المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أيهما أفضل الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة - رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار - جـ ٥٣

[أحمد علي طه ريان]

الفصل: ‌أيهما أفضل الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة

أ_ إن العمل بالرأي الأول: يقتضي طرح العمل بكثير من النصوص الصحيحة الثابتة التي تفيد أن الفطر في سفر رمضان رخصة يترك العمل بها لاختيار المسلم، بخلاف العمل بالرأي الثاني فإنه يقتضي العمل بكل النصوص وذلك بإمكان الجمع بين أدلة الفريقين. والجمع بين الأدلة والعمل بها كلها واجب ما أمكن..

ب_ إن القول بوجوب الفطر في السفر قد يكون فيه مشقة لمن كان دائم السفر كالسائقين والمضيفين في الطائرات وكل العاملين في مجال المواصلات من سيارات وطائرات وسفن وغيرها إذ هؤلاء وأمثالهم لو ألزموا بالفطر في سفرهم خلال رمضان لصار صوم الشهر دينا ثابتا يتراكم عليهم عاما بعد عام بل ربما يموتون وعليهم صيام سنين، وقد وضح ذلك من خلال قصة حمزة بن عمرو الأسلمي..

ج_ في هذا العصر وبعد التقدم الكبير في وسائل المواصلات والذي جعل السفر الآن لدى قطاعات كبيرة من المسلمين أقرب للمتعة منه إلى المشقة التي شرع الفطر من أجلها. فإن المسلم قد يرى الصائم أيسر عنده من الفطر، أولا: لعدم إحساسه بالمشقة التي تضعفه عن تحمل الصيام..، وثانيا: لأن الفطر سيترتب عليه أن تظل هذه الأيام دينا في رقبته ويطالب بقضائها بعد انتهاء السفر.. والله أعلم..

ص: 103

‌أيهما أفضل الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة

؟

أيهما الأفضل: الصيام أم الفطر للمسافر القادر على الصيام دون مشقة؟

بعد أن بينا بوضوح حكم الصوم والفطر للمسافر خلال شهر رمضان وهو جواز الأمرين. نبين الآن، مدى هذا الجواز بالنسبة للشخص القادر على الصيام بدون ضرر عليه، وبمعنى أوضح، هل هذا الجواز يقف عند حده الأدنى، أي أن الصوم والفطر يستويان في الفضل بدون زيادة لأحدهما على الآخر فيه، أو أن أحدهما أكثر فضلا من الآخر، فينبغي المصير إليه، ندبا أو استحبابا؟ لبيان ذلك نقول:

من يرى أفضلية الصوم عن الفطر:

نقلت أفضلية الصوم عن الفطر للمسافر القادر على الصوم بدون مشقة عن عدد كبير من الصحابة والتابعين وفقهاء الإسلام، نذكر منهم على سبيل المثال:

ص: 103

من الصحابة: حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص، وابن مسعود، وأبو قرصافة.

ومن التابعين: عروة بن الزبير، والأسود بن يزيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث، وسعيد بن جبير، والنخعي، والفضيل بن عياض

ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وعبد الله بن المبارك، وأبو ثور، وآخرون1.

من أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:

1_

حديث أبي الدرداء المتقدم وفيه "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة"2.

فإدامة الرسول صلى الله عليه وسلم الصيام في السفر مع وجود الرخصة في الفطر، والتي أخذ بها أصحابه رضي الله عنهم، إرشاد إلى أفضلية الصيام لمن قدر عليه بدون ضرر.

ويناقش هذا الاستدلال، بأن السفر المشار إليه في هذا الحديث، كان قبل غزوة الفتح التي ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر فيها واستمر على الفطر في السفر بعدها، لحديث:"إنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم" والعبرة بما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته..

وإنما قلنا إن هذا السفر كان قبل غزوة الفتح، لأن عبد الله بن رواحة، قتل في مؤتة وكان ذلك قبل غزوة الفتح، وإن كانتا في سنة واحدة كما يذكر ذلك كثير من أصحاب المغازي. ويجاب عن هذه المناقشة، بأنه يكفي في ثبوت الاستدلال: وجود الرخصة في الفطر التي أخذ بها كل الأصحاب ما عدا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.

كما ثبت من خلال دراستنا للمسألة السابقة، أن فطر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، إنما كان عملا بالرخصة تشجيعا لأصحابه على الفطر بعد أن تردد أكثرهم فيه لما يرون من صيامه صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذلك واضحا في رواية لحديث جابر بن

1 السنن الكبرى للبيهقي ج4ص244، 245 وفتح القدير ج2ص351 مصطفى الحلبي، والمجموع ج2ص219، نيل الأوطار ج4ص252، شرح عبد الباقي الزرقاني على مختصر خليل ج2ص197.

2 صحيح مسلم ج3ص145.

ص: 104

عبد الله عن طريق قتيبة بن سعيد عن الدراوردي عن جعفر "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر"1.

2_

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدم وقد جاء فيه: "..لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر"2.

يشير تصريح أبي سعيد باستئناف الصيام بعد غزوة الفتح، إلى أن الفطر في هذه الغزوة كان لظروف معينة، وهي شدة الحر وشعور الناس بمشقة الصيام، ثم للتقوى استعدادا لملاقاة الأعداء وأخيرا لإزالة الأحجام والتردد عن بعض النفوس التي توقفت عن الأخذ بالرخصة لعدم أخذه صلى الله عليه وسلم بها واستمرار صيامه. أما بعد أن زالت هذه الظروف أو تغير أكثرها فإنهم رجعوا إلى الصيام في السفر، وما ذلك إلا لأفضليته على الفطر فيه..

3_

حديث عائشة رضي الله عنها "قصرت وأتممت وأفطرت وصمت، فقال لها صلى الله عليه وسلم أحسنت يا عائشة" وقد تقدم الحديث وما قيل فيه..

4_

وقد أشار بعض العلماء هنا إلى دليل عقلي، مؤداه: إذا كان ولا بد من الصيام، أداء في رمضان أو قضاء في غيره، فأداؤه في رمضان أفضل من قضائه في غيره وذلك لأفضلية الأداء على القضاء بصفة عامة ولأن رمضان أفضل الوقتين، وحتى لا تشتغل ذمته به فترة من الوقت ولا يدري ما يطرأ عليه فيها3.

من يرى أفضلية الفطر على الصيام:

من الصحابة: ابن عباس، وابن عمر. ومن التابعين: ابن المسيب، والشعبي و. ومن الفقهاء: الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون المالكي..

من أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:

1_

حديث جابر المتقدم وفيه: "..ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له: بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة"..

فإن فطره صلى الله عليه وسلم بمرأى من الناس ثم وصفه بعد ذلك للصائمين، بالعصاة، يشعر بأفضلية الفطر عن الصوم في السفر

1 صحيح مسلم ج3ص142.

2 صحيح مسلم ج3ص144.

3 أشار إلى هذا الدليل باختصار شديد صاحب فتح القدير ج2ص351 وقد قمنا بتوضيحه وشرحه.

ص: 105

ويناقش هذا الاستدلال بأن فطره صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة بالذات وبمرأى من الناس كان لظروف خاصة بها وقد أشرنا إليها قريبا أما وصف الصائمين بالعصاة فإنما كان للمخالفة في تنفيذ أمر الفطر الذي أصدره صلى الله عليه وسلم والذي أوضحه حديث أبي سعيد رضي الله عنه "إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر فقال؟ إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا وكانت عزمة فأفطرنا"1.

2_

حديث جابر بن عبد الله أيضا "ليس البر أن تصوموا في السفر" فنفى الرسول عليه الصلاة والسلام البر عن الصيام في السفر يريد أن الفطر أفضل منه.

ويناقش هذا الاستدلال بأن الصوم المنفي عنه البر: هو الذي يقوم به شخص لا يقدر عليه، وبالتالي يؤدي إلى إتلافه، فمثل هذا يكون الفطر في حقه أفضل. وليس المراد نفي البر عن عموم الصوم في السفر..

3_

حديث ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره"2..

فالفطر كان هو أحدث الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتباعه فيه أفضل من الصيام..

ويناقش، بأن فطره في هذه الغزوة كان لأسباب خاصة أوضحناها قريبا كما سلفت الإشارة إلى أن عبارة "وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..الخ" مدرجة في الحديث من كلام ابن شهاب..

4_

حديث حمزة بن عمرو الأسلمي وقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه"..

فتحسينه صلى الله عليه وسلم لجانب الفطر، واكتفاؤه بنفي الجناح عن الصوم، إشارة واضحة إلى أفضلية الفطر على الصوم..

1 صحيح مسلم ج3ص144.

2 صحيح مسلم ج3ص141.

ص: 106

وقد نوقش هذا الاستدلال، بأن التحسين هو بالنسبة لمن كان لا يتيسر له الصيام بحيث يشعر معه بمشقة أو ضرر، فمثل هذا الفطر في حقه حسن. أما من كان يحتمله مع شيء من المشقة، ومع ذلك ترك الرخصة وصام فإنه لا جناح عليه..

5_

ما جاء في حديث جابر "ليس البر أن تصوموا في السفر" من زيادة عن طريق يحي بن أبي كثير بلفظ: "عليكم برخصة الله الذي رخص لكم".

فهذا الأمر وإن لم يكن مقتضيا للوجوب، لكنه يعتبر إرشادا واضحا من الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أفضلية الأخذ بالرخصة التي تقتضي الفطر. وعليه فيكون الفطر أفضل من الصيام.

ويناقش هذا الاستدلال، بما قلنا سابقا نقلا عن الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه، من أن هذه الزيادة غير محفوظة.

ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة، بأن هذه الزيادة قد رواها النسائي عن طريق الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير أيضا بلفظ "وعليكم برخصة الله الذي رخص لكم فاقبلوها"1 وقد قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل، كما رواها ابن حزم واحتج بها2 فالله أعلم بالصواب.

من يرى أن أيسر الأمرين أفضلهما:

نسب إلى مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة القول: بأن الأفضل من الصيام أو الفطر هو الأيسر والأسهل، أي أن من وجد لديه قوة على الصيام ولم يتضرر منه، فإن الصيام في حقه أفضل.

ومن كان يشق عليه أو يترتب عليه ضرر منه، فإن الفطر في حقه أفضل. وقد اختار هذا القول ابن المنذر3.

ومن أهم أدلة هذا الفريق ما يلي:

1_

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على

1 النسائي ج4ص176 من المجتبى.

2 المحلى ج6ص384’ نيل الأوطار ج4ص252.

3 نيل الأوطار ج4ص252 والمجموع ج6ص219.

ص: 107

الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فذلك حسن"1.

واضح من الحديث: أن كلا الأمرين وصف بالحسن لكونه يتناسب مع حال فاعله.

2_

عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نهر من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له، فقال اشربوا أيها الناس، قال: فأبوا، قال: إني لست مثلكم إني أيسركم، إني راكب، فأبوا فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب" رواه أحمد في مسنده2.

فقد علل صلى الله عليه وسلم امتناعه عن الفطر أولا بكون الصيام كان ميسرا له كما علل أمره لهم بالفطر بوجود المشقة لديهم.

وإنما خالف ما يناسب حاله وأفطر مثلهم لإزالة ترددهم عن الفطر الذي كان يناسب حالتهم وذلك من قبيل رأفته ورحمته بأمته صلى الله عليه وسلم.

3_

قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3.

فقد علل الله سبحانه وتعالى رخصة الفطر بالتيسير على المسلمين. وعليه: فمن كان الفطر أيسر له؟ فإن الأفضل له الفطر عملا بالرخصة، ومن كان الصوم أيسر له، فإن الأفضل له الصيام.

من يرى أفضلية الصوم إذا خلا من الآفات المحبطة لفضله:

ذهب بعض العلماء إلى أن الصوم أولى في السفر إذا لم تصحبه لآفة من الآفات المحبطة لفضله كالرياء والعجب والسمعة وقيام الناس على خدمته وإلا فإن خشي دخول شيء عليه من هذه الآفات فإن الفطر في حقه أولى4.

وقد استدل لهذا الرأي الذي لم يعرف من قال به من الفقهاء القدامى وإن كان قد حظي باختيار الشوكاني صاحب نيل الأوطار وقد استدل له بما يلي:

1 صحيح مسلم ج3ص143.

2 نيل الأوطار ج4ص254.

3 سورة البقرة الآية رقم 185 وإنما أخرنا الاستدلال بهذه الآية الكريمة لأن الاستدلال بها غير مباشر بخلاف الحديثين قبلها فإنهما نص في الموضوع.

4 فتح الباري ج5ص86 ونيل الأوطار ج4ص253.

ص: 108

أ_ عن أنس رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر، قال فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوام وقال المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر"1.

ب_ نقل صاحب الفتح ما رواه الطبري عن طريق مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " إذا سافرت فلا تصم فإنك إن تصم، قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم فلا تزال يذهب أجرك "2.

فحديث أنس وأثر ابن عمر واضحان في دلالتهما على تأثير هذه الآفات على الصيام لكن من الممكن السلامة من ذلك: إذا خدم الإنسان نفسه وقام بما يجب عليه من المشاركة في الخدمات العامة للرفقة المسافرين معه وأخلص نيته في صيامه.

المختار من هذه الأقوال:

أرى أن الرأي الذي يذهب إلى أن أيسر الأمرين هو أفضلهما: هو الأولى بالاختيار لما يلي:

أ_ أنه يترتب على الأخذ بهذا الرأي تحقق الحكمة التي جاء الترخيص في الفطر من أجلها، وهي اليسارة والسهولة. قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

ب_ يتجلى تحقق هذه الحكمة من مطابقة هذا الرأي لطبائع الناس واختلاف قدراتهم، فمنهم من يتيسر له الصوم ولا يرى فيه كلفة أو مشقة، بل ربما كان يرى فيه راحته وصحته فطلب الفطر من مثل هذا فيه مشقة له، ومنهم من لا يتيسر له الصوم إلا إذا كان مقيما مستريحا لا يقوم بأي عمل أو يقوم بأعمال يسيرة غير مجهدة وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم البر عن صوم مثل هذا في السفر.

ج_ المعيار في هذا الرأي، فيه مرونة حيث وكّل أمر الفطر أو الصوم إلى شعور الشخص نفسه، إذ هو المكلف وهو أمين نفسه، والتكليف أمانة، فإن وجد من نفسه القوة والقدرة على تحمل الصيام دون مشقة أو مشقة معتادة صام وإلا فلا.

د_ وأخيرا فإن هذا الرأي يتناسب مع ظروف المواصلات في هذا العصر وتنوعها فمن

1 صحيح مسلم ج3ص144.

2 فتح الباري ج5ص86.

ص: 109

الناس من يتيسر له سبل مواصلات مريحة تخفف عنه كثيرا من معاناة السفر، فمثل هذا يكون الصوم أيسر له.

ومنهم من لم تتيسر له سبل مواصلات أصلا أو تتيسر له مواصلات مرهقة ومجهدة فمثل هذا يكون الفطر أيسر له.

ويجاب على استدلال الجمهور القائلين بأفضلية الصوم مطلقا لمن أطاقه بأن استمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصوم، ربما كان هو الأيسر بالنسبة له، وكان يأمر أصحابه بالأخذ بالرخصة لأنه كان يرى أن الفطر هو الأيسر بالنسبة لهم، وحديث أحمد المتقدم من أوضح الأمثلة على ذلك حيث جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم مبينا الحكمة من رغبته في استمرار صومه وأمره لهم بالفطر.. "إني لست مثلكم؟ إني أيسركم؟ إني راكب، فأبوا فثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذه، فنزل فشرب وشرب الناس، وما كان يريد أن يشرب".

أما أدلة الفريق الذي يرى أفضلية الفطر مطلقا فقد أجيب عنها في مواضعها فلا حاجة إلى إعادتها مرة أخرى.

أما القول الذي يرى أفضلية الصوم إذا لم تصحبه آفة تحبطه؟ فيمكن أن نضيف إلى ما قلناه سابقا، إن هذه الآفات من الرياء والسمعة ونحوهما، أمور قلبية أي أن مدارها على نية الإنسان وقصده فإذا جرد الإنسان نيته، وكان صومه خالصا لله، فلا يضره ما قيل عنه.

وأما قيام الغير بخدمته، فلا يخلو حال الصائم من أحد أمرين: إما أن يكون قادرا على خدمة نفسه والمشاركة بجهد فعال مع بقية رفاقه في الرحلة مع صومه، فينبغي له ألا يسمح للغير بالقيام بهذه الأعمال نيابة عنه. وإما ألا يكون قادرا على ذلك مع الصوم فينبغي له الفطر أخذا بالرخصة.

وعلى ذلك: فيمكن القول: بأن الفريق الذي كان مصاحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم صائما وعجز عن القيام بالأعمال التي قام بها المفطرون، فإنه قد خالف مقتضى الرخصة، حيث ترك الأخذ بها مع أنه كان من أهلها، لذلك استحق المفطرون الأجر دونهم..

والله أعلم

ص: 110