الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الباب السابع)
والحديث في هذا الباب يشمل مادتين من مواد إعلان حقوق الإنسان، وهما المادة السابعة عشرة، والثالثة والعشرون. ونورد نصهما أولا على نظام ما سبق في هذا البحث.
المادة السابعة عشرة:
(أ) لكل شخص حق التملك بمفرده، أو بالاشتراك مع غيره.
(ب) لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا.
المادة الثالثة والعشرون:
(أ) لكل شخص الحق في العمل، وله حرية اختياره بشروط عادلة مرضية، كما أن له حق الحماية من البطالة.
(ب) لكل فرد دون أي تمييز الحق في أجر متساو للعمل.
(ج) لكل فرد الحق في أجر عادل مرض مقابل عمله، يكفل له ولأسرته عيشة لائقة بكرامة الإنسان، تضاف إليه عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
(د) لكل فرد الحق في أن ينشئ وينضم إلى نقابات، حماية لمصلحته.
ونبدأ فنقول:
ما نظن دينا جعل العمل فرضا وكرم العاملين أكثر من الإسلام، بل ولأنه دين الله ومنسوب إليه فإن من كرم الله تعالى أن يأبى للمؤمنين به أن يكونوا عالة إلا عليه ثم على ما يأمرهم وما يسبب لهم من عمل، حتى لا يمدوا أيديهم إلى عدو له يستجدونه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ، فالله لا يجعل أولياءه إلا كذلك حتى إن أكرم خلقه عنده هم رسله جعلهم جميعا يعملون، فمنهم من كان فلاحا وزارعا ماهرا، ومنهم من كان تاجرا رابحا، ومنهم من كان صانعا حاذقا إلى غير ذلك مما زخر القرآن الكريم بقصصهم وكان يمكن أن يكفيهم الله ذلك بكلمة (كن) ولكنه سبحانه شاء أن يجعلهم الشارة المتبعة للعالمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَة} والقرآن عندنا قد أكثر من آيات العمل، بعضها بظاهر اللفظ وبعضها بمضمون المعنى.
فمن النوع الأول {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} وغير هذا كثير،. وثابت أن كلمة (العمل) عندنا في الإسلام – والقرآن كتاب الإسلام - يشمل عمل الدنيا أيضا، فعمل المسلم
كله عبادة حيث لا رهبانية عندنا ولا مذلة ولا انطواء، ومن أجلّ عمل الدنيا المثاب عليه من الله الكدح في سبيل الرزق الطيب للنفس ومن تعول.
والآيات التي خلا منها لفظ العمل وحضت بالمعنى منها {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} وغير هذا كثير.
ومن الآية الأخيرة نبسط القوة آخذين منها السبب والمصدر لحديثنا، فهو سبحانه في الآية ينادي كل الناس من عباده، أن يأكلوا مما في الأرض، أي يحصلوا على طعامهم بالعمل في ثنايا أرزاقها المختلفة والمتعددة التي خلقها لهم، وأن يتجهوا بالعمل إلى طرق الحلال الطيبة، ليكون مطعمه حلالا طيبا وفي بدن الطاعم هنيئا مريئا.
والآن أسأل الذين وضعوا حقوق الإنسان هذه الأسئلة الآتية:
هل العمل بالربا وأكل نتاجه السحت الخبيث، والذين تتعاملون به يا من أعلنتم حقوق الإنسان أفرادا ومجتمعا وحكومات، وكم خربت به بيوت وأفلست به شركات بل وحكومات، من العمل الحلال الطيب، إنه للسبب الموجز الذي أوضحته ليس عندنا حلالا ولا طيبا.
وهل العمل في مزارع كروم الخمر ومصانعه ومتاجره وحاناته وشربه مما أفرى أكبادكم وأهلك أجسادكم وأطار عقولكم من العمل المباح في حقوق الإنسان لديكم؟، إنه عندنا فحش وقذر وعلى العامل والآكل لعنة منكبة، وهل الاستيلاء على المزارع والمصانع ونزع الملكيات بغير رغبة المالك أو تعويضه باسم الشيوعية تارة وباسم الاشتراكية تارة وباسم الديمقراطية تارة وباسم المساواة تارة وباسم تذويب الفوارق بين الطبقات تارة إلى آخر قائمة لا تنتهي من التعليلات الظالمة الفاجرة لتظل أنيابكم تسيل من دماء الشعوب، كل هذا حقوق مباحة عندكم ولا تمس حقوق الإنسان بشيء، وقد أخذه منكم كثير من بلاد إسلامية، أو كانت كذلك وبإقتدائها بكم لم تعد إسلامية.
وهل السطو على المنازل والبنوك وقطارات السكك الحديدية وقطع الطرقات واحتراف السلب والنهب من حقوق الإنسان عندكم وهي تجتاح بلادكم ودياركم؟، ديننا يقول لنا بقوة: لا.
وهل إضراب العمال عن الأعمال في كل مرافق الدولة مما يؤدي إلى تصلب كل شرايينها وشل كل أعضائها فتضار النساء والأطفال والعجزة وهذا أمر تبيحه قوانينكم وحقوق
إنسانيتكم، تعدونه حقا نافعا ومباحا؟. ولقد كنتم السبب لما بخستم حق العامل وأهدرتم آدميته بما لا يقيم أوده هو ومن جعل قواما عليهم.
وهل من العمل وسبل الارتزاق أن يستغل الحاكم منصبه فيفعل ويختلس حتى يبني لنفسه الدور والقصور، منتهزا أيام حكمه قبل أن يترك المنصب ويغور، وقد تعلم منكم كثير من حكام المسلمين بل بعضهم بزّكم وفاقكم فيه؟
إننا نحن المسلمين نحرم العمل وسبل العيش السابقة ونزيد عليها منعا أنواعا شتى لا نقرها أبدا.
فنحرم الارتزاق من مال القصر والأيتام، إلا بأجر صونها لهم بالمعروف، ونحرم الارتزاق بالاحتكار والغش والبخس في البيع والشراء والكيل والميزان والحاضر للباد.
ونحتِّم رد الحقوق وأداء القروض وإعادة الودائع والأمانات، وأكلها، أو الأكل منها عندنا مستحيل.
حتى الأكل عن طريق السؤال واحتراف الشحاذة، يمنعها ديننا ويعتبرها معصية دنيئة.
ولو عددنا ما انتهينا، لأن ديننا شامل لنعم الله ونعمه محال عدها، ولا بأس من تقديم بعض النصوص والوقائع للفائدة في هذا الباب.
1_
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري.
2_
" طلب الحلال واجب على كل مسلم" رواه الدارقطني.
3_
"أيما رجل كسب مالا من حلال فأطعم نفسه أو كساها فمن دونه من خلق الله فإنه له به زكاة" رواه ابن حبان.
4_
سئل صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أفضل؟ قال: "عمل الرجل بيده وكل عمل مبرور" رواه الطبراني.
5_
وعنه صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب المؤمن المحترف" رواه البيهقي.
6_
رُوي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من جده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو
كان هذا في سبيل الله!! فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة، فهو في سبيل الشيطان " رواه الطبراني.
7_
وعنه صلى الله عليه وسلم: " لأن يأخذ أحدكم ترابا –يجعله في فيه- خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه" رواه أحمد.
8_
وعنه صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به" الطبراني
9_
وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم" رواه البخاري.
10_
أبى صلى الله عليه وسلم أن يصلي على ميت ترك مالا من التسول، فعن مسعود ابن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي له برجل ليصلي عليه فقال:"كم ترك؟ " قالوا: دينارين أو ثلاثة، قال:"ترك كيّتين أو ثلاث كيّات"، فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: ذاك رجل كان يسأل الناس تكثّرا، رواه البيهقي
11_
عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أي الظلم أظلم؟ فقال: "ذراع من الأرض ينتقصها المرء المسلم من حق أخيه المسلم، فليس حصاة من الأرض يأخذها إلا طوقها إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الله الذي خلقها" رواه أحمد
12_
"لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا من أخيه إلا بطيب نفس منه" صدق الرسول الكريم، رواه ابن حبان
13_
عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل لترفع صحيفته يوم القيامة حتى يرى أنه ناج، فما تزال مطامع بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم" رواه البيهقي بإسناد جيد
14_
محاورة رائعة بين الخليفة عمر رضي الله عنه وأبي هريرة، ترى منها أن أبا هريرة هذا الصحابي الكريم رضي الله عنه مع رفعة منزلته في الإسلام لم يمنعه ذلك من أن يحاسبه الخليفة عن العمل الذي أداه حتى حصل منه على سعة من مال، قال له عمر:
استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار.
قال أبو هريرة: كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت.
قال عمر: قد حسبت لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل فأده.
فقال أبو هريرة: ليس لك.
قال عمر: بلى، والله أوجع ظهرك، ثم قام إليه بالدرة حتى أدماه، ثم قال له: إيت بها.
قال أبو هريرة: احتسبتها لله.
قال عمر: ذاك لو أخذتها من حلال، وأديتها طائعا، أجئت من أقصى البحرين، تجبي الناس لك، لا لله ولا للمسلمين؟! ما رجعت بك أميمة –يقصد أم أبي هريرة- إلا لرعية الحمُر.
15_
وكتب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص واليه على مصر قائلا: " إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان، لم تكن حين وليت مصر " فكتب إليه عمرو: " إن أرضنا أرض مزدرع ومتَّجر، فنحن نصيب فضلا عما تحتاج إليه نفقتنا ". فرد عليه عمر بالرسالة الآتية: " إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إليَّ كتاب من أقلقه الأخذ بالحق، وقد سئت بك ظنا، ووجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه وأطعمه، وأخرج إليه ما يطالبك به، واعنه من الغلظة عليك، فإنه برح الخفاء " فلما وصل إليه محمد بن مسلمة أذعن لأمر عمر، رضي الله عنهم أجمعين.
هؤلاء هم الرجال الغرّ العظام، الذين عرفوا حقوق الإنسان لا تأخذهم فيها أقارب ولا مناصب، تعلموها عن ربهم كما أمر بها في كتابه، ومن سنة نبيهم وسيرته حسبما وجه، على أنه عبد رباني لا أرب له في هذه الدنيا إلا أن يترك للعالمين تاريخا من قواعد سامقة لا تحيد ولا تميد، هذا؟ أم الذي وضعه لنفسه إنسان هذا الزمان، فكان أن ملأ الجور كل مكان.