المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس - دروس الشيخ عائض القرني - جـ ١٠٠

[عائض القرني]

فهرس الكتاب

- ‌كلام جميل وفعل قبيح

- ‌تفسير آية: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)

- ‌الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس

- ‌أثر التطبيق في وقع كلام الواعظ على سامعيه

- ‌ضرورة مطابقة الفعل للقول

- ‌معنى (الكتاب) في قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)

- ‌سبب محاجة الله لليهود إلى عقولهم

- ‌حال الصحابة بين أقوالهم وأفعالهم

- ‌تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)

- ‌أنواع الصبر

- ‌بعض سير الصالحين في الصبر

- ‌تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)

- ‌حكم تارك الصلاة

- ‌تفسير قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ)

- ‌أهمية الخشوع في الصلاة

- ‌نداء لبني إسرائيل

- ‌تفسير قوله تعالى: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)

- ‌تفسير قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)

- ‌الأسئلة

- ‌حال حديث: (إن الله إذا غضب على عبد أعطاه مالاً)

- ‌حكم قضاء الصلاة الفائتة

- ‌السفر لحضور المحاضرات هل هو من شد الرحل المنهي عنه

- ‌الكلب يلهث دائماً

- ‌حكم ترك ما يعتاد عليه الإنسان من نوافل

- ‌أحب الأسماء إلى الله

- ‌فضل صيام أيام البيض

- ‌عودة من ترك الصلاة لمدة ثلاثة أشهر

- ‌من صلى وهو جنب ناسياً

- ‌حال حديث: (اسأل عن دينك حتى يقال: إنك مجنون)

- ‌شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته

- ‌حقيقة عري الناس يوم القيامة

- ‌ثبوت صفة الغضب لله سبحانه وتعالى

الفصل: ‌الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس

‌الترهيب من أمر الناس بالبر ونسيان النفس

يقول سبحانه وتعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44] البر: كل شيء جميل، والبر تزكية النفس، وطهارة الروح، وقد شمله القرآن في معان متعددة على هذه المعاني والمقاصد التي ذكرت، يقول الله لهم: ما لكم يا بني إسرائيل لا تستحون من الله، تأمرون الناس بالبر وأنتم لا تأتمرون، تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.

يقول أبو الأسود الدؤلي في مقطوعة له:

يا أيها الرجل المعلم غيره هلَاّ لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

يقول عليه الصلاة والسلام والحديث عند أحمد والطبراني ويقبل التحسين، وربما أصله في الصحيح لكن هذه هي الرواية التي اطلعت عليها:{مررت ليلة أسري بي بأناس تقرض شفاههم بالنار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم} تقرض شفاههم بالمقاريض وهم في النار والعياذ بالله؛ وخصت الشفاة؛ لأنهم طالما تكلموا ووعظوا ووجهوا الناس بها.

ذكروا عن أحد الصالحين من الدعاة أن عبداً رقيقاً أتى إليه فقال: أريد أن تخطب الناس في العتق لعل سيدي أن يعتقني من الرق، فخطب الناس ودعاهم، وهكذا في كل جمعة فجاء العبد وقال: في كل جمعة الحث على العتق ولكن سيدي ما أعتقني، قال: انتظرني إذاً وقتاً من الزمن، قال: فأتى هذا الرجل الداعية فجمع أموالاً واشترى عبيداً وأعتقهم لوجه الله، ثم قام فوعظ الناس بالعتق، فلما خرج الناس أتى السيد إلى عبده فأعتقه، فسئل هذا السيد كيف أعتقته والعالم هذا يتكلم من زمن؟ قال: ما وقع كلامه في قلبي إلا هذه الجمعة، وهذا يدل على أن العمل إذا وافق القول، وقع موقعه.

كان بنو إسرائيل -نعوذ بالله من الخذلان- في المجالس والدعوة كلامهم جميل، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وربما وصل ببعضهم ألا يصلي ويشرب المسكر ويزني ويقتل، ولكن إذا وقف أمام الناس وقف داعية، وقد شهد التاريخ نماذج من هذا، لكن بالخصوص بنو إسرائيل امتازوا بذلك حتى قال الله في عالمهم:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].

وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يلقى برجل في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له: يا فلان! أما كنت تأمرنا بالمعروف؟ قال: بلى، قالوا: أما كنت تنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، قالوا: فما لك؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر فآتيه} وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].

ولذلك كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؛ لصدقه مع الله، ولإخلاصه، ولقربه من الله سبحانه وتعالى.

ولا يزال الداعية محاسباً نفسه حتى ينطبق قوله مع فعله، ونعوذ بالله من الخذلان، والحرمان، أن نأمر الناس بشيء ثم لا نأتيه.

جاء رجل إلى ابن عباس -وهذه القصة عند ابن كثير - وقال له: أريد أن أعظ الناس، قال:[[ماذا فعلت بقوله سبحانه وتعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أأحكمتها؟ قال: لا، قال فهل أحكمت قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فهل أحكمت قوله سبحانه وتعالى عن شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] أأحكمتها؟ قال: لا، قال: فاذهب، فأمر نفسك ثم أمر الناس]] ولكن عند أهل العلم أنه من قام بالفرائض واجتنب الكبائر فلا بأس أن يدعو الناس ولو إلى نوافل لا يقوم بها.

قال الإمام أحمد: لو مكث الإنسان حتى لا يكون فيه عيب ولا نقص ولا ذنب، ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى أحد عن منكر، لكن من وقع في بعض الصغائر وفوت بعض النوافل، فأما الكبائر فلابد للواعظ أن يمتنع عنها، والفرائض حتى يأتي بها ثم ينصح الناس.

إنسان لا يصلي ثم يقوم يدعو الناس إلى الصلاة أليس بأكبر الفجار؟ بلى.

إنسان ينادي بنزع الخمر والربا وهو خمار مرابٍ، كيف يقبل منه؟

وقد وقع للعلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان مثل هذا الموقف وكان يعيش في المدينة المنورة وكان هناك رجل أحمق معتوه، مرفوع عنه القلم، كان يأتي عند المسجد النبوي ويقول: صلوا صلوا، فإذا مر الشيخ، والشيخ عليه جلالة وعليه ديانة وزهد وعبادة، يقول للشيخ: صلِّ صلِّ، وهو إذا دخل المسجد لا يصلي؛ لأنه معتوه مرفوع عنه القلم فلا يدخل، فكان كلما رأى الشيخ يقول قال له: يا شيخ صلِّ، قال: وأنت محتاج إلى قليل صلاة، وأنت لماذا لا تصلي؟ أنت تحتاج إلى قليل من الصلاة، قال: إن شاء الله آتيكم، وهذا كأن القلم رفع عنه.

أما النوافل فإنه أحياناً لا يستطيع الإنسان أن يأتيها، إنسان لا يستطيع قيام الليل فقد يكون مشغولاً بالجهاد أو أنه عالم وعنده تدريس ومراجعة وتخريج، وقد يأخذ عليه وقتاً طويلاً فلا يستطيع أن يوتر إلا قبل أن ينام، فلا نقول له: لا تأمر الناس بقيام الليل.

بل يأمرهم لأنهم سوف يكونون في ميزان حسناته إذا قاموا الليل، وقد يوجد إنسان داعية لكنه فقير، فله أن يأمر الناس بالصدقة، وإن كان لا يجد ما يتصدق به، لعله أن يجد من الأثرياء من يتصدق، وقس على هذه الأمور.

إذاً: فلا بأس على الداعي أن يتحدث عن أمور من النوافل ولو لم يستطع لها، كصيام النافلة، وقيام الليل، والصدقة، عل الله أن يهدي:{أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].

يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح إنما دخل النقص على بني إسرائيل، أنهم كان الرجل إذا لقي أخاه ينهاه ثم لا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه في آخر النهار، حتى قال سبحانه وتعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].

ص: 3