المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم البرامج النافعة التي يصاحبها صوت العزف: - حكم الغناء والمعازف وآلات الملاهي والمؤثرات الصوتية

[أبو فيصل البدراني]

الفصل: ‌حكم البرامج النافعة التي يصاحبها صوت العزف:

والسلام أيضاً: (صوتان ملعونان: صوت مزمار عند نعمة، وصوت ويل عند مصيبة). صححه الشيخ الألباني وقال: وفي الحديث تحريم آلات الطرب، لأن المزمار هو الآلة التي يزمر بها.

وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة.) صحيح الترغيب والترهيب.

وعن الحسن قال: صوتان فاجران فاحشان قال: حسبته قال ملعونان: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة، فأما الصوت عند المصيبة فخمش الوجوه وشق الجيوب ونتف الأشعار ورن شيطان، وأما الصوت عند النعمة فلهو وباطل ومزمار شيطان. أخرجه عبدر الرزاق في مصنفه.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع صوت زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راعٍ فصنع مثل هذا. رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ حسن.

وهناك أدلة أخرى تركناها للاختصار يمكنك الاطلاع عليها في كتاب إغاثة اللهفان عن مصايد الشيطان، للإمام ابن القيم رحمه الله ، والله أعلم.

الحكمة من تحريم الغناء المصحوب بالموسيقى:

ينبغي أن يُعلم أن الله عز وجل قد شرع لنا ما فيه صلاح القلوب والأعمال، فما من خير يؤدي إلى صلاح قلب العبد وإصلاح عمله إلا ودلنا عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، ولو كان في استماع الموسيقى خير لدلنا عليه ولكن فيه الشر كل الشر، فهو معصية لله وفساد للقلب، وأما الحكمة من منع الموسيقى وآلات المعازف فهي ظاهرة، لما له من أثر على القلب والعقل، وحسبك ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه:"الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل".

وقيل: "لا يجتمع في قلب العبد قرآن الرحمن وقرآن الشيطان وهو الغناء". وفي الكافي لابن قدامة: قال الإمام أحمد: لا يعجبني الغناء، لأنه ينبت النفاق في القلب.

ومن تأمل حال المنشغلين بسماع الغناء والمعازف، والمشتغلين به أداءً ومشاركة، وما في مجالسهم من اللغو والفسوق، وما هم عليه من الغفلة عن أداء العبادات، والإعراض عن تفهم القرآن والانتفاع بتلاوته أيقن بوجود الحكمة التامة من وراء تحريم هذا النوع من الغناء، على أن المسلم مُطالب بتطبيق حكم الله تعالى وإن لم يقف على ما وراءه من الحكم والمصالح فكيف وهي ظاهرة لمن تأمل وسلم من الهوى والله تعالى أعلم.

‌حكم البرامج النافعة التي يصاحبها صوت العزف:

البرامج النافعة التي يصاحبها صوت العزف، فهذه إن استطاع المستمع أن يخفض صوت التلفاز أو المذياع عند ورود العزف جاز له استماعه، وإن لم يستطع ذلك بأن كان العزف مصاحباً لمادة البرنامج فالذي يظهر لنا دخول ذلك في عموم النهي عن استماع المعازف، وما يقال من وجود المنفعة المتضمنة في هذه البرامج لا نراه مبيحاً لارتكاب المحظور، لا سيما أنه لا يترتب على فوات هذه المنفعة ضرر بل يمكن تحصيلها بوسائل أخرى بعيدة عن الحرام ، ومصلحة حفظ الدين

ص: 2

مقدمة على كل مصلحة، والبعد عن الشبهات أصل الورع، هذا على تقدير أن الأمر لا يتجاوز حد الشبهة، والله أعلم.

حُكْمِ مَاْ دَخَلَ عَلَىْ بَعْضِ الأَنَاْشِيْدِ مِنْ المُؤَثِرَاْتِ الصَّوْتِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِـ" الإيقاعات".

خلاصة الحكم: أهل العلم المعاصرين مختلفون في تحريم هذا النوع من المؤثرات على ما وقفنا عليه من كلامهم إلا أن الراجح من أقوال أهل العلم أن المؤثرات الصوتية عموماً إما أن تنتج أصواتاً مثل المعازف فتأخذ حكمها أو يتميز صوتها عن أصوات المعازف فتبقى على أصل الجواز، وعلى ذلك فإن كان المراد بهذه الإيقاعات تلك الإيقاعات التي هي عبارة عن الترديد والنغمات المقطعة بأصوات المنشدين من غير أن تستخدم فيها آلات موسيقية فلا بأس بمثل ذلك إن كان فيما يُباح وأما إن كان المراد بهذه الإيقاعات الأصوات التي يتم تسجيلها على الحاسب الآلي ثم يتم التحكم فيها بتضخيمها وتضعيفها وترفيعها بحيث تصبح كالأصوات التي تصدر عن الآلات الموسيقية، فإنها تعتبر موسيقى ويحرم الاستماع إليها

وأما محاكاة المعازف والموسيقى بالصوت البشري الطبيعي بلا تحسينات الكمبيوتر ونحوها فالأظهر الجواز وإن كان مكروهاً.

صورة المسألة:

المراد بالإيقاع في هذا البحث أن يدخل الإنسان صوته الطبيعي أو غيره من الأصوات الطبيعية إلى جهاز الكمبيوتر أو نحوه من الأجهزة الحديثة أو بعض برامج الصوت فيقوم هو بتعديله أو يعدله البرنامج أو الجهاز من تلقاء نفسه ليخرج بعد ذلك صوتاً مشابهاً أو مماثلاً لصوت الموسيقى الصادرة عن آلات اللهو "المعازف"، أو يضيف البرنامج لصوت المنشد خلفيات موسيقية أو شبيهة بالموسيقى.

السؤال: ما حكم هذا الصوت الناتج، هل يحكم عليه بالجواز نظراً إلى أن أصله أصوات بشرية؟ أم بالتحريم لأن الناتج صوت موسيقي أو شبيه بالصوت الموسيقي؟

الجواب: اختلف أهل العلم المعاصرون في الحكم على هذه النازلة ما بين مانع ومجوِّز، وسأعرض هنا كلا القولين بأدلتهما فإلى ذلك:

فأما أدلة القول بالتحريم، فمنها ما يلي:

الدليل الأول: أن الشرع لا يُفرَق بين المتماثلات، فلا يليق أن ينسب إلى الشرع الحكيم أنه يحرم صوتاً ثم يبيح صوتاً مماثلاً له، فالتفريق بين المتماثلات ممتنع شرعاً، قال ابن القيم:(وإذا تأملت أسرار هذه الشريعة الكاملة وجدتها في غاية الحكمة ورعاية المصالح لا تفرق بين متماثلين ألبتة، ولا تسوي بين مختلفين ولا تحرم شيئاً لمفسدة وتبيح ما مفسدته مساوية لما حرمته أو رجحته عليه، ولا تبيح شيئاً لمصلحة وتحرم ما مصلحته تساويه لما أباحته ألبتة، ولا يوجد فيما جاء به الرسول شيء من ذلك ألبتة).

ويُناقش هذا الدليل من وجهين:

ص: 3

الوجه الأول: أن الغالب في هذه الأصوات أنها لا تماثل الصوت الصادر من الآلات مماثلة تامة بل يدرك المتخصص الفرق بينهما.

ورُدَّ: بأن وجود الفارق اليسير بين الصوتين لا يمنع التسوية بينهما في الحكم، كما أن آلات اللهو يختلف صوتها باختلاف العازف عليها وطريقة العزف، لاسيما وإن عامة الناس لا يدركون الفرق بين الصوتين، فعُلِمَ أن هذا الفارق غير مؤثر في الحكم.

الوجه الثاني: أن الشرع قد يفرق بين صوتين متماثلين فيبح أحدهما ويحرم الآخر لاختلاف مصدرهما، فإن الرجل يُباح له سماع صوت تغنج زوجته وتكسَرها في الكلام ولا يُباح له سماع صوت الأجنبية على تلك الحال ولو كان الصوتان متماثلين تماماً.

ورُدَّ: بأن منع سماع صوت الأجنبية على تلك الصفة إنما هو من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، ولما كانت الزوجة حلالاً له انتفت العلة التي من أجلها منع من ذلك الصوت، وليس ذلك لاختلاف مصدر الصوت فإنه لو طلّق زوجته وبانت منه حرم عليه ذلك منها مع أن المصدر واحد، بخلاف مسألتنا.

الدليل الثاني: أن العبرة بمآلات الأمور، ولا يحكم على الأفعال بمجردها دون نظرٍ إلى ما تؤول إليه، فصوت الآدمي إذا غُيِِّر فآل إلى الصوت الموسيقي فالعبرة بما آل إليه لا بأصله، كما أن النفخ وإخراج الهواء من الفم جائز لكن إذا كان النفخ في مزمار أو بوق أو نحوهما حرم لأن مآله إلى صوت موسيقي محرم.

الدليل الثالث: أن الطرب الحاصل بهذه الأصوات نفس الطرب الحاصل بآلات الموسيقى فوجب إلحاقها بها بهذا الجامع بل قد يكون بعض هذه الأصوات أبلغ من بعض أدوات الموسيقى، قال ابن القيم: (وإذا كان الزمر، الذي هو أخف آلات اللهو، حراماً، فكيف بما هو أشد منه؟ كالعود، والطنبور، واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك. فأقل ما فيه: أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور.

ويُناقش من أوجه:

الأول: أنه لم يأت دليل صريح على أن علة تحريم المعازف التي يدور معها الحكم وجوداً وعدماً هي الطرب ولا نحوه من العلل.

الثاني: أنه لو قيل بأن علة تحريم المعازف هي الطرب للزم منه: جواز سماع المعازف على وجه لا طرب فيه.

الثالث: أن الشرع لم يحرم كل مطرب، فقد يطرب الإنسان لصوت زوجته فلا يحرم سماع صوتها، وقد يطرب لصوت البلبل فلا يحرم سماعه، وقد يطرب لصوت قارئ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال صلى الله عليه وسلم:«لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود» وقال أبو عثمان النهدي:” دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته ” والصنج هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط آلة تشبه العود، والناي

ص: 4

هو المزمار، فهل يكون صوت أبي موسى محرماً؟.

الرابع: أن الطرب أمر ذوقيٌ يتفاوت الناس فيه فليس هو وصف ظاهر منضبط يمكن تعليل الحكم به.

الدليل الرابع: أن هذه الأصوات تتردد بين أصلين:

أصل مباح: وهو صوت الآدمي.

وأصل محرم: وهو صوت المعازف والموسيقى.

فتلحق بأكثرهما شبهاً بها ولاشك أن شبهها بأصوات الموسيقى أقرب من شبهها بأصوات الآدميين الطبيعية المجردة.

ويناقش: بأن قياس الشبه ضعيف في حجيته وقد أنكر حجيته كثير من الأصوليين منهم الإمام المحقق ابن القيم في إعلام الموقعين.

الدليل الخامس: أن جهاز الكمبيوتر أو البرنامج المستخدم لتعديل الصوت إذا استخدم على هذا الوجه كان من آلات اللهو المحرمة الداخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" فالمعازف تتطور وتتغير من زمان لآخر، ولا يمكن قصر الحديث على الآلات الموجودة في زمن الرسالة، وقد قال ابن القيم:(لا خلاف بين أهل اللغة في أن المعازف هي جميع آلات اللهو) وقال ابن تيمية: (والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها).

ويناقش: بأن أجهزة الكمبيوتر وبرامج الصوت لا تسمى "معازف" لا لغة ولا عرفاً.

ورُدَّ: بأن استخدامها على ذلك الوجه يجعلها آلة لهو، وإن لم تكن معدة لذلك في الأصل، ثم إن اعتماد كثير من المطربين وأهل الفن على برامج الصوت والأجهزة الحديثة يجعلها من أبرز آلات اللهو في هذا العصر عند استخدامها لهذا الغرض.

الدليل السادس: أن كون هذه الأصوات أصلها مباح وهو الصوت البشري الذي يدخل للجهاز ويجري تعديله لا يجعلها مباحة نظراً لأصلها بل إجراء عملية تعديل الصوت يجعل حكم الصوت الخارج مخالفاً لحكم الصوت الداخل، فالعزف بالبوق والمزمار أصله: نفخ الآدمي فيها وإخراج الهواء من فمه، ونفخ الآدمي وإخراج الهواء من الفم جائز وسماع صوت خروج الهواء جائز لكن لما أدخل ذلك في البوق والمزمار صار حراماً وهذا نظير مسألتنا، فوجب الحكم على الصوت الخارج من الجهاز بالتحريم، ولا يشوش على هذا أن الصوت الداخل جائز.

الدليل السابع: أن استخدام هذه الأصوات في الأناشيد فيه تشبه بالفسقة والكفرة، والتشبه بهم محرم لحديث:(من تشبه بقوم فهو منهم).

ويناقش من وجهين:

الأول: أن هذه الأصوات ليست من خصائص الفسقة والكفرة فلا تكون تشبهاً فقد استخدمها أهل الخير والصلاح فانتفى التشبه عنها.

الثاني: أن استخدام الفسقة أو الكفرة للتقنية في الباطل لا يوجب على غيرهم تركها

ص: 5

في الدعوة إلى الخير.

الدليل الثامن: على فرض وجود مبرر لإباحة هذه الأصوات فالقاعدة أنه (إذا اجتمع مُبيح وحاظر غلب جانب الحظر).

ويناقش: بعدم التسليم بوجود الحاظر فإن الأصل الإباحة وما استُدِلَ به على الحظر غير مسلّم به.

الدليل التاسع: أن مجرد مشابهة الزمر والمعازف مذموم ولو لم يكن بآلات كما روى البخاري عنْ عَائًّشةَ قالَتْ دَخَلَ علَيَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعِنْدِي جارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فاضْطَجَعَ عَلى الفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ ودخَلَ أبُو بَكْرٍ فانْتَهَرَنِي وقال مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فأقْبَلَ علَيْهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال دَعْهُمَا فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُما فخَرَجَتَا.

قال العيني في شرحه:

وقال المهلب: الذي أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد من وجهه إلى معنى التطريب بالألحان، ألَا ترى أنه لم ينكر الإنشاد، وإنما أنكر مشابهة الزمر بما كان في المعتاد الذي فيه اختلاف النغمات وطلب الإطراب، فهو الذي يخشى منه، وقطع الذريعة فيه أحسن.

ويناقش: بأن إقرار النبي صلى لله عليه وسلم يدل على جواز فعل الجاريتين، فكيف يستدل بإنكار أبي بكر، ولا يستدل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل العاشر: أن هذه صوت تلك الإيقاعات ونحوها نظير الصوت الصادر من المعازف، والمعازف من الباطل والإجماع منعقد على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، قال ابن القيم نقلاً عن المزني:(وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل).

ويناقش: بأن نظير الشيء مثيله، إلا أنه بين هذه الأصوات وبين المعازف فرقاً من جهة الصوت - غالباً- ومن جهة المصدر فلا يصح أن تكون نظيرة لها.

ورُدَّ: بأن الفارق المذكور غير مؤثر في الحكم فلا يخرجها عن كونها نظائر.

الدليل الحادي عشر: أن القول بجواز هذه الأصوات ذريعة لاستماع الموسيقى المحرمة، فإن عامة الناس وغير المتخصصين لا يميزون بين هذه الأصوات وبين الموسيقى المحضة، فقد يستمع الإنسان للموسيقى يظنها من هذه الأصوات.

فلو قلنا بجواز هذه الأصوات: فهل يكون سماع الصوت الموسيقي الذي لا يُعلم مصدره مباحاً أم محرماً؟

إن قيل: مباح أفضى إلى جواز الموسيقى حتى يعلم أن مصدرها الآلات المخصوصة، فينتهي الأمر إلى سماع الموسيقى إلا للمتخصص الذي له قدرة على تمييز الأصوات.

ثم إن هذا سيفتح الباب لتجار الفن والموسيقى في ترويج أنواع الموسيقى زاعمين أنها أصوات بشرية، فما الضابط؟ أم سيُشترط أن يشهد مسلمين عدلين من أهل الاختصاص أنها أصوات غير موسيقية؟!

ص: 6

وإن قيل: بل يحرم سماعها حتى يعلم أنها أصوات بشرية فهذا تحكم مخالفٌ للأصل وهو الإباحة ، فوجب المنع منها سداً للذريعة.

وأما أدلة القول بالجواز، فهي ما يلي:

الدليل الأول: أن الأصل الجواز والإباحة، ولا ينتقل عنه إلا بدليل، وأدلة التحريم لا تسلم من مناقشة فوجب استصحاب الأصل والبقاء عليه حتى يصح الدليل الناقل، وهذا ما يسمى عند الأصوليين بـ"الاستصحاب".

ويناقش: بأن الأدلة السابقة تكفي للانتقال عن هذا الأصل، وأما ما ورد على بعضها من المناقشة فكثير منها غير مسلّم وعلى فرض التسليم ببعضه فيبقى البعض الآخر سالماً من المُعارض الراجح.

الدليل الثاني: أن تحسين الصوت البشري لا يوجب تحريمه ولو فاق أصوات الآلات في الحسن وهذه الأصوات إنما هي أصوات بشرية محسنة فلا وجه لمنعها، وقد قال أبو عثمان النهدي:”دخلت دار أبي موسى الأشعري فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته ” قال ابن حجر: والصنج هو آلة تتخذ من نحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر، والبربط آلة تشبه العود، والناي هو المزمار.

ويناقش: بأن هذا مسلّم في تحسين الصوت بغير آلات أو على وجه لا يماثل المعازف المحرمة، ثم ليس مراد أبي عثمان أن صوت أبي موسى مماثل أو مشابه لأصوات تلك الآلات بل هو تشبيه لجمال الصوت وحسنه، وهذا جلي فإنه لا يمكن أن يشتبه على ذي سمع تلاوة أبي موسى للقرآن بأصوات المعازف ألبتة.

الدليل الثالث: أن الشرع قد يبيح صوتاً ويحرم صوتاً مماثلاً له لاختلاف مصدرهما كما في صوت تغنج الزوجة وتكسرها بالكلام وصوت الأجنبية في ذلك فإن الأول مباح والثاني محرم ولو كان صوت الأجنبية مماثل 100% لصوت الزوجة، فكذلك في مسألتنا يفرَّق بين الصوتين لاختلاف مصدرهما فالشرع نهى عن المعازف ولم ينهَ عن صوت الآدمي فيبقى صوت الآدمي جائزاً ولو تماثل مع المعازف في الصوت لاختلاف المصدر.

ويناقش: بأن منع سماع صوت الأجنبية على تلك الصفة إنما هو من باب منع الوسائل المفضية إلى الزنا، ولما كانت الزوجة حلالاً له انتفت العلة التي من أجلها منع من ذلك الصوت، وليس ذلك لاختلاف مصدر الصوت فإنه لو طلّق زوجته وبانت منه حرم عليه ذلك منها مع أن المصدر واحد، بخلاف مسألتنا، وقد سبق بيان هذا ، ومن وجهٍ آخر فإن استخدام الأجهزة والبرامج الحديثة على هذا الوجه يجعلها داخلة في عموم "المعازف" كما سبق بيانه.

الدليل الرابع: أن الشيئين قد يتماثلان في الصورة والشكل ويختلفان في الحكم فيحرم أحدهما ويباح الآخر إبقاء له على الأصل، ومن صور ذلك: يحرم على الرجال لبس الحرير الطبيعي للنهي عنه، ويباح لهم لبس الحرير الصناعي ولو كان ملمسه كالطبيعي فلم يوجب اتفاقهما في الصورة والشكل اتفاقهما في الحكم.

ص: 7

ويناقش: بأن معنى الحرير المنهي عنه هو حرير دودة القز، أما ما يسمى بالحرير الصناعي فليس حرير في اللغة ولا في الشرع وتسميته "حرير" تجوز، أما المعازف المنهي عنها فهي "جميع آلات اللهو بلا خلاف بين أهل اللغة" وآلات اللهو مهما تطورت داخلة في عموم "المعازف" ومن آلات اللهو تلك البرامج التي تستخدم لإيجاد الأصوات الموسيقية عند استخدامها على هذا الوجه.

الدليل الخامس: أن هذه الأصوات لا تدخل في "المعازف" لغة ولا عُرفاً فلا تدخل في الحرام.

ويناقش: بأن هذه الأصوات خرجت باستخدام الأجهزة والبرامج الحديثة واستخدامها على هذا الوجه يجعلها داخلة في عموم "المعازف" كما سبق بيانه.

الدليل السادس: أن في استخدام هذه الأصوات مصالح متعددة: ففيها مندوحة عن استخدام المعازف المحرمة، وفيها إبعاد للناس عن المحرم الظاهر "المعازف"، وفيه غنية لمن ابتلي بسماع المعازف، وإيجاد البدائل الشرعية عن المحرمات مطلوب شرعاً.

ويناقش: بأن هذا إنما يسلم إذا قيل بجواز هذه الأصوات وقد سبقت الأدلة الدالة على تحريمها، والبديل الذي يشرع إيجاده هو البديل المباح لا البديل المحرم.

ورُدَّ: بأن تحريم هذه الأصوات –على فرض التسليم به- ليس كتحريم المعازف في القوة ففي نقل الناس من المعازف إليه تخفيف للشر وارتكاب لأخف المفسدتين.

ويجاب عن هذا من وجهين:

الأول: بأنه يمكن نقل الناس إلى المباح وهو النشيد الخالي من هذه الأصوات فلا وجه لنقلهم من محرم إلى محرم أخف –على فرض التسليم بأنه أخف.

الثاني: أن الواقع أن كثير ممن يستمعون لهذه الأصوات المصاحبة للنشيد هم ممن لا يستمعون الموسيقى أصلاً.

هذا ما تيسر جمعه من أدلة الفريقين ، وقد تبين مما سبق رجحان أدلة المانعين وقوتها، وذلك لأن أدلة المجيزين راجعة إلى عدم وجود دليل للتحريم وأن الأصل الإباحة، وهذه الأصوات لا تدخل في المعازف المحرمة، وقد بينا أدلة التحريم فبطل القول بعدم وجود دليل للتحريم، وبينا أنها داخلة في "المعازف" أو مُلحقة بها.

وفي هذا الباب جاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: استماع أصوات الجمادات ونصه: إذا انبعثت أصوات الجمادات من تلقاء نفسها أو بفعل الريح فلا قائل بتحريم استماع هذه الأصوات، أما إذا انبعثت بفعل الإنسان، فإما أن تكون غير موزونة ولا مطربة، كصوت طرق الحداد على الحديد، وصوت منشار النجار ونحو ذلك، ولا قائل بتحريم استماع صوت من هذه الأصوات، وإما أن ينبعث الصوت من الآلات بفعل الإنسان موزونا مطربا، وهو ما يسمى بالموسيقى. اهـ.

وقال محمد بن صالح المنجد - حفظه الله-: (هذه المؤثرات الصوتية التي تشبه الموسيقى مماثلة للأصوات الموسيقية لا تجوز ولا يجوز سماعها)، وقال الشيخ هاني الجبير - حفظه الله-: (لو أُخذ صوت آدمي فوضع في الأجهزة الصوتية المغيرة له فأخرجتْ صوتاً موسيقياً فلا ريب أن هذا الناتج صوت معازف لا

ص: 8