المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مواقف أهل العلم من تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة وأدلتهم: - رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار - ٥٠ - ٥١

[أحمد علي طه ريان]

الفصل: ‌مواقف أهل العلم من تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة وأدلتهم:

‌مواقف أهل العلم من تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة وأدلتهم:

الأول: موقف ابن حزم الظاهري:

يرى ابن حزم: أن من سافر ميلا أو تجاوزه أو قاربه، فإنه يجب عليه الفطر، وقد بطل صومه بمجرد بلوغه نهاية الميل 1.

وقد استند إلى إطلاق لفظ السفر في الآية

{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وعدم وجود ما يدل على تحديد للمعنى المراد من لفظ السفر الوارد في السنة المطهرة، وكل ما يستفاد من حديث ابن عباس وحديث جابر في غزوة الفتح- وقد سبقت الإشارة إليهما قريبا- وحديث أنس المتقدم: هو جواز القصر في هذه المسافات. وليس في هذه الأحاديث، ولا في غيرها ما يفيد المنع من الفطر أو القصر في أقل من هذه المسافات، وقد جاءت في التحديد روايات مختلفة عن الصحابة رضي الله عنهم ليس بعضها أولى من بعض 2.

ويناقش مستند ابن حزم هذا، بأن لفظ السفر وإن جاء مطلقا في الكتاب الكريم، وفي السنة المطهرة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضح المراد منه، في منعه المرأة من السفر بدون زوج أو محرم ثلاثة أيام، حسب ما جاء في روايات أبي هريرة السابق، فعلم من ذلك أن أدنى المسافة التي يطلق عليها لفظ السفر، هي مسيرة هذه المدة من الزمن. وقد فهم كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم هذا المعنى، فقد روى عبد الرزاق عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى، قال: سمعت سويد بن غفلة يقول: إذا سافرتَ ثلاثا فاقصر الصلاة3.

كما روى عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنت أن آتى أهلي بالكوفة فأذن.. وشرط على ألا أفطر، ولا أصلى ركعتين حتى أرجع إليه4.

وعن مجاهد أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سافرتَ يوما إلى العشاء فأتم الصلاة. فان زدت فأقصر 5

1المحلى جـ 6ص 364.

2 المحلى جـ 6ص 365.

3 المصنف جـ 2ص 526.

4 الصنف جـ 2ص 527.

5 المصنف جـ 2ص 525.

ص: 125

وما يضعف قول ابن حزم رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قباء والى أحد وإلى بني سلمة وإلى غير ذلك من المواضع حول المدينة، وكل هذه الأماكن على مسافة تزيد كثيرا عن الميل، ولم يثبت عنه أنه قصر الصلاة أو أفطر في رمضان حينما كان يخرج إلى أي من هذه الأماكن.

كما أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم مزارع في الجرف والعقيق والغابة وغيرها، بل كان بعضهم يسكن الجرف والعوالي بل وذا الحليفة ولم يصل إلى علمي أن أحدا منهم قصر الصلاة أو أفطر حينما كان يأتي إلى المدينة.

الثاني: موقف الظاهرية: يرى الظاهرية- ما عدا ابن حزم- أن المسافة التي تتحقق بها الرخصة في الفطر والقصر، مقدارها ثلاثة أميال 1.

وقد استدل لهم بحديث أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" شعبة الشاك 2

ومما رواه عبد الرزاق بسنده إلى أبي سعيد رضي الله عنه، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سار فرسخا نزل يقصر الصلاة" 3

ولعل حديث أبي سعيد قد بين المراد من أحد التقديرين اللذين تردد بينهما شعبة ورجح بأن المسافة التي كان يحدث فيها القصر، هي ثلاثة أميال؛ لأن الفرسخ الوارد في حديث أبي سعيد، مقداره ثلاثة أميال.

وهذا المستند وإن كان قويا، لأنه نص صحيح صريح في الموضوع إلا أن المناقشة التي أشرنا إليها من قبل- والتي تتلخص في أن هذا المقدار كان بداية العمل بالرخصة. أي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا بدأ سفرا بعيدا ابتدأ القصر بعد مسيرة ثلاثة أميال- تقلل من شأن الاستدلال به، وتجعل الاعتماد عليه في القول بهذا التقدير، محل نظر.

وقد استبعد الحافظ ابن حجر هذا الاحتمال الوارد في المناقشة السابقة. وقوى هذا البعد بما جاء عند البيهقي، عن يحي بن يزيد الهنائي: قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة- يعنى من البصرة- فأصلى ركعتين حتى أرجع، فقال أنس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج

الحديث 4.

1نيل الأوطار جـ 3ص 234.

2 صحيح مسلم جـ 2ص 145.

3 المصنف جـ 2ص529.

4 السنن الكبرى جـ 3ص 146.

ص: 126

يشير الحافظ بذكر هذا السياق: إلى أن أنس كان يقصد أن القصر كان يحدث ولو كان السفر قصيرا كثلاثة أميال.

لكن مع ذلك: فالاحتمال ما زال واردا، إذ يحتمل أن أنسا يريد من الرجل ألا يبدأ القصر إلا بعد ثلاثة أميال من المكان الذي خرج منه. ولم يرد ببيان مقدار مسافة القصر.

ومما يقوى هذا الاحتمال -في نظري على الأقل- ما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذل الحليفة ركعتين وكان خرج مسافرا"1.

وعند البخاري بلفظ "صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل"2. أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر عملا بالرخصة حينما كان يصل إلى ذي الحليفة وهو في طريقه إلى مكة. ومعلوم أن ذا الحليفة على بعد فرسخين أو ثلاثة من المدينة.

وما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني ابن المنكدر عن أنس بن مالك "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا وصليت معه بذي الحليفة العصر ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يريد مكة"3.

لذلك أرى- والله أعلم- أن مقدار الثلاثة أميال أو الثلاثة فراسخ الواردة في حديث أنس هي بداية القصر وليست هي مقدار المسافة التي تناط بها الرخصة، وإنما حديث أنس المشتمل على بيان هذا المقدار، وإن ورد مطلقا عند مسلم، لكنه جاء مقيدا عند البخاري وغيره، بأن ذلك كان بداية القصر أو بداية العمل بالرخصة.

الثالث: موقف الأوزاعي ومالك: نقل عن الأوزاعي ومالك، أن حدّ المسافة التي يباح فيها الفطر وتقصر فيها الصلاة، تقدر بمسيرة يوم وليلة، وهو اختيار البخاري، حيث ذكر بعد ترجمته للباب بقوله: باب: في كم يقصر الصلاة- وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة4.

ومستند هذا الرأي هو حديث أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها

3 المصنف جـ 2ص 529.

1 صحيح البخاري جـ 9ص 10 مع شرحه عمدة القارئ.

2 المصنف جـ 7ص 124 دار الفكر.

3 صحيح البخاري جـ 7ص 124 دار الفكر.

ص: 127

حرمة"1 حيت أطلق صلى الله عليه وسلم السفر على مسيرة يوم وليلة وبمعنى أوضح: أن لفظ السفر وإِن جاء مجملا في الآية وبعض الأحاديث النبوية، إلا أن هذا الحديث وما ورد في معناه يعتبر مفسرا له.

ولم ينقل عن الأوزاعي تحديداً لمسيرة اليوم والليلة بالأميال أو بالفراسخ، كما أنه لم يوضح فيه كيفية السير، هل هي بالإبل المثقلة، أو بالأقدام أو بغير ذلك.

وقد قدر مالك مسيرة اليوم والليلة أو اليوم التام -كما يسميه-: بأربعة برد، وقد قيد بعض علماء المالكية كابن المواز وغيره هذا التقدير بأن مسيرة اليوم التام: أيضا تقدر بأربعة برد، إذا كان ذلك في وقت الصيف وكان، لسير جادا2.

وقد نقل عن مالك بعد ذلك، أنه ترك التحديد بمسيرة اليوم التام وتمسك بتحديد المسافة بأربعة برد، فقد سئل عن الرجل يخرج إلى ضيعته على ليلتين أيقصر صلاة؟ قال: نعم، وأبين من ذلك، البرد والفراسخ والأميال، على كم ضيعته منه من ميل أو فرسخ؟ فقال: على خمسة عشر فرسخا فذلك خمسة وأربعون ميلا، فقال: نعم أرى أن تقصر الصلاة إلى مسيرة ذلك 3.

والحقيقة أن مالكاً قد أخذ هذا التقدير مما نقل عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، فقد قال البخاري في صحيحه- تعليقا بصيغة الجزم- (وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهى ستة عشر فرسخا) 4 وقد أخرج البيهقى هذا الأثر موصولا عن عطاء بن أبي رباح أن عبد اللِّه بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم كانا يصليان ركعتين ركعتين ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك 5 ويناقش مستند هذا الفريق بما يلي:

أولا: أنا الاستدلال بحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم في هذا الموضع لا يتم، لأن هذا الحديث وارد في حق المرأة إذا عزمت على السفر مسيرة يوم وليلة، فإنه لا يحق لها الشروع في ذلك إلا إذا صحبها زوجها أو محرم. بينما المستدل عليه هو تحديد مسافة السفر الذي شرع فيه القصر أو الفطرة وشتان بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في

1 صحيح البخاري باب في كم يقصر الصلاة جـ 7ص 129 مع شرحه عمدة القارئ.

2 شرح الزرقاني على الموطأ جـ 1ص 299.

3 حاشية الرهوني على الزرقاني جـ 2ص 122.

4 صحيح البخاري باب في كم الصلاة انظر مع شرحه عمدة القارئ جـ 7ص 125.

5 السنن الكبرى جـ 3ص 137.

ص: 128

مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة نظرا لأنها ستمر بطرق منقطعة، كما أنها ستضطر للمبيت في بعض الطريق، وفي هذا ما فيه.

أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر والمشقة قد تحصل بدون ذلك.

ثانيا: أن الحديث قد ورد بيوم وليلة ويومين وثلاثة أيام، فاختيار رواية اليوم والليلة دون اليومين أو الثلاثة تحكم.

ثالثا: تقدير مسيرة اليوم التام- أو اليوم والليلة- بأربعة برد أيضا فيه تحكما لاختلاف الناس والدواب من حيث الجد في السير وعدمه والقدرة على تحمل سير المسافات الطويلة ودون ذلك، فقد تقطع هذه المسافة في أقل من يوم بالدواب السريعة النشيطة ومن باب أولى إذا كان السفر بالسيارة أو الطائرة، وقد يبطئ في السير فيقطع هذه المسافة في أكثر من هذه المدة.

ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:

بالنسبة للمناقشة الأولى: بأن الاستدلال بحديث ابن عمر وأبي هريرة- الوارد في حق منع المرأة من السفر يوما وليلة إلا إذا كان معها محرم- هو استدلال تام وفي موضعه، لأن القصد من الإتيان به، ليس هو قياس السفر الذي تناط به الرخصة على سفر المرأة، حتى يقال بوجود الفارق بين الأمرين، بل المراد منه هو تفسير لفظ السفر، بأنه ما كان مسيرة يوم وليلة، أي أن لفظ السفر الوارد في الآية كان محتملا لسير المسافات البعيدة القريبة دون تحديد فجاء هذا الحديث وأطلق لفظ السفر على ما كان مسيرة يوم وليلة. أي أن المسافة إذا كانت تقطع في أقل من هذا الزمن عادة بالدابة المتوسطة، فلا يطلق على من قطعها أنه سافر سفرا تتحقق فيه رخصة الفطر أو القصر.

وبالنسبة للمناقشة الثانية، فان اختيار رواية يوم وليلة دون بقية الروايات الأخرى الواردة في حق سفر المرأة ليس فيه تحكم؛ لأن ما ورد في هذه الهواية هو أقل ما يطلق عليه لفظ السفر الذي تناط به الرخصة؛ لأن هذا الحديث يعتبر مبينا للمعنى المراد من السفر ومحددا له. والحدود يؤخذ فيها بأقل ما قيل فيها، كما يقال إن أقل الجمع ثلاثة، وفي لسان الشرع: الجماعة اثنان فما فوقهما وهكذا.

وبالنسبة للمناقشة الثالثة: فإن اختيار مقدار الأربعة برد لتقاس بها مسيرة اليوم والليلة، إنما روعي فيه العادة بالنسبة للدابة الوسط وقد كانت ركوبة أكثر الناس. فالقياس عليها أولى من القياس على الدابة السريعة أو البطيئة. والله أعلم.

ص: 129

الرابع: ما نقل عن الشافعي، ومالك، وأصحابهما، وأحمد، وإسحاق، والليث، كما نقل عن الأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم، من أن الرخصة في الفطر أو القصر لا تتحقق إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين1، وحددت مسافتهما بثمانية وأربعَّين ميلاً هاشمية 2.

وقد حمل بعض العلماء ما نقل عن مالك هنا بأنه قول آخر له، إلا أن بعض علماء المالكية قد جمع بين قوليه، بأن مسيرة اليوم والليلة إذا كانت الدابة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا، وأما مسيرة اليومين والليلتين، فهو إذا ما كانت ثقيلة بطيئة ولم يكن هناك جد في السير؛ ويؤيد هذا الجمع بأن مالكا لم يختلف تقديره للمسافة في القولين، إذ حددها في كليهما بثمانية وأربعين ميلا 3.

وقد استدل لهذا الرأي بحديث أبي سعيد: "لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها" 4، وقد قدرت مسيرة هذا الزمن بثمانية وأربعين ميلا. وبذلك يلتقي هذا الرأي مع الرأي السابق في تقدير المسافة التي يباح الفطر فيها للمسافر، إذا عزم على بلوغ نهايتها أو تجاوزها، بالرغم من الاختلاف في مقدار الزمن، إلا أنه يمكن الجمع بين اختلاف المقدار في الزمن بين هذا الرأي والرأي السابق بما جمع به بعض علماء المالكية بين قولي مالك في المسألة. وقد أشرنا إلى ذلك قريبا.

ويناقش مستند هذا الفريق بعدد من المناقشات، من أهمها ما يلي:

أولا: أنّ الاستدلال بحديث أبي سعيد هنا لا يتم، لما قلناه سابقا، من أنه وارد في منع المرأة من السفر بدون محرم لها أو زوج مدة يومين، بينما المستدل عليه هو السفر المبيح للفطر، وهناك فارق كبير بين الأمرين، فخروج المرأة منفردة في مثل هذه المسافة يترتب عليه مفاسد كثيرة

أما المسافر فقد شرع له الفطر والقصر دفعا للمشقة الحاصلة من السفر، والمشقة قد تحصل بدون ذلك.

ثانيا: أن الأحاديث الواردة في منع المرأة من السفر وردت باليوم، واليومين. والثلاثة، فاختيار حديث اليومين دون غيره تحكم.

1 هكذا نص عليه الشافعي. وهو النص المتفق عليه بين أصحابه. من نصوصه الأخرى في الموضوع إذ حدد بستة وأربعين. وحده بأكثر من الأربعين. وبأربعين وبيومين وليلتين وبيوم وليلة. وبعض أصحابه حاول أن يجمع بينها وقال إنها كلها ترجع إلى معنى واحد وهو ثمانية وأربعين ميلا. المجموع جـ 4ص190.

2 الهاشمية: نسبة إلى بني هاشم؛ وذلك احترازا عن الأميال الأموية فإنها تقدر المسافة بأربعين ميلا لأن الأميال الأموية أكبر من الهاشمية إذ كل ستة أميال هاشمية تقدر بخمسة أميال أموية. المجموع جـ4 ص190

3 الزرقاني على الموطأ جـ 1 ص 299.298. والمجموع جـ4 ص 190.189. والمغني جـ2 ص189. وحاشية الرهوني جـ2 ص122.

4 صحيح مسلم جـ3 ص102.

ص: 130

ثالثا: تقدير مسيرة اليومين بأربعة برد يتساوى مع تقدير مسيرة اليوم والليلة، بهذا المقدار، مع أن ما يقطعه المسافر في اليومين والليلتين، ضعفه ما يقطعه في اليوم والليلة

ويجاب عن هذه المناقشات بما يلي:-

بالنسبة للمناقشة الأولى:-

فيجاب عنها بما أجيب به سابقا، وهو أننا لا نستدل بالحديث لأجل قياس السفر الذي تتعلق به الرخصة على سفر المرأة، بل إنما يستدل به من حيث إطلاق لفظ السفر على مسيرة اليومين. أي أن الاستدلال بهذا الحديث في هذا الموضع هو من قبيل التفسير والبيان لتحديد المراد من لفظ السفر الوارد في الآية..

ويجاب عن المناقشة الثانية:

بأن اختيار حديث اليومين ليس من قبيل التحكم، لأنه أوسط الأزمان الثلاثة الواردة في الموضوع. وأعدل الأمور هو أوسطها..

أما المناقشة الثالثة:

فيجاب عنها بما أشرنا إليه سابقا، من أن لا يقطع من المسافة في مسيرة اليومين بالدابة البطيئة، مع عدم الجد في السفر وكون الوقت شتاء فإنه يتساوى مع ما يقطع منها في اليوم والليلة، إذا كانت خفيفة سريعة مع الجد في السير وكان الوقت صيفا.

الخامس: موقف أبي حنيفة ومن معه: يرى أبو حنيفة والثوري والشعبي والنخعي والحسن بن صالح: أن المسافر إذا عزم على السفر وكان سفره مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، سيرا وسطا على الدواب المحملة أو بالأقدام، فإنه يرخص له في الفطر.

ويرى أبو يوسف تقدير المدة، بيومين وأكثر اليوم الثالث.

والتقدير بالزمن هو الصحيح عند علماء الحنفية، ومقابله: التقدير بالفراسخ، فقيل بأحد عشر فرسخا، وقيل بثمانية عشر وقيل بخمسة عشر، وكل من قدر بقدر منها أعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام..

وإنما صح عندهم التقدير بالزمن فقط دون التقدير بالأميال أو الفراسخ لأنه لو كان الطريق وعرا، بحيث لو قطع في ثلاثة أيام أقل من خمسة عشر فرسخا فإنه يقصر بالنص، وإذا جرى على هذه التقديرات فإنه لا يقصر، فيكون معارضا للنص، وعلى ذلك فلا يعتبر إلا التقدير بسير الثلاثة أيام.

ص: 131

وقد ورد عليهم اعتراض، وهو ما الحكم إذا كانت الدابة سريعة كدواب البريد وقطعت المسافة -المقدر سيرها بثلاثة أيام- في يوم واحد؟ فأجاب البعض بجواز القصر والفطر لأنه يصدق عليه أنه قطع المسافة المقدرة بثلاثة أيام.

ومنع آخرون فطره وقصره، لانتفاء علة المشقة المنوط بها علة القصر والفطر في السفر1.

ولا أدري بماذا يجيب الحنفية على من يقطع هذه المسافة الآن في ساعة أو بعضها بسبب السرعة التي دخلت على ميدان المواصلات.

وقد استدل الحنيفة على التحديد بثلاثة أيام بالتوقيت الوارد في المسح على الخفين: فقد روى عن شريح بن هانئ، قال: أتيتُ عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت عليك بابن أبي طالب فسله فإنه كان على يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه، فقال:"جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم"2.

فتحديد الرسول عليه الصلاة والسلام لرخصة المسح في السفر بثلاثة أيام يلزم منه، أن تكون هذه المدة هي المعيار الشرعي في السفر لكل رخصة سواء كانت للمسح أو للقصر أو للفطر أو لغير ذلك، والجامع في ذلك مشقة السفر في كل.

المناقشات الواردة على هذا الاستدلال؟

أولا: يناقش هذا الاستدلال بأنه من باب القياس، والقياس لا يلجأ إليه إلا عند عدم النص، والنص موجود وهو حديث أنس السابق: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخٍ

الخ فإنه بالرغم من الاحتمال الوارد عليه، لكنه لا يزال هو النص الوحيد الوارد في الموضع.

ثانيا: بأن تمسك المذهب الحنفي بالتحديد الزمن دون وضع معيار ثابت بالمقادير المساحية، كالأميال وغيرها، يقلل الفائدة من العمل بهذه الرخصة وخصوصا بعد أن تطورت وسائل المواصلات في العصر الحديث تطورا يكاد يكون مذهلا، إذ ما كان يقطع في ثلاثة أيام فيما مضى صار الآن يقطع بالسيارات العادية في أقل من ساعة. فمعنى ذلك أن المسلم لا يتاح له العمل بالرخصة الآن إلا إذا سافر عدة آلاف من الأميال، كما أنه لن يستفيد من الرخصة إذا ما سافر بالطائرات.

1 نيل الأوطار جـ3 ص234. المجموع جـ4 ص191.فتح القدير للكمال جـ2 ص31.30 مطبعة مصطفى الحلبي.

2 صحيح مسلم جـ1 ص160.

ص: 132

ويجاب عن المناقشة الأولى: بأن الاستدلال بحديث أنس في تحديد المسافة التي تناط بها الرخصة كان محل نظر، وقد أوضحنا ذلك سابقا، ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

أما المناقشة الثانية: فلا أدري بما يجيب الحنفية عنها. اللهم إلا إذا أخذ بما يقابل القول الصحيح وهو التقدير بالفراسخ أو الأميال.

وقد استدل سفيان الثوري على رأيه- المتفق مع الحنفية- بأن الرخصة لا تتحقق إلا بمسيرة ثلاثة أيام- بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم" 1.

فقد نقل عبد الرزاق عن الثوري قوله: (وقولنا الذي نأخذ به: مسيرة ثلاثة أيام. قلت: من أجل ما أخذت به؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر امرأة فوف ثلاث إلا مع ذي محرم")2.

وجه الاستدلال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام منع المرأة من السفر خلال هذه المدة إلا إذا كان معها زوجها أو محرم، وتعليقه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم بمدة الثلاثة أيام يفهم منه: أن سفر الثلاثة أيام هو الذي ينصرف إليه اسم السفر عند الإطلاق، فينبغي أن يقيد به.

ونرد على استدلال الثوري بهذا الحديث عدد من المناقشات التي وردت على بعض أصحاب الآراء السابقة، ونجملها فيما يلي:

أ- إن الحديث وارد في تحديد المسافة التي لا يجوز للمرأة أن تسافر فيها بدون محرم بينما المستدل عليه هو حدّ السفر المبيح للفطر وشتان بين الأمرين.

ب- إن هذا الحديث قد ورد بعدة روايات، فالتمسك بإحداها دون بقيتها فيه تحكم.

ج- عدم وجود تقدير مساحي لتحديد هذه المسافة بالأميال أو الفراسخ جعل التحديد الزمن بمسيرة ثلاثة أيام قليل الفائدة.

ويمكن الرد على هذه المناقشات بما يلي:

أ- أما المناقشة الأولى: فقد سبقت الإجابة عليها أكثر من مرة.

1 صحيح البخاري، باب في كم يقصر الصلاة جـ7 ص126 مع شرحه عمدة القارئ. وصحيح مسلم جـ4 ص102

2 المصنف جـ2 ص527. وصحيح مسلم جـ4 ص103

ص: 133