المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأي جمهور الفقهاء: - رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار - جـ ٥٣

[أحمد علي طه ريان]

الفصل: ‌رأي جمهور الفقهاء:

رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار

الدكتور أحمد طه ريان أستاذ مساعد بجامعة الأزهر

وإتماما لما سبق نشره في حلقتين سابقتين في موضوع (رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليه من آثار) بسوق هذه الحلقة الثالثة فيما يلي:

‌رأي جمهور الفقهاء:

يرى جمهور الفقهاء وهو عدا من ذكرنا في الرأي السابق أن الفطر في السفر خلال شهر رمضان رخصة يجوز الأخذ بها ويجوز تركها والصيام عملا بالعزيمة..

وأهم الأدلة التي استند إليها هذا الفريق ما يلي:

الأول: قوله تعالى: {.. وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .. الآية وقد تقدم أن تقرير الآية على رأي هذا الفريق: ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر..

كما سبقت الإشارة إلى أن الفريق الأول: يرى أن هذا التقرير من شأنه تخصيص الآية، وليس خناك دليل على التخصيص، بل يجب أن تبقى الآية عامة كما جاءت، وقد سبق الرد عليه مفصلا..

الثاني: حديث ابن عباس المتقدم في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح حتى بلغ الكديد ثم أفطر. ثم قول ابن عباس تعليقا عليه: "لقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر"..

ص: 97

وجه الدلالة فيه من وجهين:

الوجه الأول: أن رسول الله ابتدأ السفر صائما واستمر كذلك حتى لم يبق من انتهاء الرحلة إلا مرحلتين، فلو لم يكن الصوم في السفر جائزا لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول سفره حتى بلوغه عسفان أو ما حولها..

الوجه الثاني: أن السفر كان ديدنه صلى الله عليه وسلم قبل هذه الرحلة وبعدها: ففي حديث أبي الدرداء المتقدم "..وما منا من أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"1..

وما قيل، من أن فطره في هذه الغزوة، كان ناسخا لجواز الصيام في السفر قبل ذلك.. استنادا إلى ما قيل: من أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الفطر، فغير مسلم. وقد تقدم الرد عليه مفصلا..

وما جاء من حديث أبي سعيد..من قوله: "ولقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"2 واضح في حدوث الصوم بعد هذه الواقعة منه صلى الله عليه وسلم أو من أصحابه مع اطلاعه عليهم وهم صائمون، وهو ما يستفاد من ذكر لفظ ((مع)) في الحديث.

كما هو واضح في بيان أن الفطر الذي حدث منه صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة؟ إنما هو من قبيل أخذه بالرخصة، وليس من قبيل نسخ الجواز.

الدليل الثالث: بيانه صلى الله عليه وسلم أن الفطر في السفر رخصة، وأن الرخصة يجوز الأخذ بها ويجوز تركها والأخذ بالعزيمة، وذلك في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي المتقدم.. حيث جاء فيه "..هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"3.

ولقد جاء في رواية لهذا الحديث أخرجها الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وأبي داود وسكت عنها عن طريق حمزة بن محمد بن حمزة حفيد السائل تبين أن السؤال كان عن صيام شهر رمضان في السفر، إذ جاء فيه "قلت يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر، يعني شهر رمضان وأنا

1 صحيح مسلم ج3ص145.

2 صحيح مسلم ج3ص144.

3 صحيح مسلم ج3ص145.

ص: 98

أجد القوة، وأنا شاب، وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أؤخره فيكون دينا أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر، قال: أي ذلك شئت يا حمزة"1..

فهذا الحديث يوضح أن السؤال كان عن صيام شهر رمضان وهو وإن كان ابن حزم وابن حبان، قد ضعفا رواية حمزة بن محمد بن حمزة2. إلا أن له شاهدا من حديث حمزة بن عمرو المخرج في الصحيحين وغيرهما..

وأما على رأي من يقول: إن سؤال حمزة كان عن صيام التطوع فإنه ليس في الحديث ما يشير إلى تخصيص السؤال بذلك

وعلى فرض أن السؤال كان في صيام التطوع؟ فإن العبرة برد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاء بصيغة عامة تشمل جميع أنواع الصيام سواء كان صيام فرض أو تطوع.

وحتى لو كانت الإجابة تخصص بنوع السؤال وهذا على افتراض أن السؤال كان عن صيام التطوع، فإن هذا الحكم يشمل صيام شهر رمضان من باب أولى، لأنه إذا تكبد الإنسان صيام التطوع في السفر وليس عليه في تركه شيء فإن تكبده الصيام الواجب من باب أولى، لأنه إن تركه سيكون دينا عليه..

وقد نوقش هذا الحديث، بأن الرخصة المشار إليها فيه قد خرجت من باب التخيير للعبد، إلى وجوب الالتزام بها، إذ جاء في نهاية الحديث "ليس البر أن تصوموا في السفر" زيادة توجب قبولها، وهي قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم برخصة الله التي رخص لكم"3

يجاب عن ذلك، بأنه جاء في صحيح مسلم ما يفيد أن هذه الزيادة غير محفوظة، إذ قال شعبة: "وكان يبلغني عن يحي بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث ليس البر.. الخ وفي هذا الإسناد أنه قال: عليكم برخصة الله الذي رخص لكم. قال: فلما سألته لم يحفظه4.

وعلى فرض صحة هذه الزيادة، فإنه يجاب عنها بأن الأمر هنا خاص بمثل هذا الرجل الذي ترك الرخصة وفضل عليها إهلاك نفسه أو بمن ترك الرخصة رغبة عنها. ((والله أعلم)) .

1 أبو داود ج 7ص 40 مطبوع مع شرحه عون المعبود والسنن الكبرى ج 4 ص 241 والمستدرك ج1 ص 433.

2 تهذيب التهذيب ج3ص32 دار صادر بيروت قال ابن حجر: ضعفه ابن حزم وقال عنه ابن حبان مجهول ولم أجد فيه كلاما لأحد المتقدمين. تهذيب التهذيب.

3 النسائي ج4ص176 المحلى ج6ص384.

4 صحيح مسلم ج3ص142.

ص: 99

الدليل الرابع: عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على من كان يصوم في سفره معه، فقد جاء في حديث أبي سعيد قوله:"كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره"1.

ومعلوم أن القصد: من ذكر ما يفيد المعية هنا وإيراد: يعاب بصيغة، البناء للمجهول: تأكيد اطلاع الرسول عليه الصلاة والسلام على حالهم وأنه مع ذلك لم يعب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره..

ثم إن ذكر أبي سعيد هذا الحديث بلفظ كنا نشعر، بأن ذلك الحال كان دائما، حتى وفاته صلى الله عليه وسلم لأنه صرح بهذا القول بعد وفاته عليه الصلاة والسلام..

الدليل الخامس: فهم الصحابة رضي الله عنهم رخصة الفطر في السفر وأنها تعني الإباحة لا الوجوب واستمرارهم على هذا الفهم، سواء في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد وفاته، فمن ذلك:

حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض.. "2.

وحديث أبي خالد الأحمر عن حميد قال خرجت فصمت فقالوا لي أعد قال: قلت: "إن أنسا أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، فلقيت ابن أبي مليكة، فأخبرني عن عائشة رضي الله عنها بمثله"3.

الدليل السادس: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، فقال: أحسنت يا عائشة" رواه الدارقطني وقال هذا إسناد حسن وأخرجه النسائي ولم يذكر فيه: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان ((وجاء في نهايته)) لفظ "وما عاب علي"4. ونقله النووي في المجموع واحتج به5.

1 صحيح مسلم ج3ص143.

2 صحيح مسلم ج3ص143.

3 صحيح مسلم ج 3 ص 143.

4 النسائي ج3ص122 ومنتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار ج3ص230.

5 المجموع ج6ص218.

ص: 100

وقد ضعف العلماء هذا الحديث: لأن في إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها، وقد قال ابن حبان في العلاء بن زهير: أولا أنه ثقة. ثم تناقض فيه بعد ذلك فقال: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات. وقال ابن حزم: مجهول وقال ابن معين: ثقة وقال عبد الحق: إنه ثقة مشهور والحديث الذي رواه في القصر صحيح، ورجح الذهبي توثيق ابن معين له وأما عبد الرحمن بن الأسود، فقد اختلف في سماعه منها، فقال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق. قال الحافظ ابن حجر: وهو كما قال، ففي تاريخ البخاري وغيرها ما يشهد لذلك. وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير لم يسمع منها، وادعى ابن أبي شيبة الطحاوي ثبوت سماعه منها.

فظهر من أقوال رجال الجرح والتعديل: أن الحديث لا بأس به من جهة السند لأن العبرة كما قال الذهبي: بتوثيق ابن معين للعلاء بن زهير.

كما ثبت سماع عبد الرحمن بن الأسود من عائشة، إذ جاء في تاريخ البخاري أنه كان يدخل عليها وهو صغير دون استئذان فلما احتلم استأذن فعرفت صوته فقالت يا عدو نفسه؟ أفعلتها. قال: نعم يا أمتاه قالت ادخل1.

وقال البعض: إن حديث عائشة هذا فيه نكارة من جهة المتن، إذ فيه أن عائشة خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان مع أن الثابت أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر ليس منها في رمضان شيء..

وقد أجيب عن ذلك: بأن هذه العمرة لعلها حدثت في شوال وكان الخروج إليها في رمضان في غزوة الفتح2 والله أعلم بالصواب.

ونكتفي بهذا القدر من الأدلة المأخوذة من السنة على رأي الجمهور في جواز الأمرين، الصوم والفطر في السفر خلال شهر رمضان.

أما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فكثيرة نكتفي بأمثلة عنها:

أ_ ما رواه البيهقي بسنده إلى أبي الفيض، قال: كنت في غزوة الشام فخطب مسلمة ابن عبد الملك، فقال: من صام رمضان في السفر فليقضه، فسألت أبا قرصافة رجل من

1 التاريخ الكبير للبخاري ج5ص63 دار الكتب العلمية بيروت، وتهذيب التهذيب ج8ص180 مطبعة دار المعارف الهندية. والميزان للذهبي ج3ص101 طبعة دار المعرفة ببيروت.

2 نيل الأوطار ج3ص231.

ص: 101