارة القبور وقال: "زروها فإنها تذكركم الآخرة"

(2)

.

وجاء أنه أمر الآتي عليهم بالسلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين برحمة يرحم اللَّه المستقدمين والمستأخرين، وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون

(3)

.

ولبعضهم فيه: أنتم لنا فرط، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنَّا بعدهم

(4)

.

وفي صحيح مسلم

(5)

من حديث عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كُلَّما كان ليلتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غدًا، مؤجلون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".

وفيه أيضًا من حديث بريدة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم

(6)

: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء

(1)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (10/ 371).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3235) كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 342) وأحمد في مسنده (5/ 355)، والترمذي (1054) في الجنائز، باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور.

(3)

قوله صلى الله عليه وسلم "وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون" التقييد بالمشيئة على سبيل التبرك وامتثال قول اللَّه تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها وقيل غير ذلك، وفي هذا الحديث دليل لاستحباب زيارة القبور والسلام على أهلها والدعاء لهم والترحم عليهم" [شرح مسلم للنووي (7/ 35) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 360).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [102 - (974)] كتاب الجنائز، 35 - باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. أخرجه أبو داود في سننه (3237) كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها، والنسائي (1/ 94 - المجتبى)، وابن ماجه (1546)، وأحمد في مسنده (2/ 375)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 78، 79)، ومالك في الموطأ (28)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 364)، والشجري في أماليه (1/ 207)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2985).

(6)

قال النووي: فيه استحباب هذا القول لزائر القبور، وفيه ترجيح لقول من قال في قوله: سلام عليكم دار قوم مؤمنين أن معناه أهل دار قوم مؤمنين. وفيه أن المسلم والمؤمن قد يكونان بمعنى واحد وعطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظ، وهو بمعنى قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات: 35، 36]، ولا يجوز أن يكون المراد بالمسلم في هذا الحديث غير المؤمن لأن المؤمن إن كان منافقًا لا يجوز السلام =

ص: 403

اللَّه بكم للاحقون، وأسأل اللَّه لنا ولكم العافية

(1)

.

وفي جامع الترمذي محسنًا من حديث ابن عباس مرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقبور بالمدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللَّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"

(2)

.

وفي هذه الأحاديث فعله صلى الله عليه وسلم للزيارة وتكريره وقصده لها في السَحَر الذي هو مظنة الرحمة والإجابة.

والسلام عليهم بوصف الإيمان، وبوصف القبور أخرى، والدعاء لهم بالعافية وبالمغفرة أخرى.

وقوله: "ونحن بالأثر".

هو يقين، ولذلك لم يذكر فيه الاستثناء

(3)

الواقع في قوله: "وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون" إذ ذاك يحمل البقعة أو للوفاة على الإيمان ولذلك ذكره أهل العقائد في استثناء الموت.

تناجيك أموات وهُنَّ سكوت

وسكانها تحت التراب خفوت

= عليه والترحم وفيه دليل لمن جوز للنساء زيارة القبور. [شرح مسلم للنووي (7/ 38) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [104 - (975)] كتاب الجنائز، 35 - باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. والنسائي في الجنائز، باب 102، وابن ماجه (1547)، وأحمد في مسنده (5/ 353، 360)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 79)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 266)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (764).

(2)

أخرجه والترمذي في سننه (1053) كتاب الجنائز، باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر والدارمي في سننه (1/ 37)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 108)، وعبد الرزاق في مصنفه (6720)، وابن المبارك في الزهد (171) والزبيدي في الإتحاف (10/ 364).

(3)

أما قوله صلى الله عليه وسلم "وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون" فأتى بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه وللعلماء فيه أقوال: أظهرها أنه ليس للشك ولكنه صلى الله عليه وسلم قاله للترك وامتثال أمر اللَّه تعالى في قوله {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، والثاني حكاه الخطابي وغيره أنه عادة للمتكلم يحسن به كلامه. والثالث: أن الاستثناء عائد إلى اللحوق في هذا المكان وقيل معناه إذ شاء اللَّه، وقيل: أقوال أخر ضعيفه جدًا تركتها لضعفها وعدم الحاجه إليها منها قول من قال الاستثناء منقطع راجع إلى استصحاب الإيمان، وقول من قال كان معه صلى الله عليه وسلم مؤمنون حقيقة وآخرون يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم وهذان القولان وإن كانا مشهورين فيهما خطأ ظاهر واللَّه أعلم. [شرح مسلم للنووي (3/ 118) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 404

أيا جامع الدنيا لغير بلاغة

لمن تجمع الدنيا وأنت تموت

وإنكم لما علينا تُسلِّموا

نرُد عليكم واللسان صموت

‌فصل

ولنذكر من الحكايات ما يليق بكل فصل من هذين الفصلين، فما ينعطف على الأول: ما روي عن جابر الجعفي

(1)

قال: قال لي محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب: ما الدنيا وما عسى أن تكون؟ هل هو إلَّا مركب ركبته، أو ثوب لبسته، أو امرأة أصبتها.

يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا إلَّا إلى مؤنة وأكثرهم معونة، إن نسيت ذكرَّوك وإن ذكرت أعانوك، قوَّالين بالحق، قوَّامين بأمر اللَّه.

فأنزل الدنيا بمنزل نزلت فيه وارتحلت عنه، أو كخيال أصبته في منامك واستيقظت، وليس معك منه شيء، فاحفظ اللَّه ما استرعاك من دينه وحكمته.

وقد ذكرنا بعض هذا في أثناء الحكايات المتعلقة بالزهد.

نادرة: قال سلمان الفارسي: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس مغفولًا عنه، وضاحك ملء فمه لا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض.

وثلاث أُخر أحزنتني حتى أبكتني: فراق محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الجليل لا أدري إلى الجنة أو إلى النار

(2)

.

(1)

جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث، أبو عبد اللَّه أبو محمد الجعفي الكوفي، ضعيف، رافضي، أخرج له: أبو داود والترمذي وابن ماجه توفي سنه (127، 128، 132) ترجمته: تهذيب التهذيب (2/ 46)، وتقريب التهذيب (1/ 123)، والكاشف (1/ 177)، تاريخ البخاري الكبير (2/ 210)، وتاريخ البخاري الصغير (2/ 9، 10)، الجرح والتعديل (1/ 497)، ميزان الاعتدال (1/ 379)، لسان الميزان (7/ 188)، الوافي بالوفيات (11/ 31)، البداية والنهاية (10/ 29).

(2)

قال الذهبي نقلا عن جرير بن عبد اللَّه قال: نزلت بالصفاح في يوم شديد الحر فإذا رجل نائم مستظل بشجرة معه شيء من الطعام في مزور تحت رأسه وقد التف في عباءة فأمرت أن يظلل عليه ونزلنا فانتبه، فإذا هو سلمان فقلت: ما عرفناك، فقال: يا جرير تواضع في الدنيا فإنه من تواضع في الدنيا يرفعه اللَّه يوم القيامة، ومن يتعظم في الدنيا يضعه اللَّه يوم القيامة، يا جرير لو حرصت على أن تجد عودا يابسا في الجنة لم تجده، لأن أصول الشجر ذهب وفضة وأعلاها الثمار، يا جرير تدري ما ظلمة النار، قلت: لا، قال: ظلم الناس بعضهم بعضا. انظر تاريخ الإسلام وفيات (31 - 40).

ص: 405

الثانية: حكى عن بعضهم أنه دخل عليه بعض الفقراء فلم ير في بيته شيئًا من المتاع.

فقال له: أما لكم شيء؟

قال: نعم، لنا داران، دار أمن ودار خوف.

فما يكون لنا من الأموال ندخره في مقام الأمن يعني الآخرة.

فقيل له: إنه لا بد لكل منزل من متاع.

فقال: إن صاحب هذا المنزل لا يدعنا فيه.

نادرة: الدنيا وديعة، أو عارية

(1)

، ولا بد للمُعير أن يرجع، وللمودع أن يأخذ ما أودع.

وما المال والأهلون إلَّا وديعة

ولابد من يوم ترد الودائع

الثالثة: عن مالك بن دينار قال: إن اللَّه تعالى جعل الدنيا دار مفر، والآخرة دار مقر.

فخذوا من مفركم لمقركم، وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.

ففي الدنيا حييتم ولغيرها خلقتم.

إنما مثل الدنيا كالسُّم أكله من لا يعرفه، ومثل الدنيا كالحية مسَّها لين وفي جوفها السُّم القاتل فحذرها ذو العقول، وأهوى الصبيان إليها بأيديهم.

الرابعة: كان أبو نصر

(2)

يخرج في كل جمعة وصلاة الغداة فيدخل السوق مما

(1)

العارية في ذاتها من أعمال البر التي تقتضيها الإنسانية لأن الناس لا غنى لهم عن الاستعانة ببعضهم بعضا فهي مندوبة بحسب ذاتها، وقد يعرض لها الوجوب مثل احتياج شخص من آخر مظلة في الصحراء في الحر الشديد يتوقف عليه حياته أو إنقاذه من مرض، وقد يعرض لها الحرمة كما إذا كان عند شخص جارية أو خادمة تشتهي وطلب إعارتها منه شخص يختلي بها أو قضاء أربه منها. انظر الفقه على المذاهب الأربعة (3/ 237).

(2)

أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، المروزي، البغدادي، الزاهد الكبير المعروف ببشر الحافي، كان عديم النظير زاهدًا وورعا وصلاحا، كثير الحديث إلا أنه كان يكره الرواية ويخاف من شهوة النفس في ذلك حتى أنه دفن كتبه، قال أبو بكر المروزي: سمعت بشرا يقول: الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق، قال أحمد بن حنبل لما مات بشر: مات رحمه الله وما له نظير في هذه الأمة إلا عامر بن عبد قيس، فإن عامرا مات ولم يترك شيئا، توفي سنة (227). تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (221 - 230).

ص: 406

يلي الثنية فلا يزال يقف على مربعة مربعة يقول: يا أيها الناس: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}

(1)

الآية.

إن العبد إذا مات صحبه أهله وماله وبقي عمله

(2)

فاختاروا لأنفسكم ما يؤنسكم في قبوركم، فلا يزال في مربعة مربعة حتى يأتي مصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم يمضي إلى الجمعة ولا يخرج من المسجد حتى يصلي العشاء الآخرة.

وأنشد بعضهم:

ومن يكن همه الدنيا ليجمعها

فسوف يومًا على رغم يخليها

على تشبع النفس من دنياه يجمعها

ومبلغه من قيام العيش يكفيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها

إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فمن بناها بخير طاب مسكنها

ومن بناها بشرٍّ خاب بانيها

فاعرف أصول التقى ما عشت مجتهدًا

واعلم بأنك بعد الموت تجنيها

الخامسة: عن رجل من بني شيبان أن عليًا رضي الله عنه خطب فقال: الحمد للَّه أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليربح به عليكم ويوقظ به نائمكم.

واعلموا بأنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم

(3)

ومجزون بها فلا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها دار بالفناء محفوفة، وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال

(4)

، وهي بين أهلها دول ومحال، لا تدوم أحوالها، ولن يسلم مَن مِن شرِّها نُزَّالها.

(1)

سورة البقرة (48)، (123).

(2)

روى البخاري في صحيحه (6514) كتاب الرقاق، 42 - باب سكرات الموت روى مسلم في صحيحه [5 - (2960)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، عن أنس بن مالك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله" واللفظ لمسلم وقد رواه الترمذي (2397)، والنسائي (4/ 53 - المجتبى).

(3)

قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعنى احبسوهم إنهم محاسبون. تفسير ابن كثير (4/ 4).

(4)

روى مسلم في صحيحه [4 - (2959)] كتاب الزهد والرقائق، في مقدمته، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: يقول العبد: "مالي مالي، وما له من ماله إلا ثلاث؛ ما أكل فأفنى، وما لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس". =

ص: 407

بينما أهلها منها في رخاء وسرور أبدلهم منها ببلاء وغرور.

أحوال مختلفة وثارات متفرقة، والعيش فيها مذموم والرخاء فيها لا يدوم.

وإنما أهلها فيها أعراض مستهدفة ترميهم بأسهامها وتعضهم بجماحها.

واعلموا عباد اللَّه أنكم وما أنتم فيه من زهرة الدنيا على سبيل من مضى ممن كان أطول منكم أعمارًا وأشد منكم بطشًا، وأعمر وأبعد أثارًا.

فأصبحت أموالهم هامدة من بعد طول تقلبها، وأجسادهم بالية وديارهم خالية وأثارهم عافية، واستبدلوا بالقصور المشيدة والنمارق المتمهدة، الصخور والأحجار في القبور التي بنى بالخراب وشيّد بالتراب بناؤها.

فميلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل متشاغلين لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما منهم من قرب الخوار ودنو الدار.

وكيف يكون تواصل وقد طحنهم بكلكله

(1)

البلى، وأصلهم الجنادل والثرى، فأصبحوا بعد الحياة أمواتًا وبعد غضارة النفس رفاتًا.

فجَعَ بهم الأحباب، وسكنوا التراب وظعنوا وليس لهم إياب.

هيهات هيهات {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}

(2)

الآية.

وكأنكم عن قليل صرتم إلى ما صاروا إليه من البلى والوحدة في دار النوى وارتهنتم الأمور وبعثرتم القبور، وحُصل ما في الصدور

(3)

، ووقفتم بين يدي الجليل، فطارت القلوب لانشقاقها من مآلف الذنوب، وهتكت عنهم الحجب والأستار وظهرت منهم العيوب والأسرار هنالك تُجزى كل نفس بما كسبت، فإن اللَّه تعالى يقول:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]

(4)

.

(1)

الكلكل: الصدر، أو هو ما بين الترقوتين.

(2)

سورة المؤمنون (100).

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، وقال محمد بن كعب القرظي {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} قال: يقول الجبار {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] تفسير ابن كثير (3/ 263).

(3)

قال تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} [العاديات: 9 - 11].

(4)

سورة النجم (31). أي يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فبشر ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر، فإنه يغفر لهم ويستر عليهم تفسير ابن كثير (4/ 255).

ص: 408

السادسة: روى أن مَلِكًا من ملوك كندة كان شديد المصاحبة للهو واللَّذات، كثير العطوف إلى اللعب والمحرمات

(1)

، فركب يومًا للاصطياد أو غيره.

فانقطع عن أصحابه، فإذا هو برجل جالس قد جمع عظامًا من عظام الموتى، وهي بين يديه يُقلبها.

فقال: ما قصتك أيها الرجل؟ وما بلغ بك؟ وما أرى من سوء الحال؟ ويبس الجسم، وتغير اللون والانفراد في هذه الفلاة؟

فقال: أما ما ذكرت من ذلك فلأني على جناح سفر بعيد ولي ملكان يزعجان يجدَّان بي إلى منزل ضنيك المحل، مظلم القصر، كريه المقرّ

(2)

.

ثم يُسلماني إلى مصاحبة البلى، ومجاورة الهلكى تحت أطباق الثرى.

فلو نزلت بذلك المنزل مع ضيقه ووحشته، (وارتقى)

(3)

أجناس الأرض من لحمى، حتى أعود رفاتًا، وتصير أعظمي رميمًا، لكان للبلاء انقضاء وللشقاء نهاية، ولكني أدفع بعد ذلك إلى صيحة الحشر، وأرد أهوال موقف الجرائم، لا أدري إلى أي الدارين يؤمر بي، وأي حال يلتذ به من إلى هذا الأمر مصيره.

فلما سمع الملك كلامه ألقى نفسه عن فرسه وجلس بين يديه.

وقال: أيها الرجل لقد كدَّر عليَّ مقالك صفو عيشي وملك قلبي، فأعد عليَّ بعض قولك، واشرح لي دينك.

فقال له: أما ترى هذه التي بين يدي؟

قال: بلى. قال: هذه عظام ملوك غرتهم الدنيا بزخرفها، واستحوذت على قلوبهم بغرورها، فألهتهم عن التأهب لهذه المصارع حتى أجابتهم الآجال وجدلتهم وسلبتهم بها النعمة. وستنشر هذه العظام، فتعود أجسادًا.

(1)

قال تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]. وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20].

(2)

روى البخاري في صحيحه (1379) كتاب الجنائز، 89 - باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك اللَّه إلى القيامة" وعن أبي سعيد فيما يليه رقم (1380) باب كلام الميت على الجنائزة مرفوعا: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق".

(3)

كذا بالأصل.

ص: 409

ثم تجازى بأعمالها، فإما إلى دار النعيم والقرار، وإما إلى دار العذاب والبوار.

ثم غاب الرجل، فلم يدر أين ذهب، وتلاحق أصحاب الملك يه، وقد تغير لونه وتواصلت عبراته فلما جن عليه الليل نزع ثياب ملكه، ولبس طمرين

(1)

وخرج ليلًا، فكان آخر العهد به.

أفنى القرون التي كانت منعمة

كرّ الليالي إقبالًا وإدبارًا

يا راقد الليل مسرورًا بأوله

إن الحوادث قد تطرقن أسحارًا

لا تأمنن بليل طاب أوله

فرُبَّ آخر ليل أجج

(2)

النارا

السابعة: روى أن بعض الملوك كان متنسكًا ثم مال إلى الدنيا ورياسة الملك، وبنى دارًا وشيدها، وأمر بها ففرشت.

واتخذ مائدة ووضع طعامًا ودعى الناس.

فجعلوا يدخلون عليه ويأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويتعجبون من ذلك، ويدعون له وينصرفون.

فمكثوا أيامًا كذلك، ثم جلس هو ونفر من خاصة أصحابه.

فقال: قد ترون سروري بداري هذه، وقد حدث أن اتخذ لكل واحد من أولادي مثلها.

فأقيموا عندي أيامًا استأنس بكم وأشاور فيما أريد من هذا البناء.

فأقاموا عنده أيامًا يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني؟ وكيف يصنع؟ ويرتب ذلك؟

فبينما هم ذات ليلة في لهو إذ سمعوا قائلًا من أقصى الدار يقول:

يا أيها الباني الناسي منيَّته

لا تأمنن فإن الموت مكتوب

على الخلائق إن سرُّوا وإن كدُّروا

فالموت حتف لدى الآمال منصوب

لا تبنين دارًا لست تسكنها

وراجع النُسك

(3)

كيما يغفر الحوب

(4)

(1)

الطمر: الثوب الخلق البالي، جمعها: أطمار.

(2)

أجج النار: ألهبها، وبينهم الشر، أوقده وأثاره، والماء: جعله أُجاجًا، وتأججت النار: تلهبت.

(3)

نَسِكَ نَسكًا ونسك فلان: تزهد وتعبد وذبح ذبيحة تقرب بها إلى اللَّه.

والمنسك: طريقة الزهد والتعبد، وموضع تذبح فيه النسيكة وجمعها مناسك.

(4)

حاب، حوبًا: أثم، وأحوب: انزلق إلى الإثم.

وفي القرآن: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].

ص: 410

ففزع الملك لذلك، وفزع أصحابه فزعًا شديدًا، وراعهم.

فقال: هل سمعتم ما سمعت؟

قالوا: نعم.

قال: فهل تجدون ما أجد؟

قالوا: وما تجد، قال: على مسكة على فؤادي وما أراها إلَّا علَّة الموت.

فقالوا: كلا بل البقاء والعافية.

فبكى، ثم أمر بالشراب فأهريق، وبالملاهي فأخرجت -أو قال: فكسرت- فتاب، ولم يزل يقول الموت حتى فاضت نفسه.

الثامنة: عن سرّي قال: مررت يومًا في بعض البراري مع جماعة من إخواني على قصر، قد أناخ الزمان بكلكله

(1)

.

فهدَّم أركانه وحطَّم بنيانه، وقد بقيت معالمه وأبوابه، وعلى أبوابه مكتوب، فنفضت التراب عن ذلك، ثم تأملته.

فإذا هو مكتوب:

هو السبيل فمن يوم إلى يوم

كفرحة النائم المهجوع في النوم

إن المنايا وإن أصبحت في شغل

تحوم حولك حومًا أيما حوم

لا تعجلن رويدًا إنها دول

دنيا تنقل من قوم إلى قوم

قال: فدخلت القصر أنا وأصحابي، وإذا بقبة في وسطه من الزمرد الأخضر مرصعة بالدرّ والياقوت الأخضر.

قد علاها الغبار من تطاول السنين والأعمار معلقة على أربعة أعمدة من ياقوت.

فتأملتها وأطلت النظر فيها، فإذا عليها منقوش هذا النظم:

قف بالقبور وناد المستقر بها

من أعظم بليت فيها وأجسادا

قوم تقطَّعت الأسباب بينهم

بعد الوصال فصاروا نحو ألحاد

(2)

واللَّه لو بُعثوا واللَّه لو نُشروا

(3)

قالوا بأن التُقى من أفضل الزاد

قال: فتأملنا متكأ الملك فإذا عليه مكتوب:

(1)

الكلكل: الصدر، أو هو ما بين الترقوتين.

(2)

لحد الميت لحدًا: دفنه في اللحد، وألحد فلان عدل عن الحق، والميت: دفنه في اللحد، واللّحد: الشق يكون في جانب القبر للميت، جمعها: ألحاد، لحود.

(3)

نشر اللَّه الموتى نشرًا، ونشورًا: بعثهم وأحياهم.

ص: 411

لا تأمنن الموت في طرف ولا نفس

ولو تَمنَّعت

(1)

بالحجاب والحرس

واعلم بأن سهام الموت نافذة

من كل مدَرَّع

(2)

منا ومترَّس

ما بال دينك ترضى أن تدنسه

وثوبك الدهر مغسول من الدنس

التاسعة: حكى أن بعض الناس جاء إلى سليمان بن داود عليهما السلام وقال: يا نبي اللَّه أريد منك أن تأمر الريح تحملني إلى بلاد الهند، فإن لي فيها حاجة في هذه الساعة وألحَّ عليه في ذلك. فقال له: نعم، وأمر الريح بحمله.

فلما خرج من عنده التفت سليمان فرأى ملك الموت قائمًا عنده مبتسمًا.

فسأله عن تبسمه؟

فقال له: يا نبي اللَّه تعجبت من هذا الرجل فإني أُمرت بقبض روحه

(3)

بأرض الهند في هذه الساعة، فبقيت متفكرًا.

كيف يصل إلى بلاد الهند في هذه الساعة.

فلما سألك أن تأمر الريح بحمله تعجبت من ذلك

(4)

.

فمن لم تأته منا المنايا

إلى أوصاله يومًا أتاها

كما قال الذي عرى نفوسًا

وقوى في توكلها أقواها

ومن كانت منيته بأرض

فليس تموت في أرض سواها

وكم لهيت بطيب عيش

دهرًا نسيت به المماتا

والآن مُت وأنت أيضًا

لا بد يومًا يقال ماتا

فجِدّ واحذر تكون مثلي

كسبت حوبًا والخير فاتا

العاشرة: عن بعض الزهاد قال: كنت في جماعة من الزهاد وقد حان وقت صلاة الظهر ونحن في برية ليس فيها ماء.

فدعونا اللَّه فلم يستتم الدعاء حتى لاح بالبعد شيء، فقصدناه.

(1)

تمنَّع الشيء: امتنع وبه احتمى.

(2)

الدرع القميص من حلقات من الحديد متشابكة تلبس وقاية من السلاح.

(3)

قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].

(4)

قال عبد الرزاق بسنده عن مجاهد: "ما على ظهر الأرض من بيت شعر أو مدر إلَّا وملك الموت يطوف به كل يوم مرتين".

وقال كعب الأحبار: "واللَّه ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلَّا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه".

ص: 412

وطوى اللَّه لنا البعد

(1)

حتى وصلنا إلى قصر مشيد عالي البناء، حسن الفناء، وحوله أنهار تتفجر، فشكرنا اللَّه على ذلك وأسبغنا الوضوء وصلينا.

ثم تقدمنا إلى القصر فإذا على حائطه مكتوب:

هذه منازل أقوام عهدتهم

في رَغْدِ

(2)

عيشٍ خصيب ماله خطر

دعتهم نُوَّب

(3)

الأيام فارتحلوا

إلى القبور فلا عين ولا أثر

ورأينا في وسط الدار سريرًا من فضة وعليه هذه الأبيات:

ما زلت تطلب ما يردى وتمعن في الطلب

وملكت ما أمكنت من أرض الأعاجم والعرب

مرت إليك يد الرَّدى

(4)

فذهبت فيمن قد ذهب

قال: ورأينا بستانًا فيه لوح رخام عليه مكتوب:

قد كان صاحب هذا القصر مغتبطًا

في ظل عيش يخاف الناس من بأسه

إذ جاءه بغته

(5)

بالأمر ذلَله

فخر ميتًا وزال التاج عن رأسه

فاخرج إلى القصور وانظر كيف أوحشه

فقدان أربابه من بعد إيناسه

قال: فاستحسنا ذلك ورجعنا إلى القبة فإذا وسطها قبر عند رأسه لوح من رخام أبيض وعليه مكتوب:

أنا رهين التراب في اللَّحد وحدي

واضعًا تحت لبنة التراب خدِّي

غيره:

باتوا قُلَلَ

(6)

الأجيال تحرسهم

غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

(1)

روى الترمذي في سننه وحسنه (3434) عن أبي هريرة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فركب راحلته، قال بإصبعه:"اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك، واقلبنا بذمة، اللهم ازو لنا الأرض، وهون علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب".

(2)

الرَّغد من العيش: الواسع الذي لا عناء فيه، ويقال: هو في رغد من العيش: رزق واسع.

وعيشة رغد: واسعة طيبة، والرَّغيد: العيش الطيب الواسع.

(3)

النائبة: ما ينزل بالرجل من الكوارث والحوادث المؤلمة، جمعها: نوائب. والنَّوبة: النازلة، جمعها: نُوَب.

(4)

الرَّدى: الهلاك، ورَدَى: هلك، وفي الهوة: سقط.

(5)

بَغَتَةُ: بَغْتًا: وبَغْتَةً: فجأهُ وبهته. وبَاغَتَهُ: مباغتة وبغاتًا: فاجأهُ.

(6)

قُلَّة كل شيء: قمته وأعلاء ومنه: قُلَلُ الجيال. وجمعها: قُلَلَ: وقِلال.

ص: 413

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم

واسكنوا جدثًا

(1)

يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ

(2)

من بعد ما دفنوا

أين الأسرَّة والتيجان والحلل

أين الوجوه التي كانت منعمة

من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

(3)

قد طال ما أكلوا دهرًا وما شبعوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

الحادية عشر: عن الجنيد قال: دخلت الكوفة في بعض أسفاري فرأيت دارًا لبعض الرؤساء وقد شف عليها النعيم.

وعلى بابها عبيد وغلمان، وفي بعض رواشينها

(4)

جارية تغني وتقول:

ألا يا دار لا يدخلك حزن

ولا يعبث بساكنك الزمان

فنعم الدار أنت لكل ضيف

إذا ما الضيف أعوزه

(5)

المكان

قال: ثم مررت بها بعد مدة، فإذا الباب مسدود والجميع مبدَّد

(6)

، وقد ظهر عليها كآبة

(7)

الذُّل والهوان ولسان الحال ينشد:

ذهبت محاسنها وبان شجونها

(8)

والدهر لا يبقي مكانًا سالمًا

فاستبدلت من أُنسها بتوحش

ومن السرور بها عزاء دائمًا

قال: فسألت عن خبرها؟

فقيل لي: مات صاحبها، فآل أمرها إلى ما ترى.

فقرعت الباب الذي كان يقرع.

فكلمتني جارية بكلام ضعيف.

فقلت لها: يا جارية أين بهجة هذا المكان وأين أنواره وأين شموسه، وأين

(1)

الجَدَث: القبر: جمعها: أجداث وفي القرآن الكريم: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس: 51].

(2)

صَرَخ. صُراخًا، وصريخًا: صاح صياحًا شديدًا، واستغاث، والصَّارخ: المستغيث.

(3)

اقتتل القوم: قاتل بعضهم بعضًا: وتقاتل القوم: اقتتلوا.

(4)

الرَّوشن: الكوة والشرفة.

(5)

أعوز الشيء فلانًا: احتاج إليه، والدهر فلانا: أدخل عليه العوز، وعوز الرجل: احتاج واختلت حاله فهو أعوز، وهي عوزاء.

(6)

بدَّد الشيء: فرَّقه، وتبدَّد: تفرق.

(7)

كئب كآبة: تغيرت نفسه، وانكسرت من شدة الهم والحزن، فهو كئيب.

(8)

شَجِنَ. شجنًا: حَزِنَ، فهو شَجِنٌ.

ص: 414

أقماره، وأين قُصَّاده، وأين زوَّاره؟ فبكت.

ثم قالت: يا شيخ كانوا فيه على سبيل العارية

(1)

ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار.

وهذه عادة الدنيا، تُرحِّل من سكن فيها وتُسيء إلى ما أحسن إليها.

فقلت لها: يا جارية مررت بها في بعض الأعوام وفي هذا الروشن جارية تغني وتقول:

ألا يا دار لا يدخلك حزن

فبكت وقالت: أنا واللَّه تلك الجارية، ولم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرَّبته دنياه.

قلت لها: كيف قرُّبك القرار في هذا الموضع الخرَاب؟

قالت: ما أعظم جفاك

(2)

، أما كان هذا منزل الأحباب، وأنشدت:

قالوا تفنى وقوفًا في منازلهم

ونفس مثلك لا تفنى تحملها

قفلت والقلب قد ضحت أضالعه

والروح تنزع والأشواق تبريها

منازل الحب في قلبي معظمة

وإن خلا من نعيم الوصل منزلها

فكيف أتركها والقلب يتبعها

جاء لمن كان قبل اليوم ينزلها

فتركتها ومضيت وقد وقع شعرها من قلبي موقعًا، وازداد قلبي تولعًا.

نادرة: قال بعض العارفين: لو كانت الدنيا ذهبًا فانيًا والآخرة خزفًا باقيًا، لكان الخزف الباقي أولى من الذهب الفاني

(3)

.

(1)

تعريف العارية قد مر من قبل وقال الحنابلة: العارية معناها العين المعارة وهي المأخوذة من مالكها أو مالك منفعتها للانتفاع بها زمنا معينا بلا عوض.

وتطلق العارية على الإعارة مجازًا والإعارة هي إباحة نفع العين بغير عوض من المستعير أو غيره.

انظر الفقه على المذاهب الأربعة (3/ 249).

(2)

جفا الشيء. جفاءً، وجفوا: نبا وبَعُد، وجفا فلان عليه: أعرض عنه وقطعه.

(3)

روى الترمذي في سننه (2320) في الزهد باب ما جاء في هوان الدنيا على اللَّه عز وجل، عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء" - وقال: صحيح. ورقم (2321) عن المستورد بن شداد قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها، قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول اللَّه، قال: فالدنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها".

ص: 415

فكيف والأمر بالعكس، بل هي أجل وأفضل من الذهب المذكور.

مخلوقة من فاخر الجوهر والنور، ذات اللَّذات والنعيم والسرور.

في طلب الدنيا الذُّل، والآخرة العزّ.

فيا عجبًا لمن يختار الدنى في طلب الفاني، ويترك العز في طلب الباقي.

وما أحسن قول الإمام الشافعي

(1)

رحمه الله في ذم الدنيا.

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها

وسبق إلينا عَذْبها وعذابها

فلم أرها إلَّا غرورًا وباطلًا

كما لاح في ظهر الفلاة سرابها

فما هي إلَّا جيفة مستحيلة

عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ومن شعره البديع

(2)

:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي

جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته

بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل

بجودك تعفو منةً وتكرُّما

ولولاك لم يغو بإبليس عابد

فكيف وقد أغوى صفيك آدم

فيا ليت شعري هل أصرْ لجنةٍ

أهنأ وإما في السعير فأندما

(3)

(1)

كان الشافعي يقول: طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب اللَّه بها أهل التوحيد، وكان يمشي على العصا فقيل له في ذلك فقال: لأذكر أني مسافر من الدنبا، وكان يقول من شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة، وكان يقول من غلبته شدة وشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع. انظر الطبقات الكبرى (1/ 43).

(2)

سبب هذا الشعر ما ذكره الذهبي قال: وقال ابن خزيمة وغيره: حدثنا المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا أبا عبد اللَّه كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى اللَّه واردًا، ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنؤها أو إلى نار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول هذا الشعر وذكره الذهبي. انظر تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (201 - 210).

(3)

ومن شعره أيضًا قال المبرد: دخل رجل على الشافعي فقال: إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء فأنشد الشافعي يقول:

فلولا الشعر بالعلماء يزري

لكنت اليوم أشعر من لبيد

وأشجع في الوغى من كل ليث

وآل مهلب وأبي يزيد

ولولا خشية الرحمن ربي

حسبت الناس كلهم عبيدي

ولما بلغه قول أشهب بن عبد العزيز في دعائه: اللهم أمت الشافعي ولا تذهب علم مالك، =

ص: 416

ولغيره:

ومن يحمد الدنيا لعيش يسره

فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا دبرت كان على المرء حسرة

وإن أقبلت كانت كثيرًا همومها

الثانية عشرة: عن بعضهم قال: مررت ببعض القرى، فإذا بثلاثة قبور على قدر واحد، وهي على نَشَز

(1)

من الأرض، وعليها مكتوب أبيات من الشعر، على أحدها مكتوب:

وكيف يلذ العيش من هو عالم

بأن إله الخلق لا بد سائله

فيأخذ منه ظلمه لعباده

ويجزيه بالخير الذي هو فاعله

وعلى الثاني مكتوب:

وكيف يلذ العيش من كان موقنًا

بأن المنايا بغتة ستعاجله

فتسلبه ملكًا عظيمًا وبهجة

وتسكنه القبر الذي هو أهله

وعلى الثالث مكتوب:

وكيف يلذ العيش من كان صائرًا

إلى جدث

(2)

تبلى الشباب منازله

ويذهب ماء الوجه من بعد حُسنه

سريعًا ويبلى جسمه ومفاصله

فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبًا.

قال: وما رأيت؟

فقصصت عليه قصة القبور.

= تبسم الشافعي وأنشأ يقول:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيه بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

وقد علموا لو ينفع العلم عندهم

لئن مت ما الداعي عليَّ بمخلد

انظر تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (201 - 210).

(1)

النَّشز: ما ارتفع وظهر من الأرض، وجمعها: نشوز.

ونشز الشيء نشزًا ونشوزًا ارتفع، ويقال نشز المكان ونشز العرق عن مكانه، وفيه ارتفع منه ونهض.

(2)

قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)} [يس: 51].

وهذه هي النفخة الثالثة وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور، ولهذا قال تعالى:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، والنسلان هو المشي السريع. تفسير ابن كثير (3/ 593).

ص: 417

فقال: حديثهم أعجب مما رأيت.

فقلت: حدثني.

قال: كانوا ثلاثة أخوة، أمير وتاجر وزاهد، فحضرت الزاهد الوفاة، فاجتمع إليه أخواه وعرضا عليه ما أحب من مالهما ليتصدق به، فأبى أن يقبل، وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكني أعهد إليكما فلا تخلفا عهدي.

قالا: أعِهد، قال: إذا مِتُّ فغسلاني وكفناني وصليا عليَّ، وادفناني على نشز من الأرض واكتبا على قبري هذين البيتين - يعني الأولين:

وكيف يُلذّ. . . . إلى آخرهما.

فإذا أنتما فعلتما ذلك فأتياني في كل يوم مرة لعلكما تتيقظان، ففعلا ذلك.

وكان أخوه الملك يركب في جنده حتى يقف على قبره، ويقرأ عليه، ويبكي.

فلما كان اليوم الثالث جاء كما كان يجئ مع الجند، فنزل وبكى كما كان يبكي.

فلما أراد أن ينصرف سمع هدُّة من داخل القبر كاد ينصدع لها قلبه.

فانصرف فزعًا مذعورًا.

فلما كان الليل رأى أخاه في منامه وقال له: يا أخي ما الذي سمعت في قبرك.

قال: حسّ المقمعة

(1)

، قيل لي: رأيت مظلومًا، فلم تنصره.

فأصبح مهمومًا، فدعا أخاه وخاصته.

وقال: ما أرى أخي أراد بما أوصانا أن نكتب على قبره غيري، وإني أشهدكم لا أُقيم بين أظهركم أبدًا، فترك الإمارة، ولزم العبادة.

وكان يأوي إلى الجبال والبراري حتى حضرته الوفاة مع بعض الرعاة.

فلما بلغ ذلك أخاه أتاه وقال له: يا أخي ألا توصني؟

قال: فبأي شيء أُوصي ليس لي مال أوصي به ولكنى أعهد إليك عهدًا إذا أنا مت فادفنني جنب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يُلذّ العيش. . . . إلى آخرهما

كما أسلفناهما.

ثم زرني ثلاثة أيام بعد موتي وادع لي، لعل اللَّه يرحمني، ثم مات.

ففعل ما أمره.

فلما كان اليوم الثالث أتاه فبكى عنده، ودعا له فلما أراد أن ينصرف سمع

(1)

المقمعة: خشبة أو حديدة معوجة الرأس يضرب بها، جمعها: مقامع.

ص: 418

وجبة

(1)

عظيمة من داخل القبر كادت تذهب عقله، فرد قلقًا فلما كان الليل رأى أخاه في النوم قد أتاه فقال: يا أخي جئتنا زائرًا؟

فقال: هيهات بعد المزار فلا مزار، واطمأنت بنا الدار.

فقال له: كيف أنت؟

قال: بخير ما أجمع التوبة لكل خير.

فقال له: كيف أخي؟

قال: مع الأئمة الأبرار.

قال: فما أمرنا.

قال: من قدم شيئًا وجده، فاغتنم وجدك قبل عدمك.

فأصبح معتزلًا

(2)

للدنيا، قد انخلع قلبه منها، ففرق ماله وقسم رباعه، وأقبل على الطاعة.

ونشأ له ولد كامل الشباب وجهًا وجمالًا.

فأقبل على التجارة حتى حضرت أباه الوفاة.

فقال الابن: يا أبت ألا توصني؟

قال: واللَّه ما لأبيك مال فيوصي به، ولكن أعهد إليك عهدًا، إذا أنا مِتُّ فادفنني مع عمَّيك، واكتب على قبري هذين البيتين:

وكيف يلذ العيش. . . إلى آخرهما كما سلف.

فإذا بلغت ذلك فتعاهدني ثلاثًا، وادع اللَّه لي.

ففعل الفتى ذلك، فلما كان اليوم الثالث سمع من القبر صوتًا اقشعر له جلده، وتغيَّر لونه، فرجع إلى أهله محمومًا -أو قال مهمومًا- فلما كان الليل آتاه أبوه في المنام فقال: يا بني أنت عندنا عن قليل، والأمر بآخره، والموت أقرب من ذلك،

(1)

وجب الشيء: يجب وجوبًا لزم وثبت وسقط إلى الأرض.

(2)

قال النووي: مذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص، وقد كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرض وحلق الذكر وغير ذلك. [النووي في شرح مسلم (13/ 31) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 419

فاستعد لسفرك وتأهب لرحيلك، وحوّل جهازك من المنزل الذي أنت عنه إلى المنزل الذي أنت فيه مُقيم، ولا تغتر بما اغتر به البطَّالون قبلك من طول آمالهم فقصَّروا في أمر معادهم فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع أعمارهم أشد الأسف.

فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف الذي على التقصير أنقذهم من سوء ما نالهم، وشدة ما هالهم.

ثم قال: يا بُني بادر، ثم بادر.

فأصبح الفتى وقال: ما أرى هذا الأمر إلَّا قد أظلني، فأدى ولم يزل يُعطي ويُقسم ويتصدق إلى أن كان اليوم الثالث من صبيحة الرؤيا فدعا أهله وولده فودَّعهم وسلَّم عليهم.

ثم استقبل القبلة وتشهد شهادة الحق، ثم مات، فكان الناس يزورون قبورهم ويتوسلون

(1)

إلى اللَّه تعالى بهم في قضاء حوائجهم فتُقضى.

الثالثة عشر: عن عبد اللَّه بن مهران قال:

حج الرشيد فوافى الكوفة، فأقام بها أيامًا ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس وخرج بهلول المجنون

(2)

فيمن خرج فجلس بالكناسة والصبيان يؤذونه، ويولعون به.

إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع به.

فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته يا أمير المؤمنين:

فكشف هارون السِّجاف

(3)

بيده وقال: لبيك يا بهلول.

(1)

للتوسل ثلاثة أوجه: أولها: التوسل بدعاء الصالحين وذلك مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي طلبه من عمر بن الخطاب الدعاء لما أراد العمرة، وكذلك توسل عمر بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء.

والثاني: التوسل بصالح الأعمال وذلك في حديث أصحاب الغار الثلاثة في الصحيحين.

والثالث: التوصل بأسماء اللَّه الحسنى وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. وهذا مما أجمع عليه العلماء، وأما غير هذا ففيه خلاف.

(2)

بهلول المجنون اجتمع به هارون الرشيد فقال له الرشيد: كنت أشتهي رؤيتك من زمان، فقال لكني أنا لم أشتق إليك قط، فقال له: عظني، فقال: بم أعظك، هذه قصورهم وهذه قبورهم، ثم قال: كيف بك يا أمير المؤمنين إذا أقامك الحق تعالى بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير وأنت عطشان جيعان عريان، وأهل الموقف ينظرون إليك ويضحكون، فخنقته العبرة، وكان بهلول مجاب الدعوة وأمر له الرشيد بصلة فردها عليه وقال: ردها على من أخذتها منه قبل أن يطالبك بها أصحابها في الآخرة فلا تجد لهم شيئًا ترضيهم به، فبكى الرشيد وتأتي ترجمته.

(3)

السِّجاف: السِّتر، وما يركب على حواشي الثوب، وجمعها أسجاف، وسُجوف.

ص: 420

فقال: يا أمير المؤمنين أنبأنا أيمن بن نايل

(1)

عن قدامة بن عبد اللَّه العامري قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رثَّ، فلم يكن ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.

وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تكبرك وتجبرك.

فبكى هارون حتى سقطت الدموع على الأرض ثم قال: يا بهلول زدنا يرحمك اللَّه.

فأنشده:

هب إنك قد ملكت الأرض طرًّا

(2)

ودان لك العباد فكان ماذا

أليس غدًا مصيرك جوف قبر

ويحثو التراب عليك هذا ثم هذا

قال: أحسنت يا بهلول

(3)

هل غيره؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل أتاه اللَّه مالًا وجمالًا، فأنفق من ماله وعفَّ في جماله كُتِب في خالص ديوان اللَّه من الأبرار.

فقال: أحسنت يا بهلول مع الجائزة.

قال: أردد الجائزة على من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها.

قال: يا بهلول فنجري عليك ما يكفيك.

فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين اعلم أنا وأنت من عيال اللَّه فمحال أن يذكرك وينساني، فأسبل هارون السِّجاف ومضى.

الرابعة عشر: حكى عن علي رضي الله عنه أنه قال: دخلت مقابر البقيع

(4)

لأزور

(1)

أيمن بن نايل، أبو عمران، أبو عمرو الحبشي المكي الكوفي، صدوق، أخرج له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، وتوفي سنة (160).

ترجمته: تهذيب التهذيب (1/ 393)، تقريب التهذيب (1/ 88)، الكاشف (1/ 144)، الجرح والتعديل (2/ 319)، ميزان الاعتدال (1/ 283)، الوافي بالوفيات (10/ 30)، سير الأعلام (6/ 309).

(2)

طرَّ طرًّا وطرورًا: كان طريرًا ذا رواء وجمال. والطّرُة: ما تتزين به المرأة من الشعر الموفى على جبهتها بالقص والتصفيف.

(3)

اسمه البهلول بن عمرو، أو وهب الصيرفي الكوفي وسوس في عقله وما أظنه اختلط، أو قد كان يصحو في وقت فهو معدود في عقلاء المجانين.

وحدث عن عمرو بن دينار، وعاصم بن بهدلة، وأيمن بن نايل، وما تعرضوا له بجرح ولا تعديل ولا كتب عنه الطلبة، طول ترجمته ابن النجار وذكر أنه أتى بغداد، ولم أجد له وفاة. تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (181 - 190).

(4)

روى مسلم في صحيحه [102 - (974)] كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء =

ص: 421

الأحباب وجعلت أُسلِّم على واحد واحد، ثم وليت وأنا أقول:

ما لي مررت على القبور مسلمًا

قبر الحبيب فلم يرد جوابي

يا قبر ما لك لا تجيب مناديًا

أمللت بعدي صُحبة الأحباب

فأجابني صوت

قل للحبيب وكيف لي بجوابكم

وأنا الرهين بجندل وتراب

أكل التراب محاسني فنسيتكم

وأحجبت عن أهلي وعن أحبابي

غيره

لياليك تفنى والذنوب كثيرة

وعمرك يبلى والزمان جديد

وتحسب أن النقص فيك زيادة

وأنت على النقصان حين تزيد

ووجد على باب مقبرة مكتوبًا:

سلام على أهل القبور

(1)

الدوارس

كأنهم لم يجلسوا في المجالس

ولم يشربوا من بارد الماء نهلة

ولم يطعموا من كل رطب ويابس

ولم يك منهم في الحياة منافس

طويل المُنا فيها كثير الوساوس

ألا ليت شعري أين قبر ذليلكم

وقبر العزيز الشامخ المتشاوس

(2)

لقد سكنوا في موحش التراب والثرى

فها هم بها ما بين راج وآيس

ولو عقل المرء المنافس في الذي

تركتم من الدنيا لم ينافس

خاتمة

عجَّ

(3)

بالمعالم والربوع

وأسبل بِهنَّ عن الجموع

أين الذين عهدتم

يا دار في العز المنيع

= لأهلها، عن عائشة كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" دار مقصور على النداء أي يا أهل دار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقيل: منصوب على الاختصاص.

قال صاحب المطالع: ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقابر. [النووي في شرح مسلم (7/ 35) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

تشوش عليه الأمر: اختلط والتبس.

(3)

عجَّ: عجًّا وعجيجًا: رفع صوته وصاح.

ص: 422

والنهى والأمر المطاع

بذروة

(1)

القصر الرفيع

إن لم تجبك ديارهم

يا صاح بالأمر الفظيع

فلسان حالهم يقول

أما نظرت إلى الربوع

قد أصبحت مهجورة

من بعد منظرها البديع

هيهات أن ينجو غدًا

من العذاب سوى المطيع

‌فصل

ونذكر حكايات تليق بالثاني:

فالأولى: حُكِيَ أن امرأة يقال لها ناهبة لما أشرفت على الموت رفعت رأسها إلى السماء وقالت: يا ذُخري

(2)

وذخيرتي، ومن عليه اعتمادي، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني.

فلما ماتت كان لها ولد يأتي كل ليلة جمعة، ويوم جمعة يقرأ عندها شيئًا من القرآن.

ويدعو ويستغفر لها ولأهل المقابر.

قال: فرأيتها في المنام، فسلَّمت عليها وقلت: يا أُماه كيف أنت؟ وكيف حالك؟

قالت: يا بني إن للموت كربة شديدة، وأنا بحمد اللَّه في برزخ محمود، نفترش فيه الريحان، ونتوسد فيه السندس والاستبرق إلى يوم القيامة.

فقلت: ألك حاجة؟

قالت: يا بني لا تدع ما أنت عليه من زيارتنا والقراءة والدعاء لنا، فإني يا بني أُسرُّ بمجيئك إلينا ليلة الجمعة ويومها

(3)

.

(1)

الذروة: ذروة كل شيء: أعلاه، جمعها: ذُرا.

(2)

ذخر الشيء ذخرًا، وذخرًا جمعه وحفظه لوقت الحاجة إليه.

(3)

قال النووي في حديث عائشة في الصدقة عن الميت ووصول ثوابها إليه: وفي الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك بإجماع العلماء، وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الإسلام، وكذا إذا وصى بحج التطوع على الأصح عندنا، واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجح جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها، وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها وبه قال أحمد بن حنبل، وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور. =

ص: 423

إذا أقبلت يقول لي الموتى: هذا ابنك قد أقبل فأُسرَّ بذلك، ويُسرّ من حولي.

قال: فكنت أزورها في كل ليلة جمعة ويومها وأقرأ عندها شيئًا من القرآن وأقول: أَنس اللَّه وحشتكم، ورحم غربتكم وتجاوز عن سيئاتكم وتقبل حسناتكم.

فبينما أنا ذات ليلة نائم إذا بخلق كثير قد جاءوني فقلت: من أنتم؟ وما حاجتكم؟

فقالوا: نحن أهل المقابر جئناك نشكرك ونسألك أن لا تقطعنا من تلك القراءة والدعوات فما زلت أقرأ وأدعو لهم بتلك الدعوات في كل ليلة جمعة ويومها.

ويحك تنبه لنفسك

واعمل لما تلقى غدا

فالموت يأتي بغتة

وليس عنه محيد

من لك إذا ملك

من كان يهوى صحبتك

وجزت لحدك وحدك

مفلس غريب وحيد

إن كنت يا صائح نائم

لا بد في القبر تنتبه

وأنت فيه (محر)

(1)

عما تريد بعيد

أهل القبور تهيئوا

ما أنت فيه بجهدهم

ولست تدري

من هم شقي وسعيد

فدع دموعك تجري

قبل أن يقال لمن عصى

ألم تكن قبل تدري

أن الحساب شديد

كل القلوب قد كانت

لكن قلبك قد قسا

قد كان قلبك أضحى

بين القلوب جديد

ويحك فهيئ زادك

واحذر تفند

(2)

يا فتى

قبل أن تسافر بغتة

ما ينفع التفنيد

الثانية: عن صالح المري

(3)

قال: أقبلت ليلة الجمعة إلى الجامع لأُصلي فيه صلاة الفجر.

= وقال أحمد: يصله ثواب الجميع كالحج. [النووي في شرح مسلم (7/ 79) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

كذا بالأصل.

(2)

فَنَدَ فَنَدًا: كذب وأتى بالباطل، فنَّد فلانا خطَّأ رأيه، والمُفنَّد: الضعيف الرأي.

(3)

صالح المري، واعظ أهل البصرة، أبو بشر صالح بن بشير البصري، القاص، الزاهد، الخاشع =

ص: 424

فمررت بمقبرة لأهلي فجلست عند قبر، فغلبتني عيني فرأيت في نومي كأن أهل القبور قد خرجوا من قبورهم.

فقعدوا حِلقًا حِلقا يتحدثون، وإذا بشاب عليه ثياب دنسة، قعد في جانب المقبرة مغمومًا مهمومًا فريدًا بنفسه.

فلم يلبثوا إلَّا ساعة حتى أقبلت ملائكة على أيديهم أطباق مغطاة بمنديل كأنه قال: من نور فكلما جاء أحد منهم طبق أخذه

(1)

ودخل في قبره حتى بقي ذلك الفتى في آخر القوم، فلم يأته شيء فقام حزينًا ليدخل قبره.

فقلت: يا عبد اللَّه ما لي أراك حزينًا؟ وما الذي رأيت؟

قال: يا صالح

(2)

هل رأيت الأطباق؟

قلت: نعم، فما هي؟

قال: تلك صدقات الأحباء ودعاؤهم لموتاهم تأتيهم ذلك ليلة الجمعة ويومها. ثم ذكر كلامًا طويلًا، ذكر فيه أن له والدة اشتغلت عنه بالدنيا، وتزوجت والتهت وأنه يحق له أن يحزن، إذ ليس له من يذكره.

فسأله عن منزل والدته أين هو؟

فوصفه لي، فلما أصبح ذهب وسأل عنها.

فقص عليها قصته.

فبكت ثم قالت: يا صالح من نزل عن كبدي والحشا ومن كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حِوَاء.

ثم دفعت لي ألف درهم وقالت: تصدق بها عن حبيبي وقُرَّة عيني، ولا أنساه من الدعاء والصدقة في بقية عمري إن شاء اللَّه.

= روى عن الحسن، وبكر بن عبد اللَّه ومحمد بن سيرين وقتادة وأبي عمران الجوني، وثابت ومالك بن دينار وطائفة.

قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو داود: لا يكتب حديث، وقال أبو سعيد بن الأعرابي: كان الغالب عليه كثرة الذكر والقراءة بالتحزين يقال إنه أول من قرأ بالبصرة، توفي سنة (172). تاريخ الإسلام وفيات (171 - 180).

(1)

انظر ما تقدم في ثواب وصول الصدقة للميت عن النووي في شرح صحيح مسلم.

(2)

قال صالح: للبكاء دواع: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت على ذلك القلوب وإلا نقلتها إلى الموقف وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجاب وإلا فاعرض عليها التقلب في أطباق النيران، ثم إنه صاح وغشي عليه، وضج الناس، وقال الأعرابي: إن غير واحد ممن سمع قراءة صالح مات منها. تاريخ الإسلام وفيات (171 - 180).

ص: 425

قال صالح

(1)

: فتصدقت بها عنه.

فلما أقبلت أريد الجامع أتيت المقبرة، واستندت إلى قبر، فخفقت برأسي، وإذا بالقوم خرجوا وإذا بالفتى عليه ثياب بيض وهو فرح مسرور فأقبل نحوي حتى دنا مني وقال: يا صالح جزاك اللَّه عني خيرًا.

قد وصلت إليَّ الهدية.

قلت له: أنتم تعرفون يوم الجمعة؟

قال: نعم، وإن الطيور تعرفه في الهواء وتقول سلام سلام ليوم صالح.

ألا أيها القلب الكثير علائقه

ألم تر أن الدهر تجري بوائقه

ألا أيها الباكي على الميت بعده

رويدك لا تعجل فإنك لاحقه

رويدك لا تنسى المقابر والبلى

وطعم غذاء الموت الذي أنت ذائقه

إذا اعتصم مخلوق من فتن النوى

بخالقه أنجاه منها خالقه

أرى صاحب الدنيا فقيهًا بجهله

على ثقة من صاحب لا يفارقه

فلا تتمنى الموت يا صاح إنه

ستأتيك منه عن قريب طوارقه

(2)

الثالثة: عن بعض أهل العلم أن رجلًا رأى في نومه أهل القبور قد خرجوا من قبورهم إلى ظاهرة المقبرة، وهم يلتقطون شيئًا لا يدرى ما هو.

قال: فتعجبت من ذلك، ورأيت واحدًا منهم جالسًا لا يلتقط معهم شيئًا.

قال: فدنوت منه وسألته ما الذي يلتقطه هؤلاء؟

فقال: يلتقطون ما يهدي إليهم المسلمون من القراءة والصدقة والدعاء.

قال: فقلت: لم لا تلتقط أنت معهم؟

قال: أنا غني عن ذلك.

قلت: بأي شيء؟

قال: بختمة يقرؤها ويهديها إليَّ كل يوم ولد لي يبع الزَّلابية

(3)

في السوق الفلاني.

فلما استيقظت ذهبت إلى السوق فوجدته وهو شاب يبيعها ويحرك شفتيه.

(1)

قلت أي الذهبي: روى خمسة عن يحيى تليين صالح المري وما في ضعفه نزاع، إنما الخلاف هل يترك حديثه أو لا؟ انظر المرجع السابق.

(2)

الطارق: الآتي ليلًا، والنجم الثاقب، والحادث أو الحادث ليلًا، جمعها: طوارق.

(3)

الزَّلابية: حلواء تصنع من عجين رقيق تُصب في الزيت وتقلى ثم تعقد بالدِّبس، وهو عسل التمر.

ص: 426

فقلت له: بأي شيء تحرك شفتيك؟

قال: اقرأ القرآن، فأهديه لوالدي في قبره.

قال: فمكثت مدة من الزمان.

ثم رأيت الموتى قد خرجوا من القبور يلتقطون كما تقدم، وإذا أنا بالرجل الذي كان لا يلتقط معهم صار يلتقط.

فاستيقظت وتعجبت من ذلك.

ثم ذهبت إلى السوق لأتعرف خبر ولده، فوجدته قد مات.

الرابعة: قيل أن بعض النساء توفيت فرأتها امرأة في المنام تعرفها، إذا عندها تحت السرائر آنية من نور مغطاة.

فسألتها ما في هذه الأوعية؟

فقالت: فيها هدية أهداها إليَّ أبو أولادي البارحة.

فلما استيقظت المرأة ذكرت ذلك لزوج الميتة

(1)

فقال: قرأت شيئًا من القرآن البارحة وأهديته لها.

الخامسة: عن بعض الصالحين قال: بلغني أن بعض الموتى في بلاد اليمن راه بعض أصحابه في النوم، وكنت قد أهديت إليه شيئًا من القرآن

(2)

.

فقال له: سلِّم على فلان، وقل له جزاه اللَّه عني خيرًا، كما أهدى إليَّ القرآن.

السادسة: رأى بعضهم العلامة عز الدين بن عبد السلام في منامه فقال له: ما تقول في قراءة القرآن للموتى؟

فقال: هيهات وجدت الأمر بخلاف ما كنت أظن.

يا غافلًا يتمادى

في اللهو كم هذا الزلل

غدا عليك ينادى

يا نكثا خوَّان

لا تغترنَّ بالدنيا

فليس هي الباقية

(1)

مما يقول الزائر عند رؤية القبور: "اللهم رب الأرواح الباقية والأجسام البالية والشعور المتمزقة، والجلود المتقطعة والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة أنزل عليها روحًا منك وسلامًا مني". انظر الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 451).

(2)

زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها عند الحنفية والمالكية، وخالف الحنابلة والشافعية، وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرع والاعتبار بالموتى وقراءة القرآن للميت، فإن ذلك ينفع الميت على الأصح. انظر الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 451).

ص: 427

الدار دار الأُخرى

فجد في البنيان

أبناء عشر تواصوا

بالخير فيما بينكم

فالخير لا شك عادة

من الصغر قد بان

أبناء عشرين جدّوا

واستغنموا شبابكم

ما دام غصن الشيبة

رطب لكم ريان

يا ابن الثلاثين بادر

إلى المتاب فربما

تأتي المنايا بغتة

وتحرم الإمكان

وأنت ماذا عُذرك

ذا الوقت يا ابن الأربعين

وقد بلغت أشدك

فاسبق إلى الإحسان

أبناء الخمسين هذا

وقت الرجوع عن الزلل

(1)

فليس بعد الزيادة

شيء سوى النقصان

أبناء ستين كونوا

من المنون على حذر

فما أحد قط يعطي

من المنون أمان

أبناء سبعين وأفحش

المشيب وما

بقي للزرع إلّا حصاده

ويُنشر الديوان

(2)

يا ابن الثمانين قل لي

في الدهر ماذا تنتظر

قد حان وقت رحيلك

وشالت الركبان

أبناء تسعين فواللَّه

قد كتب توقيعكم

من ربكم بالإنابة

(3)

والعفو والغفران

يا ابن المائة آن وقتك

وما بقي لك من عمل

إلَّا التوجه للَّه في

السرّ والإعلان

قد حان وقت رحيلك

فقم تجهز للسفر

(1)

الزَّلة: السقطة والخطيئة.

(2)

قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)} [التكوير: 10]. قال الضحاك: أعطي كل إنسان صحيفة بيمينه أو بشماله، وقال قتادة يا ابن آدم تملى فيها ثم تطوى ثم تنشر عليك يوم القيامة فلينظر رجل ماذا يملى في صحيفته. تفسير ابن كثير (4/ 478).

(3)

أناب: رجع إليه مرة بعد أخرى، وإلى اللَّه تاب ورجع.

ص: 428

وحصِّل الزاد قبل أن

تبقى عليه ندمان

‌فصل في أشعار أخرى

روى أن بعض المتعبدين أتى قبر صاحب له كان يألفه، وأنشد:

(1)

ما لي مررت على القبور مسلِّمًا

قبر الحبيب فلم يرد جوابي

أحبيب ما لك لا تُجيب مناديًا

أمللت

(2)

بَعدي خِلَّة الأحباب

فهتف بي هاتف من جانب القبر يقول:

قال الحبيب وكيف لي بجوابكم

وأنا الرهين بجندل

(3)

وتراب

أكل التراب محاسني فنسيتكم

وأُحجبت عن أهلي وعن أحبابي

وحضرت الحسين بن هاني الوفاة وأنشد:

دبَّ في السقام سفلًا وعلوا

وأراني أموت عضوا فعضوا

ليس من ساعة بدت لي إلَّا

نغصتني

(4)

بمُرِّها بي حلوا

لهف نفسي على ليال نُقضت

وسنين مضين لعبًا ولهوا

قد أسأنا كل الإساءة جهرًا

ومن اللَّه نطلب الآن عفوا

شعر:

معارف في الثرى هجوع

(5)

والقلب من بعدهم صدوع

تكدَّرت بعدهم حياتي

فأوحشت منهم الربوع

(6)

كانوا سروري ونور عيني

فما لها بعدهم هجوع

ماتوا فماتت لذَّات عيشي

وبالأسى ذابت الضلوع

يا نفس كم من جموع وصل

فرقها للردى ولوع

(7)

(1)

مر ذلك من قبل عن علي بن أبي طالب.

(2)

مَلَّ: فلان الشيء، سئمه، فهو ملّ.

(3)

الجنادل: الشديد العظيم.

(4)

نغَّص: فلانا: كدَّر عيشه، وتنغصت معيشه: تكدَّرت.

(5)

هَجَعَ: هجوعًا: نام ليلًا، والهجعة: النومة الخفيفة من أول الليل.

(6)

الرَّبع: الموضع ينزل فيه زمن الربيع، وتطلق على الدار.

(7)

وَلَعَ بفلان ولعًا: تعلق به بشدة، أُولع به: تعلَّق بشدة.

ص: 429

يا نفس للموت فاستعدي

فالموت إتيانه سريع

فلا مليك في الدهر يبقى

ولا شريف ولا وضيع

(1)

ولا سعيد ولا شقي

ولا مسيء ولا مطيع

يا نفس إن الأصول ماتت

فما عسى تلبث الفروع

غيره:

أحبابنا فارقتمونا فأوحشت

قلوب لنا من بعدكم وديار

فكم قد تذاكر مصارع

(2)

من مضى

فحادت دموع للفراق غزار

قضوا وقضيتم ثم يقضي ولا بقاء

لحي وكاسات المنون تدار

وكنا وإياكم نزور مقابر

ومتم فزرناكم فسوف نزار

سقت ديمة

(3)

الرضوان رُبا ثراكم

وسحت لها من ساحتيه بحار

يقول لسان الحال إذا خرس الردى

لسانًا لهم منه الفصيح يغار

شربنا بكأس أسكرتنا مرارة

الإرب

(4)

سكر ما حباه عقار

وإنَّا وجدنا خير أزوادنا التُقى

هو الربح حقَّا ما عداه خسار

وما العيش إلَّا زورة الطيف في الكرى

(5)

وما هذه الدنيا الدنية دار

غيره:

لقد زرت أقوامًا أُحبهم وهم

تحت أطباق الثرى فيه أموات

وواصلتهم من بعد بين وفرقة

فكان لنا فيهم غطات وأنصات

وأعجب شيء في الوجود اجتماعنا

ونحن على ذاك التواصل الشتات

(6)

ويروى أنه وجد على قبر مكتوب:

اصبر لدهر نال فهكذا أمضيت الدهور

فَرحًا وحزنًا مرة لا الحزن دام ولا السرور

(1)

وَضَعَ فلان من فلان: حطَّ من قدره ودرجته.

(2)

صَرَعَ صرعًا: طرحه على الأرض، فهو مصروع.

(3)

دام الشيء دومًا: ثبت واستمر، والديوم: الدائم.

(4)

الأرب: البغية والأمنية والإرب: الحاجة.

(5)

الكَرَى: النُعاس، جمعها: أكراء.

(6)

الشَّتات: التفرق، وأمر شتات: متشتت.

ص: 430

غيره

يا آمن الأقدار بادر صرفها

واعلم بأن الطالبين (حباث)

(1)

خُذ من تراثك ما استطعت فإنما

شركاؤك الأيام والوراث

المال مال المرء ما بلغت به

الشهوات أو دفعت به الأحداث

ما كان منه فاضلًا عن قوته

فليوقنن بأنه ميراث

ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة

مات الذكور بها ومات الإناث

(1)

كذا بالأصل.

ص: 431

‌مجلس في كراهة تمني الموت بسبب ضُرّ نزل به ولا بأس لخوف الفتنة في الدين

روينا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يُستعتب"

(1)

.

أخرجاه، السياق للبخاري.

ولمسلم: لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلَّا خيرًا"

(2)

.

ففيه النهي عن تمني الموت والدعاء به، وإن من حكمه النهي حصول من لم ينزل به على أحد الحسنيين اللذين هما فائدة الحياة.

إما اكتساب وتدارك الفائت، وإما اجتناب سوء وبلاء.

وفي الثاني إن من حكمة النهي إندفاع آفة الموت إلى أن يأتيه وآفته أن العبد إذا مات انقطع عمله لفوات مزرعة الآخرة.

وفيه أن الجالب للتمني ليس إلا وهم ضرر في الحياة كألم بدني، أو قبض نفس أو خوف قلب أو اتلاف صبابة شوق أو غير ذلك.

وإنه لوهم فاسد، والمؤمن له من الإيمان ما يوجب أن يزيد عمره إلا خيرًا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5673) كتاب المرض والطب، 19 - باب تمني المريض الموت.

ورقم (7235) كتاب التمني، 6 - باب ما يكره من التمني. ومسلم في صحيحه [13 - (2682)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 4 - باب تمني كراهة الموت لضر نزل به. وأبو داود (3109) كتاب الجنائز باب كراهية تمني الموت وابن ماجه في سننه (4265) وأحمد في مسنده (3/ 101)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 437)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 257)، وعبد الرزاق في مصنفه (20636) والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 277).

(2)

انظر التخريج قبل هذا. وقال النووي: فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. فأما إذا خاف ضررًا في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره. وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم وفيه أنه إن خاف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيرًا لي. . الخ. والأفضل الصبر والسكوت للقضاء. [النووي في شرح مسلم (17/ 7). طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 432

(وجندًا)

(1)

كلما ذكر عند التأمل.

وروينا من حديث أنس مرفوعًا: "لا يَتَمَنِّين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"

(2)

. أخرجاه.

ففيه النهي عن تمنيه لضرِّه، ومفهومه أن لا يتمنى لهم ديني، وإرشاد المضطر إليه إلى تفويض العليم وسؤاله من فضله أن يفعل ما هو بخيرته.

وروينا من حديث قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خباب بن الأرت

(3)

نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا وإنا أصبناه ما لا نجد له موضعًا إلَّا التراب، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطًا له فقال:"إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلَّا في شيء يجعله في هذا التراب"

(4)

. أخرجاه، واللفظ للبخاري.

وفيه الاعتصام بالسنة مع دفع الدواعي الدينية والدنيوية إليه آخره.

أُناس أعرضوا عنا

بلا جرم ولا معنى

أساءوا ظنهم فينا

فهلا أحسنوا الظنا

فإن عادوا لنا عدنا

وإن خانوا فما خُنَّا

وإن كانوا قد استغنوا

فأنا عنهم أغنى

(1)

كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (5671) كتاب المرض والطب، 19 - باب تمنى المريض الموت. ورقم (6351) كتاب الدعوات، 30 - باب الدعاء بالموت والحياة. ورقم (7233) كتاب التمني، 6 - باب ما يكره من التمني. ومسلم في صحيحه [10 - (2680)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 4 - باب تمني كراهة الموت، لضر نزل به.

(3)

خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد، أبو عبد اللَّه، أبو يحيى، أبو محمد التميمي الزهري الخزاعي، صحابي جليل مشهور، أخرج له أصحاب الكتب الستة، توفي سنة (37، 19).

ترجمته: تهذيب التهذيب (3/ 133)، تقريب التهذيب (1/ 222)، الكاشف (1/ 277)، التاريخ الكبير (3/ 215)، التاريخ الصغير (1/ 78) الجرح والتعديل (3/ 1817)، أسد الغابة (2/ 114)، الإصابة (2/ 258)، سير الأعلام (2/ 323).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (5672) كتاب المرض والطب، 19 - باب تمني المريض الموت، ورقم (6349)، (6350) كتاب الدعوات، 30 - باب الدعاء بالموت والحياة. ورقم (6430، 6431) كتاب الرقاق، 7 - باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها. ورقم (7234) كتاب التمني، 6 - باب ما يكره من التمني. ومسلم في صحيحه [12 - (2681)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 4 - باب تمني كراهة الموت لضر نزل به.

ص: 433

‌مجلس في الدجال

روينا من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفَّض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النَّخل

(1)

، فلما رُحنا إليه عرف ذلك فينا.

فقال: "ما شأنكم؟ ".

قلنا: يا رسول اللَّه، ذكرت الدجال غداة، فخفَّضت فيه ورفَّعت، حتى ظنناه في طائفة النَّخل، فقال: "غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، واللَّه خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط، عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف

(2)

، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يمينًا وعاث شمالًا، يا عباد اللَّه، فاثبتوا".

قلنا: يا رسول اللَّه، وما لبثه في الأرض؟

قال: "أربعون يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"

(3)

.

(1)

قوله: "فخفض فيه ورفَّع حتى ظنناه في طائفة النَّخل" هو بتشديد الفاء فيهما، وفي معناه قولان: أحدهما: أن خفض بمعنى حقر، وقوله رفع أي عظمه وفخمه فمن تحقيره وهوانه على اللَّه تعالى عوره، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "هو أهون على اللَّه من ذلك" وأنه لا يقدر على قتل أحد إلَّا ذلك الرجل، ثم يعجز عنه وأنه يضمحل أمره ويفتل بعد ذلك هو وأتباعه ومن تفخيمه وتعظيم فتنته والمحنة به هذه الأمور الخارقة للعادة وأنه ما من نبي إلَّا وقد أنذره قومه.

والوجه الثاني: أنه خفض من صوته في حال الكثرة فيما تكلم فيه فخفض بعد طول الكلام والتعب ليستريح، ثم رفع ليبلغ صوته كل أحد. [النووي في شرح مسلم (18/ 50) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

روى مسلم في صحيحه [257 - (809)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 44 - باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.

قال النووي: وفي رواية: من آخر الكهف، قيل: سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات، فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال.

(3)

قال العلماء: هذا الحديث على ظاهره، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القدر المذكور في الحديث يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "وسائر أيامه كأيامكم" وأما قولهم يا رسول اللَّه فذلك اليوم الذي =

ص: 434

قلنا: يا رسول اللَّه فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟

قال: "لا، اقدروا له قدره".

قلنا: يا رسول اللَّه، وما إسراعه في الأرض؟

قال: "كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنُبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرًا، وأسبغه ضروعًا، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النَّحل، ثم يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف فيقطعه جَزلتين

(1)

رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث اللَّه المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين

(2)

واضعًا كفيه على أجنحة ملكين.

إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جُمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلَّا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لُدَّ، فيقتله.

ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم اللَّه منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة.

فبينما هو كذلك إذ أوحى اللَّه إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور.

ويبعث اللَّه يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون

(3)

، فيمر أوائلهم على

= كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال: لا اقدروا له قدره، فقال القاضي وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع.

قالوا: ولولا هذا الحديث ووكلنا إلى اجتهادنا لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام.

(1)

جَزْلتَين: بفتح الجيم على المشهورة، وحكى ابن دريد كسرها أي قطعتين ومعنى رمية الغرض أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رميته، وحكى القاضي هذا، ثم قال: وعندي أن فيه تقديمًا وتأخيرًا وتقديره فيصيبه إصابة رمية الغرض فيقطعه جزلتين، والصحيح الأول.

(2)

المهرودتان: روى بالدال المهملة، والذال المعجمة والمهملة أكثر، ومعناه لابس مهرودتين أي ثوبين مصبوغين بورس، ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان والشقة نصف الملاءة.

(3)

قوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96] الحدب: النشز، وينسلون: يمشون مسرعين.

ص: 435

بحيرة طبرية فيشربون، ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء.

ويحصر نبي اللَّه عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي اللَّه عيسى وأصحابه، فيرسل اللَّه عليهم النغف

(1)

في رقابهم. فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي اللَّه عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيغب نبي اللَّه عيسى وأصحابه إلى اللَّه فيرسل اللَّه طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللَّه.

ثم يرسل اللَّه مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة

(2)

. ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك. وروي بركتك. فيومئذ يأكل العصابة

(3)

من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرِّسل

(4)

حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللَّه ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج

(1)

النغف، بنون وغين معجمة مفتوحتين، ثم فاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، الواحدة: نغفة. والفرسى، بفتح الفاء مقصور: أي قتلى، واحدهم: فريس.

(2)

الزلفة: روي بفتح الزاي واللام والقاف، وروي الزلفة، بضم الزاي وإسكان اللام وبالفاء، وروي الزلفة بفتح الزاي واللام وبالفاء: قال القاضي: روي بالفاء والقاف، وبفتح اللام وبإسكانها، وكلها صحيحة، قال في المشارق: والذي مفتوحة، واختلفوا في معناه، فقال ثعلب وأبو زيد وآخرون: معناه كالمرآة. وحكى صاحب المشارق هذا عن ابن عباس أيضا؛ شبهها بالمرآة في صفائها ونظافتها. وقيل كمصانع الماء، أي أن الماء يستنقع فيها حتى تصير كالمصنع الذي يجتمع فيه الماء، وقال أبو عبيد: معناه كالإجانة الخضراء، وقيل كالصحفة، وقيل كالروضة. [النووي في شرح مسلم (18/ 56) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

العصابة: الجماعة. وقحفها، بكسر القاف: مقعد قشرها، شبهها بقحف الرأس، وهو الذي فوق الدماغ، وقيل: ما انفلق من جمجمته وانفصل.

(4)

الرِّسل، بكسر الراء وإسكان السين: هو اللبن. واللقحة، بكسر اللام وفتحها، لغتان مشهورتان، والكسر أشهر: وهي القريبة العهد بالولادة، وجمعها لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، واللقوح ذات اللبن، وجمعها لقاح.

والفئام، بكسر الفاء، وبعدها همزة ممدودة: وهي الجماعة الكثيرة، هذا هو المشهور والمعروف في كتب اللغة وكتب الغريب ورواية الحديث أنه بكسر الفاء وبالهمز. قال القاضي: ومنهم من لا يجيز الهمز، بل يقوله بالياء. وقال في المشارق: وحكاه الخليل بفتح الفاء، وهي رواية القابسي.

ص: 436

الحمر

(1)

، فعليهم تقوم الساعة".

رواه مسلم

(2)

.

وقوله: خلَّة بين الشام والعراق: أي طريقا بينهما.

وقوله: عاث، بالعين المهملة والثاء المثلثة، العيث: أشد الفساد.

والذرا: الأسنمة، واليعاسيب: ذكر النحل.

وجَذْلَتَيْن: أي قطعتين.

والغرض: الهدف الذي يرمى بالنشاب، أي يرميه رمية كرمية النشابة.

والمهرودة: بالدال المهملة والمعجمة، هي الثوب المصبوغ.

قوله: لا يدان: أي لا طاقة.

والنغف: دود. وفرسى: جمع فريس، وهو القتيل.

والزلقة: بفتح الزاي واللام والقاف، وروي الزُّلفة بضم الزاي وإسكان اللام وبالفاء وهي المرآة.

والعصابة: الجماعة. والرسل: بكسر الراء: اللبن. واللقحة: اللبون.

والفئام: بكسر الفاء وبعدها همزة: الجماعة.

والفخذ من الناس دون القبيلة.

(1)

قوله: "يتهارجون تهارج الحمر" أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك.

والهرج، بإسكان الراء الجماع، يقال: هرج زوجته أي جامعها، يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها. [النووي في شرح مسلم (18/ 57) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [110 - (2137)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [20] باب ذكر الدجال وصفته وما معه، والترمذي في سننه (2240)، وابن ماجه في سننه (4075)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 336)، وأحمد في مسنده (4/ 181، 5/ 145)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 351)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 147)، وابن كثير في تفسيره (2/ 414، 5/ 368).

وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض - رحمه اللَّه تعالى: نزول عيسى صلى الله عليه وسلم وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة، للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطل فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نبي بعدي" وبإجماع المسلمين على أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ، وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى صلى الله عليه وسلم أن ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا. [النووي في شرح مسلم (18/ 61) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 437

وعن ربعي بن حراش

(1)

قال: انطلقت مع أبي مسعود الأنصاري إلى حذيفة بن اليمان فقال أبو مسعود: حدثني ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدجال. قال: "إن الدجال يخرج ومعه ماء ونار، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق. وأما الذي يراه الناس نارًا فماء بارد عذب. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارًا، فإنه ماء عذب طيب"

(2)

فقال عقبة: وأنا قد سمعته. متفق عليه.

وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي، فيمكث أربعين. لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما. فيبعث اللَّه عيسى ابن مريم

(3)

كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل اللَّه ريحًا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه". قال سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع

(4)

لا يعرفون

(1)

ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو الغطفاني ثم العيسي الكوفي، أحد كبار التابعين المعمرين، وهو أخو الرجل الصالح مسعود بن حراش الذي تكلم بعد الموت، وسمع عمر بن الخطاب بالجابية وعليا وحذيفة وأبا موسى وأبا مسعود البدري، وأبا بكرة الثقفي وجماعة، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. توفي سنة (104) أو (100).

ترجمته: تهذيب التهذيب (3/ 236)، تقريب التهذيب (1/ 243)، تاريخ البخاري الكبير (3/ 327)، تاريخ البخاري الصغير (1/ 88)، الجرح والتعديل (3/ 237)، الوافي بالوفيات (14/ 78)، سير أعلام النبلاء (4/ 359)، الثقات (4/ 240).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7130) كتاب الفتن، [27] باب ذكر الدجال، ومسلم في صحيحه [107 - (2934، 2935)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [20] باب ذكر الدجال وصفته وما معه، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5473).

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "معه جنة ونار، فجنته نار، وناره جنة" وفي رواية: "نهران" وفي رواية "ماء ونار" قال العلماء: هذا من جملة فتنته، امتحن اللَّه تعالى به عباده ليحق الحق ويبطل الباطل، ثم يفضحه ويظهر للناس عجزه. [النووي في شرح مسلم (18/ 48) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نبي بعدي" وبإجماع المسلمين على أنه لا نبي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة لا تنسخ، وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى صلى الله عليه وسلم أنه ينزل نبيا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا. [النووي في شرح مسلم (18/ 61) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

قال العلماء: معناه: يكونون في سرعتهم إلى الشر وقضاء الشهوات والفساد كطيران الطير، وفي العدوان وظلم بعضهم بعضا في أخلاق السباع العادية.

ص: 438

معروفا ولا ينكرون منكرا، فبتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتا" قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط

(1)

حوض إبله"، قال: فيصعق، ويصعق الناس. ثم يرسل اللَّه" أو قال: "ينزل اللَّه مطرا كأنه الطل

(2)

أو الظل، فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس هلم الى ربكم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق

(3)

رواه مسلم.

الليت: صفحة العنق، ومعناه: يضع صفحة عنقه ويرفع صفحته الأخرى.

وروينا من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال

(4)

إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها، فينزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق"

(5)

.

(1)

أي يطينه ويصلحه.

(2)

قوله: "كأنه الطل أو الظل" قال العلماء: الأصح: الطل بالمهملة، وهو الموافق للحديث الآخر أنه كمني الرجال، وفي آخره قوله:"فذلك يوم يكشف عن ساق" قال العلماء: معناه ومعنى ما في القرآن {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] يوم يكشف عن شدة وهول عظيم، أي يظهر ذلك، يقال: كشفت الحرب عن ساقتها، إذا اشتدت، وأصله أن من جد في أمره كشف عن ساقه مستمرا في الخفة والنشاط له.

(3)

رواه مسلم في صحيحه [116 - (2940)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [23] باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وأحمد في مسنده (2/ 166)، والحاكم في المستدرك (2/ 445، 4/ 550)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 49، 4/ 169)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 256)، وابن كثير في تفسيره (2/ 416، 6/ 225).

(4)

في إظهار الدجال لبعض الخوارق قال النووي: الجواب أنه إنما يدعي الربوبية، وأدلة الحدوث تخل ما ادعاه وتكذبه، وأما النبي فإنما يدعي النبوة، وليست مستحيلة في البشر، فإذا أتى بدليل لم يعارضه شيء صُدِّقَ، وأما قول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فقد يستشكل لأن ما أظهره الدجال لا دلالة فيه لربوبيته لظهور النقص عليه، ودلائل الحدوث وتشويه الذات وشهادة كذبه وكفره المكتوبة بين عينيه وغير ذلك. [النووي في شرح مسلم (18/ 58) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (1881) كتاب فضائل المدينة، [9] باب لا يدخل الدجال المدينة، =

ص: 439

وعنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا، عليهم الطيالسة"

(1)

.

وعن أم شريك مرفوعا: "ليَفرنَّ الناس من الدجال"

(2)

.

وعن عمران بن حصين: "ما بين خلق آدم صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال"

(3)

أخرج هذه الأحاديث الثلاثة مسلم.

وروينا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فيتلقاه المسالح، مسالح الدجال، فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج، قال: فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدا دونه، قال فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمنون قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيُوسَع ظهره وبطنه ضربا"، قال: "فيقول: أوما تؤمن بي؟ " قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال فيؤمر به فيوشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له: قم، فيستوي قائما" قال: "ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة

(4)

" قال: "ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس" قال: "فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا، قال فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به،

= ورقم (7123) كتاب الفتن، [27] باب ذكر الدجال، ورقم (7134)[28] باب لا يدخل الدجال المدينة، ورقم (7473) كتاب التوحيد، [31] باب في المشيئة والإرادة، مسلم في صحيحه [123 - (2943)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [24] باب قصة الجساسة.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [124 - (294)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [25] باب في بقية من أحاديث الدجال، والتبريزي في مشكاة المصابيح (187).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [125 - (2945)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، والترمذي في سننه (3930) كتاب المناقب، باب مناقب في فضل العرب، وأحمد بن حنبل في مسنده (6/ 462)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5477).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [126 - (2946)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [25] باب في بقية من أحاديث الدجال، وأحمد في مسنده (4/ 19، 20)، والحاكم في المستدرك (4/ 528)، والتبريزي (5469)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 354)، وابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 133)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 254).

(4)

ما أظهره الدجال لا دلالة فيه لربوبيته لظهور النقص عليه ودلائل الحدوث وتشويه الذات، وشهادة كذبه، وكفره المكتوبة بين عينيه وغير ذلك.

ص: 440

فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما أُلقي به في الجنة". فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" رواه مسلم

(1)

وروى البخاري بعضه بمعناه.

المسالح: هم الخفراء والطلائع.

ويقال إن هذا الرجل هو الخضر

(2)

صلى الله عليه وسلم.

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ما سأل أحد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر مما سألته، وإنه قال لي:"ما يضرك؟ " قلت: إنهم يقولون إن معه جبلا من خبز ونهرا من ماء، قال:"هو أهون على اللَّه من ذلك" متفق عليه

(3)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: ك ف ر"

(4)

متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أحدثكم حديثا عن

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [113 - (2938)] كتاب الفتن، [21] باب في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5476).

(2)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين، والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. [النووي في شرح مسلم (15/ 111) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7122) كتاب الفتن، [27] باب ذكر الدجال، ومسلم في صحيحه [114، 115 - (2939)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [22] باب في الدجال وهو أهون على اللَّه عز وجل، وابن ماجه في سننه (474)، وأحمد في مسنده (4/ 246، 248)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 354).

وقال النووي: قال القاضي: معناه هو أهون على اللَّه من أن يجعل ما خلقه اللَّه تعالى على يده مضلا للمؤمنين ومشككا لقلوبهم، بل إنما جعله له ليزداد الذين آمنوا إيمانا، ويثبت الحجة على الكافرين والمنافقين ونحوهم، وليس معناه أنه ليس معه شيء من ذلك.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7131) كتاب الفتن، [27] باب ذكر الدجال، ورقم (7408) كتاب التوحيد، [17] باب قول اللَّه تعالى:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، مسلم في صحيحه [101 - (2933)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [20] باب ذكر الدجال وصفته وما معه، والترمذي في سننه (2245) كتاب الفتن، باب ما جاء في قتل عيسى ابن مريم الدجال، وأحمد في مسنده (3/ 173، 276)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 145)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 421).

ص: 441

الدجال، ما حدث به نبي أمته، إنه أعور

(1)

وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذرتكم به كما أنذر به نوح قومه"

(2)

متفق عليه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال بين ظهراني الناس، فقال:"إن اللَّه ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافئة"

(3)

متفق عليه.

طافئة

(4)

: أي لا نور فيها، وورد أن اليسرى كذلك، أي جاحظ بكل منهما عورًا أي معيبة.

(1)

في ظهور الدجال وما يكون من أمره قال النووي: هو مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار، خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخارق خيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقا لم يوثق بمعجزات الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم. وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الألوهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس. [النووي في شرح مسلم (18/ 47) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيح (3057) كتاب الجهاد والسير، [178] باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ورقم (3338) كتاب أحاديث الأنبياء، [4] باب قول اللَّه تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)} ، ومسلم في صحيحه [109 - (2936)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [20] باب ذكر الدجال، وابن أبي شيبة في مصنفه (15/ 140)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 354)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5472).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3337) كتاب أحاديث الأنبياء، [4] باب قول اللَّه تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)} ، ورقم (7125) كتاب الفتن، [27] باب ذكر الدجال، ومسلم في صحيحه [100 - (169)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [20] باب ذكر الدجال وصفته وما معه، وأحمد في مسنده (2/ 37، 130، 149)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 125)، وابن كثير في البداية والنهاية (2/ 97)، وابن حجر في تغليق التعليق (1067).

(4)

أما طافئة: فرويت بالهمز وتركه، وكلاهما صحيح، فالمهموزة هي التي ذهب نورها وغير المهموزة التي نتأت وطفت مرتفعة، وفيها ضوء، وقد جاء في رواية أعور العين اليمنى، وفي رواية اليسرى، وكلاهما صحيح، والعور في اللغة العيب، وعيناه معيبتان عورًا، وأن إحداهما طافئة بالهمزة لا ضوء فيها، والأخرى طافية بلا همزة ظاهرة ناتئة. [النووي في شرح مسلم (18/ 47) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 442

‌مجلس في منثورات وملح ومواعظ وزهد ورقائق ومغنيات وغير ذلك

روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال

(1)

: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم، يا عبد اللَّه هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد

(2)

فإنه من شجر اليهود" متفق عليه.

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل بالقبر فيتمرغ عليه ويقول يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين إلا البلاء"

(3)

. متفق عليه.

وعنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (2925، 2926) كتاب الجهاد والسير، [94] باب قتال اليهود، ورقم (3593) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صحيحه [82 - (2922)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، [18] باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، وأحمد في مسنده (2/ 417)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5414).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" والغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل الدجال واليهود. وقال أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقدة.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7115) كتاب الفتن، [23] باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور، مسلم في صحيحه [53، 54 - (157)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [18] باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، وأحمد في مسنده (2/ 236، 530)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10/ 224)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 34، 10/ 33)، وعبد الرزاق في مصنفه (20793).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (7119) كتاب الفتن، [25] باب خروج النار، ومسلم في صحيحه [29 - (2894)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [8] باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وابن ماجه في سننه (4046)، وأحمد في مسنده (2/ 332)، والطبراني في =

ص: 443

وفي رواية: "يوشك أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئا"

(1)

. متفق عليه.

وعنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي. يريد عوافي السباع والطير، وآخر من يحشر راعيان من مزينة يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما فيجدانها وحوشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما"

(2)

. متفق عليه

(3)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكون خليفة من خلفائكم في آخر الزمان يحثو

(4)

المال ولا يعده"

(5)

. رواه مسلم.

وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب

(6)

ثم لا يجد أحدا يأخذها منه، ويرى الرجل الواحد يتبعه

= المعجم الكبير (1/ 168)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5443)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 61).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (7119) كتاب الفتن [25] باب خروج النار، ومسلم في صحيحه [30، 31 (2894)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [8] باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وأبو داود في سننه (4313)، والترمذي في سننه (2569، 2570) كتاب صفة الجنة، وأحمد في مسنده (2/ 346، 415)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 255)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5442).

(2)

أما معنى الحديث فالظاهر المختار أن هذا الترك للمدينة يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، وتوضحه قصة الراعيين من مزينة؛ فإنهما يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما ثبت في صحيح البخاري، فهذا هو الظاهر المختار، وقال القاضي عياض: هذا فيما جرى في العصر الأول وانقضى، قال: وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة عنها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا. [النووي في شرح مسلم (9/ 136) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1874) كتاب فضائل المدينة، [5] باب من رغب عن المدينة، ومسلم في صحيحه [499 - (1389)] كتاب الحج، [91] باب في المدينة حين يتركها أهلها.

(4)

قال أهل اللغة: يقال: حثيت أحثي حثيا، وحثوت أحثو حثوًا، لغتان، ومعنى الحثو هو الحفن باليدين، وهذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة يكون لكثرة الأموال والغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [68 - (2914)]، [69 - (2914)](2913)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، [18] باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكانه من البلاء، وأحمد في مسنده (2/ 5، 38، 333)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 58).

(6)

إنما هذا يتضمن التنبيه على ما سواه؛ لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف الظن بغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم "يطوف" إشارة إلى أنه يتردد بها بين الناس فلا يجد من يقبلها، فتحصل المبالغة =

ص: 444

أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء

(1)

. رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجل من رجل عقارا فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، ففال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها.

قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال: الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا"

(2)

متفق عليه.

وعنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود. عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمك اللَّه، هو ابنها، فقضى به للصغرى"

(3)

. متفق عليه، واللَّه الموفق.

وعن مرداس الأسلمي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الصالحون: الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير. أو التمر. لا يباليهم اللَّه بالة"

(4)

رواه البخاري.

= والتنبيه على عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء: كونه يعرضها، ويطوف بها، من ذهب. [النووي في شرح مسلم (7/ 84) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [59 - (1012)] كتاب الزكاة، [18] باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3472) كتاب أحاديث الأنبياء، ومسلم في صحيحه [21 - (1721)] كتاب الأقضية، [11] باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، وأحمد في مسنده (2/ 316)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2882).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6769) كتاب الفرائض، [30] باب إذا ادعت المرأة ابنا.

ومسلم في صحيحه [20 - (1720)] كتاب الأقضية، [10] باب بيان اختلاف المجتهدين، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5719).

قال النووي: يحتمل أن داود صلى الله عليه وسلم قضى به للكبرى لشبه رآه فيها أو أنه كان في شريعته الترجيح بالكبير، ولكونه كان في يدها، وكان ذلك مرجحا في شرعه، وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه ليعرف من يشق عليها قطعه، فتكون هي أمه، فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه، فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أن يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها. [النووي في شرح مسلم (12/ 17) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6434) كتاب الرقاق، [9] باب ذهاب الصالحين، ويقال الذهاب =

ص: 445

وعن رفاعة بن رافع الدرقي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها. قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"

(1)

. رواه البخاري.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أنزل اللَّه بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بُعِثوا على نياتهم"

(2)

متفق عليه.

وعن جابر رضي الله عنه قال: كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، يعني في الخطبة، فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه"

(3)

.

وفي رواية: فوضع يده عليه فسكن"

(4)

.

وفي رواية: "فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق".

وفي رواية: "فصاحت صياح الصبي، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يُسَكَّن حتى استقرت" قال بكت على ما كانت تسمع من الذكر"

(5)

. رواه البخاري.

وعن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه فرض فرائض فلا تُضيِّعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"

(6)

حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.

= المطر، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 122)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5362)، والدارمي في سننه (2/ 301)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 284).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3992) كتاب المغازي، [11] باب شهود الملائكة، وأحمد في مسنده (3/ 465)، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 279، 329).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7108) كتاب الفتن، [20] باب إذا أنزل اللَّه بقوم عذابا، وأحمد في مسنده (2/ 110، 136)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5344). ورواه مسلم عن عائشة [8 - (2884)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [2] باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (918) كتاب الجمعة، [26] باب الخطبة على المنبر.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3585) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3584) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام.

(6)

أخرجه الدارقطني في سننه (4/ 298)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 171، 7/ 208)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 13)، والحاكم في المستدرك (2/ 122)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (197)، وابن حجر في المطالب العالية (2909)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 9)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 17).

ص: 446

وعن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: "غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد"

(1)

.

وفي رواية: "نأكل معه الجراد" متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُلْدغ المؤمن من جحر مرتين"

(2)

متفق عليه.

وعنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له باللَّه لأخذها بكذا وكذا فصدَّقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف"

(3)

متفق عليه. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما؟. قال أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت "ثم يُنزل اللَّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل"

(4)

متفق عليه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (5495) كتاب الذبائح الصيد والتسمية على الصيد، [13] باب أكل الجراد، ومسلم في صحيحه [52 - (1952)] كتاب الصيد، [8] باب إباحة الجراد، وأبو داود في سننه (3812) كتاب الأطعمة، باب في أكل الجراد، والنسائي (7/ 210 - المجتبى)، وابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 137، 12/ 525)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 457).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6133) كتاب الأدب، [83] باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ومسلم في صحيحه [63 - (2998)] كتاب الزهد والرقائق، [12] باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وابن ماجه في سننه (3982، 3983)، وأحمد في مسنده (2/ 115)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 278)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 90)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 127، 167)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5053)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 219).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2358) كتاب المساقاة، [6] باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، ورقم (2369) كتاب المساقاة، [11] باب من رأى أن صاحب الحوض أو القربة أحق بمائه، ورقم (2672) كتاب الشهادات، [22] باب اليمين بعد العصر، ورقم (7212) كتاب الأحكام، [48] باب من بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا، ورقم (7446) كتاب التوحيد، [24] باب قول اللَّه تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} ، ومسلم في صحيحه [173 - (108)] كتاب الإيمان، [46] باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمَنَّ بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة، وأبو داود (3474)، والترمذي (1595)، والنسائي (5/ 81 - المجتبى)، وابن ماجه (2207، 2208).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (4935) كتاب تفسير القرآن، من سورة عم يتساءلون، [1] باب =

ص: 447

وعنه: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابيٌّ فقال: متى الساعة؟

(1)

فمضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدِّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمغ، حتى إذا قضى حديثه قال:"أين أراه السائل عن الساعة؟ " قال ها أنا يا رسول اللَّه. قال: "فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة لما قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"

(2)

رواه البخاري. وعنه رضي الله عنهما: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس؛ يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا الإسلام"

(3)

.

وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب اللَّه عز وجل من قوم يدخلون الجنة في السلاسل"

(4)

.

معناه: يؤسرون ويقيدون، ثم يسلمون فيدخلون الجنة.

وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى اللَّه مساجدها، وأبغض البلاد إلى اللَّه أسواقها"

(5)

رواه مسلم.

= {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)} [النبأ: 18]، ومسلم في صحيحه [141 - (2955)] كتاب الفتن، [28] باب ما بين النفختين، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 383)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5521)، وابن كثير في تفسيره (8/ 328).

(1)

في حديث جبريل المشهور عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفيه: قال: فأخبرني عن الساعة، قال:"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، قال فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البيان".

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (59) كتاب العلم، [2] باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، ورفم (6496) كتاب الرقاق، [35] باب رفع الأمانة، والزبيدي في الإتحاف (1/ 284، 319، 339)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 50).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (4557) كتاب تفسير القرآن، سورة آل عمران، [7] باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. والحاكم في المستدرك (2/ 294).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3010) كتاب الجهاد والسير، [144] باب الأسارى في السلاسل، والزبيدي في الإتحاف (9/ 62)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3960)، وفي زاد المسير (1/ 440)، وابن كثير في تفسيره (2/ 7)، والقرطبي في تفسيره (5/ 71).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [288 - (671)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [52] باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 65)، وابن خزيمة في صحيحه (1293).

قال النووي: لأن المساجد بيوت الطاعات، وأساسها على التقوى، أما الأسواق فهي محل الغش والخداع والربا والأيمان الكاذبة وإخلاف الوعد، والإعراض عن ذكر اللَّه، وغير ذلك مما في معناه، والحب والبغض من اللَّه تعالى إرادته الخير والشر أو فعله ذلك بمن أسعده أو أشقاه، والمساجد محل نزول الرحمة، والأسواق ضدها.

ص: 448

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه من قوله: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان

(1)

وبها ينصب رايته"

(2)

. رواه مسلم.

هكذا رواه البرقاني في صحيحه.

وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرخ"

(3)

.

وعن عاصم الأحول، عن عبد اللَّه بن سرجس قال

(4)

: قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه غفر اللَّه لك. "قال ولك" قال عاصم: فقلت له: استغفر لك رسول اللَّه؟ قال نعم، ولك، ثم تلى هذه الآية:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(5)

رواه مسلم.

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"

(6)

رواه البخاري.

(1)

قال أهل اللغة: المعركة بفتح الراء، موضع القتال لمعاركة الأبطال بعضهم بعضا فيها، ومصارعتهم، فثبه السوق وفعل الشيطان بأهلها، ونيله منهم بالمعركة، لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع والأيمان الخائنة، والعقود الفاسدة، والنجش والبيع على بيع أخيه، والراء على شرائه، والسوم على سومه، وبخس المكيال والميزان.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [100 - (2451)] كتاب فضائل الصحابة، [16] باب فضائل أم سلمة أم المؤمنين.

(3)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/ 309)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 77)، وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 100).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [112 - (2346)] كتاب الفضائل، [30] باب إئبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم وتكملته: "قال: ثم درت خلفه فنظرت على خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل.

وقال النووي: أما ناغض كتفه فبالنون والغين والضاد المعجمتين، والغين مكسورة، وقال الجمهور: النغض والناغض أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك. وأما قوله: "جمعا" فبضم الجيم وإسكان الميم، ومعناه أنه كجمع الكف، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها. والخيلان فبكسر الخاء المعجمة وإسكان الياء، جمع خال، وهو الشامة في الجسد، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (15/ 80) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

سورة محمد (19).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (3483، 3484) كتاب أحاديث الأنبياء، باب [56] يلي باب حديث الغار، وأحمد في مسنده (4/ 121، 5/ 372)، ومالك في الموطأ (158)، والبيهقي في =

ص: 449

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"

(1)

متفق عليه.

وعن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَت الملائكة من نور، وخلقت الجان من نار، وخلق آدم مما وصُف لكم"

(2)

رواه مسلم.

وعنها قالت: "كان خُلُق نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم القرآن"

(3)

رواه مسلم في جملة حديث طويل.

وعنها قالت

(4)

: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن

= السنن الكبرى (10/ 192)، والشجري في أماليه (2/ 196)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 27)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5072)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 370) والطبراني في المعجم الكبير (17/ 230)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 200)، والخطيب في تاريخ بغداد (3/ 100، 10/ 304).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6864) كتاب الديات، [1] باب قول اللَّه تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]، ومسلم في صحيحه [28 - (1678)] كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، [8] باب المجازاة بالسماء في الآخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، والنسائي (7/ 84 - المجتبى)، وابن ماجه (2615، 2617)، وأحمد في مسنده (1/ 388، 442)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 426)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 21)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 292)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 87، 88)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3448)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 198).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [60 - (2996)] كتاب الزهد والرقائق، [9] باب تشميت العاطس وكراهية التثاؤب، وأحمد في مسنده (6/ 153)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 3)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 134)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 143)، وفي الحبائك في الملائك (9)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5701)، وعبد الرزاق في مصنفه (20904)، وابن كثير في تفسيره (3/ 388)، والقرطبي في تفسيره (10/ 24)، والبيهقي في الأسماء والصفات (343، 386).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (6/ 91، 163)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 499)، وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 56)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 2، 6/ 250)، والبخاري في الأدب المفرد (308).

(4)

الحديث يفسر آخره أوله ويبين المراد بباقي الأحاديث المطلقة: من أحب لقاء اللَّه ومن كره لقاء اللَّه، ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند النزع في حالة لا تقبل توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو صائر إليه وما أعد له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء اللَّه لينتقلوا إلى ما أعد لهم، ويحب اللَّه لقاءهم، أي فيحزل لهم العطاء والكرامة. وأهل الشقاء يكرهون لقاء اللَّه لما علموا من سوه ما ينتقلون إله، ويكره اللَّه لقاءهم =

ص: 450

كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه" فقلت: يا نبي اللَّه أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: "ليس كذلك، ولكن المومن إذا بُشِّر برحمة اللَّه ورضوانه وجنته، أحب لقاء اللَّه، فأحب اللَّه لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب اللَّه وسخطه كره لقاء اللَّه وكره اللَّه لقاءه"

(1)

رواه مسلم.

وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا، فحدثته ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني

(2)

. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"على رِسْلِكما؛ إنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان اللَّه يا رسول اللَّه. قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، واني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا" أو قال: "شيئًا"

(3)

متفق عليه.

= أي يبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه لقاءهم، وليس معنى الحديث أن سبب كراهة اللَّه تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك ولا أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك، بل هو صفة لهم. [النووي في شرح مسلم (17/ 9) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [15 - (2684)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [5] باب من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه، والترمذي (1066، 1067)، والنسائي (4/ 9، 10 - المجتبى)، وابن ماجه (4264)، وأحمد في مسنده (2/ 313، 346)، وعبد الرزاق في مصنفه (6748)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 361)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 320، 321)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 333، 335)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 364، 6/ 167)، والبيهقي في الأسماء والصفات (500)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 55)، والزبيدي في الإتحاف (1/ 330، 9/ 615).

(2)

فيه جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار، وأنه لا يضر اعتكافه لكن يكره الإكثار من مجالستها والاستلذاذ بحديثها لئلا يكون ذريعة إلى الوقوع أو إلى القبلة أو نحوها مما يفسد الاعتكاف، وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان وطلب السلامة، والاعتذار بالأعذار الصحيحة وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء، وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان؛ فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم، فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (14/ 131) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (3101) كتاب فرض الخمس، [4] باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نسب من البيوت إليهن، ومسلم في صحيحه [24 - (2175)] كتاب السلام، [9] باب بيان أن يستحب لمن رُئِيَ خاليا بامرأة وكانت زوجة أو محرما له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، وأبو داود في سننه (2470) كتاب الصوم، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، والترمذي في سننه (1172)، وابن ماجه في سننه (1780)، وأحمد في مسنده (6/ 337)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/ 92)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (68).

ص: 451

وعن أبي الفضل العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان

(1)

بن الحارث بن عبد المطلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي

(2)

، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قِبَل الكفار.

قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة

(3)

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَكُفّها إرادة أن لا تُسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب السمرة

(4)

" فقال عباس. وكان رجلا صيِّتا

(5)

: فقلت: بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمرة؟ قال فواللَّه لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج، فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هذا حين حمي الوطيس".

قال: ثم أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال:"انهزموا ورب محمد" قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هئته فيما أرى، قال: فواللَّه ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حَدَّهم كليلا وأمرهم مدبرا"

(1)

أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال جماعة من العلماء: اسمه هو كنيته، وقال آخرون: اسمه المغيرة، وممن قاله هشام بن الكلبي وإبراهيم بن المنذر والزبير بن بكار وغيره، وفي هذا عطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد، وذب بعضهم عن بعض.

(2)

فروة بن نفاثة، فهو بنون مضمومة ثم فاء مخففة، ثم ألف ثم ثاء مثلثة، وفي رواية إسحاق بن إبراهيم التي بعدها قال: فروة بن نعامة، بالعين والميم، والصحيح المعروف الأول، قال القاضي: اختلفوا في إسلامه فقال الطبري: أسلم وعمَّر عمرًا طويلًا، وقال غيرهم: لم يسلم، وفي صحيح البخاري الذي أهداها له ملك أيلة، واسمه فيما ذكر ابن إسحاق بحنة بن روبة. [النووي في شرح مسلم (12/ 96) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

قال العلماء: ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضا يكون معتمدا يرجع المسلمون إليه، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمدا، وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة، ومما ذكر في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه بركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فر الناس عنه، وفي الرواية الأخرى أنه نزل على الأرض حين غشوه، وهذا مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر.

(4)

هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان، ومعناه: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية.

(5)

ذكر الحازمي في المؤتلف أن العباس رضي الله عنه كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل وهم في الغابة فيسمعهم، قال: وبين سلع والغابة ثمانية أميال.

ص: 452

رواه مسلم

(1)

.

الوطيس: التنور، ومعناه اشتدت الحرب. وقوله: حدهم: بالحاء المهملة: أي بأسهم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه طَيِّب لا يقبل إلا طيبا

(2)

وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}

(3)

، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(4)

ثم ذكر الرجل يطيل السفر

(5)

أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام فأَنَّى يستجاب له"

(6)

. رواه مسلم.

وعنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر"

(7)

رواه مسلم.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [76 - (1775)] كتاب الجهاد والسير، [28] باب في غزوة حنين، وأحمد في مسنده (1/ 207)، وعبد الرزاق في مصنفه (9741)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 225)، والحميدي في مسنده (459).

(2)

قال القاضي: الطيب في صفة اللَّه تعالى بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام ومباني الأحكام.

وقد جمعت منها أربعين حديثا في جزء، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره. [النووي في شرح مسلم (7/ 88) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة المؤمنون (51).

(4)

سورة البقرة (172).

(5)

معناه واللَّه أعلم أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [65 - (1015)] كتاب الزكاة، [19] باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، وأحمد في مسنده (2/ 328)، وابن الجوزي في زاد المسير (477)، وابن كثير في تفسيره (1/ 294)، والقرطبي في تفسيره (12/ 127)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 128).

(7)

أخرجه مسلم في صحيحه [172 - (107)] كتاب الإيمان، [46] باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا =

ص: 453

العائل: الفقير.

وعنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سيحان وجيحان

(1)

، والفرات والنيل، كل من أنهار الجنة"

(2)

رواه مسلم.

وعنه قال: "أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق اللَّه التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء

(3)

، وخلق النور يوم الأربعاء

(4)

، وبث فبها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم صلى الله عليه وسلم بعد العصر يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر والليل"

(5)

رواه مسلم.

وعن أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنهما قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة

(6)

= ينظر إليهم ولا يزكهم ولهم عذاب أليم، وأحمد في مسنده (2/ 480)، (5/ 158)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 257، 7/ 22)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 130)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2795)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 119).

(1)

سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن؛ فجيحان نهر المصيصة، وسيحان نهر أذنة، وهما نهران عظيمان جدًا، أكبرهما جيحان، فهذا هو الصواب في موضعهما.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [26 - (2839)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [10] باب ما في الدنيا مكن أنهار الجنة، وأحمد في مسنده (2/ 289، 440)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5628)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 37)، والقرطبي في تفسيره (13/ 104، 16/ 237).

(3)

قوله صلى الله عليه وسلم: "خلق المكروه يوم الثلاثاء": هو ما يقوم به المعاش، ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح شيء فهو تقنة ومنه إتقان الشيء، وهو إحكامه.

قلت: ولا منافاة بين الروايتين، فكلاهما خلق يوم الثلاثاء.

(4)

في صحيح مسلم "النور" بالراء، وروايات ثابت بن قاسم بالنون في آخره، قال القاضي: وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم، وهو الحوت، ولا منافاة أيضا؛ فكلاهما خلق يوم الأربعاء بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها: ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم، وجمعه أربعاوات، وحكي أيضا أرابيع. [النووي في شرح مسلم (17/ 111) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [27 - (2789)] كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، [1] باب ابتداء الخلق وخلق آدم صلى الله عليه وسلم وأحمد في مسنده (2/ 327)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 3)، والحاكم في المستدرك (2/ 450، 543)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5734)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 43)، والبيهقي في الأسماء والصفات (26، 383)، وابن كثير في تفسيره (1/ 99، 3/ 422)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 413)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1833).

(6)

قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء في ذي الحجة فاقام بالمدينة حتى بعث إلى مؤتة في جمادى من =

ص: 454

تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية"

(1)

رواه البخاري.

وعن عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"

(2)

متفق عليه.

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"

(3)

متفق عليه.

والمختار جواز الصوم عمن مات وعليه صوم لهذا الحديث، والمراد بالولي القريب وارثا كان أو غير وارث.

وعن عوف بن مالك بن الطفيل

(4)

أن عائشة حدثت أن عبد الرحمن بن

= سنة ثمان، وأمر على الناس زيد بن حارثة، وقال: "إن أصيب فجعفر، فإن أصيب فعبد اللَّه بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا، فخرج القوم حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة، فأقاموا بمعان يومين ثم لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة، وكانوا ثلاثة آلاف. ثم كان ما كان من استشهاد زيد وجعفر وابن رواحة، ثم اصطلحوا على خالد بن الوليد، فجاش بالناس فدافع وانحاز وتحيز عنه ثم انصرف بالناس. [مختصر منن تاريخ الإسلام في السيرة العطرة الجزء الأول، غزوة مؤتة].

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4265، 4266) كتاب المغازي، [46] باب غزوة مؤتة من أرض الشام.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (7352) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [21] باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم في صحيحه [15 - (1716)] كتاب الأقضية، [6] باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، وأبو داود في سننه (3574) كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، والنسائي (8/ 224 - المجتبى)، وابن ماجه في سننه (2314)، وأحمد في مسنده (4/ 204)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 118)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3732)، والزيلعي في نصب الراية (4/ 63).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1952) كتاب الصوم، [42] باب من مات وعليه صوم، ومسلم في صحيحه [153 - (1147)] كتاب الصيام، [47] باب قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود في سننه (2400) كتاب الصوم، باب فيمن مات وعليه صيام، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 255)، والدارقطني في سننه (2/ 195)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 179)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 464)، والقرطبي في تفسيره (2/ 258).

(4)

عوف بن مالك بن الطفيل، وهو ابن الحارث بن الطفيل بن سخبرة بن جرثومة الأزدي، رضيع عائشة، الخير، مقبول، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

ترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 168)، تقريب التهذيب (2/ 89)، الكاشف (2/ 356)، تاريخ البخاري الكبير (7/ 57)، الجرح والتعديل (7/ 14)، طبقات ابن سعد (1/ 219، 2/ 17، 3/ 192).

ص: 455

الزبير رضي الله عنهما قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: واللَّه لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو للَّه عليَّ نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدًا، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت: لا واللَّه لا أُشَفَّع فيه أبدا، ولا أتحنث إلى نذري، فلما طال ذلك على ابن الزبير كلَّم المسور بن مخرمة

(1)

وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما أنشدكما باللَّه لما أدخلتماني على عائشة لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا: السلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة ادخلوا، قالوا كلنا، قالت نعم، ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال" فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها"

(2)

.

وعن عقبة بن عامر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى قتلى أُحد فصلى عليهم بعد ثمان سنين كالموح للأحياء والأموات

(3)

فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإن عرضه كما بين أيلة إلى الجحفة

(4)

إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم

(1)

المسور بن مخرمة بن نوفل بن أُهيب عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أبو عبد الرحمن الزهري القرشي، له ولأبيه صحبة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

تهذيب التهذيب (10/ 151)، تقريب التهذيب (2/ 249).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6073، 6074، 6075) كتاب الأدب، [62] باب الهجرة وقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث".

(3)

معناه خرج على قتلى أحد ودعا لهم دعاء مودع، ثم دخل المدينة فصعد المنبر فخطب الأحياء خطبة مودع كما قال النواس بن سمعان: قلنا يا رسول اللَّه كأنها موعظة مودع، وفيه معنى المعجزة.

(4)

أما أيلة فبفتح الهمزة وإسكان المثناة تحت، وفتح اللام، وهي مدينة معروفة في عراق الشام على ساحل البحر متوسطة بين مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودمشق ومصر بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق نحو ثنتي عشرة مرحلة، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل، قال الحازمي: هي آخر الحجاز وأول الشام، واما الجحفة فهي بنحو سبع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة.

ص: 456

الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر

(1)

.

وفي رواية: "في فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني واللَّه لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض وإني واللَّه ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها"

(2)

.

والمراد بالصلاة على قتلى أحد الدعاء لا الصلاة المعروفة.

وعن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري

(3)

قال: "صلى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا"

(4)

رواه مسلم.

وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه"

(5)

رواه البخاري.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [31 - (2296)] كتاب الفضائل، [9] باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 279)، والزبيدي في الإتحاف (10/ 508).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [30 - (2296)] كتاب الفضائل، [9] باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، وأحمد في مسنده (4/ 154)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 14)، والطبراني في المعجم الكبير (17/ 278)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 307).

قال النووي: في هذا الحديث معجزات لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك، وأنها لا ترتد جملة، وقد عصمها اللَّه تعالى من ذلك، وأنها تتنافس في الدنيا، وقد وقع كل ذلك. [النووي في شرح مسلم (15/ 48) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

عمرو بن أخطب بن رفاعة أبو زيد الأنصاري الأعرج، مشهور بكنيته، صحابي جليل، نزل البصرة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة.

ترجمته: تهذيب التهذيب (8/ 4)، تقريب التهذيب (2/ 65)، الكاشف (323)، تاريخ البخاري الكبير (6/ 309)، الجرح والتعديل (6/ 220)، الثقات (3/ 275)، أسد الغابة (4/ 190)، الاستيعاب (3/ 1162)، الإصابة (4/ 599)، سير الأعلام (3/ 173)، تراجم الأحبار (2/ 578)، تجريد أسماء الصحابة (1/ 399).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [25 - (2892)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [6] باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون إلى قيام الساعة، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 125)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 59).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6696) كتاب الأيمان والنذور، [2] باب في النذر في الطاعة، ورقم (6700)[31] باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، وأبو داود في سننه (3289) كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في النذر في المعصية، والترمذي (1526) كتاب النذور والأيمان، باب من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، والنسائي (7/ 17 - المجتبى) في الأيمان والنذور، باب النذر =

ص: 457

وعن أم شريك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ

(1)

، وقال:"كان ينفخ النار على إبراهيم"

(2)

متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة"

(3)

.

وفي رواية: "من قتل وزغة من أول ضربة كتب له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك"

(4)

رواه مسلم.

قال أهل اللغة: الوزغ: العظام من سام أبرص

(5)

.

= في الطاعة، وباب النذر في المعصية، وابن ماجه في سننه (2126) كتاب الكفارات، باب النذر في المعصية، وأحمد بن حنبل في مسنده (6/ 36، 41، 224)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 231، 10/ 68)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3427)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 346)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 175)، ومالك في الموطأ (746).

(1)

اتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وجمعه أوزاغ ووزغان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وحث عليه ورغب فيه لكونه من المؤذيات، وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعتناء به وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة، فإذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله. [النووي في شرح مسلم (14/ 198) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه: البخاري في صحيحه (3359) كتاب أحاديث الأنبياء، [9] باب قول اللَّه تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، ومسلم في صحيحه [142 - (2237)] كتاب قتل الحيات وغيرها، [2] باب استحباب قتل الوزغ.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [146 - (2240)] كتاب قتل الحيات وغيرها، [2] باب استحباب قتل الوزغ، وأبو داود في سننه (5263) كتاب الأدب، باب في قتل الأوزاغ، وابن ماجه (3229) في الصيد، باب قتل الوزغ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 267)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 622)، وابن حبان في صحيحه (1081 - الموارد)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 258)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 155).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [147 - (2240)] كتاب قتل الحيات وغيرها، [2] باب استحباب قتل الوزغ، وابن ماجه في سننه (3229) كتاب الصيد، باب قتل الوزغ، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 622)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4121).

(5)

أما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي رواية بسبعين فجوابه من أوجه سبقت في صلاة الجماعة تزيد بخمس وعشرين درجة، وفي روايات بسبع وعشرين:

أحدها: أن هذا مفهوم للعدد ولا يعمل به عند الأصوليين وغيرهم، فذكرهم سبعين لا يمنع المائة فلا معارضة بينهما.

الثاني: لعله أخبرنا بسبعين ثم تصدق اللَّه تعالى بالزيادة فأعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحى إليه بعد =

ص: 458

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارق، فقال اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانية، فقال اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني

(1)

فقال اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية وعلى غني؟! فأُتِي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه اللَّه"

(2)

رواه البخاري بلفظه، ومسلم بمعناه.

وعنه قال

(3)

: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الناس، الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ إلا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم، فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد فضب اليوم غضبا لم

= ذلك. الثالث أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ بحسب نياتهم وإخلاصهم، ويقال: أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للكامل منهم والسبعين لغيره، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (14/ 198) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

حديث المتصدق على سارق وزانية وغني فيه ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الآخذ فاسقا وغنيا، ففي كل كبد حرَّى أجر، وهذا في صدقة التطوع، وأما الزكاة فلا يجزي دفعها إلى غني.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1421) كتاب الزكاة، [16] باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، ومسلم في صحيحه [78 - (1022)] كتاب الزكاة، [24] باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها، والنسائي (5/ 55 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 322)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 192، 7/ 34)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 60)، وابن كثير في تفسيره (1/ 479)، والقرطبي في تفسيره (8/ 176).

(3)

أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، ويأتي آخره، وأيضا أخرجه الترمذي في سننه (2434) كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في الشفاعة، وأحمد بن حنبل في مسنده (2/ 435، 436)، والحاكم في المستدرك (4/ 573، 6/ 30)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5575)، وابن كثير في تفسيره (2/ 43) والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 377)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 572، 10/ 491)، وابن أبي شيبة في مصنفه (11/ 444).

ص: 459

يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله

(1)

وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته

(2)

، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك اللَّه عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟

فيقول إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي اللَّه وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كِذْبَات، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول اللَّه، فضلك اللَّه برسالته وبكلامه

(3)

على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمَّت الناس في المهد صبيًا،

(1)

المراد بغضب اللَّه تعالى ما يظهر من انتقامه عمن عصاه وما يرونه من أليم عذابه، وما يشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها، ولا شك في أن هذا كله لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده مثله، فهذا معنى غضب اللَّه تعالى، كما أن رضاه ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة؛ لأن اللَّه تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء، واللَّه أعلم.

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: إنهم يأتون آدم ونوحا وباقي الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم فيطلبون شفاعتهم، فيقولون: لسنا هناكم ويذكرون خطاباهم إلى آخره: اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عيهم، فقال القاضي عياض: الكفر عيهم بعد النبوة ليس بجائز، واختلفوا فيه قبل النبوة، والصحيح أنه لا يجوز، وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة، واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر، فذهب معظم الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من السلف والخلف إلى جواز وقوعها منهم، وذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر وأن منصب النبوة يجل عن مواقعتها وعن مخالفة اللَّه تعالى عمدًا. [انظر النووي في شرح مسلم (3/ 46، 47) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

هذا بإجماع أهل السنة على ظاهره، وأن اللَّه تعالى كلم موسى حقيقة كلاما سمعه بغير واسطة، ولهذا أكد بالمصدر، والكلام صفة ثابتة للَّه تعالى لا يشبه كلام غيره.

ص: 460

اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم".

وفي رواية: "فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول اللَّه وخاتم النبيين، وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر

(1)

، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح اللَّه علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب".

ثم قال: "والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحِميَر، أو كما بين مكة وبُصْرى"

(2)

متفق عليه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم بأم إسماعيل، وابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى

(3)

إبراهيم منطلقا

(4)

فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللَّه الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يُضيِّعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي

(1)

هذا مما اختلف العلماء في معناه، قال القاضي: قيل: المتقدم ما كان قبل النبوة، والمتأخر عصمتك بعدها، وقيل: المراد به ذنوب أمته صلى الله عليه وسلم. قلت: فعلى هذا يكون المراد الغفران لبعضهم أو سلامتهم من الخلود في النار. وقيل المراد ما وقع منه صلى الله عليه وسلم عن سهو وتأويل، حكاه الطبري، واختاره القشيري، وقيل ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، وقيل المراد أنه مغفور لك غير مؤاخذ بذنبك لو كان، وقيل هو تنزيه له من الذنوب صلى الله عليه وسلم. واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (3/ 49) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4712) كتاب تفسير القرآن، من سورة الإسراء، [5] باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء: 3]، ومسلم في صحيحه [327، 328، (194)] كتاب الإيمان، [84] باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

(3)

قفَّى: معناه: ولَّى راجعا.

(4)

المنطق: ما تشده المرأة في وسطها عند الشغل لئلا تعثر بذيلها.

ص: 461

بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حتى بلغ {يَشْكُرُونَ}

(1)

.

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى. أو قال: يتلبط. فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما"

(2)

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه

(3)

-تريد نفسها- ثم تسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه. أو قال بجناحه. حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف".

وفي رواية: "بقدر ما تغرف".

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم اللَّه أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا"

(4)

قال: "فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة، فإن ههنا بيت اللَّه يبنيه هذا الغلام وأبوه، فإن اللَّه لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمبنه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء

(5)

فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا

(1)

سورة إبراهيم (37).

هذا يدل على ان هذا دعاء؛ فإن بمد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى اللَّه عز وجل، ولهذا قال:{عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]. [تفسير ابن كثير (2/ 556)].

(2)

أخرجه: أحمد في مسنده (1/ 348)، وعبد الرزاق في مصنفه (9107).

(3)

قوله "صهٍ" بهذا الضبط، ويروى بسكون الهاء، أي اسكتي.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3362) كتاب أحاديث الأنبياء، [10] باب يزفون: النسلان في المشي، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 99)، وعبد الرزاق في مصنفه (9107)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 125)، والقرطبي في تفسيره (6/ 369).

(5)

قوله: "كداء" ويروى "كدى" كهدى، وهما ثنيتان بمكة، ونص الفيومي على عدم صرف الأول للعلمية والتأنيث.

ص: 462

عائفًا

(1)

فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًّا أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا"، قال: "وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم".

قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس"

(2)

فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام، وتعلم العربية، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا".

وفي رواية: يصيد.

ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي صلى الله عليه وسلم، وقولي له يغيِّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنَّا في جهد وشِدَّة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذا أبي وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللَّه، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي

(3)

لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على اللَّه عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب

(4)

، ولو كان لهم دعا لهم فيه" قال:"فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه".

وفي رواية: "فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال: وما طعامكم، وما شرابكم؟ قالت طعامنا اللحم وشرابنا

(1)

عائفا: حائما.

(2)

أخرجه وأحمد في مسنده (1/ 347).

(3)

بغى الشيء بُغْيَةً: طلبه، وابتغى الشيء: أراده وطلبه، والبغية ما يبتغى.

(4)

أخرجه السيوطي في الدر المنثور (1/ 126)، والقرطبي في تفسيره (9/ 374)، وابن كثير في البداية والنهاية (1/ 156).

ص: 463

الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم"، قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم "بركة بدعوة إبراهيم" قال فإذا جاء زوجك فاقرئي صلى الله عليه وسلم، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ فالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا فأخبرته أنَّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وأمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء اللَّه، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن اللَّه أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعيك، قال: فإن اللَّه أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها".

قال: "فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] ".

قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

(1)

.

وفي رواية: أن إبراهيم خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة

(2)

فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى اللَّه، قالت: رضيت باللَّه.

قال: "فرجعت فجعلت تشرب من الشنة وبدر لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت ننظرت لعلي أحس أحدًا".

قال: فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة، ففعلت ذلك أشواطا، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل. تعني الصبي. فذهبث فنظرت، فإذا هو على حاله كأنه ينشغ

(3)

للموت، فلم

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (3364) كتاب أحاديث الأنبياء، [10] باب يزفون: النسلان في المشي.

(2)

الشَّنُّ: القربة الخَلَقُ الصغيرة يكون الماء فيها أبرد من غيرها، جمعها شنان.

(3)

ينشغ: أي يشهق من الصدر، أي يعلو نفسه كأنه شهيق من شدة ما يرد عليه.

ص: 464

تَقَرَّ نفسها. فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت، ونظرت، فلم تحس أحدا، حتى أتمت سبعا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل قال: فقال بعقبه هكذا" وغمز عقبه على الأرض، قال: "فانبثق الماء فدهشت

(1)

أم إسماعيل، فجعلت تحفرْ"

(2)

وذكر الحديث بطوله. رواه البخاري بهذه الروايات كلها.

والدوحة: الشجرة الكبيرة.

قفَّى: أي ولَّى، والجريُّ الرسول.

فألفى: معناه وجد.

وقوله: ينشغ: أي يشهق.

وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "الكمأة من المنّ، وماؤها شفاء للعين"

(3)

متفق عليه.

‌فصل في فضل العبادة في الهرج

وهو الاختلاط والفتن ونحوها.

روينا في صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار مرفوعا: "العبادة في الهرج كهجرة إليَّ"

(4)

.

قلت: لأنه مقصود الهجرة إليه، فإذا ترك عادات زمانه وتمسك بالعبادة فهو الطريقة المثلى.

(1)

فدهشت: بفتح الدال والهاء، وبكسر الهاء.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3365) كتاب أحاديث الأنبياء، [10] باب يزفون: النسلان في المشي.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5708) كتاب الطب، [20] باب المن شفاء للعين ومسلم في صحيحه [157، 158 - (2049)] كتاب الأشربة، [28] باب فضل الكمأة ومداواة العين بها، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 345)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 70، 4/ 78)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 88)، وأحمد بن حنبل في مسنده (1/ 187، 188)، والطبراني في المعجم الكبير (12/ 63)، وفي الصغير (1/ 125)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4184)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 151).

قال النووي: شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل بلا كلفة ولا علاج والكمأة تفعل بلا كلفة ولا علاج ولا زرع ولا بذر ولا سقي ولا غيره.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [130 - (2948)] كتاب الفتن وأشراط الساعة، [26] باب العبادة في الهرج، والترمذي (2201) كتاب الفتن، باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه، وابن ماجه (3985) كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5391)، والبخاري في التاريخ الكبير (6/ 352).

ص: 465

‌مجلس في الذكر وفضله والحث عليه

فيه آيات: قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}

(1)

.

وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}

(2)

.

فمن ذكر ذكره الجليل، وكفى به فخرا.

وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}

(3)

. الآية.

وقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}

(4)

.

وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] إلى قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

(5)

.

وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} [الأحزاب: 41]

(6)

الآية.

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

(7)

الآيات.

(1)

سورة العنكبوت (45).

قال ابن عباس: قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العَنكبوت: 45] يقول: ولذكر اللَّه لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغيره، وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: لها وجهان: قال: ذكر اللَّه عندما حزب قال وذكر اللَّه إياكم أعظم من ذكركم إياه. [تفسير ابن كثير (3/ 430)].

(2)

سورة البقرة (152).

(3)

سورة الأعراف (205).

(4)

سورة الجمعة (10).

أي حال بيعكم وشرائكم وأخذكم واعطائكم اذكروا اللَّه ذكرا كثيرا ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة. وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين اللَّه كثيرًا حتى يذكر اللَّه قائما وقاعدا ومضطجعا. [تفسير ابن كثير (4/ 367)].

(5)

سورة الأحزاب (35).

(6)

سورة الأحزاب (41).

(7)

سورة آل عمران (190).

أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيها من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164] أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ثم يعتدلان. [تفسير ابن كثير (1/ 438)].

ص: 466

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ}

(1)

الآية.

والآصال: جمع أصيل: وهو ما بين العصر والمغرب. وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}

(2)

.

وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}

(3)

.

والعشي: ما بين الزوال والغروب.

وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}

(4)

الآية.

وقال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}

(5)

.

كرر علي الذكر من أسمائه

وأجلي القلوب بنوره وضيائه

اسم به الكون استحى وضياؤه

في أرضه وفضائه وسمائه

لا تحمل الأوصاف بعض صفاته

كلا ولا يدرون كيف سنائه

حارت عقول القوم عند صفاته

أضاءت قلوب الخلق من لألائه

أعد اسمه للعارفين تلاوة

تلقى به المعروف من آلائه

يا رب باسمك أرتجي من الرضا

والعفو عن عبد رُزِي بأخطائه

يا رب أسألك العناية في غد

بعظيم اسمك فهو عين دوائه

يا رب عبدك قد براه (سندامه)

(6)

قد حارت الأفكار في أدوائه

يا رب باسمك نرتجي منك الشفا

أنت المرتجا

(7)

دائما لشفائه

يا رب بالهادي البشير المصطفى

الصادق المصدوق في أنبائه

ارحم غريقا في بحار ذنوبه

وأجره حقا من فتور عنائه

(1)

سورة الأعراف (205).

(2)

سورة طه (130).

(3)

سورة غافر (55).

(4)

سورة النور (36).

أي أمر اللَّه تعالى بتعاهدهما وتطهيرهما من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها؛ قال ابن عباس في هذه الآية نهى اللَّه سبحانه عن اللغو فيها وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك وغيره. وقال قتادة: هي هذه المساجد، أمر اللَّه سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. [تفسير ابن كثير (2/ 301)].

(5)

سورة ص (18).

(6)

كذا بالأصل.

(7)

رجاه رجاء: أمَّله، فهو راج، وترجَّاه أمَّله، والترجي: ارتقاب شيء محبوب ممكن.

ص: 467

يا رب صل على النبي محمد

ما لاح برق في دجى ظلمائه

وأما الأحاديث:

ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم"

(1)

.

وفي صحيح مسلم عنه مرفوعا: "لأن أقول: "سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر" أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس"

(2)

.

وفي الصحيحين من حديثه أيضا

(3)

: من قال: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكُتِبَتْ له مائة حسنة ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6406) كتاب الدعوات، [67] باب فضل التسبيح، ورقم (6682) كتاب الأيمان والنذور، [19] باب إذا قال واللَّه لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح أو كبر أو حمد أو هلل فهو على نيته، ورقم (7563) كتاب التوحيد، [58] باب قول اللَّه تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، ومسلم في صحيحه [31 - (2694)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، والترمذي (3467)، وابن ماجه (3806)، وأحمد في مسنده (2/ 232)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 420)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 289)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 400)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2298).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (2695)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، والترمذي في سننه (3597) كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، والنسائي في عمل اليوم والليلة (صـ 247)، باب أفضل الذكر وأفضل الدعاء، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 424)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 226)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 301)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 210).

(3)

قال النووي: هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا الهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وأن زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها، كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من غيره أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (17/ 15) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6403) كتاب الدعوات،، [66] باب فضل التهليل، ومسلم في صحيحه [28 - (2691)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل =

ص: 468

وعنه: "من قال: سبحان وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر"

(1)

.

وفيهما من حديث أبي أيوب: "من قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له

(2)

، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل"

(3)

.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر: "إن أحب الكلام إلى اللَّه: "سبحان اللَّه وبحمده"

(4)

".

وفيه من حديث أبي مالك الأشعري: "الطهور شطر الإيمان، والحمد للَّه تملئ الميزان وسبحان اللَّه والحمد للَّه تملآن ما بين السماء والأرض"

(5)

.

= والتسبيح والدعاء، والترمذي في سننه (3468) كتاب الدعوات، [60] باب منه - ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 26)، وابن ماجه في سننه (3798)، ومالك في الموطأ (1/ 209)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 451)، وأحمد في مسنده (2/ 302).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6405) كتاب الدعوات، [67] باب فضل التسبيح، ومسلم في صحيحه بزيادة عن البخاري، انظر قبله.

(2)

قال النووي: في حديث التسبيح "حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" ظاهره أن التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل:"ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به" قال القاضي في الجواب عن هذا: إن التهليل المذكور أفضل، ويكون ما فيه من زيادة الحسنات ومحو السيئات وما فيه من فضل عتق الرقاب وكونه حرزا من الشيطان زائدا على فضل التسبيح وتكفير الخطايا، لأنه قد ثبت أن من أعتق رقبة أعتق اللَّه بكل عضو منها عضوا منه من النار، فقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب الزائدة على الواحدة، ومع ما فيه من زيادة مائة درجة، وكونه حرزا من الشيطان. [النووي في شرح مسلم (17/ 16) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه: البخاري في صحيحه (6404) كتاب الدعوات،، [66] باب فضل التهليل، ومسلم في صحيحه [30 - (2693)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [85 - (2731)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [22] باب فضل سبحان اللَّه وبحمده، وأحمد في مسنده (5/ 110)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 421)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 15)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 291)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 485).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [1 - (223)] كتاب الطهارة، [1] باب فضل الوضوء، وأحمد في مسنده (5/ 342، 343)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 10، 42)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 6)، والزبيدي في الإتحاف (2/ 303)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (281)، =

ص: 469

وفيه من حديث سعد بن أبي وقاص أنه علم ذلك الأعرابي: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له

(1)

، اللَّه أكبر كبيرا والحمد للَّه كثيرا، سبحان اللَّه رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العزيز الحكيم" قال فهؤلاء لربي فما لي؟ قال: قل "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني"

(2)

.

وفيه من حديث ثوبان في الانصراف من الصلاة والاستغفار ثلاثا: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام"

(3)

.

وفيه من حديث عبد اللَّه بن الزبير: كان يقول دُبُر كل صلاة حين يسلم: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا اللَّه ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون"

(4)

.

وفيهما من حديث المغيرة: عقب السلام "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له

= والسيوطي في الدر المنثور (1/ 12)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 156، 248).

(1)

حديث "أفضل الذكر التهليل" مع حديث "أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له" وقيل إنه اسم اللَّه الأعظم، وهي كلمة الإخلاص. واللَّه أعلم. وقد سبق أن معنى التسبيح التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحبة والنقائص مطلقا، وسمات الحدوث مطلقا. وقوله:"اللَّه أكبر كبيرًا" منصوب بفعل محذوف، أي كبرت كبيرًا أو ذكرت كبيرًا. [النووي في شرح مسلم (17/ 17) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [33 - (2696)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، وأحمد في مسنده (1/ 158، 3/ 472)، والحاكم في المستدرك (1/ 262)، وابن خزيمة في صحيحه (744، 848)، والطبراني في المعجم الكبير (8/ 379)، والبيهقي في الأسماء والصفات (22)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 430).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [135 - (592)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائي (3/ 69 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (5/ 275، 279، 6/ 72)، وابن ماجه في سننه (924، 928)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 183، 5/ 73)، وعبد الرزاق في مصنفه (3197)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 102)، وابن حجر في المطالب العالية (482)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 302، 303)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (960، 961)، وابن خزيمة في صحيحه (737)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 97).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [139 - (594)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، وأحمد في مسنده (5/ 39)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 209).

ص: 470

الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"

(1)

.

وفيهما من حديث أبي هريرة: "تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين"

(2)

.

وفي صحيح مسلم من حديثه: "من سَبَّحَ اللَّه في دُبُر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد اللَّه ثلاثا وثلاثين، وكبر اللَّه ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"

(3)

.

وفيه من حديث كعب بن عجرة: "مُعَقِّبات لا يخيب قائلهن، أو فاعلهن دبر كل صلاة

(4)

مكتوبة، ثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة وأربع وثلاثون

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (844) كتاب الأذان، [155] باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم في صحيحه [137 - (593)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، وأبو داود (1505)، والنسائي (3/ 70 - المجتبى)، وفي عمل اليوم والليلة (129)، والترمذي (299، 3468)، وابن ماجه (3553، 3798)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 185)، وابن حبان في صحيحه (2342 - الموارد)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 393)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 176، 9/ 224)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 12).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (843) كتاب الأذان، [155] باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم في صحيحه [142 - (595)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، وأبو داود في سننه (1504)، والنسائي في الكبرى (9974)، ومالك في الموطأ (1/ 209)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 186)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 450)، وابن كثير في تفسيره (7/ 387).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [146 - (597)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صقه، وأحمد في مسنده (2/ 371)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 187)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 101)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 300)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (101).

وقوله: "وإن كانت مثل زبد البحر" أي في الكثرة والعظمة مثل زبد البحر، وهو ما يعلو على وجهه عند هيجانه وتموجه.

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم: "دبر كل صلاة" هو يضم الدال، هذا هو المشهور في اللغة، والمعروف في الروايات، وقال أبو عمر المطرزي في كتابه "اليواقيت" دبر كل شيء بفتح الدال آخر أوقاته من الصلاة وغيرها، وقال: هذا هو المعروف في اللغة، وأما الخارجة فبالضم، وقال الداودي عن ابن الأعرابي: دبر الشيء ودبره بالضم والفتح آخر أوقاته، والصحيح الضم، ولم يذكر الجوهري وآخرون غيره. [النووي في شرح مسلم (5/ 81) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 471

تكبيرة"

(1)

.

وفي البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهؤلاء الكلمات دبر كل صلاة: "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر"

(2)

وفي أبي داود من حديث معاذ: "إني واللَّه أحبك، أوصيك لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"

(3)

.

وفي مسلم من حديث أبي هريرة: إذا تشهد أحدكم فليتعوذ باللَّه من أربع، يقول:"اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال"

(4)

.

وفيه من حديث علي في آخر التشهد: "اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [144 - (596)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والترمذي في سننه (3421)، والنسائي (3/ 75 - المجتبى)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 122)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 104)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 451).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6365) كتاب الدعوات، [38] باب التعوذ من البخل، والنسائي (8/ 255 - المجتبى)، وابن ماجه (3844)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 170)، وأحمد في مسنده (1/ 54)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 375، 1/ 189).

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (1522) كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 284، 427)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 212)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 172)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 454)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 152)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 98، 9/ 48)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 235)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 158)، وابن تيمية في الكلم الطيب (114)، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 133).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [128 - (588)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [25] باب ما يستعاذ منه في الصلاة، وأبو داود في سننه (983) كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد، والترمذي (3494)، كتاب الدعوات، والنسائي في التطبيق، باب نوع آخر من التشهد، وابن ماجه في سننه (384) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في التشهد، وأحمد في مسنده (1/ 242، 258)، ومالك في الموطأ (215)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 154)، والطبراني في المعجم الكبير (11/ 29، 409)، والمنذري في الترغيب والترهيب (4/ 450)، وابن حجر في تلخيص الحبير (1/ 264).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (6398، 6399) كتاب الدعوات، [62] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:=

ص: 472

وفيهما من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"

(1)

.

وفي مسلم عنها: أنه كان يقول في ركوعه:

"سبوح قدوس

(2)

رب الملائكة والروح"

(3)

.

وفيه من حديث ابن عباس: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن

(4)

أن يستجاب لكم"

(5)

.

وفيه من حديث أبي هريرة: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"

(6)

.

= "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت"، ومسلم في صحيحه في آخر الحديث [201 - (771)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [26] باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود في سننه (1509) كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، والترمذي في سننه (3421، 3422، 3423) كتاب الدعوات، باب منه - ما جاء في الدعاء عند افتتاح الصلاة بالليل، وأحمد في مسنده (1/ 94، 95، 102)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 32، 185)، وابن خزيمة في صحيحه (743)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 172)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 81، 5/ 28)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (9817).

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (794) كتاب الأذان، [123] باب الدعاء في الركوع، ورقم (817) كتاب الأذان، [139] باب التسبيح والدعاء في السجود، ورقم (4293) كتاب المغازي، [53] باب الباب الذي يلي باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ورقم (4967) كتاب تفسير القرآن، من سورة النصر، وكذلك رقم (4968)، ومسلم في صحيحه [217 - (484)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود.

(2)

سبوح قدوس: هما بضم السين والقاف وبفتحهما، والضم أفصح، وسبوح هو اللَّه عز وجل، فالمراد بالسبوح القدوس المسبح المقدس، فكأنه قال: مسبح مقدس رب الملائكة والروح.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [223 - (487)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود.

(4)

فقمن: بفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع، ومعناه: حقيق وجدير.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [207 - (479)] كتاب الصلاة، [41] باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وأبو داود في سننه (876)، وأحمد في مسنده (1/ 219)، وابن خزيمة في صحيحه (599، 607)، والحميدي في مسنده (489)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 33)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (1/ 249).

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [215 - (482)] كتاب الصلاة [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، وأبو داود (875)، والنسائي (2/ 226 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 241)، والبيهقي في السنن الكبرى، والمنذري في الترغيب والترهيب (10/ 249).

ص: 473

وفيه من حديثه أيضًا: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجلَّهُ، وأوله وآخره، وعلانيته وسره"

(1)

.

وفيه من حديث عائشة: فإذا هو راكع أو ساجد يقول: "سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت"

(2)

.

وفي رواية: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحْصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"

(3)

.

وفيه من حديث سعد: "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحُطَّ عنه ألف خطيئة"

(4)

. وفيه من حديث أبي ذر: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركهما من الضحى"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [216 - (483)] كتاب الصلاة [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، وأبو داود في سننه (878) كتاب الصلاة، باب في الدعاء في الركوع والسجود، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 109، 110)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (592)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 97)، وابن خزيمة في صحيحه (672).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه [221 - (485)] كتاب الصلاة [42] ما يقال في الركوع والسجود، وأحمد في مسنده (6/ 77، 151)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 75، 5/ 97).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [222 - (486)] كتاب الصلاة [42] باب ما يقال في الركوع والسجود.

قال النووي: قال الإمام أبو سليمان الخطابي - رحمه اللَّه تعالى: في هذا معنى لطيف، وذلك أنه استعاذ باللَّه تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضاء والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو اللَّه سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه، وقوله:"لا أحصي ثناء عليك" أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به. وقال مالك. رحمه اللَّه تعالى: معناه: لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في الثناء بها عليك، وإن اجتهدت في الثناء عليك. [النووي في شرح مسلم (4/ 171) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [37 - (2698)] كتاب والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] فضل التهليل والتسبيح والدعاء، وأحمد في مسنده (1/ 174، 180)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 294)، وابن تيمية في الكلم الطيب (11)، والحميدي في مسنده (80).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [84 - (720)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [13] باب استحباب =

ص: 474

وفيه من حديث أم المؤمنين جويرية

(1)

: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان اللَّه وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته"

(2)

.

وفي رواية الترمذي: "ثلاثا عن كل واحدة"

(3)

.

وفيهما من حديث أبي موسى: "مَثلُ البيت الذي يُذْكَرُ اللَّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللَّه فيه مثل الحي والميت"

(4)

.

وفيهما من حديث أبي هريرة: "يقول اللَّه تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تَقَرَّب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"

(5)

.

= صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات أو ست والحث على المحافظة عليها، وأبو داود في سننه (5243)، وأحمد في مسنده (5/ 167)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 47)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 461)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2311)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 367)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 273، 356)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (577).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [79 - (2726)] كتاب والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [19] باب التسبيح أول النهار وعند النوم، وأحمد في مسنده (1/ 258)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 438)، والبخاري في الأدب المفرد (647).

(2)

قال النووي: "مداد كلماته" بكسر الميم، قيل: معناه مثلها في العدد، وقيل مثلها في أنها تنفد، وقيل: في الثواب. والمداد هنا مصدر بمعنى المدد، وهو ما كثرت به الشيء. قال العلماء: واستعماله هنا مجاز لأن كلمات اللَّه تعالى لا تحصر بعد ولا غيره، والمراد المبالغة به في الكثرة؛ لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق ثم زنة العرش ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى كلمات اللَّه تعالى. [النووي في شرح مسلم (17/ 36، 37) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (3555) كتاب الدعوات، [104] باب الباب الذي يلي باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6407) كتاب الدعوات، [68] باب فضل ذكر اللَّه عز وجل، ومسلم في صحيحه [211 - (779)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [29] باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 278).

قال النووي: فيه الندب إلى ذكر اللَّه تعالى في البيت، وأنه لا يخلى من الذكر، وفيه جواز التمثيل، وفيه أن طول العمر في الطاعة فضيلة لمان كان الميت ينتقل إلى خير؛ لأن الحي يستلحق به ويزيد عليه بما يفعله من الطاعات.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (7405) كتاب التوحيد، [15] باب قول اللَّه تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ =

ص: 475

ومعناه: من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي، فإن زاد زدت.

والمراد بالهرولة انصباب الرحمة عليه.

من اعتز بالمولى فذاك جليل

ومن رام

(1)

عزا من سواه ذليل

ولو أن نفسا مذبراها مليكها

مضى عمرها في سجدة لقليل

أحب مناجاة الحبيب بأوجه

ولكن لسان المذنبين كليل

(2)

‌فصل

في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: "سبق المُفَرِّدُون" قالوا: وما المفردون يا رسول اللَّه؟ قال: "الذاكرون اللَّه كثيرا والذاكرات"

(3)

.

وفي الترمذي محسنا من حديث جابرة "أفضل الذكر لا إله إلا اللَّه"

(4)

وفيه محسنا عنه: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده غُرِسَت له نخلة في الجنة"

(5)

.

وفيه محسنا من حديث عبد اللَّه بن بسر: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر اللَّه"

(6)

.

= نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، ورقم (7536، 7537) كتاب التوحيد، [50] باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، ومسلم في صحيحه [2 - (2675)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [1] باب الحث على ذكر اللَّه تعالى، وأحمد في مسنده (2/ 315، 4/ 106)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 393، 477)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 5، 6/ 7)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 149)، وابن الجوزي في زاد المسير (8/ 226).

(1)

رام مكانه، ورام فلان ريما: بَرَحَه.

(2)

الكليل: الضعيف المتعب.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [4 - (2675)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، والترمذي في سننه (3596) كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية، وأحمد في مسنده (2/ 323، 411)، والحاكم في المستدرك (1/ 495)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 75)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 253، 8/ 594)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 143)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 399)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2262).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (3383) كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، والحاكم في المستدرك (1/ 498)، وابن حيان في صحيحه (2326 - الموارد).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (3464، 3465) كتاب الدعوات، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 245) باب ثواب من قال: سبحان اللَّه العظيم، والحاكم في المستدرك (1/ 501، 512)، وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان في صحيحه (2335 - الموارد)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 422)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 94)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 16).

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (3375) كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، وابن ماجه في =

ص: 476

وفيه محسنا من حديث ابن مسعود: "لقيت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان

(1)

، وأن غراسها: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر"

(2)

.

وفي الترمذي وصحح الحاكم إسناده: "ألا أنبؤكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: "ذكر اللَّه"

(3)

.

وفيه مُحَسنًا من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم دخل على امرأة وبين يديها نوى، أو قال: حصى، تسبح به، فقال:"ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟ سبحان اللَّه عدد ما خلق في السماء، وسبحان اللَّه عدد ما خلق في الأرض، وسبحان اللَّه عدد ما بين ذلك، وسبحان اللَّه عدد ما هو خالق، واللَّه أكبر مثل ذلك، والحمد للَّه مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه مثل ذلك"

(4)

.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه كنز من كنوز الجنة"

(5)

.

= سننه (3793) كتاب الأدب، باب فضل الذكر، وأحمد بن حنبل في مسنده (4/ 188، 190)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 371)، والحاكم في المستدرك (1/ 495).

(1)

قيعان: وقيعة جمع قاع، وهو المكان الواسع، وقال ابن فارس: القاع: الأرض.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (3462) كتاب الدعوات، باب [59] الباب التالي لباب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وابن حبان في صحيحه (2338 - الموارد)، وأحمد في مسنده (5/ 418)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 445).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه (3377) كتاب الدعوات، باب [56] منه - ما جاء في فضل الذكر، وابن ماجه في السنن (3790)، والحاكم في المستدرك (1/ 496)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 195)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 395)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/ 422)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 7)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2269)، وابن كثير في تفسيره (6/ 422).

(4)

أخرجه الترمذي في سننه (3568) كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه دبر كل صلاة، وابن حيان في صحيحه (2330 - الموارد)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2311).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (4205) كتاب المغازي، [40] باب غزوة خيبر، ورقم (6384) كتاب الدعوات، [52] باب الدعاء إذا علا عقبة، ورقم (6409)[69] باب قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، ورقم (6610) كتاب القدر، [7] باب لا حول ولا قوة إلا باللَّه، ورقم (7386) التوحيد، [9] باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، ومسلم في صحيحه [44، 45، 47 - (2704)] كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، [13] باب استحباب خفض الصوت بالذكر.

ص: 477

‌فصل

في صحيح مسلم من حديث عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر اللَّه على كل أحيانه"

(1)

.

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم اللَّه، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا"

(2)

.

‌فصل

في البخاري من حديث أبي ذر وحذيفة قالا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: "باسمك اللهم أحيا وأموت" وإذا استيقظ قال: الحمد للَّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"

(3)

.

‌فصل

في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "إن للَّه ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر

(4)

، فإذا وجدوا قوما يذكرون اللَّه تنادوا: هلموا إلى حاجتكم،

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [117 - (373)] كتاب الحيض، [30] باب ذكر اللَّه تعالى في حال الجنابة وغيرها.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6388) كتاب الدعوات، [56] باب ما يقول إذا أتى أهله، ومسلم في صحيحه [116 - (1434)] كتاب النكاح، [18] باب ما يستحب أن يقول عند الجماع، وأبو داود في سننه (2161) كتاب النكاح، باب في جامع النكاح، والترمذي في سننه (1092) كتاب النكاح، باب ما يقول إذا دخل على أهله، وابن ماجه في سننه (1919) كتاب النكاح، وأحمد في مسنده (1/ 286)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2416)، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 311)، وابن تيمية في الكلم الطيب (208)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 267).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6312) كتاب الدعوات، [7] باب ما يقول إذا قام، ورقم (6314)[8] باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن، وأحمد في مسنده (4/ 294، 302)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 73)، وابن السني في عمل البوم والليلة (8)، والبيهقي في الأسماء والصفات (3)، وفي الشمائل (137).

(4)

قال القاضي عياض: ذكر اللَّه تعالى ضربان: ذكر بالقلب وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان: أحدهما: وهو أرفع الأذكار وأجلها: الفكر في عظمة اللَّه تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه، ومنه الحديث:"خير الذكر الخفي" والمراد به هذا. والثاني: ذكره بالقلب عند الأمر والنهي، فيمتثل ما أمر به ويترك ما نهي عنه، ويقف عما أشكل عليه، وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث، وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في ذكر القلب واللسان أيهما أفضل. [النووي في شرح مسلم (17/ 14) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 478

قال: فيحُفُّونَهُم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟

قال: "يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك" قال: "فيقول: هل رأوني؟ " قال: "فيقولون: لا واللَّه ما رأوك"، قال:"فيقول: كيف لو رأوني؟ " قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا".

قال: يقول: "فما يسألوني؟ " قال: "يسألونك الجنة" قال: "يقول: وهل رأوها؟ " قال: "يقولون: لا واللَّه يا رب ما رأوها" قال: "يقول: فكيف لو رأوها؟ " قال: "يقولون: لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة" قال: "فمم يتعوذون؟ " قال: "يقولون: من النار" قال: "يقول: وهل رأوها؟ " قال: "يقولون: لا واللَّه ما رأوها" قال: "يقول: فكيف لو رأوها؟ " قال: "يقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة" قال: "فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم" قال: "يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"

(1)

.

وفي مسلم من حديث أبي سعيد: "لا يقعد قوم يذكرون اللَّه إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة

(2)

وذكرهم اللَّه فيمن عنده"

(3)

.

وفيهما من حديث أبي واقد الحارث بن عوف أن رسول اللَّه بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل

(4)

اثنان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذهب واحد.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6408) كتاب الدعوات، [68] باب فضل ذكر اللَّه عز وجل، ومسلم في صحيحه [25 - (2689)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [8] باب فضل مجالس الذكر، والترمذي في سننه (3600) كتاب الدعوات، باب ما جاء إن للَّه ملائكته سياحين في الأرض، والنسائي (3/ 43 - المجتبى)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 401)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 125)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2217)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 150)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 104).

(2)

المراد بالسكينة هنا الرحمة، وهو الذي اختاره القاضي عياض، وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليه، وقيل الطمأنينة والوقار، وهو أحسن، وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء اللَّه تعالى.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [39 - (2700)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [11] باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 150)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 406)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2261)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 8)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 209).

(4)

فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل =

ص: 479

قال فوقفا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا. فلما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى اللَّه فآواه اللَّه، وأما الآخر فاستحيى فاستحيى اللَّه منه، وأما الآخر فأعرض، فأعرض اللَّه عنه"

(1)

.

وفي مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: "ما أجلسكم؟ " قالوا: جلسنا نذكر اللَّه ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ علبنا، قال:"آللَّه ما أجلسكم إلا ذاك؟ " قالوا: واللَّه ما أجلسنا إلا ذاك، قال:"أما إني لم أستحلفكم تُهمَة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن اللَّه عز وجل يباهي بكم الملائكة"

(2)

.

قيل ليظهر لهم معنى قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}

(3)

ردا منه لقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}

(4)

وللَّه درُّ من ينشد محبيه

(5)

.

= فيذاكرهم العلم والخير، وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد، واستحباب دخولها ومجالسة أهلها، وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعا بينا، ويتأدب بأدبه وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها وإلا جلس وراءهم.

(1)

أخرجه البخاري (66) كتاب العلم، [9] باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومسلم في صحيحه [26 - (2176)] كتاب السلام، [10] باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها وإلا وراءهم، والترمذي في سننه (2724) كتاب الاستئذان، باب [29] الباب الذي يلي ما جاء في كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئا، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 232)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 283)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 283)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 303)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (3/ 204) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 315)، وابن كثير في البداية والنهاية (6/ 132).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه عز وجل يباهي بكم الملائكة" معناه يُظهر فضلكم لهم ويريهم حسن عملكم ويثنيعليكم عندهم، وأصل البهاء الحسن والجمال، وفلان يباهي بماله أي يفخر ويتجمل بهم على غيرهم، ويظهر حسنهم.

(3)

و

(4)

سورة البقرة: 30.

(5)

الحديث المتقدم أخرجه مسلم في صحيحه [40 - (2701)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [11] باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، والترمذي في سننه (3379) كتاب الدعوات، باب ما جاء في القوم يجلسون فيذكرون اللَّه عز وجل ما لهم من الفضل، والنسائي (8/ 249) في القضاة، باب كيف يستحلف الحاكم، وأحمد في مسنده (4/ 92)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 306)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 142، 311)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 151)، وفي الحبائك في الملائك (139)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4/ 352)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 302).

ص: 480

‌فصل

في مسلم من حديث أبي هريرة: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة لم يات أحد بأفضل مما جاء به إلا وأحد قال مثل ما قال أو زاد عليه"

(1)

.

وفيه عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال: "أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات اللَّه التامات

(2)

من شر ما خلق لم يضرك"

(3)

.

وفي أبي داود والترمذي مُحَسَّنًا عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: "اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور" وإذا أمسى قال: اللهم بك أمسينا، وبك نحيا. . . " على آخره

(4)

.

وفيهما مصححا عنه أنه صلى الله عليه وسلم علَّم الصديق: "اللهم فاطر السموات والأرض رب كلِ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشَركِهِ" قال: "قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [29 - (2692)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 450)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (297)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (72)، والشجري في أماليه (1/ 239)، وابن تيمية في الكلم الطيب (17).

(2)

معنى التامات: هي الكاملات، ومعنى كمالها أنه لا يدخلها نقص ولا عيب، كما يدخل في كلام الناس، وقيل هي النافعات الكافيات الشافيات من كل ما نتعوذ منه.

(3)

أخرجه ملم في صحيحه [55 - (2709)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [16] باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، وأبو داود في سننه (3899) كتاب الطب، باب كيف الرقى، والنسائي في عمل اليوم والليلة (562) وفي رواية الترمذي (3389):"من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق، لم يضره حمة تلك الليلة".

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (5068) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، والترمذي في سننه (3391) كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، وابن ماجه في سننه (3868)، وأحمد في مسنده (2/ 354، 522)، والدارمي في السنن (33، 34، 38)، وابن حبان في صحيحه (2354 - الموارد)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 244)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 114)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2389)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 111).

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (5067) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، والنسائي في الكبرى، والنعوت باب فاطر السماوات والأرض، وباب المليك، وباب عالم الغيب والشهادة، وفي عمل اليوم والليلة (178)، باب نوع آخر ما يقول إذا أمسى (ص 236) باب نوع آخر ما يقول من يفزع في منامه، وأحمد في مسنده (1/ 9، 14)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 335)، وابن كثير =

ص: 481

وفي مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمسى قال

(1)

: أمسينا وأمسى الملك للَّه، والحمد للَّه، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له".

قال: أَرَاه قال فيهن: "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر

(2)

، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" وإذا أصبح قال ذلك أيضا:"أصبحنا وأصبح الملك للَّه".

وفي أبي داود والترمذي مصححا من حديث عبد اللَّه بن خبيب

(3)

أنه صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا، تكفك من كل شيء"

(4)

.

وفيهما مصححا من حديث عثمان: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم أو عشاء كل يوم: بسم اللَّه الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو

= في تفسيره (4/ 344، 7/ 94)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 321)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (243، 718، 719).

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [75 - (2723)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [18] باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، وأبو داود في سننه (5071) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، والترمذي في سننه (3390) كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 26)، باب نوع آخر من سيد الاستغفار، وأحمد في مسنده (1/ 440)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 39، 9/ 43)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 111).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر" قال القاضي: رويناه "الكبر" بإسكان الباء وفتحها، فالإسكان بمعنى التعاظم على الناس، والفتح بمعنى الهرم والخوف والرد إلى أرذل العمر، كما في الحديث الآخر، قال القاضي: وهذا أظهر وأشهر بما قبله. قال: وبالفتح ذكره الهروي، وبالوجهين ذكره الخطابي وصوب الفتح، وتعضده رواية النسائي:"وسوء العمر"[النووي في شرح مسلم (17/ 36) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

عبد اللَّه بن خبيب المدني الجهني الأنصاري المدني: أخرج له البخاري وأصحاب السنن الأربعة، صحابي.

التهذيب (5/ 197)، التقريب (1/ 412).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (5082) في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، الترمذي (3575) كتاب الدعوات، باب [117] التالي في انتظار الفرج وغيره.

والنسائي في سننه (8/ 252، 254 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (4/ 149، 151، 6/ 442)، وابن حبان في صحيحه (1778 - الموارد)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 415، 416)، وابن كثير في تفسيره (8/ 551)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 36).

ص: 482

السميع العليم لم يضره شيء"

(1)

.

وهذه الأحاديث السبعة أولها توحيد الذات، والثاني توحيد الصفات، والثالث توحيد الأفعال، والرابع جامع، والخامس أجمع، والسادس قرآن مجيد. والسابع (جامع)(*).

وأيضا: الأول ثناء، والثاني تعوذ، والثالث مُنَاجاة، والرابع ثناء وتعوذ ومناجاة والخامس (سما)(*) وسؤال، والسادس تلاوة وتعوذ، والسابع تَحَصَّن.

‌فصل

في البخاري من حديث حذيفة وأبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أحيا وأموت"

(2)

.

وفي البخاري ومسلم من حديث علي أنه صلى الله عليه وسلم قال: له ولفاطمة: إذا أويتما إلى فراشكما أو إذا أخذتما مضجعكما فكبرا ثلاثا وثلاثين، وسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا كذلك"

(3)

.

وفي رواية التكبير والتسبيح أربعا وثلاثين.

وفيهما من حديث أبي هريرة: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (5088) كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، والترمذي في سننه (3388) كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 23)، باب نوع آخر لمن قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وابن ماجه في سننه (3869) في الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 451)، والحاكم في المستدرك (1/ 514، 518)، وابن تيمية في الكلم الطيب (23)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 156).

(*) كذا بالأصل.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6312) كتاب الدعوات، [7] باب ما يقول إذا نام، ورقم (6314) كتاب الدعوات، [8] باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن، وأبو داود في سننه (5049) كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، والترمذي في سننه (3417) كتاب الدعوات، باب [28] منه باب ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل، والنسائي في عمل اليوم والليلة (747، 857)، وأحمد بن حنبل في مسنده (5/ 385، 407)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 109)، والبيهقي في الأسماء والصفات (3).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6318) كتاب الدعوات، [11] باب التكبير والتسبيح عند المنام، ومسلم في صحيحه [80 - (2727)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، وأبو داود في سننه (5062) كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، وابن السني في عمل اليوم والليلة (735).

ص: 483

وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين"

(1)

.

وفيهما من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ بالمعوذات، ومسح بهما جسده

(2)

.

وفي رواية لهما: "بالإخلاص والمعوذتين، يبدأ برأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاثا"

(3)

.

وفيهما من حديث البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال له

(4)

: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6320) كتاب الدعوات، [13] باب يلي باب التعوذ والقراءة عند المنام، ومسلم في صحيحه [64 - (2714)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، وأبو داود في سننه (5050) كتاب الأدب، باب ما يقول عند النوم، والترمذي في سننه (3410) كتاب الدعوات، [20] باب من، ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وأحمد في مسنده (2/ 174، 246)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 19)، والبيهقي في الأسماء والصفات (69)، وابن كثير في تفسيره (7/ 93).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6319) كتاب الدعوات، [12] باب التعوذ والقراءة عند المنام، وأبو داود في سننه (5056) كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 234)، باب نوع آخر، ما يقول من يفزع في منامه، وابن ماجه في سننه (3875) كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 252).

(3)

كذا في رواية أبي داود والترمذي، وقد تقدم تخريجهما قبل هذا.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (6313) كتاب الدعوات، [7] باب ما يقول إذا نام، ومسلم في صحيحه [56 - (2710)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [17] باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، وأبو داود في سننه (5046) كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، والترمذي في سننه (3394) كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وابن ماجه (3876) في الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه.

(5)

قال النووي: في هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة:

إحداها: الوضوء عند إرادة النوم، فإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء؛ لأن المقصود النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، وليكون أصدق لرؤياه وأبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه.

الثانية: النوم على الشق الأيمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن، ولأنه أسرع إلى الانتباه.

الثالثة: ذكر اللَّه تعالى ليكون خاتمة عمله. [النووي في شرح مسلم (17/ 27) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 484

وفي مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد للَّه الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي"

(1)

.

وفي الترمذي مصححا من حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يرقد، وضع يده اليمنى تحت خده، ثم يقول:"اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك"

(2)

.

ورواه أبو داود من حديث حفصة، وأنه كان يقوله ثلاثا.

وحاصلها بداءة المضجع بالبسملة، ثم الثانية، ويختم بحديث الفطرة، ويوسط الباقي. والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا القدر كافٍ هنا، ومجموعه نحو من ستين حديثا.

وورد في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم بعث جيشا فيهم رجل يقال له حدير، وكانت تلك السنة أصابتهم شدة من قلة الطعام، فزودهم صلى الله عليه وسلم ونسي أن يزود حديرا، فخرج حدير صابرا محتسبا، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر وسبحان اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، ويقول نعم الزاد هو يا رب، ويرددها، فجاء جبريل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: عن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت حديرا، وهو في آخر الركب يقول ما سلف، وكلامه ذلك له نور يوم القيامة ما بين السماء والأرض، فابعث إليه بزاد، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلا فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عنه ما يقول ويسلم عليه من جهته، ويخبرك أنه نسي أن يزودك، وأن الرب تعالى أرسل إليَّ جبريل يذكرني بك، فذكره جبريل ما علمه بمكانك، فانتهى إليه وهو يقول ما سلف، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلى على رسول اللَّه، ثم قال: الحمد للَّه رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سمواته ومن فوق

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [65 - (2715)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [17] باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، وأبو داود في سننه (5053) كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، والترمذي في سننه (3396) كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 237)، باب نوع آخر وما يقول من يفزع من منامه، وأحمد في مسنده (3/ 153)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (705)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 127)، والبيهقي في الأسماء والصفات (15).

(2)

أخرجه الترمذي (3398) كتاب الدعوات باب [18] منه جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، وأبو داود في سننه (5045) كتاب الأدب، ياب ما يقال عند النوم عن حفصة، وعن البراء في الترمذي (3399) كتاب الدعوات، باب [18] منه ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 763) باب ما يقول إذا أوى إلى فراشه، وابن ماجه في سننه، في الدعاء باب ما يدعو به إذا انتبه من الليل.

ص: 485

عرشه، ورحم جوعي وضيعتي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرا لا ينساك، فحفظ ذلك ورجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره به، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه نورا ساطعا بين السماء والأرض".

وأما الآثار:

فقال كعب الأحبار: "إن لسبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر دويا حول العرش كدوي النحل، يذكرون (. . . . .)

(1)

والعمل الصالح في الخزائن.

وقال جعفر بن محمد

(2)

لسفيان: إذا أنعم اللَّه عليك نعمة وأحببت بقاءها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن اللَّه تعالى قال في كتابه:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. وإن استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن اللَّه تعالى قال: في كتابه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] الآية.

وإن أحزنك أمر من الشيطان أو غيره فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا باللَّه

(3)

، فإنها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة.

(1)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(2)

جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد اللَّه القرشي الهاشمي العلوي المدني الصادق، صدوق فقيه إمام، أخرج له البخاري في الأدب، وباقي الستة، توفي سنة (148، أو 140).

ترجمته: تهذيب التهذيب (2/ 103)، تقريب التهذيب (1/ 132)، الكاشف (1/ 186)، تاريخ البخاري الكبير (2/ 198)، تاريخ البخاري الصغير (2/ 73، 91)، الثقات (6/ 131)، سير أعلام النبلاء (6/ 255)، الوافي بالوفيات (11/ 126)، شذرات الذهب (1/ 20)، وفيات الأعيان (1/ 327)، طبقات ابن سعد (5/ 87).

(3)

هذا حديث رواه البخاري في صحيحه (6409) كتاب الدعوات، [69] باب قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه، عن أبي موسى الأشعري، وفيه:"ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ " قلت بلى، قال:"لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، ورواه مسلم [44 - (2704)] كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، [13] باب استحباب خفض الصوت بالدكر.

وقال النووي: قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض على اللَّه تعالى، واعتراف بالاذعان له وأنه لا صانع غيره، ولا راد لأمره، وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر، ومعنى الكنز هنا أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم. قال أهل اللغة: الحول الحركة، والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة اللَّه، وقيل معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا باللَّه، وقيل: لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله متقارب. [النووي في شرح مسلم (17/ 22) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 486

وقال مالك بن دينار: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر اللَّه.

وقال أبو جعفر رحمه الله الصواعق تصيب المؤمن وغيره ولا تصيب الذاكر. وقال مجاهد: إذا أراد أحدكم أن ينام فليستقبل القبلة، ولينم على يمينه، وليذكر اللَّه تعالى، وليكن آخر كلامه عند منامه: لا إله إلا اللَّه، فإنها وقَاءُه، ولا يدرى لعلها تكون منيته، ثم قرأ:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60].

وأنشد في هذا المعنى:

قد جلى الباب قليلا

فاجعل الذكر سبيلا

والزم الباب غدَّوا

وعشيَّا وأصيلا

إن تُطِعْنِي لم تجدني

للمطيعين خذولا

إن عندي للمطيعين

شرابا سلسبيلا

واتعبوا اليوم قليلا

تنعموا دهرا طويلا

وعن أُبيِّ بن كعب

(1)

أنه قال: "عليكم بالسبيل، أي الدين والسنة، فإنه ليس من عبد عليها ذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية اللَّه فتمسه النار

(2)

. وليس من عبد عليها ذكر الرحمن فاقشعر جلده من مخافة اللَّه إلا كان مَثَلُه كَمَثل شجرة بفلاة فبينما هي كذلك إذ أصابتها ريح فتحاتَّت

(3)

عنها ورقها إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتتَّ عن تلك الشجرة ورقها".

وقال أبو عبد اللَّه محمد بن علي الترمذي الحكيم: ذكر اللَّه يرطب القلب ويلينه، فإذا غفل عن الذكر وأصابته حزازة النفس ونار الشهوة فقسى ويبس وامتنع الأعضاء عن الطاعة، فإذا مددتها انكسرت كالشجرة إذا يبست لا تصلح لشيء إلا للقطع، وتصير وقودا للنار.

وعن أبي يزيد البسطامي

(4)

قال: لم أزل منذ ثلاثين سنة كلما أردت أن أذكر

(1)

أُبَيِّ بن كعب: صحابي جليل غني عن التعريف، من القراء الكبار من الصحابة.

(2)

روى الترمذي في سننه (1639) كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل اللَّه، عن ابن عباس قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية اللَّه وعين باتت تحرس في سبيل اللَّه".

(3)

حتَّ الورق عن الشجر حتًّا: سقط، وتحاتَّ الورق عن الغصن: سقط، ويقال: تحاتَّ الشجرة: تساقط ورقها، وتحاتَّت عنه ذنوبه.

(4)

أبو يزيد: طيفور بن عيسى البسطامي الزاهد العارف، من كبار مشايخ القوم، وهو بكنيته أشهر وأعرف، وله أخوان: آدم وعلي، وكانا زاهدين عابدين، وكان جدهم أبو عيسى آدم بن عيسى مجوسيا فأسلم، ومن كلامه: ما وجدت شيئا أشد عليَّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف =

ص: 487

اللَّه توضأت وغسلت لساني إجلالا للَّه أن أذكره.

أثَمَّ إذا فزع القلوب تمايلت

طربا وتمت بالتقى استقرارها

وإذا حدثه عاد بطيب حديثه

طابت وذاقت بالرضا أزهارها

ترتاح إذا ذكر اسمه ويهزها

طربا إذا أجفت بها أذكارها

وإذا ابتدأ ذكره في حضرة

حضر السرور بها وطاب مزارها

وأما الحكايات فكثيرة:

الأولى: عن بعضهم، قال: احتسبت على أهلي خروج الولد، فمضيت إلى أبي الحسن الدينوري بجام أتبرك بخطه فيه، فلما كتب البدء، إذ انفلق الجام، وسقط الشيخ مغشيا عليه. فأتيته بآخر، فكان كالأول، ثم جئته بثالث ورابع وخامس.

فقال: يا هذا اذهب إلى غيري، فلو جئتني بما يمكن أن يُجَاء به لم يكن إلا ما رأيت، فإني عبد إذا ذكرت اللَّه مولاي ذكرته بخيبة وقنوت.

الثانية: عن بعضهم قال: لقيت علة شديدة أتت من نفسي وآيس مني من رآني، فبيما أنا في أشد ما كنت رأيت في المنام ليلة جمعة أن رجلا دخل عليَّ فجلس عند رأسي، ودخل بعده خلق كثير، كأنما في وقت الدخول يشبهون الطيور. فلما جلسوا صاروا في سورة الآدميين، فلم يزالوا يدخلون، وعيني إلى الباب.

فلما انقطع دخولهم رفع ذلك الرجل رأسه وقال قصدي هذا البلد ثلاثة، هذا أحدهم وصالح الخلقاني وامرأة. ثم وضعيده على جبيني

(1)

وقال: "بسم اللَّه ربي، حسبي اللَّه توكلت على اللَّه، اعتصمت باللَّه، فوضت أمري إلى اللَّه، ما شاء اللَّه، لا قوة إلا باللَّه".

ثم قال: استكثر من هذه الكلمات، فإن فيها شفاء من كل سقم، وفرجا من كُرْبة، ونصرا على كل عدو. وأول من تكلم بهذا حملة العرش عليهم السلام حين أُمِروا بحمله، ولا يزالون يقولون ذلك إلى يوم القيامة

(2)

فقال رجل كان جالسا عن

= العلماء لعت حائرا، وعنه قال: ليس العجب من حبي لك وانا عبد فقير، وإنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير، وعنه قال: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر. توفي سنة (261). [تاريخ الإسلام، وفيات (261، 270)].

(1)

روى البخاري في صحيحه (5743) عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول:"اللهم رب الناس أذهب الباس، اشفه وأنت الشافي لا شفاه إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما".

(2)

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] الآية. يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين =

ص: 488

يمينه أو عن يساره: يا رسول اللَّه، فإن قالها عند لقاء العدو؟ قال: بخ بخ فيه فتح ونصر وبشرى، فظننت أنه الصديق. فقلت: يا رسول اللَّه هذا الصديق؟ فقال: هذا عمي حمزة

(1)

.

ثم أومأ بيده إلى من يساره وقال: هؤلاء الشهداء

(2)

ثم أومأ إلى من وراءه وقال: هؤلاء الصالحون، ثم خرج، فانتبهت وقد شفيت.

الثالثة: عن الشيخ أبي يزيد القرطبي قال: سمعت في بعض الأسفار أن من قال: لا إله إلا اللَّه

(3)

سبعين ألف مرة كانت براءة من النار، وقمت على ذلك رجاء بركة الوعد، فعلَّمت منها لأهلي وعملت منها أعمالا أخص بها نفسي، وكان إذ ذاك يبيت معنا شاب يقال: إنه يكاشف في بعض الأوقات بالجنة والنار.

وكانت الجماعة ترى له فضلا على صغر سنه، وكان في قلبي بعض الشيء، فاتفق أنه استدعى بعض الإخوان إلى منزله. فبينما نحن نتناول الطعام والشاب معنا إذ صاح صيحة منكرة، والهلع في نفسه وهو يقول: يا عم هذه أمي في النار، وهو يصيح بصياح عظيم لا يشك من يسمعه أنه (. . . . .)

(4)

فلما رأيت ما به من

= بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي يتقربون بين التسبيح الدال على نفي النقائص والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح. وحملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]. [تفسير ابن كثير (4/ 71)].

(1)

حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، قتل يوم أُحُد، وكان في إسلامه فتح عظيم للمسلمين، وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة، وعلم المسلمون بإسلامه، وذلك لما رجع من صيده نعلم بإيذاء أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه، ثم قال: أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول فرد على إن استطعت، فعرفت قريش أن رسول اللَّه قد عز وامتنع.

(2)

قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران].

(3)

روى الترمذي في سننه (3585) كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، عن عبد اللَّه بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، وفي صحيح مسلم [28 - (2691)] كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، [10] باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من قال لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك. . . . " الحديث.

(4)

كلمة غير واضحة بالأصل.

ص: 489

الانزعاج قلت في نفسي: اليوم أعرف صدقه، فألهمني الباري تعالى السبعين ألفا، ولا يطلع على ذلك أحد إلا اللَّه تعالى. فقلت في نفسي: الأثر حق، والذين رووه لنا صادقون.

اللهم إن السبعين ألفا فداء هذه المرأة أم هذا من النار، فما استتممت الخاطر في نفسي إلا أن قال: يا عم ها هي أُخْرِجت، الحمد للَّه.

فحصل لي فائدة أن إيماني بصدق الأثر، وسلامتي لهذا الشاب وعلمي بتصديقه.

ولأبي العباس بن العريف:

سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم

أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي

فمن رسول إلى قلبي ليس إليهم

عن شكي من سؤال العبث ملتبس

(1)

الرابعة: عن خادمة رابعة العدوية

(2)

قالت: كانت رابعة تصلي الليل، فإذا طلع الفجر هجعت هجعة في (. . . . .)

(3)

حتى تستقر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين، وإلى كم لا تقومين، يوشك أن تنامين نومة لا تقومين منها إلا لصرخة النشور. وكان هذا دأبها حتى ماتت.

فلما حضرتها الوفاة دعتني وقالت: لا تؤذنن بموتي أحدا، وكفنيني في جُبَّتي هذه، وكانت جبة من شعر تقوم فيها إلى أن حضرتها الوفاة، فكفنتها فيها، وفي خمار صوف كانت تلبسه.

فرأيتها في المنام وعليها حُلَّة إستبرق خضراء، وخمارا من سندس أخضر

(4)

، ولم أر شيئا قط أحسن منه. قلت لها: ما فعلت بالجبة التي كفنتك فيها والخمار الصوف؟ قالت إنه نزع عني، وأبدلت به هذا الذي ترينه، وطويت أكفاني، ورفعت في عليين ليكون لي ثوابها يوم القيامة. فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا.

(1)

ذكر بعده بيتا ثالثا غير واضح.

(2)

رابعة العدوية كانت كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانا، وكانت تقول: استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وكانت ترد ما أعطاه الناس لها وتقول: ما لي حاجة بالدنيا، وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنها شنٌّ بالٍ تكاد تسقط إذا مشت، وكان كفنها لم يزل موضوعا أمامها، وكان بموضع سجودها.

(3)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(4)

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} [الكهف: 30 - 31]،

ص: 490

فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة اللَّه تعالى لأوليائه.

قلت: فمريني بأمر أتقرب به إليه. قالت: عليك بكثرة ذكره فإنه يوشك أن تعطي ذلك في قبرك.

الخامسة: عن الشيخ أي العباس بن مسروق

(1)

قال: كنت بالبصرة، فرأيت صيادا يصطاد السمك على بعض السواحل. وإذا بجنبه ابنة له صغيرة، فكلما اصطاد سمكة رمتها الصبية في الماء، فالتفت الرجل، فلم ير شيئا. فقال لابنته أي شيء عملت بالسمك؟ فقالت: يا أبت أليس سمعتك تروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه لا تقع سمكة في شبكة إلا إذا غفلت عن ذكر اللَّه، فبكى الرجل ورمى بالسنارة.

السادسة: عن بعضهم قالت: رأيت مسكينة الطفاوية بعد موتها في المنام، وكانت تحب مجالس الذكر. فقلت: مرحبا يا مسكينة. فقالت: هيهات، ذهبت المسكنة

(2)

، وجاء الغنى. قلت: هنيئا لك. قالت: وما تسأل عمن أبيحت له الجنة بحذافيرها. قلت بماذا؟ قالت بمجالس الذكر.

السابعة: قال بعضهم خرجت إلى السوق ومعي جارية في مكان (. . . . .)

(3)

وقلت لها: لا تبرحي منه حتى أعود إليك.

فذهبت ثم عدت إلى المكان، فلم أجدها فيه، فذهبت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها. فجاءتني وقالت: يا مولاي لا تعجل على فإنك أجلستني بين قوم لا يذكرون اللَّه

(4)

فخشيت أن ينزل بهم خسف وأنا معهم.

(1)

أحمد بن محمد بن مسروق، أبو العباس البغدادي الزاهد، مصنف جزء القناعة، كان من أعيان الصوفية وعلمائهم، روى عن علي بن الجعد، وعلي بن المديني، وخلف بن هشام وأحمد بن حنبل وغيرهم، وكان الجنيد يخرمه ويعتقد فيه، وقال أبو نعيم الحافظ: صحب الحارث المحاسبي ومحمد بن منصور الطوسي والسري السقطي، قال الدارقطني: ليس بالقوي، توفي سنة (298). [تاريخ الإسلام، وفيات (291 - 300)].

(2)

قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر (34 - 35)].

قال ابن كثير: أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء، والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب، وكأن المراد بنفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم، واللَّه أعلم، [تفسير ابن كثير (3/ 576)].

(3)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(4)

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران: 190 - 191].

ص: 491

فقلت: هذه أُمَة قد رفع اللَّه عنها الخسف إكراما لنبيها، فقالت: إن رفع عنها خسف المكان فما رفع عنها خسف القلوب، فعرفته وهي في غفلة من صلاته وكرمه، بادر إلى حميتك ودوائك قبل موتك وفنائك. ثم أنشدت:

هلموا بنا نذري الدموع تأسفا

بلاء المعاصي فوق كل بلائي

لعل إلهي أن يمن بجمعنا

فقد طال في سجن الفراق بقائي

فيا مهجتي

(1)

لا تتركي الحزن ساعة

ويا مقلتي هذا أوان بكائي

(1)

المهجة من كل شيء خالصه، ودم القلب والروح جميعها مُهَج.

ص: 492

‌مجلس في كرامات الأولياء وفضلهم

فيه آيات: قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}

(1)

.

تجلى لهم وأكرمهم بنفي الخوف والحزن عنهم، وبين من هم بتقواهم، وأن البشرى في الحياة الدنيا بما يتميزون به من خوارق العادات، ولو وُصفت بهذا لم تنفذ، {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64].

وقال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ}

(2)

الآية.

وكان ذلك في غير أوانه، والهز من باب:{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}

(3)

.

وقال: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}

(4)

الآية.

يقال: كانت تأتيها فاكهة الشتاء في الصيف وعكسه.

وقال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 16] إلى قوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ}

(5)

. ومن ذلك إلهام أم موسى في أمرها ما هو معروف.

(1)

سورة يونس (62 - 64). يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان للَّه وليا {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62] أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] على ما وراءهم في الدنيا، وقال عبد اللَّه بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف: أولياء اللَّه الذين إذا رؤوا ذكر اللَّه. [تفسير ابن كثير (2/ 432)].

(2)

سورة مريم (25) أي وخذي إليك بجذع النخلة، وقيل: كانت يابسة، قاله ابن عباس، وقيل: مثمرة، وقال مجاهد: كانت عجوة. [تفسير ابن كثير (3/ 121)].

(3)

سورة البقرة (260).

(4)

سورة آل عمران (37). قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم: يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لها نظائر كثيرة. [تفسير ابن كثير (1/ 360)].

(5)

سورة الكهف (16، 17). أي إذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير اللَّه، ففارقوهم أيضا بأبدانكم:{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف: 16] أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم فيه {مِرْفَقًا} [الكهف: 16] لأي أمرا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هربا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك، فيقال إنه لم يظفر بهم، وعمي اللَّه عليهم خبرهم. [تفسير ابن كثير (3/ 77)].

ص: 493

ومن ذلك قصة اَصف بن برخيا

(1)

مع سليمان في عرش بلقيس في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}

(2)

.

وكذا قصة ذي القرنين وتمكين اللَّه له ما لم يمكنه لغيره.

ومنه ما أخبر تعالى من العجائب على يد الخضر مع موسى صلى الله عليه وسلم.

وكل هؤلاء ليسوا بأنبياء، وظهورها على أيديهم جائز عقلا، واقع نقلا، وما جاز أن يكون معجزة للنبي جاز أن يكون كرامة للولي، إلا بنحو واله دون واله.

والفارق بين المعجزة

(3)

وبينها التحدي والإظهار بخلاف الكرامة، فإنها مكتومة إلا لمصلحة راجحة أو إذن أو سقوط اختيار.

وكل كرامة ظهرت على يد ولي فهي معجزة لنبي تلك الأمة، ولا تظهر إلا على يد ولي بخلاف السحر، ومنكرها محروم، ومخصصها بمن سلف قول غير معصوم. وما هو إلا كما قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي

(4)

: إسرائيلية صدَّقوا بموسى وكذبوا نبينا، لأنهم أدركوا زمنه.

إذا كنت المكذب يا جهول

عن الآيات تصدقك الحقول

فكن بالفهم ترجع نحو شيء

له الدين المصدق الرسول

بأن الدنيا ما شاء يقضي

قدير ليس يعجزه المهول

(1)

قال ابن عاس: هو كاتب سليمان، وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء، وكان صديقا بعلم الاسم الأعظم، وقال قتادة: كان مؤمنا من الإنس واسمه آصف، وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة إنه كان من الإنس، زاد قتادة من بني إسرائيل، وقال مجاهد: كان اسمه أسطوم، وقال قتادة في رواية عنه كان اسمه بلخيا. [تفسير ابن كثير (3/ 376)].

(2)

سورة النمل (40).

(3)

المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء، وظهور الكرامات على الأولياء جائز عفلا وصدقا طالما أن ذلك معلق بقدرة اللَّه تعالى. والفرق بين المعجزة والكرامة أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بإظهار معجزاتهم، والولي يجب عليه ستر كراماته وإخفاؤها، وليست الكرامات للأولياء إلا تأديبا لنفوسهم وتهذيبا لها وزيادة لهم. [انظر المعجم الصوفي ص 208].

(4)

هو علي بن عبد اللَّه بن عبد الجبار الشاذلي الضرير الزاهد، نزيل الإسكنرية، وشيخ الطائفة الشاذلية، وكان كبير المقدار عالي المنار، له عبارات فيها رموز، صحب الشيخ نجم الدين الأصفهاني وابن مشيش وغيرهما، وحج مرات، ومات بصحراء عيذاب قاصدا الحج، فدفن هناك. قال عطاء في لطانف المنن: سيدي الشيخ أبو الحسن، قطب الزمان والحامل في وقته لواء أهل العيان، حجة الصوفية، علم المهتدين، زين العارفين، أستاذ الأكابر، زمزم الأسرار ومعدن الأنوار. . . . . على آخر كلامه.

ص: 494

ولما أنكر من أنكر

(1)

ركب جابر الرحبي -وليُّ اللَّه- ركب أسدًا ودخل الرحبة، وقال: أين الذين يكذبون بأولياء اللَّه؟ فكفوا.

وأما الأحاديث فيه فلا تنحصر، ولنذكر منها اثني عشر حديثا:

أحدها: حديث أبي محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه

(2)

أن أصحاب الصفة كانوا فقراء، وأنه صلى الله عليه وسلم قال مرة:"من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس" أو سادس، أو كما قال، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر ثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء اللَّه، قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك، أو ضيفك؟ قال: أو عشيتهم؟ قالت: أبَوا حتى تجيء

(3)

، قد عرضوا عليهم فغلبوهم. فذهبت فاختبأت فقال: يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا، قال: لا أطعمه أبدا، قال: وايم اللَّه ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فإذا شيء أو أكثر، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس، قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات.

(1)

الدليل على جواز الكرامات للأولياء أن مريم قيل لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] ومريم لم تكن نبية، والآيات والكرامات ربما تنقضي لوقتها، ولكن أكبر الكراهات هو أن تبدل خلقا مذموما من نفسك بخلق محمود، والصوفية في ذلك يقولون: لو أن رجلا بسط مصلاه على الماء وتربع في الهواء فلا تغتر به حتى تنظر كيف تجدونه في الأمر والنهي. [انظر المعجم الصوفي ص 235].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (602) كتاب مواقيت الصلاة، [42] باب السمر مع الأهل والضيف، ورقم (3581) كتاب المناقب، [25] باب علامات النبوة في الإسلام، ورقم (6140) كتاب الأدب، [87] باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف، ورقم (6141) باب قول الضيف لصاحبه: واللَّه لا آكل حتى تاكل، ومسلم في صحيحه [176 - (2057)] كتاب الأشربة، [32] باب إكرام الضيف وفضل إيثاره.

(3)

هذا فعلوه أدبا ورفقا بابي بكر فيما ظنوه؛ لأنهم ظنوا أنه لا يحصل له عشاء من عشائهم؛ قال العلماء: والصواب للضيف أن لا يمتنع مما أراده المضيف من تعجيل طعام وتكثيره، وغير ذلك من أموره إلا أن يعدم أنه يتكلف ما يشق عليه حياء منه فيمنعه برفق، ومتى شك لم يعترض عليه ولم يمتنع، فقد يكون للمضيف عذر أو غرض في ذلك لا يمكنه إظهاره، فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف، كما جرى في قمة أبي بكر رضي الله عنه، وأما اختباؤه فخوفا من خصام أبيه وشتمه إياه، وقوله:"فجدَّع": أي دعا بالجدع، وهو قطع الأنف وغيره. [النووي في شرح مسلم (14/ 17) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 495

أخرجه الشيخان

(1)

من طرق.

وكذا ما اشتهر عن الصديق أنه أخبر أن حمل امرأته أنثى، فكان كذلك.

ثانيها: حديث جريج الراهب الذي كلمه الطفل في المهد، قال له: يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي. أخرجاه

(2)

أيضا.

الثالث: حديث أصحاب الغار الذين أطبقت عليهم الصخرة، وانفرجت وخرجوا يمشون

(3)

. أخرجاه أيضا.

الرابع: حديث الغلام

(4)

الذي كان يأتي الراهب والساحر.

الخامس: حديث الرجل الذي سمع صوتا في السحاب يقول: اسق حديقة فلان

(5)

وهذا في الصحيح.

السادس: حديث أبي هريرة في قصة خبيب

(6)

، وأنه أكل قطف عنب في بلده

(1)

تقدم تخريجه أوله.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3436) كتاب أحاديث الأنبياء، [50] باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، ومسلم في صحيحه [8 - (2550)] كتاب البر والصلة والآداب، [2] باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها.

قال النووي: قوله: "يا غلام من أبوك؟ قال فلان الراعي" قد يقال إن الزاني لا يلحقه الولد، وجوابه من وجهين: أحدهما: لعله كان في شرعهم يلحقه، الثاني: المراد من ماء من أنت، وسماه أبا مجازا.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5974) كتاب الأدب، [5] باب إجابة دعاء من بر والديه، ومسلم في صحيحه [100 - (2743)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [27] باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال.

قال النووي: استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى اللَّه تعالى به، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم.

(4)

رواه مسلم بطوله في صحيحه [73 - (3005)] كتاب الزهد والرقائق، [17] باب قصة الأخدود والساحر والراهب والغلام.

قال النووي: فيه إثبات كرامات الأولياء، وفيه جواز الكذب في الحرب ونحوها وفي إنقاذ النفس من الهلاك، سواء نفسه أو نفى غيره ممن له حرمة.

(5)

تقدم تخريجه من قبل.

(6)

وذلك في غزوة ذات الرجيع لما استمكنوا منه هو وزيد وباعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنوا الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث يستحد بها فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة، عرف ذاك مني، وفي يده =

ص: 496

وهو موثوق بالحديد، وما بمكة من ثمرة. أخرجه البخاري

(1)

بطوله.

السابع: حديثه أيضا مرفوعا: "إنه كان فيمن كان قبلكم ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" رواه البخاري

(2)

.

وأخرجه مسلم من حديث عائشة.

وفيه قال ابن وهب: مُحَدَّثُون: مُلْهَمُون

(3)

.

وفي البخاري من حديث ابن عمر: ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن.

وصح عنه أنه قال: يا سارية الجبل في حال خطبته يوم الجمعة، فبلغه صوته إليه، وكان بنهاوند

(4)

وفيه كرامتان له، بلوغ صوته، وكشفه له عنه.

الثامن: حديث جابر بن سمرة: لما شكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إلى عمر. . . الحديث، وفيه: فقام رجل يقال له: أسامة بن قتادة، فقال: إن كنت ما علمتك

= الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء اللَّه تعالى، وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب؛ لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقًا رزقه اللَّه. . . . الحديث بطوله في الصحيح.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (4086) كتاب المغازي، [30] باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان وبئر معونة، وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3689) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[6] باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه.

ومسلم في صحيحه [23 - (2398)] كتاب فضائل الصحابة، [2] باب من فضائل عمر رضي الله عنه عن عائشة.

(3)

قال النووي: اختلف تفسير العلماء للمراد بـ "محدثون"؛ فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل مصيبون، وإذا ظنوا فكأنهم حدثوا بشيء فظنوا، وقيل تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية متكلمون؛ قال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم، وفيه إثبات كرامات الأولياء. [النووي في شرح مسلم (15/ 135) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

قال الذهبي في تاريخ الإسلام: بينما عمر رضي الله عنه يخطب إذ قال: "يا سارية الجبل" وكان عمر قد بعث سارية بن زنيم الدئلي على فسا وداربجرد فحاصرهم، ثم إنهم تداعوا وجاءوه من كل ناحية والتقوا بمكان، وكان إلى جهة المسلمين جبل لو استندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم، وأصاب سارية الغنائم، فكان منها سفط جوهر، فبعث به إلى عمر، فرده وأمره أن يقسمه بين المسلمين، وسأل النجاب أهل المدينة عن الفتح، وهل سمعوا شيئا، فقال: نعم، يا سارية الجبل الجبل، وقد كدنا نهلك، فلجأنا إلى الجبل فكان النصر، ويروى أن عمر سئل فيما بعد عن كلامه: يا سارية الجبل فلم يذكره. [تاريخ الإسلام، وفيات سنة (23)].

ص: 497

لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية ولا تغزو في السرية

(1)

.

فقال سعد

(2)

: أما واللَّه لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا، قام رياء وسمعة فأطل عمره وفقره وعرِّضه للفتن. فكان بعد ذلك إذا سُئِلَ يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وكبر حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليعرض للجواري في الطرق فيغمزهن. أخرجاه

(3)

.

التاسع: حديث سعيد بن زيد مع غريمته أروى بنت أوس، وكانت ادعت عليه عند مروان بن الحكم أنه أخذ شيئا من أرضها

(4)

، فدعا عليها، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت

(5)

. أخرجاه.

وفي رواية لمسلم

(6)

أنها عميت وكانت تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة

(1)

غير موجود بالأصل، واستكملناها من تاريخ الإسلام للذهبي.

(2)

جعله عمر أحد الستة أهل الشورى وقال: إن أصابت الخلافة سعدا وإلا فليستعن به الخليفة بعد، فإني لم أعزله من ضعف ولا من خيانة. وسعد كان ممن اعتزل عليا ومعاوية وخطب علي بعد الحكمين فقال: للَّه منزل نزله سعد وعبد اللَّه بن عمر، واللَّه لئن كان ذنبا. يعني اعتزالهما. إنه لصغير مغفور، ولئن كان حسنا إنه لعظيم مشكور. ودخل سعد على معاوية فلم يسلم عليه بالإمارة، فقال معاوية: لو شئت أن تقول غيرها لقلت، قال: فنحن المؤمنون ولم نُؤمرك، فإنك معجب بما أنت فيه، واللَّه ما يسرني أني على الذي أنت عليه وأني هرقت محجمة دم. [تاريخ الإسلام، وفيات (51 - 60)].

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

روى البخاري في صحيحه (2452) كتاب المظالم، [13] باب إثم من ظلم شيئا من الأرض، عن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه رضي الله عنهما يقول: "من ظلم من الأرض شيئا طُوقه من سبع أراضين"، وكذا رواه مسلم في صحيحه [137 - (1610)] كتاب المساقاة، [30] باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.

وقال النووي: وأما التطويق المذكور في الحديث، فقالوا: يحتمل أن معناه أنه يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك، ويحتمل أن يكون يجعل كالطوق في عنقه كما قال سبحانه وتعالى:{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]، وقيل: معناه أنه يطوق إثم ذلك، ويلزمه كلزوم الطرق بعنقه.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (3198) كتاب بدء الخلق، [2] باب ما جاء في سبع أرضين، ومسلم في صحيحه [139 - (1610)] كتاب المساقاة، [30] باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.

(6)

أخرجه مسلم في صحيحه [138 - (1610)] كتاب المساقاة، [30] باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.

ص: 498

سعيد، وإنها مرت على بئر في الدار التي خاصمته فيها، فوقعت فيها، فكانت قبرها

(1)

.

العاشرة: حديث جابر قال: لما حضرت (. . . . . .)

(2)

أخرجه البخاري.

الحادي عشر: حديث أنس، فيه من طرق أن رجلين من الصحابة

(3)

خرجا من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما. فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله، وهما أسيد بن حضير، وعباد بن بشر.

الثاني عشر: حديث البقرة التي حمل عليها صاحبها أو ركب عليها على اختلاف الروايات، فالتفتت إليه وكلمته، وقالت: إني لم أخلق لمثل هذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان اللَّه تعجبا وفزعا، أبقرة تكلم؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر"

(4)

.

قال أبو هريرة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بينا راعٍ في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم

(1)

تقدم تخريجه في أوله.

وفي تحريم الظلم روى مسلم في صحيحه [55 - (2577)] كتاب البر والصلة والآداب، [15] باب تحريم الظلم، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن اللَّه تبارك وتعالى أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. . . . " الحديث بطوله. قال العلماء: معناه تقدست عنه وتعاليت، والظلم مستحيل في حق اللَّه سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدا وليس فوقه من يطيعه؟ وكيف يتصرف في غير ملك، والعالم كله في ملكه وسلطانه، وأصل التحريم في اللغة المنع، فسمي تقدسه عن الظلم تحريما لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء. [النووي في شرح مسلم (16/ 118) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

حديث قدر ثلاثة أسطر غير واضح بالأصل، ثم قال: أخرجه البخاري، وأظنه في كرامة أحد الصحابة.

(3)

هما أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله عنهما وقد أخرجه البخاري في صحيحه (3805) كتاب مناقب الأنصار، [13] باب منقبة أسيد بن حضير وبشر بن عباد رضي الله عنهما وكان أسيد بن حضير أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الأوس يوم بعاث فقتل يومئذ، وذلك قبل الهجرة بست سنين، وكان أسيد بعد أبيه شريفا في قومه وفي الإسلام، يعد من عقلائهم وذوي رأيهم.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3471) كتاب أحاديث الأنبياء، [56] باب، الباب الذي يلي باب حديث الغار، ومسلم في صحيحه [13 - (2388)] كتاب فضائل الصحابة، [1] من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، والحميدي في مسنده (1054)، وذكره البخاري في الأدب المفرد، والألباني في الإرواء (7/ 242)، وأحمد في مسنده (2/ 245)، وعبد الرزاق في مصنفه (20403)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6047).

ص: 499

السبع، يوم ليى لها راع غيري؟ "

(1)

فقال الناس: سبحان اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر"

(2)

.

وجاء أن ابن عمر قال لأسد منع الناس الطريق: تنح، فبصبص بذنبه وذهب، فمشى الناس، فقال ابن عمر: صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من خاف اللَّه خافه كل شيء"

(3)

.

وجاء أيضا أنه صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي

(4)

في غزاة، فحال بينهم وبين الموضع عرضة من البحر، فدعا اللَّه باسمه ومشوا على الماء

(5)

.

وجاء أيضا أنه كان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صفحة، فسبحت، أو سبح ما فيها.

وقال شهر عن عمران بن حصين أنه كان يُسَلِّمُ على الملائكة حتى اكتوى.

وإنما لم تكثر الكرامات من الصحابة لعلو إيمانهم، فلم يحتاجوا إلى محمود

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم في كلام البقرة وكلام الذئب وتعجب الناس من ذلك: "فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر" وما هما ثَمَّ: قال العلماء: إنما قال ذلك ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان اللَّه وكمال قدرته، ففيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفيه جواز كرامات الأولياء وخرق العوائد، وهو مذهب أهل الحق. [النووي في شرح مسلم (15/ 127) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (3663) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم[50] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا"، ومسلم في صحيحه [13 - (2388)] كتاب فضائل الصحابة، [1] باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، والحاكم في المستدرك (4/ 467)، وعبد الرزاق في مصنفه (20404).

(3)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 267)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 136، 8/ 621)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 344، 429)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 306).

(4)

العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد اللَّه بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن مقنع بن حضرموت، حليف بني أمية، وإلى أخيه تنسب بئر ميمون التي بأعلى مكة. وكان العلاء من فضلاء الصحابة، ولاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر وعمر البحرين، وقيل إن عمر ولاه البصرة فمات قبل أن يصل إليها، واستعمل عمر بعد العلاء أبا هريرة على البحرين.

(5)

حدث ذلك لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى البحرين فيما ذكر. عن أبي هريرة قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى البحرين تبعته فرأيت منه ثلاث خصال لا أدري أيتهن أعجب: انتهينا إلى شاطئ البحر فقال: "سمُّوا واقتحموا" فسمينا واقتحمنا فعبرنا فما بل الماء إلا أسفل خفاف إبلنا، فلما قفلنا صرنا بعد بفلاة من الأرض وليس معنا ماء، فشكونا إليه، فصلى ركعتين ثم دعا فإذا سحابة مثل الترس ثم أرخت عزاليها فسقينا واستقينا، ومات بعد ما بعثه أبو بكر إلى البحرين لما ارتدت ربيعة، فأظفره اللَّه بهم، وأعطوا ما منعوا من الزكاة.

ص: 500

بخلاف (. . . . .)(*) فلما (. . . . .)(*) نهايتها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}

(1)

.

وحكي أن بعض العلماء كان يذري (. . . . .)(*) يجده بعد الصبح، وإذا شيخ ومعه فقراء وقد دعوا فقال في نفسه ما شغل هؤلاء إلا الأكل والرقص. فلما رجع الشيخ من الدعوة مر عليه وقال: يا فقيه ما تقول فيمن صلى الصبح وهو جنب، ودرَّس العلم في المسجد، واغتاب فذكر أنه كان عليه جنابة، فحسن اعتقاده بعد ذلك

(2)

فلا يظن بهم إلا خيرا، ولا ينسبهم إلى سحر وشعوذة.

قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}

(3)

بل يتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}

(4)

.

وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}

(5)

.

وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}

(6)

.

(*) كلمات غير واضحة بالأصل.

(1)

سورة مريم (25).

من الكرامات الواردة في كتاب اللَّه مما جاء في قصة مريم عليها السلام: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]، وقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة يرجع إليها في كتب التفسير. وكذلك قوله تعالى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم: 25]، والمعلوم أن النخلة لا يقدر على هزها لإسقاط الرطب عصبة من الرجال الأقوياء، فكيف تفعل ذلك امرأة في حال الولادة والضعف، فهي كرامة ظاهرة.

(2)

التصوف السليم الصحيح كتاب وسنة، دين ودنيا، علم وعمل، ربانية وجهاد وعبادة وأدب وشرع وعقلانية، نظافة قلب وبدن ولسان، وظاهر وباطن، حب ورحمة، بذل وسلام، تعاون على البر والتقوى، وليس تصوف الطبل والزمر والرقص والمواكب والرايات والأوشحة والبدع والمتاجرة بالكرامات والخوارق والعمائم الملونة، ولا تبل ولا تعطل ولا تظاهر. [انظر هامش قطر الولي على حديث الولي (ص 4) من تحقيقا، طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة الأنعام (7).

(4)

سورة العنكبوت (69).

(5)

سورة الحج (34، 35).

قال مجاهد: المطمئنين، وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين، وقال السدي: الوجلين، وقال عمر بن إدريس: المخبتين الذين لا يظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا، وقال الثوري:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} [الحج: 34] قال المطمئنين الراضين بقضاء اللَّه المستسلمين له، وأحسن ما يفسر بما بعده، وهو قوله:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، أي خافت منه قلوبهم. [تفسير ابن كثير (3/ 22)].

(6)

سورة النحل (99). =

ص: 501

وقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)}

(1)

.

وقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}

(2)

.

وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}

(3)

.

ولتحذر أن تكون ممن قال اللَّه تعالى في حقه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}

(4)

.

بذلت النفس في طلب المعالي

معالي المجد في جاه ومال

يا سادتي إن قبلتم مهجتي ودمي

بنظرة في الجمال العالي الغالي

فقد أنلتم جميل الفضل عندكم

وقد ربحت ببيع الدون بالغالي

وقال بعض السادة: أقل عقوبة المنكر على الصالحين احترام بركتهم، ويخشى عليه من سوء الخاتمة.

وقال أبو تراب

(5)

: إنما أَلف القلب الإعراض عن اللَّه صحبة الوقيعة في أولياء اللَّه.

= قال الثوري: ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه، وقال آخرون: معناه: لا حجة له عليهم، وقال آخرون: كقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} .

(1)

سورة التكاثر (1).

(2)

سورة العلق (6، 7).

(3)

سورة الزخرف (36).

يقول تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ} [الزخرف: 36] أي يتعامى ويتغافل ويعرض {عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36]، والعشا في العين ضعف بصرها، والمراد هنا عشا البصيرة {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} [الزخرف: 36] أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم. [تفسير ابن كثير (4/ 128)].

(4)

سورة الكهف (28).

أي شغل عن الدين في عبادة ربه بالدنيا {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28] أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه كما قال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه].

(5)

أبو تراب النخشبي صحب حاتما الأصم وأبا حاتم العطار، وهو من أجلة مشايخ خراسان وكبار المشهورين بالعلم والفتوى والزهد والتوكل والورع، ونخشب هي نسف، بلد من نواحي بلخ، وكان صاحب كرامات، ومن أقواله: ثلاث من مناقب الإيمان: الاستعداد للموت، والرضا بالكفاف والتفويض إلى اللَّه، وثلاث من مناقب الكفر، طول الغفلة عن اللَّه، والطيرة، والحسد، وقال أحمد بن مروان الدينوري: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل قال: جاء أبو تراب، النخشبي إلى أبي، فجعل يقول أبي: فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال أبو تراب: لا تغتب العلماء يا شيخ، فالتفت إليه أبي وقال له: ويحك، هذه نصيحة، وليس هذا غيبة. كان أبو تراب كثير الحج، =

ص: 502

وقال شاه الكرماني

(1)

: ما تعبد متعبد بأكثر من التحبب إلى أولياء اللَّه؛ لأن محبة أولياء اللَّه تؤدي إلى محبة اللَّه تعالى.

‌فصل

وقد وقع من كراماتهم إحياء الموتى كما وقع لأبي عبيد البسري أحد شيوخ الرسالة، فيما حكاه القشيري في رسالته أنه غزا سنة من السنين. فخرج في السرية، فمات المهر الذي كان تحته وهو في البرية، فقال: يا رب أعرنيه حتى نرجع إلى بسر -يعني قريته

(2)

- فإذا المهر قائم. فلما غزا ورجع إلى بلده قال لابنه: يا بني خذ السرج عن المهر، فإنه عارية، فأخذه فمات

(3)

.

وحكى فيها أيضا أن بعض أهل اليمن نفق حماره في الطريق، فتوضأ وصلى ركعتين ثم قال: اللهم إني جئت مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، وإني أشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد على منة اليوم، أطلب إليك أن تبعث حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه.

وحكاه غيره عن الشعبي

(4)

، وفيها أيضا عن محمد بن سعيد البصري قال: بينما أنا أمشي في بعض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا فالتفت فإذا الجمل وقع

= فانقطع ببادية الحجاز فنهشته السباع سنة (245). [تاريخ الإسلام (241 - 250)].

(1)

شاه بن شجاع أبو الفوارس الكرماني الزاهد، قال السلمي: كان من أولاد الملوك فتزهد وصحب أبا تراب النخشبي وغيره، وقال أبو نعيم: كان من أبناء الملوك فتشمر للسلوك.

وقال إسماعيل بن مخلد: كان شاه حادَّ الفراسة، قل ما أخطأت فراسته، ومن أقواله: من عرف ربه طمع في عفوه ورجاء فضله، وتوفي بعد سنة (290) وقيل قبل ذلك، فاللَّه أعلم، ومات بكرمان. [تاريخ الإسلام، وفيات (291 - 300)].

(2)

و

(3)

أبو عبيد البسري، الصوفي الزاهد، واسمه محمد بن حسان الغساني، وحدث عن سعيد بن منصور، وآدم بن أبي إياس، وأبي الجماهر محمد بن عثمان، وجماعة. ساق الذهبي القصة ومعها قصص أخرى عن صيامه لشهير رمضان بلا طعام ولا شراب، ثم قال الذهبي بعد حكاية صيامه هذه: هذه حكاية بعيدة الصحة، وفيها مخالفة السنة بالوصال، وفيها ترك الجمعة للجماعة، وغير ذلك، ذكرتها للفرجة لا للحجة، ثم قال الذهبي في آخر ترجمته: وروى له ابن جهضم حكايات من هذا النمط. مات سنة (260)[تاريخ الإسلام، وفيات (251 - 260)].

(4)

الشعبي هو عامر بن شراحيل، أبو عمرو، علامة أهل الكوفة في زمانه، ولد في وسط خلافة عمر، روى عن علي يسيرًا، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين وعائشة، وأبي هريرة وجرير البجلي وابن عباس وعدي بن حاتم ومسروق وخلق كثير.

مرَّ ابن عمر بالشعبي وهو يقرأ المغازي فقال: كأنه كان شاهدا معنا، ولهو أحفظ لها مني وأعلم. توفي سنة (104)، (105)، (106)، وقيل غير ذلك.

ص: 503

ميتا، ووقع الرجل والقتب، فمشيت، ثم التفت وإذا الأعرابي يقول: يا سبب كل سبب، يا مولى من طلب، رُدَّ عليَّ ما ذهب، محملي والرحل والقتب

(1)

، وإذا الجمل قائم والرحل والقتب فوقه.

وفيها أيضا عن سهل بن عبد اللَّه التستري

(2)

-أحد الأقطاب- قال: الذاكر للَّه على الحقيقة، لو همَّ أن يحيى الموتى لفعل -يعني بإذن اللَّه- ومسح بيده على عليل بين يديه فبرئ أو قام.

وفي رسالة الصيفي بن أبي المنصور أن الشيخ مفرح الدماميلي كان وليا عظيم الشأن، وكان عبدا حبشيا، اصطفاه اللَّه، فلما تكاثرت كراماته أحضر عنده فراخ مشوية فقال لها: طيري، فطارت، أحياها بإذن اللَّه

(3)

.

وقتل خادم سيدي العارف باللَّه الأهدل هرة كانت له اسمها لؤلؤة، وأخفى مكانها فناداها الشيخ فجاءت إليه تجري، فأطعمها.

وتوفي بعض أصحاب الشيخ أبي يوسف الدجاني فجزع عليه أهله. فلما رأى شدة جزعهم جاء إلى الميت، وقال: قم بإذن اللَّه، فقام وعاش بعد ذلك ما شاء اللَّه من الزمان.

ووقع كذلك لشخصين من مشايخ أهل اليمن في اثنين ماتا ثم عاشا بإذن اللَّه. أحدهما رأى ميتا محمولا بعرفة، فقال: من هذا الميت؟ فقيل: فلان، وكان بين يديه طعام، وأقسم باللَّه أنه لا يأكل منه حتى يأتي ذلك الميت ويأكل منه، فوقع كذلك.

والثاني: وقف على ميت في مسجد، وكان قد جرت له معه قصة. فقال: وعزتك يا رب لئن لم تحيه لأكونن جبارا في الأرض، فأحياه اللَّه.

(1)

القتب: الرحل الصغير، على قدر سنام البعير، جمعها أقتاب.

(2)

سهل بن عبد اللَّه بن يونس بن عيس بن عبد اللَّه بن رفيع التستري رحمه الله الإمام العارف، أبو محمد، شيخ الصوفية، صحبه ذو النون المصري قليلا، وكان من أعيان الشيوخ في زمانه، يعد مع الجنيد، وله كلام نافع في التصوف والسنة وغير ذلك، من كلامه: لا معين إلا اللَّه، ولا دليل إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه، وقال: الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك. مات سنة (273).

(3)

أعطى اللَّه تعالى هذا لعيسى صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ} [آل عمران: 49]، وقال تعالى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي (110)} [المائدة: 110] قال ابن كثير: أي تدعوهم فقومون من قبورهم بإذن اللَّه وقدرته ومشيئته [تفسير ابن كثير (2/ 117)].

ص: 504

وجاءت امرأة إلى سيدي قطب العارفين عبد القادر

(1)

-نفعنا اللَّه به- ووهبت ولدها له. ثم جاءت يوما فوجدته يأكل مسلوقة دجاج وعظامها بين يديه، ورأت ولدها يأكل قرص شعير، فقالت له: يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ولدي خبز الشعير؟ فوضع يده على تلك العظام، فقال: قومي بإذن اللَّه الذي يحيى العظام وهي رميم. فقامت الدجاجة سوية وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.

ومرت على مجلسه حدأة

(2)

طائرة في يوم شديد الحر، فصاحت (فشوشت)

(3)

على الحاضرين، فقال: يا ريح خذي رأس هذه الحدأة، فوقعت طوقها في ناحية ورأسها في ناحية. فقام الشيخ من الكرسي وأخذها بيده، وأمرَّ يده عليها وقال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم فمضت وطارت، والناس يشاهدون ذلك.

‌فصل

ووقع منها أيضا كلام الموتى

(4)

.

(1)

هو عبد القادر بن موسى بن عبد اللَّه بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى بن عبد اللَّه بن موسى الجون بن عبد اللَّه المحض بن الحسن، المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان يلبس لبس العلماء ويركب البغلة، ويتكلم على كرسي عالٍ، وقال: بقيت أياما كثيرا لم أستطعم فيها بطعام، فلقيني إنسان فأعطاني صرة فيها دراهم فأخذت منها خبزا سميدا وخبيصا فجلست آكله، فإذا برفعة مكتوب فيها: قال تعالى في بعض كتبه المنزله: إنما جعلت الشهوات لضعفاء خلقي ليستعينوا بها على الطاعات، أما الأقوياء فما لهم وللشهوات، فتركت الأكل وانصرفت. وسئل عن الدنيا فقال: أخرجها من قلبك إلى يدك فإنها لا تضرك. [انظر الطبقات الكبرى (1/ 110)].

(2)

روى مسلم في صحيحه [72 - (1199)] كتاب الحج، [9] باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، عن ابن عمر مرفوعا:"خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام: الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور". وقال النووي: وأما الحدأة فمعروفة، وهي بكسر الحاء مهموزة، وجمعها "حدأ" بكسر الحاء مقصور، وفي رواية "الحُدَيَّا" بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء مكسور، قال القاضي: قال ثابت: الوجه فيه الهمز على معنى التذكير وإلا فحفيقته "حُدَيَّة" وكذا قيده الأصيلي في صحيح البخاري.

(3)

في الأصل: "فشرشت".

(4)

وقع إحياء للموتي وسؤالهم فيما روي عن موسى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. . .} الآيات. وذلك أنه كان رجل من بني إسرائيل عقيم لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول اللَّه فيكم؟ فأتوا موسى صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآيات ثم ضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ قال هذا، لابن أخيه، ثم مال ميتا، فلم يعط من ماله شيئا، فلم يورث قاتل بعد. [مختصرا من تفسير ابن كثير (1/ 108)].

ص: 505

وقد وقع ذلك للشيخ إسماعيل الحضرمي، وأخبر به المحب الطبري لما كان بمقبرة زبيد من بلاد اليمن، وقال صاحب القبر يقول لي: أنا فلان ابن فلان من حشو الجنة.

ومرَّ يومًا على مقبرة ومعه خلق فبكى بكاءً شديدًا، ثم ضحك في الحال. فسئل عن ذلك، فقال: رأيت أهل هذه المقبرة يعذبون، فحزنت لذلك. ثم سألت اللَّه أن يشفعني فيهم فشفعني

(1)

. فقال صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر قريب العهد بالحفر وأنا معهم: يا فقيه إسماعيل أنا فلانة المغنية، فضحكت وقلت: وأنت معهم.

وفي رسالة الأستاذ أبي القاسم أن أبا سعيد الخزاز

(2)

قال: كنت مجاورا بمكة حرسها اللَّه فجزت يوما بباب بني شيبة، فرأيت شابا حسن الوجه ميتا، فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي وقال لي: يا أبا سعيد أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينتقلون من دار إلى دار.

وتكلم الشيخ العارف محمد بن أبي بكر الحكيمي بعد أن انشق قبره

(3)

، وخرج

(1)

قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا، ووجوبها سمعا؛ بصريح قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} ، وقوله:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وأمثالها، وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنن عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48]، وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل.

(2)

أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز من أهل بغداد، وصحب ذا النون المصري وسري السقطي، وبشر الحافي وغيرهم، وهو من أئمة القوم وجلة المشايخ، وقيل إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. ومن كلامه إن اللَّه تعالى عجل لأرواح الأولياء التلذذ بذكره والوصول إلى قربه، وعجل لأبدانهم النهمة بما نالوه من مصالحهم، فعيش أبدانهم عيش الجثمانيين وعيش قلوبهم عيش الروحانيين، وكلن يقول: إذا أراد اللَّه عز وجل أن يوالي عبدا من عببده فتح له باب ذكره، فإذا استلذ بالذكر فتح عليه باب القرب ثم رفعه إلى مجلس الأنس. . . . إلى آخر كلامه. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 78)].

(3)

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} و"كلا" حرف ردع وزجر، أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا تقبل منه. وقوله تعالى:{إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] قال قتادة: واللَّه ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة اللَّه عز وجل، فرحم اللَّه امرأً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار [تفسير ابن كثير (3/ 263)].

ص: 506

إليه منه وهو مشدود الوسط فقال: نحن بعد في الطلب، ومن زعم أنه قد وصل فقد كذب؛ لأنه لا يوصل إلا إلى محدود، واللَّه يتعالى عن النهاية والحدود. ومراده من توهم أنه وصل إلى مقام ليس فوقه مقام فقد كذب لاختلاف المقامات وتفاوت الدرجات.

وفي مناقب قطب العارفين عبد القادر -نفعنا اللَّه به- أنه زار بغداد ومعه جمع من الفقهاء والفقراء، ووقف الشيخ عند قبر الشيخ حماد الدباس

(1)

زمنا طويلا حتى اشتد الحر، والناس واقفون خلفه، ثم انصرف والسرور بَيِّن في وجهه. فسئل عن سبب طول قيامه فقال: كنت خرجت من بغداد في يوم جمعة مع جماعة من أصحاب الشيخ حماد لنصلي الجمعة في جامع الرصافة، والشيخ معنا.

فلما كان عند قنطرة النهر، دفعني فرماني في الماء، وكان في شدة البرد في كوانين

(2)

فقلت: بسم اللَّه غسل الجمعة، وكان على جبة صوف، وفي كمي أجزاء. فرفعت يدي لئلا تبتل وتركوني وانصرفوا، فخرجت من الماء وعصرت الجبة، وتبعتهم وقد تأذيت بالبرد أذى كثيرًا (. . . .)

(3)

في أصحابه فنهرهم وقال: إنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا لا يتحرك. فإني رأيته اليوم في قبره وعليه حلة من جوهر، وعلى رأسه تاج من ياقوت، وفي يده أساورة من ذهب، وفي رجليه نعلان من ذهب، ويده اليمنى لا تطيعه. فقلت: ما هذا؟ قال: هذه يدي التي رميتك بها فهلا سامحتني على فعلي ذلك؟ قلت: نعم.

قال: فاسأل اللَّه تعالى أن يردها علي، فوقفت أسأل اللَّه في ذلك، وقام خمسة آلاف من أولياء اللَّه في قبورهم يسألون اللَّه أن يقبل مسألتي فيه، ويشفعون عندي في تمام المسألة، فما زلت أسأل اللَّه في مقامي ذلك حتّى ردَّ اللَّه يده، وصافحني بها وقد تم سروره.

(1)

حماد بن مسلم الدباس، هو أحد العلماء الراسخين في علوم الحقائق، انتهت إليه رياسة تربية المريدين، وانعقد عليه الإجماع في الكشف عن مخفيات الموارد، وانتمى إليه معظم مشايخ بغداد وصوفيتهم في وقته، وهو أحد من صحب الشيخ عبد القادر وأثنى عليه، وروى كراماته، ومن كلامه: القلوب ثلاثة: قلب يطوف في الدنيا وقلب يطوف في الآخرة، وقلب يطوف بالمولى لا في المولى، فمن طاف في المولى تزندق. وكان يقول: طهر قلبك باليقين لتجري في الأقدار، وكان يقول أقرب الطرق إلى اللَّه تعالى حبه، ولا يصفو حبه حتى يبقى المحب روحا بلا نفى، وما دام له نفى لا يذوق قط محبة اللَّه أبدًا.

(2)

يقصد به شهور البرد: كانون أول وكانون الثاني، وهما ديسمبر ويناير، وفيهما شهري كيهك وطوبة، ويكون فيهما البرد شديدا.

(3)

كلمة غير واضحة بالأصل.

ص: 507

فلما اشتهر هذا ببغداد اجتمع المشايخ والصوفية من أهل بغداد من أصحاب الشيخ حماد

(1)

وتبعهم خلق كثير من الفقراء، وأتوا المدرسة، فلم يتكلم منهم أحد إجلالا للشيخ، فبدأهم بمرادهم، وقال لهم اختاروا رجلين من المشايخ نبيِّن لهم ما ذكرته على لسانهما.

فأجمعوا على الشيخ أبي يعقوب الهمداني

(2)

والشيخ أبي محمد الكردي. وقالوا له: أمهلناك في بيان ذلك على لسانهما جمعة، ففال لهم: بل ما تقومون من مقامكم حتى نحقق لكم الأمر، وأطرق وأطرقوا، فصاح الفقراء من خارج المدرسة.

وإذا الشيخ يوسف أبو يعقوب قد جاء حافيا مشتدا في عدوه حتى دخل المدرسة وقال أشهدني اللَّه الساعة الشيخ حماد وقال لي: أسرع إلى مدرسة الشيخ عبد القادر

(3)

وقل للمشايخ الذين فيها: صدق عبد القادر فيما أخبر به عني، فلم يتم كلامه حتى جاء الآخر، وأخبر بذلك، فقام المشايخ كلهم يستغفرون للشيخ عبد القادر، وكان بعض الصالحين يأتي قبر والده في بعض الأحيان، ويتحدث معه ويسمع بعض قرايب الشيخ الصالح بن عجيل يقول في قبره سورة النور والنجم.

والأصفهاني طلع في جنازة بعض الصالحين، فلما جلس بعض الناس من أهل العلم يُلَقِّن الميت

(4)

ضحك - وإن لم يكن ذلك عادة له، فسئل عن ذلك فقال:

(1)

وكان يقول أقرب الطرق إلى اللَّه تعالى حبه، ولا يصفو حبه حتى يبقى المحب روحا بلا نفس، وما دام له نفس لا يذوق قط محبة اللَّه أبدًا، وكان يقول: أزل الهوى من القدر تعرف، وأزل الهوى من الخلق وأمر تخلص، وعلى قدر ما عندك من الأمر تسلم، وبقدر ما عندك من القدر تعرف.

(2)

هو أبو يعقوب يوسف بن أيوب الهمداني أحد الأئمة، وانتهت إليه تربية المريدين بخراسان، واجتمع عنده بخانفاته من العلماء والصلحاء جماعة كثيرة، وانتفعوا به وبكلامه، وقال إبراهيم الحوفي: كان الشيخ يوسف الهمداني يتكلم على الناس فقال له فقيهان كانا في مجلسه: اسكت فإنما أنت مبتدع، فقال لهما: اسكتا لا عشتما فماتا مكانهما. توفي رحمه الله سنة (535)[الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 117)].

(3)

قال ابن الأحض: كنا ندخل على الشيخ عبد القادر في الشتاء وقوة برده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية والعرق يخرج من جسده، وحوله من يروح بمروحة كما يكون في شدة الحر، وكان يقول لأصحابه: اتبعوا ولا نبتدعوا، وأطيعوا ولا تخالفوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا ولا تتمزقوا، وانتظروا ولا تيأسوا، واجتمعوا على الذكر ولا تتفرقوا، وتطهروا عن الذنوب ولا تتلطخوا، وعن باب مولاكم لا تبرحوا. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 111)].

(4)

روى مسلم في صحيحه [1 - (916)] كتاب الجنائز، [1] باب تلقين الموتى لا إله إلا اللَّه. وقال النووي: معناه من حفره الموت، والمراد ذكَّروه "لا إله إلا اللَّه" ليكون آخر كلامه كما في الحديث:"من كان آخر كلامه: "لا إله إلا اللَّه" دخل الجنة" والأمر بهذا التلقين أمر ندب.=

ص: 508

سمعت صاحب القبر يقول: ألا تعجبون من ميت يُلَقن حيًا؟!

‌فصل

ووقع منها أيضا انفلاق البحر

(1)

وجفافه.

كما روي أنه مات بعض الفقراء في سمية، فأرادوا إلقاءه في البحر، فانشق نصفين ونزلت السفينة إلى الأرض، فحفر له قبر ودفن. ثم استوى الماء وارتفعت السفينة.

وفي رسالة الأستاذ عن بعضهم مثله، وقال: فصار البحر جافا.

‌فصل

ووقع منها انقلاب الأشياء، كانقلاب الحصى جواهر وذهبا، وانقلاب البحر الأجاج عذبًا، ولبعضهم الرمل سويقًا وسكرا، والاسطوانة ذهبا وفضة

(2)

، وحب الباذنجان ذهبا، ونشارة الخشب دقيقا، والحطب ذهبا، وغير ذلك مما هو مشهور عنهم، ووقع لبعضهم انقلاب الخمر سمنا، كما وقع للشيخ العارف عيسى الهناد وقد زوج بغيَّة ثابت

(3)

على يديه لبعض الفقراء وقال: اعملوا الوليمة عصيدة، ولا تشتروا

= وأجمع العلماه على هذا التلقين وكرهوا الإكثار عليه، والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله شدة كربه فيكوه ذلك بقبله ويتكلم بما لا يليق، قالوا: وإذا قاله مرة لا يكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام أخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه، ويتضمن الحديث الحضور عند المحتضر لتذكيره وتأنيسه وإغماض عينيه والقيام بحقوقه، وهذا مجمع عليه. [النووي في شرح مسلم (6/ 194) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

حدث هذا مع موسى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} [الشعراء: 63] قال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقا، لكل سبط طريق، وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حيله كالحيطان، وبعث اللَّه الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض، قال تعالى:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، [تفسير ابن كثير (3/ 348)].

(2)

كان ابن عباس يحدث أن اللَّه تعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة معه جبريل فقال الملك: "إن اللَّه يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا نبيا، فالتفت النبي إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تواضع، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "بل أكون عبدا نبيا" قال فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا حتى لقي ربه تعالى. [انظر تاريخ الإسلام للذهبي في السيرة العطرة، باب زهده صلى الله عليه وسلم].

(3)

قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] الآية.

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رقم (1421) كتاب الزكاة، [16] باب إذا =

ص: 509

لها أدما. فأراد بعض من لا معرفة عنده أن يفضحهم، فأرسل إليه قارورتين مملوءتين خمرا، فخضهما الشيخ وصبهما، ثم قال للرسول: اجلس فكل، فأكل سمنا، فأرسل إلى من سلمهما فأكل وتاب.

واشتهر عن كثير منهم أنه يأكل طعاما طيبا لم يتغير عن حاله من سماطات شوهدت كلها دما عبيطا، ما عدا الذي يأكل منه.

وطلب بعض الناس من بعض الأولياء ولدا

(1)

ذكرًا فطلب منه الفقراء مائة دينار، فأحضرها، ثم جاء بعد مدة، قال يا سيدي إنها أتت بأنثى، فقال الشيخ: الدنانير ناقصة، كمِّلها يكمل لك، فكملها ثم راح فوجده ذكرا.

ومر الشيخ عبد القادر -نفعنا اللَّه به- يوم جمعة، فإذا بالطريق ثلاثة أحمال خمر للسلطان

(2)

ومعها صاحب الشرطة والأعوان، فقال لهم الشيخ قفوا، فلم يفعلوا، وأسرعوا في سوق بالدواب، فقال الشيخ للدواب: قفي، فوقفت وضُرِبَت فلم تتحرك، وأخذهم القولنج، فتابوا فزال عنهم، وانقلب الخمر خلا.

فبلغ الخبر السلطان، فزار الشيخ وتاب عن كثرة المحرمات

(3)

.

= تصدق على غني وهو لا يعمم، وفيه:"فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. . . . " ثم قال: "وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها"، ورواه مسلم في صحيحه [78. (1022)] كتاب الزكاة، [34] باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها.

(1)

قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} . يخبر تعالى أنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49]: أي يرزقه البنات فقط، قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)} [الشورى: 49]، أي يرزقه البنين فقط، قال البغوي: كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 50]، أي ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى، أي من هذا وهذا، قال البغوي: كمحمد صلى الله عليه وسلم {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50]، أي لا يولد له، قال البغوي: كيحيى وعيسى عليهما السلام. [تفسير ابن كثير (4/ 121)].

(2)

روى مسلم في صحيحه [78 - (49)] كتاب الإيمان، [20] باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان عن أبي سعيد: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "فبقلبه" معناه فليكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير مه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه.

(3)

ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه، ومما يتساهل أكثر انناس فيه من هذا الباب، إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيا أو نحوه فإنهم لا ينكرون ذلك ولا يُعَرِّفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نص العلماء على أنه =

ص: 510

وروى بعضهم قال: بينما أنا أسير في فلاة من الأرض، إذا برجل يدور بشجرة شوك ويأكل منها رُطبا، فسلمت عليه فقال: وعليك السلام، تقدم وكل، فتقدمت، فكلما أخذت رطبا عادت شوكا، فتبسم وقال: هيهات، لو أطعمته في الخلوات، أطعمك الرطب في الفلوات.

‌فصل

ووقع فيها أيضا، زوى الأرض

(1)

لهم من غير حركة منهم، وهو كثير - وهو أفضل من الطيران في الهواء، والمشي على الماء، والحظوة للدنيا.

وقد كان بعضهم في جامع طرسوس، واشتاق إلى زيارة الحرم، فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجها فإذا هو في الحرم.

واجتمع جماعة في بعض البلدان البعيدة في يوم عرفة، فاغتسلوا وأحرموا، ثم سجدوا سجدة مكثوا فيها ما شاء اللَّه، ثم رفعوا رؤوسهم، وإذا هم ينظرون الجمال سائرة من منى إلى عرفة.

وعن سهل بن عبد اللَّه التستري

(2)

أنه توضأ في يوم جمعة وتخطى الناس إلى الصف الأول، وإذا بشاب حسن المنظر، طيب الرائحة عليه أطمار

(3)

صوت، فقال: كيف تجدك يا سهل؟ قلت: بخير، وتعجبت من معرفته لي، فبينما أنا كذلك إذ أخذني عزق بول، وخفت التخطي (. . . .)

(4)

فالتفت إليَّ وقال: يا سهل أخذك عزق البول؟ قلت: نعم، فنزع إحرامه من منكبه، فغشاني به حتى قال: اقض

= يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشتري به واللَّه أعلم [النووي في شرح مسلم (2/ 22) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

روى الترمذي في سننه (3441) كتاب الدعوات، عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول اللَّه إني أريد أن أسافر فأوصني، قال:"عليك بتقوى اللَّه والتكبير على كل شرف" فلما أن ولى الرجل قال: "اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر"، ورقم (3434) عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فركب راحلته قال بإصبعه "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا بنصحك واقلبنا بذمة، اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر. . . . " الحديث.

(2)

قال سهل: أصولنا ستة أشياء: التمسك بالقرآن، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، والتوبة وأداء الحقوق. وعن سهل: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق، ومن اشتغل بالفضول حرم الورع، ومن ظن السوء حرم اليقين، فإذا حرم من هذه الثلاثة هلك. وعنه قال: من أخلاق الصديقين ألا يحلفون باللَّه، ولا يغتابون ولا يغتاب عندهم، ولا يشبعون بطونهم، وإذا وعدوا لم يخلفوا، ولا يمزحون أصلا. [تاريخ الإسلام، وفيات (281 - 290)].

(3)

الطِّمْر: الثوب الخلق البالي، جمعها أطمار.

(4)

كلمة غير واضحة.

ص: 511

حاجتك، وأسرع، فغُمِيَ عليَّ، وفتحت عيني، وإذا بباب مفتوح، فدخلت، وإذا هو قصر عال. فتطهرت، فنزع إحرامه عني. فصليت، ثم تبعته، فقال يا سهل

(1)

من أطاع اللَّه أطاعه كل شيء، يا سهل اطلبه تجده، ثم غاب عني فلم أره.

ويحتمل نقله من حكاية.

وقد اشتهر عن الشيخ مفرح الدماميلي أنه رآه بعض أصحابه يوم عرفة بعرفة، ورآه بعض أصحابه في مكانه لم يفارقه، فحلف كل منهما بالطلاق

(2)

من زوجته أنه كما ذكر، فاختصما إلى الشيخ، فلم يجبهما.

لأن الولي إذا تحقق في ولايته، ومُكِّن من التصور في روحانيته يعطى من القدرة أن يُتَصَوَّر في صور عديدة في وقت واحد في جهات متعددة، فلا محال إذا.

ويؤيده أن الكعبة المعظمة شوهدت تطوف بجماعة من الأولياء في أوقات، وفي أمكنة غير مكانها.

وقد شوهد قضيب البان يصلي أربع ركعات في أربع صور، فلما سلم الإمام ضحك في وجه الفقيه الذي بجانبه، وقال له: أي الأربعة صلى معكم هذه الصلاة.

وبهذا سُمَّوا أبدالا

(3)

على أحد القولين؛ لأنهم إذا غابوا تبدل في مكانهم صور روحانية تخلُفه.

وقد وقع لسيدي عبد القادر

(4)

مثل ذلك، وأنه حضر في مجلسه أبو المعالي

(1)

قال سهل ابن عد اللَّه: من أراد الدنيا والآخرة فليكتب الحديث؛ فإن فيه منفعة الدنيا والآخرة. قلت. أي الذهبي: هكذا كان مشايخ الصوفية في حرصهم على الحديث والسنة، لا كمشايخ عصرنا الجهلة البطلة الأكلة الكسلة. [انظر تاريخ الإسلام، وفيات (281 - 290)].

(2)

روى مسلم في صحيحه [3 - (1646)] كتاب الإيمان، [15] باب النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى، عن ابن عمر مرفوعا:"ألا إن اللَّه عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فيحلف باللَّه أو ليصمت". قال النووي: قال العلماء: الحكمة في النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى أن الحلف يقتضي تحظيم المحلوف به وحقيقة العظمة مختمة باللَّه تعالى، فلا يضاهى به غيره.

(3)

البدل في اللغة: الخلف والعوض، واحد الأبدال عند الصوفية، والأبدال عند الصوفية وجمعها أبدال، والأبدال إحدى طبقاتها يزعمون أنه إذا ذهب بدل من الأبدال حل محله آخر.

(4)

كان أبو الفتح الهروي يقول: خدمت الشيخ عبد القادر أربعين سنة فكان في مدتها يصلي الصبح بوضوء العشاء، وكان كلما أحدث جدَّد في وقته وضوءه ثم يصلي ركعتين، وكان يصلي العشاء ويدخل خلوته، ولا يُمكِّن أحدا أن يخلها معه، فلا يخرج منها إلا عند طلوع الفجر، ولقد أتاه الخليفة يريد الاجتماع به ليلا فلم يتيسر له الاجتماع إلى الفجر. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 110)].

ص: 512

التاجر، وأنه حصل له حقنة شديدة فنزل إليه الشيخ من كرسيه مرقاة ظهر عليها رأس، ثم نزل أخرى، فظهر كتفان وصدر، وما زال ينزل مرقاة مرقاة حتى تكمل الكرسي صورة كصورته يتكلم على الناس بصوت كصوته، وجاء يشق الناس حتى وقف عليه، وغطى رأسه بكمه أو بمنديله، وإذا هو بصحراء فيها نهر عند شجرة.

فعلق مفاتيح كانت في كفه، فأزال حقنته، وتوضأ وصلى ركعتين، فلما سلم رفع الشيخ الغطاء عنه، فإذا هو في المجلس، وأعضاؤه مبتلة بالماء

(1)

ولا حقنة به، والشيخ يتكلم على الكرسي، كأن لم ينزل، وتفقد مفاتيحه فلم يجدها معه، ثم بعد مدة جهز قافلة لبلاد العجم، وساروا من بغداد أربعة عشر يوما، ونزلوا منزلا في استراحة فيها نهر، فإذا بمفاتيحه معلقة على الشجرة.

فعاد على الشيخ فأمسك بأذنه وقال: لا تخبر به وأنا حي

(2)

.

قال بعض السادة، فما الشأن في الطيران، إنما الشأن في أخوين أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، فيشتاق كل منهما إلى زيارة الآخر فيجتمعان وكل واحد منهما على سجادة، ويتحدثان ثم يعودان إلى مكانهما من غير حركة منهما.

وأخبرني بعض ثقات المقادسة عن بعض الأولياء من أهل حماة أنه قال: لي صاحبان إذا طلبت أحدهما ناديته من تحت الحصير، فإذا هو بالباب، والآخر يمر بخاطري، فإذا هو بالباب، ومن زوى البحر لهم ما وقع لابن الأزهر أنه قال: مكثت مدة أسأل اللَّه أن أرى أحد رجال الغيث، فرأيت في المنام كأني زرت قبر الإمام أحمد، وعنده رجل وقع في نفسي أنه منهم، فاستيقظت وأتيت قبر الإمام أحمد، وإذا هو بعينه، فتبعته، فلما وصل دجلة التقى كل طرفاها فعبرها، فأقسمت عليه أن يقف ليكلمني، فوقف، فقلت له: ما مذهبك؟ فقال: {حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} فوقع عندي أنه حنفي المذهب

(3)

، فجئت أخبر به الشيخ عبد القادر، فناداني من

(1)

علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ بالأسباب، فأخذ حذره وتجهز في هجرته من مكة إلى المدينة، وسار إلى جنوب مكة لخداع المشركين، ولجأ إلى الغار وكان له من ينقل له الأخبار ويحضر لهم الزاد، واتخذ دليلا في هجرته، إلى غير ذلك، هكذا علمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(2)

لا بد من شروط للولي، وهي الاتصاف بمحامد الأخلاق من التقوى والإيمان، ولا بد أن تتسع الآفاق لأصحاب الولاية مما يأتون به، ولكن مع اعتبار أن كل ما يظهر منهم ليس من باب الكرامة، يل ربما تكون غواية من الشيطان، أو إضلالا من بعض الجان، وعلامة الولي أن يكون مؤدبا للفرائض والواجبات وترك المحرمات والتقرب إلى اللَّه بفعل المستحبات وترك المكروهات.

(3)

أول من دون الفقه والقانون الإسلامي أبو حنيفة النعمان، قال المكي في المناقب: أبو حنيفة =

ص: 513

داخل داره: ما في المشرق والمغرب في هذا الوقت وليٌّ للَّه حنفي سواه.

‌فصل

ووقع لهم أيضا انفجار الماء كما وقع لأبي تراب النخشبي

(1)

فيما رواه الأستاذ في رسالته أن بعض أصحابه قال له بطريق مكة: أنا عطشان، فضرب برجله الأرض، فإذا عين ماء زلالي، فقيل له: إنا نحب أن نشربه في قدح، فضرب بيده الأرض وناوله قدحا من زجاج أبيض، فما زال معنا.

وجاء السيد أبو عبد اللَّه القرشي

(2)

إلى بئر من آبار منى بركوته وهو عطشان، فرمى بركوته وضرب بيده فأخذها، فوجدها في بركة ماء حلو، فاستقى وأسقى، وأعلم أصحابه فلم يجدوا لها أثرا.

وركز بعض الفقهاء عكازه، فنبع الماء

(3)

من تحتها وملئ.

‌فصل

ووقع لهم أيضا كلام الجمادات والحيوانات لهم.

من ذلك الحكاية المشهورة عن محمد بن المبارك الصوري في مخاطبة شجرة الرمان

= أول من دون علم هذه الشريعة لم يسبقه أحد قبله؛ لأن الصحابة والتابعين لم يضعوا في علم الشريعة أبوابا مبوبة، وكتبا مرتبة، وإنما كانوا يعتمدون على فهمهم، وكانت قلوبهم صناديق علومهم، ونشأ أبو حنيفة بعدهم فرأى العلم منتشرا فخاف عليه من ضياعه بعدهم، فدونه أبو حنيفة أبوابا مبوبة وكتبا مرتبة، فهو أول واضع لدستور أساسي مبني على الأدلة الشرعية، وكان يسمح لكل من أصحابه أن يجتهد بحرية مطلقة، ويظهر رأيه، ويبحث بكل دقة وإمعان، فإن اتفقوا على حكم فذلك وإلا كان موكولا إلى رأيه.

(1)

من كلامه رحمه الله: لا ينبغي لفقير قط أن يضيف إلى نفسه شيئا من المال قط، ألا ترى إلى موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال:{هِيَ عَصَايَ} [طه: 18]، وادعى الملك لها قال اللَّه عز وجل:{أَلْقِ عَصَاكَ} فلما قلب العين فيها لجأ وهرب، فقيل أرجع ولا تخف. وكان يقول رأيت رجلا بالبادية فقلت له من أنت؟ فقال: أنا الخضر الموكل بالأولياء، أرد قلوبهم إذا شودت عن اللَّه عز وجل. يا أبا تراب التلف في أول قدم، والنجاة في آخر قدم. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 71)].

(2)

كان أبو عبد اللَّه القرشي جليل القدر، وكان يعظم الفقراء أشد التعظيم، ويقول إنهم انتسبوا إلى اللَّه تعالى، وكان يقول: ما رأبنا أحدا قط أنكر على الفقراء وأساء بهم الظن إلا ومات على أسوأ حالة، وكان يقول: احتقار الفقراء سبب لارتكاب الرذائل، وكان يقول: من غص من عارف باللَّه أو ولي ضرب في قلبه ولا يموت حتى يفسد معتقده.

(3)

أحاديث نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم تقدم تخريجها من قبل.

ص: 514

لإبراهيم بن أدهم

(1)

في طريق بيت المقدس، وقولها له: يا أبا إسحاق أكرمنا بأن تأكل منا، قالت ذلك ثلاثًا، وكانت شجرة قصيرة، ورمانها حامضا، وتحمل في السنة مرة، فلما أكل منها صارت طويلة، ورمانها حلوا، وتحمل في السنة مرتين، فسموها رمانة العابدين لإيوائهم إلى ظلها.

وقال الشبلي

(2)

: عقدت أن لا آكل إلا من الحلال، فكنت أدور في البراري، فرأيت شجرة تين، فمددت يدي إليها لآكل، فنادتني الشجرة: احفظ عليك عقدك، ولا تأكل مني، فإني ليهودي.

وقال أبو عبد اللَّه القرشي

(3)

بينما أنا أسير على بعض السواحل إذ خاطبني حشيشة، أنا شفاء هذا المرض الذي بك، فلم أتناول منها ولم أستعملها.

وعن بعضهم أنه قال: كلمني جمل بالطريق، طريق مكة، رأيت الجمال والمحامل عليها، وقد مدت أعناقها ليلا. فقلت: سبحان اللَّه، من يحمل عنها ما هي فيه؟ فالتفت إليَّ جمل فقال لي: قل جل اللَّه، فقلت: جل اللَّه.

وعن بعضهم أنه كان يضرب رأس حمار تحته، فرفع الحمار رأسه وقال: اضرب أو لا تضرب، إنما تضرب على رأسك.

وشاهد ذلك الحديث الصحيح بكلام البقرة

(4)

التي كلمت صاحبها، وقالت:

(1)

إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن حابر، أبو إسحاق العجلي، وقيل التيمي البلخي الزاهد، أحد الأعلام، قال يونس بن سليمان البلخي: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه شريفا كثير المال والخدم والجنائب والبزاة، بينما إبراهيم يأخذ كلابه وبزاته للصيد وهو على فرسه يركضه إذ هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم ما هذا العبث؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} اتق اللَّه وعليك بالزاد ليوم الفاقة، قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا. [تاريخ الإسلام، وفيات (1611 - 170)].

(2)

الشبلي هو أبو بكر بن جحدر، ومكتوب على قبره جعفر بن يونس، خراساني الأصل، بغدادي المولد، وصحب أبا القاسم الجنيد ومن عاصره من المشايخ، وصار أوحد الوقت علما وحالا وظرفا، وتفقه على مذهب الإمام مالك، وكتب الحديث الكثير، عاش سبعا وثمانين سنة، ومات سنة (334)، ودفن ببغداد في ممّبرة الخيزران، وتبره فيها ظاهر، وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحد.

(3)

كان رحمه الله يقول: الزم العبودية وآدابها، ولا تطلب بها الوصول إليه، فإنه إذا أرادك له أوصلك إليه، وأي عمل خلص حتى تطلب به الوصول؟ وكان يقول: أبت البشرية أن تتوجه إلى اللَّه تعالى إلا في الشدائد، نقيل له في ذلك، قال: عطشت مرة في طريق الحاج فقلت لخادمي: اغرف لي من البحر المالح، فغرف لي ماء حلوا، فلما ذهبت الضرورة غرفت فإذا هو مالح. [لطبقات الكبرى للشعراني (1/ 138)].

(4)

رواه: البخاري في صحيحه (3471) كتاب أحاديث الأنبياء، [56] باب يلي باب حديث الغار، =

ص: 515

إنما خلقت للحرث، وقال في آخره: آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر

(1)

وهذا لما قال الناس: سبحان اللَّه، أبقرة تتكلم؟ وعن أبي الربيع المالقي، قال: قيض اللَّه لي طائرا في بعض الأسفار يبيت يسامرني، فكنت أسمعه الليل كله ينطق: يا قدوس يا قدوس، فإذا أصبح صفق بجناحيه، وقال: سبحان الرزاق، وطار.

وعن بعضهم أنه كان يأتيه طير بمكة ويحادثه، فلما كان ذات يوم أتاه وقال له: موعدي وموعدك الشام.

فاجتمع به بعد ذلك في الشام، وبشر طير أبا مسلم

(2)

بسلامة السرية وقدومها.

‌فصل

ووقع لهم أيضا إبراء العلل.

وهو كثير جدا، ومنها إبراء يعقوب بن الليث الولي على يد سهل

(3)

بعد إطلاقه كل من كان في سجنه، وقال: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة. فعرض مالًا عليه، فأبى قبوله، فعوتب، فنظر إلى الحصى في الصحراء، فإذا هي جواهر. فقال: من أُعطي مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب؟!

ومن ذلك ما روي عن السري السقطي

(4)

قال: مررت ببعض الجبان، فإذا أنا

= عن أبي هريرة قال: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس فقال: "بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث" فقال الناس: سبحان اللَّه، بقرة تتكلم؟ فقال: فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وكذا رواه مسلم في صحيحه [13 - (2388)، كتاب فضائل الصحابة، [1] باب من فضائل أبي بكر الصديق.

(1)

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم في كلام البقرة وكلام الذئب وتعجب الناتس من ذلك: "فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر وما هما ثَمَّ: قال العلماء: إنما قال ذلك ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان اللَّه وكمال قدرته، ففيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفيه جواز كرامات الأولياء وخرق العوائد، وهو مذهب أهل الحق. [النووي في شرح مسلم (15/ 127) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

أبو مسلم الخولاني: كان على جانب عظيم كبير من العبادة حتى لو قيل له إن جهنم لتُسَعَّر لما استطاع أن يزيد في عمله شيئا، وكلان يترك الأكل ويقول: الخيل إنما تجري وهي ضمر، وكان يقول: من شد رجليه في الصلاة ثبت اللَّه رجليه على الصراط. [انظر الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 25)].

(3)

له كلام نافع في التصوف والسنة وغير ذلك، فنقل أبو القاسم التميمي في الترغيب والترهيب من طريق أبي زرعة الطبري: سمعت ابن درستويه صاحب سهل بن عبد اللَّه يقول: قال سهل. ورأى أصحاب الحديث فقال: اجتهدوا أن لا تلاقوا اللَّه إلا ومعكم المحابر. [تاريخ الإسلام للذهبي (281 - 290)].

(4)

سري السقطي كان أوحد أهل زمانه في الورع والأحوال السنية وعلم التوحد، وهو أول من =

ص: 516

بجمله زَمِنًا وعميا ومرضا، فسألتهم عن حالهم فقالوا: ههنا رجل يخرج في السنة مرة يدعو لهم فيجدون الشفاء.

فضرب له حتى خرج ودعا لهم، فشفوا، فتعلقت به، وقلت: علة باطنة فما دواؤها؟ قال يا سري خل عني، فإنه غيور، لا يراك تسكن إلى غيره فتسقط من عينه.

ومنها الحكاية المشهورة عن الزَّمْنَاء التي سألت بحرمة ضيفها أن تعافى منها، فقامت تمشي باقي الليل، فلما رآى أهلها ذلك طلبوا الضيف، وكان صبيا حمالا في السوق، بات عندهم، فلم يجدوه، والأبواب مغلقة.

ودعي سيدي عبد القادر إلى منزل تاجر، وقيل له: بحق جدك إلا ما حضرت، فقال: حتى يؤذن لي، ثم سكت ساعة، وقال: نعم، فحضر، فمد السماط ووضع في آخر سلة. ولم يأكل أحد، ثم أمر بإحضار السلة، وإذا فيها ولد الداعي أكمه

(1)

مقعد مجذوم مفلوج

(2)

فقال له الشيخ: قم بإذن اللَّه معافى، فغدا لا عاهة به، فصاح الحاضرون، فخرج الشيخ ولم يأكل شيئا.

ووقع مثل ذلك في ميعاده، امتحنه به بعض الرافضة

(3)

فعوفي، وماتوا ومات في ذلك المجلس ثلاثة، ومات في بعض مجالسه سبعة.

وجاء شخص إلى أحمد بن عجيل العارف، وفي يده سلعة

(4)

فقال: ادع اللَّه أن يزيلها عني وإلا ما بقيت أحْسِن ظني بأحد، فقال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه

(5)

، ومسح على يده وربطها فزالت.

= تكلم في بغداد، وإليه ينتمي أكثر المشايخ ببغداد، ومن أقواله: خصلتان يبعدان العبد من اللَّه تعالى: أداء نافلة بتضييع فريضة، وعمل بالجوارح من غير صدق بالقلب، وكان ينشد كثيرا ويقول:

لا في النهار ولا في الليل لي فرح

فما أبالي أطال الليل أم قصرا

لأنني طول ليلي هائم دنف

وبالنهار أقاسي الهم والفكرا

(1)

كَمِهَ الرجل كمها: عِميَ، فهو أكمه، وهي كمهاء.

(2)

الفالج: شلل يصيب حد شقي الجسم طولا، وفلج الرجل أي أصابه داء الفالج، فهو مفلوج.

(3)

الرافضة فرقة من الشيعة تجيز الطعن في الصحابة، سموا بذلك لأنهم رفضوا نصح زيد بن علي؛ حيث نهاهم عن الطعن في الشيخين أبي بكر وعمر، جمعها روافض.

(4)

السَلعة: زبادة تحدث في العنق وغيره من الجسد، تكون قدر الحمصة أو أكبر، جمعها: سلع.

(5)

رواه: البخاري في صحيحه (6384) كتاب الدعوات، [52] باب الدعاء إذا علا عقبة، عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قل لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فإنها كنز من كنوز الجنة".

ص: 517

‌فصل

ووقع لهم أيضا إطاعة الأشياء؛ فكثير منهم حرسته السباع، وبعضهم حمل عليها زاده، وبعضهم حطبا، منهم أبو الخير بن جميل العارف، فإن أسدا افترس حماره، فقال: وعزة المعبود ما أُخطي خطوة إلا على ظهرك، فخضع وحمله.

ووقع ذلك لابن شعوانة

(1)

أيضا، وقال: باللَّه يا أماه إلا ما وهبتيني للَّه، فقالت: إنك لا تصلح الآن، فلما رأت ذلك منه قالت: الآن صلحت لذلك.

وروي أن شاهًا الكرماني

(2)

خرج يتصيد، وإذا بشاب راكب على أسد، وحوله جماعة منهم، فلما رأوه ابتدروه، فزجرهم، ثم جاءت عجوز بماء فشرب الشاب، ثم أسقى شاهًا. فقال: هذه الدنيا، وكَّلها اللَّه أن تخدمني، فما احتجت لشيء إلا أحضرته حين يخطر ببالي، أما بلغك أن اللَّه تعالى لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه

(3)

ووعظه. وكان ذلك سبب توبته وخروجه من الملك

(4)

.

والحكاية المشهورة في الفقهاء الذين عابوا على الإمام في لحنه، وحصل لهم جنابة، فنزلوا فاغتسلوا، وإذا الأسد على ثيابهم حتى جاء الإمام فزجره وقال: أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر فقط.

وكانت السباع تأوي إلى بيت سهل فيطعمها.

(1)

شعوانة كانت لا تفتر عن البكاء فقيل لها في ذلك قالت: واللَّه لو أردت أن أبكي حتى تنقطع دموعي ثم أبكي دما حتى لا يبقى جارحة في جسدي فيها دم. وكانت تقول: من لم يستطع البكاء فليرحم الباكين؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بنفسه وما جنى عليها وما هو سائر إليه. وكانت تبكي وتقول: إلهي إنك لتعلم أن العطشان من حبك لا يروى أبدا. وكان الفضيل بن عاض يأتيها ويتردد إليها ويسألها الدعاء. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 57)].

(2)

أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني، كان من أولاد الملوك، صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري، وكان من أجل القيان وعلماء هذه الطائفة، وله رسالات مشهورة، ومن صحبك ورافقك على ما يحب وخالفك يما يكره فإنما صحبك لهواه، فهو طالب بصحبتك راحة الدنيا لا غير. وكان يقول: لأهل الفضل ما لم يروه فإذا رأوه فلا فضل لهم، ولأهل الولاية ولاية ما لم يروه فإذا رأوه فلا ولاية لهم.

(3)

أخرجه الفتني في تذكرة الموضوعات (175).

(4)

ومن أقواله: من نظر إلى الخلق بعينه طالت خصومته معهم، ومن نظر إليهم بعين اللَّه عذرهم، وقل اشتغاله بهم، قلت. أي الذهبي: كلامه هذا إن صح عنه فغير مسلم إليه، بل ينبغي أن يرحمهم في خصومته ومخاصمتهم في رحمته، وليس للعباد عذر ولا حجة بعد الرسل. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (291 - 300)].

ص: 518

وجاء إبراهيمَ الخواصَّ

(1)

سبُعْ يعرج، فأزال عنه ما يكره، فعاوده ومعه شبلاه، فبصبصا له وحملا بين يديه رغيفين.

وشوهد أن حية كانت تنش على ابن أدهم

(2)

بالنرجس وهو نائم في البستان فطيبته.

كانت تأتي بعضهم فيشرب من لبنها في بعض البراري.

وطيور كانت تؤانسهم في البراري، وتحمل إليهم أنواع الثمار.

وقال الفقيه إسماعيل الحضرمي يوما لخادمه وهو في سفر: قل للشمس تقف له حتى يصل إلى منزله وكان في مكان بعيد، وقد قرب غروبها. فقال الخادم: قال لك الفقيه إسماعيل قفي له، فوقفت حتى بلغ مكانه، ثم قال للخادم: أما تطلق ذاك المحبوس، فأمرها الخادم بالغروب، فغربت، فأظلم الليل في الحال.

ومن طاعة الجن

(3)

لهم أن شخصا جاء إلى سيدي عبد القادر، ذكر أن ابنة له اختطفت فقال له: اذهب إلى خراب الكوخ، وخط دائرة في الأرض، وقل: بسم اللَّه على نية عبد القادر، فإذا كان فحمة العشاء فسيمر بك طوائف من الجن

(4)

فلا

(1)

إبراهيم بن أحمد، أبو إسحاق الخواص الزاهد، شيخ الصوفية بالري، كان من أكابر مشايخ الطرق، أخذ عنه جعفر الخالدي وغيره، وله تصانيف في التصوف. عنه قال: من أراد اللَّه للَّه بذل له نفسه وأدناه من قربه، ومن أراد اللَّه لنفسه أشبعه من جنانه ورواه من رضوانه وفي تاريخ الصوفية: عن عمر بن سنان المنجبي قال: مر بنا إبراهيم الخواص وقال: لقيني الخضر فسألني الصحبة فخشيت أن يفسد عليَّ سر توكلي بسكوني إليه ففارقته. [تاريخ الإسلام، وفيات (8/ 360)].

(2)

إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر، أبو إسحاق العجلي، وقيل التميمي البلخي الزاهد، أحد الأعلام، وسئل ابن المبارك: ممن سمع إبراهيم بن أدهم؟ قال: قد سمع من الناس، ولكن له فضل في نفسه، صاحب سرائر، ما رأيته يظهر تسبيحا ولا شيئا من الخير ولا أكل مع قوم إلا كان آخر من يرفع يده. وعن أبي حاشم: سمعت أبا نعيم: سمعت الثوري يقول: إبراهيم بن أدهم كان شبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة لكان فاضلا. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (161 - 170)].

(3)

روى البخاري في صحيحه (4808) كتاب تفسير القرآن، [2] باب قوله:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} [ص: 35] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت عليَّ البارحة -أو كلمة نحوها- ليقطع عليَّ الصلاة، فأمكنني اللَّه منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان:{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قال روح: فرده خاسئا.

(4)

قال النووي فيما رويَ في البخاري قبل هذا، وكذا رواه مسلم في كتاب المساجد، [8] باب جواز لعن الشيطان أثناء الصلاة رقم (39): فيه دليل على أن الجن موجودون، وأنهم قد يراهم =

ص: 519

يهولنك، فإذا كان السحر أتاك ملكهم، ويسألك، فقل له: بعثني عبد القادر إليك، فاذكر له حاجتك، ففعل فأتاه الملك، وقال: يا إنسي ما حاجتك؟ قلت: بعثني الشيخ عبد القادر إليك، فنزل عن فرسه وقبل الأرض، وجلس خارج الدائرة، وقال له: ما شأنك؟ فلما أخبره، وأخذها مارد من الصين، وضرب عنقه وقال: إن اللَّه إذا أقام قطبا مكنه من الإنس والجن.

‌فصل

وروي أن بعض الملوك الكفار قال لبعض الشيوخ أظهر لي آية وإلا قتلت الفقراء، فأظهر له البعر ذهبا، والركوة الفارغة مملوءة ماء، وتُلَّتْ على أعلاها، فلا يسقط منه شيء، فقيل: هذا سحر. فدخل النار حال وجده

(1)

.

في السماع، وخرج منها ومعه ابن الملك في يده تفاحة، والأخرى رمانة، وأخبر الولد أنه كان في بستان، وقيل هذا أيضا سحر.

فأُسقِي سما

(2)

فتقطع ما عليه من الثياب، ثم ألقى عليه أخرى، وهكذا مرات، فتقطعت وخرج عرقا، فآمن إذ ذاك.

وامتحن بعض المشايخ وطبخ لهم لحم ميتة ولحم مُذَكَّى. فقام الشيخ وجعل المذكى للفقراء، والميتة إلى جهة الملك وقال: الخبيث للخبيث والطيب للطيب.

وقدم بعضهم طعاما غير طيب لسيدي الشيخ أبي العباس المرسي

(3)

ليمتحنه،

= بعض الآدميين، وأما قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فمحمول على الغالب، فلو كانت رؤيتهم محالا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال من رؤيته إياه، ومن أنه كان يربطه لينظروا إليه كلهم ويلعب به ولدان أهل المدينة. [النووي في شرح مسلم (5/ 26) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

من مصطلحات الصوفية "وجد": والوجد مكاشفات من الحق، والوجد وجدان: وجد ملك، أي أن يملك إذا وجدك، ووجد لقاء وكل وجد تجده فهو وجد لقاء، وكل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، وقالوا: المتواجدون ثلاثة أصناف في تواجدهم: فصنف منهم المتكلمون والمتشبهون وأهل الدعاية، ومن لا وزن لهم. وصنف منهم الذين يستدعون الأحوال الشريفة بالتعرض بعد قطع العلائق المشغلة والأشباب القاطعة. [المعجم الصوفي (58)].

(2)

روى يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال: قالوا لخالد: احذر الأعاجم لا يسقونك السم، فقال: ائتوني به، فأتي به، فاقتحمه وقال: بسم اللَّه، فلم يضره شيئا، ومن أصحها عنه ما رواه ابن عساكر عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت خالد بن الوليد أُتي بسم فقال: ما هذا؟! قالوا سم. فقال: بسم اللَّه، وشربه. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (21)].

(3)

أحمد أبو العباس المرسي، كلان من أكابر العارفين، وكان يقال إنه لم يرث علم الشيخ أبي الحسن الشاذلي غيره، وهو أجل من أخذ عنه الطريق ولم يضع عنه شيئا من الكتب، وكان يقول: =

ص: 520

فقال له: إن كان على يد الحارث المحاسبي

(1)

عرق يضرب عليه إذا لم يكن الطعام طيبا، فعلى يدي ستون عرقا كذلك فاستغفر اللَّه.

وقصة مزيد الدين مع البرهمي الذي ارتفع في الهواء، فارتفع إليه نعلي الشيخ ولم يزل يضرب رأسه ويصفعه حتى وقع على الأرض منكسا.

مشهورة:

وكذا قصة الشيخ بهاء الدين السدي صاحب السهر، وروي مع البرهمي الذي جاء إليه، وارتفع في هواء مجلسه فارتفع الشيخ حينئذ في الهواء، ودار في جوانب المجلس فأسلم البرهمي لعجزه عن ذلك لقدرتهم على الارتفاع دون الدوران.

وكذا قصة البرهمي مع ابن خفيف

(2)

قال له: تعال نصبر على الطعام أنا وأنت أربعين يوما، فعجز ووفى ابن خفيف.

وكذا قصته معه في المكث مدة في الماء، فمات وصبر الشيخ.

ورعى بعضهم جماعة من أهل الخير في مكان واقع كيدا لهم، فباتوا ليلتهم أجمع، فلما خرج الشيخ بجماعته قال للدار: هذا وقتك فوقعت.

واستأذنت بعض نساء الأمراء زوجها للخروج ليلا، فخرجت وخرج خلفها إلى أن حضرت سماعا فرأى النساء

(3)

بقرب الرجال فأنكر، ثم إنه أخذه حرقان بول،

= علوم هذه الطائفة علوم تحقيق وعلوم التحقيق لا تحملها عقول عموم الخلق، وكذلك شيخه أبو الحسن الشاذلي لم يضع شيئا، وكان يقول: كتبي أصحابي - توفي رحمه الله سنة (686). [الطبقات الكبرى للشعراني (2/ 12)].

(1)

الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد اللَّه البغدادي الصوفي الزاهد العارف، صاحب المصنفات في أحوال القوم، قال الخطيب: وله كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة والرد على المعتزلة والرافضة. قال الجنيد: مات والد الحارث يوم مات وإن الحارث لمحتاج إلى دانق، وخلف مالا كثيرا، فما أخذ منه الحارث حبة، وقال: أهل ملتين لا يتوارثان، وكان أبوه واقفيا، يعني يقف في القرآن لا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق. وقال ابن مسروق: سمعت الحارث يقول: ثلاثة أشياء عزيزة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة. توفي سنة (243). . [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (241 - 250)].

(2)

أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف الضبي رحمه الله، أقام بشيراز، وهو شيخ المشايخ وأوحدهم في وقته، كان عالما بعلرم الظاهر والحقائق، وحسن الأحوال في المقامات والأحوال، وجميع الأخلاق والأعمال، وكان يقول: التصوف تصفية القلوب ومفارقة أخلاق الطبيعة وإخماد صفات البشرية ومجانبة الدعاوى النفسانية ومنازلة صفات الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة والنصح لجميع الأمة، وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة. توفي رحمه الله سنة (371). [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 103)].

(3)

روى البخاري في فضائل عمر، وكذا مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن =

ص: 521

فقعد للبول فوجد فرجه فرج امرأة، فتحير، فلما فرغ السماع قال له الشيخ: هكذا يكون الفقراء إذا جلس لهم النساء، فاستغفر اللَّه ودعا له الشيخ، فعاد إلى حالته.

واشتهر في بلاد اليمن أن غِلْمان السلطان جاءوا إلى أرض لبعض الشيوخ ليمسحوها لأجل الخراج السلطاني، فخرجت عليهم منها ثعابين، فولوا هاربين وتركوه، ووقع ذلك لبعض أولاد أولاده.

وأُخِذَت بقرة لهم فالتوى ثعبان على من أراد حلبها فردها.

وأشيع عن بعض الشيوخ موت السلطان فبعث إليه وقال: أنا إذًا حي، فقال: إنما قال هذا الشيخ الفلاني وهو كما قال، ثم خرج فوقعت الدار على السلطان فمات، وقيل قتل.

ولما قيل للشيخ أبي المغيث إن بعض الملوك قتل خادمه بسبب أنه ضرب بعض غلمان السلطان قال: وللحراسة أنا أنزل على الميسان، يعني خُصَّ الحارس، وأنزل الزرع، فقتل السلطان في الحال، فجاء ولده المظفر مستغفرًا جاعلًا نعله على رأسه، فقال له الشيخ: ما تطلب؟ قال: المُلك. قال: ولَّيتك فاستقر سلطانا.

وحصل لبعض أصحاب الشيخ محمد بن عمر النهاوي اليمني عدوان من بعض ملوك العرب. فاستغاث بالشيخ، فكتب إليه بما ينعى نفسه فمات بعد جمعة.

ومشى الشيخ على الطواسي اليمني إلى صلاة الجمعة فسبَّه

(1)

شخص فأراد بعض أصحابه التعرض إليه، فقال الشيخ: دعوه، معه ما يكفيه، فاشتعلت فيه نار في الحال.

‌فصل

عن بعض الصالحين قال: خرجت يوما أقصد البرية على نية السلعة والخلوة مع اللَّه. فسرت ثلاثة أيام، فلما كان الرابع أدركني في باطني قلق وزيادة حركة في

= عمر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب. . . الحديث بطوله. قال النووي: قال العلماء: معنى يستكثرنه، يطلبن كثيرا من كلامه وجوابه بحوائجهن وفتاويهن، وقوله: عالية أصواتهن، قال القاضي: يحتمل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن علو أصواتهن إنما كان باجتماعها لا أن كلام كل واحدة بانفرادها أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم.

(1)

روى مسلم في صحيحه [32 - (2564)] كتاب البر والصلة والآداب، [10] باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد اللَّه إخوانا. . . . " الحديث.

ص: 522

ظاهري. فبينما أنا كذلك لم أشعر إلا برجلين كهلين حسنين سلما عليَّ فرددت عليهما السلام، فقالا لي: ما اسمك؟ فقلت عبد اللَّه، فقال أحدهما: ونحن عبيد اللَّه نقصد اللَّه، فمشينا جميعا، فلما كان وقت الظهر، نظر إليَّ أحدهما وقال: هو الوقت؟ قلت نعم.

فقال: فصلِّ إماما.

قلت: تحملا عني ذلك. فصلى بنا أحدهما وتركع كل واحد منا، فقدَّم الذي أَمَّ بنا طبقا عليه قطف من عنب وتين لم أر أحسن منه، وقال: بسم اللَّه، فأكلنا ومشينا، فلما كان اليوم الثاني صلى بنا الآخر إماما، ثم حضر مثل ذلك فأكلنا وانصرفنا.

فلما كان اليوم الثالث صليت بهما وقلت: اللهم إنك ولي النعم من غير استحقاق، وأنا عبدك الضعيف غير مستحق للنعم، قد رجعت إليك فيما أقصده، إنك على كل شيء قدير

(1)

، وإذا بالطبق بعينه وفيه رمان بزيادة، فأكلنا ثم انصرفنا، ثم أقمنا على ذلك أربعين يوما، كل يوم كذلك.

فلما كان بعدها قالا: (الخليفة)

(2)

عليك اللَّه. قلت: وعليكما. وانصرف كل منا، ولم يسأل صاحبه عن شيء، ثم بقيت بعد ذلك مدة، والنعم متوافرة زائدة وللَّه الحمد.

‌فصل

عن محمد بن المبارك الصوري، قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، فسمعت صوتا من أصلها: يا أبا إسحاق أكرمنا بأن تأكل منا شيئا، فطأطأ إبراهيم رأسه

(3)

فقال ذلك الصوت ثلاثا: يا محمد كن شفيعا إليه ليتناول منا.

فقلت: يا أبا إسحاق لقد سمعت، ققام وأخذ رمانتين فأكل واحدة وناولني

(1)

قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37].

(2)

كذا بالأصل.

(3)

قال إبراهيم بن بشار: بينما أنا وإبراهيم بن أدهم وأبو يوسف الغسولي وأبو عبد اللَّه السنجاري متوجهين إلى الإسكندرية فصرنا إلى نهر الأردن، فقعدنا نستريح، فقرب أبو يوسف كسَيْرَات يابسة، فأكلنا وحمدنا اللَّه، وقام بعضنا ليسقي إبراهيم فسارعه فدخل في الماء إلى ركبتيه ثم قال: بسم اللَّه، وشرب ثم حمد اللَّه، ثم خرج فمد رجليه ثم قال: يا أبا يوسف لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السرور والنعم إذًا لجالدونا عليه بأسيافهم. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (161 - 170)].

ص: 523

الأخرى، فأكلتها، وهي حامضة، وكانت شجرة قصيرة. فلما رجعنا من زيارتنا إذ هي شجرة عالية، ورمانها حلو، وتثمر في كل عام مرتين. وسميت رمانة العابدين لإيوائهم إلى ظلها.

‌فصل

قال بعضهم: كنت مع ذي النون

(1)

بالبادية، فنزلنا تحت شجرة أم غيلان فقلنا: ما أطيب هذا الموضع لو كان فيه رطب. فتبسم ذو النون وقال: تشتهونه؟ فحركها وقال: أقسمت عليك بالذي ابتداك وخلقك إلا نثرت علينا رطبا جنيا.

ثم حركها، فنثرت رطبا جنيا، فأكلنا وشبعنا. ثم نمنا وانتبهنا، وحركناها، فنثرت علينا شوكا.

‌فصل

قال بعضهم: دخلت على أبي علي أبي الخير فناولني تفاحتين فجعلتهما في جيبي وقلت: لا آكل منهما شيئا، وأتبرك بهما. فكانت تجري علي أوقات ولا آكلهما حتى أجهدتني الطاقة. فأخرجت واحدة فأكلتها، ثم أدخلت يدي لأخرج الأخرى، فإذا بالتفاحتين مكانهما، فما زلت آكل منهما حتى دخلت الموصل. فجزت على خراب، وإذا بعليل ينادي من داخل الخراب: أشتهي تفاحة، ولم يكن تفاح، فأخرجت التفاحتين فدفعتهما إليه فأكل ومات، فعلمت أن الشيخ إنما أعطاهما من أجله.

‌فصل

عن بعضهم قال: كنت جالسا بمسجد المدينة ومعي رجل من أهل البحرين يقال له خير، فدخل من باب المسجد سبعة أنفس، فقال لي خير: الحق القوم، لا يفوتوك، فإنهم أولياء اللَّه، فقمت خلفهم، فإذا هم عند قبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

قال يوسف بن الحسين حضرت مع ذي النون مجلس المتوكل، وكان مولعا به، يفضله على العُبَّاد والزهاد، فقال: يا أبا الفيض صف لي أولياء اللَّه، قال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم اللَّه النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من أردية كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته، ونشر لهم المحبة في قلوب خليقته، ثم أخرجهم وقد ودع القلوب ذخائر الغيوب، فهي معلمة بمواصلة المحبوب، فقلوبهم إليه سائرة، وأعينهم إلى عظيم جلاله ناظرة. . . . إلى آخر كلامه.

(2)

روى البخاري في صحيحه: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، وفي رواية "ما بين =

ص: 524

فتقدمت إليه، فالتفت واحد منهم، فداخلني الرعب حتى (بلت)

(1)

، فخرج القوم وخرجت، فقال لي واحد منهم دعه لعل اللَّه يجبره فيلحق بالقوم. قال: فسرت معهم، فكنت ونحن نسير في الجبال كأن الأرض والجبال تطوى، وللأرض دوي، ونرى الكنوز تظهر وتغيب إلى أن وصلنا إلى وادٍ كثير الشجر والنبات، وإذا بأقوام يصلون بواد نحوا من سبعين رجلًا، فبتنا فيه، فلما أصبحنا وطلعت الشمس قمنا فإذا نحن بمدينة عليها سور أسس من حجارة، قطعته واحدة، ونهر عظيم يدخل إليها وليس بالمدينة باب إلا من الموضع الذي يدخل منه الماء، وعليه شباك من ذهب.

فدخلنا إليها جميعا، ونحن مائة رجل فإذا فيها قباب من ذهب وتحتها عمد من ذهب وفضة، وفيها أنهار من ذهب يجري فيها الماء، وأشجار بين القباب مثمرة وأرضها مغروس بالريحان، وفيها طيور من كل نوع وثمار كثيرة. وزن كل تفاحة نحو خمسة أرطال بالبغدادي، وتلك الفاكهة

(2)

تشبه فاكهة الدنيا طعما ولونا ورائحة، فأكلنا من التفاح وغيره.

وكان أحدنا يأكل في الوقت مائة ومائتين ولا يشبع من التفاح والسفرجل والرمان والكمثرى، ومن كل نوع من الثمار إلا النخل.

فأقمنا بها أربعين يوما ليس لنا فيها عمل إلا الصلاة والأكل، ولا نحتاج إلى وضوء ولا شرب ماء ولا نوم

(3)

.

= بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، وكذا رواه مسلم. وقال النووي: ذكروا في معناه قولين: أحدهما: أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة. والثاني: أن العبادة فيه تؤدي إلى الجن، قال الطبري في المراد ببيتي هنا قولان: أحدهما: القبر، قاله زيد أسلم كما رويَ مفسرا "بين قبري ومنبري" والثاني: المراد: بيت سكناه على ظاهره، وروي: "بين حجرتي ومنبري" قال الطبري: والقولان متفقان؛ لأن قبره في حجرته، وهي بيته. [النووي في شرح مسلم (9/ 137) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

هكذا بالأصل.

(2)

قال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)} [الطور: 22].

وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} [الواقعة: 20 - 21].

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)} [المرسلات: 41 - 42].

وقال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68].

(3)

هذا في الآخرة، روى مسلم في صحيحه [22 - (2837)] كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، [8] باب في دوام نعيم أهل الجنة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا،. . . . " الحديث، وفي رقم [18 - (2835)]، [7] باب في صفات الجنة وأهلها عن جابر مرفوعا:"عن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون".

ص: 525

فلما كان بعدها خرجنا منها فأخذت ثلاث تفاحات فلم يمنعوني، فخرجنا من موضع دخولنا وسرنا ساعة، فقالوا: أين تريد نوديك؟ قلت: إلى موضعي.

وسألتهم عن اسم المدينة، فقال واحد منهم هذه مدينة الأولياء، خلقها اللَّه نزهة لأوليائه في الدنيا، فمرَّة تظهر لهم باليمن، ومرة بالشام، ومرة بالكوفة، ولم يبلغ هذه المدينة من لم يبلغ الأربعين غيرك، فلما كان بعد ساعة انتهينا إلى موضع فقلت ما هذا الموضع؟ فقال: اليمن. وكنت آخذ من التفاح قطعة فما أحتاج إلى طعام أياما كثيرة، ولم يزل معي التفاح، آكل منه حتى قدمت مكة فأعطيت الكتاني

(1)

منه واحدة. فلقيني في اليوم الثاني فقال: لم فعلت هذا، ولم حدثت بما رأيت؟ قد أخذنا ما أعطيت الكتاني ورجعناه مكانه، فلقيت الكتاني فقال: كانت عندي في حُق فذهبت لآكل منها فلم أجدها.

‌فصل

عن بعضهم قال: سافرت شرقا وغربا في طمع أن أكتحل بالبدلاء، فوافيت ساحل البصرة عشيا فتيامنت

(2)

الطريق، وقربت منه لأكون قريبا من الماء، فرأيت عشرة نفر قعودا على السجادات لم أر معهم الركاء

(3)

والآلات التي تكون مع الصوفية، فقاموا واستقبلوني وعانقوني، ثم جلسوا مطرقين لا ينظر بعضهم إلى بعض إلى وقت الغروب. فقام واحد منهم ودخل البحر، ولم أعلم كيف كان حاله، غير أنه أتى بإحدى عشرة سمكة مشوية، ولم أر نارا ولا حطبا. فقام واحد منهم وطرح عند كل واحد سمكة، وتفرد هو بسمكة أعظمها، ثم تفرقوا، واشتغل كل واحد بحاله.

فلما دنا الصبح أذن وصلوا جماعة، وأخذوا سجادتهم ومشوا على الماء، فأراد خادمه الذي جاء بالسمك واختص بأعظمها أن يتبعهم فغاص في البحر، فالتفتوا إليه وقالوا يا فلان من خاننا فليس منا، فتحسر على فراقهم، فأخذت الركوة ومشيت وتركته في موضعه.

(1)

الكتاني: هو أبو بكر بن محمد بن علي بن جحفر الكتاني، أصله من بغداد، وصحب الجنيد والنوري وأبا سعيد الخراز، وأقام بمكة وجاور بها إلى أن مات سنة (322) وكان أحد الأئمة المشار إليهم في علم الطريق، وكان يقول: كن في الدنيا ببدنك وفي الآخرة بقلبك، ونظر مرة إلى رجل شيخ كبير يسأل الناس فقال، هذا رجل ضيع أمر اللَّه في صغره فضيعه اللَّه في كبره، وكان يقول الشهرة زمام الشيطان ومن أخذ بزمام الشيطان كان عنده، وكان المرتعش يقول: الكتاني سراج الحرم.

(2)

أي أخذ يمين الطريق في السير.

(3)

الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء ويطلق على الدلو الصغير.

ص: 526

‌فصل

قال الشيخ عبد اللَّه العباد: إني كنت في مسجد عبادان بعد صلاة العشاء، وفي الصف ثلاثة نفر قد صلوا معنا، ثم خرجوا نحو البحر، فوقع لي أنهم أولياء، فتبعتهم.

فلما جاءوا إلى البحر امتد لهم فيه مثل الشراك من فضة، فمروا عليه

(1)

، فوضعت وجلي لأتبعهم فغاصت في الماء، فقعدت أبكي، ثم انصرفت إلى المسجد، فلما كان وقت الصبح إذا هم في الصف الأول، فجلسوا في المسجد إلى أن صلوا العشاء ثم خرجوا نحو البحر، فجرى كما جرى لي ولهم أولا، فقعدت أبكي، فمضوا وانصرفت إلى المسجد.

فلما كان في اليوم الثالث إذا بهم في الصف الأول، فقلت لنفسي: يا نفس منك أنفت، لو كان فيك خير لمررت معهم، وعلم اللَّه صدقي، فمروا في الماء فمررت معهم.

وأخذ واحد منهم بيدي، وإذا بهم سبعة أنفس، كل ثلاث ليال ينزل عليهم سبع سمكات، وكانت الليلة ثالثة، وإذا بمائدة عليها ثمان سمكات، فقعدت معهم آكل، فقلت لواحد منهم: لو كان لنا ملح؟ فقال لي: أُوه أنت منهم؟! فأخذ بيدي ولم أرهم.

‌فصل

عن إبراهيم بن أدهم قال: مررت براعي غنم، فقلت له: هل عندك شربة من ماء أو من لبن؟ قال: نعم، أيهما أحب إليك؟

قلت: الماء، فضرب بعصاه حجرًا صلدًا لا صدع فيه، فانبجس الماء

(2)

، قال: فشربت منه، فإذا هو أبرد من الثلج وأحلى من العسل، فبقيت متعجبًا، فقال الراعي: لا تعجب فإن البد إذا أطاع مولاه أطاعه كل شيء.

(1)

حدث هذا للعلاء الحضرمي لما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى البحرين واعترضهم الماء فسموا اسم اللَّه وعبروا عليه، وقد تقدم فانظره.

(2)

قال تعالى في أمره لموسى صلى الله عليه وسلم: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)} [البقرة: 60] قال ابن عباس: جعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى. صلى الله عليه وسلم عصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من كل ناحية منه، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها. [تفسير ابن كثير (1/ 100)].

ص: 527

‌فصل

روى عن الحسن

(1)

قال: خرج سلمان إلى المدائن ومعه ضيف، فإذا بصنانير في الصحراء وطيور في الهواء، فقال: ليأتيني (صفر)

(2)

وطير منكن سمينان، فقد جاءني ضيف

(3)

فأحب إكرامه. فجاء كلاهما، فقال الرجل: سبحان اللَّه، أو قد سخر لك هذا الطير في الهواء؟! فقال: أتتعجب من هذا؟ ما من عبد أطاع اللَّه إلا أطاعه خلقه.

‌فصل

عن بعض أصحاب أبي تراب

(4)

قال: كنا معه في طريق مكة، فعدل عن الطريق إلى ناحية، فقال بعض أصحابه: يا سيدي أنا عطشان. فضرب برجله الأرض، فإذا عين ماء زلال، فقال: الفتى أحب أن أشربه في قدح. قال: فضرب بيده الأرض فناوله قدحا من زجاج أبيض كأحسن ما رأيت، فشرب وسقانا، وما زال القدح معنا إلى مكة.

‌فصل

عن بعض الصالحين رحمهم الله قال: كنت مع إبراهيم بن أدهم رحمه الله على ساحل البحر، فانتهينا إلى غيضة

(5)

فيها حطب كثير يابس. فقلت: يا إبراهيم لو

(1)

الحسن البصري رحمه الله غني عن التعريف، وروى عن جمع من الصحابة منهم عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وأبي بكرة والنعمان بن بشير وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر وغيرهم.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

روى مسلم في صحيحه [15 - (48)] كتاب اللقطة عن أبي شريح العدوي رفعه: "الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة. . . . " الحديث.

قال النووي: قال العلماء: معناه الاهتمام به في اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر ولا يزيد على عادته، وإما ما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك. [النووي في شرح مسلم (12/ 28) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

قال: يوسف بن الحسن: كنت مع أبي تراب بمكة فقال: أحتاج إلى كيس دراهم، فإذا رجل قد صب في حجره دراهم فجعل يفرقه على من حوله، وكان فيهم فقير يتراءى له أن يعطيه شيئا، فما أعطاه شيئا، ونفدت الدراهم، وبقيت أنا وأبو تراب والفقير، فقال له: تراءيت لك غير مرة فلم تعطني شيئا، فقال له: أنت لا تعرف المعطي. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (241 - 250)].

(5)

غاض الماء غيض: نزل في الأرض وغاب فيها، والغيضة: الأجمة والموضع يكثر فيه الشجر =

ص: 528

أقمنا الليلة، ههنا وأوقدنا من هذا الحطب؟ فقال: افعلوا، وأوقدنا وكان معنا خبز فأكلنا، فقال واحد منا: ما أحسن هذا الجمر

(1)

لو كان لحم نشويه؟ فقال إبراهيم بن أدهم: إن اللَّه عز وجل قادر على أن يطعمكموه.

قال: فبينما نحن كذلك إذا بأسد يطرد إيلا، فلما قرب منا وقع فاندق عنقه.

فقال إبراهيم: اذبحوه فقد أطعمكم اللَّه. فشوينا من لحمه والأسد ينظر إلينا. رحمه الله ونفعنا به.

‌فصل

عن الأستاذ أبي القاسم الجنيد

(2)

رحمه الله قال: حضرت إملاك

(3)

بعض الأبدال من الرجال ببعض الأبدال من النساء، فما كان في جماعة من حضر إلا من ضرب بيده النوى، فأخذ شيئا وطرحه من در وياقوت وما أشبهه، قال الجنيد فضربت بيدي فأخذت زعفرانا فطرحته، فقال الخضر صلى الله عليه وسلم: ما كان في الجماعة من أهدى ما يصلح للعرس غيرك.

‌فصل

عن سعيد بن يحيى البصري رحمه الله قال: أتيت عبد الواحد بن زيد رحمه الله وهو جالس في ظل فقلت له: لو سألت اللَّه عز وجل أن يوسع عليك الرزق لرجوت أن يفعل

(4)

.

فقال: ربي أعلم بمصالح عباده، ثم أخذ حصى من الأرض ثم قال: اللهم إن شئت أن تجعلها ذهبا، فألقاها إليَّ وقال: أنفقها أنت، فلا خير إلا في الآخرة.

= ويلتف، جمعها غياض، وأغياض، والمغيض المكان الذي يغيض في الماء.

(1)

الجمرة: القطعة الملتهبة من النار، والحصاة الصغيرة، واحدة الجمرات التي يرمى بها في منى، وهنا قطع ملتهبة من النار بعد إشعال الحطب.

(2)

الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم النهاوندي الأصل البغدادي القواريري الخزاز، قال أبو نعيم: أنا الخلدي كتابة قال: رأيت الجنيد في النوم فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار. وعن الجنيد قال: أعلى درجات الكبر أن ترى نفسك، وأدناها أن تخطر ببالك، يعني نفسك. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (290 - 300)].

(3)

الإملاك: التزويج.

(4)

كان عبد الواحد بن زيد يقول: عليكم بالخبز والملح فإنه يذهب شحم الكلى ويزيد في اليقين، وكان يقول: أحسن أحوال العبد مع اللَّه موافقته، فإن أبقاه في الدنيا لطاعته كان أحب إليه وإن أخذه كان أحب إليه، وكان يقول: ما من عبد أعطي من الدنيا شيئا فابتغى إليه شيئا ثانيا إلا سلبه =

ص: 529

‌فصل

حكي أنه كان شابان يتعبدان بالشام يُسَمَّيان الصبيح والمليح

(1)

لحسن عبادتهما، جاعا أياما، فقال أحدهما: اخرج بنا إلى الصحراء لعلنا نرى رجلا نعلم بعض دينه لعل اللَّه ينفعنا به. فخرجا، قالا: فلما حضرنا إذا بشاب أسود على رأسه حزمة حطب، فقلنا له: يا هذا من ربك؟ فرمى الحزمة عن رأسه وجلس عليها فقال: لا تقولا: من ربك، ولكن قولا: أين محل الإيمان من قلبك؟

فنظر كل واحد منا إلى صاحبه، ثم قال لنا: اسألا، اسألا، فإن المريد لا تنقطع مسائله.

فلما رآنا لا نرد جوابا قال: اللهم إنك تعلم أن لك عبادا كل ما سألوك أعطيتهم، فحوَّل حزمتي هذه ذهبا، فإذا هي قضبان ذهب تلمع. ثم قال: اللهم إنك تعلم أن لك عبادا الخمول أحب إليهم من الشهرة فردها حطبا، فرجعت حطبا، ثم حملها على رأسه ومشى فلم نتجرأ أن نتبعه.

‌فصل

قال بعض الصالحين: اجتمع جماعة من الفقراء فذهبوا يزورون رجلا أسود كان ناطورا يقال له مقبل، فمضيت معهم، فدخلنا إلى مكان فيه باذنجان كثير، وفيه أَسْوَدُ قائم يصلي، فسلمنا وجلسنا إلى أن سلم، فأخرج كيسا في كسر يابسة وملح جريش

(2)

، وقال كلوا، فأكلنا، وأخذ الجماعة يذكرون كرامات الأولياء وهو ساكت، فقال له بعض الجماعة: يا مقبل قد زرناك فما تحدثنا بشيء، فقال: أي شيء أنا وأي شيء عندي أخبركم به؟ أنا أعرف رجلا لو سأل اللَّه أن يجعل هذا الباذنجان ذهبا لفعل: قال: فواللَّه ما استتم كلامه حتى رأينا الباذنجان يتقد ذهبا، فقال بعضهم: يا مقبل هل لأحد سبيل أن يأخذ من هذا الباذنجان أصلا واحدا؟ فقال له خذ، فأخذ أصلا معلقة بعروقه وجميع ما فيه ذهب، فوقعت من الأصل باذنجانة صغيرة، وشيء من الورق. فأخذته وبقي معي إلى يومي هذا، ثم صلى مقبل ركعتين، وسأل اللَّه أن يعيده كما كان ففعل، وعاد موضع ذلك الأصل المقلوع أصل آخر باذنجان.

= اللَّه حب الخلوة معه وبدله بعد القرب بعدا وبعد الأنس وحشة. وصلى الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 40)].

(1)

ملَّح الشاعر: أتى بشيء مليح، واستملح الشيء عده أو وجده مليحا حسنا.

(2)

جرش الشيء: لم ينعم دقه، فهو مجروش وجريش.

ص: 530

‌فصل

وحكي أن بعض سلاطين الكفار استولى على بعض بلاد المسلمين، فسفك دماءهم ونهب أموالهم، وأراد أن يقتل فقراء بعض المشايخ، فاجتمع به الشيخ ونهاه عن ذلك، فقال له السلطان: إن كنتم على الحق فأظهر لي آية، فأشار الشيخ إلى بعض الجبال هناك فإذا هي جواهر تضيء، فأشار إلى كيزان

(1)

في الأرض فارغة من الماء، فتعلقت في الهواء، فامتلأت ماء وأفواهها مكبة على الأرض ولا يقطر منها قطرة، فدهش السلطان من ذلك.

فقال له بعض جلسائه: لا يكثر هذا في عينك فإنما هو سحر. فقال له السلطان أرني غير هذا، فأهوى الشيخ بالنار فأوقدت وأمر الفقراء بعمل السماع، فلما عمل فيهم الوجد دخل الشيخ بهم إلى النار

(2)

وكانت عظيمة، ثم خطف الشيخ ولد السلطان فدار به في النار، ثم غاب به فلم يعلم أين ذهبا، والسلطان حاضر، ذهب عقله على ولده.

فلما كانا بعد ساعة ظهرا، وفي إحدى كفي ولد السلطان تفاحة وفي الأخرى رمانة، فقال له السلطان: أين كنت يا ولدي؟ قال: في بستان فأخذت منه هاتين الحبتين وخرجت، فتحير السلطان من ذلك.

فقال له جلساء السوء، هذا أيضا عمله بصنعة باطلة، فقال له السلطان عند ذلك: كل ما تظهره لا أصدق به حتى تشرب من هذا الكأس، وأخرج له كأسا مملوءة سمًا

(3)

تقتل القطرة الواحدة منه في الحال.

فأمر الشيخ الفقراء بالسماع حتى ورد عليه. قال: فأخذ الكأس حينئذ وشرب جميع ما فيها فمزقت ثيابه التي عليه، فألقوا عليه ثيابا أخرى فتمزقت كذلك ثم أخرى ثم أخرى كذلك مرارا عديدة، ثم ترشم عرقا، ثم ثبتت عليه الثياب بعد ذلك ولم تتقطع، فاعتقده السلطان وعظمه وجله واحترمه ورجع عن ذلك القتل والإفساد، ولعله أسلم.

(1)

الكوز: إناء بعروة يشرب به الماء، جمعها: كيزان.

(2)

حدث ذلك لأبي مسلم الخولاني، وكان من التابعين، وقد ألقي في النار فوُجِد قائما يصلي، ولما قدم المدينة جعله عمر بينه وبين أبي بكر، قال الحمد للَّه الذي لم يكلتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم. [انظر قطر الولى على حديث الولي ص 61 من تحقيقنا، طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

انظر ما تقدم مع خالد بن الوليد وشربه السم، وقد تقدم من قبل.

ص: 531

‌فصل

وحكي أن بعض السلاطين امتحن بعض الشيوخ بطبائخ قدمها إليه، ولحم بعضها مذكى وبعضها ميتة، فشد الشيخ وسطه وقال للفقراء: أنا اليوم خادمكم في هذا الطعام، وأخذ يلتقط المذكى ويقدمه إلى الفقراء ويعزل الأواني التي فيها غير المذكى إلى الجند، ويقول: الطيب للطيبين، والخبيث للخبيثين، والسلطان حاضر يراه، فاستغفر اللَّه تعالى وحسن اعتقاده

(1)

. وأنشد الشيخ الحسيب النسيب عبد القادر الكيلاني شيخ المشرق لنفسه:

ما في الصبابة

(2)

منهل

(3)

مستعذب

إلا ولي في الألذ الأطيب

أو في الزمان مكانة مخصوصة

إلا ومنزلتي أعز وأقرب

ومبتهل الأيام رونق

(4)

صفوها

فصفا من أمهلها وطاب المشرب

وأنا من رجال لا يخاف جليسهم

ريب الزمان ولا يرى ما يرهب

قوم لهم في كل مجد رتبة

علوية وبكل جيش موكب

أنا بلبل الأفراح أملي دوحها

(5)

طربا وفي العلياء باز

(6)

أشهب

(7)

‌فصل

قال إبراهيم الخراساني: احتجت يوما إلى الوضوء، فإذا بكوز من جوهر وسواك من فضة ألين من الخز، فأسكبت وتوضأت، وتركتها وانصرفت.

(1)

قال الشوكاني: من كان من الأولياء المعدودين كان من المؤمنين باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والقدر: خيره وشره، مقيما لما أوجب اللَّه عليه، تاركا لما نهى اللَّه عنه مستكثرا من طاعاته، فهو من أولياء اللَّه سبحانه، وما ظهر عليه من الكرامات التي لم تخالف الشرع فهي موهبة من اللَّه عز وجل، لا يحل لمسلم أن ينكرها، ومن كان بعكس هذه الصفات فليس من أولياء اللَّه سبحانه وليست ولياته رحمانبة، بل شيطانية، وكراماته من تلبيس الشيطان عليه وعلى الناس. [انظر قطر الولى على حديث الولي ص 65 من تحقيقنا، طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

الصبابة: الشوق، أو رقته وحرارته، والصب: العاشق.

(3)

نهل نهلا: شرب حتى روي فهو ناهل، والمنهل: المورد، أي الموضع الذي في المشرب، جمعها: مناهل.

(4)

راق روقا: صفا، و"روَّقَ الشراب"، صفَّاه.

(5)

الدوحة: الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة من شجرها، وداحت الشجرة دوحا عظمت، فهي دائحة.

(6)

الباز: ضرب من الصقور يستخدم في الصيد، وجمعها: بيزان.

(7)

شهب شهبا: خالط بياض شعره سواد وحال لونه وتلوح، فهو أشهب.

ص: 532

قال: وبقيت في بعض السياحات

(1)

أياما لم أر فيها أحدا من الناس ولا طيرا ولا ذا روح، وإذا بشخص لا أدري من أين خرج، فقال لي: قل لهذه الشجرة تحمل ذهبا. فقلت: احملي دنانير فلم تحمل، ثم قال لها هو: احملي دنانير، فإذا بشماريخ

(2)

دنانير معلقة، فاشتغلت أنظر، ثم التفت، فلم أر الشخص وذهبت الدنانير من الشجرة.

‌فصل

قال ذو النون المصري

(3)

: ركبنا مرة في مركب، وركب معنا شاب صبيح الوجه يشرق، فلما توسطنا فقد صاحب المركب كيسا فيه مال ففتش كل من في المركب، فلما وصلوا إلى الشاب ليفتشوه وثب وثبة من المركب حتى جلس على أمواج البحر، وقام له الموج على مثال السرير، ونحن ننظر إليه في المركب، وقال

(4)

: يا مولاي إن هؤلاء اتهموني، وإني أقسم عليك يا حبيب قلبي أن تأمر كل دابة في هذا المكان أن تخرج رأسها وفي أفواهها جواهر. فواللَّه ما تم كلامه حتى تم ذلك، وفي فم كل واحدة جوهرة تتلألأ وتلمع، ثم وثب الشاب من الموج إلى البحر وجعل يتبختر على متن الماء ويقول: إياك نعبد وإياك نستعين، حتى غاب عن بصري، قال: فحملني هذا على السياحة، وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزال في أمتي ثلاثون قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات منهم واحد أبدل اللَّه مكانه واحدًا"

(5)

.

(1)

السياحة: التنقل من بلد إلى بلد طلبا للنزهة أو الاستطلاع والكشف.

(2)

الشمروخ: العرجون عليه بسر، والعنقود عليه عنب، جمعها: شماريخ.

(3)

قال محمد بن يعقوب بن الفرجي: كنت مع ذي النون في الزورق، فمر بنا زورق آخر، فقيل لذي النون: إن هؤلاء يمرون إلى السلطان يشهدون عليك بالكفر، فقال: اللهم إن كانوا كاذبين فغرقهم، فانقلبت الزورق، وغرقوا. فقلت له: احسب أن هؤلاء قد مضوا يكذبون فما بال الملاح؟ قال: لِمَ حملهم وهو يعلم قصدهم، لأن يقفوا بين يدي اللَّه غرقى خير لهم من أن يقفوا شهود الزور، ثم انتفض وتغير وقال: وعزتك لا أعود على خلقك بهذا. [تاريخ الإسلام للذهبي وفيات (241 - 250)].

(4)

فرقة من المتصوفة المبطلة آمنوا بعصمة الولي وطهارته وعظم قدرته في حياته وبعد مماته، وخافوا الإنكار عليه ولو أتى المنكرات واقترف الفواحش، وفضلوا الولاية على النبوة، وحجتهم أن الأنبياء يوحى إليهم بواسطة والأولياء يتلقون من اللَّه بلا واسطة، وكان الجنيد مثلا يقول: خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله. [انظر المعجم الصوفي (ص 37، 38)].

(5)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8/ 168)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/ 180).

ص: 533

‌فصل

عن بعض الصالحين قال: كنت جالسا في بيت المقدس عند بئر سليمان -عليه الصلاة السلام- يوم الجمعة بعد العصر، فإذا برجلين يشبه أحدهما خلقنا، والآخر عظيم الخلق طويل، كأن عرض جبهته أكثر من ذراع. فجلس الذي يشبهنا عندي وسلم عليَّ، وجلس الآخر بعيدًا منا، فقلت: من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا الخضر

(1)

.

قلت: ومن ذلك الرجل؟ قال: أخي إلياس. فداخلني ما يداخل مثلي.

فقال لي: لا بأس عليك، نحن نحبك، ثم قال لي: من صلى العصر يوم الجمعة ثم استقبل القبلة فقال: يا اللَّه يا رحمن، ثم سأل اللَّه شيئا إلا أعطاه. فقلت له: آنستني آنسك اللَّه بذكره كل وليّ

(2)

في الأرض تعرفه.

قال: المعدودين، قلت: وما معنى المعدودين؟ قال: إنه لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم شكت الأرض إلى ربها سبحانه وتعالى

(3)

فقالت: بقيت لا يمشي عليَّ نبي إلى يوم القيامة، فأوحى اللَّه تعالى إليها: إني سأجعل من هذه الأمة رجالا مثل الأنبياء، قلوبهم على قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

قال: فقلت له كم هم؟ قال: ثلاثمائة، وهم الأولياء، وسبعون وهم النجباء، وأربعون وهم أوتاد الأرض، وعشرة، وهم النقباء، وسبعة، وهم العرفاء، وثلاثة وهم المختارون، وواحد وهو الغوث، فإذا مات الغوث

(4)

اختير من الثلاثة، فاختير

(1)

جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر.

(2)

قال الحبري المفسر وأبو عمرو بن الصلاح عن الخضر: هو نبي، واختلفوا في كونه مرسلا، وقال القشيري وكثير: هو ولي، وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها: نبي، والثاني: ولي، والثالث: أنه من الملائكة، وهذا غريب باطل، قال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو ولي، واحتج من قال بنبوته بقوله:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، فدل على أنه نبي أوحي إليه وبأنه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي. [النووي في شرح مسلم (15/ 111) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

ذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان من زمن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أم بعده بقليل أم بكثير. كنية الخضر أبو العباس، واسمه بليان بن ملكان، وقيل كليان، وقال ابن قتيبة في المعارف: قال وهب بن منبه اسم الخضر بليان بن منكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشيد بن سام بن نوح. [المرجع السابق: (15/ 111)].

(4)

الغوث: الإعانة والنصرة، ويقال في الشدة تنزل بالمرء فيسأل العون على كشفها: واغوثاه.

ص: 534

من العشرة واحد، فضم إلى السبعة، فاختير من الأربعين إلى العشرة، ومن السبعين إلى الأربعين، ومن الثلاثمائة إلى السبعين، واختير من الدنيا واحد إلى الثلاثمائة، يعني من أهل الدنيا، هكذا إلى يوم ينفخ في الصور، منهم من قلبه مثل قلب موسى وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- ومنهم من قلبه مثل قلب نوح وإبراهيم عليهما السلام.

فقلت له: مثل قلب إبراهيم؟ تعظيما له

(1)

قال: نعم، ومثل قلب جبريل وداود وسليمان -عليهم الصلاة والسلام- أما سمعت قول اللَّه عز وجل:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فما مات نبي إلا وعلى طريقته رجل يسلكها إلى يوم القيامة، فلو أن قلوب الأربعين اطلعوا على قلوب العشرة لرأوا قتلهم ودماءهم حلالًا، وكذا السبعون لو اطلعوا على قلوب الأربعين لرأوا دماءهم حلالًا أما ترى ما كان في قصة موسى معي؟

(2)

قال: فقلت له: مم طعامك؟ قال: من الكرفس والكمأة

(3)

قلت: فطعام إلياس؟ قال: رغيفان حُوَّارَى كل ليلة. فقلت: وأين مقامه؟ قال: في جزائر البحر، قلت: فهل تجتمعان؟ قال: نعم إذا مات وليٌّ صلينا عليه وإذا كان موسم اجتمعنا، فيأخذ من شعري وآخذ من شعره.

قلت: فعرفني أسماء هؤلاء الذين سميتهم، فأخرج درجا من كمه فيه أسماء القوم كلهم، قد كتبهم، ثم قام فقمت معه، فقال لي: إلى أين تريد؟ فقلت: أمشي معك، فقال لا سبيل لك إلى ذلك، فقلت: إلى أين تقصد؟ قال أصلي الغداة بمكة،

(1)

قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)} [النحل: 120].

يمدح اللَّه تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] فأما الأمة فهو الإمام الذي يقتدى به، والقانت هو الخاشع، والحنيف المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد. [تفسير ابن كثير (2/ 609)].

(2)

روى مسلم في صحيحه [170 - (2380)] كتاب الفضائل، [46] باب من فضائل الخضر صلى الله عليه وسلم، وفيه عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صلى الله عليه وسلم صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر صلى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو اللَّه؛ سمعت أُبَيَّ بن كعب يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قام موسى خطيبا في بني إسرائيل. . . . " وذكر الحديث كما ورد في سورة الكهف.

(3)

الكمأة: بفتح الكاف وإسكان الميم، بعدها همزة مفتوحة، واختلف في قوله صلى الله عليه وسلم:"الكمأة من المنَّ" فقال أبو عبيد وكثيرون: شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة ولا علاج، والكمأة تحصل بلا كلفة ولا علاج ولا زرع ولا سقي ولا غيره، وقيل: هي من المن الذي أنزل اللَّه تعالى على بني إسرائيل حقيقة عملا بظاهر اللفظ.

ص: 535

ثم أجلس في الحجر

(1)

عند الركن الشامي حتى تطلع الشمس ثم أطوف بالبيت سبعا، ثم أصلي خلف المقام ركعتين، ثم أصلي الظهر بالمدينة والعصر ببيت المقدس والمغرب بطور سيناء، والعشاء بسد ذي القرنين. قم لا أزال أحرس إلى الغداة - عليه وعلى جميع المذكورين السلام.

‌فصل

عن بعض الصالحين قال: وصف لي ثلاثة نفر من البدلاء من العشرة، فقصدتهم وسألت عنهم، فإذا واحد منهم إمام جامع، فرأيت عليه نبرة

(2)

حسنة وثيابا جميلة، وله نعمة كثيرة يديرها، واسمه إبراهيم، واسم الآخرين الحسن والحسين.

فجئت إلى إبراهيم الإمام بين المغرب والعشاء، فسلمت عليه وقلت: إني قصدتك. ففرح بي. فلما صلينا العشاء أخذ بيدي ومضينا إلى منزله، فإذا قصر عظيم وحاشية كبيرة، فقدم لنا مائدة كبيرة عليها طعام كثير، فجلس معنا الحسن والحسين، ولم يجلس معنا إبراهيم الإمام، فأكلنا، فسألتهما عنه فقالا: إنه لا يأكل إلا اللبن، فلما كان وقت النوم فرش له فُرُش كثيرة، فنام عليها، فلم أزل أرقبه.

فلما كان في بعض الليل نزل عن الفراش فصلى

(3)

ركعتين من غير أن يتوضأ، قرأ في الأولى فاتحة الكتاب و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الأخرى فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلما سلم قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع

(1)

الحِجر: قال في النهاية: هو اسم الحائط المستدير على جانب الكعبة الغربي.

وروى مسلم في صحيحه [400 - (1333)] كتاب الحج، [69] باب نقض الكعبة وبنائها، عن ابن عمر، عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل اللَّه ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر" قال النووي بعد أن ساق رأيا ثم قال في الثاني: لا يصح الطواف حتى يطوف خارجا من جميع الحجر، وهذا هو الصحيح، وهو الذي نص عليه الشافعي، وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين، ورجحه جمهور الأصحاب. [النووي في شرح مسلم (9/ 77، 78) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

النبر في النطق: إبراز أحد مقاطع الكلمة عند النطق به.

(3)

قيام الليل هو تطوع في حق الأمة بالإجماع، وأما للنبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نسخه في حقه، والأصح نسخه وأما ما حكاه القاضي عياض عن بعض السلف أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو قدر حلب شاة فغلط ومردود بإجماع من قبله مع النصوص الصحيحة أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس.

ص: 536

لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد

(1)

.

قالها ثلاثًا وأخذ بها صوته.

ثم صلى ركعتين أخرتين، قرأ في الأولى منها فاتحة الكتاب و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وفي الثانية الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، فلما سلم قال مثل ما قال من الذكر

(2)

المذكور ثلاث مرات، ثم رجع بعد الذكر المذكور إلى فراشه.

فلما كان وقت الفجر قام فأذن وصلى ركعتي الفجر من غير أن يجدد وضوءًا وخرج إلى الصلاة. فأقمت عندهم شهرا على هذا.

فلما كان يوم عرفة قال لي: اقرأ اليوم سورة الأنبياء وسورة الحج، وكلما مررت بذكر نبي من الأنبياء فصل عليه وعلى محمد صلى الله عليه وسلم فإنك إذا فعلت ذلك أعطاك اللَّه تبارك وتعالى ثواب من حج إلى بيت اللَّه الحرام.

فلما كان الضحى جاءني فأخذ بيدي من المسجد، فجئنا إلى الدار، فإذا القوم تهيئوا للإحرام

(3)

فدفع إليَّ إزارين وقال لي انو الإحرام.

ثم خرجنا من الدار، وقد حملوا سطلا

(4)

صغيرا مملوءا دراهم صحاحا.

(1)

روى البخاري في صحيحه (1120)[19] كتاب التهجد، [1] باب التهجد بالليل، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد؛ لك ملك السموات والأرض ومن فيهن؛ ولك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت - أو لا إله إياك".

(2)

روى البخاري في صحيحه (844) كتاب الأذان، [155] باب الذكر بعد الصلاة، عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله المد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد".

(3)

أجمع العلماء على أن المواقيت مشروعة، ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور: هي واجبة، لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم وصح حجه، وقال عطاء والنخعي: لا شيء عليه، وقال سعيد بن جبير لا يصح حجه. وفائدة المواقيت أن من أراد حجا أو عمرة حرم عليه مجاوزتها بغير إحرام، ولزمه الدم.

(4)

السَّطل: إناء من معدن كالمرجل له علاقة كنصف الدائرة، مركبة في عروتين، جمعها أسطال وسطول.

ص: 537

فلما جاوزنا الميقات

(1)

صلينا ركعتين وقال: انو الحج، فنويت، ثم لبوا ولبيت معهم، وسجدوا وسجدت معهم.

فلما كان بعد ساعة رفعوا رؤوسهم، ورفعت رأسي فرأيت جبالا وأرضا لا أعرفها، ورأيت جمالا وناسا سائرين، فقال لي إبراهيم: هؤلاء خارجون من منى يريدون عرفة، ثم أخذوا بيدي فسرنا حتى وافينا مسجد عرفات، فاشتروا ماء، فاغتسلنا، واشتروا تمرا وخبزا، فقال إبراهيم: كل، فقلت: إني صائم، فقال: لا تخالف نبيك صلى الله عليه وسلم فقد أفطر في مثل هذا اليوم

(2)

فلما كان عند غروب الشمس دفعوا إليَّ السطل وفيه الدراهم، فقال لي إبراهيم: خذ هذا واستعن به على أمرك، وعليك بالشام، ثم افترقنا فلم أرهم بعد ذلك.

‌فصل

عن بعض الأخيار قال: سمعت بالشيخ أبي الفضل الجوهري المصري رحمه الله فخرجت من بلدي وعقدت النية لزيارته، فدخلت مصر يوم الجمعة، فحضرت مجلس وعظه مع جماعة الناس، فإذا الشيخ بهي المنظر مليح المخطر، عليه رياش

(3)

وأثواب رفيعة، وعمامة شرب، وطيلسان

(4)

كذلك، وله همة عالية، وقباء

(5)

واسع، وقال: دنيا واسعة. فقلت في نفسي: هذا ابن الجوهري الذي قيل فيه ما قيل، وسارت الركبان بصلاحه ودينه وورعه وكثرة صفاته وقوة إيمانه، وهو على الحال؟ فتعجبت من ذلك وتركته، على تلك الحال، فبينما أنا أسير في بعض أزقة مصر إذا

(1)

انظر رأي العلماء في المواقيت تقدم قيل هذا قريبا. وهو أوسع مما ذكرنا، انظر شرح مسلم للنووي (8/ 67) طبعة دار الكتب العلمية.

(2)

مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجمهور العلماء استحباب فطر يوم عرفة بعرفة للحاج، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان بن عفان وابن عمر والثوري. قال: وكان ابن الزبير وعائشة يصومانه. وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص، وكان إسحاق يميل إليه، وكان عطاء يصومه في الشتاء دون الصيف، وقال قتادة: لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء، واحتج الجمهور بفطر النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولأنه أرفق بالحاج في آداب الوقوف ومهمات المناسك، واحتج الآخرون بالأحاديث المطلقة أن صوم عرفة كفارة سنتين، وحمله الجمهور على من ليس هناك.

(3)

الريش: اللباس الفاخر، والحالة الجميلة.

(4)

الطيلسان: ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف أو يحيط بالبدن، خال من التفصيل والخياطة، وهو ما يعرف في العامية المصرية بالشال، جمعها: طيالسة وطيالس.

(5)

القباء: ثوب يلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه.

ص: 538

بامرأة تصيح وتنوح

(1)

وتبكي: وامصيبتاه، وافضيحتاه، فتقدمت إليها رحمة لها مما تعمل بنفسها، فقلت: ما لك؟ وما قضيتك؟ فقالت: يا سيدي أنا امرأة من أرباب البيوت، ولم يكن لي سوى بنت واحدة، فتعبت بها إلى أن ترعرعت

(2)

واستوت، خطبها مني صلاح (العالمين)

(3)

فزوجتها منه، وهذه ليلة دخولها على بعلها، وقد اعترض بها جان فأذهب عقلها.

فقلت لها: لا بأس عليك، عليَّ دواؤها وإصلاح شأنها، فسكن قلبها ومضت قدامي إلى أن أتت بي إلى دار عالية البنيان فأذنت لي فصعدت إلى مجلس فيه من جميع الأفنان مما يصلح لأهل العرس والولدان، وأمرتني بالجلوس ففعلت، وإذا بابنتها تلتفت يمينا وشمالا مما حل بها، مع ما بها من الحسن والجمال.

فقرأت عليها عشر آيات بسبع قراآت، فتكلم عند ذلك الجان

(4)

بأفصح لسان، وقال: يا شيخ أبا بكر لا تفتخر علينا بقراءتك على الروايات؛ فنحن سبعون صنفا من الجان، أسلمنا على يد علي يوم بئر ذات العلم. جئنا في يومنا هذا نصلي وراء الشيخ الصالح أبي الفضل الجوهري الذي احتقرت به وظننت به ما ظننت، فاستغفر اللَّه من ذلك وأدرك غقلتك بالثوبة إلى ربك.

(1)

روى مسلم في صحيحه [29 - (934)] كتاب الجنائز، [10] باب التشديد في النياحة، عن أبي مالك الأشعري رفعه:"أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب".

قال النووي: فيه دليل على تحريم النياحة، وهو مجمع عليه، وفيه صحة التوبة ما لم يمت المكلف ولم يصل إلى الغرغرة.

(2)

رعرع اللَّه الغلام: أنبته وأنشأه، وترعرع الصبي: نشأ وشب، ويقال: ترعرع النبات.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

فيما روى البخاري ومسلم وتقدم في العفريت الذي همَّ النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية من سواري المسجد ثم أطلقه لما تذكر قول سليمان صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] فرده اللَّه خاسئا.

قال النووي في شرح مسلم: في دليل على أن الجن موجودون، وأنهم قد يراهم بعض الآدميين، وأما قوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فمجمول على الغالب؛ فلو كانت رؤيتهم محالا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال من رؤيته إياه ومن أنه كان يربطه لينظروا كلهم إليه ويلعب به ولدان أهل المدينة. قال القاضي: وقيل إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة لظاهر الآية، إلا للأنبياء - صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين، ومن خرقت له العادة، وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم، كما جاء في الآثار. [النووي في شرح مسلم (5/ 26) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 539

فبينما نحن عابرون على هذه الدار نقصد الصلاة وراءه في هذا اليوم الشريف اعترضتنا هذه الصبية. فأفرغت علينا بنجاسة، فسلم أصحابي وتنجست أنا، وحرمتني الصلاة خلف الشيخ الولي، ففعلت بها ما رأيت غضبا عليها.

فقلت له: بحرمة هذا الشيخ الذي جئتم من أجل الصلاة وراءه إلا ما خرجت عنها، قال لي: سمعا وطاعة، فخرج حالا، وعوفيت من ساعتها، فأرخت قناعها على وجهها استحياء مني.

ففرحت والدتها وقالت: جُوزيت عنا خيرا، وسترك اللَّه كما سترتها، ثم خرجت من ساعتي وعقدت النية لزيارة الشيخ المذكور

(1)

، فلما رآني مقبلا إليه تبسم ضاحكا وقال لي: أهلا وسهلا بالشيخ أبي بكر الذي واللَّه ما خَبِرَنا حتى أخبره الجان عنا، فوقعت عند كلامه هذا مغشيا عليَّ، وأقمت في السماع مدة، ولزمت صحبة الشيخ في زاوية من رباطه بعد أن تبت إلى اللَّه أن لا أعود أنكر كرامات الصالحين.

‌فصل

عن الشيخ أبي عبد اللَّه الإسكندري قال: كنت بجبل لكام، أسير فيه، وأختار رؤية الرجال والنساء من القوم، فجمع اللَّه لي مرادي، فأول ما لقيت امرأة، وقد سمعتني أنشد هذه الأبيات:

يا حيرة الحي من شرقي ذي سلم

هل عودة الليالي (البان)

(2)

والعلم

أيام شملي بكم يا سلم مجتمع

وحبل ودي لديكم غير منصرم

(3)

ناشدتك اللَّه إن جزت العقيق صحبا

فاقرأ السلام عليهم غير محتشم

وقل تركت صريعا في دياركم

ميتا كحي بغير السقم ذا سقم

فلما رأيتها قلت في نفسي: لو كان اجتماعي برجل كان أحب إلي من امرأة. قالت: من يصل إلى مقامات النساء

(4)

؟ فقلت لها: ما أكثر دعواك. قالت: تحرم

(1)

الصوفي الحق هو الذي يتفق مع الفقهاء وأصحاب الحديث، ويرجع إليهم إذا استشكل عليه حكم أو وحد وإذا اختلف معهم فاستحبابه في مذهب التصوف الأخذ بالأحسن والأولى والأتم، ولا ينزل إلى الرخص، ويطلب التأويلات والسعات، ومن المتصوفة مع ذلك مبطلون يعتبرون أنفسهم صوفية وليسوا منهم في شيء. [المعجم الصوفي ص 153، 154].

(2)

كذا بالأصل.

(3)

صرم الشيء صرما: قطعه، وانصرم: انقطع، وانصرم الليل: إذا ذهب، وانصرم الشتاء: انقضى.

(4)

من النساء الكثير من الصالحات والعابدات يأتي على رأسهن أمهات المؤمنين، وكذلك =

ص: 540

الدعاوى بغير بينة، قلت: فما الذي لك من بينة؟ قالت: هو لي كما أريد؛ لأني له كما يريد. قلت: فأريد الآن سمكا طريا مشويا

(1)

.

قالت: هذا من نزول مقامك وافتجاعك

(2)

في غذائك وطعامك، وهلا سألته أن يهب لك من الشوق جناحا تطير به إليه كطيراني؟ ثم طارت وتركتني، فواللَّه ما رأيت أمرَّ من ذُلِّي ولا أحلى من عِزَّها.

فعدوت خلفها

(3)

فقلت: يا سيدتي بالذي أعطاك ومنعني، وجاد عليك وخذلني، جودي علي بدعوة. فقالت: أنت لا تريد إلا دعوة الرجال، ثم أنشدت:

ما الجزع وما التقى وما نعمان

أولاك وما طويلغ (والبان)

(4)

وما ينفعني العقيق والسكان

إن لم أركم وبالحي سكان

فقلت لها: إن لم تكن دعوة فزوديني منك بنظرة:

قفي زوديني نظرة من جَمالك

وإلا دعيني سائرا مع جِمالك

وقولي لحادي

(5)

العيس

(6)

هدئ لسيرنا

ترفق لعبد واله

(7)

فتمالك

وجودي على المشتاق منك بنظرة

وفاء له إن الوفاء من فعالك

= الصحابيات، وكذلك الكثير من النساء العابدات، منهن معاذة العدوية، ورابعة العدوية، وعمرة امرأة حبيب، وعفيرة العابدة، وشعوانة، وماجدة القرشية، ورابعة بنت إسماعيل، وامرأة رباح القيسي، وعبيدة بنت أبي كلاب، والسيدة نفيسة، وغيرهن الكثير.

(1)

قال تعالى حاكيا عن عيسى صلى الله عليه وسلم: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].

(2)

للصوفية آداب في الصيام فمنها أن لا يصوم واحد بين الجماعة إلا بإذن أصحابه حتى لا يشغل قلوبهم بإفطاره، وليس للصائم أن يدخر لوقت إفطاره نصيبا؛ لأن ذلك ضعف في حاله، وإن كان معهم شيخ فإنهم يصومون ويفطرون بصومه وإفطاره إلا إذا أمرهم بغير ذلك. [انظر المعجم الصوفي (ص 155)].

(3)

أهل السنة والجماعة يؤمنون بوقوع الكرامات على أيدي الصالحين، وهم المؤمنون المتقون المتبعون لكتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من اكتمال خصال الخير من طاعة وأداء ما افترضه اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك هو طريق الولاية، ولا سبيل غيره، ومن ادعى طريقا غير هذا فهو طريق الشيطان. وقال بعض الصالحين: لو وجدتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تصدقوه حتى تنظروا التزامه بالكتاب والسنة.

(4)

كذا بالأصل.

(5)

الحادي: الذي يسوق الإبل بالحداء، أي ساقها وحثها على السير بالحداء، وهو الغناء للإبل، جمعها: أحادي.

(6)

العيس: كرام الإبل.

(7)

وَلِهَ فلان ولهًا: اشتد حزنه حتى ذهب عقله وتحير من شدة الوجد.

ص: 541

فقالت: إن الذي أنا فيه من الخطر أولى من اشتغالك بالنظر، قلت: فالدعاء لا بد منه. قالت:

في عذابك تلقى الداعي

هو السيد المنتجب الواعي

والمليح المقبول في السماعي

ثم مرت، وكحلو العيش مرت وقد بلبلت

(1)

بشرف بالها بلبالي، وقطعت لما قطعت بسيف حبها أوصالي.

فلما كان من الغد إذا أنا برجل يزحف وعليه آثار المآثر، وبه من الحب (تابرة)

(2)

، فقلت: إن كان الرجل المشار إليه فهو هذا، فأقبل بإقباله وقبوله علي وقال: نعم هو هو.

قلت: يا سيدي، فلعل إردافي بدعوة تكون لي بها عند الحبيب حظوة، فقال: يا أبا عبد اللَّه، فإنك دعيُّ من ليس لها دعوى. أما عندك من بصر البصيرة ما تعرف به ريحانة الكوفية؟ ولكن يا أبا عبد اللَّه ما أقدر أدعو لك حتى تصل إلى مقام محاينها، وفي غد تراهم وتؤمن بمأمن الوجد أغراهم. ثم غاب عني فلم أره، ثم أدركني من الوجد ما لا أعبر عنه ولا أقدر على فراغي منه، ثم أنشد لسان حالي

(3)

:

أنا شيخ الهوى بزاوية الحيِّ

ومن يدعي الغرام من كل يدي

والذي مات بالغرام شهيد

ذاك في شرعة الهوى من شهودي

وفقيه مدرس ستر العشق

فمن ذا الذي يكون مُعْيدي؟

وإذا ما دعا المحبة قوم

دع دعواهم فهم من عبيدي

(1)

البلبال والبلبالة: شدة الهم والوسواس، جمعها: بلابل، وبلبل القوم أوقعهم في افتراق الآراء واضطرابها.

(2)

كذا بالأصل.

(3)

للصوفية أقوال عجيبة في مظاهر الحب والفناء؛ فقال أبو العباس المرسي، أحد علماء الصوفية: إن للَّه عبادا محو أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذواتهم بذواته، وحملهم من أسرارهم ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه، وهم الذين غرقوا في بحر الذات وتيار الصفات، فهي إذًا فناءات ثلاث: أن يفنيك عن أفعالك بأفعاله، وعن أوصافك بأوصافه، وعن ذاتك بذاته، فإذا أفناك عنك أبقاك به؛ فالفناء دهليز البقاء، ومنه يدخل إليه؛ فمن صدق فناؤه صدق بقاؤه. ويقول أيضا: صاحب البقاء يقوم عن اللَّه، وصاحب الفناء يقوم اللَّه عنه، والولاية ولاية الصديقين بالفناء عما سوى اللَّه، والبقاء في كل شيء باللَّه وولاية الصادقين بإخلاص العمل للَّه والقيام بالوفاء مع اللَّه طلبا للجزاء من اللَّه.

[مختصرا من لطائف المنن لابن عطاء اللَّه ص 45، 46، 49].

ص: 542

يا أهيل الهوى إليَّ هلموا

أنا سلطانكم وأنتم جنودي

قلت القلب قد ملئت غراما

فأجاب الفؤاد هل من مزيدي

سكرة الحب أين منها خلاصي

ليس عن سكرة الهوى محيدي

وإذا أنكر العذول غرامي

فالهوى سائقي ودمعي شهودي

فلما كان من الغد إذا بقارئ يقرأ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}

(1)

بصوت رخيم من قلب رحيم يكاد سامعه يذوب سوقا، ومتحديه يقوله جنونًا وعشقًا، ومحاربه لا يحاربه سعيا وسبقا، فالمطرود يناديه بحضرة: كم أسعد وأشقى.

فقلت، وقد استعبدني بحسن صوته رقا: بالذي جاد بنعمة النغمة حقا، أرفق بقلب شقه الغرام شقا، وجعله عن لبه أطيار العشق عتقا، وصيره صريعا على مصاريع أبواب أرباب الوصل والوصول ملقى.

قال: فبرز لي رجل قد خنقه الحب خنقا، فقال: ما تريد بالمجنون

(2)

الذي دمعه لا يرقى، وجنونه لا يداوى ولا يُرْقى، وعمره في الطريق ينادي: الحريق، فما يرى نحو الغريق سحابا ولا برقا، ولكن قد أحالوك عليَّ في الدعاء، فشبهه الجنون بيننا وفقا، فعليك بخيار المجانين

(3)

، وأنشَقْ من حبهم نشقا، والزم سنة محمد صلى الله عليه وسلم تدم وتبقى، واحذر أن تخرج عنها فتسمع منه، وقد عصيت "سحقًا سحقًا"

(4)

.

(1)

سورة التوبة (118).

(2)

من عقلاء المجانين، له حكايات وكلام حسن، وكان حيا في دولة الرشيد، ومما يروى عنه أن الرشد مر به فناداه ووعظه فأمر له بمال فقال: ما كنت لأسود وجه الموعظة. وقيل له: غلا السعر فادع اللَّه. قال ما أبالي ولو حبة بدينار، إن للَّه علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا، ومن أشعاره:

يا خاطب الدنيا إلى نفسه

تنح عن خطبتها تسلم

إن التي تخطب غَرَّارَة

قريبة العرس إلى المأتم

[انظر تاريخ الإسلام، وفيات (181 - 190)].

(3)

ومن عقلاء المجانين أيضا: سعدون المجنون، كان يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، وكان إذا هاج صعد السقف ونادى بالليل بصوت رفيع: يا نيام انتبهوا من رقدة الغفلة قبل انقطاع المهلة؛ فإن الموت يأتيكم بغتة. [انظر الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 58)].

(4)

في ذلك حديث مشهور رواه البخاري في صحيحه (6583، 6584) كتاب الرقاق، [53] باب في الحوض، عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليرِدَنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي الحديث الثاني: عن أبي سعيد وزاد: "فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا =

ص: 543

فقلت: أوصني. قال: احم نفسك من الذنوب فإنها ضعيفة، وارفق بها رفقا فإنها تجعل أبناءها ببحرها غرقى، وساحلهم شرقا وأذنابهم حرقا، ومع هذا متعك اللَّه قبولا ووصولا وصدقا، وجعلك من قوم رضي عنهم، فقال عز من قائل:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}

(1)

، ولا حرمك لذة النظر ولا جعلك من يقنع بعد العيان بالخبرة. ففهمت ما أشار إليه، وحمدًا للَّه.

‌فصل

حكي عن أبي العباس الخضر

(2)

أنه سأله بعض الأبدال: هل رأيت وليا للَّه أرفع منك درجة؟ قال: نعم؛ دخلت مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة فرأيت عبد الرزاق حوله جماعة يسمعون الحديث في المسجد، وفتى جالس واضع رأسه على ركبتيه، فقلت: يا أيها الشاب، أما ترى الجماعة يسمعون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من عبد الرزاق

(3)

فهلا سمعت معهم؟ فلم يرفع رأسه إليَّ ولا اكترث بي، ولكن قال: هناك من يسمع من عبد الرزاق، وهنا من يسمع من الرزاق، لا من عبده.

قال الخضر: فقلت له: إن كان ما تقول حقا فمن أنا؟ فرفع رأسه إليَّ وقال: إن كانت الفراسة حقا فأنت الخضر. فعلمت أن للَّه أولياء لا أعرفهم لعلو رتبتهم.

‌فصل

قال عبد اللَّه بن خفيف

(4)

كنت مدة عديدة أسيح على وجه الأرض للالتقاء

= بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي" وقال ابن عباس: سحقا: بعدا، يقال: سحيق: بعيد، سحفه وأسحقه: أبعده.

(1)

سورة الأنفال (40).

(2)

اختلفوا في لقبه الخضر: فقال الأكثرون: لأنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء، والفروة وجه الأرض، وقيل: لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، والصواب الأول؛ فقد صح في البخاري عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء". وقال الثعلبي: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن الأبصار، يعني عن أبصار أكثر الناس، قال: وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. [النووي في شرح مسلم (15/ 111) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميدي مولاهم، الصنعاني، الإمام اليماني، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره، فتغير وكان يتشيع. أخرج له: أصحاب الكتب الستة. توفي سنة (211) وله 85 سنة. ترجمته: تهذيب التهذيب (6/ 310)، تقريب التهذيب (1/ 505)، التاريخ الكبير للبخاري (6/ 130)، التاريخ الصغير للبخاري (2/ 320)، الجرح والتعديل (2/ 609)، سير أعلام النبلاء (9/ 563)، الثقات (8/ 412)، البداية والنهاية (10/ 265)، لسان الميزان (7/ 287)، ميزان الاعتدال (2/ 609).

(4)

كان رحمه الله يقول: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول: "من عرف طريقا إلى اللَّه =

ص: 544

بالبدلاء، فسئمت من السياحة والسفر، فرجعت إلى بلد إصطخر

(1)

فارس فدخلت دويرة الصوفية، فرأيت جماعة من المشايخ، وبين أيديهم مأكول، وهم تسعة نفر، منهم الحسن بن أبي سعد، وأبو الأزهر بن حيان، فتوضأت، فلما فرغت وسَّعوا لي، وقعدت معهم وتناولت ما كانوا يأكلون. ثم تفرقنا، فرقدت رقدة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

(2)

يقول لي: سس يا ابن خفيف من كنت تطلبهم وترجوا مجالستهم هم هؤلاء في هذا البلد، وأنت منهم طط.

قال: فطالبتني نفسي أن أخبر القوم بما رأيته، فعلاني منهم وقار وهيبة، فلم ألبث ساعة من النهار حتى قابلني أبو الحسن بن أبي سعد، وقال لي: يا أبا عبد اللَّه أخبرهم بما رأيت في المنام، فأخبرتهم، فتفرقوا في البلدان حتى فشى الخبر.

‌فصل

قال محمد بن العلاف: حضرت يوما عند محمد بن أحمد في مجلس وعظه، وهو على الكرسي، فغشيه النعاس فنام فأمسك أبو الحسين محمد بن أحمد عن الكلام ساعة حتى استيقظ أبو الفتح ورفع رأسه.

فقال أبو الحسين: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

في نومك؟ قال: نعم. قال: فلذلك أمسكت عن الكلام خوفا أن تنزعج أو ينقطع عنك ما كنت فيه

(4)

.

= فسلكه ثم رجع عنه عذبه اللَّه عذابا لم يعذب به أحدا من العالمين" وكان يقول أيضًا: عليك بمن يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله. [انظر طبقات الشعراني (1/ 103)].

(1)

إصطخر: من أرض فارس بخراسان.

(2)

قال النووي: اختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد رآني" فيما روي من حديثه: "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي" فقال ابن الباقلاني: معناه أن رؤياه صحيحة ليست بأضغاث، ولا من تشبيهات الشيطان، ويؤيده قوله: رواية: فقد رأى الحق، أي الرؤيا الصحيحة، قال: وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة، كمن رآه أبيض اللحية، وقد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، ويراه كل منهما في مكانه. [النووي في شرح مسلم (15/ 20) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

قال القاضي: قال بعض العلماء: خص اللَّه تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومنع الشيطان أن يتصور في خلقته لئلا يكذب على لسانه في النوم كما خرق اللَّه تعالى العادة للأنبياء عليهم السلام بالمعجزة، وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحق بالباطل ولم يوثق بما جاء به مخافة من هذا التصور، فحماه اللَّه تعالى من الشيطان ونزغه ووسوسته وإلقائه وكيده. [المرجع السابق (15/ 21)].

(4)

قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (11/ 17): الصوفيون قد يكونون من أجل الصديقين بحسب =

ص: 545

‌فصل

عن بعض أصحاب سهل رحمه الله قال: خدمت سهلا ثلاثين سنة فما رأيته يضع جنبه على الفراش لا بالليل ولا بالنهار، وكان يصلي صلاة الصبح بوضوء العشاء، فهرب من الناس إلى جزيرة بين عبادان والبصرة، وإنما فر من الناس لأن رجلا حج سنة من السنين، فلما رجع قال لأخ له: رأيت سهل بن عبد اللَّه في الموقف بعرفة، فقال له أخوه: نحن كنا عنده يوم التروية في رباطة بباب تستر، فحلف بالطلاق أنه رآه بالموقف، فقال له أخوه: قم بنا حتى نسأله، فقاما ودخلا عليه، فذكر له ما جرى بينهما من الاختلاف في ذلك، وسألاه عن حكم اليمين، فقال: ما لكما بهذا الحديث حاجة، اشتغلا باللَّه، وقال للحالف: امسك عليك زوجك، ولا تخبر بهذا أحدًا.

‌فصل

قال سهل بن عبد اللَّه رحمه الله: أول ما رأيت من العجائب والكرامات

(1)

أني خرجت يوما إلى موضع خالِ فطاب لي المقام فيه، ووجدت من قلبي قربا إلى اللَّه تعالى. فحضرت الصلاة، فأردت الوضوء، وكانت عادتي من صباي تجديد الوضوء لكل صلاة، فكأنني اغتممت لفقد الماء.

فبينما كذلك وإذا دب يمشي على رجليه كأنه إنسان معه جرة خضراء، وقد

= زمانهم؛ فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصدِّيق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع، ثم يقول بعد ذلك: ولأجل ما يقع من كثير منهم من الاجهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، وطائفة غالت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم، بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة اللَّه كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة، والصوفية الحقة أناس مجتهدون في طاعة اللَّه كما اجتهد غيرهم؛ ففيهم السابق والمقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، وأهل السنة يؤمنون بكرامة الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات.

(1)

قال ابن قيم الجوزية عن شطحات الصوفية: هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس؛ أحدهما حجب محن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم وصدق معاملاتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بها مطلقا، وهذا عدوان وإسراف، والثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم على عيوب شطحاتهم ونقصانها، وهؤلاء معتدون مفرطون. [ابن القيم في شرح كتاب الهروي ص 20].

ص: 546

أمسك بيديه عليها، فلما رأيته من بعيد توهمت أنه آدمي، حتى دنا مني وسلم عليَّ

(1)

ووضع الجرة بين يدي، فجاءني اعتراض العلم، فقلت: هذا الجرة والماء من أين هو؟ فنطق الدب وقال: يا سهل إنا قوم من الوحش قد انقطعنا إلى اللَّه تعالى بعزم المحبة والتوكل، فبينما نحن نتكلم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إن سهلا يريد ماء لتجديد الوضوء، فوضعت هذه الجرة بيدي، وإذا بجنبي ملكان فدنوت منهما، فصبا فيها هذا الماء من الهواء، وأنا أسمع خرير الماء.

قال سهل: فغشي عليَّ، فلما أفقت إذا بالجرة موضوعة ولا علم لي بالدب أين ذهب، فأنا متحير إذ لم أكلمه، فلما فرغت أردت أن أشرب منها، فنوديت من الوادي: يا سهل لم يأن لك شرب هذا الماء بعد، فبقيت الجرة تضطرب وأنا أنظر إليها، فلا أدري أين ذهبت.

‌فصل

عن سهل أيضا رحمه الله قال: توضأت في يوم جمعة ومضيت إلى الجامع في أيام البداية، فوجدته قد امتلأ بالناس، وهمَّ الخطيب أن يرقا على المنبر فأسأت الأدب، ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول، فجلست، وإذا عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار صوف

(2)

فلما نظر إلي قال: كيف تجدك يا سهل؟ قلت: بخير أصلحك اللَّه. وبقيت متفكرا في معرفته لي وأنا لم أعرفه

(3)

، فبينما أنا كذلك إذ جد بي حرقان بول، فأكربني، فبقيت على وجل

(1)

قد رأينا في ترجمة جماعة من أهل اللَّه وأوليائه أنهم سمعوا خطابا من فوقهم ورأوا صورة تكلمهم وتقول: يا عبدي قد وصلت إليَّ وقد أسقطت عنك التكاليف الشرعية بأسرها، فعند أن يسمع منهم السامع ذلك يقول: ما أظنك أيها المتكلم إلا شيطانا فأعوذ باللَّه منك، فعند ذلك تتلاشى تلك الصورة ولا يبقى لها أثر، فقد بلغ كيد الشيطان إلى هذا الكيد العظيم. [قطر الولي على حديث الولي للشوكاني (350) من تحقيقنا. طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

الكرامة تثبيت لمن أظهرت له، ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم، وفقدها أرباب النهايات في نهاياتهم، إذ ما عليه أهل النهاية من الرسوخ في اليقين والقوة والتمكين لا يحتاجون معه إلى مثبت، وهكذا كان السلف الصالح لم يحوجهم الحق سبحانه إلى وجود الكرامات الحسية لما أعطاهم من المعارف الغيبية والعلوم الإشارية ولا يحتاج جبل إلى مرساة، فالكرامة رافعة لزلزلة الشك في المنة، ومُعَرِّفَة بفضل اللَّه فيمن أظهرت عليه وشاهدة له بالاستقامة مع اللَّه سبحانه.

(3)

المحبة عند الصوفية هي من أجَلِّ مقامات اليقين حتى اختلف أهل اللَّه أيهما أتم، مقام المحبة أو مقام الرضا؟ وإن كان الذي نقول به: أن مقام الرضا أتم؛ لأن المحبة ربما حكم سلطانها على المحب، وقوي عليه وجود الشغف فأداه ذلك إلى طلب شهود ما لا يليق بمقامه؛ ألا ترى أن المحب يريد دوام شهود الحيب، والراضي عن اللَّه راض عنه أشهد أم حجبه، والمحب يحب =

ص: 547

خوفا أن أتخطى رقاب الناس، وإن جلست إلى الصلاة، فالتفت إليَّ وقال: يا سهل أخذك حرقان البول؟ قلت: أجل. فنزع إحرامه عن منكبه فغشاني به، ثم قال: اقض حاجتك وأسرع تلحق الصلاة.

قال: فغُمِّي عليَّ ففتحت عيني فإذا بباب مفتوح، فسمعت قائلا يقول: ألج الباب يرحمك اللَّه، فولجت الباب، وإذا بقصر مشيد عالي البنيان، شامخ الأركان، وإذا بنخلة قائمة إلى جنبها مطهرة مملوءة ماء أحلى من الشهد، ومنزل إراقة الماء، ومنشفة وسواك

(1)

فحللت لباسي وأرقت الماء، ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة، فسمعته ينادي ويقول: إن كنت قضيت أربك فقل لي، فقلت: نعم فنزع الإحرام عني فإذا أنا جالس في مكاني ولم يشعر بي أحد، فبقيت متفكرا في نفسي، وأنا مُكذِّب نفسي فيما جرى.

فقامت الصلاة وصلى الناس، فصليت معهم، ولم يكن لي شغل إلا الفتى، لا أعرفه. فلما فرغ تبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب فالتفت إليَّ وقال: يا سهل كأنك ما وثقت بما رأيت، قلت كلا، قال: ألج الباب يرحمك اللَّه، فنظرت الباب بعينه، فولجت القصر، فنظرت النخلة والمطهرة والحال بعينه، والمنشفة مبلولة، فقلت: آمنت باللَّه

(2)

.

فقال: يا سهل من أطاع اللَّه أطاعه كل شيء، اطلبه تجده، فتغرغرت عيناي

= دوام الوصلة؟ والراضي عن اللَّه راض عنه وصله أم قطعه. [لطائف المنن لابن عطاء اللَّه ص 59].

(1)

قال أهل اللغة: السواك بكسر السين، وهو يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يتسوك به، وهو مذكر، وتؤنثه العرب أيضا، ثم إن السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال، لا في الصلاة ولا في غيرها بإجماع، وقد حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني، إمام أصحابنا العراقيين عن داود الظاهري أنه أوجبه للصلاة، وحكاه الماوردي عن داود وقال: هو عندي واحب، لو تركه لم تبطل صلاته، وحكى عن إسحاق أنه قال: هو واجب، فإن تركه عمدا بطلت صلاته، وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود، وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون، وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (3/ 121، 122) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

الولاية ولايتان: ولاية الصادقين، وولاية الصديقين؛ فولاية الصادقين بإخلاص العمل للَّه والقيام بالوفاء مع اللَّه طالبا للجزاء من اللَّه. وولاية الصديقين بالفناء عما سوى اللَّه، والبقاء في كل شيء باللَّه، وقد قال أبو الحسن الشاذلي: في بعض كتب اللَّه المنزلة على أنبيائه قال اللَّه: من أطاعني في كل شيء أطعته في كل شيء. [انظر لطائف المنن لابن عطاء اللَّه ص 49].

ص: 548

بالدموع، فمسحتها وفتحتها فلم أر الفتى ولا القصر، فبقيت متحسرا على ما فاتني، ثم أخذت في العبادة.

‌فصل

عن محمد بن عبد الرحمن عن رجل حدثه أنهم كانوا بالبصرة في سنة قحط الناس فيها وغلا سعرهم، واحتبس عنهم المطر، فخرجوا يستسقون

(1)

وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزل اليهود ومعهم التوراة، واعتزل النصارى ومعهم الإنجيل، واعتزل المسلمون فكلهم يدعون، فانصرفوا يومهم ذلك ولم يُسْقَوا. قال: فبينما أنا أمشي بعد ذلك في طريق المربد نظرت فإذا بين يدي فتى عليه أطمار رثة، وهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجبان فدخل بعض تلك المساجد التي بالقرب من المقابر ودخلت خلفه، يحول بيني وبينه أركان المسجد، فصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال في دعائه: يا رب استغاث بك عبادك فلم تسقهم، يا رب الآن تشمت بنا اليهود والنصارى، أقسمت عليك يا رب إلا سقيتنا الساعة ولم تردني

(2)

.

قال فما برح يدعو حتى جاءت سحابة ومطرنا، فخرج وخرجت في أثره لأعرف موضعه، فجاء إلى دار فيها أخصاص وأكواخ، وفيها سكان، فدخل بيتا منها، فعرفت موضعه، فانصرفت عنه وهيأت دراهم في صرة، ثم جئت فاستأذنت عليه، فدخلت، فإذا ليس بالبيت إلا قطعة حصير ومطهرة فيها ماء، وإذا هو قاعد يعمل الخوص

(3)

، فسلمت عليه ورب بي وبش، فتحدثت ساعة ثم أخرجت الصرة فقلت: يرحمك اللَّه انتفع بهذه، فتبسم وقال: جزاك اللَّه خيرا، أنا في غنى عنها، فألححت عليه، فجعل

(1)

أجمع العلماء على أن الاستسقاء سنة، واختلفوا: هل تسن له صلاة أم لا، فقال أبو حنيفة: لا تسن له صلاة بل يستسقي بالدعاء بلا صلاة، وقال سائر العلماء من السلف والخلف والصحابة والتابعون فمن بعدهم: تسن الصلاة، ولم يخالف فيه إلا أبو حنيفة، وتعلق بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة، واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلى للاستسقاء ركعتين.

(2)

روي في الصحيحين من حديث أنس رفعه: "إن من عباد اللَّه من لو أقسم على اللَّه لأبره" وحديث ذلك مع الصحابي الجليل البراء بن مالك أحد الأبطال الذين يضرب بهم المثل في الفروسية والشدة، وكان من فضلاء الأنصار، وأحد السادة الأبرار، قتل من المشركين مائة مبارزة، وشهد أُحُدًا، وما بعدها.

وقد ذكر ابن تيمية أن في موقعة القادسية قال البراء: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل شهيدا. [انظر الفرقان لابن تيمية ص 69].

(3)

روى البيهقي في السنن الكبرى (6/ 127) رفعه: "ما أكل ابن آدم طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده".

ص: 549

يدعو ويأبى أن يأخذها، فلما أكثرت عليه تنكر لي وقال: حسبك الآن؛ ليس لي فيها حاجة، فأقبلت عليه وقلت: رحمك اللَّه؛ إن لي حقا، قال: وما هو رحمك اللَّه؟ قلت: كنت أسمع دعاءك حيث خرجت إلى الجبان. قال: فاصفر وجهه حتى أنكرته، وساءه ما قلت له، ثم خرجت من عنده، فلما كان بعد ذلك بأيام أتيته، فلما دخلت الدار جعل سكان الدار يصيحون بقيِّم الدار: هو ذا قد جاء، فجاء إليَّ وتعلق بي وقال: يا عدو نفسه، ما صنعت بذلك الفتى الذي جئته اليوم الأول، أي شيء أسمعته؟ قلت: لا تعجل عليَّ أُخبرك بالحديث.

فقال إنك لما خرجت من عنده قام في الحال فأخذ حصيره ومطهرته وودعنا، فخرج ولم يعد البيت إلى الساعة، ولا ندري أين توجه.

‌فصل

حكي أنه أمسك الغيث عن بغداد حتى كاد أهلها يهلكون، واغتسلوا وتطهروا وخرجوا إلى الصحراء يسألون اللَّه عز وجل أن يسقيهم غيثه يوما بعد يوم، فلم يُسْقَوا.

وكان ذلك في خلافة هارون الرشيد

(1)

، فبينما هم كذلك يلوذون ويتوسلون إذا برجل قد أقبل من صدر البرية أشعث أغبر ذي طمرين، ومعه ثلاث بنات عذارى كأحسن البنات، فوقفوا في أطراف الناس، فسلم عليهم، فردوا عليه السلام، فقال: يا قوم ما لكم وقوفا مجتمعين؟ فقالوا: يا شيخ دعونا اللَّه عز وجل أن يسقينا

(2)

. فقال: يا قوم أهو غائب عنكم في المدينة حتى خرجتم إلى الصحراء؟ أو ليس هو سبحانه وتعالى في كل مكان موجود؟ أما قال تعالى في محكم تنزيله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}

(3)

.

(1)

استخلف سنة (170) بعد موت أخيه الهادي، واسمه أبو جعفر بن محمد المهدي بن المنصور أبي جعفر عبد اللَّه بن عباس العباسي البغدادي، كان كثير الغزو والحج، أغزاه والده أرض الروم وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه، سيما إذا وُعِظ، وكان يحب المديح ويجيز عليه الأموال الجزيلة الجليلة، مات سنة (193) وله (45) سنة.

(2)

والاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها: الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة، والثاني: الاستسقاء في خطبة الجمعة أو في أثر صلاة مفروضة، وهو أفضل من النوع الذي قبله، والثالث: وهو أحكمها: أن يكون بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة اللَّه تعالى. [النووي في شرح مسلم (6/ 165) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

سورة الحديد (4).

ص: 550

فبلغ هارون الرشيد خبره، فقال: هذا كلام رجل بينه وبين اللَّه سريرة، ثم قال: ائتوني به، فلما أحضر بين يديه وتسالما، صافحه هارون وأجلسه بين يديه، ثم قال له: يا شيخ، ادع اللَّه أن يسقينا

(1)

عسى أن يكون لك عند اللَّه جاه، فتبسم الشيخ وقال: أتريدون أن أدعو لكم إلهي وسيدي ومولاي؟ فقالوا: نعم.

قال توبوا إلى اللَّه عز وجل

(2)

. فنودي بالناس بالتوبة، فتابوا وأنابوا، ثم تقدم الشيخ فصلى ركعتين خفيفتين، فلما سلم أخذ بناته عن يمينه وعن يساره، وبسط يديه وأسبل دمعته، ودعا فما استتم دعاءه إلا والسماء قد تجللت بالسحاب، وأرعدت وأبرقت وأسبلت مطرا كأفواه القرب.

فاستبشر الرشيد بذلك، واجتمع إليه خواصَّه وأهل مملكته يهنونه ويبشرونه، فقال: عليَّ بالشيخ الصالح، فطلبوه فوجدوه في مكانه ساجدا في الماء والطين، للَّه رب العالمين. فقالوا لبناته: ما لأبيكن هكذا لا يرفع رأسه؟ فقلن: هذه عادته إذا سجد لا يفيق ولا يرفع رأسه إلى ثلاثة أيام.

فأخبروا بذلك الرشيد فبكى بكاء شديدا

(3)

، وقال: اللهم إني توسلت إليك بحرمة الصالحين أن تهبنا لهم، وتفيض علينا من جزيل بركاتهم بفضلك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

(1)

في الاستسقاء يستحب تحويل الرداء في أثنائها، قال أصحابنا: يحول في نحو ثلث الخطبة الثانية، وذلك حين يستقبل القبلة، قالوا: والتحويل شرع تفاؤلا بتغير الحال من القحط إلى نزول الغيث والخصب، ومن ضيق الحال إلى سعته، وفيه دليل للشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء في استحباب تحويل الرداء، ولم يستحبه أبو حنيفة، ويستحب عندنا أيضا للمأمومين كما يستحب للإمام، وبه قال مالك وغيره، وخالف فيه جماعة من العلماء. [المرجع السابق (6/ 166)].

(2)

قال تعالى حاكيا عن نوح صلى الله عليه وسلم: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12] قال ابن كثير: روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار، ومنها هذه الآية. [تفسير ابن كثير (4/ 424)].

(3)

كان الرشيد يبكي على نفسه وإسرافه وذنوبه، سيما إذا وُعِظَ، دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ فبالغ في احترامه، فقال له ابن السماك: تواضعك في شرفك أشرف من شرفك، ثم وعظه فأبكاه، وقد وعظه الفضيل بن عياض حتى جعل يشهق بالبكاء، وكان هو أتى بنفسه إلى بيت الفضيل، ومن محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء، وأمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك. [تاريخ الإسلام، وفيات (191 - 200)].

ص: 551

‌فصل

قال الأستاذ (أبو علي)

(1)

الدقاق

(2)

- رحمة اللَّه عليه: ظهرت علة بيعقوب بن الليث أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمى سهل بن عبد اللَّه رحمه الله لو دعا لك لعل اللَّه يستجيب له، فاستحضره وقال: ادع لي، فقال سهل: كيف يستجاب دعائي فيك وفي حبسك مظلومون؟ فأطلق كل من في حبسه. فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة. ففرج عنه فعوفي، فعرض مالا على سهل، فأبى أن يقبله. فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء، فنظر إلى الحصى فإذا هو جواهر، فقال: من يُعْطَى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ رحمه الله ونفعنا به.

‌فصل

عن عبد اللَّه بن المبارك -رحمة اللَّه عليه- قال: كنت بمكة وقد لحق الناس قحط، واستمر إمساك المطر عنهم، فخرج الناس يستسقون في المسجد الحرام

(3)

ولم يبق أحد من الصغار والكبار، وكنت في الناس مما يلي باب شيبة، وإذا قد أقبل عبد أسود عليه قطعتا خيش، قد اتزر بأحديهما وألقى الأخرى على عاتقه، فانتهى إلى موضع حُقِّي بحذائي، فسمعته يقول: إلهي وسيدي، قد أخلقت الوجوه كثرة الذنوب ومساوئ الأعمال

(4)

، وقد منعتنا غيث السماء الذنوب الخليقة بذلك، فأسألك يا

(1)

كذا بالأصل، وما وجدناه "أبو بكر".

(2)

أبو بكر نصر بن أحمد بن نصر الدقاق، كان من أقران الجنيد ومن كبار مشايخ مصر، قال الكاساني: لما مات الدقاق انقطعت حجة الفقراء في دخولهم مصر، وكان يقول: آفة المريد ثلاثة أشياء: التزويج، وكتابة الحديث، ومعاشرة الضد، وكان يقول: لا يصلح هذا الأمر إلا لأقوام قد كنسوا بأرواحهم المزبل على رضا منهم واختيار، وكان يقول: عطشت مرة فاستقبلني جندي فسقاني شربة فعادت قساوتها في قلبي ثلاثين سنة. [انظر الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 76)].

(3)

في صلاة الاستسقاء ركعتان وهو كذلك بإجماع المثبتين لها، واختلفوا: هل هي قبل الخطبة أو بعدها، فذهب الشافعي والجماهير إلى أنها قبل الخطبة، وقال الليث: بعد الخطبة، وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها.

(4)

الإيمان مرتبط بالولاية، قال ابن عطاء اللَّه: ربط الولاية بالإيمان ليعرفك عزازة قدر الإيمان وعلو منصبه حتى كان سببا لثبوت ولاية اللَّه للعبد، ولا يفهم من هذه الآية:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] اختصاص الولاية بمن وقع منه الإيمان قبل نزول هذا الخطاب لإتيانه بصيغة الماضي، بل المراد أن من قام به الإيمان وجبت ولاية اللَّه له، أي وقت كان ذلك الإيمان. [لطائف المنن لابن عطاء اللَّه (47)].

ص: 552

حليما ذا أناة، يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة

(1)

فلم يزل يقول: الساعة الساعة حتى استترت السماء بالغمام، وأقبل المطر من كل مكان.

وجلس مكانه، وأخذت أبكي، فلما قام اتبعته حتى عرفت موضعه، فجئت إلى الفضيل بن عياض رحمه الله فقال ما لي أراك كئيبا؟ فقلت: سعى إليه غيرنا فتولاه دوننا. قال: وما ذاك؟ فقصصت عليه القصة، فصاح وسقط وقال: ويحك يا ابن المبارك خذني إليه. قلت قد ضاق الوقت وسأبحث عن شأنه، فلما كان من الغد صليت الغداة، وخرجت أريد الموضع

(2)

فإذا شيخ على الباب قد بسط له، وهو جالس، فلما رآني عرفني وقال: مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن، ما حاجتك؟

فقلت له: احتجت إلى غلام أسود. فقال: نعم عندي عدة فاختر أيهم شئت، وصاح: يا غلام، فخرج غلام جلد، فقال: نعم هذا محمود العافية أرضاه لك، فقلت: ليس هذا حاجتي، فما زال يخرج لي واحدا بعد واحد حتى أخرج لي الغلام المذكور، فلما بصرت به برزت عيناي، فقال هذا هو؟ قلت: نعم. قال: ليس إلى بيعه سبيل. قلت: ولِمَ؟

قال: قد تبركت لموضعه في هذه الدار، وذلك أنه لا يرزأني

(3)

شيئا، قلت: ومن أين طعامه؟ قال: إن يكسب بثمن فتل

(4)

الشريط كل يوم نصف دانق

(5)

أو أقل أو أكثر فهو قوته، فإن باعه في يومه وإلا طوى ذلك اليوم، وأخبرني عنه الغلمان أنه لا ينام هذا الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم، وهو مهتم بنفسه، وقد أحبه قلبي.

فقلت: انصرف إلى سفيان الثوري والفضيل بن عياض بغير قضاء حاجتهما؟

(1)

روى البخاري في صحيحه (1013) في الاستسقاء عن أنس أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وِجاه المنبر ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول اللَّه هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يغيثنا، قال: فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم اسقنا اللهم اسقنا. . . . " إلى آخره.

وروى أبو داود في سننه (1169) عن جابر رفعه: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا، نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل" قال: فأطبقت عليهم السماء.

(2)

هناك من العباد من عنده من الشغف والحب ما ليس تكفيهم الواجبات، بل قلوبهم متلهفة إلى اللَّه من عوائف هذه الدار الفانية، ويحبون أن يكونوا دائما في ذكر اللَّه وطاعة اللَّه، ولو لم يحجر عليهم التنفل بالصلاة في أوقات النهي لوصلوا الليل بالنهار ولحملوا أنفسهم فوق ما يطيقون. [انظر هامش قطر الولي على حديث الولي (ص 259)].

(3)

رزأه رزءًا أصابه بمصيبة، ورُزي ولده: فقده، والرزيئة: المصيبة، جمعها رزايا.

(4)

فتل الحبل وغيره فتلا: لواه وبرمه، فهو مفتول، ويقال فتل الشيء فتله.

(5)

الدانق سدس الدرهم، جمعها دوانق - دوانيق.

ص: 553

فقال: عن ممشاك عندي لكبير، خذه بما شئت.

فاشتريته، وأخذت به نحو دار الفضيل، فمشيت ساعة، ثم قال لي: يا مولاي، قلت لبيك، فقال: لا تقل لبيك، فإن العبد أولى أن يلبي مولاه، فقلت: ما حاجتك يا حبيبي؟ قال أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة، وقد كان لك في غيري سعة، وقد أخرج إليك ما هو أجلد

(1)

مني، قلت: لا يراني اللَّه أستخدمك، ولكن أشتري لك منزلا وأزوجك وأخدمك أنا بنفسي، فبكى، فقلت له: ما يبكيك؟

قال: أنت لم تفعل بي هذا إلا وقد رأيت بعض صلاتي للَّه تعالى، وإلا فلم اخترتني من بين أولئك؟ فقلت له: ليس بك حاجة إلى هذا. فقال: سألتك إلا ما أخبرتني. فقلت له: بإجابة دعوتك، فقال لي: أحسبك إن شاء اللَّه رجلا صالحا، إن للَّه عز وجل خبرة في خلقه لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده، ولا يُظْهِر عليهم إلا من ارتضى من خلقه

(2)

، ثم قال: ترى أن تقف عليَّ قليلا، فإنه قد بقيت عليَّ ركعات من البارحة، قلت: هذا منزل الفضيل قريب، قال: لا ههنا أَحَبَّ إليَّ، أمر اللَّه عز وجل لا يؤخر.

فدخل المسجد فلا زال يصلي حتى أتى على ما أراد، ثم التفت إليَّ وقال: يا أبا عبد الرحمن هل من حاجة؟ قلت: لِمَ؟ قال: إني أريد الانصراف. قلت: إلى أين؟ قال إلى الآخرة، فقلت: لا تفعل، دعني أسرُّ بك.

فقال: إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه، فأما إذا اطلعت عليها فسيطلع عليها غيرك، ولا حاجة لي في ذلك، ثم خر لوجه فجعل يقول: إلهي اقبضني الساعة الساعة، فدنوت منه فإذا هو قد مات

(3)

. فواللَّه ما ذكرته إلا طال حزني

(1)

الجَلَدُ: القوة والصبر على المكروه، جمعها: أجلاد وجِلاد. قال ابن سعد: ولد الفضيل بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير فسمع من منصور وغيره، ثم تعبد ونزل مكة، وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدا كثير الحديث، وكان إماما ثقة زاهدا عابدا نبيها صمدانيا، كبير الشأن، توفي سنة (187) تاريخ الإسلام وفيات (181 - 190).

(2)

قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} وهذا يعم الرسول الملكي والبشري، وهذا كقوله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].

(3)

قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]. ويقول تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: 34] أي ميقاتهم المقدر لهم {لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبشر وحذر:{فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]. [تفسير ابن كثير (2/ 216)].

ص: 554

وصغرت الدنيا في عيني.

وفي أمثاله قيل:

عبيد لمولاهم تعالى وغيرهم

عبيد الهوى بين الفريقين كالثرى

وعلو الثريا في ارتفاع مقامهم

بهم يدفع اللَّه البلايا عن الورى

‌فصل

عن إبراهيم الخواص

(1)

-رحمة اللَّه عليه- قال: رأيت بالبصرة مملوكًا في السوق ينادي عليه: من يشتري هذا الغلام؟ فقلت للبائع: بكم هذا الغلام؟ فقال: بما أردت فإنه مجنون، فأعطيته ثمنه وقلت في نفسي قد أعتقته لوجهك.

فالتفت إليَّ وقال: يا إبراهيم إن كنت أعتقتني في الدنيا فقد أعتقك اللَّه في الآخرة من النار، ثم غاب عني فلم أره.

‌فصل

عن عبد الواحد بن زيد

(2)

رحمه الله قال: اشتريت غلاما على شرط الخدمة، فلما جن الليل طلبته في داري فلم أجده، والأبواب على حالها مغلقة فلما أصبحت جاء وأعطاني درهما منقوشا عليه سورة الإخلاص

(3)

فقلت له: من أين لك؟ قال: يا

(1)

إبراهيم بن إسماعيل الخواص: كان من أقران الجنيد والثوري، وله في الرياضات والسياحات مقام طويل، مات بجامع الري سنة (291) مات بعلة البطن، وكان كلما قام توضأ وصلى ركعتين فدخل الماء يوما فمات وسط الماء، وكان يقول: إنما العلم لمن اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم، وكان يقول: التاجر برأس مال غيره مفلس، وكان يقول: على قدر إعزاز المؤمن لأمر اللَّه يلبسه اللَّه من عزه ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.

(2)

قال ابن حبان: كان ممن غلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان، فكثرت المناكير في حديثه.

وكان شيخ الصوفية، قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي أبو سليمان: أصاب عبد الواحد الفالج فسأل اللَّه أن يطلقه في وقت الوضوء، فإذا أراد أن يتوضأ انطلق وإذا رجع إلى سريره فلج.

قال ابن الأعرابي: قال عبد الواحد: بالمحبة على مذهب أهل الخصوص، ولو صدق نفسه لاضطرب قوله بالمحبة إلى القول بالسنة والكتاب، ولكنه سامح نفسه وتكلم في الشوق والغرق والأنس، وجميع فرع المحبة التي قال بها أهل الإثبات.

(3)

روى الترمذي في سننه (2899) في فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الإخلاص، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن" وقد رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} عن أبي هريرة بأطول من ذلك.

ص: 555

سيدي لك علي كل يوم مثل هذا على أنك لا تطلبني في الليل، فكان يغيب كل ليلة ويأتي في الصبح بمثل ذلك، فلما كان بعض الأيام جاء بعض الجيران وقال: يا عبد الواحد بع غلامك فإنه نباش القبور.

فغمني ذلك، فقلت لهم: ارجعوا فأنا أحفظه في هذه الليلة، فلما كان بعد صلاة العشاء قام ليخرج، فأشار إلى الباب المغلق فانفتح، ثم أشار إليه فانغلق، وقصد الثاني ففعل مثل ذلك، ثم قصد إلى الباب الثالث ففعل مثل ذلك، وأنا أنظر، فخرج.

فتبعته ومشيت وراءه حتى بلغ أرضا ملساء، فنزع ثيابه ولبس مسحا

(1)

شعرا وصلى الفجر، ورفع رأسه إلى السماء وقال: هات أجرة سيدي الصغير، فوقع من السماء درهم، فأخذه وتركه في جيبه، فتحيرت في أمره ودهشت لحاله، وقمت فتوضأت وصليت ركعتين، واستغفرت اللَّه تعالى مما خطر ببالي، ونويت أن أعتقه، ثم إني طلبته فلم أجده.

فانصرفت حزينا، وما كنت أعرف تلك الأرض، فإذا بفارس على فرس أشهب

(2)

فقال لي يا عبد الواحد ما قعودك ههنا؟ فقلت من شأن كذا وكذا. فقال: أتدري كم بينك وبين بلدك؟ قلت: لا. قال مسيرة سنتين للراكب المسرع، فلا تبرح من هذا فإنه يأتيك في هذه الليلة. قال: فلما جن الليل إذا به قد أقبل ومعه طرفوية

(3)

عليها من كل الطعام.

فقال لي: كل يا سيدي ولا تعد إلى مثلها. فأكلت، وقام يصلي إلى الفجر، ثم أخذ بيدي، وتكلم بكلام لم أفهمه، وخطا معي خطوات فإذا أنا واقف على باب داري، وقال يا سيدي أليس قد نويت أن تعتقني؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعتقني وخذ ثمني مني، وأنت مأجور، ثم أخذ حجرا من الأرض فأعطانيه، فإذا به ذهب، ومضى الغلام وبقيت متحيرا على فراقي له.

ثم اجتمعت بجيراني، فقالوا لي: ما فعلت بالنباش؟ قلت: ذاك نباش النور لا نباش القبور، ثم حدثتهم بما شاهدته من الكرامات

(4)

، فبكوا وتابوا مما خطر لهم

(1)

المِسْح: الكساء من شعر، وثوب الراهب. جمعها: أمسح، ومسوح.

(2)

شهب، شهبا: خالط بياض شعره سواد، فهو أشهب، وهي شهباء.

(3)

الأطروفة: المُلحة والتحفة، والمستحدث المعجب، جمعها: أطاريف.

(4)

قال الشوكاني: إذا عرفت أنه لا بد للولي من أن يكون مقتديا في أقواله وأفعاله بالكتاب والسنة، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، فمن ظهر منه شيء مما يخالف هذا المعيار فهو رد عليه، ولا يجوز لأحد أن يعتقد فيه أنه ولي اللَّه، فإن أمثال هذه الأمور تكون من =

ص: 556

رحمهم الله ونفعنا بهم.

‌فصل

عن بعض أهل العلم قال: كان عندنا ببغداد رجل من التجار يقع في الصوفية كثيرا، ثم إنه بعد ذلك صحبهم وأنفق جميع ماله عليهم، فقلت له في ذلك فقال: ليس الأمر على ما كنت أتوهم.

فقلت له: كيف؟ قال: صليت الجمعة يوما من الأيام وخرجت فرأيت بشرًا الحافي

(1)

خارجا من المسجد مسرعا، فقلت في نفسي: انظر هذا الرجل الموصوف بالزهد ليس يستقر في المسجد، فتركت حاجتي وقلت: أنظر أين يذهب، فتبعته.

فرأيته تقدم إلى الجنازة واشترى بدرهم خبز الماء. . . إلى آخر الحكاية، وقد سقتها في ترجمته في الطبقات.

‌فصل

عن بعض الروم أنه قال: كان سبب إسلامي أنه غزانا المسلمون، فكنت أساير جيشهم، فوجدت غرة

(2)

في الساقة

(3)

فأسرت نحو عشرة أنفس وحملتهم على البغال بعد أن قيدتهم، وجعلت مع كل واحد منهم رجلا موكلا به، فرأيت في بعض الأيام رجلا من الأسارى يصلي، فقلت للموكل به في ذلك، فقال لي: إنه في كل وقت صلاة يدفع إليَّ دينارا، فقلت: وهل معه شيء؟ قال: لا، ولكنه إذا فرغ من صلاته ضرب بيد الأرض ودفع إليَّ ذلك.

قال: فلما كان من الغد لبست ثيابا خلقانا

(4)

وركبت فرسا وسرت مع الموكل به

= أفعال الشياطين كما نشاهده في الذين لهم تابع من الجن، فإنه قد يظهر على يده ما يظن من لم يستحضر هذا المعيار أنه كرامة، وهو في الحقيقة مخاريف شيطانية وتلبيسات إبليسية. [قطر الولي على حديث الولي (ص 41) من تحقيقنا. طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أصله من مرو، وسكن بغداد، ومات بها سنة (227) وكان صحب الفضيل بن عياض، وكان عالما ورعا كبير الشأن، أوحد وقته علما وحالا، ومن كلامه: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس، يعني يحب اطلاع الناس على صفات كماله، وكان يقول: دخلت داري يوما فإذا رجل جالس في الدار، فقلت له: كيف دخلت داري بغير إذني، فقال أنا أخوك الخضر، فقلت ادع اللَّه تعالى لي، فقال صلى الله عليه وسلم: هو اللَّه عليك طاعته، فقلت: زدني، فقال: وسترها عليك. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 62)].

(2)

غر الرجل: جهل الأمور وغفل عنها، فهو مغرور، والغِرُّ: من ينخدع، وهي غِرَّة.

(3)

الساقة من الجيش: مؤخرته.

(4)

خَلِق الثوب والجلد وغيرهما خَلَقًا: بلي، والشيء: لان وأصبح أملس فهو أخلق، وهي خلقاء.

ص: 557

لأعرف صحة ذلك، فلما دنا وقت صلاة الظهر أومأ إليَّ أنه يدفع لي دينارا متى تركته يصلي، فأشرت إليه بأصبعي إني لا آخذ إلا دينارين، فأومأ برأسه: نعم. فلما فرغ من صلاته رأيته ضرب الأرض بيده فدفع إليَّ دينارين

(1)

.

فلما كان وقت العصر أشار كالمرة الأولى، فأشرت إليه: لا آحذ إلا خمسة دنانير، فلما كان وقت المغرب أشار كذلك فقلت: لا آخذ إلا عشرة، فلما نزلنا وأصبحنا دعوت به وسألته عن خبره وخيرته في رجوعه إلى بلاد الإسلام، فاختار الرجوع، فأركبته بغلا، ودفعت إليه زادا، وحملته بنفسي على البغل. فقال لي: أماتك اللَّه على أحب الأديان إليه

(2)

فوقع لي من ذلك الوقت الإسلام، وأرسلت معه جماعة من وجوه أصحابي وأوصيتهم بإيصاله إلى أول بلد المسلمين، ودفعت إليه دواة وبياضا، وجعلت بيني وبينه علامة يكتب بها إليَّ إذا وصل مأمنه، وكان بيننا وبين ذلك الموضع مسيرة أربعة أيام، فلما كان اليوم الخامس رجعوا إليَّ أصحابي، فخشيت أن يكونوا قتلوه، فسألتهم عنه فقالوا: لما فارقناك وصلنا معه في ساعة، وأقمنا في رجوعنا أربعة أيام.

‌فصل

روي أن امرأة جاءت إلى بعض المشايخ وقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دوبرة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار

(3)

.

فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء اللَّه. وأطرق الشيخ وحرك شفتيه، ثم جاءت المرأة بعد مدة ومعها ابنها وأخذت تدعو للشيخ وتقول: قد رجع

(1)

الكرامة تثبيت لمن أظهرت، ربما وجدها أهل البدايات في بداياتهم، وفقدها أرباب النهايات في نهاياتهم، إذ ما عليه أهل النهاية في الرسوخ في اليقين والقوة والتمكين لا يحتاجون معه إلى مثبت، وهكذا كان السلف الصالح لم يحوجهم الحق سبحانه إلى وجود الكرامات الحسية لما أعطاهم من المعارف الغيبية والعلوم الإشارية ولا يحتاج جبل إلى مرساة، فالكرامة رافعة لزلزلة الشك في المنة، ومُعَرِّفَة بفضل اللَّه فيمن ظهرت عليه وشاهدة له بالاستقامة مع اللَّه سبحانه.

(2)

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

(3)

روى البخاري في صحيحه (6345) في الدعوات عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السموات والأرض، رب العرش الكريم". وفي البخاري أيضا (4563) عن ابن عباس قال: سسحسبنا اللَّه ونعم الوكيلطط قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} .

ص: 558

ولدي سالما، وله حديث يحدثك به

(1)

.

فقال الشاب: كنت بين يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسرى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينما نحن راجعون من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي كان يحفظنا، انفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافقا الوقت الذي جاءت فيه المرأة إلى الشيخ ودعا فيه لها.

قال فنهض الذي كان يحفظنا وصاح عليَّ وقال: كسرت القيد؟ فقلت لا بل سقط من رجلي، فتحير وأخبر صاحبه وأحضر الحداد، وقيدوني، فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي ثانيا، فتحيروا في أمري، فدعوا رهبانهم، فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت نعم، فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقوه فلا يمكننا نقيدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.

‌فصل

حكي عن بعض التجار أنه قال: سافرت مرة ومعي دابة عليها قماش، فلما دخلت مصر واختلطت بالناس نظرت الدابة فلم أجدها

(2)

، ففتشت عليها وسألت عنها، فلم أعلم لها خبرا، فقال لي بعض أصحابي: ائت الشيخ أبا العباس الدمنهوري لعله يدعو لك، وكنت أعرفه قبل ذلك.

فجئت إليه وسلمت عليه، وحكيت له قصتي، فما أصغى إلى كلامي ولا فرَّحني بحاجتي، ولكن قال: عندنا ضيفان نطلب لهم كيت وكيت من الدقيق واللحم والحوائج وغير ذلك، فخرجت من عنده وأنا أقول: واللَّه لا رجعت إلى هؤلاء الفقراء؛ ما يعرفون إلا حوائجهم، أتيت إليه وأنا مضرور فما سمع شكوى ولا دعا لي

(3)

، بل طلب قضاء حاجته.

(1)

روى الحاكم في المستدرك (1/ 320) عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما فقعد فقال: "من كانت له حاجة إلى اللَّه أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه، ثم ليصل ركعتين ثم يثني على اللَّه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، الحمد للَّه رب العالمين، أسألك عزائم مغفرتك، والعصمة من كل ذنب، والسلامة من كل إثم".

(2)

روى ابن أبي شيبة في مصنفه (13442) عن ابن عمر رضي الله عنهما في الضالة يتوضأ ويصلي ركعتين ويتشهد ويقول: بسم اللَّه، يا هادي الضال وراد الضالة، اردد عليَّ ضالتي بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك.

(3)

قال القاضي عياض: إن اللَّه أذن في دعائه وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم =

ص: 559

فمضيت على هذه النية، فوجدت بعض من كان لي عليه دين

(1)

فأمسكته وقلت له: ما أفارقك حتى تخلصني، فدفع إليَّ ستين درهما، أو نحو ذلك، فلما حصل لي ذلك قلت في نفسي: واللَّه لأخطون معه بهذه، فإما يحصل لي الجميع وإلا ذهبت مع ما ذهب في سبيل اللَّه تعالى، فاشتريت جميع ما ذكر لي الشيخ وفضل معي فضلة، فاشتريت به علبة حلوى، وحملت الجميع على حمَّال وأتيت الشيخ، فلما وصلت قريب الزاوية إذا أنا بدابتي واقفة على باب الزاوية، فقلت في نفسي: هذه دابتي. ثم قلت: وأين دابتي؟ لعلها تشبهها، فلما دنوت منها وجدتها دابتي بعينها وعليها القماش بعينه كما هو، فتعجبت من ذلك ثم قلت: أخلي من يحفظها أو أدخل بها الزاوية لئلا تذهب؟ ثم قلت: الذي سلمها وحفظها عليَّ هو يحفظها، ثم دخلت على الشيخ فوضعت الحوائج بين يديه فاستعرضها حاجة حاجة حتى انتهى إلى علبة الحلاوة فقال: إيش هذه؟ قلت: يا سيدي فضلت معي فضلة فاشتريت بها هذه. فقال: هذه لم تكن داخلة في الشرط ولكن أزيدك بها زيادة؛ اذهب إلى القيسارية وبع قماشك ولا تعجل عليه، وكلما بعت شيئا اقبض ثمنه ولا تخف أن يرد عليك أحد من التجار، فالبحر في يميني والبر في شمالي

(2)

.

قال فمشيت إلى القيسارية فوجدت جميع ما كان معي من القماش مطلوبا، فبعته بزيادة كثيرة عن العادة جدًا، وكلما بعت شيئا قبضت ثمنه، فلما فرغت من ذلك أقبل التجار من البر والبحر كأنهم قد أُطْلِقُوا.

= الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعاءه صلى الله عليه وسلم، وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، [انظر مقدمة كتاب سلاح المؤمن لابن الإمام ص 26، 27].

(1)

روى أبو داود في سننه (1555) عن أبي سعيد قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال:"يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة؟ " قال: هموم لزمتني وديون يا رسول اللَّه، قال:"أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب اللَّه همك، وقضى دينك؟ " قال: قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال:"قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" قال: ففعلت ذلك فأذهب اللَّه همي ووفى عني ديني.

(2)

قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 83].

ص: 560

‌فصل

قال بعض السلف - رحمة اللَّه عليه: كان لرجل على رجل مائة دينار بوثيقة إلى أجل.

فلما جاء الأجل طلب الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بنان الجمال

(1)

فسأله الدعاء، فقال له: أنا قد كبرت وأنا أحب الحلوى، اذهب فاشتر لي رطل معقود وجئني به حتى أدعو لك.

فذهب فاشترى له ما قال ثم جاءه، فقال له بنان: افتح القرطاس، ففتحه فإذا بالوثيقة فيه. فقال له بنان: خذ وثيقتك وخذ المعقود وأطعمه صبيانك، فأخذهما ومضى، ولم يأخذ منه شيئا، رحمه الله ونفعنا به.

‌فصل

روي أنه لما وصل أبو عبد اللَّه القرشي

(2)

رحمه الله إلى القدس كان معه الفقيه أبو طاهر المحلي، فمر الفقيه أبو طاهر المذكور على مدرسة بالقدس والفقهاء جالسون على بابها بأعظم هيئة ولباس، وزي أكثرهم أعاجم، فاستحيا أن يمر عليهم لحقارته في نفسه، وهو شاب أسود فقير رث الحال.

فلما رجع إلى الشيخ وبات معه إلى الصبح قال له الشيخ: امض إلى المدرسة التي مررت عليها، كن بها معيدًا، قال: فتعجبت وعظم ذلك عليَّ واستحلت وقوعه، ولم يمكني إلا الامتثال، فجئت إليها وأنا أتوهم أن البواب يمنعني من الدخول فلم يمنعني، فدخلت فوجدت المدرس جالسا، وحلقة كبيرة دائرة عليه، فأردت أن أدخل في الحلقة، فلم يفسح لي

(3)

أحد منهم احتقارًا وامتهانه بي.

(1)

أبو الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الجمال، كان أصله من واسط، سكن مصر واستوطنها، ومات بها ودفن بالقرافة من الجبل سنة (316)، وكان من جملة المشايخ القائمين بالحق والآمرين بالمعروف، له المقامات المشهورة والكرامات المذكورة، صحب أبا القاسم الجنيد وغيره من مشايخ الوقت، وكان أستاذ النوري، ومن كلامه: أجل أحوال الصوفية الثقة بالمضمون، والقيام بالأمر والمراعاة للسر، والتخلي من الكونين والتعلق بالحق تعالى. [الطبقات الكبرى للشعراني (1/ 84)].

(2)

قال أبو عبد اللَّه القرشي: الزم العبودية وآدابها، ولا تطلب بها الوصول إليه، فإنه إذا أرادك له أوصلك إليه، وأي عمل خلص حتى تطلب به الوصول؟ وكان يقول: أبت البشرية أن تتوجه إلى اللَّه تعالى في الشدائد، فقيل له في ذلك، قال: عطشت مرة في طريق الحاج فقلت لخادمي: اغرف لي من البحر المالح، فغرف لي ماء حلوا، فلما ذهبت الضرورة غرفت فإذا هو مالح.

(3)

روى مسلم في صحيحه [26 - (2176)] كتاب السلام، [10] باب من أتى مجلسا فوجد فرجة =

ص: 561

فجلست خلف اثنين منهم، وإذا برجل قد دخل من باب المدرسة، فلما رآه المدرس عبس وجهه وقام إليه يتلقاه، وانقبض الجماعة بأسرهم، فقلت للذي أنا وراء ظهره: يا أخي ما للجماعة؟ قال: هذا الذي دخل جدلي خلافي لا يطاق، إذا جاء لا يبقى للشيخ معه كلام، لا يلاطفه ولا يستطيع أحد مجاراته. فلما تلقاه الشيخ أجلسه في مكانه.

فلما قعد استفتح وألقى مسألة خلافية عقدة، فلما استكمل إيرادها فُتِحَ عليَّ بحفظ سؤاله والجواب عنه، فزاحمت ودخلت بين اثنين وانطلق لساني ونصبت سؤاله وما غيرت منه شيئا. وهذا ترتيب المناظرين إعادة السؤال، ثم أجبته بما فتح اللَّه عليَّ، ولم أكن قرأت علم الخلاف ولا ناظرت، فتعجب المدرس مني، وبهت الجماعة من أمري، واستعظموا ذلك، فقال المناظر للمدرس: هذا الفقيه

(1)

من أين لكم؟ قال: ما رأيناه إلا في هذه الساعة! قال: لمثل هذا بُنيت المدارس، ففرح المدرس الذي كان في حلقته من إجابة هذا المناظر، ثم قال المدرس لي: ما اسمك؟ فذكرت له اسمي، ففال: قد ولَّيْتكُ الإعادة، ثم قام فقمت معه، وقامت الجماعة. فقال: يا فقيه عادتنا إذا استقدمنا معيدا نوصله حال توليته إلى منزله.

فلما خرجنا من المدرسة قصد أن يمشي هو والجماعة معي، فسألته أن يخلي عن ذلك، فقبل ورجع، فلما جئت إلى الشيخ قال: يا فضولي، لأي شيء منعته أن يفعل عادته ويوصلك إلى منزلك؟ قلت: يا سيدي حملا عن خاطرك، وبقيت معيدا بالمدرسة إلى أن توفي الشيخ فدفن بظاهر بيت المقدس = رحمه الله.

= فجلس فيها وإلا وراءهم. عن أبي واقد الليثي، وفيه:"أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفها" قال النووي: فيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد، واستحباب دخولها ومجالسة أهلها، وكراهة الانصراف عنها من غير عذر، واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعا بينا، ويتأدب بأدبه، وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها، وإلا جلس وراءهم، وفيه الثناء على من فعل جميلا، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين. [النووي في شرح مسلم (14/ 133،132) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

الفقه: هو الفهم لما ظهر أو خفي، قولا كان أو غير قول، قال في القاموس المحيط: الفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفي المصباح المنير: الفقه فهم الشيء، قال ابن فارس: وكل علم بشيء فهو فقه. ومعنى الفقه عند الفقهاء في معنيين: أحدهما: حفظ طائفة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة بالكتاب والسنة، وما استنبط منها، فاسم الفقيه ليس خاصا بالمجتهد كما هو عند الأصوليين، بل يتناول المجتهد المطلق والمجتهد المنتسب، ومجتهد المذهب، ومن هو في أهل التخريج وأصحاب الوجوه. وثانيهما: الذي يطلق عليه اسم الفقيه هو مجموعة هذه الأحكام والسائل.

ص: 562

‌فصل

حكي عن بعض الشيوخ الأكابر رحمه الله أنه دخل على بعض التجار بثغر الإسكندرية، فرحب به التاجر وفرح به، فرأى الشيخ في إيوان بيت التاجر بساطين مثمنين مستعملين من بلاد الروم على قدر ذلك الإيوان، فطلبهما الشيخ من التاجر، فصعب عليه ذلك وقال له: يا سيدي أعطيك ثمنهما، فامتنع الشيخ، فقال له: ما أطلب إلا البساطين بعينهما، فقال التاجر: إذ كان ولا بد من الأخذ فخذ أحدهما.

فأخذ الشيخ أحد البساطين وخرج به، وكان حينئذٍ للتاجر ابنان مسافران في بلاد الهند، كل واحد منهما في مركب، فبعد مدة سمع أبوهما أن أحدهما غرق هو ومركبه وجميع ما كان فيه، ووصل الابن الآخر إلى عدن سالما.

فلما كان بعد مدة وصل إلى قريب الإسكندرية، فخرج أبوه إلى لقائه ظاهر البلد، فرأى البساط الذي كان الشيخ أخذه منه بعينه محملا على بعض الجمال، فسأل ابنه عن قصة البساط ومن أين هو، فقال: يا أبت لهذا البساط قصة عجيبة وآية عظيمة، فقال له أبوه: أخبرني يا بني بذلك.

فقال: سافرت أنا وأخي برج طيبة من بلاد الهند كل منا في مركب، فلما توسطنا البحر عصفت علينا الريح واشتد علينا الأمر، وانفتح المركبان، واشتغل أهل كل مركب بمركبهم، وسلم كل منا أمره إلى اللَّه، وإذا بشيخ قد ظهر لنا وفي يده هذا البساط فسد به مركبنا، وسرنا بالسلامة أياما والمركب مسدود بهذا البساط إلى أن وصلنا إلى بعض المراسي، فقمنا إلى ما كان في المركب وأصلحناه وسافرنا فيه.

وأما مركب أخي فغرق جميع من كان فيه ولم يسلم منه أحد، قال التاجر: فقلت له: يا بني أتعرف الشيخ إذا رأيته؟ فقال: نعم. فذهب به إلى الشيخ، فلما رآه صرخ وصاح صيحا عظيمًا وقال: هو ذا واللَّه يا أبت، فجعل الشيخ يده عليه حتى أفاق وسكن ما به، فقال التاجر: يا سيدي لم لا عرفتني بحقيقة الأمر حتى أدفع لك البساطين كليهما؟ فقال الشيخ: هكذا أراد اللَّه تعالى.

‌فصل

عن جعفر بن سليمان قال: مررت أنا ومالك بن دينار

(1)

بالبصرة فبينما نحن

(1)

كان مالك بن دينار يقول: من علامات حب الدنيا أن يكون دائم البطنة، قليل الفطنة، همته بطنه وفرجه، يقول متى أصبح فألهو أو ألعب وآكل وأشرب، متى أمسي فأنام، جيفة بالليل، بطال بالنهار. وكان إذا سأله سائل والسحابة مارة يقول: اصبر حتى تمر هذه السحابة، فإني أخشى أن =

ص: 563

ندور فيها مررنا بقصر يعمَّر، وإذا شاب جالس ما رأيت أحسن وجها منه، فإذا هو يأمر ببناء القصر ويقول افعلوا واصنعوا، فقال لي مالك: ما ترى إلى هذا الشاب وحسن وجهه وحرصه على هذا البناء؟ ما أحوجني أن أسأل اللَّه ربي أن يُخَلِّصَه ولعله يجعله من شباب الجنة، يا جعفر ادخل بنا إليه، قال جعفر فدخلنا وسلمنا عليه فرد السلام ولم يعرف مالكا، فلما عرفه قام إليه فقال: ألك حاجة يا مالك: فقال: كم تريد أن تنفق على هذا القصر؟ قال: مائة ألف درهم. قال: ألا تعطيني هذا المال فأضعه في حقه وأضمن لك على اللَّه تعالى قصرا خيرا من هذا القصر بولدانه وخدمه وحشمه

(1)

من ياقوتة حمراء مرصع بالجوهر، ترابه الزعفران، وبلاطه المسك الأذفر، أفسح من قصرك هذا، لم تمسه يد ولم يبنه بان؟ قال له الجليل كن فكان؟ قال له: يا مالك فأجلني الليلة وبكر عليَّ غدا، فقال: نعم. قال جعفر: فبات مالك وهو يفكر في أمر الشاب، فلما كان وقت السحر دعا فأكثر من الدعاء.

فلما أصبحنا غدونا، وإذا بالشاب جالس، فلما عاين مالك هش إليه ثم قال له: ما تقول فيما قلت بالأمس؟ قال: تفعل؟ قلت: نعم، فدعا بدواة وقرطاس ثم كتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما ضمن مالك بن دينار لفلان ابن فلان: أني ضمنت لك على اللَّه تعالى قصرا بدل قصرك بصفته كما وصفت والزيادة على اللَّه تعالى، واشتريت بهذا المال قصرا في الجنة أفسح من قصرك في ظل ظليل، بقرب العزيز الجليل.

ثم طوى الكتاب فدفعه إلى الشاب، وحمل المال، فما أمسى مالك حتى ما بقي قرى ليله، وما أتى على الشاب أربعون يوما حتى وجد مالك كتابا موضوعا في المحراب عندما انفتل من صلاة الغداة، فأخذه وأبصره، فإذا في ظهره مكتوب بلا مداد: هذه براءة من اللَّه العزيز الحكيم لمالك بن دينار، وفَّيْنا للشاب القصر الذي ضمنت له وزيادة سبعين ضعفا.

قال: فبقي مالك متعجبا، وأخذ الكتاب، فقمنا فذهبنا إلى منزل الشاب، فإذا اللباس مسود والبكاء في الدار، فقلنا ما فعل الشاب، فقالوا مات بالأمس، وأحضرنا الغاسل، فقلنا: أنت غسلته؟ قال: نعم، قال مالك: فحدثنا كيف صنعت؟ قال: قال لي قبل الموت: إذا أنا مت وكفنتني اجعل هذا الكتاب بين كفني وبدني. فجعلته

= يكون فيها حجارة ترمينا بها، وكان يقول: ما بقي لأحد رفيق يساعده على عمل الآخرة، إنما هم يفسدون على المرء قلبه.

(1)

الحشم: حشم الرجل: خاصته، الذين يغضبون لغضبه ولما يصيبه من مكروه من عبيد أو أهل أو جيرة.

ص: 564

بين كفنه وبدنه ودفنته معه.

فأخرج مالك الكتاب، فقال الغاسل: هذا الكتاب بعينه، والذي قبضه لقد جعلته بين كفنه وبدنه. قال فكثر البكاء، فقام شاب فقال: يا مالك خذ مني مائتي ألف درهم واضمن لي مثل هذا، فقال: هيهات، كان ما كان وفات ما فات، واللَّه يحكم ما يريد.

قال: فكان مالك كلما ذكر الشاب بكى ودعا له.

‌فصل

عن زيتونة خادمة الشيخ أبي الحسن النوري

(1)

وخادمة الجنيد وأبي حمزة رحمهم الله قالت: كان يوم بارد فقلت للنوري: أعمل إليك شيئا؟ قال: نعم. فقلت: إيش تريد؟ فقال: خبز ولبن، فحملته إليه، وكان بين يديه فحم يقلبها بيديه، وقد اشتعلت -يعني النار- فأخذ يأكل الخبز واللبن يسيل على يديه وعليها سواد الفحم، فقلت في نفسي ما أقذر أولياءك يا رب! ما فيهم أحد نظيف، قالت: فخرجت من عنده فتعلقت بي امرأة وقالت: سُرِقَت لي رزمة ثياب وجروني إلى الشرطي، فأخبر النوري بذلك، فخرج وقال للشرطي: لا تتعرض لها، فإنها ولية من أولياء اللَّه تعالى، فقال الشرطي: كيف أصنع والمرأة تدعي أنها التي أخذت الرزمة؟ قالت: فجازت جارية ومعها الرزمة المطلوبة، فاسترد النوري المرأة، فقال لها أتقولين بعد ذلك: ما أقذر أولياءك يا رب؟ قالت: فقلت: تبت إلى اللَّه تعالى.

‌فصل

قال بعضهم: دخل الشيخ أبو الحسن النوري

(2)

المذكور رحمه الله مرة إلى الماء

(1)

كان من جملة المشايخ وعلماء القوم، لم يكن في وقته أحسن طريقة منه، ولا ألطف كلاما منه، صحب السري السقطي ومحمد بن القصاب، وكان من أقران الجنيد، وكان يقول: أعز الأشياء في زماننا هذا شيئان: عالم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة، وكان يقول: الجمع بالحق تفرقة من غيره، والتفرقة من غيره جمع به، وكان يقول ليس التصوف رسوما ولا علوما، وإنما هو أخلاق. توفي سنة (295).

(2)

لما وقع بينه وبين المعتضد ما وقع خرج إلى البصرة فأقام بها إلى أن توفي المعتضد باللَّه خوفا أن يسأل الشفاعة إليه في حاجة، فلما مات المعتضد عاد النوري إلى بغداد، وأصل القصة أنه مر عليه أدنان من خمر فكسرها، فحملوه إلى المعتضد، فقال له المعتضد: من أنت؟ وكان يسفه قبل كلامه، فقال: محتسب، فقال: من ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الخلافة، وأغلظ عليه القول ثم خرج من بلاده.

ص: 565

ليغتسل، فجاء لص فأخذ ثيابه ومشى، فبعد ساعة رجع اللص بالثياب وقد جفت يده، فلبس النوري ثيابه وقال: إلهي وسيدي، رددت علي ثيابي فاردد عليه يده. قال: فعوفي ومشى في سبيله.

‌فصل

قيل: قصد جماعة من الفقهاء زيارة بعض الشيوخ، فلما أتوه صلوا خلفه، فسمعوه يلحن في قراءته، فتغير اعتقادهم فيه، فلما ناموا أجنبوا تلك الليلة كلهم، فخرجوا في السحر يغتسلون، ووضعوا ثيابهم عند بركة ماء هناك ونزلوا في الماء، فجاء الأسد فجلس على ثيابهم ولاقوا شدة من شدة البرد.

فجاء الشيخ وأخذ بأذن الأسد وقال: ما قلت لك لا تتعرض لضيفاني؟ ثم قال لهم: أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بإصلاح الباطن فخاف منا الأسد.

‌فصل

قال سفيان الثوري: خرجت حاجًا أنا وشيبان الراعي، فلما سرنا ببعض الطريق فإذا نحن بأسد قد عارضنا، فقلت لشيبان: أما ترى هذا الكلب قد عرض لنا؟ فقال: لا تخف يا سفيان، فما هو إلا أن سمع الأسد كلامه بصبص وحرك ذنبه مثل الكلب، والتفت إليه شيبان وعرك أذنه، فقلت له: ما هذه الشهرة

(1)

؟ فقال أي شهرة هذه يا ثوري ولا كرامة؟! الشهرة ما حملت مزاري إلى مكة إلا على ظهره.

‌فصل

حكي عن بعضهم أنه كان في بعض الجبال، وكان إذا أصابه المطر والبرد يأتيه بعض الأسود ويركن عليه ويدفيه.

‌فصل

عن محمد بن المنكدر

(2)

قال: قال لي سفينة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ركبت سفينة فانكسرت وتعلقت بشيء منها حتى خرجت إلى جزيرة: فإذا فيها أسد، فقلت: أبا

(1)

شَهَرَ شهرًا وشُهرة: أعلنه وأذاعه، واشتهر الأمر: انتشر.

(2)

محمد بن المنكدر بن عبد اللَّه بن الهدير بن عبد العزى، بن عامر بن الحارث، أبو عبد اللَّه أبو بكر التيمي المدني القرشي، ثقة فاضل، أخرج له الستة، توفي سنة (130). ترجمته: تهذيب التهذيب (9/ 473)، تقريب التهذيب (2/ 210)، الكاشف (3/ 100)، التاريخ الكبير للبخاري (1/ 219) الوافي بالوفيات (5/ 78)، سير الأعلام (5/ 353)، الجرح والتعديل (8/ 97).

ص: 566

الحارث أنا سفينة

(1)

مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه فيدلني على الطريق، فلما خرجت إلى الطريق همهم، فظننت أنه يودعني.

‌فصل

قال إبراهيم الخواص: كنت بالبادية مرة فسرت في وسط النهار فوصلت إلى شجرة فنزلت، فإذا بسبع عظيم قد أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فهمهم وبرك بين يدي، ووضع يده في حجري، فنظرت فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم، فأخذت خشبة فشققت الموضع الذي فيه القيح

(2)

وشددت على يده خرقة ومضى.

فإذا أنا به بعد ساعة ومعه شبلان

(3)

يبصبصان فحملا إليَّ رغيفين.

‌فصل

وعن بعض الإخوان أنه سأل كيف حالك مع الأسود؟ قال: ألبست هيبة فكنت أسد الأسود، وكانت إذا رأتني هربت مني.

آخر المجلس

وقد اشتمل على عدة آيات، ومن الأحاديث على نحو عشرين حديثا، ومن الحكايات زيادة على مائة.

(1)

سفينة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة، ترجمته: تقريب التهذيب (1/ 312)، الكاشف (1/ 379)، تاريخ البخاري الصغير (1/ 188)، الجرح والتعديل (4/ 1392)، أسد الغابة (2/ 411)، الإصابة (3/ 132)، سير الأعلام (3/ 172).

(2)

القيح: إفراز ينشأ من التهاب الأنسجة بتأثير الجراثيم الصديدية، وقيح الجرح: صار فيه القيح.

(3)

الشِّبْل: ولد الأسد، وجمعها: أشبال.

ص: 567

‌مجلس في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}

(1)

الآيات

سببها أن المسلمين قالوا يا رسول اللَّه، بنو إسرائيل كانوا أكرم على اللَّه منا؛ كانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم في عتبة بابهم: افعل كذا، فسكت صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه:{وَسَارِعُوا. . . .} أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة، وتشمل الصلاة والزكاة والجهاد والتوبة وغيرها، حتى قال أنس: المراد التكبيرة الأولى، {وَجَنَّةٍ} أي وإلى جنة عرضها؛ أي كعرض، كقوله:{إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] أي كبعث نفس واحدة. وقد قال في سورة الحديد: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}

(2)

؛ لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض، وإنما خص العرض على المبالغة؛ لأن طول كل شيء في الأغلب أكبر من عرضه.

يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها؟

(3)

ولهذا قال الزهري: إنما وصف عرضها، وأما طولها فلا يعلمه إلا اللَّه، وهكذا قوله:{بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] فإذا كان هذا وصف البطانة فما ظنك؟

وقال أكثر أهل المعاني: لم يرد العرض الذي هو ضد الطول، وإنما أراد سعتها وعظمها؛ أي كعرض السموات السبع والأرضين السبع

(4)

عند ظنكم، كقوله:

(1)

سورة آل عمران (133).

معنى قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} تنبيه على اتساع طولها، وروى البخاري في صحيحه (4/ 19):"إذا سألتم اللَّه الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن".

(2)

سورة الحديد (21).

(3)

حث اللَّه تعالى على المبادرة إلى الخيرات وفعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، والمراد: جنس السماء والأرض. [تفسير ابن كثير (4/ 312)].

(4)

روى ابن جرير بسنده عن يعلى بن مرة قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحمص شيخا كبيرا قد فسد، فقال: قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فتناول الصحيفة رجل عن يساره قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قال: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني =

ص: 568

{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}

(1)

يعني عند ظنكم أنهما زائلتان.

فإن قلت: فأين النار إذا كان عرضها ذلك؟ قلت: فأين النهار إذا جاء الليل، وعكسه؟ ويعلمها فوق السموات السبع كما أن النار تحت الأرضين السبع.

ووصف المتقين فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}

(2)

يعني في العسر واليسر والشدة والرخاء، فإذا خلق من أخلاقهم الموجهة لهم الجنة (السخاوة)

(3)

.

وورد من حديث عائشة مرفوعا: "الجنة دار الأسخياء"

(4)

.

ومن حديث أبي هريرة مرفوعا: "السخي قريب من اللَّه قريب من الجنة قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من اللَّه بعيد من الجنة بعيد من الناس، قريب من النار. ولجاهل سخي أحب إلى اللَّه من العالم البخيل"

(5)

.

ومن حديث أنس مرفوعا: "السخاء شجرة في الجنة، أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار"

(6)

. {وَالْكَاظِمِينَ

= على جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سبحان اللَّه!! فأين الليل إذا جاء النهار؟! ".

(1)

سورة هود (107).

(2)

سورة آل عمران (134).

أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال كما قال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة اللَّه تعالى، والإنفاق في مراضيه والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر. [تفسير ابن كثير (4/ 404)].

(3)

كذا بالأصل.

(4)

أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 384)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 176)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 403)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/ 140)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/ 185)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (3/ 240).

(5)

أخرجه الترمذي في سننه (1961)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 127)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 329)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 197)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 381).

(6)

أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8/ 171، 172)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 197)، وابن الجوزي في الموضوعات (2/ 183)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 545)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 139)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 253، 3/ 304)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (2/ 248).

ص: 569

الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] أي الجارعين له عند امتلاء نفوسهم منه، والمكافين غصتهم عن أعضائه يردون غيظهم في جوفهم.

وورد من حديث معاذ بن أنس: "من كظم غيظا وهو قادر أن ينفذه دعاه اللَّه يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخير من أي الحوراء شاء"

(1)

.

وإذا غضبت فكن وقورا كاظما

الغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفا بصير ساجد

يرضى عنك الإله وترفع

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] من أساء إليهم؛ قال مقاتل: بُلِّغْتُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: "إن هؤلاء من أمتي قليل إلا من عصمه اللَّه وقد كانوا كثيرًا في الأمم التي مضت"

(2)

.

لن يبلغ المجد أقوام وإن كُرِّمُوا

حتى يذلوا فإن عز (وا لأقوم)

(3)

ويشتموا فترى الألوان مشرقة

ولا عفو ذل ولكن عفو أحلام

{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]

(4)

أي هذه الأشياء إحسان، من فعل ذلك فهو المحسن إلى من أساء إليه. ويحسن وقت الإمكان.

ليس في كل ساعة وأوان

يتهيأ صنائع الإحسان

فإذا مكنت فبادر إليها حذرا

من تعذر الإمكان

وروي من حديث أنسر مرفوعا: "رأيت قصورا مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبريل، لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ".

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (4777)، والترمذي في سننه (2493)، وابن ماجه في سننه (4186)، وأحمد في مسنده (3/ 440)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 161)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5088، 5089)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 449)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 73)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 275)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 549، 8/ 25)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 380).

(2)

قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه، فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم، وقد ورد في بعض الآثار: يقول اللَّه تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك.

(3)

كذا بالأصل.

(4)

فهذا من مقامات الإحسان، وروى الحاكم في مستدركه (2/ 295) عن ابن كعب رفعه:"من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ص: 570

‌مجلس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}

(1)

الآية، أي فعلوا فعلة قبيحة، خارجة عما لدى اللَّه فيه

(2)

. وقيل المراد الزنا

{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] أي (. . . . . .)

(3)

أو مقدمات الزنا كالقبلة والنظرة ونحوهما.

{ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135] أي ذكروا العرض الأكبر على اللَّه وسؤالهم.

{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] طلبوا سترها.

{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135] أي وهل يغفرها أحد سواه؟

{وَلَمْ يُصِرُّوا} [آل عمران: 135] أصله الثبات على الشيء، المعنى: ولم يدوموا، ولم يقيموا عليه، ولكنهم تابوا وأنابوا.

وفي الحديث: "ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة"

(4)

.

وفي حديث أبي هريرة مرفوعا: "ليس. . . . . "

(5)

.

اقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه

إن الجحود جحود الذنب ذنبان

وفي الحديث: "من أذنب ذنبا وعلم أن له ربا يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر"

(6)

.

(1)

سورة آل عمران (135).

(2)

روى أحمد في مسنده (2/ 296) عن أبي هريرة رفعه: "إن رجلا أذنب ذنبا فقال: رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي، فقال اللَّه عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي. . . . " الحديث.

(3)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1514)، والترمذي في سننه (3559)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 188)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 59)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 78)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2340)، والطبري في تفسيره (4/ 64)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 249)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 99).

(5)

ذكر حديثًا غير واضح بالأصل.

(6)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 322، 328)، والحاكم في المستدرك (4/ 242)، =

ص: 571

وفي آخر: "يقول اللَّه تعالى: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي"

(1)

.

وفي بعض الكتب المنزلة: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي"

(2)

.

وفي الحديث

(3)

: "مر رجل ممن كان قبلكم من بني إسرائيل بجمجمة، فنظر إليها فقال: أي رب أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب، ثم خر ساجدًا، فقيل له ارفع رأسك، وأنا العواد بالمغفرة، وأنت العواد بالذنوب، فغفر له أجر العاملين ثواب المطيعين".

يقال: أوحى اللَّه عز وجل إلى موسى صلى الله عليه وسلم: أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟

وقال شهر بن حوشب

(4)

: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.

وقال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] إلى آخرها.

= والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 60، 10/ 177)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (324).

(1)

أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (127)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 60)، والسيبوطي في الدر المنثور (2/ 170)، (3/ 170).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (3540) بأوسع من ذلك، والدارمي في سننه (2/ 322)، وأحمد في مسنده (5/ 172)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 467).

(3)

ذكره ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (1/ 434)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 92).

(4)

شهر بن حوشب، أبو سعيد أبو عبد اللَّه الأشعري، الشامي، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، توفي سنة (100، 111)، وهو صدوق كثير الإرسال والأوهام، أخرج له البخاري في الأدب وباقي الستة، ترجمته: تهذيب التهذيب (4/ 369)، تقريب التهذيب (1/ 355)، التاريخ الكبير (4/ 258).

ص: 572

‌مجلس في الاستغفار

قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}

(1)

.

وقال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)}

(2)

.

وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}

(3)

.

وقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران: 15] إلى قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}

(4)

. وهو الوقت المشهود لعطايا الجبار.

وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ}

(5)

الآية؛ فعمل السوء يفوت حق الخلق، وظلم النفس يفوت حق الحق.

قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}

(6)

.

وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}

(7)

.

{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}

(8)

.

والآيات في الباب كثيرة معلومة، وما ذكرناه كافٍ؛ لأن فيه ذكر المستغفر والمستغفر لهم والمستغفر فيه والمستغفر عنده ومن أجله، وصفة الاستغفار.

وأما الأحاديث فكثيرة، نذكر منها أحد عشر حديثا مشتملة على بيان أهمية الاستغفار وفوائده وثمراته

(9)

الدينية والدنيوية، وأحسن ألفاظه، وأولى الأوقات به، وما يزيل الوحشة منه.

أحدها: عن الأغر المزني مرفوعا: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللَّه

(1)

سورة غافر (55).

(2)

سورة النساء (106).

(3)

سورة النصر (3).

(4)

سورة آل عمران (17).

(5)

سورة النساء (110).

(6)

سورة الأنفال (33).

(7)

سورة آل عمران (135).

(8)

سورة الأنبياء (87).

(9)

قال العلماء للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع، وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منه.

ص: 573

في اليوم مائة مرة"

(1)

. أخرجه مسلم.

وهو دال على أن عموم الحاجة الداعية إليه لإقبال سيد الخلق عليه.

ثانيها: عن أبي هريرة مرفوعا: "واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"

(2)

أخرجه البخاري.

وهو دال على الناس في ذلك إذا كان سيد الخلق يكرره كذلك.

ثالثها: عنه مرفوعا

(3)

: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب اللَّه بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه فيغفر لهم" رواه مسلم.

وهو دال على أهمية الاستغفار؛ إذ حث عليه الجليل الجبار.

أنا المذنب الخطَّا والعفو واسع

ولو لم يكن ذنب لما حسن العفو

رابعها: عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم"

(4)

رواه أبو داود والترمذي وصححه.

وهو دال على أنه ديدن الأكابر وهجيراهم، فلولا أهميته عندهم لما لزموه وكرروه في المجلس مائة وتابعوا به.

خامسها: عن ابن عباس مرفوعا: "من لزم الاستغفار جعل اللَّه له من كل ضيق

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [41 - (2702)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [12] باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، وأبو داود في سننه (1515)، وأحمد في مسنده (4/ 211، 260)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 52)، والطبراني في المعجم الكبير (1/ 280)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2324)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5/ 57)، (8/ 299)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 63)، وذكره ابن حجر في الفتح (11/ 101).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6307) كتاب الدعوات، [3] باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، وأحمد في مسنده (2/ 341)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 325)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 436).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [11 - (2749)] كتاب التوبة، [2] باب سقوط الذنوب بالاستغفار والتوبة، وأحمد في مسنده (2/ 309)، وعبد الرزاق في مصنفه (20271)، والبيهقي في الأسماء والصفات (55).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1516)، والترمذي في سننه (3434)، وابن ماجه في سننه (3814)، والبيهقي في السنن الكبرى (2/ 58)، والهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 113)، والزبيدي في الإتحاف (3/ 104، 4/ 491)، وأحمد في مسنده (2/ 21، 5/ 371)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 298، 13/ 462)، وابن حبان في صحيحه (2459 - الموارد)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 12)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2352).

ص: 574

مخرجا، ومن كل همٍّ فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب"

(1)

. رواه أبو داود.

وهو نعيم عام وتفخيم جالب للمصلحة، دافع للمضار.

سادسها: عن ابن مسعود مرفوعا: "من قال: أستغفر اللَّه العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرَّ من الزحف"

(2)

رواه أبو داود والترمذي والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.

وهو تعميم لرفع كثائف الحجوب وظلمات الذنوب وإيحاشها لعلام الغيوب.

سابعها: عن شداد بن أوس مرفوعا

(3)

: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" قال: "ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة" رواه البخاري.

معنى أبوء: أقر وأعترف؛ فالألسن كالَّة عن وصف ربحه وكمال سعادته.

ثامنها: عن ثوبان قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر اللَّه ثلاثا"

(4)

رواه مسلم.

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (1518)، وابن ماجه في سننه (3819)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 468)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 351)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 342)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2339)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 211)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (705).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (1517)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 470)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 57)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 174)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2353)، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (1/ 314، 383)، وابن سعد في الطبقات (7/ 46).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6306) كتاب الدعوات، [2] باب أفضل الاستغفار، وأحمد في مسنده (4/ 122، 125)، والحاكم في المستدرك (2/ 458)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 351)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 296)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2335)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 448)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 60)، والقرطبي في تفسيره (4/ 40).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه [135 - (591)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [26] باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، والنسائي في السهو، باب [81]، وابن ماجه في سننه (928)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 103)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (961)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 153).

ص: 575

وهذا الوقت هو أولاها؛ لأنه موطن الإجابة، واستنزال الرحمة، فلذلك طلبت الإنابة.

تاسعها: عن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: "سبحان اللَّه وبحمده، أستغفر اللَّه وأتوب إليه"

(1)

أخرجاه.

وهذا الوقت أولى به لأنه الخاتمة.

عاشرها: عن أنس مرفوعا

(2)

: "قال اللَّه تعالى: يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة". رواه الترمذي وحسنه، وهو من المهمات البليغة من الاسترسال في القطيعة.

الحادي عشر: عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال

(3)

: يا معشر النساء تصدَّقْن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول اللَّه أكثر أهل النار؟ قال: "تُكثِرن اللعن وتَكْفُرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لُبٍّ منكنَّ" قالت: يا رسول اللَّه وما نقصان العقل والدين؟

قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي"

(4)

رواه مسلم.

لي ذنوب شغلتني

عن صيامي وصلاتي

تركت حبيبي عليلا

مات من قبل مماتي

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [218 - (484)] كتاب الصلاة، [42] باب ما يقال في الركوع والسجود، وأحمد في مسنده (6/ 184).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (3540)، والدارمي في سننه (2791)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 467)، والزبيدي في الإتحاف (9/ 177).

(3)

أخرجه: البخاري في صحيحه (1/ 83، 2/ 149)، ومسلم في الإيمان [132] باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، والترمذي في سننه (2613) كتاب الإيمان، باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه، والنسائي في الإيمان، باب ذكر شعب الإيمان، وابن ماجه في سننه (4003)، وأحمد في مسنده (1/ 363)، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 308، 4/ 235)، والحاكم في مستدركه (2/ 190).

(4)

قال النووي: من أحكام الحديث: الحث على الصدقة وأفعال البر والإكثار من الاستغفار وسائر الطاعات، وفيه أن الحسنات يذهبن السيئات كما قال اللَّه عز وجل، وفيه أن كفران العشير والإحسان من الكبائر، فإن التوعد بالنار من علامة كون المعصية كبيرة، وفيه: إطلاق الكفر على غير الكفر باللَّه تعالى، ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق. [النووي في شرح مسلم (2/ 58) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 576

ليتني تبت لربي

من جميع السيئات

أنا عبد لإلهي

نقضت في الخلوات

بحت جهرا بعيوبي

وذنوبي قاتلات

قد تعالت سيئاتي

وتلاشت حسناتي

ص: 577

‌مجلس في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}

(1)

إلى آخر السورة

قال قتادة: إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان.

قال عروة: وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة

(2)

.

وقرأ العامة ضم الفاء من "أنفُسكم" أي من نسبكم؛ تعرفون نسبه وحسبه من بني إسماعيل.

قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعها ويمانيها؛ قال الصادق: لم يصبه شيء من ولاد الجاهلية.

وقد روينا من حديث ابن عباس مرفوعا: "ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا بنكاح كنكاح الإسلام"

(3)

.

قال قتادة: جُعِلَ من أنفسهم فلا يحسدونه على ما أعطاه اللَّه من النبوة والكرامة.

وقراءة الدميرِي وجماعات بفتح الفاء، أي من أشرفكم وأفضلكم.

قال بنان: من أعلاكم نسبا.

و"عزيز"

(4)

شديد.

(1)

سورة التوبة (128).

أي منكم وبلغكم، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن اللَّه بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته. . . إلى آخره.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (4679) كتاب تفسير القرآن، من سورة براءة، [20] باب قوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ. . .} الآية. وفيه عن زيد بن ثابت: وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. . .} إلى آخرها.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 190)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 294)، والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 214)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 399)، والزيلعي في نصب الراية (3/ 213)، وابن كثير في البداية والنهاية (2/ 256).

(4)

قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128] أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال:"بعث بالحنيفية السمحة" وفي =

ص: 578

{مَاعَنِتُّمْ} حاصله أي عنتكم، وهو دخول المضرة والمشقة عليكم.

{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم.

{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} رفيق.

{رَحِيمٌ} أو رءوف بالمطيعين {رَحِيمٌ} بالمذنبين، أو {رَءُوفٌ} بأقربائه {رَحِيمٌ} بأوليائه، {رَءُوفٌ} بمن رآه، {رَحِيمٌ} بمن لم يره.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} [آل عمران: 32] أعرضوا عن الإيمان وناصبوك.

{فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [التوبة: 129]: وقال الحسين لم يجمع اللَّه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} .

وقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} .

{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]

(1)

قرأه العامة بخفض الميم على نعت العرش، وقرأ (. . . . .)

(2)

بالرفع على نعت الرب تعالى.

= الصحيح: "إن الدين يسر" وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها اللَّه تعالى عليه. [تفسير ابن كثير (2/ 412)].

(1)

أي هو مالك كل شيء وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورين بقدرة اللَّه تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. [تفسير ابن كثير (2/ 413)].

(2)

كلمة غير واضحة.

ص: 579

‌مجلس في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

(1)

الآية

المراد بهم أبو سفيان وأصحابه، إن ينتهوا عن الشرك وقتال سيد الآولين والآخرين، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] مما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام.

{وَإِنْ يَعُودُوا} لقتال محمد {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] في نصرة الأنبياء والأولياء على أهل الكفر والأعداء مثل يوم بدر.

قال يحيى بن معاذ الرازي: إني لأرجو أن لا نؤاخذ، ومن يعجز عن هدم ما قبله من كفر

(2)

لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.

ولأبي سعيد أحمد بن محمد الزبيري:

يستوجب العفو الغبي إذا اعترف

ثم انتهى عما أتاه واقترف

لقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} .

وفي الحديث الصحيح: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن التوبة تجب ما قبلها؟ "

(3)

.

أي تقطع؛ فالتوبة أول منازل السائرين، ورأس مال السالكين.

وقد أسلفناها واضحة في المجلس الثاني فليتأمل.

(1)

سورة الأنفال (38).

أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد، ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، يغفر لهم ما قد سلف، أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم {وَإِنْ يَعُودُوا} أي يستمروا على ما هم فيه {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] أي فقد مضت سنتنا في الأولين: أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعالجهم بالعذاب والعقوبة. [تفسير ابن كثير (2/ 315)].

(2)

الحديث الصحيح: "الإسلام يهدم ما قبله": فيه أحكام: منها: عِظَم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي، وسيأتي تخريجه عقب هذا.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [192 - (121)] كتاب الإيمان، [54] باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج، وأحمد في مسنده (4/ 199)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 123)، وفي دلائل النبوة للبيهقي (4/ 348)، وابن خزيمة في صحيحه (2515)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 210)، وأبو عوانة في مسنده (1/ 70)، والهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 351).

ص: 580

‌مجلس في قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}

(1)

أي شاهدا على ما بعثه إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي مقبولا قولك عند اللَّه لهم وعليهم، ولا يقبل قول الشاهد العدل في الحكم، وإنما وصفه بكونه شاهدا وقت الإرسال، ومحلها عند التحمل والأداء؛ لأنه مُعَدٌّ لذلك، وقال:"بإذنه" وهو مفهوم من الإرسال، داعيا لأجل التعديل والتيسير، ولم يرد حقيقة الإذن، فالأمر صعب لا يستطاع إلا بتسهيل الجليل، وأرسله سراجا ليجلي الظلمات، ويهتدي به أهل العنايات كما في السراج، فأيد اللَّه بنور نبوته نور البصائر، كما يمد بنور السراج نور الأبصار.

ووصفه بالإنارة لأن من السرج ما تضيء إلا إذا قل (سليطة)(*) ودق فتيله، وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضني: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة لا ينتظر لها من مجيء.

وسئل بعضهم عن الموحشين فقال: ظلام ساتر وسراج (فات)(*).

هذا أفضل ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب، وإذا ذكر المفضل به وكبره فما ظنك بالثواب، ويحتمل أن يراد به الثواب أو أن يريد أن لهم فضلا كثيرا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة اللَّه، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.

(1)

سورة الأحزاب (45 - 48).

وروى أحمد في مسنده عن صفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في التوراة عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رفعه: "واللَّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45]، وحرزا للأميين، فأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فيفتح بها أعينًا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا".

(*) كذا بالأصل.

ص: 581

{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} معناه: الدوام والثبات كما كان عليه، أو التهييج.

{أَذَاهُمْ} أي لا تؤذهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على ربهم في باطنهم، أو دع ما يؤذونك به لا تحاربهم عليه حتى تؤمر.

وعن ابن عباس: هي منسوخة بآية السيف.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فإنه كافيك، وكفى به مفوضا إليه.

وانظر كيف وصفه بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له؛ قابل الشاهد بقوله:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لأنه يكون شاهدا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير، والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين؛ لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب البشارة والنذير بـ {وَدَعْ أَذَاهُمْ}

(1)

.

لأنه إذا ترك في الحاضر والأذى لا بد له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى اللَّه بتبشيره بقوله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 81]؛ لأن من توكل عليه يسر عليه كل عسير.

والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا؛ لأن من أناره اللَّه برهان أعلى جميع خلقه، كان جديرا أن يكتفى به عن جميع خلقه.

فائدة: من أسمائه صلى الله عليه وسلم

(2)

: الشاهد كما سلف، وكذا الشهيد، والمبشر أيضا كما سلف، والنذير كما سلف أيضا، والداعي كما سلف، وهو أيضا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قال تعالى:{وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} [البقرة: 129] الآية، فاستجاب لهما، والسراج المنير.

وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي

(1)

أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي اصفح وتجاوز عنهم وكِلْ أمرهم إلى اللَّه تعالى؛ فإن فيه كفاية لهم، ولهذا قال جل جلاله:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].

(2)

قال النووي: ذكر هنا - أي في حديث مسلم عقب هذا: هذه الأسماء وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخر ذكر أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه "الأحوذي في شرح الترمذي" عن بعضهم أن للَّه تعالى ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم أيضا، ثم ذكر منها على التفصيل بضعا وستين، قال أهل اللغة: يقال رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة، وقال ابن فارس وغيره: وبه سمي نبينا صلى الله عليه وسلم محمدًا وأحمد، أي ألهم اللَّه تعالى أهله أن سموه به لما علم من جميل صفاته. [النووى في شرح مسلم (15/ 85) طبعة دار الكتب العلمية].

ص: 582

يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (6/ 188، 225)، ومسلم في صحيحه [124 - (2354)]، [125] كتاب، [34] باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأحمد في مسنده (4/ 84)، والزبيدي في الإتحاف (7/ 161، 162، 163)، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 124)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 214)، وابن كثير في تفسيره (5/ 382)، والحميدي في مسنده (555).

ص: 583

‌مجلس في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}

(1)

الآية

سبب نزولها أن رجلا دعا اللَّه

(2)

عند رجل في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا؟ فما بال هذا يزعم ربين اثنين؟! فأنزل اللَّه الآية.

والحسنى تأنيث الأحسن، وهي: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام، ونحوها.

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إن للَّه تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة"

(3)

.

ومعنى أحصاها: حفظها، وإن لم يعلم معناها.

يلحدون: يكذبون؛ فاشتقوا اللات من "اللَّه"، والعزى من "العزيز"، ومناة من "المنان" ويسمونه بما لا ينطق به كتاب ولا سنة.

{سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] في الآخرة.

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} [الأعراف: 181] عصية {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159].

قال ابن جريج: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: "هذه لأمتي، بالحق يأخذون ويقضون ويعطون، وقد أعطى اليوم بين أيديكم مثلها، ومن موسى أمة يهدون بالحق وبه

(1)

سورة الأعراف (180).

(2)

قال الخطابي وغيره: فيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى: "اللَّه" لإضافة هذه الأسماء إليه، وقد روي أن اللَّه هو اسمه الأعظم، قال أبو القاسم الطبري: وإليه ينسب كل اسم له فيقال: الرءوف والكريم من أسماء اللَّه تعالى، ولا يقال: من أسماء الرءوف أو الكريم اللَّه. [النووي في شرح مسلم (15/ 5) طبعة دار الكتب العلمية].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7392) كتاب التوحيد، [12] باب إن للَّه مائة اسم إلا واحدا، ومسلم في صحيحه [6 - (2677)] كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، [2] باب في أسماء اللَّه تعالى وفضل من أحصاها، والترمذي في سننه (3506، 3507)، وأحمد في مسنده (2/ 258)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 27)، والحاكم في المستدرك (1/ 16).

ص: 584

يعدلون"

(1)

.

وقال الربيع بن أنس: إنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: "إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

وروى معاوية مرفوعًا: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر اللَّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللَّه وهم ظاهرون على الناس"

(3)

.

وقال مقاتل بن حيان: هم مؤمنو أهل الكتاب.

وقال عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وقد سماهم اللَّه تعالى في سورة براءة.

وقال الكلبي: من جميع الخلق.

(1)

أخرجه ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 294)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 149)، والطبري في تفسيره (9/ 92).

(2)

أخرجه السيوطي في الدر المنثور (3/ 149)، وابن كثير في تفسيره (3/ 518).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (7321) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، [10] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم، ومسلم في صحيحه [174 - (1037)] كتاب الإمارة، [53] باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، والترمذي في سننه (2192، 2229)، وابن ماجه (6)، وأحمد في مسنده (4/ 104)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 287، 288)، والحاكم في المستدرك (4/ 449)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 181)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 289)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3819).

ص: 585

‌مجلس في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}

(1)

.

معنى أورثنا: أعطينا، أو أخرنا، والكتاب: القرآن، وفي هذا كرامة لهذه الأمة؛ حيث قال: أورثنا، وقال في غيرهم:{أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} [الأعراف: 169].

{اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} : أي هذه الأمة، ثم قسمهم ثلاث طبقات، ورتبهم على ثلاث درجات؛ فقال:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] فبدأ اللفظ، وعلق الظلم بالنفس، فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه، وإنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، وإنما كان من حقه التقديم؛ فإنه الأفضل، كما قدم الصوامع والبيع في سورة الحج

(2)

على المساجد ليكون أقرب إلى الهدم، والمساجد أقرب إلى ذكر اللَّه.

وعنه جواب ثان، وهو أن هذا من الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}

(3)

. وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [الحج: 61]

(4)

، وقوله:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا}

(5)

، وقوله:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ}

(6)

.

وجواب ثالث: وهو أنه قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.

ورابع: أنه قدمه لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه غير الرحمة، واتكل المقتصد

(1)

سورة فاطر (32).

يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع، فقال تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر: 32]، وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.

(2)

قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].

(3)

سورة الأنعام (165).

(4)

سورة فاطر (13).

(5)

سورة الشورى (49).

(6)

سورة الملك (2).

ص: 586

على حسن ظنه بربه، والسابق على طاعاته.

ثم ثنى بالمقتصد لأنه بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحدهم مكره، وكلهم في الجنة لحرمة كلمة الإخلاص.

ورتبهم على هذا النسق لأن العاصي داخل في حيز الظالمين، وإذا تاب فمن المقتصدين، وإذا صحت توبته فمن السابقين.

واختلف في معنى هذه الثلاثة

(1)

على أقوال: أحدها: أن السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا، والظالم يحبس في المقام. فهم الذين قالوا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34].

ورد ذلك في حديث مرفوع من طريق أبي الدرداء.

ثانيها: قال عثمان: "سابقنا أهل الجهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا"

(2)

.

ثالثها: قالته عائشة: "السابق من مضى على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمقتصد أصحابه، والظالم لنفسه مثلي ومثلكم"

(3)

.

وروي عنها: "السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد الذي أسلم بعدها، والظالم نحن".

رابعها: السابق المؤمن المخلص، والمقتصد هو المرائي، والظالم الكافر نعمة اللَّه عليه، غير الجاحد لها، وقيل غير ذلك.

وفي الحديث من طريق ابن عمر

(4)

: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.

و {الْحُزْنِ} [يوسف: 84]: حزن النار.

(1)

روى الترمذي في سننه (3225) في كتاب تفسير القرآن، من سورة الملائكة. فاطر عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال: هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، كلهم في الجنة.

(2)

ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 574) ونسبه إلى عبد اللَّه بن المبارك عن عثمان.

(3)

أخرجه أبو داود الطيالسي بسنده، عن عائشة فجعلت نفسها معنا، وهذا منها من باب الهضم والتواضع، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام.

(4)

أخرجه الزبيدي في الإتحاف (8/ 600)، والسيوطي في الدر المنثور (5/ 252)، والقرطبي في تفسيره (1/ 346)، وابن الجوزي في زاد المسير (6/ 489).

ص: 587

وفي الحديث من طريق ابن عمر مرفوعا

(1)

: "ليس على أهل لا إله إلا اللَّه وحشة في قبورهم ولا في محشرهم، ولا في منشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا اللَّه يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}

(2)

الآية.

{لُغُوبٌ} [فاطر: 35]: كلًّا وإعياء

(3)

.

(1)

أخرجه والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 82، 333)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 416)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 10)، والسيوطي في الدر المنثور (4/ 188)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 266)، والعجلوني في كشف الخفا (2/ 240)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 10).

(2)

سورة فاطر (34). هو الخوف من المحذور، أزاحه عنا وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة.

(3)

قوله تعالى: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء، والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب وكان المراد بنفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم، واللَّه أعلم. [تفسير ابن كثير (3/ 576)].

ص: 588

‌مجلس في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}

(1)

الآيات.

"طيبات": خيار، نظيره:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أو حلالات.

دليله: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]، و {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} .

وفي الحديث

(2)

: "إن اللَّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن اللَّه تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب

(3)

، لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، وإن اللَّه لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن؛ فإن الخبيث لا يمحو الخبيث، ما كسبتم بالتجارة والصناعة".

ويروى من حديث ابن عباس مرفوعا: "البركة في التجارة، وصاحبها لا يفتقر، إلا تاجر حلاف مهين".

{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]: يعني الحبوب والثمار التي تقتات وتدخر مما يجب فيه الزكاة

(4)

.

(1)

سورة البقرة (267).

(2)

أخرجه وأحمد في مسنده (1/ 387)، والحاكم في المستدرك (1/ 33، 2/ 447)، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 90، 228)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4994)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 549، 3/ 354)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 166)، والسيوطي في الدر المنثور (2/ 159)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 352).

(3)

قال القاضي: الطيب في صفة اللَّه تعالى بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي هي من قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه. [النووي في شرح مسلم (7/ 88) طبعة دار الكتب العلمية].

(4)

الزكاة: هي في اللغة النماء والتطهير، فالمال ينمى بها من حيث لا يرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمى أجرها عند اللَّه تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها، وقيل لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه. قال القاضي عياض: قال المازري: قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت =

ص: 589

ومن حديث عائشة: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض"

(1)

.

وفي التوراة: "طوبى لمن أكل من ثمرة يده".

{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [البقرة: 267] أي لا تقصدوا الصدقة بالرديء من أموالكم، والحشف من التمر ونحوه.

{مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي عن بعض حقكم.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [البقرة: 267] أي عن صدقاتكم.

{حَمِيدٌ} محمود في أفعاله.

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}

(2)

أي بالفقر، وهو سوء الحال، فيقول: إن تصدقت افتقرت، فأمسك مالك.

{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بالبخل ومنع الزكاة، وكل فحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا.

{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ} ويجازيكم.

{مَغْفِرَةً مِنْهُ} لذنوبكم.

{وَفَضْلًا} رزقا وخلفا.

ويقال: مكتوب في التوراة: "عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك من فضلي".

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ} أي النبوة، أو القرآن، أو الفهم فيه، أو السنة، أو المعرفة، أو العلم اللدني.

{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} أي الورع في دينه.

{فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، {وَمَا يَذَّكَّرُ} [البقرة: 269] أي يتعظ.

{إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، والعقول، فاللب من العقل ما صفي عن دواعي الهوى.

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ}

(3)

أي فيما فرض اللَّه عليكم.

= للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال، وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال الثابتة، وهي العين والزرع والماشية. [المرجع السابق (7/ 43) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

أخرجه العجلوني في كشف الخفا (1/ 203)، وذكره الهندي في كنز العمال (9303).

(2)

سورة البقرة (268). أي يخوفكم {الْفَقْرَ} لتمسكوا ما بأيديكم، فلا تنفقوه في مرضاة اللَّه {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق يأمركم بالمعاصي، والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} [البقرة: 268] أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء. [تفسير ابن كثير (1/ 321)].

(3)

سورة البقرة (270).

ص: 590

{أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} [البقرة: 270] أي أوجبتموه على أنفسكم، فوفيتم به.

{فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] يحفظه حتى يجازيكم به.

{وَمَا لِلظَّالِمِينَ} [البقرة: 270] أي الواضعين المنفقة والنذر في غير موضعها بالرياء والمعصية ونحوها.

{مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192] أعوان يدفعون عذاب اللَّه عنهم.

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271] أي تعلنوها فنعمة الخصلة هي.

{وَإِنْ تُخْفُوهَا} [البقرة: 271] تُسروَّها.

{وَتُؤْتُوهَا} [البقرة: 271] تعطوها الفقراء في السر.

{فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، وأفضل، وكل مقبول إذا صفت النية.

وفي الحديث

(1)

: "الصدقة تطفئ غضب الرب، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتدفع سبعين بابا من البلاء".

وفي الصحيح: سبعة يظلهم اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله"

(2)

وَعدَّ منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".

وهذه الآية في التطوع؛ لأن الفريضة إعلانها أفضل. وعليه حُمِلَ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271].

قال ابن عباس: جعل اللَّه صدقة التطوع في السر تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وكذا سائر الفرائض والنوافل.

آخره والحمد للَّه.

= يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده، وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال:{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب اللَّه ونقمته.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (614، 2626)، وابن ماجه في سننه (3973، 4210)، وأحمد في مسنده (3/ 321، 399، 5/ 231)، والطبراني في المعجم الكبير (19/ 105، 136)، وابن حبان في صحيحه (816، 261، 1569)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 11، 21)، والهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 110)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 355)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 50).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (660، 1423، 6106، 6479)، ومسلم في صحيحه [91] كتاب الزكاة، والترمذي في سننه (2391)، والنسائي (8/ 222 - المجتبى)، وأحمد في مسنده (2/ 439)، وابن خزيمة في صحيحه (358)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 217)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 112)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (701).

ص: 591

‌مجلس في شهر شعبان

روينا في سنن النسائي من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: "قلت يا رسول اللَّه لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم في شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"

(1)

أخرجه النسائي.

وتعلو به، أعني هذا الشهر فوائد:

الأولى: في تسميته، وسمي بذلك لتشعب القبائل فيه، أي تفرقها لقصد الملوك، والتماس العطايا.

الثانية: فيه نزل فرض رمضان، وفي النصف منه حُوِّلت القبلة.

الثالثة: روينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان"

(2)

.

وفي رواية للبخاري: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لا يملُّ حتى تملوا"

(3)

وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دُووِمَ عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها".

وحكى ابن دحية عن أبي الفتوح العجلي سماعها أن الشافعي احتج في القديم بهذا

(1)

أخرجه النسائي في كتاب الصيام، باب صيام شهر شعبان، وأحمد في مسنده (5/ 201)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 116) وعبد الرزاق في مصنفه (2/ 519)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 103)، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 215).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (1969) كتاب الصوم، [52] باب صوم شعبان، ومسلم في صحيحه [175 - (1156)] كتاب الصيام، [34] باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، والترمذي (768)، وأبو داود (2430)، وابن ماجه (1710)، وأحمد في مسنده (1/ 227).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1970) كتاب الصوم، [52] باب صوم شعبان، ومسلم في صحيحه [221 - (785)] كتاب صلاة المسافرين وقصرها، [31] باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، وأحمد في مسنده (6/ 84، 128)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 17)، وعبد الرزاق في مصنفه (20566)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 266).

ص: 592

الحديث، فقال: وأكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، وكذا من الأيام، قال: وإنما كرهته لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب، وإن فعل فحسن.

وهذا الحديث يرد قوله، ومعنى صامه كله أي أكثره، فإنه إطلاق ذلك كما يقال قام ليله أجمع، ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره.

ومعنى "لا يمل حتى تملوا": لا يترك ثوابكم حتى تملُّوا وتتركوا عبادته.

الرابعة: ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن حصين. أو قال لرجل وهو يسمع: "يا فلان أصمت سرة هذا الشهر؟ " قال: لا. قال: "فإذا أفطرت فصم يومين"

(1)

.

وفي رواية: "يوما أو يومين" شك شعبة.

والسرة: الوسط.

وفي لفظ سرر، وهل هو وسطه أو آخره أو أوله في آراء.

وثانيها: لأبي عبيد

(2)

حيث يستر الهلال، وأنكر عليه. وقالوا: لم يأت في صوم آخر الشهر نص، وأمره بالقضاء دالُّ على فضيلة الصوم في هذا الشهر، وعلى قضاء النوافل.

الخامسة: صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه"

(3)

.

وفي السنن الأربعة من حديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"

(4)

صححه الترمذي وابن حبان.

وأخذه بمفهوم الأول البندنيجي وابن الصباغ، وقطع المحققون بالثاني، وهو الأصح.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه (1983) كتاب الصوم، [62] باب الصوم من آخر الشهر، ومسلم في صحيحه [199، 200، 201 - (1161)] كتاب الصيام، [37] باب صوم سرر شعبان.

(2)

قال الأوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة والحديث والغريب: المراد بالسرر آخر الشهر، سميت بذلك لاستسرار القمر.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [21 - (1082)] كتاب الصيام، [3] باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، والترمذي في سننه (687، 738)، وأبو داود في سننه (2335)، وابن ماجه في سننه (1650)، وأحمد في مسنده (2/ 477)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 73)، وابن أبي شيبة (3/ 23)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 440)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (565).

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (2337) كتاب الصوم، باب في كراهية ذلك، والترمذي في سننه (738) كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شهر شعبان لحال رمضان، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 209)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1974)، والزبيدي في الإتحاف (4/ 256)، والشجري في أماليه (2/ 104)، والعجلوني في كشف الخفا (1/ 87).

ص: 593

وفي وجه ثان يجوز من غير كراهة، وبه قطع المتولي، وضعف. واختار الروياني أنه مكروه كراهة تنزيه.

السادسة: صح عن عائشة أنها قالت: "كان عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

فإذا أخرته عنه من غير عذر لزمها مع القضاء مد، ويتكرر بتكرر السنين على الأصح.

السابعة: الحكمة في صوم شعبان كله أنه يشطر الدهر، فربما فاته منه، فاستوفاه في هذا الشهر، وأحسن من ذلك أنه شهر تُرفع فيه الأعمال كما سلف في حديث أسامة.

وأخرجه أحمد أيضا في مسنده

(2)

.

الثامنة: روي في صلاة ليلة النصف من شعبان

(3)

أحاديث موضوعة، وواحد مقطوعا في صلاة مائة ركعة، في كل ركعة الحمد مرة، وسورة الإخلاص عشرًا فينصرفون، وربما فاتهم الصبح التي ثبت فيها أن من صلاها في جماعة تعدل الليلة كلها

(4)

.

وثبت أيضا: أن "من صلى الصبح فهو في ذمة اللَّه عز وجل، فلا يطلبنكم اللَّه في ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم"

(5)

.

وأما حديث عائشة: "فقدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخرجت، فإذا هو بالبقيع، فقال:

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [151 - (1146)] كتاب الصيام، [26] باب قضاء رمضان في شعبان.

قال النووي: تعني بالشغل بقولها في الحديث الثاني فما تقدر على أن تقضيه: أن كل واحدة منهن كانت مهيئة نفسها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في جميع أوقاتها إن أراد ذلك ولا تدري متى يريده، ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه، وهذا من الأدب.

(2)

تقدم تخريجه من قبل.

(3)

روى الترمذي في سننه (739) كتاب الصوم، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان، عن عائشة، وفيه: "إن اللَّه عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب، قال الترمذي: حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث حجاج، وسمعت محمدًا -أي البخاري- يضعف هذا الحديث.

(4)

روى مسلم في صحيحه [260 - (656)] كتاب المساجد ومواضع الصلاة، [46] باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، عن عثمان بن عفان رفعه:"من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله".

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [262 - (657)] كتاب المساجد، [46] باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 464)، والمنذري في الترغيب والترهيب (1/ 292).

ص: 594

"أكنت تخافين أن يحيف اللَّه عليك ورسوله؟ " قلت: يا رسول اللَّه إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك. فقال: "إن اللَّه عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب"

(1)

. رواه الترمذي وضعفه.

خاتمة: أبعد بعض المفسرين فقال: إن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر المباركة في سورة الدخان، ويبعده قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}

(2)

، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}

(3)

. فأنزل جملة واحدة في رمضان إلى سماء الدنيا.

ومعنى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)}

(4)

: يقضي اللَّه فيها الآجال والأعمال والرزق والخلق إلى مثلها، فيكتب الحجاج بأسمائهم وأسماء آبائهم.

(1)

أخرجه الترمذي في سننه (739) كتاب الصوم، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان، وابن ماجه في سننه (1389) كتاب الإقامة، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان، وأحمد في مسنده (6/ 238)، والشجري في أماليه (2/ 101، 108)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 438)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (1299)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 66)، والسيوطي في الدر المنثور (6/ 27)، والقرطبي في تفسيره (16/ 127).

(2)

سورة البقرة (185).

(3)

سورة القدر (1).

(4)

سورة الدخان (4).

ص: 595

‌مجلس في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}

(1)

سمي الشهر شهرًا لشهرته، وقيل: من الشهرة، وهي البياض، ورمضان قيل إنه من أسماء اللَّه تعالى، وفيه حديث مرفوع، وفي اشتقاقه أقوال:

أحدها: لأنه رمضت فيه الفصال من الحر، أو لأن الحجارة ترمض من الحرارة، والرمضاء

(2)

الحجارة المحماة.

ثانيها: لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها، أو لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكر كما تأخذ الرمل والحجارة من حرارة الشمس.

ثالثها للخليل: أنه مأخوذ من الرمض وهو مطر يأتي في الخريف، فسُمِّي بَذلك لأنه يغسل البدن من الآثام غسلا، ويطهر قلوبهم تطهيرا.

{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] كذا ذكر في هذه الآية، وفي القدر:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}

(3)

، وفي الدخان:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}

(4)

.

وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ}

(5)

الآية.

(1)

سورة البقرة (185).

يمدح تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم كما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء. [تفسير ابن كثير (1/ 216)].

(2)

روى ابن أبي حاتم بسنده، وابن مردويه بسنده، وهذا لفظه، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:"أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى السماء الدنيا، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة لجواب كلام الناس". وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان اللَّه يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم اللَّه بجوابه.

(3)

سورة القدر (1). قال ابن عباس وغيره أنزل اللَّه القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. [تفسير ابن كثير (4/ 529)].

(4)

سورة الدخان (4).

(5)

سورة الإسراء (106).

ص: 596

وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}

(1)

، ولا تنافي بينها؛ لأنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان، وهي الليلة المباركة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم نحوا من عشرين سنة.

فكذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}

(2)

، وكان جبريل صلى الله عليه وسلم يعارض به في رمضان بما أنزل اللَّه، فيحكم اللَّه ما يشاء ويثبت ما يشاء.

وفي حديث أبي ذر مرفوعا: "أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال من رمضان، وأنزلت توراة موسى في ست ليال منه، والإنجيل في ثلاث عشرة منه، والزبور في ثمان عشرة منه، والفرقان في الرابعة والعشرين منه"

(3)

.

ثم وصف القرآن فقال: {هُدًى لِلنَّاسِ} أي من الضلالة.

{وَبَيِّنَاتٍ} من الحلال والحرام والحدود والأحكام.

{مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]

(4)

الفصل بين الحق والباطل.

(1)

سورة الفرقان (32).

يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة، كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية؟ فأجابهم اللَّه تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين. [ابن كثير في تفسيره (3/ 327)].

(2)

سورة الواقعة (75).

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (4/ 107)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 197)، والسيوطي في الدر المنثور (1/ 189)، والقرطبي في تفسيره (2/ 298، 16/ 126)، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 6)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1575).

(4)

هذا مدح للقرآن الذي أنزله اللَّه هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه {وَبَيِّنَاتٍ} [البقرة: 185] أي ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام.

ص: 597

‌مجلس في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى

(14)}

(1)

أي تطهر من الشرك، وقال: لا إله إلا اللَّه.

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 15] بالخوف فعبده، وصلى له.

وقد روى جابر مرفوعا: " {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} [الأعلى: 14] من شهد أن لا إله إلا اللَّه، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول اللَّه"

(2)

.

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)}

(3)

أي الخمس، والمحافظة عليها حيث ينادى بها، والاهتمام بمواقيتها.

والمفسرون يحملون الاثنين على زكاة الفطر وصلاة العيد، أفلح من تصدق قبل مروره إلى العيد فصلى مع الإمام

(4)

رواه ابن عمر مرفوعا. "وكان ابن عمر إذا صلى الغداة قال: يا نافع أخرجت الصدقة؟ فإن قال: نعم خرج إلى المصلى، وإن قال: لا قال: الآن فأخرج فإن الآية نزلت في ذلك".

وتخرج عمن مات بعد الغروب دون من ولد، والسنة أن لا تؤخر عن الصلاة، ويحرم تأخيرها عن يومه؛ لأنه قد ورد:"أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"

(5)

، ويلزمه قضاؤها مع ذلك لخروجها عن الوقت، ومن لم يفضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه لا شيء عليه، ويشترط كونه فاضلا عن مسكن وخادم يحتاج إليه.

وهي تابعة للنفقة؛ فكل من وجبت نفقته وجبت فطرته، ومن لا فلا، وهي صاع

(1)

سورة الأعلى (14).

(2)

أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 137)، والقرطبي في تفسيره (20/ 22)، وابن كثير في تفسيره (8/ 403).

(3)

سورة الأعلى (15).

أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان اللَّه وطاعة لأمر اللَّه وامتثالا لشرع اللَّه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (1509) كتاب الزكاة، [78] باب الصدقة قبل العيد، ومسلم في صحيحه [22 - (986)][23] كتاب الزكاة، [5] باب الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، والترمذي في سننه (677) كتاب الزكاة، باب ما جاء في تقديمها قبل الصلاة.

قال النووي: فيه دليل لشافعي والجمهور في أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد، وأن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى المصلى واللَّه أعلم.

(5)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/ 175)، والزيلعي في نصب الراية (2/ 431، 432)، وابن حجر في تلخيص الحبير (2/ 183)، والألباني في إرواء الغليل (3/ 332).

ص: 598

من جنس القوت المعتبر، وتجب من قوت بلده على الراجح

(1)

.

‌مجلس في فضل العتق

قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)}

(2)

الآية.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من أعتق رقبة مسلم أعتق اللَّه بكل عضو منها عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه"

(3)

.

وما أحسن هذا التأكيد: حتى الفرج بالفرج؛ فالزنا بأنواعه، وإتيان الزوجة في الحيض وفي غير المأتى يكفره العتق في الآخرة.

وروينا فيهما

(4)

من حديث أبي ذر: قلت: يا رسول اللَّه أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان باللَّه والجهاد في سبيله" قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا"

(5)

، وهو بيان لأفضلية العتق، وأن هذا أفضل.

(1)

قال النووي: الواجب في الفطرة عن كل نفس صاع، فإن كان في غير حنطة وزبيب وجب صاع بالإجماع، وإن حنطة وزبيبا وجب أيضا صاع عند الشافعي ومالك والجمهور، وقال أبو حنيفة وأحمد: نصف صاع، بحديث معاوية، وحجة الجمهور حديث أبي سعيد في قوله: صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب، والدلالة فيه من وجهين: أحدهما: أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة. والثاني: أنه ذكر أشياء قيمها مختلفة، وأوجت في كل نوع منها صاعا. [النووي في شرح مسلم (7/ 52) طبعة دار الكتب العلمية].

(2)

سورة البلد (11، 12).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (6715) كتاب كفارات الأيمان، [6] باب قول اللَّه تعالى:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، ومسلم في صحيحه [23] كتاب العتق، باب فضل العتق، والترمذي في سننه (1541) كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في ثواب من أعتق رقبة، وأحمد في مسنده (2/ 420، 422)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 243)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 273، 10/ 272)، وابن حجر في تلخيص الحبير (3/ 93)، والطبري في تفسيره (30/ 129).

(4)

قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب: "أفضلها أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا" فالمراد به واللَّه أعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشتري بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان، أفضل، والمقصود من العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من ذل الرق، فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد، واللَّه أعلم. [النووي في شرح مسلم (2/ 68، 69) طبعة دار الكتب العلمية].

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (2518) كتاب العتق، [2] باب أي الرقاب أفضل، ومسلم في صحيحه [136 - (84)] كتاب الإيمان، [36] باب بيان كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل الأعمال، =

ص: 599

‌مجلس في فضل الإحسان إلى المملوك

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

(1)

إلى قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] فالإحسان إليهم من مراضي الرب تعالى.

وروينا في الصحيحين من حديث المعرور بن سويد قال

(2)

: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك، قال: نذكر أنه سابَّ رجلا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنك امرؤ فيك جاهلية، وهم إخوانكم وخولكم، جعلهم اللَّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه".

وروينا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعا: إذا أتى أحدكم خادمه بطعام فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أُكْلة أو أُكلتين، فإنه ولي علاجه"

(3)

.

الأُكلة - بضم الهمزة: اللقمة.

وفي ذلك تعجيل قضاء شهوته والإفاضة على خدمهم بما عالجوه.

= وابن ماجه (2523)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 81، 10/ 273)، وأحمد في مسنده (5/ 150)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 108)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 323).

(1)

سورة النساء (36).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2545) كتاب العتق، [15] باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون"، ومسلم في صحيحه [40 - (1661)] كتاب الإيمان، [10] باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، وأبو داود (5157)، والترمذي في سننه (2871)، وأحمد في مسنده (5/ 161)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 7)، والزبيدي في الإتحاف (8/ 24، 375)، والألباني في إرواء الغليل (7/ 235).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2557) كتاب العتق، [18] باب إذا أتاه خادمه بطعامه، ورقم (5460) كتاب الأطعمة [56] باب الأكل مع الخادم، وأحمد في مسنده (1/ 446)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 238)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 326)، وابن حجر في تلخيص الحبير (4/ 13)، وابن كئير في تفسيره (2/ 264)، ورواه مسلم بلفظ آخر [42 - (1663)] كتاب الأيمان [10] باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه.

ص: 600

‌مجلس في فضل من أدى حق اللَّه وحق مواليه

روينا في الصحيحين

(1)

من حديث ابن عمر مرفوعا: "إن العبد إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة اللَّه فله أجره مرتين".

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعا: "للعبد المملوك المصلح أجران، والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل اللَّه والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك"

(2)

.

وروينا فيهما من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حق اللَّه وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران"

(3)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديثه مرفوعا: "المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران"

(4)

.

فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث بثبوت أجرين له

(5)

.

(1)

أخرجه: البخاري (2546) كتاب العتق، [16] باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده، ورقم (2550)، [17] باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي، و مسلم في صحيحه [43 - (1664)] كتاب الإيمان، [11] باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة اللَّه، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 24)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (3348)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 12).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2548) كتاب العتق، [16] باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده، ومسلم في صحيحه [44 - (1665)] كتاب الإيمان، [11] باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة اللَّه، وأحمد في مسنده (2/ 230، 402)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 12)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 25)، والزبيدي في الإتحاف (6/ 325).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (97) كتاب العلم، [32] باب تعليم الرجل أمته وأهله، ورقم (2544) كتاب العتق، [14] باب فضل من أدب جاريته وعلمها، ورقم (2547)، [16] باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده، ورقم (3011)، كتاب الجهاد والسير [145] باب فضل من أسلم من أهل الكتابين، ورقم (3446) كتاب أحاديث الأنبياء [50] باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، ومسلم في صحيحه [241 - (154)] كتاب الإيمان، [70] باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2551) كتاب العتق، [17] باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي.

(5)

قال النووي فيه فضيلة ظاهرة للمملوك المصلح، وهو الناصح لسيده، والقائم بعبادة ربه المتوجهة =

ص: 601

ففي الأول شرط ومنها بنصحه لسيده، وفي الثاني المصلح نتيجة النصح القلبي، والرابع: أسهلها، والثالث أداء حق اللَّه وحق مواليه، وعليه المدار.

‌مجلس في فضل السماحة في البيع والشراء، والأخذ والعطاء وحسن القضاء، وإرجاح المكيال والميزان، والنهي عن التطفيف، وفضل إنظار الموسر للمعسر والوضع عنه

قال تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

(1)

أي فيجازي عليه بكل ذرة خيرا منها. وسرح (. . . .)(*) به، ومبالغة عليم وتأكيدان، وذكر الاسم (. . . . .) (*) وذلك. وقال تعالى:{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85]

(2)

. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1] الآية.

وروينا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه، فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دعوه فإن لصاحب الحق مقالا" ثم قال: "أعطوه سنا مثل سنه" قالوا: يا رسول اللَّه لا نجد إلا أمثل من سنه، فقال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء"

(3)

.

وروينا في صحيح البخاري من حديث جابر مرفوعا: "رحم اللَّه رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" زاد غيره: "وإذا اقتضي له"

(4)

.

= عليه، وأن له أجرين لقيامه بالحقين ولانكساره بالرق، وأما قول أبي هريرة:"لولا الجهاد في سبيل اللَّه والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك" فيه أن المملوك لا جهاد عليه ولا حج لأنه غير مستطيع، وأراد ببر أمه القيام بمصلحتها في النفقة والمؤن والخدمة، ونحو ذلك مما لا يمكن فعله من الرقيق. [النووي في شرح مسلم (2/ 113) طبعة دار الكتب العلمية].

(1)

سورة البقرة (215).

(*) كلمة غير واضحة بالأصل.

(2)

سورة هود (85).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (2306) كتاب باب الوكالة في قضاء الديون، [6] باب الوكالة في قضاء الديون، ومسلم في صحيحه [120 - (1601)] كتاب المساقاة، [22] باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه، و"خيركم أحسنكم قضاء"، والترمذي في سنه (1317)، وأحمد في مسنده (2/ 416، 6/ 268)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 351، 6/ 20، 21)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 139).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (2076) كتاب البيوع، [16] باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع، ومن طلب حقا فليطلبه في عفاف، والترمذي في سننه (1320)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2790).

ص: 602

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعا: من سره أن ينجيه اللَّه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه"

(1)

.

وروينا فيهما من حديث أبي هريرة مرفوعا: كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه، إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل اللَّه أن يتجاوز عنا، قال: فلقي اللَّه فتجاوز عنه"

(2)

.

وروينا في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال اللَّه عز وجل: نحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه"

(3)

.

قال (. . . . .)

(4)

: فحصل له فوز وجوزي بالوصف كما قال تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139].

وروينا فيه أيضا من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: "أتى اللَّه بعبد من عباده آتاه اللَّه مالا، فقال له ماذا عملت في الدنيا؟ قال: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} قال: يا رب آتيتني مالك فكنت أبايع الناس، وكان من خُلِقي الجواز، فكنت أتيسر على الموسر وأنظر المعسر، فقال اللَّه: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي" فقال عقبة بن عامر الجهني، وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وروينا من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من أنظر معسرا أو وضع له أظله اللَّه يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله"

(6)

رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه [32 - (1563)] كتاب المساقاة، [6] باب فضل إنظار المعسر، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 337، 6/ 28)]، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 134)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 42).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (2078) كتاب البيوع، [18] باب من أنظر معسرا، ورقم (3480) كتاب أحاديث الأنبياء، باب [56] يلي باب حديث الغار، ومسلم في صحيحه [31. (1562)]، كتاب المساقاة، [6] باب فضل إنظار المعسر.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه [30 - (1561)] كتاب المساقاة، [6] باب فضل إنظار المعسر.

(4)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه [29 - (1560)] كتاب المساقاة، [6] باب فضل إنظار المعسر.

(6)

أخرجه الترمذي في سننه (1306) كتاب البيوع، باب ما جاء في إنظار المعسر والرفق به، وأحمد في مسنده (2/ 359)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 357)، والهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 133)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 20)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 45، 46) والزبيدي في الإتحاف (5/ 500)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2903).

ص: 603

وروينا في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيرا فوزن لي ثمن البعير فأرجح لي"

(1)

.

وروينا من حديث أبي صفوان سويد بن قيس رضي الله عنهما قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر، فجاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فساومنا بسراويل، وعندي وزان يزن فقال النبي صلى الله عليه وسلم للوزان:"زن وأرجح"

(2)

. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وفي قوله (. . . . .)(*) لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (. . . . .)(*) أن يعتاد الوزان إقامة القسط (. . . . .)(*) تمييز الحق عن الفضل.

‌فصل

وقد اشتملت هذه الحدائق على آيات من القرآن العظيم، وأحاديث وحكايات بديعة (. . . . .)(*) وأشعار رائعة لخدمة الكتاب، وتوقظ أهل الغفلة.

‌ختمناه

بالاستغفار (. . . . .)(*) إكماله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وعلى أزواجه وصحبه والتابعين.

سائلا (. . . . .)(*) باللَّه كنز من كنوز الجنة. والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

وكان الفراغ من كتابته في جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وألف 1095.

(1)

أخرجه البخاري في (3/ 132)، ومسلم في صحيحه [115 - (715)] كتاب المساقاة، [21] باب بيع البعير واستثناء ركوبه.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (1305)، وأبو داود في سننه (3336)، وابن ماجه (2220)، وأحمد في مسنده (4/ 352)، والحاكم في المستدرك (2/ 30، 4/ 192)، وابن حبان في صحيحه (1440 - الموارد)، والتبريزي في مشكاة المصابيح (2924)، وابن أبي شيبة (6/ 586)، والزبيدي في الإتحاف (5/ 490).

(*) كلمات غير واضحة بالأصل.

ص: 604