المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلها - رسالة في المواريث - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٧

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلها

الفرقَ تصوُّرُ الولادة عند قولك: "التي ولدتْني" حتمًا، بخلاف الحال عند قولك:"أمي".

وبهذا الاعتبار أُطلِق على الأب "والد" ثم ثَنَّوهما فقالوا: "والدانِ" تغليبًا. ومَن زعم أنه لا تغليبَ لحكاية ثعلب المتقدمة فقد غفلَ؛ لأن "والد" في حكاية ثعلب وصفٌ لا اسمٌ، والوالدان اسمٌ لا وصف. وأيضًا التثنية واردة في الكلام بكثرةٍ، وحكاية ثعلب نادرة.

بقي أنه قد يقال للجدّ وإن علا: "والد"، وللجدة وإن علَتْ:"والدة"، والجيراجي

(1)

يزعم أنه حقيقة، والحق أنه مجاز بدليل العلامات التي ذكرها أهل العلم للتفرقة بين الحقيقة والمجاز. وسيأتي ما يتعلق بهذا في بحث الأولاد إن شاء الله تعالى.

{وَالْأَقْرَبِينَ}

‌فصل في معنى "الأقربين" في المواضع كلِّها

الأقربون يحتمل أن يُفسَّر على ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: الأشخاص الذين كلُّ واحدٍ منهم أقربُ من سائر الناس مطلقًا، فلا يصدُق على ابن الابن والجدّ؛ لأن الابن أقرب منهما، وإنما يصدُق على الأبوين والبنين.

المعنى الثاني: الذين كلُّ واحدٍ منهم أقرب من سائر الأحياء عند الموت.

(1)

في كتابه "الوراثة في الإسلام"(ص 36).

ص: 699

المعنى الثالث: الأشخاص الذين هم من حيث المجموع أقربُ من غيرهم، وإن كان بعضهم أقربَ من بعض، أو قُل: الذين كلُّ فردٍ منهم أقربُ ممن ليس من الأقارب.

وأرجح هذه المعاني: الثالث؛ لأنه هو المتبادر، فإنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ، لم يُفهَم منه إلا المعنى الثالث. والأقارب والأقربون واحدٌ، بل لا نعلم لفظ "الأقربين" جاء لغير المعنى الثالث. وهاك إثبات مجيئه بالمعنى الثالث.

1 -

اقتصر عليه أهلُ اللغة، قالوا ــ والعبارة "للقاموس"

(1)

ــ: "وأقرباؤك وأقاربك وأقربوك: عشيِرتك الأدنَونَ". وقال في العشيرة

(2)

: "وعشيرة الرجل: بَنُو أبيه الأدنَونَ أو القبيلة". وكذا في "اللسان"

(3)

إلّا أنه قال: "وقيل: القبيلة".

وفي "شرح القاموس"

(4)

في "شعب": أن ترتيب بيوت العرب: شَعْب، فقبيلة، فعمارة، فبطن، ففخذ، ففصيلة". ونقل عن بعضهم أن الفصيلة هي العشيرة، وعن آخر أن العشيرة دون الفصيلة. وعلى كلِّ حالٍ فلا أقلّ من العشيرة، وهذا هو الصواب.

وأما قولهم: "وقيل: هي القبيلة"، فكأن قائله ــ والله أعلم ــ أخذه من

(1)

(1/ 114) ط. بولاق.

(2)

(2/ 90).

(3)

(6/ 250) ط. بولاق.

(4)

"تاج العروس"(3/ 134) ط. الكويت.

ص: 700

قوله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، مع ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزولها أنذرَ قريشًا أجمعَ

(1)

. وهذا يحتمل التأويل، قال الحافظ في "الفتح"

(2)

: يحتمل أن يكون أولًا خَصَّ اتباعًا لظاهر القرآن، ثم عمَّ لما عنده من الدليل على التعميم، لكونه أُرسِل إلى الناس كافَّةً.

أقول: وعلى هذا فالوصف في الآية كاشفٌ فقط، بل ليس بوصفٍ، وإنما هو بدلالة الأقربين قد تجرَّد عن الوصفية، وغلب في استعمالِه استقلالُه. ويؤيد هذا أنه لو كان وصفًا لطابق لفظ "العشيرة"، بأن يقال:"القُربَى" مثلًا.

ومما يؤيِّد أن العشيرة اسم لأقلِّ العقود في النسب قولُه تعالى في التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ

} الآية [24]، وقوله عز وجل في سورة المجادلة:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [22].

ويؤيده أيضًا أن اشتقاقه من العَشرة، وهي أول عَقدٍ في العدد. هكذا ينبغي توجيه الاشتقاق، فالعشيرة أولُ عقدٍ في النسب، وكذلك الأقربون.

وقد أوضح الإمام الشافعي معنى هذا في "الأم" في باب الوصية للقرابة (ج 4 ص 38)

(3)

، فمثَّل بنسبِ نفسه، فذكر أولًا بني عبد مناف، ثم

(1)

أخرجه البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206) عن أبي هريرة.

(2)

(5/ 382، 383). وفيه: "اتباعًا بظاهر القرابة" وهو تصحيف.

(3)

(5/ 239) ط. دار الوفاء.

ص: 701

ذكر أنهم تفرقوا، ومن جملة الفِرق بنو المطلب، ثم أخذ يُسلْسِلُهم إلى أن بلغ ببني السائب بن يزيد، فذكر أنهم تفرقوا إلى: بني شافع وبني علي وبني عباس، ثم قال: "فإذا كان من آلِ شافعٍ فقال: لقرابته

(1)

، فهو لآلِ شافعٍ دونَ آل علي وآل عباس، وذلك أن هؤلاء يتميزون ظاهرَ التمييز من البطن الآخر، يعرف ذلك منهم إذا قصدوا آباءهم دونَ الشعوب والقبائل في آبائهم، وفي تناصرهم وتناكحهم".

فالحاصل أن الأقرباءَ والأقارب هم أدنى فصيلةٍ للرجل يختصون باسم، ولا عبرة بعدد الآباء. ففي مثال الشافعي لم يكن بنو السائب أقاربَه، لأنهم قد تفرعوا فروعًا اختصَّ كلُّ منهم باسم ........................................ .................................................

بخذلانهم في واقعة شعب ....... بل كان أقاربه صلى الله عليه وسلم بني هاشم؛ لأنهم ............ بني المطلب لمكان الموالاة، [كما] في "صحيح البخاري"

(2)

عن جبير بن مطعم.

وأقول: كان بنو عبد منافٍ شَعبًا واحدًا، فتفرعوا، فلما جاء الإسلام وخذل

عبد مناف بني هاشم وبني المطلب، لم يكن بُدٌّ من التميز .... ، والله أعلم.

2 ــ في "الصحيحين"

(3)

عن أنس في قصة أبي طلحة في تصدُّقِه ببَيْرُحَاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "

وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". قال

(1)

أي إذا أوصى بماله فقال: "هو لقرابتي".

(2)

رقم (3140، 3502، 4229) بلفظ: "إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد".

(3)

البخاري (1461) ومسلم (998).

ص: 702

أنس: فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسولَ الله، فقسمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمّه".

وفي أكثر الروايات أنه جعلها لحسان بن ثابت وأُبي بن كعب، وحسَّان أقربُ إليه. وفي رواية للبخاري

(1)

: "فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، وكان منهم حسَّان وأُبي بن كعب". وجاء من وجهٍ ضعيفٍ

(2)

زيادةُ أوس بن ثابت أخي حسان، أو ابنه شدّاد بن أوس ونبيط بن جابر، وهؤلاء الأربعة يجمعهم مع أبي طلحة مالك بن النجّار، وبعضهم أقرب إلى أبي طلحة من بعضٍ.

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الجواب من قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ

}. وكان والدا أبي طلحة قد توفيا، وبنو مالك بن النَّجار هم أقربُ فصيلةٍ لأبي طلحة.

3 -

وفي "الصحيحين"

(3)

عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فِهر! يا بني عدي!

" لبطون قريش.

ونحوه في "الصحيحين"

(4)

أيضًا عن أبي هريرة، وذكر فيه: "يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! يا بني عباس بن عبد المطلب! يا صفية عمة

(1)

رقم (2758).

(2)

ذكره محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب المدينة كما في "الفتح"(5/ 381).

(3)

البخاري (4801، 4971) ومسلم (208).

(4)

البخاري (2753، 3527، 4771) ومسلم (204، 206).

ص: 703

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! يا فاطمة بنت محمد! ". وقد قدمنا توجيهه في الكلام على العشيرة.

ثم إن المعنى الأول لا يصح في آية الوصية؛ لحديث البخاري

(1)

وغيره عن ابن عباس قال: "كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين". وسيأتي إن شاء الله تعالى أن حُكمه الرفع. وهو صريح في أن الولد لم يدخلوا في الأقربين، فلم يبقَ إلا الوالدان، وقد ذُكِرا نصًّا، فلا تبقى فائدة لذكر الأقربين، بل يكون في معنى عطف الشيء على نفسه.

وكذا لا يأتي في قوله عز وجل: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] على تفسير {أَنْفُسِكُمْ} بأولادكم، ويشهد له ظاهر لفظ {شُهَدَاءَ} وأن الاعتراف قد تضمنه قوله:{قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} .

وكذا لا يأتي في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]، فإنهم إنما سألوا عن النفقة التي هي من قبيل الصدقة، ونفقتهم على أولادهم داخلة في نفقتهم على أنفسهم، وإذا كبر الأولاد فالغالب أن يكونوا مستولين على أموال آبائهم، أو يكون الوالدان قد شاخا وعجزا والأولاد أغنياء أو أقوياء، فيكون الوالدان هما المحتاجين إلى أولادهما.

(1)

رقم (2747، 4578).

ص: 704

على أن حديث أنس السابق هو في معنى تفسيرٍ لهذه الآية، وقد علمتَ أنه لا يأتي إلا على المعنى الثالث.

والمعنى الثاني ــ مع ما فيه من التقييد المخالف للظاهر، وكون الأدلة التي ذكرناها في ترجيح المعنى الثالث تردُّه ــ يلزم عليه مخالفةُ آيات المواريث لآية الوصية في المستحقين. وبيانه: أن الأقربين في آية الوصية وارثون، وفي آيات الميراث موروثون، فمعنى آية الوصية على المعنى الثاني: أن يوصي المحتضر للوالدين والأشخاص الذين هم أقربُ إليه عند الاحتضار. فيخرج ابن الابن إذا كان هناك ابن آخر أو بنت أو أب، فلا يكون ابن الابن على هذا مستحقًّا. ومعنى آية الميراث: للرجال نصيبٌ يَرِثُه كلٌّ منهم مما ترك والداه أو شخص أقربُ إليه ممن ترك بعده، فيدخل الجدّ في المثال المتقدّم، فيكون ابن الابن في ذلك المثال مستحقًّا. وكذلك يخرج من آية الوصية ابنُ الأخ إذا كان لعمّه المحتضر أولاد؛ لأنه ليس بأقرب إلى عمّه المحتضر، ولكنه يدخل في آيات الميراث، لأن المتوفى أقرب إليه ممن ترك بعده إذا كان ابن الأخ منقطعًا. وهناك صورٌ أخرى لا نُطيل بذكرها.

وهذا كافٍ في إبطال المعنى الثاني في آيات الوصية والميراث، لأن آية الوصية كانت قائمة مقامَ بعض التوريث عندنا، وقائمة مقام التوريث أبدًا عند الجيراجي، فيجب عدمُ مخالفتها لآيات المواريث في تعيين المستحقين.

ويحتمل أن يُورَد على المعنى الثالث أمورٌ:

منها: أن الظاهر أنه بمعنى "ذوي القربي"، لم يقصد التفضيل فيه مع أن الصيغة صيغة التفضيل.

ص: 705

ومنها: أن المعروف في المواريث أنه لو انقرضَ آلُ شافع في مثال الشافعي إلا واحدًا فمات، وعرف عصبة من الفريقين الآخرين آل علي وآل عباس، دُفِع ميراثه إليه، مع أن الآية خصَّت الأقربين.

ومنها: أنه يكون ظاهر العموم استحقاق كلِّ واحدٍ منهم ولو اجتمعوا، وهو غير مرادٍ قطعًا.

والجواب عن الأمر الأول: أنهم وإن لم يكن كل واحد منهم أقرب مطلقًا فالمجموع أقربون. بل نقول: إن كل واحدٍ أقرب أي ممن لم يدخل في المجموع، كما إذا قلنا: إن أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم بنو هاشم، فإننا نقول: أبو سفيان بن الحارث أقرب من أبي سفيان بن حرب.

ومع هذا فقد ثبت ورود "الأقربين" بالمعنى الثالث كما قدَّمناه، وورد نظيره في احتمال ورود هذا الاعتراض عليه، كقولهم في تفسير "العشيرة": بنو أبيه الأدنَون بصيغة التفضيل.

وعن الأمر الثاني: بأن الآية خرجت مخرجَ الغالب، والغالب أن العشيرة لا ينقرض كلُّها.

ومع هذا فالآيات لم تنزل للتحديد المفصّل، وإنما نزلت في مقاماتٍ لا يضرُّ في مثلها الإجمال. أما في آية الوصية فلأنها كانت موكولةً إلى نظر الموصي يجتهد رأيه، وقد علم الله عز وجل أنها ليست حكمًا دائمًا، وإنما هي تدريج اقتضته الحكمة، فاغتُفِر ما يقع فيه من الجنف والإثم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأما في آيات المواريث فلأن قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33]، وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ

ص: 706

وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] هو مجمل على كل حال؛ لأن النصيب مجهول يحتاج إلى بيان، وبيان النصيب لابدّ أن يصحبه بيان المستحقين.

وعن الأمر الثالث: بأن تخصيص العمومات غير مستنكر، وقد قيل: ما من عامّ إلّا وقد خُصِّص. وهذا اللفظ ــ أعني "الأقربين" ــ لابدّ من تخصيصه على كل حال، حتى لو حُمِل على أحد المعنيين الأولين، وذلك في الكافر والقاتل.

وعلى المعنى الثاني لابدّ من التخصيص؛ لأنه يدخل في آيات المواريث ابنُ الأخ المنقطع وإن كان لعمّه المتوفى أولاد، وكذا يدخل الأخ للأم مع وجود الأولاد والأب، ويخرج العمّ الذي له ولد ولو لم يكن هناك وارثٌ غيره، لأن ولده أقرب إليه من الميت، وغير ذلك.

وقال الجيراجي (ص 25): "والمراد بالأقرب أن لا تكون واسطة بينه وبين المورث، إما مطلقًا، أو كانت لكن انتفت قبل وفاة المورث".

فإن أراد أن هذا معنى مستقل للأقربين فممنوع، وإن أراد المعنى الثاني بعد إخراج بعض الصور بالتخصيص ففيه ما تقدم. على أنه قال في (ص 11):"لأن قرابة بني الأعيان إلى المورث من جهتي الأب والأم معًا، فهم أقربون إليه من بني العلّات".

الظاهر أنه يريد الاستدلال بالقرآن على حَجْبِهم، فكان الصواب أن يقول: لأنه أقرب إليهم منه إلى بني العلات. وعلى كل حالٍ فهذا معنى آخر غير الذي قدَّمه، فإن هذا مبني على أن الأفضلية .... القرابة، وما تقدم مبني على الأفضلية في قرب القرابة، وهما معنيان متنافيان، فإن تلخيص الأول

ص: 707

كون الميت أقرب إلى الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة الشخص ممن ترك بعده، وبعد التخصيص أن لا يكون بينهما واسطة حية، وتلخيص الثاني كون الميت أقربَ إلى الشخص منه إلى غيره. وبَنى على الأول توريثَ ابنِ الابن مع ابنٍ آخر، وعلى الثاني حَجْبَ الإخوة لأمٍّ بالأشقّاء والإخوة لأب، وحَجْبَ الإخوة لأبٍ بالأشقّاء.

وأنتَ إذا تأملتَ وجدتَ صنيعَه متناقضًا، فإن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنِه من سائر الناس، فإنه ــ أعني الميت ــ أقربُ إلى ابنه منه إلى ابن ابنه. والميت وإن كان أقرب إلى شقيقه منه إلى أخيه لأبيه، فهو أقرب إلى أخيه لأبيه من سائر الناس.

الحاصل أن الميت وإن كان أقربَ إلى ابنِ ابنهِ بالمعنى الأول، فليس بأقربَ إليه بالمعنى الثاني، وهو وإن لم يكن أقربَ إلى أخيه لأبيه بالمعنى الثاني، فهو أقرب إليه بالمعنى الأول. فتوريثُ الجيراجي ابنَ الابن مع ابنٍ آخر ــ مع إسقاطه الأخَ لأمٍّ بالشقيقِ أو الأخ لأبٍ، وإسقاطه الأخَ لأبٍ بالشقيقِ ــ متناقضان، واحتجاجه بالآية في الموضعين تهافُتٌ كما تراه. وعلى كلِّ حال فكلا المعنيين مردود لما قدَّمنا.

واعلم أن الأقربين بالمعنى الثالث لا يدخل فيهم الوالدان ولا الأولاد، بدليل أنك إذا قلتَ: هؤلاء أقاربُ زيدٍ تبادر إلى الذهن أنه ليس له فيهم ولد ولا والد. ووجهُ ذلك ــ والله أعلم ــ شدّةُ قرب الولد والوالد، حتى كأنهما مع الشخص شيء واحد، كما يتحصل مما مثَّل به الصحابة رضي الله عنهم في مسألة الجد والإخوة.

ص: 708

وما استدلّ به على دخولهم من حديث "الصحيحين"

(1)

في إنذاره صلى الله عليه وآله وسلم ابنتَه عليها السلام مع مَن أنذر عند نزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} مدفوعٌ بمثلِ ما تقدم في الجواب عن إنذاره سائرَ بطونِ قريش.

ولا ضرر في عدم دخول الوالدين والأولاد في لفظ الأقربين في آية الوصية وآيات الميراث، فإن الوالدين قد ذُكِرا نصًّا في أربعة المواضع، والأولاد في آية الوصية غير مرادٍ دخولهم، لحديث البخاري وغيره عن ابن عباس الآتي إن شاء الله تعالى، وفي آيات الميراث تُرِك ذِكرُهم لأنهم مورثون، وإثباتُ ميراث الرجال والنساء من الأقربين يُفهم منه إرثُهم من أولادهم من باب أولى.

وفي هذا نكتة حسنة، وهي أن ما يأخذه أحد الأبوين من مالِ ولده كأنه ليس بميراث استحقَّ بالموت، بل هو حقّ ثابت على كل حال، من باب "أنت ومالُك لأبيك"

(2)

، فيكون في هذا الحثُّ على البرِّ بالأبوين.

بل لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع بدليل التبادر أيضًا، وإعطاءُ أولادِ فاطمة عليها السلام من سهم ذوي القربى إنما هو لكونهم أبناءَ ابن عمِّه عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا يُسهَم لأبناء الهاشمية من غير هاشمي من خُمُس ذوي القربى.

بل قيل: إنه لا تدخل فيه النساء، وليس في المواضع الأربعة ما يدلُّ على دخولهنَّ.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه أبو داود (3530) وابن ماجه (2292) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

ص: 709

أما آية الوصية فيحتمل ــ بل هو الظاهر ــ أنها نزلت قبل أن يفرض الله عز وجل للنساء نصيبًا، فهي مُقِرَّةٌ لعادتهم من حِرمانِ الإناث، غايتُها أنها أثبتت للأم لمزيد استحقاقها.

وأما آيات المواريث فلأن لفظ الأقربين فيها مورثون، فالمعنى أن المرأة ترث من أمها ومن ذوي قرابتها، ولكنا نقول: لا مانعَ من أن تدخل فيه النساء تبعًا، كما يدخلن في "قوم".

ولا يدخل فيه أقارب الأم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُسهِم لأقاربِ أمِّه من سهم ذوي القربى.

رجعنا إلى تفسير آية الوصية:

قال تعالى: {وَالْأَقْرَبِينَ} قد علمتَ مما بسطناه في فصل الأقربين أن الراجح بل المتعين في تفسيره أن المراد به هنا مَن له قرابة بالمحتضر، بأن يكون من أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسم. وقدَّمنا أنه لا يدخل فيه أحدٌ من الأصول والفروع ولا أقارب الأم، وأيَّدنا عدم دخول الولد في آية الوصية بحديث البخاري وغيره عن ابن عباس، وسيأتي موضَّحًا في النسخ إن شاء الله تعالى.

ومع هذا فالظاهر بل المتيقن أن الوصية للأولاد وإن لم تَشمَلْها الآية كانت جائزةً أولَ الإسلام، وكان للرجل أن يُوصيَ لأولادِه ويُفضِّلَ بعضَهم على بعض، وإنما الفرق أنه لم يكن لوالديه ولقريبه شيء إلّا إن أوصى، وكان الأولاد يأخذونه وإن لم يُوصِ. والله أعلم.

ص: 710

{بِالْمَعْرُوفِ}

هو ما يعرفه العقلاء ولا ينكرونه، يريد ما يقتضيه العدلُ والحكمة.

{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

ظاهر.

قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} أي الإيصاء {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} عَلِمَه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم تبديله {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فهو يسمع ما يقال فيما يتعلق بالوصية وتنفيذها أو تبديلها، ويعلم ما يُفعَل في ذلك، فيُجازي كلًّا بما يستحقُّ.

{فَمَنْ} أي إنسان {خَافَ} عَرف، كما في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35]، {مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} أي ميلًا إلى مَن لا يستحق أصلًا أو لا يستحقّ الزيادة، ظنًّا من الموصي أنه مستحقّ، {أَوْ إِثْمًا} بإيصائه لمن لا يستحق أصلًا، أو زيادته مَن لا يستحق الزيادة، مع علم الموصي بعدم الاستحقاق، وإنما يُؤثِره محبةً له أو بُغضًا لغيره، {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} إما في حياة الموصي ليحمله على تغيير الوصية، أو بعد وفاته ليُسقِطَ بعضَهم سَهْمَه أو بعضَه عن طِيب نفسٍ، كما هو مقتضى الصلح، {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وإن كان إطلاق قوله:{فَمَنْ بَدَّلَهُ} يتناوله ظاهرًا؛ لأن المراد هناك: مَن بدَّله بمجرد الهوى أو بدون رضا الموصي أو الموصَى لهم، وهذا ليس كذلك. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمذنب ويرحمه، فضلًا عمن لم يُذنب، والله أعلم.

ص: 711

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} أي يقاربون الوفاة، {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فلْيُوصُوا، أو فعليهم {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} بمالٍ يتمتعن به {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} الواجب عليهن تربُّصُه. وهذا قبل نزول قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}

(1)

.

قال الله عز وجل: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ

} الآيات.

قد بينّا في المقدمة عادة أهل الجاهلية في عدم توريث النساء والصبيان، وأن آية الوصية لم تعرض لتعديل تلك العادة في غير الأم.

وفي هذه الآية إبطال تلك العادة، ولهذا ــ والله أعلم ــ اقتصر هنا على إثبات النصيب للرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر النصيب من الولد؛ لأنه كان قد تقرر في الجملة بآية الوصية، فافهمْ.

وعبَّر بالرجال مع ذكر ما يدلُّ على شموله للصبيان كما يأتي إن شاء الله تعالى، مع أنهم كانوا يثبتون ميراث الرجال أعني البالغين، وذلك لئلا يُتوهَّم نفيُ استحقاقهم.

{لِلرِّجَالِ} أي جنسهم الشامل للصبيان، دلَّ على ذلك أمور، أحدها: إثبات النصيب للنساء، وهو يقتضي ثبوتَ النصيب للصبيان من باب أولى؛ لأنهم كانوا يعلِّلون حرمان الصبيان والنساء بعدم الإطاقة للقتال والنصرة، وهذا مستمر في النساء، فأما الصبيان فإنهم وإن لم يطيقوه حالَ الصغر

(1)

بعده بياض كبير في باقي الصفحة، وكأن المؤلف كان يريد مزيد تفسيرٍ للآية فلم يجد وقتًا لإكماله.

ص: 712

فسيطيقونه عند الكِبَر، فإلغاء هذه العلة في النساء يقتضي إلغاءها في الصبيان من باب أولى. وباقي تلك الأمور سيأتي في سياق الآيات إن شاء الله تعالى.

{نَصِيبٌ} ثابت للرجل {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداه، وقد تقدم بيان معنى الوالدين في آية الوصية، وهما الأب والأم، {وَالْأَقْرَبُونَ} إليه، وهم أدنى فصيلةٍ له تختصُّ باسمٍ، كما بيَّنّاه في فصله.

{وَلِلنِّسَاءِ} أي جنسهن {نَصِيبٌ} ثابت للمرأة {مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} أي والداها {وَالْأَقْرَبُونَ} إليها.

واعلم أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقولون في الذكور الكبار أنهم يرثون على كلِّ حال، وإنما كانوا يقولون: إنهم يرثون في الجملة، فلو أُريد في إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية أنه ثابتٌ لهم على كل حالٍ لصُرِّح بذلك، فلما لم يُصرَّح به وجاء إثبات النصيب للذكور الكبار في الآية مطلقًا عُلِمَ أنه ليس فيه ردٌّ عليهم من حيث الجملة، فظهر أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للذكور الكبار ثبوته في الجملة.

ولا يلزم من إقرارهم على الجملة إقرارُهم على التفصيل، كما لو قال لك قائل: في مكة علماء وليس في المدينة عالم، فقلتَ أنت: في مكة علماء وفي المدينة علماء، فأقررتَه على أن في مكة علماء، وقد تكون تخالفُه في تعيينهم وتعيين جهات اتصافهم ومقدارِه، وتقدُّمِ بعضهم على بعض، ولا يُفهَم من إقرارك إياه في ذلك الإجمال إقرارُك إياه في التفصيل.

وكانوا يقولون في الصبيان: لا يرثون البتةَ، وذِكْرُهم في القرآن هو ردٌّ على أهل الجاهلية، والردُّ إذا أُطلِق حُمِلَ على المناقضة، ولو أُريد المناقضة

ص: 713

وزيادة لنصَّ على ذلك، ولأفردهم عن الكبار.

ونقيض السالبة الكلية موجبةٌ جزئية، وهذا يقتضي أن المراد في الآية من ثبوت النصيب للصبيان ثبوتُه في الجملة. فتحصَّل من هذا أن المراد بالثبوت في الجملة الأولى الثبوتُ في الجملة، وأما الجملة الثانية فكما قلناه في الصبيان سواء، فثبت الإجمال في الجملة الثانية.

ويؤيِّد الإجمالَ في الجملتين أن البيان التفصيلي بالكتاب والسنة جاء قاضيًا بما يوافقه، فنصَّ على أن الرجل قد لا يرث قريبَه، والمرأة كذلك، والإجمال والتفصيل لا نسخَ فيه ولا رائحة نسخٍ، فهو أولى مما فيه ذلك، أعني الإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص.

ثم إن العموم في لفظ "الأقربين" يقتضي بظاهره أن الرجل يرِث في الجملة من كلِّ قريب له، وهذا صحيح على ظاهره، فما من قريبٍ لك إلّا ويُتصوَّر أن ترِثَه، وذلك فيما إذا لم يكن له قريبٌ غيرك مثلًا. وكذلك الحال في النساء، فما من إنسان إلّا ويتصوّر أن ترِثه عمتُه وخالتُه مثلًا، أعني ميراثَ ذوي الأرحام.

فإن قلت: إذنْ تختلف جهةُ ثبوتِ النصيب في الجملتين.

قلت: وما المانع من ذلك؟

وقال الجيراجي (ص 19 ونحوه ص 33): "دلَّت الآية على أن للنساء نصيبًا من تركة أبويهن

(1)

وأقربائهن

(2)

، كما أن للرجال نصيبًا منها، سواءً

(1)

الصواب: "آبائهن"، أو يقول: لكل واحدةٍ من أبويها، أو نحو ذلك. [المؤلف].

(2)

"أقرباء" جمع قريب لا جمع أقرب. والجيراجي يفرّق بين القريب والأقرب ههنا. [المؤلف].

ص: 714

كانت قليلةً

(1)

أو كثيرةً

(2)

، يعني أنه لا يجوز أن يَرِث رجلٌ قريب من المورث ولا ترث امرأة قريبة منه في تلك الدرجة".

أقول: قوله: "كما أن

" ليس من معنى الآية في شيء، فإن كان فَهِمَه من ذكر الرجال في الآية وأنهم إنما ذُكِروا ليمثّل بهم النساء فهو فهمٌ في غير محلِّه، فقد تقدم حكمةُ ذكرهم، مع أن لفظ "الرجال" في الآية يشمل الصبيانَ كما تقدم. وأهل الجاهلية لم يكونوا يعترفون بأنهم يرثون حتى يَحسُنَ تمثيلُ استحقاق النساء باستحقاقهم واستحقاق الكبار.

وإن كان فَهِمَه من اقتران الجملتين فقد تقرر في الأصول أن لا دلالةَ للاقتران، مع أنه لو قيل بها هنا لزم عليها ما لا يلتزمه الجيراجي ولا غيره.

وإن كان فَهِمَه من كون الجملة الثانية كالأولى سواء لم يزد في إحداهما قيدٌ ولا شرطٌ، فهو باطل أيضًا؛ لأنه لا يلزم من ذلك تشابهُهما في كل شيء. نعم هما متشابهتان في أن كلًّا منهما أريد بهما الإثبات في الجملة، ولكن هذا التشابه لا يقتضي التشابه في التفصيل، كما هو واضح.

وإن كان فَهِمَه من عموم لفظ "الأقربين" فقد قدَّمنا أنه إنما يفيد أنه ما من قريبٍ لرجلٍ إلّا ويُتصوَّر أن يكون له نصيبٌ مما ترك، وما من قريبٍ لامرأةٍ إلّا ويُتصوَّر أن يكون لها نصيبٌ مما ترك، والنصيب صادق بميراث ذوي الأرحام، فعموم الأقربين يقتضي ما ذكرناه. وفيه التشابه في الجملة كما تراه، ولا يلزم منه التشابه في التفصيل.

(1)

فيه ما فيه. [المؤلف].

(2)

فيه ما فيه. [المؤلف].

ص: 715

فثبوت النصيب في الجملة للرجل مقيَّد بقيودٍ وشروطٍ، وثبوت النصيب في الجملة للمرأة كذلك، وقد تتحد القيود والشروط وقد تختلف، وليس في نظم القرآن أدنى إشارةٍ إلى أنها لا تكون إلّا متحدة. فقول الجيراجي "يعني

" دعوى مجردة، والله المستعان.

ولما علم سبحانه وتعالى أن السامعين لهذه الآية سيظنون أنها تتميمٌ وتكميلٌ لآية الوصية، وأن المقصود منها إرشاد المحتضر إلى الوصية للصغار والنساء أيضًا= دفع ذلك بأمرين:

الأول: قوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} من المتروك {أَوْ كَثُرَ} ، وهذا مخالفٌ لقوله في آية الوصية:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} أي مالًا كثيرًا كما تقدم.

الثاني: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} مقطوعًا معينًا من عند الله عز وجل سيبيّنه فيما بعد، وهذا مخالف لقوله في آية الوصية:{بِالْمَعْرُوفِ} أي بحسب ما يراه الموصي.

وهذان الأمرانِ ظاهرانِ في نسخ حكم آية الوصية، ولو كان المقصود ــ ــ كما زعم الجيراجي ــ أن يُعمَل بهذه الآية حيث لا وصيةَ وأن آية الوصية لا تزال محكمةً، لمَا خالفَتْها في جعل النصيب هنا مما قلَّ أو كثُر وهناك مما كثُر فقط، ولمَا خالفتها في جعل النصيب هنا مفروضًا وهناك بالمعروف.

وقد زعم أنه إنما جُعِل بالمعروف في الوصية ومفروضًا في الميراث لأن المورث أدرى من غيرِه بمصالح ورثته، ولأن مراعاة المصالح الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة.

وهو مردود بأن المورث وإن كان أدرى فإنه يَعرِض له في الأهواء

ص: 716

والأغراض ما يُعمِي بصرَه ويُصِمُّ سمعَه، ويُوقِعه في الجنَف والإثم، كما شهدتْ به الآية نفسُها. ويكون غيرُه من صالحي جيرانِه وإخوانِه المطَّلعين على أحواله لسلامتهم من الهوى والغرض أقربَ إلى العدل والحكمة في وضع ماله في مواضعه، ولاسيَّما إذا أحيل ذلك إلى نظر قضاةِ المسلمين، فإنهم يكونون طبعًا علماء حكماء، فيكونون أعلم بمصلحة الموصي من نفسه. فلو لم يُرَد النسخُ لمَا فُرِضت الأنصباءُ، بل كان يُحال الأمرُ إلى القضاة والحكَّام.

على أن الجيراجي فسَّر قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا

} بقوله (ص 4): "أي إن عَلم أن الموصي في وصيته جنفَ عن الحق ومال إلى الإثم، فللمسلمين أو لقاضيهم حقٌّ في إصلاحها".

وهذا ينقض قولَه

(1)

: "إن المورث أدرى من غيره".

وأما قوله

(2)

: "إن مراعاة الأحوال الشخصية في القانون الكلي ليست بممكنة".

فجوابه: أن هذه الأحوال الشخصية لو كانت مراعاتها مقصودة كما زُعِمتْ لم يُشرع ذلك القانون الكلي، بل كان يُحال الأمر إلى قُضاة المسلمين.

ثم إن آية الوصية [لما] كانت عامةً لذوي القربى، والميراث الذي أُجمل في هذه الآية وبُيِّن بغيرها لا يَعمُّهم، وكان في الأمرين السابقين

(1)

"الوراثة في الإسلام"(ص 3).

(2)

المصدر نفسه (ص 4).

ص: 717

الدلالة على نسخ تلك الآية، أراد الله عز وجل أن يُثبِت لذوي القربى غير الوارثين ما يقوم مقامَ ما كان لهم في آية الوصية، حتى يستوفي ما بقي من فوائد الوصية، فيتمّ نسخُ حكم تلك الآية، فقال تعالى:

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} من المتوفى غير الوارثين، ولم يقل "الأقربون" ليشير إلى أن المراد هنا غير الوارثين، وذلك من تغيير العبارة، وأيضًا كثرة تكرار كلمة "الأقربون" يُوجِب كراهيةً في الكلام.

وأيضًا كلمة "الأقربون" لم تجئ في القرآن إلّا معطوفةً على الوالدين، أو صفةً لموصوفٍ مذكور في آية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، وعبَّر عنها في غير ذلك بأولي القربى ونحوها، ولعلَّ لذلك حكمةً، والله أعلم.

{وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} .

في البخاري

(1)

وغيره عن ابن عباس نفْيُ نسْخِ هذه الآية، قال: ولكنها مما تهاونَ الناسُ بها، وهما واليان: والٍ يرث وذلك الذي يرزق، ووالٍ ليس بوارثٍ، فذاك الذي يقول قولًا معروفًا إنه مالُ يتامَى وما لي فيه شيء.

وفيه شيء، فإن الظاهر أن الخطاب يعمُّ الوارثَ والوصيَّ بأن يرزق ويقول معروفًا معًا، غير أن الوصيّ يجب عليه الاقتصاد في العطاء. وإذا حملنا الأمر على الندب كما يشهد له الإجماع على عدم العمل، كان الأحوط للوصي أن لا يُعطي شيئًا، والله أعلم.

(1)

رقم (2759). وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور في سننه (576 ــ تفسير) والطبري في تفسيره (6/ 433) وابن المنذر (1412)، وابن أبي حاتم (3/ 874) وغيرهم.

ص: 718

ولم يقيّد هنا بترك المال الكثير كما في آية الوصية، لأنه لا حاجة لذلك هنا؛ لأنه لا يحضر القسمةَ من الأقربين التماسًا للرزق إلا المحتاجون منهم الذين يقبلون ما يُعطَون ولو قليلًا، ولعل في هذا إشارةً إلى النسخ أيضًا.

ولما انتهى حكم الوصية التي كانت مشروعةً، وأقام الله عز وجل مقامَها ما يُغني عنها وزيادة، أشار سبحانه وتعالى إلى كراهة الإيصاء بشيء من المال، فقال:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].

في "الدر المنثور"

(1)

: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدَّقْ من مالك وأعتِقْ وأعطِ منه في سبيل الله، فنُهُوا أن يأمروا بذلك. يعني أن من حضر منكم مريضًا عند الموت، فلا يأمره أن يُنفِق ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يُبيّن ما له وما عليه ويُوصي لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولدٌ ضِعاف يعني صغارًا، يخشى أن يتركهم بغير مالٍ، فيكونون عِيالًا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضَون به لأنفسكم ولأولادكم.

ونهْيُ الحاضرين عن حمل المحتضر على الوصية يدلُّ على نهيه ــ أعني المحتضر ــ عن الوصية، ولكن الآية تدلُّ على الكراهة فقط. وفي قوله:{ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} تنبيهٌ على شمول لفظ "الرجال" للصبيان.

(1)

(4/ 248). وانظر تفسير الطبري (6/ 447) وابن أبي حاتم (3/ 876، 877) والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 270، 271).

ص: 719

ثم قال سبحانه وتعالى مؤكِّدًا هذا المعنى، ومقيِّدًا الأمرَ برزق الحاضرين، ومنبِّهًا على وجوب حفظ أموال الصغار على كل حال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . وفي معنى الأكل إضاعتها، كإسراف الوصي في رزق حاضري القسمة، والتسبُّب في ضياعها بحمل المحتضر على الوصية، وغير ذلك. وفي هذه الآية تنبيهٌ أيضًا على شمول لفظ "الرجال" للصبيان.

ثم أراد سبحانه وتعالى تفصيلَ ما تقدَّم من الإجمال فقال:

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} أيها الرجال، كما يدلُّ عليه قوله فيما يأتي {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، وحكم الإناث كذلك بالقياس، {فِي أَوْلَادِكُمْ} كل رجل في أولاده، فالكلام على التوزيع كما في قوله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، أي ليغسلْ كلٌّ منكم يديه.

ولعل الجيراجي يزعم أن التقدير: (يوصيكم الله في) شأن (أولاد) من توفى منـ (كم). ويبني على هذا شبهته التي ذكرها (ص 4) بقوله: "أما إذا مات المورث بلا وصية، ولم يقسم ماله بين ورثته، فحينئذٍ يعمل بآية الميراث".

وتقرير هذه الشبهة بوجهٍ علمي أن آية الميراث على التقدير الأخير تعُمُّ المتوفى بدون وصية والمتوفى عن وصية، وآية الوصية خاصة في الثاني، والأصلُ في مثل هذا حملُ العام على الخاص، فيُعمل بالاثنين معًا: آية الوصية في معناها، وآية الميراث في الباقي، ولا نسخَ.

ص: 720

والجواب من وجوه:

الأول: أن التقدير الثاني مردود، لما فيه من الحذف، وخلافِ الظاهر، والصواب التقدير الأول.

الثاني: أن النسخ لازم حتى على زعم الخصم، لأن العام هنا متأخر عن الخاص، لا عن وقت الخطاب فقط، بل عن وقت العمل، ومثل هذا يكون العام فيه ناسخًا للخاص عند الحنفية وغيرهم، وأدلتهم مبسوطة في الأصول.

الثالث: أن أدلة النسخ كثيرة، قد مضى بعضها وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

واعلم أنَّ في هذه الكلمات أدلةً على النسخ.

أحدها: كونها من مادة الوصية، ففيه إشارة إلى أن هذه وصية المالك الحقيقي العليم الحكيم، ووصيتُه مقدَّمةٌ على وصية العبد المعرَّض للجنف والإثم. وأكد هذا الوجه بالتصريح بلفظ الجلالة وضعًا للظاهر موضعَ المضمر، وكان الأصل أن يقال:"أوصيكم".

ثانيها: كونها بصيغة المضارع. قال الحافظ في "الفتح"

(1)

: أفاد السهيلي

(2)

[أن الحكمة في التعبير بلفظ الفعل المضارع لا بلفظ الفعل الماضي الإشارة إلى أن هذه الآية ناسخة للوصية المكتوبة عليهم].

ثالثها: توجيه الخطاب فيه إلى الرجال من حيث هم مورثون، وهو أمرٌ

(1)

(12/ 3).

(2)

وضع المؤلف بعدها نقاطًا، وأشار إلى ص 14 رقم 3. ولم أجد الدفتر المشار إليه، فنقلت ما بين المعكوفتين من "الفتح".

ص: 721

لهم بتنفيذ هذا الحكم، والمراد من ذلك: إما أمرهم بالوصية على مقتضى هذه الآيات، وإما نهيُهم أن يوصوا بما يخالفها، والأول لا فائدة له، فتعيَّن الثاني. والمورث إذا لم يُوصِ بما يخالف وصية الله تعالى كان في معنى المنفِّذ لها، وهذا صريح في نسخ آية الوصية.

فإن قيل: يَخدِش في هذه الأوجه الثلاثة أن الله عز وجل إنما قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، وقد قدَّمتَ أن الأولاد غير داخلين في آية الوصية.

قلت: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} لا يختص بالأولاد، بل يتناول جميعَ ما ذُكِر في الآيات، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى. ثم قد تقدم أن الأولاد وإن لم يكونوا داخلين، فالظاهر بل المتيقن أن حكم الوصية كان شاملاً لهم من حيث الجواز، فكان للمحتضر أن يوصي لأولاده ويُفضِّل بعضَهم على بعض.

وهذه الأوجه تدلُّ على نسخ حكم الوصية مطلقًا، أعني التي كانت موجودة ولم تشملها الآية والتي شمِلَتْها الآية.

واعلم أن الظاهر كون الخطاب في الآية للذكور، ويؤيده قوله فيما يأتي:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ، ولكن حكم الإناث كذلك، كما دلَّت عليه قواعدُ الشريعة ثم الإجماع.

واعلم أن في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} وتناوُلِهِ الأبناءَ والآباء وبعضَ الأصناف ــ كما يأتي ــ إبطال

(1)

لاختراع الجيراجي في القول المبني على

(1)

كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه النصب.

ص: 722

زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله، فيُخرج من رأس المال، وميراث غيرهم فريضة، فيكون في الثاني بعد ميراث الزوجين. فإنه يُردّ بأن ميراث الأبناء والآباء وصية بدخولها تحت قوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ} . وسيأتي لهذا مزيدٌ إن شاء الله تعالى.

وفي "فتح الباري"

(1)

نقلًا عن السهيلي: "وقال: {فِي أَوْلَادِكُمْ} ولم يقل: "بأولادكم" إشارةً إلى الأمر بالعدل فيهم، ولذلك لم يخصَّ الوصية بالميراث، بل أتى باللفظ عامًّا، وهو كقوله: "لا أشهدُ على جور"

(2)

.

أقول: قد تقدم أن التقدير: " (في) شأن (أولادكم) "، وسيأتي أن التقدير فيما يأتي: "بأن يكون (للذكر

) ".

(الأولاد)

قد مرَّ في آية الوصية معنى الولادة، ونقول هنا: إن الأولاد جمع ولد، والولد مشتق من الولادة، فهو في الأصل مَن ولدتْه المرأة، ولكنه تُوسِّع فيه كما تُوسِّع في "والد"، فأُطلق بمعنى الابن، وبهذا الاعتبار نُسِب إلى الذكر، فقيل: هذا ولدُ زيدٍ.

ولا يلزم مما ذكرنا إطلاقه على ابن الابن حقيقةً، أما بحسب الأصل فواضح، فقد مرّ أن معنى الولادة وضْعُ المرأةِ حَمْلَها، ولا شكَّ أن هذا لا يصدُقُ إلا على الموضوع نفسه، فلا يقال حقيقةً: إن حواء هي التي وضعتْ جميع البشر، ولا أن جميع البشر قد ولدوا أو أنها تلد بعد موتِها.

(1)

(12/ 3، 4).

(2)

متفق عليه. أخرجه البخاري (2650) ومسلم (1623) من حديث النعمان بن بشير.

ص: 723

وأما بحسب الاستعمال المتوسَّع فيه فلِوضوح الفرق بين الابن وابن الابن، فلا يلزم من استعمال لفظٍ في الأول حقيقةً استعمالُه في الثاني كذلك، على أنه قد تقرر في الأصول أن القياس في اللغة باطل.

فتبيَّن بهذا بطلانُ قولِ الجيراجي (ص 36): "ومنهم من قال: إنه حقيقة في كليهما، وهو الحق؛ لأن الولد مشتق من الولادة فيشمل جميعَ مَن وُلِد من الأعلى إلى الأسفل، وولدُ الولدِ ولدٌ كما أن جزء الجزءِ جزءٌ".

وقوله: "كما أن جزء الجزء جزء" فلسفة غريبة تُحوِجُنا المناقشة فيها إلى الخروج عن الموضوع، فلندَعْها ولننظْر في مواضع الحجة، فنعرِض كلمة "ولد" على العلامات التي ذكرها العلماء للتمييز بين الحقيقة والمجاز.

وأظهر تلك العلامات هي التبادر عند عدم القرينة، والمتبادر حقيقة. وقد تأملنا مواقع كلمة "ولد" فتبيَّن أنها حقيقة في معنى "ابن"، إلّا أنها تُطلَق على الواحد والجمع. وذلك أنه لو أشار رجل إلى شخص قائلًا: انظروا إلى ولدي، تبادرَ إلى الأذهان أنه يريه أنه ابنه، ويبعد في أذهاننا أنه يريد أنه ابنتُه أو ابنُ ابنهِ، فإطلاقها على البنت وابنِ الابن مجاز. ويدلُّ على ذلك إنكارُ النفس أن يقال:"هذه ولدي"، إلّا إذا كان بمعنى أنها قائمة لي مقام الابن.

وقد استدلَّ بعض العلماء على عدم دخول البنات ببعض الآيات التي فيها الافتخار بالولد، كقوله تعالى .....

(1)

، نعم الجمهور على أن المراد بلفظ "ولد" في الآيات ما يصدق بالابن والبنت وابن الابن وبنت الابن وإن سفلا، وهذا ليس بحجة.

(1)

ترك المؤلف هنا بياضًا، ولم يذكر الآيات.

ص: 724

إذا تقرر هذا فقوله في الآية: {أَوْلَادِكُمْ} لا يتناول من حيث الوضع إلا الأبناء الذكور، دون الإناث ودون بني البنين، لكن السياق دلَّ على دخول الإناث، فكان بمعنى البنين والبنات، وجُمِعوا معًا على أولاد تغليبًا، كما جُمِعَ الآباء والأمهات على آباء، والأبناء والبنات على أبناء في هذه الآية كما يأتي إن شاء الله تعالى. وليس ههنا قرينةٌ تدلُّ على دخول ولد الولد، فالقول بذلك مخالَفةٌ للأصل والظاهر معًا، ويُبطِلُه أن القول بدخولهم يقتضي التسوية بينهم وبينَ الأبناءِ مطلقًا، فيُعطَى ابن الابن مع أبيه وأعمامه، وهذا باطلٌ اتفاقًا. وأيضًا فسّر الأولاد فيما بعدُ بالأبناء في قوله:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} ، وليس أبناء الأبناء بأبناءٍ حقيقةً، وإن أطلق عليهم أبناء مجازًا.

بأن

(1)

يكون {لِلذَّكَرِ} منهم {مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} منهم، عدَلَ عن "مِثْلَا حظِّ الأنثى" أو نحوه لفائدتين:

الأولى: التنبيه على أن الذكر يُعادِل انثيين في الاستحقاق.

الثانية: أنه سيأتي في الآية {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، فربما يتوهم أن قوله:"مِثْلَا حظِّ الأنثى" إشارة إلى هذا، والمراد الكلُّ.

الثالثة ــ وهي أهمها ــ: إفادة حكم الأنثيين إذا انفردتا، فإن أول الصُّوَر الداخلة تحت قوله:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} أن يكون الأولاد ذكرًا وأنثى، ففي هذه الصورة يأخذ الولد الثلثينِ، وهو بمقتضى الآية مثلُ حظِّ الأنثيين، ففيه الإشارة إلى أن الأنثيين قد تأخذانِ الثلثينِ في بعض الصور،

(1)

سياق الكلام: يوصيكم الله في أولادكم بأن يكون

، وتخلَّله تفسير "الأولاد" والرد على الجيراجي فيه.

ص: 725

وأيّ صورةٍ تلك إلّا صورة انفرادهما. وأكّد إرادة هذه الإشارة بعدم ذكر ميراث الأنثيين فيما سيأتي، بل نصّ على ميراث ما فوقهما وعلى ميراث الواحدة، فأفهمَ بذلك أن حكم الثنتينِ قد ذُكر في الآية، فليلتمسه العلماء.

وإذ قد عُلِم حكم البنتين إذا انفردتا، فهاكُم حكم ما فوقهما وما دونهما:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ} أكثر من {اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . هذا يُبطِل قولَ الجيراجي

(1)

في العول أن ميراث أحد الزوجين يؤخذ من رأس المال، ثم تكون الفروض منسوبةً إلى الباقي، فللبنتين ثلثا الباقي.

فإن قلتَ: إنه زعم أن ميراث الزوجين وصية من الله تعالى، فيدخل في قوله:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} .

قلتُ: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطال اختصاص ميراث الزوجين بكونه وصيةً من الله تعالى، ومع ذلك فالذي في الآية:{بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي} أي المورِث، لا مطلق وصية. ولا يفيده قراءة {يُوصَى} بالبناء للمفعول؛ لأنها مجملة، فتُحمل على المبيّنة؛ إذ الأصل الاتفاق.

وزعم الجيراجي أن لفظة "فوق" تدل على ما ذهب إليه من توريث أولاد الأولاد مع غير آبائهم من الأولاد، على الطريقة التي اخترعها، قال

(2)

: "ولفظة (فوق) ليست إلّا للتنبيه على طريقة التقسيم في مثل هذه الصورة؛ لأنه يدلُّ على الكسر

".

والطريقة التي ابتكرها سيأتي إبطالُها إن شاء الله تعالى في الحجب.

(1)

"الوراثة في الإسلام"(ص 23).

(2)

المصدر نفسه (ص 39).

ص: 726

وقوله: "كلمة فوق تدلّ على الكسر" ليس بلازم، وإنما هو بمعنى "أكثر من" كما هو معروف عند مَن له علم بالعربية. ثم إن تأويله هذا مع بطلانه لا يدفع الإشكال، وهو السكوت عن ذكر فرض الثنتين، وهلّا قيل: اثنتين فما فوقهما.

{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ميراث أولاد الأولاد في الحجب.

{وَ} في آبائكم، يُوصي الله كلَّا منكم في أولاده وفي أبويه {لأَبَوَيهِ} وبهذا علمتَ سبب التثنية والإضافة إلى ضمير المفرد الغائب مع قوله أولَ الآية {فِي أَوْلَادِكُمْ} ، فتأمَّلْه. ويؤيد هذا التقديرَ قولُه فيما يأتي:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} . والجملة مستقلة لا مبنية على ما قبلها؛ لأن الضمير يعود إلى الأحد المعلوم مما تقدم، وهو أحد مجرد، ويبيِّن هذا قوله:{إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، والمورث المفهوم من أول الآية ذو أولاد. وهكذا جميع الضمائر الآتية تعود إلى الأحد المجرد، وإن شئت فقلْ: إلى المورث. والمراد بالأبوين: الأب والأم، قيل لهما "أبوانِ" تغليبًا.

(الأب)

الأب معروف، ولا يُطلق على الجدّ إلا مجازًا، على هذا عامة أهل اللغة، وهو الذي يتعيَّن عند عرضِه على العلامات التي ذكرها أهل العلم لتمييز الحقيقة من المجاز، ولا ينافي ذلك ما ورد في الكتاب من إطلاقِه على الجدّ، فإنه مجاز، ولا جَعْلُ بعضِ الصحابة الجدَّ أبًا، فإن المراد أنهم جعلوه كالأب، ولا استدلالُهم بإطلاق القرآن عليه أبًا، فإنهم إنما استدلُّوا

ص: 727

بذلك لأن المجاز لابُدَّ له من علاقة، ولاسيَّما إذا كان في كلام العليم الحكيم، فإطلاقُه سبحانه وتعالى على الجدّ أبًا يدلُّ أنه كالأب، وهذه الدلالة مما يصلح لتمسُّك المجتهد إذا لم يجد أقوى منها.

نرجع إلى تفسير الآية:

{لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} مرَّ ما فيه من الدلالة. {إِنْ كَانَ لَهُ} المورث {وَلَدٌ} . مقتضى الظاهر أن يفسَّر "ولد" بابن، ولكن الجمهور [على] أن المراد: ابن أو بنت أو ابنُ ابنٍ أو بنتُ ابن وإن سفلا، وهذا من عموم المجاز كما تقدم. ومن المفسِّرين من يفهم معنى قوله:"والباقي للولد"، وأنت تعلم أن هذا ليس على إطلاقه، وإنما لهم الباقي بعد ميراث الأبوين وبعد ميراث أحد الزوجين، والتزام الإطلاق والتقييد تكلُّف، إلّا أن يقال: والباقي بعد الفروض التي لا تسقط للولد، وهو كما ترى.

فإن قلت: لكن ما ذكرتَ لا يرد على الجيراجي؛ لأنه يقول: إن ميراث الزوجين وصية داخل تحت قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} ، وأن الفروض منسوبة إلى ما بقي بعد فرض أحد الزوجين.

قلت: سيأتي إن شاء الله تعالى إبطالُ قوله هذا.

{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ} المورث {وَلَدٌ} قد تقدم تفسيره {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ، الجملة ــ قوله: "فإن

" ــ مستأنفة، لا مبنية على ما قبلها. {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} قدَّر بعضهم هنا: وللأب الباقي، وفيه مثل ما تقدم. والآية ظاهرة في أن للأم الثلث مع الأب، وإن كان هناك زوج أو زوجة، وعليه جماعة من الصحابة كعلي وابن عباس رضي الله عنهما، وهو الحق الذي لا ينبغي العدولُ عنه.

ص: 728

وتأوَّل عمر رضي الله عنه وغيره، فذهبوا إلى أن للأم ثلث الباقي بعد بقية ..... ، قالوا: لا تفضل الأم على الأب، ولا يكتفى بتفضيله عليها إلّا بأن يكون له مثلها.

وهذه معارضة للقرآن وللنظر، أما القرآن فظاهر، ودعوى أن المراد:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي فقط، تقدم ردُّها. وزَعْمُ الجيراجي أن الفروض منسوبة إلى ما بعد ميراث؟ ؟ ؟ ؟ وصي؛ لأن ميراثهما وصية، تقدمّ إبطالُها، ويأتي له مزيد إن شاء الله تعالى.

وأما النظر فلأن الأم أبلغ في الاستحقاق من الأب، وقد جاء في الحديث أن رجلًا قال: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال:"أمك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثم أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمّ أمَّك"، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمَّ أباك"

(1)

. وكيف لا يكون للأم هذه المزية وهي التي تحمله تسعةَ أشهر تتكبَّدُ فيها صنوف البلاء والمِحن، ثم تُرضِعه حولَينِ يمتصُّ فيهما قوَّتَها، ويَشْغَلُها عن أكلها وشربها ونومها، ويلطخها بقَذَرِه كلَّ يوم مرارًا. وشفقتُها عليه أضعاف شفقة الأب.

فأما قولهم: إنه غير معروف في الفرائض تفضيل أنثى على ذكرٍ في مرتبتها مجتمعين.

فيجاب عنه بأنه قد عُهِد التساوي في الإخوة لأم، وإنما لم يُعهَد تفضيل الأنثى لأن البنت مساوية للابن لا مزية لها، وتتقوى بوجوده وتعتضد كما

(1)

أخرجه أبو داود (5139) والترمذي (1897) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده حسن.

ص: 729

سيأتي، وكذا الأخت مع الأخ، وليس كذلك الأم مع الأب، فقد تقدم بيانُ مزيتها عليه، ولا يلزم من وجوده معها تقوِّيها واعتضادُه، إذ ربما يفارقها. فتدبَّر.

وسيأتي أن المواريث على ضربين: الأول: سببه استحقاق الصلة والمواساة، والثاني: سببه العصبية. وأن الله عز وجل جعل الفروض بإزاء الأول، والباقي بعد الفروض بإزاء الثاني. وسيأتي تفصيل ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا فلا بِدعَ أن يفرضَ للأم ضِعْفَي فرض الأب، لأنها آكدُ حقًّا منه. فأما تفضيله عليها إذا انفردا فإنما هو لأنها قد استوفت حقَّها وهو الثلث، فهو يستوفي حقَّه وهو السدس، ويأخذ الباقي تعصيبًا. فالسدس هو استحقاقه الذي لا ينبغي أن يُغضَّ عنه، وأما التعصيب فلم يأخذه باستحقاق الصلة، وإنما أخذه بالتعصيب، وإذا لم يحصل على هذا التعصيب في بعض الصور لم يجز لنا أن نعوِّضه مما فُرِض للأم باستحقاقها.

ولم يُصرَّح بأن له السدس فيما إذا لم يكن حقه ذلك إذ لا فائدة لذلك، لأنه لا يُخشَى أن يُنقَص عنه، وصُرِّح به حيث خِيفَ أن يُنقص أو يُحرَم منه، وذلك فيما إذا كان هناك ولد، فإنه إذا كان الولد ذكرًا أخذ الباقي بعد الفرائض، ويُحرم الأب لو لم يُسَمَّ له السدس.

وإذا كانت أنثى في: بنت

زوج

أم

6

3

2

لا يبقى للأب إلّا واحدٌ. وإذا كانت بنتان لا يبقى له شيء، فسمَّى الله

ص: 730

تعالى له السدس لذلك، والله أعلم.

{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} أي معًا كما هو ظاهر، ويحتمل أوجهًا:

1 ــ أنه قيدٌ لِيُفَهم منه أنه إذا انفردت الأم لم يكن لها الثلث، وفي هذا متمسَّك للجيراجي القائل

(1)

: إنها إذا انفردت كان لها حكم آخر.

2 ــ ليس قيدًا، بل جيء به لدفع ما يُتوهَّم من أن الأمّ لا تحوز الثلث حتمًا إلا إذا انفردت، فأما إذا كانت مع الأب فإنها لا تحوز إلّا مثل نصف ما يحوز هو، سواء أكان ذلك هو الثلث فيما إذا انفردا، أو السدس فيما إذا كان معهما زوج، أو الربع فيما إذا كان معهما زوجة. وهذا متمسَّكٌ لمن يخالف مذهب عمر في العمريتين.

3 ــ أنه قد يدعى أن فيه معنى الحصْر، أي وورثه أبواه فقط، فيُفهَم منه أنه إذا ورث معهما غيرهما، وذلك الغير لا يكون إلا أحد الزوجين، فلذلك حكم آخر. وفي هذا متمسَّك لمن يذهب مذهب عمر رضي الله عنه في العمريتين.

والثالث ضعيف؛ لأن فيه دعوى الحصْر، وليس هنا ما يفيده. والثاني أرجح من الأول، لما تقرر في الأصول أن مفهوم المخالفة لا يُعتدُّ به إلّا حيث لم يظهر للقيد فائدة غير نفي حكم غيره، وقد ظهرت هنا فائدة جليلة، وهي ما بيَّناها في الوجه الثالث، وفائدة أخرى، وهي الدلالة على أن الجملة ــ أعني قوله: "فإن لم يكن له ولد

" ــ مستقلة لا مبنيَّة على التي قبلها؛ إذ لو كانت مبنيَّة لكان المعنى: فإن لم يكن للمورث الذي له أبوان ولدٌ وورثه

(1)

في "الوراثة في الإسلام"(ص 41).

ص: 731

أبواه، وهو كما ترى، وفي هذا الإشارةُ إلى أن الجملة الآتية ــ قوله: "وإن كان له أخوة

" ــ مستقلة أيضًا.

{فَإِنْ كَانَ لَهُ} المورث {إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} الجملة مستأنفةٌ كما علمتَ، فالإخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مطلقًا، سواء أكان هناك أبٌ أم لا. وقد زعم قوم أن هذه الجملة مبنية على ما قبلها، كأنهم يعنون أن الضمير يعود على مُورِث مخصوص، أي الذي له أبوان، أو أن المعنى:(فإن كان له) مع ذلك أي مع الأبوين (إخوة)، وهو غير ظاهر، وقد تقدم ما يردُّه. وعلى تسليمه فليس فيه تقييد كما توهَّمه الجيراجي

(1)

، وإنما أريد به النصُّ على أن الأخوة يحجبون الأمَّ إلى السدس مع وجود الأب، ويُفهم منه أنهم يحجبون الأم مع عدم الأب من بابِ أولى، لأنهم إذا حجبوها مع ضعفهم بوجوده، فمع قوتهم عند عدمه أولى وأحرى.

(الإخوة)

اختلف الأصوليون في أصل الجمع: أهو اثنان أم ثلاثة، والصحيح أن العرب مختلفون فيه، ففي لسان قريش أن أقلَّ ما يصدق عليه "الإخوة" ثلاثة، كما صحَّ عن ابن عباس في مراجعته لعثمان

(2)

. وفي لسان الأنصار وغيرهم أنه يصدُق على اثنين، كما صحَّ عن زيد بن ثابت

(3)

. وفي القرآن مواضع نزلت بلغة قريش، ومواضع بلغة غيرهم، فإجماع الصحابة ــ وفيهم

(1)

في "الوراثة في الإسلام"(ص 41).

(2)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(6/ 465) والحاكم في "المستدرك"(4/ 335) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 227).

(3)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 335) والبيهقي (6/ 227).

ص: 732

أكابر المهاجرين من قريش ــ على الاعتداد بالاثنين دليلٌ على إرادة لغة الأنصار وغيرهم.

وزعم الجيراجي

(1)

أن المراد بـ"إخوة" الجنس، فيدخل الأخ الواحد والأخت الواحدة، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً

}، قال:"وهذا يتناول الأخ الواحد والأخت الواحدة بإجماع الفقهاء، مع أن الإخوة والرجال والنساء كلها جمع".

أقول: إجماعُهم على تفسير كلمةٍ بمعنىً في موضع لا يلزم منه كونها كذلك في جميع المواضع، ولاسيَّما إذا كان ذلك التفسير مخالفًا للأصل كما هنا، ثم إن الذين أجمعوا هنا هم الذين أجمعوا هناك، فكيف تحتجُّ بإجماعهم تارةً وتردُّه أخرى؟ الله المستعان.

فإن قلت: لم أُرد الاحتجاج، وإنما أردتُ الإلزام.

قلت: لا إلزام، فإنهم بحمد الله تعالى لم يُجمعوا على ما ذكرتَ في قوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} ، وإنما أجمعوا على أن حكم الأخ الواحد مع الأخت الواحدة للذكر مثل حظِّ الأنثيين، وحجتهم في ذلك القياسُ، لا تفسيرهم الجمع بالجنس. والله أعلم.

وحَجْبُ الإخوةِ الأمَّ مُفهِمٌ أنهم يرثون، إذ لا يحجبُ الوارثَ إلا وارث، مع أنهم حجبوا وارثًا قويًّا، وحجبُهم إياها نصٌّ صريح في أنهم يرثون معها؛ إذ لا يُعقل كونهم يحجبونها وهي تحجبهم، ولا نظير لذلك في المواريث، وإذا حجبوها مع ضعفهم بوجود الأب، فمع قوتهم بعدمه أولى وأحرى كما تقدم.

(1)

"الوراثة في الإسلام"(ص 43).

ص: 733

وأجاب الجيراجي عن هذا (ص 41 و 42) بأن الإخوة لا يرثون إلّا من كلالة، أي ممن ليس له ولدٌ ولا أبوان.

أقول: هذا التفسير باطل كما سيأتي.

ثم قال: "أما سبب التفريق فهو أنه عند عدم الولد والإخوة لما لم يكن الفرع مطلقًا انتقل حظُّه إلى أبويه".

أقول: هذا أمر تخيُّلي، بدليل حَجْبِ الولد للزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن، ولا كذلك الأبوان. وانظر المثال الآتي:

- ابن

بنت

زوج

1

2

(1)

1

- أب

أم

زوج

1

2

3

بنصّ كتاب الله تعالى

2

1

3

بتأويل عمر رضي الله عنه

وحَجْبُهم إيّاها إلى السدس يقتضي أنهم كالولد، لكن هذا في الاثنين منهم فما فوق، وبقي حكم الواحد والواحدة مجملًا.

وسكت هنا عن حكم الأب معهم، فاحتمل أن يكون إشارة إلى أنه يحجبهم.

فإن قيل: هذا لا يستقيم، لأنه قد سكت أيضًا عن حكمهما مع الزوجين.

قلنا: لكنه هنا بيَّن مواريث الأبوين، ثم ذكر حكم الأمّ مع الإخوة، فكان

(1)

كذا في الأصل وهو سبق قلم، والصواب العكس، للابن سهمان وللبنت سهم.

ص: 734

مظنَّةَ أن يذكر حكمُ الأب معهم، فالسكوت عن ذكره في مظنته لا يخلو من إشارةٍ إلى أن حكمه لا يتغير بوجودهم، وهو معنى الحجب. لكن تُعارضُه الآيةُ التي آخرَ السورة، فإنه شرط في توريث الإخوة عدم الولد، وسكت عن ذكر الأب، ففيه إشارة إلى أنه لا ينقصهم عن شيء كتب لهم.

ويرجِّح ما هنا أنه قال أولًا: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، ولم يقل:"أو إخوة"، فدلَّ أنهم لا يساوون الولدَ في حجب الأبوين، ثم ذكر حكم الأم معهم فقط، فدلَّ أن حكم الأب بخلاف ذلك، فهي دلالة مضاعفة. وما في آية الكلالة يقابل الدلالة الأولى فقط.

وقد يجاب: أن الدلالة الأولى غايتها إفهام أن الإخوة لا يحجبون كلًّا من الأب والأم إلى السدس، ثم أخرجت الأم، فبقي من الدلالة الأولى أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، وهذا لا يقتضي أنه يحجبهم، فبقيت الدلالة الثانية، أعني السكوت عن بيان حكمه معهم، وهي وحدها لا تقوى على معارضة دلالة آية الكلالة مع ما يعضدها، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ويُرَدُّ بأنه إذا سُلِّم أن الدلالة الأولى تقتضي أن الإخوة لا يحجبون الأب إلى السدس، فما يكون حكمه معهم إن جعلنا له ما بقي؟ كحاله مع أحد الزوجين كان معرضًا للسقوط، وكيف يسقط مع الإخوة ولم يسقط مع البنين؟

وإن قلنا غير ذلك كان تخرُّصًا بلا دليل، فوجب أن نرجع إلى النظر، نجد النظر يقتضي أن الإخوة لا يرثون مع الأب: أما إذا كانوا ذكورًا أو ذكورًا وإناثًا أشقَّاءَ أو لأبٍ فلأنهم عصبة، والأب أقرب تعصيبًا منهم. وأما إن كنَّ

ص: 735

إناثًا شقائقَ أو لأبٍ فلأنهن يَقْوَيْنَ بوجود الأب أشدَّ مما يَقْوَيْنَ بوجودِ أخٍ لهن، فيضعُفُ جانب الاستحقاق فيهن، فيرجعن إلى التعصيب، فيقدَّم الأب لأنه أقربُ تعصيبًا. وأما الإخوة لأمٍّ فلأن الله عز وجل إنما فرض لهم ممن يورث كلالةً، أي فيمن إذا كان له إخوة أشقَّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين. وقد علمت أن الأشقاء أو لأبٍ لا يرثون مع الأب، فلا يَرِث الإخوة من أمٍّ مع الأب.

فأنت ترى أن الأبوين لم يقوما مقامَ الولد.

وتفريقه بأن ميراث الزوجين وصية من الله، وباقي المواريث فريضة، لا يُجدِي، وسيأتي ردُّه إن شاء الله تعالى في العَوْل.

قال

(1)

: "أما مع الإخوة الذين هم فرعٌ لأصل المورث، ويقومون مقام فرع المورث عند عدمه".

أقول: ليس على إطلاقه، فإن الإخوة لا يحجبون أحدَ الزوجين، وإذا لم يحجبوه اختلفت المقادير، فلم يقوموا مقام الفرع.

قال

(2)

: "فنصيبُ كلٍّ من الأبوين لا يكون إلّا السدس، كما كان مع فرع المورث".

أقول: قد علمتَ أن الإخوة ليسوا بقائمين مقامَ الفرع في كلِّ شيء، ولم يحجبوا أحد الزوجين، وبالأولى أن لا يحجبوا الأب. بل لم يفرض الله عز وجل للأب قطُّ ثلثًا ولا ثلثين حتى يُحجَب إلى السدس.

(1)

"الوراثة في الإسلام"(ص 42).

(2)

المصدر نفسه (ص 42).

ص: 736

قال

(1)

: "لكن الإخوة لما كانوا يُدْلُون إلى الميت بهما، لا يصل إليهم حظُّ الفرع ما دام أحدهما موجودًا".

أقول: لا دليلَ على ذلك من النصوص، بل ولا من النظر؛ لأن النظر إما أن يكون قياسًا على ولد الولد مع أبيه، والجدّ مع الأب، والجدة مع الأم، فهو قياس مع الفارق؛ فإن إدلاءَ هؤلاء لا يُشبِهه إدلاءُ الإخوة بالأبوين. والإدلاء ضربان: أحدهما: ابن ابنك، وأبو أبيك. والثاني: ابن أبيك.

وحَجْبُ الأب للإخوة الأشقّاء أو لأبٍ في مذهب الجمهور ليس لأنهم يُدلُون به، بل لما سيأتي قريبًا أنهم لا يكونون معه إلّا عصبةً، وهو أقربُ تعصيبًا منهم، فهو مقدَّم عليهم، وعليه فلا تُقاسُ عليه الأم، لأنها ليست بعصبة.

وأما حَجْبُه للإخوة لأمٍّ فلأن الله عز وجل لم يفرض لهم إلّا ممن يورث كلالة، أي ممن لو كان له إخوة أشقّاء أو لأبٍ لم يكونوا محجوبين، وقد تبيَّن أن هؤلاء يُحجَبون بالأب.

قال

(2)

: "بل ينتقل

".

أقول: أما انتقاله إلى الأب فمسلَّم، لكن لكونه أقربَ عصبةً لا للإدلاء، فلا تُقاس عليه الأم، والله أعلم.

وهذا التقسيم يكون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} المورث.

(1)

المصدر السابق (ص 42).

(2)

المصدر نفسه (ص 42).

ص: 737

نقل الآلوسي

(1)

عن الفخر ما يفيد أن في هذا القيد دلالةً على نسخ آية الوصية، وعكسَ الجيراجي

(2)

فزعمَ أن فيه دلالةً على عدم النسخ، وسيأتي ذلك مبسوطًا في الموضع الرابع إن شاء الله تعالى.

{أَوْ دَيْنٍ} يكون عليه أي المورث، وفي تأخير الدين عن الوصية والإجماع على تقدمها ثم أدائه بحثٌ لا يُهِمُّنا؛ إذ ليس ذلك من مواضع الخلاف.

قال عز وجل: {آبَاؤُكُمْ} أيها الرجال المورثون {وَأَبْنَاؤُكُمْ} أي: هؤلاء المبيَّنُ ميراثُهم آباؤكم وأبناؤكم، {لَا تَدْرُونَ} أنتم أيها المورثون {أَيُّهُمْ} الآباء والأبناء {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} في الدنيا والآخرة، لقصور علمكم وما يغلب عليكم من الهوى، ولم يذكر "الإخوة" وإن كان قد تقدَّم الرمزُ إلى ميراثهم، لأنه ليس بيانًا تامًّا كما علمتَ.

وههنا دليلٌ على نسخ آية الوصية هاكَ بيانَه، وخصّ الآباء والأبناء لأنهم أخصُّ وألصقُ بالمورث، فإذا جُهِل حالُهم فحالُ غيرهم من باب أولى.

في تفسير الآلوسي

(3)

: وعن ابن عباس [أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر](ص 18 رقم 1)

(4)

.

(1)

"روح المعاني"(2/ 54). وانظر: "تفسير الفخر الرازي"(5/ 66).

(2)

انظر "الوراثة في الإسلام"(ص 43 ــ 44، 4، 7).

(3)

(4/ 228). وما بين المعكوفتين منه.

(4)

لم أجد الدفتر الذي يشير إليه المؤلف؛ ليُعْرَف تتمة الكلام.

ص: 738