المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عبد الله بن المبارك يتذكر ظلمة القبر - دروس الشيخ عائض القرني - جـ ٢٢

[عائض القرني]

فهرس الكتاب

- ‌الإخلاص لله والصدق مع الله

- ‌منزلة الإخلاص

- ‌الإخلاص أكبر قضايا التوحيد

- ‌موسى وكلمة الإخلاص

- ‌أحاديث في فضل الإخلاص

- ‌حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار

- ‌إنما الأعمال بالنيات

- ‌يا معاذ: أخلص عملك يكفك القليل

- ‌نماذج من إخلاص صحابة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌إخلاص عمر بن الخطاب أكسبه الشهادة

- ‌عبد الله بن جحش وسعد بن أبي وقاص يبايعان الله

- ‌أعرابي يصدق مع الله

- ‌إخلاص عبد الله بن عمرو الأنصاري

- ‌أنس بن النضر يجد ريح الجنة

- ‌ذم الرياء والشهرة

- ‌أثر الإخلاص

- ‌قصة عبد الغني المقدسي

- ‌رؤية أيوب السختياني تذكرِّ بالله

- ‌إخلاص الإمام أحمد وصدقه

- ‌أصبع محمد بن واسع خير من ألف سيف

- ‌صلة بن أشيم والأسد

- ‌الحسن البصري يصف الصادقين

- ‌معاوية بن أبي سفيان يتأثر لسماع حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار

- ‌ذكر الموت وأثره في الإخلاص

- ‌عمرو بن العاص في ساعة الاحتضار

- ‌عبد الله بن المبارك يتذكر ظلمة القبر

- ‌تعريفات للإخلاص والصدق من كلام السلف

- ‌الأسئلة

- ‌الرياء وعلاجه

- ‌التجمل متى يكون رياءً؟ ومتى لا يكون

- ‌التحدث بالأعمال الصالحة

- ‌الإخلاص في ابتداء العمل يكفي

- ‌الخلاص من التأثر بمدح الناس

- ‌ما سطره الصحابة والتابعون يمكن تكراره في كل زمان

- ‌كيف نصدق مع الله

- ‌استحضار النية في أول العمل يكفي

- ‌حكم ترك العبادة من أجل الناس

- ‌نصيحة لمن لم يخلص

- ‌ما أعد الله للنساء في الجنة من النعيم

- ‌نصيحة لأولياء الأمور في تزويج بناتهم

- ‌رفع الصوت بالبكاء في الصلاة

- ‌الشباب الصالح ومشكلة التأخر عن الصلاة

- ‌حكم دخول المسجد وقراءة القرآن للحائض

- ‌الأحوط للحائض ألا تمس المصحف

- ‌للحائض أن تعبر المسجد ولا تلبث فيه

- ‌قصائد شعرية

الفصل: ‌عبد الله بن المبارك يتذكر ظلمة القبر

‌عبد الله بن المبارك يتذكر ظلمة القبر

ومن الصادقين في السلف الصالح عبد الله بن المبارك، الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: أمير الأتقياء في عهده.

كان صادقاً مخلصاً منيباً علم الله صدقه، فبلغه الله ما تمنى من القبول، ومن الخير ومن الثبات والسداد، وبقدر ما يصدق العبد مع الله يرزقه الله الصدق.

يقول أحد تلاميذه وهو يروي صدقه وخشوعه وخشيته: سافرنا مع ابن المبارك ، فقلت في نفسي: يا عجباً! هذا ابن المبارك يصلي كصلاتنا ويصوم كصيامنا ويتلو القرآن كتلاوتنا؛ فماهو الذي رفعه؟ -رفعه الإخلاص والصدق والخبيئة، وحسن السريرة مع الواحد الأحد- قال: فكنا في ليلة مظلمة، وقد انطفأ علينا السراج، فذهبنا نلتمس سراجاً ونوراً، فأتينا إليه وهو جالس في البيت، وإذا دموعه تنزل من رأس لحيته، فقلنا: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: تذكرت والله بهذه الغرفة المظلمة القبر وما أدراك ما القبر؟! وما أدراك ما ظلمة القبر؟! وما أدراك ما تلك الحفرة؟!

أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعقُ

نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا

من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيقُ

خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلقُ

فالموت آتٍ والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمقُ

قال: ذكرت والله بهذه الظلمة ظلمة القبر فبكيت، قال التلميذ: هذا الذي رفعك عنا.

إنها خبيئة الصدق وسريرة الإخلاص للحي القيوم، ولذلك لما سافر ابن المبارك لقتال الكفار ترك الحرم والفتوى؛ فقال له الناس: أتترك الإفتاء وتذهب إلى الجهاد؟ فقال: خلوا عني، ثم قال:

بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا

إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا

وكان في ليلة واحدة يردد: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] إلى الصباح، ويأتي الصباح وإذا هو من أشجع الفرسان.

كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ

عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ

وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ

يارب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناهُ

يشيدون لنا إسلاماً فرطنا فيه، وقرآناًَ ضيعناه ونسيناه، ومعالم من الهداية تركناها وجفوناها، ومساجد هجرناها، وحلقات علم قاطعناها، فابعث من أمثالهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه، وجنينا عليه، وخناه، وصارمناه، وما كان هذا ينبغي لنا، لأننا من سلالة الأخيار، من الذين وزعوا على المعمورة لا إله إلا الله، وأنتجوا للبشرية أروع مثل، وأحسن تاريخ، وأنبل عقيدة، فمالنا ننزوي الآن خجلاً؟ أصابنا خجل وحياء، لئلا نبلغ لا إله إلا الله، أصبحنا في آخر الركب متأخرين يوم فاتنا الصدق والإخلاص مع الله، وأصبحنا نستذل يوم لم نصدق مع الحي القيوم.

كان ابن المبارك عالم يفتي على المنبر، ومتحدث يعظ، ومربٍ يربي، ومدرس يدرس، ولكنه مجاهد يضرب رءوس الأعداء بسيف الله، تأتيه رسالة من الفضيل يلومه فيها على الخروج وترك الحرم، فيرد عليه بقصيدة حارة، لقد كان يجيد القصائد القوية الصادقة المخلصة، ويقول للفضيل:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ

ليست العبادة فقط الجلوس في الروضة وترك شئون الأمة وأخلاقها ومعاملاتها وما تحتاجونه، وليست العبادة أن نرفع رءوسنا بالتكبير وبالحمدلة فحسب:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ

ألا إن الدم الصادق المخلص أغلى عند كل مسلم من الدمع، ألا إن الذي يبكي مهما بكى، فإن دم المجاهد ودم من صدق مع الله، وأراد الله أغلى من الدموع، فليعلم ذلك.

هؤلاء قوم رفعهم الله بالصدق والإخلاص، يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه للتابعين:[[والله لقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أقل منكم صلاة وصياماً، ولكنهم أكثر صدقاً وإخلاصاً لله]] قال الله جل شأنه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فأصدق مع الله وأخلص لله، وأطلب ثواب الله.

ص: 26