المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالىما فيه من الجور - رسالة في المواريث - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌فصلفيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالىما فيه من الجور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه.

‌فصل

فيما كان عليه التوريث في الجاهلية، وكيف أبطل الله تعالى

ما فيه من الجور

كنتُ أريد أن أُثبِتَ في هذا الفصل ما وقفتُ عليه من الآثار في هذا المعنى، ولكن رأيتُ ذلك يطول، مع ما يستدعي منّي من التصحيح والترجيح والتأويل والتعويل، فاكتفيتُ بالإجمال عن التفصيل.

قد تضافرت الآثارُ أن أهل الجاهلية لم يكونوا يُورِّثون النساء والضعفةَ، وفي "صحيح البخاري"

(1)

وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين

".

قوله: "كان المال للولد" أي في الجملة، فإنما كان للذكور الكبار منهم، كما تدلُّ عليه سائر الآثار، وسيأتي بعضها. فمن تأمل الآثار ومناسبة الآيات تبيَّن له أن ترتيبها على ما يأتي:

1 -

آية الوصية.

2 -

آية الوصية للزوجة.

(1)

رقم (2747، 4578). وأخرجه أيضًا الطبري (6/ 459) وابن المنذر (1433) وابن أبي حاتم (3/ 880) في تفاسيرهم، والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 226).

ص: 693

3 -

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ

} الآيات.

4 -

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176].

5 -

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ

} [النساء: 33].

6 -

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا

وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 72 - 75].

7 -

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ

}.

فلنبدأ بتفسير الآيات على هذا الترتيب، ثم نقتصُّ أثر الجَيْراجي على حسب ترتيبه.

* * * *

ص: 694

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه أستعين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيه وخليله محمد وآله وصحبه، آمين.

قال الله تبارك وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].

قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ، فُسِّر الخير بالمال، وفُسِّر بالمال الكثير.

أخرج جماعة

(1)

عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولًى له في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال: ألا أُوِصي؟ قال: لا، إنما قال الله تعالى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ، وليس لك كثيرُ مالٍ، فدَعْ مالك لورثتك.

وأخرج ابن أبي شيبة

(2)

أن رجلاً قال لعائشة رضي الله عنها: أريدُ أن أوصي، قالت: كم مالُك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالُك؟ قال: أربعة،

(1)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف"(16351) وسعيد بن منصور (251 ــ تفسير) وابن أبي شيبة في "المصنف"(11/ 208) والطبري في "تفسيره"(3/ 136، 137) وابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 298) والحاكم في "المستدرك"(2/ 273، 274) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 270)، وصححه الحاكم (1/ 298)، فتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع.

(2)

في "المصنف"(11/ 208). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في "سننه"(248 ــ تفسير) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 270). وإسناده صحيح.

ص: 695

قالت: قال الله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ، وهذا شيء يسيرٌ، فاتركْه لعيالك فهو أفضل.

........................... كانوا رضي الله عنهم يرون أن آية الوصية كُتِب فيها الوصية من المال الكثير للوالدين وعامة الأقربين، وآية الميراث نسختْها بالنسبة للوالدين وبعض الأقربين فبقي بقية الأقربين داخلين في آية الوصية.

وعندي أنها منسوخة بالنسبة لبقية الأقربين أيضًا، وأُقيمَ مقامَ ذلك قولُه تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى

} [النساء: 8] كما يأتي إن شاء الله تعالى.

{الْوَصِيَّةُ}

هي الاسم من أوصى يوصي، وأصلها: أمْرُك من أنت غائبٌ عنه أو ستغيب بأمرٍ يفعله في الغَيبة، ويقال: أوصيتُ زيدًا بالصدقة، كما يقال: أمرتُه بها. ويقال: أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، كما يقال: أمرتُ له بمالٍ.

{لِلْوَالِدَيْنِ}

اللام في قوله: {لِلْوَالِدَيْنِ} تحتمل معنيين:

وذلك أنه مما تقرر في العربية أن الفعل الذي يتعدى بنفسه يجوز في مصدرِه واسم مصدره ونحوِهما التعديةُ باللام دائمًا، وبنفسه بشرطه. قال ابن مالك في "الخلاصة"

(1)

:

(1)

"الألفية" بشرح ابن عقيل (3/ 93).

ص: 696

بفعلِه المصدرَ أَلحِقْ في العملْ

مضافًا أو مجرّدًا أو معَ الْ

إن كان فعلٌ مع أنْ أو ما يَحُلّ

محلَّهُ ولاسْمِ مصدرٍ عَمَلْ

قال الشارح

(1)

: "وإعمالُ المضاف أكثرُ من إعمال المنوَّن، وإعمالُ المنوَّن أكثر من إعمال المحلَّى بألْ".

واتفقوا على أنه إذا لم يُعَدَّ بنفسه يُعدَّى باللام.

ولفظ "وصية" اسم مصدرٍ من أوصى، فيجوز تعديته إلى المفعول باللام، فإذا كان محلَّى بألْ فالغالب أو الواجب أن لا يُعدَّى بنفسه، بل يُعدَّى باللام.

يقول: على كل مسلم الوصيةُ للمسلمين بالتقوى، وعلى هذا فمعنى الآية: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيرًا أن يوصيَ الوالدين والأقربين بالمعروف.

والمقصود أن يُوصي المحتضر والدَيهِ وأقاربَه بأن يبذلوا المعروفَ من ترِكتِه من صدقةٍ ونحوها، فتكون هذه الآية مشابهةً لقوله عز وجل:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8].

وهذا المعنى مستقيم كما تراه، إلّا أنه مخالف لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس

(2)

، كما يأتي مع ما سيأتي من أدلة النسخ، فمَن لم يُسلِّم أدلة

(1)

هو ابن عقيل، انظر شرحه (3/ 94).

(2)

سبق تخريجه (ص 693).

ص: 697

النسخِ فلا محيصَ له عن تسليم احتمال الآية لهذا المعنى، والله الموفق.

فهذا أحد المعنيين اللذين يحتملهما اللام.

المعنى الثاني ــ وهو المشهور ــ: أن اللام هي التي في نحو أوصيتُ لزيدٍ بمالٍ، فمعنى الآية عليه: كُتِب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن تركَ خيرًا أن يوصي للوالدين .... ، وعلى هذا المعنى نبني البحث بعون الله تعالى.

(للوالدين)

هو مثنَّى والدٍ ووالدة، و"والدة" اسم فاعل من ولَدتْ تَلِدُ ولادةً: إذا وضعت حملَها، فهي والدةٌ ــ اسم فاعل ــ ووالدٌ أيضًا، حكاه ثعلب

(1)

. تُرِك التاء لأمْنِ اللَّبْس، كما قالوه في حامل وحائض وطالق. فأما الذكر فإنه طبعًا لا يلد؛ إذ لا يكون منه في التسبُّب للولد ما يَصدُق عليه ولادة على الحقيقة، وإنما يُقال: وُلِدَ له. قال الله تبارك وتعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233].

وقد جاء نسبة الولادة إلى غير الأنثى، قال الله عز وجل:{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]، وهو مجازٌ مرسل علاقتُه السببية، كما يقال: بنى الأمير المدينةَ، أي أمر ببنائها.

ثمّ جرَّدوا لفظ "والدة" عن الوصفية، فأطلقوه على الأم مع عدم ملاحظة الوصفية، يقال: هذه والدتي، بمعنى أمي لا بمعنى التي ولدتْني. ويُبيِّن لك

(1)

كما في "تاج العروس"(ولد).

ص: 698