المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب - خطب المسجد الحرام

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ 1432

- ‌ 11 محرم 1432 - الزهد في الدنيا - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 18 محرم 1432 - مكانة الطفل في الإسلام - الشيخ صالح بن محمد آل طالب

- ‌ 25 محرم 1432 - أهمية تطبيق مبدأ الثواب والعقاب - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 3 صفر 1432 - الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 10 صفر 1432 - الرقية الشرعية أحكام وآداب - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 17 صفر 1432 - حرمة دم المسلم - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 24 صفر 1432 - أهمية التخصص في تولي العمل- الشيخ سعود الشريم

- ‌ 1 ربيع الأول 1432 - خطورة الغيبة - صالح بن حميد

- ‌ 8 ربيع الأول 1432 - النصحية وأهميتها - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 15 ربيع الأول 1432 - الحب في الله - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 22 ربيع الأول 1432 - صفات العلماء الربانيين - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 29 ربيع الأول 1432 - النوازل والتعامل معها بحكمة - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 6 ربيع الثاني 1432 - الفتنة ودور الشيطان في إشعالها - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 13 ربيع الثاني 1432 - وجوب الإجتماع ونبذ الفرقة - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 20 ربيع الثاني 1432 - نعمة الأمن في ظل توحيد الله - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 27 ربيع الثاني 1432 - انتقائية الهوى والإنصاف - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 4 جمادى الأولى 1432 - بلاد الحرمين ومميزاتها - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 11 جمادى الأولى 1432 - الأخوة الإسلامية ولوازمها - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 18 جمادى الأولى 1432 - آداب النوم والاستيقاظ - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 25 جمادى الأولى 1432 - لزوم جماعة المسلمين - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 3 جمادى الثانية 1432 - سبل الوقاية من الفتن - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 10 جمادى الثانية 1432 - الجليس الصالح والجليس السوء - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 17 جمادى الثانية 1432 - السعادة في الإعتصام بالكتاب والسنة - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 24 جمادى الثانية 1432 - شرف الانتساب للسلف الصالح - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 1 رجب 1432 - الإعتصام بالكتاب والسنة سبيل النجاة - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 7 رجب 1432 - قاعدة سد الذرائع - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 15 رجب 1432 - خطورة النميمة - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 22 رجب 1432 - الغيرة على الأعراض - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 29 رجب 1432 - تأملات في معنى التشهد - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 7 شعبان 1432 - تزكية النفوس وإصلاح القلوب - الشيخ أسامة الخياط

- ‌ 14 شعبان 1432 - معالم الهدى في أجواء الفتن - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 21 شعبان 1432 - القمر أحكام وآداب - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 28 شعبان 1432 - رمضان موسم الخيرات والبركات - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 12 رمضان 1432 - وجوب تدبر القرآن - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 19 رمضان 1432 - التوبة والعشر الأواخر من رمضان - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 26 رمضان 1432 - تدبر الأمثال في القرآن الكريم - الشيخ سعود الشر

- ‌ 1 شوال 1432 - خطبة عيد الفطر - التفاؤل والتشاؤم بالأحداث الجارية - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 4 شوال 1432 - النجاة من الفتن - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 11 شوال 1432 - معنى قوله تعالى: (ادخلوا في السلم كافة) - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 18 شوال 1432 - الفهم الصحيح للواقع والواجب نحوه - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 25 شوال 1432 - حسن الظن بالله وآثاره - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 2 ذو القعدة 1432 - مفهوم الحرية في الإسلام - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 9 ذو القعدة 1432 - اقتضاء القول العمل - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 16 ذو القعدة 1432 - فضائل وأعمال البلد الحرام - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 23 ذو القعدة 1432 - الإسلام دين الأخلاق - الشيخ صالح بن حميد

- ‌ 1 ذو الحجة 1432 - الصبر وثمراته - الشيخ أسامة خياط

- ‌ 4 ذو الحجة 1432 - صلاة الاستسقاء - الذنوب سبب منع المطر - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 8 ذو الحجة 1432 - وصية الله لحجاج بيته الحرام - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 10 ذو الحجة 1432 - خطبة عيد الأضحى - المحدثات طوفان مغرق - الشيخ سعود الشريم

- ‌ 15 ذو الحجة 1432 - ما بعد الحج - الشيخ عبد الرحمن السديس

- ‌ 22 ذو الحجة 1432 - ثبات الإسلام واستقراره - الشيخ صالح آل طالب

- ‌ 29 ذو الحجة 1432 - قصر الأمل وحسن العمل - الشيخ صالح بن حميد

الفصل: ‌ 5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب

خطبة المسجد الحرام -‌

‌ 5 رمضان 1432 - تقوى الله في صيام رمضان - الشيخ صالح آل طالب

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى أشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد:

فالوصيةُ المبذولةُ الكبرى هي الوصيةُ بالتقوى؛ بها تكفيرُ الذنوب، والنجاةُ من الخُطوب، ومعرفةُ الحق حين التباسِ الدُّروب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29].

ترفَّعوا عن هذه الدنيا كما زهِد فيها الصالحون، وأعِدُّوا الزادَ لنُقلةٍ لا بد لها أن تكون، واعتبِروا بما تدور به الأيامُ والسنون، وتنبَّهوا فالغفلةُ قد تناهَت، والفتنُ عاصفةٌ قد تدانَت، ورحِم الله من تداركَ نفسَه، فشتَّان بين من عصَى اللهَ وخالفَ أمره وبين من قطع عمره في معاملة ربه وذكره، ولزِمَ الوقوف ببابه، ومرَّغ خدَّه على أعتابِه، فيا خجلةَ الخطَّائين، ويا ندامةَ المُفرِّطين.

أيها المسلمون:

شهرُكم المُعظَّم قد حلَّ، وفرصتُكم في التزوُّد حانَت، والعبدُ في هذا الشهر إما مُوفَّقٌ أو مخذول، أما وقد مضى من شهرنا ليالي، فستمرُّ أيامه سِراعًا، وتمضِي تِباعًا، وسيكون من شأن المُوفَّقين تحصيلُ وافِر الأجور، والسعادة في الدنيا وفي يوم النُّشور.

وسيبكي أقوامٌ أسًى وندمًا على ضياعِ الليالي وفواتِ الأوقات، ولاتَ ساعة ندمٍ ولا بكاء، فاستبِقوا الخيرات، وتدارَكوا الأيام بالباقيات الصالحات، وقد صحَّت الأخبارُ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان - أن «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» ، وأن «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» ، وأن «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه» .

وصحَّ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له» .

فكم رغِمت أنوفٌ ألهَتها شهواتُها والأهواء، ويا أيها الراكبون خلف سراب الدنيا قد حبسَت الأشغالُ أنفاسَهم، ويا أيها اللاهِثون وراء متابعة الأخبار، الباحثون عن كل تفاصيل الأنباء وإشاعاتها، وإلى اللاهين بالمسلسلات والقنوات السادرين في غفلة المُوبِقات، قد أعشَت الشاشاتُ أبصارَهم؛ إنها فرصتُكم لتتوقَّفوا قليلاً، وإنه شهرُكم لتهدأ فيه الأنفاس، ويطمئنَّ القلبُ، وتؤوبَ الروحُ إلى باريها، تبحثُ عن السعادة في جنَبات المسجد، ومن خلال آي القرآن، وتأنسُ بالجلوس للأسرة والأولاد.

ليكن شأنُكم التقلُّل من أعراض الدنيا، والإحسانَ إلى الأقربين، وإدامةَ ذكر الله، وتحقيقَ التقوى التي شرعَ الله الصيامَ لأجلها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم» ؛ رواه البخاري ومسلم.

فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان.

وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر.

أيها المؤمنون:

الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين.

وإذا آمنَ الإنسانُ بالله العظيم، وأيقنَ باليوم الآخر والحساب والجزاء دفعَه ذلك إلى استرضاء ربه والاستعداد للقائه والاستقامة على صراطه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، بدأ بالإيمان وختمَ بالتقوى.

ومن الضلال أن يهبِط الإنسانُ بحقيقة الدين، فيجعلُ الإسلامَ كلمةً لا تكاليفَ لها، وأمانيَّ لا عمل معها، فلا يقوم إلى واجب، ولا ينتهي عن محرم، فيكون من الذين اتخذوا دينَهم لهوًا ولعبًا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا.

وما من آيةٍ في كتاب الله ذكرت الإيمانَ مجردًا؛ بل عطَفَت عليه عملَ الصالحات أو تقوى الله أو الإسلامَ له؛ بحيث أصبحت صلةُ العمل بالإيمان آصرةٌ لا فَكاك عنها، وكثيرًا ما يُشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عمليةٍ محدودة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11 - 16].

بل إن العلامة التي ينصِبُها القرآنُ دليلاً على فراغ النفس من العقيدة، وخراب القلب من الإيمان هي في النُّكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 1 - 3].

يتقرَّر هذا - أيها المسلمون - في مشهد الضعف العام والتوانِي عن الأعمال، وهناك أناسٌ مزَّقَت المعاصي صِلَتهم بالله شرَّ مُمزَّق، وظلَّت أهواؤهم تجنحُ بهم بعيدًا عن الله حتى نسوا اللهَ أتمَّ نسيان، ولم يعرِفوا قدرَ رمضان.

وإنكم - أيها المسلمون - تعرفون تاريخَ أممٍ هلَكت بسوء عملها، وتعرفون أن الله نقم على قوم لوط لارتكابهم الفاحشة، وعلى قوم شُعيب لبخسِهم المكيال والميزان، وقد عرفتُم مصائرَ أولئك الفاسقين؛ فهل أمتُنا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئات دون حذرٍ أو وجَل، إن الإسلام ليس بِدعًا من الشرائع السابقة فيُوجِبُ الإيمان دون العمل؛ بل إن القرآن الكريم ليقُصُّ علينا عِبَر السابقين لنتَّعِظ منها، ثم لنسمَع قولَ الله بعد ذلك: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]، هكذا نُمتَحن، وتُراقَب تصرُّفاتنا، ويُكلِّفُنا الله بالإيمان والعمل جميعًا، ثم ينظر وفاءَنا بما حُمِّلنا من أعباء.

وقد خاطَبَ الله بني آدم بهذه الحقيقة الجليَّة، وأفهَمهم أن نجاتَهم في الصلاح والتقوى لا في النفاق والدعوى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 35، 36].

فرمضان شهرٌ يُثمِر التقوى والعملَ الصالح لا مجرَّد الإمساك عن الأكل والشرب، و «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه» ، ومن كان صادقًا فليجعل رمضان شهرَ عبادةٍ وخشوعٍ وتوبةٍ وإنابةٍ، يلتزِم فيه الأدب، ويترفَع عن الدنايا والرِّيَب، ويستحضِر العبودية بصيامه، ويعمُر وقتَه بالقُربات، ويستزيدُ من الطاعات، ما بين تلاوةٍ للقرآن، وتدبُّر لآياته، أو صدقةٍ وصلة، وإحسانٍ وبرٍّ، وذكرٍ لله تعالى بأنواع الذكر مع الخشوع والسكينة.

ويمضِي النهارُ كلُّه على ذلك، فإذا كان الأصيلُ ودنا الغروب تجلَّى رمضان على الكون بوجهه، فهشَّت له وجوهُ الناس، وهتفَت باسمه الشِّفاه، وانظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراحَ أهلَها من التكالُب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضمَّ الرجلَ إلى أهله، وجمعَ الأسرةَ على أطيب مائدةٍ وأجمل مجلس، وأنفع مدرسة.

ثم يتلو ذلك قيامُ الليل وتلاوة القرآن والدعاء والتضرُّع والإنابة والاستغفار، فيا باغِي الخير أقبِل، ويا باغِي الشر أقصِر.

تقبَّل الله منا ومنكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون [البقرة: 183 - 186].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، أيها المسلمون:

في كل عامٍ نترقَّب هذا الشهر لنستريحَ من وعثاء الدنيا وصخَبها، ولتستروِح قلوبُنا وتبتلَّ نفوسُنا وقد ألحفَها جفافُ السنين، وأرهقَها عصفُ الحياة، يعود شهرُ الخير لتتصافحَ الأيادي المُتباعِدة، وتتصلَ الحِبالُ المقطوعة، وتنتهي حكاياتٌ من الشِّقاق غصَّت بها أروِقةُ المحاكم، وشقِيَت بها دوائرُ الأسر والأحياء والمجتمعات، ويؤذِّن حادي الصفح أن حيَّ على الصفاء، فتأتلِف القلوبُ المُتباينة وتجلو الأُخوَّة الإسلامية بأعظم رابطة، فتبدو الأُخوَّة في أكمل صُورها.

يعد شهرُ رمضان لتعودَ معه الذكريات الجميلات، ويفتحُ أبوابَ الفأل في حياة الأمة وقد غصَّت من الضياع والمُشكلات، وفي القلب غُصَّةٌ من الجراحِ الداميات، والنفوس المُزهقَات، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.

تتعلَّق فيه القلوبُ بشأن الدعاء، وتُعلِنه في كل ليلةٍ جهارًا شعيرةً من شعائر هذا الشهر العظيم، ويُسِرُّ به عبادُ الله في سجَداتهم وصلواتهم وهم يؤمنون أن الغيبَ بيد الله، وأن الأمر كلَّه بيده، وهو على كل شيءٍ قدير، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 18]، ويكون مشهدُ الدعاء من أبلغِ مشاهد هذا الشهر وأكثرها تأثيرًا، وقد قال - تبارك في اسمه - في ثنايا آيات الصيام: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، ولا غالبَ في هذه الأزمات إلا الله، فهو المُستعان وإليه المُلتجَأ وبه المُعتصَم، ففرُّوا إلى الله، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78]، واصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200].

أيها المسلمون:

يعودُ شهر الصيام ويذكُر المسلمُ لجُوعه به جوعةَ إخوانه، فيقتطعُ من ماله دراهِم، ومنن طعامه لُقيماتٍ يُشارِك بها الجوعَى والمحرومين، ويُنمِّي بها فضيلةَ الإحسان إلى عبيد الله، ويشكر المُنعِم المُتفضِّل - سبحانه -، وأنت ترى الجوعَ يضربُ بعضَ الناس بقسوة، وما أرضُ الصومال عنا ببعيد.

فاستبِقوا الخيرات - أيها المؤمنون -، وتبوَّؤوا من الجنة الدرجات، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، ومن خافَ يوم الحساب فليُطعِم جوعَة، ويسُدَّ خلَّة، وفي صفات أهل الجنة: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 8 - 12]، وفي الأمن من يوم الفزع الأكبر يقول الحقُّ - سبحانه -: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].

هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.

اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.

اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ دينَهم وأعراضَهم وديارهم وأموالهم.

اللهم كن للمظلومين والمُضطهدين والأُسارى والمنكوبين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انص المُرابِطين في أكناف بيت المقدس، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].

اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

اللهم إنا نسألك العفوَ والعافيةَ والمُعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.

اللهم وفِّقنا للصالحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبَّل صلاتَنا وصيامَنا ودعاءنا، وصالحَ أعمالنا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ص: 35