المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابع: رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه

[محمد بن خليفة التميمي]

الفصل: ‌المبحث الرابع: رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا

‌المبحث الرابع: رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا

.

لعل من المناسب بعد ذكر ما يتعلق بمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، وما يتصل بها من مسائل، الإشارة إلى مسألة رؤية البشر لربهم في الحياة الدنيا، وذلك لما بين المسألتين من ترابط من جهة وجود نوع علاقة بين المسألتين، باعتبار أن من زعم جواز حصول الرؤية للبشر استند في زعمه على ما ذكر من أحاديث مكذوبة في وقوع الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، ومعلوم أن بضاعة المتصوفة الذين جوزوا حصول ذلك لأوليائهم هي الأحاديث المكذوبة من مثل ما تقدم ذكره في المطلب الثاني من المبحث الثالث، وعلى هذا الاعتبار بنى أولئك المتصوفة مزاعمهم، بأن ذلك يجوز حصوله لمن وصل إلى مرحلة معينة في الولاية التي قد يعتبرها البعض منهم فوق منزلة النبوة، وبهذه النظرة ما المانع أن يحصل مثل ذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما من قال بامتناع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا عياناً، فلا شك أنه يقول بامتناعها على غيره من باب أولى، فإذا كانت الرؤية لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم -مع ما له من مكانة وشرف ومنزلة عظيمة عند الله - فكيف تحصل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة، على أن مستند من نفى رؤية البشر لله في الدنيا هو نص السنة، كما سيأتي ذكره.

ومسألة رؤية البشر لله عمومًا يتنازعها ثلاث طوائف:

ص: 83

الطائفة الأولى: من نفى الرؤية بإطلاق فلم يثبتها في الدنيا، ولا في الآخرة على حد سواء، بل نفى حتى الرؤيا المنامية.

وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة المعطلة الذين ليس عندهم فوق العرش إلا العدم المحض.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وحكوا عن طائفة من المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمن رأى ربه في المنام، ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام فيكونون قد جعلوا هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام، فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم"1.

وقال أيضًا: "وإنما يكذب بها أو يحرفها - أي: أحاديث الرؤية في الآخرة - الجهمية، ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم، من الذين يكذبون بصفات الله تعالى، وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.

ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل"2.

1 نقض تأسيس الجهمية (1/73-74)

2 مجموع الفتاوى 3/391-392.

ص: 84

الطائفة الثانية: من يثبت الرؤية بإطلاق فيزعم أن الله يرى في الدنيا عياناً، كما يرى في الآخرة عياناً. وهذا يقول به بعض المتصوفة من الاتحادية والحلولية.

فأما الاتحادية أهل وحدة الوجود فهم الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام، وفي ذلك يقول ابن عربي:

ألا كل قول في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

يعم به أسماع كل مكون

فمنه إليه بدؤه وختامه1

فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات 24]{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه 14]، بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله"2.

وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، والعفيف التلمساني.

وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر، ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:

فيعبدني وأعبده

ويحمدني وأحمده3

ص: 85

ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد؛ إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون: لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم – أيضا - وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضي"1.

وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام، والإثبات العام، فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.

ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون: يرى هو في الأشياء، وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:

عين ما ترى ذات لا ترى

وذات لا ترى عين ما ترى

وهم مضطربون؛ لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود

1 بغية المرتاد (ص 408) .

ص: 86

له في الخارج مطلقًا بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود1.

وفي هذا يقول ابن عربي:

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً

وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً

وإن قلت بالأمرين كنت مسددًا

وكنت إمامًا في المعارف سيدًا

فمن قال بالإشفاع كان مشركًا

ومن قال بالإفراد كان موحدًا

فإياك والتشبيه إن كنت ثانيًا

وإياك والتنزيه إن كنت مفردًا

فما أنت هو بل أنت هو وتراه

في عين الأمور مسرحا ومقيدًا 2

وأما الفرق بين الاتحاد والحلول، فإن الاتحاد كاتحاد الماء باللبن3، وأما الحلول فكحلول الماء في الإناء4.

والقسمة بين الحلولية والاتحادية رباعية، فإن كل واحد من الحلول والاتحاد: إما معين في شخص، وإما مطلق5.

قال شيخ الإسلام: "وذلك أن القسمة رباعية؛ لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقدرين: فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح، أو يجعله عاما لجميع الخلق، فهذه أربعة أقسام:

1 المصدر السابق (ص 473) .

2 بغية المرتاد (ص473)

3 مجموع الفتاوى 2/465

4 مجموع الفتاوى 2/171

5 مجموع الفتاوى 2/465

ص: 87

الأول: هو الحلول الخاص: وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به، كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى؛ بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان في زمن المأمون؛ وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون: إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب، وأئمة أهل بيته، وغالية النُسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء، ومن يعتقدون فيه الولاية أو في بعضهم، كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.

والثاني: هو الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى، وهم أخبث قولاً، وهم السودان والقبط، يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا

كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.

والثالث: هو الحلول العام: وهو قول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام 3] وقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد 4] والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة، وأهل المعرفة وعلماء الحديث.

الرابع: الاتحاد العام: وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين:

من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون: مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره.

ص: 88

والثاني من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظَّموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ، وإذا كان الله - تعالى - قد قال {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية، فكيف بمن قال: إن الله هو الكفار، والمنافقون، والصبيان، والمجانين، والأنجاس، والأنتان، وكل شيء؟! "1.

وأما عن الحلولية، فقد قال الأشعري: "وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله - تعالى - الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعله، ربنا.

ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن.

ومنهم من يجوِّز على الله - تعالى - المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا، وجوّزوا مع ذلك على الله - تعالى الله عن قولهم - أن نلمسه.

ومنهم من يزعم أن الله - سبحانه - ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح - تعالى ربنا عن قولهم علوا كبيرا.

وكان في الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ.

وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم. وفيهم

1 مجموع الفتاوى 2/171-173.

ص: 89

من يزعم أن العبادة تبلغ بهم أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين، ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين"1.

وعلق شيخ الإسلام على كلام الأشعري بعد أن أورده في منهاج السنة بقوله: "قلت: هذه المقالات التي حكاها الأشعري - وذكروا أعظم منها - موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة، ويقول: إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده، أو صفات معبوده، أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له، فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول: إنه يرى الله مطلقًا ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها. وأما القول بالإباحة وحل المحرمات - أو بعضها - للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية، وغير الإسماعيلية، وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي، كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.

1 مقالات الإسلاميين ص 288-289.

ص: 90

ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي - وأشنع منها - موجودة في الشيعة.

وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله - تعالى - وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه.

ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضًا بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيرًا في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج.

وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نورًا أو عرشا أو نورًا على

العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنيًّا، كما قد وقع لغير واحد. لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.

وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عيانًا في الدنيا، وأنه يخطو خطوات"1.

1 منهاج السنة (2/622-625) .

ص: 91

وقال ابن القيم: "ومن ظنَّ من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط. وأحسن أحواله: أن يكون صادقًا ملبوسًا عليه. فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط، وقد منع منه كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف السلف والخلف: هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه؟ فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه، وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعًا من الصحابة. فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ، وإن قال: إنما هو كشف العيان القلبي، بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أن تعبد الله كأنك تراه" فهذا حق، وهو قوة يقين، ومزيد علم فقط.

نعم، قد يظهر له نور عظيم، فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية، وأنها قد تجلت له، وذلك غلط أيضاً، فإن نور الرب – تعالى – لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ وتدكدك، وقال ابن عباس في قوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} قال:"ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء".

وهذا النور الذي يظهر للصادق: هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} قال أبي بن كعب: "مثل نوره في قلب المؤمن" فهذا نور يضاف إلى الرب، ويقال هو نور الله كما أضافه الله - سبحانه - إلى نفسه، والمراد: نور الإيمان الذي جعله الله له خلقًا وتكوينًا كما قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا النور إذا تمكن من القلب، وأشرق فيه: فاض على الجوارح. فيرى أثره في الوجه والعين، ويظهر في القول والعمل. وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عياناً؛ وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه، وغيبة أحكام النفس.

ص: 92

والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه، فتقوى مادة النور في القلب ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه. بل وعن أحكام العلم فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان.

وسر المسألة: أن أحكام الطبيعة والنفس شيء، وأحكام القلب شيء، وأحكام الروح شيء، وأنوار العبادات شيء، وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء، وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله.

فهذا الباب يغلط فيه رجلان، أحدهما: غليظ الحجاب، كثيف الطبع والآخر: قليل العلم، يلتبس ما في ذهنه بما في الخارج، ونور المعاملات بنور رب الأرض والسموات {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} "1.

وقال أيضًا: "والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله، منزه مقدس عن اطلاع البشر على ذاته، أو أنوار ذاته، أو صفاته، أو أنوار صفاته. وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد، كما يقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما"2.

وقال أيضًا: "فإن نور الجلال في القلب ليس هو نور ذي الجلال في الخارج. فإن ذلك لا تقوم له السموات والأرض؛ ولو ظهر للوجود لتدكدك، لكنه شاهد دال على ذلك، كما أن المثل الأعلى شاهد دال على الذات. والحق وراء ذلك كله، منزه عن حلول واتحاد، وممازجة لخلقه؛ وإنما تلك رقائق وشواهد تقوم بقلب العارف، تدل على قرب الألطاف منه في عالم الغيب حيث يراها، وإذا فني فإنما يفنى بحال نفسه لا بالله ولا فيه، وإذا بقي فإنما يبقى بحاله هو

1 مدارج السالكين 3/229-230

2 مدارج السالكين 3/249

ص: 93

ووصفه، لا ببقاء ربه وصفاته، ولا يبقى بالله إلا الله، ومع ذلك فالوصول حق يجد الواصل آثار تجلي الصفات في قلبه، وآثار تجلي الحق في قلبه. ويوقف القلب فوق الأكوان كلها بين يدي الرب - تعالى - وهو على عرشه، ومن يكاشف بآثار الجلال والإكرام فيجد العرش والكرسي تحت مشهد قلبه حكما، وليس الذي يجده تحت قلبه حقيقة العرش والكرسي بل شاهد ومثال علمي يدل على قرب قلبه من ربه، وقرب ربه من قلبه، وبين الذوقين تفاوت فإذا قرب الرب - تعالى - من قلب عبده بقيت الأكوان كلها تحت مشهد قلبه، وحينئذ يطلع في أفقه شمس التوحيد فينقشع بها ضباب وجوده ويضمحل ويتلاشى، وذاته وحقيقته موجودة بائنة عن ربه، وربه بائن عنه، فحينئذ يغيب العبد عن نفسه ويفنى، وفي الحقيقة هو باق غير فان، ولكنه ليس في سره غير الله قد فني فيه عن كل ما سواه.

نعم، قد يتفق له في هذه الحالة أن لا يجد شيئا غير الله؛ فذلك لاستغراق قلبه في مشهوده وموجوده، ولو كان ذلك في نفس الأمر لكان العبد في هذه الحال خلقا بارئا مصورا أزليا أبديا.

فعليك بهذا الفرقان، واحذر فريقين هما أعدى عدو لهذا الشأن فريق الجهمية المعطلة التي ليس عندها فوق العرش إلا العدم المحض، فشَمُّ رائحة هذا المقام من أبعد الأمكنة حرام عليها، وفريق أهل الاتحاد القائلين بوحدة الوجود وأن العبد ينتهي في هذا السفر إلى أن يشهد وجوده هو عين وجود الحق جل جلاله، وعيشك بجهلك خير من معرفة هاتين الطائفتين، وانقطاعك مع الشهوات خير من أن تكون معهما1 والله المستعان وعليه التكلان"2.

1 في الأصل (خيرك معهما) .

2 مدارج السالكين 3/382-383.

ص: 94

الطائفة الثالثة: من نفى الرؤية العيانية في الدنيا، وأثبتها في الآخرة وذلك في عرصات يوم القيامة، وفي الجنة.

وهذا قول أهل السنة والجماعة.

قال الإمام البربهاري: "ومن زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا؛ فهو كافر بالله عز وجل"1.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك كل من ادعى أنه رأى ربه بعينه قبل الموت فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة، لأنهم اتفقوا جميعًا على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت. وثبت ذلك في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لما ذكر الدجال قال: "واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت" 2.

كذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر، يحذر أمته فتنة الدجال، بين لهم أن أحدًا منهم لن يرى ربه حتى يموت، فلا يظن أحد أن هذا الدجال الذي رآه هو ربه.

ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله ويقين القلوب ومشاهدتها وتجليتها هو على مراتب كثيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"3.

1 شرح السنة ص 84.

2 سبق تخريجه.

3 جزء من حديث جبريل المشهور أخرجه البخاري في صحيحه ص 14 كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان

رقم 50. (ط دار السلام) .

ص: 95

وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة – أيضاً - من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم. وقد يتجلى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.

وربما غلب أحدهم ما يشهده قلبه وتجمعه حواسه فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام.

فهكذا من العباد من يحصل له مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غلط في ذلك، وكل من قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.

نعم، رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة، كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحوًا ليس دونه سحاب" 1"2.

"

وهذه الأحاديث وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة ونحوهم من الذين يكذبون بصفات الله - تعالى - وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق والخليقة.

ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وبين تصديق الغالية، بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.

1 حديث متواتر.

2 مجموع الفتاوى 3/389-390.

ص: 96

وهؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال كما تقدم، فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم.

بل هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس أنا ربكم.

فهذا - أي الدجال - ادعى الربوبية وأتى بشبهات فتن بها الخلق، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت"1، فذكر لهم علامتان ظاهرتين يعرفهما جميع الناس، لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن من الناس من يضل فيُجَوِّز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر، كهؤلاء الضلال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون (الحلولية) و (الاتحادية) "2.

فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدميًا إما شخصًا، أو صبيًا، أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمهم. يستتابون، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانوا كفارًا، إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا أنه اتخذ ولدًا حتى قال {وَقَالُوا

1 سبق تخريجه في بداية البحث.

2 مجموع الفتاوى 3/391-392.

ص: 97

اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أن أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم 88-93] ، فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًا رضي الله عنه، أو غيره من أهل البيت هو الله.

وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثًا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء"1.

1 مجموع الفتاوى 3/393-394

ص: 98

الخاتمة

بعد هذا العرض لمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، ولبعض المسائل المتعلقة بها أعرض أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث فأقول:

أولاً: بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج فإن الأدلة التي استعرضانها في المبحث الخاص بهذه المسألة ليست قاطعة، وغالبها مبني على الاجتهاد مما يصعب مهمة الترجيح بينها، لكن الذي تطمئن إليه النفس هو ترجيح مذهب من جمع بين أقوال الصحابة ومن بعدهم من نفي وقوع الرؤية البصرية، وأن الرؤية التي أثبتها بعضهم إنما المراد بها الرؤية القلبية، وهو مذهب جماعة من المحققين على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وابن كثير وابن حجر رحمهم الله جميعا - وغيرهم.

ثانياً: أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام فإن هذه المسألة متفق على وقوعها له صلى الله عليه وسلم وجواز وقوعها لغيره من البشر، ولم يقع نزاع في ذلك بين أهل السنة والجماعة.

ثالثاً: أما الرؤية العيانية في الدنيا فقد اتفق أهل السنة والجماعة على عدم وقوعها لأحد لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وأن كل الأحاديث التي تروى في هذه المسألة فهي موضوعة لا يصح منها شيء.

وكل ما يدعيه الصوفية خاصة، ومن نحا نحوهم من رؤيتهم الله تبارك وتعالى عيانًا في هذه الدنيا فإنه كذب محض ولا أساس له من الصحة. فإن هذا مما وقع الاتفاق على عدم وقوعه لأحد كما سبق.

وفي الختام فهذا جهدي أقدمه لإخواني القراء، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ فمني وأستغفر الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 101