الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توحيد الخاصة
يقول الصوفية: إن النوع الثاني من التوحيد هو توحيد الخاصة، وهو الذين يثبت بالحقائق، وأما توحيد العامة فهو الذي يصح بالشواهد، وعندهم الثبوت أقوى من الصحة، والحقائق أقوى من الشواهد، والحقيقة أنه لا شواهد ولا أدلة على توحيد الخاصة، وإنما يقوم على رموز وإشارات وأمور خفية، والحقائق أمور اصطلاحية خاصة بهم تسمى: الكشف والقبض والبسط والمعاينة والاتصال والانفصال، وغير ذلك من الاصطلاحات التي اصطلحوا عليها، ولا يعرفها غيرهم، وهي أمور خفية ليست ظاهرة.
وقالوا في تعريف توحيد الخاصة: هو إسقاط الأسباب الظاهرة، والصعود عن منازعة العقول، وعن التعلق بالشواهد، وهو: ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، فيكون مشاهداً سبق الحق بحكمه وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها، وتعليقه إياها بأحايينها، وإخفائه إياها في رسومها، ويتحقق معرفة العلل، ويسلك سبيل إسقاط الحدث، هذا هو توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء، ويصفو في علم الجمع، ويجلب إلى توحيد أرباب الجمع.
إذاً: توحيد الخاصة عندهم هو إسقاط الأسباب الظاهرة، فتبطل الأسباب كلها، وليس هناك أسباب، والأسباب الظاهرة يحتمل أن يريدوا بها التي جعلها الله أسباباً، وجعل فيها قوى وطبائع، كالإحراق للنار، والقطع للسكين، والأكل سبب في الشبع، والشرب سبب في الري، والعين سبب في الإبصار، والأذن سبب في الاستماع، فهم يقولون: ليس هناك سبب، وتسقط الأسباب الظاهرة كلها، فليست النار فيها قوة الإحراق، ولا السكين فيها قوة القطع، ولا الأكل فيه قوة الشبع، ولا الشرب فيه قوة الري، ولا العين فيها قوة الإبصار، ولا الأذن فيها قوة الاستماع، ولا الكسر فيه قوة الانكسار، ولا العلم فيه قوة الاستدلال، هذه كلها ليست أسباباً.
فإذا قيل لهم: كيف ذلك، فنحن إذا أشعلنا النار أحرقت، وإذا أجرينا السكين قطعت؟! قالوا: إن الله يوجد هذه الأشياء عند ملاقاتها لا بها، فالله تعالى يوجد الإحراق عند إشعال النار لا بالنار، ويوجد القطع عند إجراء السكين لا بالسكين، ويوجد الإبصار عند فتح العين لا بالعين، ويوجد الاستماع عند فتح الأذن لا بالأذن، ويوجد الاستدلال عند العلم لا بالعلم، حتى قالوا: إن المؤثر هو الله فقط؛ لأن موجتهم موجة متوسطة، فهم يريدون أن يصلوا إلى القول بوحدة الوجود.
ويحتمل أن يريدوا بالأسباب أعمال العباد، فليست أعمال العباد من الطاعات والمعاصي سبباً في دخول الجنة، وليست المعاصي سبباً في دخول النار، وإنما دخول الجنة بمشيئة الله من دون حكمة، ودخول النار بمشيئة الله، هكذا يقولون، ولا شك في أن هذا مخالفة للنصوص، فالله تعالى يقول:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32])) [المائدة:105]، والله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها، فالمسببات مربوطة بأسبابها في الدنيا والآخرة، واقتضت حكمة الله وإرادته أن يربط الأسباب بالمسببات، فإذا كانوا يسقطون الأسباب الظاهرة فهذا مخالفة للمشروع ومخالفة للعقل، وإن كانوا يريدون بالأسباب الطاعات والمعاصي، فليست أسباباً في دخول الجنة ولا دخول النار، فهذا -أيضاً- مخالف للنصوص الشرعية.
وقالوا: (الأسباب الظاهرة) احترازاً من الأسباب الباطنة؛ لأنهم لو قالوا بإسقاط الأسباب الباطنة لوقعوا في الكفر؛ فإن الإيمان من الأسباب الباطنة، وهو سبب في دخول الجنة، والتوحيد سبب من الأسباب الباطنة، فمن قال: إنه ليس سبباً في دخول الجنة فقد انسلخ من الدين والإسلام، وخلع ربقة الإيمان، لكن قالوا: الأسباب الظاهرة.
وعلى كل حال فالأمر خطير، وإسقاط الأسباب -سواء أكانت الأسباب العادية، أم كانت الطاعات والمعاصي -من الخطورة بمكان.
والصعود عن منازعة العقول يعني أن لا تنازع بمعقولك ما جاءت به الرسل، وهذا ظاهره لا بأس به، وما أفسد أديان الرسل إلا أرباب منازعة العقول الذين ينازعون بمعقولهم ما جاءت به الرسل في إثبات ما أثبتوه، ونفي ما نفوه، وإيجاب ما أوجبوه، وتحريم ما حرموه.
والصعود عن التعلق بالشواهد معناه ألا تتعلق بأي دليل، وألغ الأدلة كلها، فليس هناك دليل على التوحيد، وليس هناك أدلة على وجود الله.
فتوحيدهم ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، أي: لا يرى على التوحيد أي دليل، فيكون توحيدهم توحيداً غامضاً ليس عليه دليل عقلي ولا شرعي، ولا يرى في التوكل سبباً، بل يلغي الأسباب، ويتوكل على الله، ويعتمد على الله من دون سبب، بل إنهم يقولون: إن هذه علل في مقامات الخاصة، فلا يكن مع التوكل شيء، بل يكفي أن تفوض أمرك إلى الله من دون أن تفعل شيئاً.
بل قالوا: إن التوكل من مقامات العامة، والتوكل فيه علل، وهي أن المتوكل يشهد متوكِلاً، ومتوكَلاً عليه، ومتوكلاً فيه، ويشهد نفس توكله، وهذا عمل في طريق الخاصة، المتوكل على الله عنده أربع علل لابد من أن يبيحها: العلة الأولى: أنه يشهد نفسه متوكلاً.
والعلة الثانية: يشهد المتوكل عليه، وهو الله.
والعلة الثالثة: يشهد متوكلاً فيه، وهو الأمر الذي يتوكل على الله فيه.
والعلة الرابعة: يشهد نفس توكله، وهذه كلها علل في طريق الخاصة تعميهم وترجعهم إلى الإسلام، فلابد من إزالتها، ولذا يبطلون التوكل.
كما أن الخوف من الله فيه علل، والرجاء علة عند الخاصة من الصوفية لابد من أن يزال، ويقولون: ليس في الرجاء إلا فائدة واحدة، وهي أنه يبدد حرارة الخوف فقط، وإلا فهو علة يجب إزالتها، والدعاء كلك، وهكذا.
فهذه كلها من مقامات العامة: الدعاء والتوكل والرجاء والخوف والصلاة والصيام والزكاة والحج، ومن العامة جميع الأنبياء والرسل، أما الخاصة فلابد من أن يزيلوا هذه العلل من طريقهم إلى الله بزعمهم، ولهذا قال: وهو ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة، فلا يرى على التوحيد أي دليل عقلي ولا شرعي، ولا يرى سبباً مع التوكل، ولا يرى في النجاة من النار وسيلة، فالأعمال الصالحة ليست وسيلة في النجاة من النار، بل النجاة من النار بالمشيئة المحضة، ودخول الجنة بالمشيئة المحضة.
وليس لله حكمة في ذلك، وليس في الأشياء قوى ولا طبائع ولا غرائز ولا أسباب ولا علل ولا حكم، وليس هناك إلا المشيئة الإلهية، ويقولون: المشيئة الإلهية تخبط خبط عشواء، فتجمع بين المتفرقات، وتفرق بين المتماثلات، فعن المشيئة الإلهية يصدر كل حادث، ويصدر مع الحادث حادث آخر مرتبط به ارتباطاً عادياً، لا أن أحدهما سبب في الآخر، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا هو منهج الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان.
وعلى هذا فكل الشرائع عبث لا قيمة لها، والكتب السماوية عبث لا قيمة لها؛ لأن الأعمال ليست سبباً في دخول الجنة، ولا في النجاة من النار، وإذا كانت الأعمال الصالحة ليست سبباً في دخول الجنة، وكذلك الأعمال السيئة ليست سبباً في دخول النار؛ فما الفائدة من الشرائع؟! وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين، ولجميع أديان الرسل، وهم في خاصة أنفسهم لا يستطيعون طرد هذا المذهب، بل يفعلون الأسباب، فيأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون وينكحون ويبذرون ويزرعون، وهذه كلها أسباب فطر الله الخلق على فعلها، وفطر الله الخلق على بطلان هذا المذهب الخبيث، ولو طردوا مذهبهم لما أكلوا؛ لأن الأكل سبب، وحينئذٍ يقال للواحد منهم: اجلس حتى يأتي إنسان فيفتح فمك ويضع فيه الأكل، ولا تشرب، ولا تبع ولا تشتر، ولا تتزوج، ولا تبذر، ولا تزرع، ولا تطالب بحقك إذا أخذ أو ضربت؛ لأن هذه كلها أسباب، والواقع أنهم يعملون بالأسباب في أمور الدنيا، لكن في أمور الدين يبطلونها.
فهذه طريقة المتوسطة، ولهذا يقول: وهو ألا يرى في التوحيد دليلاً، ولا في التوكل سبباً، ولا في النجاة وسيلة.
إذاً: فماذا يعمل إذا كان التوحيد ليس عليه دليل، والتوكل ليس معه أسباب، وليس هناك وسيلة للنجاة من النار؟! يقولون: يكفيه مشاهدة الله فقط، فيكون مشاهداً سبق الحق لحكمه وعلمه، والحق هو الله، والله تعالى علم الأشياء قبل كونها، وكتبها في اللوح المحفوظ، وقدر وجودها في أوقاتها المحددة فيكفي أن تشاهد سبق الله بحكمه وعلمه بالأشياء، ووضعه الأشياء مواضعها، واخفائه إياها في رسومها، وتعليقه إياها بأحايينها، أي أن كل شيء معلق بأحايين هي الأزمان، فكل شيء له زمن وله مكان وله مادة تحمله، فيكفيك أن تشاهد أن الله سبق بحكمه وعلمه الأشياء، وأن كل شيء له زمن محدد، ومكان محدد، ومادة محدودة، فتكون مشاهداً سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وتعليقه إياها في أحايينها، وإخفائه إياها في رسومها، وهي هذه المادة الحاملة للشيء، ومادام أن كل شيء مكتوب الآن، وأن الله تعالى سبق علمه وحكمه بكل شيء، وأن هذا الشيء يقع في المكان المعين، وأخفاه في المادة المعينة، وهذا يدخل النار، وهذا يخرج من النار، وكل شيء محسوب؛ فلا حاجة إلى العمل، ولا إلى الأسباب، ولا إلى الغرائز، ولا إلى الطبائع، ولا إلى الاستناد على التوحيد، بل يكفيك أن تشاهد سبق الحق بحكمه وعلمه، وفي هذه الحالة تتحقق معرفة العلل، وهي العلل التي تكون حجر عثرة في طريقك إلى الله، فتحققها إذا وصلت إلى هذه الحالة، فتكون الأعمال كلها حجر عثرة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء هذه كلها أسباب تلغيها؛ لأنها حجر عثرة، فكل هذه علل في طريق الخاصة، فإذا عرفت العلل التي تقف في طريقك إلى الله، وتقف في طريق السالك والعارف إلى الله؛ تحققت معرفة العلل، وفي هذه الحالة تسلك سبيل إسقاط الحدث، وتمشي حتى تبحث فتسقط الحدث، والحدث هو كل ما سوى الله فأنت تسلك سبيل إسقاط المحدثات، وهي المخلوقات، وسبيل إسقاط الحدث هذا هو توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء، وهو أن يفنى ويغيب بالله عن المخلوقات فلايتناساها من الوجود، بل يتناسها من الشهود فلا يشهدها، فإذا وصل إلى المرتبة الثالثة التي هي مرتبة أهل وحدة الوجود يتناسها من الوجود وينكرها، لكن هو في طريقة متوسطة، فيغيب بالله عن المخلوقات فيتناساها ولا يشهدها، حتى لا تشوش عليه سيره إلى الله.
هذا طريق أهل المعرفة وأهل الحقيقة عندهم، وهذا هو