الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* أركان الإرث وشروطه.
* باب أسباب الميراث.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
فقد سبق الحديث عن مقدمة الناظم رحمه الله تعالى، وهي مقدمة الكتاب، ثم ذكرنا مقدمة علم الفرائض وهي المبادئ العشر، ثم أخذنا مسألة لا بد من تقديمها، وهي أنه يتعلق بتركة الميت خمسة حقوق مرتبة، عرفنا معنى التركة في الاصطلاح والشرع، وترتيب الأول والثاني بينهما خلاف بين أهل العلم، والمذهب عند الحنابلة أن:
الأول: هو مُؤن التجهيز.
ثم الثاني: الحقوق المتعلقة بعين التركة سواءٌ كانت حقًّا لله تعالى أو لآدمي، وعند الثلاثة تقديم الحق المتعلق بعين التركة على من حيث الدليل.
والثالث: الديون المرسلة المطلقة في الذمة فهي الْمؤنة مؤخرة عن مُؤن التجهيز.
والرابع: الوصية في الثلث فما دونه لأجنبي وقد ذكرنا الخلاف فيما يتعلق بمتى يكون التراضي عن الزيادة فيما زاد على الثلث.
الخامس: وهو المقصود بالذات في هذا الفن وهو علم الفرائض الإرث، الإرث وهو المقصود بدراسة هذا الفن، وأما الأول والثاني والثالث والرابع هذه من قبيل الفتوى ويفتى فيها ولا يشترط فيها القضاء، وأما الخامس وهو الإرث فلا بد منه قضاء ونحوه، ولذلك اشتهر عند أهل العلم أن الفرائض ليست من قبيل الفتوى فلا يستفتى شخص في هذه المسائل إنما هي من قبيل القضاء.
الإرث له: أركان، وله شروط، وله أسباب، وله موانع. هذه أربعة مباحث.
الأول: في أركان الإرث.
والثاني: في شروط الإرث.
والثالث: في أسباب الإرث.
والرابع: في موانع الإرث.
الناظم رحمه الله تعالى بوّب للثالث والرابع، يعني: قال (بَابٌ). أو
…
(بَابُ أَسْبَابِ الْمِيْرَاث)، أي: وموانعه، لأنه ذكر أربعة أبيات البيتين الأولين في أسباب الميراث، والبيتين الثالث والرابع في موانع الإرث، أسباب الإرث وموانع الإرث، وأما الأركان والشروط فهذه لم يذكرها وقد ذكرها غيره فلا بد من ذكرها، إذًا الإرث له أركان، أَركان جمع ركنٍ وركنُ الشيء في اللغة جانبه الأقوى جانب الشيء الأقوى الذي يعتمد عليه يسمى ركنًا، وهذا يشترط فيه أن يكون داخلاً في جزء الماهية، وإن كان تعريفهم أنه جانب الشيء الأقوى لا يشترط فيه بالظاهر أنه يكون داخلٌ فيه الماهية، ولكن الذي يعنى به في الاصطلاح أنه جزءُ الماهية.
والركن جزء الذات، جزء الذات، يعني: جزء الماهية الداخل فيها بحيث تنتفي الحقيقة والماهية لانتفاء هذا الجزء سواء كان هذا الجزء حسيًّا أو كان معنويًّا، يعني: قد يكون الركن شيئًا مدركًا بالحس، وقد يكون الركن شيئًا معنويًّا، إذًا الركن في اللغة جانب الشيء الأقوى الذي يُعتمدُ عليه.
واصطلاحًا: المراد به الاصطلاح العرفي، يعني: الذي اصطلح عليه العلماء، وهذا قد يكون متحدًا في كثير من الفنون وقد يكون ثَمَّ افتراق بين الركن والشرط مثلاً أو السبب في بعض الفنون دون بعضها، يعني: قد تتداخل وقد تتفارق، والثاني هو الأشهر.
اصطلاحًا: الركن ما كان جزءًا من الشيء ولا يوجد ذلك الشيء إلا به.
والركن جزء الذات
هذا يكفي، إذا قيل بأن الركن هو جزء الماهية، علمنا الماهية المراد بها الذات، فهو داخلٌ فيها وليس بسابق عنها، ما كان جزءًا من الشيء ولا يوجد ذلك الشيء إلا به سواء كان هذا في باب المحسوسات أو في باب المعقولات، يسمى ركنًا إذا كان حسًّا ويسمى ركنًا إذا كان معقولاً.
والإرث له أركان ثلاثة لا يتحقق الإرث إلا بها.
ووارثٌ مورّثٌ مَوْرُوثُ
…
أركانُهُ ما دونها تَوْرِيثُ
ووارثُ موّرث مَوْرُوث هذه أركان ثلاثة لا يتحقق الإرث إلا بوجودها.
الركن الأول: المورِّث، وهو: الميت، الذي مات إذا عندنا تركة لا بد من أن تكون هذه التركة خلف، يعني: خَلَفَت الميت تركها وذهب إذا لم يكن ثَمَّ ميْتٌ أو ميّت حينئذٍ لا إرث، فينتفي الإرث بانتفاء الركن وهو المورث، إذا لم يكن عندنا مورّث وهو ميت حينئذٍ لا إرث، الأول المورث وهو الميت أو الملحق بالأموات حكمًا، يعني: قد لا يدرك حقيقةً أنه ميت لأن الموت كما سيأتي إما بالمعاينة وإما بالاستفاضة وإما بشهادة عدلين، هذه ثلاثة قد لا يكون إلا واحدة منها ويمثلون لذلك لمن حُكِمَ له بالموت حكمًا، يعني: لا حقيقةً، المفقود رجل ذهب فُقد وبقي عشر سنين بُحث عنه ولم يوجد خسة عشر سنة عشرين ثلاثين حينئذٍ يُحْكَمُ أو يَحْكُمُ القاضي بكونه قد مات فيفسخ العقد زوجته فَتُطَلَّق وتُزَوَّج وكذلك التركة حينئذٍ توزع على الورثة، نقول: هذا لم يثبت عندنا حسًّا ولا استفاضة ولا بشهادة عدلين أنه قد مات، ولكن ألحق بالأموات حكمًا، يعني: حكم القاضي لكونه قد مات، وإذا كان كذلك حينئذٍ تترتب عليه الأحكام التي تترتب على من مات حقيقةً، هذا يسمى ماذا؟ يسمى الملحق بالأموات حكمًا، وعكسه بالعكس، إذًا الأول هو المورث وهو الميت أو الملحق بالأموات حكمًا، يعني: ميت حقيقةً أو حكمًا، وهو من انتقلت التركة منه.
الركن الثاني: وارث، لا بد من وارث، مات هلك هالك وترك تركةًَ وليس ثَمَّ وارث، أين الانتقال؟ ليس عندنا انتقال، ليس عندنا قسمة مواريث، ليس عندنا فرائض، لماذا؟ لعدم وجود الوارث، إذًا الوارث ركن من أركان الإرث لا يحكم بانتقال المال من الأصل إلى الفرع من المورِّث إلى الوارث إلا عند وجود الوارث، فإذا انتفى حينئذٍ نقول: انتفى ركن من أركان الإرث فانتفى الإرث. الثاني وارث وهو الحي بعد المورِّث، أما لو مات قبله هذا لا يكون وارثًا، لو مات قبله لا يكون وارثًا، لأنه قد يكون وارثًا ويحكم عليه بكونه وارثًا، أي: ممن لو مات الميت لورثه، فالابن مثلاً مع أبيه، الابن وارث أو لا؟ وارث، لكنه لو مات قبل أبيه ثم مات أبوه يرثه أو لا؟ لا يرثه، لماذا؟ لكون الوارث قد مات قبل مورّثه، والشرط هنا أن يبقى الوارث بعد مورثه ولو بلحظة ولو بثانية، إذًا الثاني وارثٌ وهو الحي بعد المورث، مقصودهم بعد المورث أنه يحكم عليه في حال الحياة بأنه وارث، أي: ممن حكم الله عز وجل بأن هذا الشخص يرثُ هذا، يعني: له وصف الوراثة، لكن لا بد أن يكون حيًّا بعد الميت، فإن مات قبله ولو كان وارثًا من حيثُ الشرع من حيث جواز أن يكون وارثًا لكن هذا بشرط أن يموت المورث قبل الوارث، أو الملحق بالأحياء، عكس الأول ملحق بالأحياء، يعني: الأصل أنه قد مات، وهذا سيأتي في الشروط أنه قد يحكم للجنين بأنه ملحق بالأحياء، وهذا المراد به الجنين قبل نفخ الروح، فإذا هلك هالك مات ميت وزوجه حامل في الشهر الأول أو الثاني حينئذٍ نحكم لهذا الجنين بكونه وارثًا، وعندنا الشرط أن يكون الوارث حيًّا، يعني: ذا حياةٍ صاحب حياة، وإنما يكون كذلك متى؟ إذا نفخت فيه الروح، وأما قبل الروح فلا يوصف بكونه حيًّا، لكن هنا يعطى حكم الحي فيورَّث، إذًا مرادهم بالوارث الملحق بالأموات حكمًا الجنين قبل نفخ الروح فيه، وسيأتي في الشروط، إذًا الثاني وارثٌ وهو الحي بعد المورث أو الملحق بالأحياء، وهو من انتقلت التركة إليه، مورِّث انتقلت التركة منه إلى الوارث، والوارث هو من انتقلت التركة إليه، هو صاحب المال بعد موت الأول.
الركن الثالث: حقٌّ موروث، وهو التركة وإلا لو وُجد مورث ووارث ولا مال ماذا يصنع؟ لا شيء يتحسر، ليس عنده شيء، لماذا؟ انتفى هنا التوريث لانتفاء التركة، فإذا لم يكن ثَمَّ تركة حينئذٍ فات ركن، وإذا فات ركن نقول ماذا؟ زال الركن جزء الذات، زالت الذات من أصلها، وهو التوريث، إذًا هذه ثلاثة أركان.
ووارثٌ مورّثٌ مَوْرُوثُ
…
أركانُهُ ما دونها تَوْرِيثُ
حينئذٍ نحكم على الإرث بأنه قد حصل وانتقل المال من الأول إلى الفرع بوجود هذه الأركان الثلاثة، فإن انتفى واحد منها حينئذٍ بطل الإرث.
المبحث الثاني في شروط الإرث:
شروط جمع شرط، والشرط في اللغة: العلامة، ومنه أشراط الساعة، أي: علامات الساعة، {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] على نزاع هل هو شَرَطُ أم شَرْط على خلافٍ بينهم، لكن هذا هو المشهور عند الأصوليين وغيرهم إذا ذكروا الشروط قالوا: جمع شرطٍ. أشراط الساعة، يعني: علامات، حينئذٍ يكون الشرط في اللغة هو: العلامة، ومنه سمي الشُّرْطِي شُرْطِي لأنه له علامة تدل عليه، يَلْبَسُ لِبْسًا معينًا فإذا رأيته عرفت أنه شرطي، من أين؟ من لباسه، فلباسه علامة وإلا لو مشى هكذا بين الناس بشماغ وثوب ما تعرف أنه شرطي، لكن بلبس معين نقول: صار هذا اللبس علامة لكونه شُرْطِيًّا.
وأما في الاصطلاح: فهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدم لذاته.
هذا على المشهور عند الأصوليين وإلا ثَمَّ تعريفٌ آخر، ما يلزمُ، ما، يعني: وصفٌ أو شيءٌ يلزم من عدمه من عدم ذلك الوصف العدم، لأن هذه الشروط والأسباب إنما هي أوصاف، رتب الشرع عليها أحكام عند وجودها، ولذلك سبق معنا أن الحكم نوعان: حكم تكليفي، وحكم وضعي. هو حكم شرعي لكنه على قسمين: حكم تكليفي، وحكم شرعي.
الحكم التكليفي هو، ما هو؟ الواجب، والمندوب، والمباح، والمحرم، والمكروه.
والحكم واجب ومندوب وما
…
أبيح والمكروه مع ما حرُما
وأما الحكم الوضعي فهو: الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة، والفساد، والأداء، والقضاء، والإعادة. كلُّ هذه أحكام وضعية، فَرِّقْ بين النوعين، لأن الحكم الشرعي التكليفي مطالب به المكلف، يعني: إيجاده، وأما الحكم الوضعي في الجملة لا يطالبُ به المكلف، إذًا ما يلزم من عدم ذلك الوصف أو الشيء العدمُ، ولا يلزم من وجوده وجود إذا عُدم انعدم المشروط، فإذا قلنا الطهارة مثلاً شرط في صحة الصلاة، يلزم من عدم الطهارة عدم الصلاة، لماذا؟ لأن انتفاء الشرط هنا وهو الطهارة مُؤْذِنٌ بانتفاء المشروط فيه وهو الصلاة، هذا معنى أن الشرع رتب هذا على ذاك، رتب هذا الثاني وهو الانتفاء المشروط فيه لانتفاء الشرط، ولذلك ذكرنا فيما سبق أنه لا يحكم بالشرطية إلا بدليلٍ أخص من مطلق الوجوب، فليس كل نص دل على الوجوب نستدل به على الشرطية إلا من جهة أخرى فيها نزاع، وهي: أن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، وقد ذكرنا أن مما يحكم بكونه شرطًا إذا نهى الشرع عنه، فإذا نهى حينئذٍ نقول: النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وإذا كان كذلك حينئذٍ كل شيء نهى عنه الشرع ففعله يكون باطلاً، هذا الأصل، فالبيع المنهي عنه باطل، والصلاة المنهي عنها باطلة، فإذا صلى في وقت النهي نقول: هذه الصلاة قد وقعت في زمنٍ قد نهى الشرع عن إيقاع الصلاة فيه، فإذا أوقعها في ذات أو بين أثناء الوقت المنهي عنه حكمنا على الصلاة بكونها باطلة، لماذا؟ لأن النهي القاعدة العامة النهي يقتضي فساد المنهي عنه، إذًا نحكم بكون الصلاة قد انتفت لانتفاء الطهارة، ما الذي ربط بن هذا وذاك؟ هذه أوصاف عدم صحة الصلاة لعدم وجود الشرط، وصف فليس أمر تدركه بالحس، حينئذٍ نقول: هذا هو الحكم الوضعي، وضع هذا علامة على هذا، يعني: عدمُ وجود الطهارة، هذا وصف، دليل على عدم صحة الصلاة، فرتب هذا على ذاك، إذًا ما يلزم من عدمه العدم، العدم يعني: عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده من وجود الشرط هذا الوصف أو الشيء وجود ولا عدم، يعني: قد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وهذا لا لذات الشرط وإنما لأمر آخر لأمر ليس راجعًا لذات الشرط، فقد يتوضأ فإذا صلى الظهر نقول: صلاتك لا تنعقد. لماذا؟ هو قد أتى بالشرط، أما قلنا انتفاء الصلاة لانتفاء الطهارة؟ هنا وجدت، وجدت الطهارة ولم توجد الصلاة، لماذا؟ لا لذات انتفاء الشرط وهو الطهارة، وإنما لانتفاء شرط آخر وهو عدم دخول الوقت، إذًا ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، هذا يرجع إلى الوصفين وهو الوجود والعدم، لأنه [قد يُعدم لعدم، نعم] قد يُعدم المشروط لعدم الشرط لا لذاته، وإنما لوصف آخر، وقد يلزم من وجوده وجود لا لذاته وإنما لوصف آخر، فقيد لذاته يرجع إلى الوصفين.
الشروط ثلاثة عند الفرضيين معلومة بالاستقراء والتتبع، وهي في الجملة مجمع عليها، كما أن الأركان السابقة كذلك معلومةٌ بالاستقراء والتتبع وهي مجمعٌ عليها في الجملة.
الشرط الأول: موت المورِّث، يعني: تحقق موت المورث، قلنا: المورث هذا ركن، إذًا ما الذي زاد هنا؟ العلم تحقق كونه ميتًا نقول: هذا ركن، وقد يكون العلم به على جهة اليقين، أو الظن، أو الشك، العلم به، الإدراك يعني، قد يكون على جهة اليقين علم تحقق، وقد يكون على جهة الظن، وقد يكون على جهة الشك، أيُّ هذه الأحوال الثلاثة المعتبر؟ الأول والثاني، لا بد أن نتحقق أن المورِّثُ قد مات، لأنه صاحب المال، والأصل هو الحياة، الأصل أنه حي، واليقين لا يزول بالشك، فلا بد من شيء يحدث في النفس يسبب حكمًا بكون هذا المورِّث قد مات، وأما مجرد الظن فهذا لا يكفي في الحكم بانتقال التركة منه إلى مورثه إلى الوارث، إذًا تحقق موت المورث أو إلحاقه بالأموات، وهذا سيأتي، لأن ملكه باقٍ مُلْك مِلْك باقٍ ما دام حيًّا، فإن انتهت حياته انتهت ملكيته، فيدُهُ على المال لا زالت ما دام أنه حيٌّ حينئذٍ يده لا زالت، يعني: ملكيته لا زالت على ماله، ولا يُحكم بانتقال المال إلى غيره على جهة الفرائض الإرث إلا بتحقق موته أو إلحاقه بالأموات، إذًا موت المورِّث أو إلحاقه، ونقول: كما قلنا سابقًا حقيقةً، أو حكمًا، تحقق موت المورث حقيقةً، وهذا تأكيد للتحقق، أو حكمًا، يعني: إلحاقه بالأموات، والحكم أو التحقق هنا الحكمي المراد به المفقود، يعني: رجلٌ فُقِد ولا يعلم له أثر، حينئذٍ نظر الفقهاء قالوا: هذا إما أنه قد يكون ذهب إلى جهة يغلب عليها السلامة، أو الثاني، وعليه يترتب ماذا؟ يترتب في زمن الإمهال، متى يحكم عليه بكونه مفقودًا فيلحق بالأموات؟ نظر بعضهم إلى الأرض التي ذهب إليها، إن كان يغلب عليه السلامة كمن ذهب للتجارة مثلاً حينئذٍ بعضهم وضع له سبعين سنة وبعدها يحكم عليه بالموت، وبعضهم زاده وقال: تسعين سنة. وهذا قول عند الحنابلة، وبعضهم قال: لا، يُنظر إلى العرف. يعني: الغالب، «أعمار أمتي بين الستين والسبعين» .
وبعضهم أحاله إلى نظر القاضي، على كلٍّ خلاف، والمذهب الثاني أن يكون قد ذهب إلى أرضٍ لا يغلب عليها السلامة، حينئذٍ لا شك أن الزمن الذي يوضع للحكم بكونه مفقودًا أقل من الأول، كأن يكون قد ذهب للجهاد في سبيل الله مثلاً ومضت السنة والسنتان والثلاث هل ننتظر سبعين سنة أو تسعين سنة؟ لا، الأمر ليس كالأول، إذًا موت المورث حقيقة أو حكمًا أو إلحاقه بالأموات حكمًا كالمفقود إذا انقضت فيه مدة الانتظار، واختلفوا في مدة الانتظار على ما ذكرناه سابقًا وحكم القاضي بموته، ما هو أنت، ليس كل أحد وإنما القاضي، القاضي هو الذي يحكم بكون هذا مفقودًا وألحقه بالأموات، لأنه يترتب عليه أحكام شرعية فسخ النكاح تتزوج زوجته، حينئذٍ ينتقل ماله إلى ورثته، وحكم القاضي بموته، أو تقديرًا، وهذا فارق به بعضهم بأن ثَمَّ إلحاق بالأموات إما على جهة الحكم، وإما على جهة التقدير والنتيجة واحدة، فإنما جعلوا الحكم خاصًا بالمفقود، والتقدير خاص بالجنين، والنتيجة واحدة لا فرق بينهما، أو تقديرًا وذلك كالجنين الذي ينفصل من أمه ميتًا بسبب جناية عليها تُوجب الغرة، أي: نقدر أن الجنين كان حيًّا في بطن أمه ثم مات بسبب الجناية عليه، لأن العبرة بخروجه، يعني: متى نحكم على الجنين بأنه وارث؟ لا بد أن نتحقق وهو الشرط التالي لا بد من أن نتحقق أن الوارث كان حيًّا بعد موت مورثه، ومتى يكون إذا خرج من بطن أمه حيًّا حياةً مستقرة، لا بد أن يخرج من بطن أمه وهو حي، ولو بقي ثواني ثم مات حينئذٍ تحققنا من حياته، وأما إذا خرج ميتًا فالأصل أنه لا يرث ليست العبرة في الأصل ليست العبرة بحاله إذا كان في بطن أمه، وإنما بكونه موجودًا في الخارج، لأن الأحكام الدنيوية تكون في الخارج، فإذا خرج من بطن أمه إما أن يخرج ميتًا وإما أن يخرج حيًّا ثم يموت مباشرة، وإن بقي فلا إشكال فيه الحالة الثالثة، إن خرج ميتًا فالأصل فيه أنه لا يرث، لكن هنا قُدِّرَ [أنه نزل حيًّا ثم مات] أنه كان حيًّا في بطن أمه ثم خرج حيًّا هذا الأصل فيه، وإلا لا يحكم عليه، وهذه مسألة خاصة فيما إذا ما جنا جانٍ من ذكرٍ أو أنثى على بطن حاملٍ ثم أسقطت مباشرة أو بعده مع تألمها حكمنا بكون هذه الجناية ألحقت هذا الجنين بالحي ولكنها ليست حياة حقيقية، وإنما من جهة التقدير، إذًا التقديري إلحاق الميت بالحي نقول: هذا من جهة ماذا؟ من جهة التقدير، أو تقديرًا وذلك كالجنين الذي ينفصل من أمه ميتًا، يعني: خرج من بطن أمه ميتًا، بسبب جناية عليها توجب الغرة، أي: نقدر أن الجنين كان حيًّا في بطن أمه ثم مات بسبب الجناية ثم خرج ميتًا، وهذا في السابق كانوا لا يدرون الذي في بطن الأم هذا هو حي أو لا، ولذلك نقول: نقدر أنه كان حيًّا في بطن أمه، ثم ضربت الأم على بطنها فخرج هذا الجنين، في القديم ما كانوا يعرفون، ليس هناك، الطب فيه تطور أنهم يكشفون بأن هذا الجنين حي أو لا، فيحكم عليه أنه كان حيًّا في بطن أمه لعدم العلم الذي وُجد الآن، حينئذٍ إذا ضُربت بطن أمه فخرج ميتًا قدرنا أنه كان حيًّا، لأنه هو الأصل مع كوننا نجهل هل هو بالفعل حي أو ميت؟ لأنه قد يكون ميتًا في الأصل، لكن نقدر أنه كان حيًّا في بطن أمه لأنه
الأصل ثم ضُربت ثم خرج الجنين ميتًا، إذًا الأصل ما هو؟ الحياة، فلذلك يُوَرَّث، نقدر أن الجنين كان حيًّا في بطن أمه ثم مات بسبب الجناية ثم خرج ميتًا، والغرة عندهم هي عبدٌ أو أمةٌ تقدر بخمس من الإبل يأخذها ورثة الجنين سواءٌ كانت هذه الجناية عمدًا أو خطأً ذكرًا كان أو أنثى ألقت الحنين في الحال أو بقيت متألمةً حتى سقط، لكن لو علمنا بالوسائل المتطورة الآن أنه ميت قبل الضرب أنه قد مات ثم ضرب الجنين فسقط ميتًا هل يأخذ الحكم أو لا؟ الجواب: لا، إنما هذا يختص فيما إذا جُهِلَ قبل أن تضرب، فإذا ضربت حينئذٍ قلنا: الأصل هو الحياة، فإذا خرج ميتًا ألحقناه بالأحياء. إذًا الشرط الأول موت المورث حقيقةً أو حكمًا كالمفقود أو الجنين، فالحكم يكون في الأمرين.
الشرط الثاني: تحقق حياة الوارث بعد موت المورث، أو إلحاقه بالأحياء، هذه الشروط متمة للأركان، تحقق حياة الوارث بعد موت المورث أو إلحاقه بالأحياء، لماذا؟ لأننا سَنُمَلِّكُهُ هو سَيَمْتَلِك هذا المال، والملك إنما هو من صفات الأحياء أو الأموات؟ الأحياء، إذًا انتقلت الملكية من الميت لفوات الشرط وهو الحياة فلا بد أن ينتقل إلى حي، فالشرط الأول حينئذٍ يكون وصفًا للمورِّث، والشرط الثاني يكون وصفًا للوارث بأن يتحقق حياته، تحقق حياة الوارث بعد موت المورث أو إلحاقه بالأحياء، لأن التمليك يُشترط له الحياة، قالوا: ولو لحظةً. يعني: لو خرج هذا يقصدون به الجنين إذا خرج من بطن أمه حينئذٍ كما ذكرناه إما أن يخرج حيًّا أو ميتًا، الميت على التفصيل السابق، حيًّا هل يشترط في كونه وارثًا أن تستمر حياته أو يكفي أنه يخرج صارخًا أو أنه يخرج حيًّا حياةً مستقرة، ثم إذا مات بعد ذلك حينئذٍ نقول: خرج حيًّا فثبت له الإرث فهو وارث، لماذا؟ لكونه قد خرج من بطن أمه وهو حي، إذًا حياة الوارث بعده ولو لحظة حقيقةً أو حكمًا، هذا الشرط الثاني.
الثالث: تحقق أو العلم بالجهة المقتضية للإرث، يعني: العلم بالسبب المقتضي للإرث، هذا لا بد، ما العلاقة بين الوارث والمورث؟ هل كل أحدٍ يرث أحدًا؟ لا.
(أَسْبَابُ مِيْرَاثِ الْوَرَى ثَلَاثَةْ) ثم قال: (وَهْيَ نِكَاحٌ وَوَلَاءٌ وَنَسَبْ). لا بد من تحقق واحد من هذه الأسباب الثلاثة، فإن انتفى النكاح والولاء والنسب حينئذٍ انتفى الإرث، لأنه لا علاقة بين الوارث والمورث لا بد من علاقة، المال هكذا لا ينتقل إلى أي أحد وإلا كل شخص ورث الآخرين، وإنما ثَمَّ سببٌ وارتباط وعلاقة بين المورث والوارث، وهذه محصورة في ثلاثة وهي متفق عليها وثَمَّ أربعة أسباب مختلف فيها، وهذه الثلاثة هي المذهب وما عداها منفيٌ عند الحنابلة.
العلم بالسبب المقتضي للإرث، وهذا الشرط مَن الذي يحققه؟ يعني: من الذي يعتني به؟ الذي يحكم بانتقال المال من المورث إلى الوارث، وهذا مَن؟ القاضي، إذًا هذا شرط يتعين على القاضي، أما الوارث هذا يراه هو أمامه لا يحتاج، أو بعلم يخبر عنه، وأما المورث فهذا يثبت عنده بالشهادة أنه قد مات، وأما هذه الجهة والسببية والارتباط بين المورث والوارث فهذه ينظر فيها في أدلة الشرع، أما المورث والوارث هذا أمرٌ حسي يدرك بالحس، وأما كون هذا وارثًا من هذا، هذا يحتاج إلى دليل شرعي، إذًا هذا الشرط يرجع إلى القاضي أو الحاكم، لأنه هو الذي يحكم بانتقال هذا المال من مالكٍ إلى مالكٍ، فلا بد من معرفة ثلاثة أمور، القاضي لا بد أن يعرف ثلاثة أمور.
الأول: ما هو السبب الذي يدلي به هذا الوارث إلى مورثه؟ ما هو السبب؟ ما العلاقة؟ هذه امرأة ماتت وأنت جئت تدعي الإرث إيش علاقتك بها؟ زوجها؟ أخوها؟ لا بد أن يعرف، إما نكاح، وإما ولاء، وإما نسب، إذًا ما هو السبب من أسباب الإرث الذي يدلي به هذا الوارث إلى مورثه؟ فقد يكون من الأسباب المختلف فيها والحاكم والقاضي لا يراه، يعني: بيت المال مثلاً، أو الملتقط، أو من أسلم على يديه، هذه فيها خلاف بين أهل العلم، هل هي من أسباب الإرث أو لا؟ قد يرى القاضي أن الملتَقِط يرث، وقد لا يرى قاضي آخر أنه يرث، حينئذٍ لا بد من تعيين الأسباب الصحيحة التي يترتب عليها الإرث والأسباب التي لا يترتب عليها الإرث، وهذا يختلف من قاضٍ إلى قاضٍ، يعني: ثَمَّ خلاف بين أهل العلم قد يرى هذا القاضي ما نفاه الآخرون.
الثاني: إذا كان السبب القرابة مثلاً فما نوعها؟ تختلف القرابة، هل كل قريب ونسب؟ هل كل ذي نسب يرث؟ الجواب: لا، قد يقول: أنا قريب له، وجد عندي النسب أنا من الأرحام، هل كل ذي رحمٍ يرث؟ الجواب: لا، لا بد أن يعرف ما نوعها لاختلاف أنواعها ويختلف الحكم باختلافها، ثم الدرجة التي تجمع الوارث مع الْمُوَرِّث لئلا يكون محجوبًا لمن هو أقرب منه إلى الميت، يأتي يدَّعِي وهذا ابنُ الابِن يقول: أنا أرث من هذا. وأبوه موجود الابن حينئذٍ نقول: لا، أنت وإن كنت ذا نسب، يعني: من قرابة الميت إلا أنك لا ترث لأنك محجوب بمن هو أعلى منك رتبة.
ثالثًا: معرفة انتفاء الموانع التي تمنع من الميراث، قد يكون زوجًا ووجد فيه السبب، لكنه قاتل، قتل زوجته عندها ملايين واستعجل فقتل حينئذٍ نقول: هو زوجٌ والأصل فيه أنه يرث، لكنه قام به مانعٌ وهو القتل، (رِقٌّ وَقَتْلٌ وَاخْتِلَافُ دِيْنِ)، إذًا العلم بالسبب المقتضي للإرث، هذا لا بد منه ولا بد أن يعرفه القاضي، هذه ثلاثة أمور ترجع إلى القضاء. إذًا هذه ثلاثة شروط.
الأول: موت المورث حقيقةً أو إلحاقه بالأموات حكمًا أو تقديرًا.
ثانيًا: حياة الوارث بعد المورث ولو لحظةً حقيقةً أو حكمًا.
ثالثًا: العلم بالسبب المقتضي للإرث.
أدلة هذه الشروط: موت المورث لقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]. الهلاك بمعنى الموت وهذا جاء بعضهم في باب الفرائض يقول: هلك هالكٌ. يعني: كأنه نزلت به عقوبة هلك نزلت به عقوبة هلك، الله عز وجل يقول:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} . يعني: مات، فالهلاك بمعنى الموت، فإطلاق ذلك في المسائل التي يُوردها الفرضيون لا إشكال فيه لا اعتراض، هلك هالك هذا هو أهلكم، نقول: لا، هذا واردٌ في النص، إذًا موت المورث لقوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} لا بد أن يوجد أولاً فعل الشرط ثم يترتب عليه جواب الشرط، إذًا وجه الاستدلال هنا أنه أطلق الهلاك على المورث ورتب عليه جواب الشرط، {إِنِ} هذه شرطية، تربط بين الجواب وفعل الشرط، وسبق معنا قاعدة أنه العلاقة بين فعل الشرط وجواب الشرط، قد يكون المراد إيقاع جواب الشرط قبل إيقاع فعل الشرط، فقد يكون بعده وقد يكون معه ثلاثة أحوال، هنا المراد به إيقاع جواب الشرط بعد وجود فعل الشرط، وقد يكون بالعكس لقرينة السياق وقد يكون معه، {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ثم قال:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . إذًا متى يكون لها نصف ما ترك؟ إن هلك فإن لم يهلك؟ ليس لها شيء، واضح وجه الاستدلال؟ أنه رتب ثبوت النصف للأخت هنا بعد وقوع فعل الشرط وهو الهلاك، فإن لم يكن بمفهوم الشرط عكسي مخالفة حينئذٍ ليس لها النصف ولا دونه، والهلاك هو الموت، وتركه لماله إنما يكون بعد انتقال من الدنيا إلى الآخرة، ويحصل تحقق الموت بثلاثة أمور، متى نحكم على المورث بأن قد مات؟
المعاينة، تراه في النزع، ينزع أمامك معاينة تراه بعينك.
الثاني: الاستفاضة، الشهرة يعني، يشتهر.
الثالث: شهادة عدلين.
وأما الموت حكمًا، فذلك في المفقود إذا مضت المدة التي تحدد للبحث عنه فإنه يحكم بموته، ما لدليل؟ قالوا: تنزيلاً للظن منزلة اليقين عند تعذره. يعني: ما طلب فيه اليقين قد لا نستطيع، ويتعذر علينا أن نصل إلى اليقين، هذا الأصل، فَنُنَزِّل الظن الذي هو قريب من اليقين منزلة اليقين، وهذا كثير في مسائل الفقه، إذًا تنزيل للظن منزلة اليقين عند تعذره، وهذه قاعدة فقهية مشهورة عند أهل العلم، ولفعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إذًا للقاعدة وإفتاء الصحابة بذلك، إذًا متى أو لماذا نحكم بكون المورث قد مات حكمًا؟ للقاعدة وفعل الصحابة، وإلا لم يوجد نص، وأما اشتراط حياة الوارث بعد موت مورثه فلقوله:{فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . لها اللام هذه ملكية، وهل يملك الميت؟ الجواب: لا، إذًا يدل على أنها حياة، واللام هنا للتمليك وهو لا يكون إلا للحي، ويحصل تحقق حياته بما يحصل به تحقق موت مورثه، يعني: معاينة، والاستفاضة، وشهادة عدليين، يعني: يحصل تحقق حياته حياة الوارث، معاينة تراه أمامك يمشي يتكلم، هذه معاينة، أو استفاض قد يسافر عشرين سنة لكن تعلم أنه باقي على حياته، أو إذا كان يكتب، أو يدرس، أو يعلم ترى كتبه ونحو ذلك، أو شهادة عدلين إذا احتيج حينئذٍ يشهد بأنه لا زال حيًّا، وأما حياة الوارث حكمًا فمرادهم به الحمل يرث من مورثه وإن لم ينفخ فيه الروح بشرط خروجه حيًّا حياةً مستقرة، يعني: ولو كان نطفة، إذا ثبت وجود الحمل بعد موت المورث ولو بلحظة، ولو نطفة حكمنا عليه بكونه وارثًا، كيف وهو لم تنفخ فيه الروح؟ قالوا: هذا تنزيلاً له منزلة الحي. وأما اشتراط العلم بالسبب والشرط الثالث، لماذا اشترطناه؟ ما الدليل عليه؟ هذا واضح لأن الشرع رتب أوصاف وأحكام على أشياء متى ما وجدت وتحققت هذه الأوصاف التي هي: الأسباب، والشروط
…
إلى آخره هذا الحكم عام لا يختص بالشروط، حينئذٍ نقول: متى ما وجدت ترتب عليه الحكم وإلا فلا، كما نحكم بصحة الصلاة، متى نحكم بصحة الصلاة؟ إذا وجدت الشروط والأركان والواجبات وانتفت الموانع حكمنا على الصلاة بكونها صحيحة، من الذي رتب هذا على ذاك؟ الشرع، كيف رتب هذا على ذاك؟ بأن حكمنا على هذا القول والفعل بأنه شرط، أو ركن، أو واجب، أو أن هذا مانعٌ من كذا، فإذا انتفت الموانع ووجدت الشروط والأركان حكمنا بالصحة، نحكم بالفساد متى؟ إذا انتفت الشروط أو بعضها أو انتفت الأركان أو بعضها إلا ما جاء استثناؤه كالقيام مثلاً والعجز ونحو ذلك هذا له حكمه الخاص، وأما اشتراط العلم بالسبب المقتضي للإرث فلأن الإرث مرتب على أوصاف، فإذا لم توجد هذه الأوصاف لم يحكم بثبوت ما رتب عليها من الأحكام، فلا يحكم بالشيء إلا بعد وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، هذه ثلاثة شروط يكاد أن يكون متفق عليها وليس فيها خلاف بين أهل العلم.
ثم قال رحمه الله:
(بَابُ أَسْبَابِ الْمِيْرَاث)
أي: هذا بابُ، التبويب هذا هل هو من المصنف أو لا؟ المشهور عند الشراح ونحوهم أنه ليس من فعل المصنف، يعني: لم يبوب لم يترجم هو وإنما ذكر الأبيات سردًا هكذا (بَابُ أَسْبَابِ الْمِيْرَاث)، أي: هذا بابُ، بابُ هذا خبر لمبتدأ محذوف، وباب مضاف وأسباب مضاف إليه على حذف المضاف، أي: بابُ بيان أسباب الميراث، أي: وموانعه، هذا فيه اكتفاء لأنه اعترض عليه، أنت ما دام أنك تبرعت وبوبت بوِّب كما ذكر الناظم، فهو قد ذكر أربعة أبيات: بيتين في الأسباب، وبيتين في الموانع. بوّب للأسباب وترك الموانع، هذا قصور، قالوا: هذا قصور. واعتُرِض على الترجمة بأن فيها قصورًا فأجيب بأن فيه حذف الواو مع ما عطف فيكون فيه اكتفاء، أي: وموانعه، {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، والبرد مثله فلا إشكال، فلذلك لا يخطَّأ النحوي البتة، (بَابُ أَسْبَابِ الْمِيْرَاث)، أي: وموانعه، له أصل في الشرع.
البابُ لغة: المدخلُ إلى الشيء.
واصطلاحًا: اسم لجملة مختصة من العلم تحته أصولٌ ومسائل غالبًا، هذا على المشهور، أو اسمٌ لألفاظ مخصوصة دالة على معاني مخصوصة، والثاني أشهر اسم لألفاظ مخصوصة دالة على معاني مخصوصة، بَاب أصله بَوَب تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، يجمع على أبواب وأبوبة وبيبان، في اللغة المدخل، مَدْخَل مَفْعَل، والمفعل يأتي اسم مصدر ميمي، واسم مكان، واسم زمان، المراد به هنا اسم المكان، ليس المراد به الدخول نفسه وليس المراد به زمن الدخول، وإنما المراد به المكان الباب هذا المراد به الباب، حينئذٍ المدخل إلى الشيء إذا كان المدخل مَفْعَل مرادًا به اسم المكان حينئذٍ لا بد أن يكون قوله المدخل إلى الشيء متعلقًا بمحذوف، أي: المدخل الموصل إلى الشيء، وبعضهم قال: فرجةٌ في ساتر يتوصل بها من داخل إلى خارج وعكسه. وهذا الثاني أشهر، واصطلاحًا اسم لجملة مختصة من العلم تحته فصول ومسائل غالبًا، ومضى معنى كثير تفسير معنى الفصل والمسائل ونحوها.
(بَابُ أَسْبَابِ)(أَسْبَابِ) جمع سبب، (أَسْبَابِ) أَفْعَال جمع سَبَب على وزن فَعَلْ وفَعَلْ يجمع على أفعال، وهو جمع قلة أو كثرة؟ قلة، أَفْعَال، أَفْعَال أَحْمَامْ، إذًا هو جمع قلة، وهو كذلك هنا لا إشكال لا اعتراض، لأن الأسباب هنا التي ذكرها المصنف المتفق عليها، وهي ثلاثة فقط، وأقل الجمع ثلاثة، فلا إشكال فيه، والسبب في اللغة ما يتوصل به إلى غيره حسًّا كان أو معنىً، ما شيءٌ، أو معنىً، أو وصف، وإذا قلت: شيء. فالشيء يصدق على المعنى وعلى الحس، وإذا قلت: معنى. حينئذٍ اختص بالمعاني دون الحسيات، وعليه نقول: ما هنا ما يتوصل به إلى غيره ما يعني شيء، والشيء يصدق على الشيء الحسي كالحبل، وعلى الشيء المعنوي كالعلم، العلم سببٌ موصلٌ إلى الخير، وهذا لاشك فيه، فحينئذٍ يشمل النوعين ما يتوصل به إلى غيره حسًّا كالحبل ومنه قوله:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15]. أو معنًى ومنه علم فإنه سبب للخير، ومنه {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] على قولٍ، واصطلاحًا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عده العدم لذاته.
هذه التعاريف للشرط والمانع والسبب، هي المشهورة لسهولتها، وإلا عند التحقيق فثَمَّ تعاريف أخرى قد تكون أولى، ولذلك عرفه الآمدي بأنه كل وصف ظاهرٍ منضبطٍ معرف لحكم شرعي.
السبب قد يكون شرعيًّا وقد يكون حسيًّا وقد يكون عاديًّا، والمراد هنا بالأسباب (بَابُ أَسْبَابِ الْمِيْرَاث) الأسباب العقلية، أو الطَّبَعِيَّة العادية، أو الشرعية؟ الشرعية، حينئذٍ يختص الحكم بالسبب الشرعي وعليه ينطبق تعريف الآمدي، ما يلزم من وجوده الوجود، ما وصف معنى شيء يلزم من وجوده الوجود، وهذا يفارق السبب الشرط، فالشرط لا تلازم بينهما، قد يوجد الشرط ولا يوجد المشروط، وأما السبب فلا، إذا وُجدا السبب لزم منه ترتب المسبب عليه، أليس كذلك؟ ولذلك قال: ما يلزم من وجوده. من وجوده هذا الوصف الذي حكمنا عليه بأنه سببٌ وجود المسبب كالزوال بالنسبة لصلاة الظهر، والنكاح بالنسبة لترتب الإرث والتوريث، ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، يعني: ومن عدم هذا الوصف الذي أطلقنا عليه أنه سبب عدمُ المسبب، فلا يوجد المسبب عند انتفاء السبب، لذاته هذا راجعٌ للنوعين: الوجود، والعدم. لأنه قد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، إما الوجود مانع، أو لفقد شرطه، كالزوجية مثلاً فإنها سبب للإرث بين الزوجين، الزوجية سبب وهي: نكاحٌ، عقد الزوجية الصحيح، الزوج يرثُ الزوجة، والزوجة ترث الزوج إذا مات واحدُ منهما قبل الآخر ورث الثاني إن كان عنده شيء، فإنها سبب للإرث بين الزوجين، فيلزم من وجودها وجود الإرث، ويلزم من عدمها عدم الإرث، إذًا هذان شِقَّان يلزم من وجوده وجود، والشق الثاني من عدمه العدم، والثالث هذا بعضهم يرى أنه يحذف ولا يذكر، لأنه إذا انتفى السبب لقيام مانع، أو فقد شرط حينئذٍ لم ينتفِ لذات السبب، والكلام هنا إنما لذات الشيء لا لشيءٍ طرأ على السبب، وخرج الشرط، فقوله: ما يلزم من وجوده الوجود. خرج به المانع، إذ يلزم من وجوده العدم كالقتل مثلاً إذا وجد لزم منه عدم الإرث، الرق، اختلاف الدين، هذه موانع يلزم من وجودها العدم، يعني: عدم الإرث، وخرج الشرط إذ لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، فقوله: لذاته. راجع للوجود والعدم، وذلك القرابة مثلاً فإنها سبب من أسباب الإرث، فإن قام بها مانع من قتل ونحوه، القرابة موجود سبب يترتب عليه المسبب وهو الإرث، لكن قد يكون هذا القريب قاتلاً، حينئذٍ وجد السبب ولم يترتب عليه المسبب، لماذا؟ هل هو لذات السبب أو الشيء آخر طارئ؟ الثاني وهو كونه قد قام به مانعٌ من تأثير السبب في ترتب المسبب عليه، فإنها سبب من أسباب الإرث فإن قام بها مانعٌ من قتل ونحوه منع من الإرث، فالإرث نظرًا لذات القرابة والمانع منه لا لذات القرابة وإنما هو لأمرٍ طارئ، إذًا قد يقترن بالسبب مانعٌ أو فقد شرط كالقتل مثلاً مع القرابة، أو عدم تحقق حياة الوارث بعد موت المورث حينئذٍ نقول: وجد السبب وهو القرابة وانتقى المسبب. لماذا؟ إما لقيام مانع وهو القتل مثلاً، أو لعدم تحقق حياة موت المورث وهو شرط، فإذا لم نتحقق حينئذٍ نقول: هذا السبب لا يترتب عليه المسبب.
حينئذٍ لم يلزم من وجوده الوجود، لكن لا لذات السبب بل لأمر خارج وهو وجود المانع، أو فقد الشرط، وقد يوجد المسبب وهو الإرث عند عدم السبب، يعني: قد يرث وينتفي النكاح، ممكن؟ ممكن لوجود سبب آخر، إذًا لا لذات السبب نفسه وهو النكاح، وقد يوجد المُسَبَّب وهو الإرث عند عدم السبب كما لو فقدت القرابة وخالفها النكاح، أو الولاء، فإنه لم يلزم من عدم السبب عدم الإرث، لكن هذا لا لذات عدم السبب المذكور وهو القرابة بل لكونه خلفه سبب آخر، إذًا باب بيان أسباب، عرفنا السبب في اللغة والاصطلاح.
(الْمِيْرَاث) الكلمة الثالثة (الْمِيْرَاث) مِيرَاث مِوْرَاث هذا أصلها مِوْ، الياء هذه منقلبة عن الواو، كما تقول: مِيزَان مِيُوزَان مِيقَات مِيُوقَات أصله من الوقت أين الواو؟ مِيقَات مكاني، أو زماني، مأخوذ من الوقت أين الواو؟ لو قال لك قائل: أين الواو؟ تقول: ابحث عنها! الواو هي الياء انقلبت ياء، لماذا؟ لسكونها وانكسار ما قبلها، الأصل مِوْقَات مِوْزَان من الوزن، كذلك مِوْرَاث مِيرَاث أصله مِوْراث من وَرِثَ الواو أصلية، أين الواو؟ تقول: انقلبت ياء على القاعدة، إذا سكنت الواو وانكسر ما قبلها وجب قلب الواو ياءً، الميراث له إطلاقان عند الفرضيين وهو في لسان العرب كذلك يطلق بالمعنى المصدري، ويطلق بالمعنى الاسمي، بالمعنى المصدري والمعنى الاسمي، يطلق إطلاقًا مصدريًّا بمعنى الإرث، وهو المقصود بالترجمة هنا أسباب الإرث، عرفنا الإرث هو الحق الخامس الذي تعلق به التركة.
والإرث لغة: البقاء وانتقال الشيء من قومٍ إلى قومٍ آخرين، البقاء بالمد كالوارث بمعنى الباقي، لأنه باقٍ بعد موت المورث، ومنه اسمه تعالى الوارث، ومعناه الباقي بعد فناء خلقه، ويطلق بمعنى انتقال الشيء من قومٍ إلى قوم آخرين، يسمى إرثًا، وهل يصلح أن يكون المعنيان مرادين هنا البقاء والانتقال يصلح؟ الإرث الشيء الباقي، يعني: هو تصرف في ماله، تصرف أخذ وأخذ وبقي شيء فتركه، هذا باقٍ أو لا؟ كما يرد لك الباقي، حينئذٍ نقول: هذه التركة باقي، باقي ماذا؟ باقي عن الشيئ الذي تصرف فيه، إذًا البقاء صادق عليه، وكذلك الانتقال وهو واضح، انتقال الشيء من قومٍ إلى قومٍ آخرين، يعني: من المورث إلى الوارث، من الأصل إلى الفرع، والانتقال إما حقيقة كانتقال المال، أو معنًى كانتقال العلم، العلم ينتقل أو لا؟ «العلماء ورثة الأنبياء» . انتقل العلم أو لا؟ انتقل العلم، إذًا العلم ينتقل لكنه انتقال معنوي، أو حكمًا كانتقال المال إلى الحمل، الحمل يرث، أليس كذلك؟ يرث، انتقل إليه المال حكمًا لا حقيقة لأنه لم يمتلك حقيقةً، وإنما الولي هو الذي يأخذ عنه، وهو مصدر وَرِثَ الشَّيْءَ وِرَاثَةً وَمِيرَاثًا وَإِرْثًا، له ثلاثة مصادر مِيرَاث هذا مصدر، مصدرُ ماذا؟ فِعْله وَرِثَ على وزن فَعِلَ وَرِثَ الشَّيْء الشّيء هذا مفعول به فهو متعدي، وِرَاثَةً وَمِيرَاثًا وَإِرْثًا هذه ثلاثة مصادر، الأول والثاني مزيدان، والثالث مجرد، مثل ماذا هذا؟ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابَةً وَكِتَابًا وَكَتْبًا ثلاثة مصادر اثنان مزيدان وواحد مجرد، هنا كذلك وِرَاثة الألف والتاء زائدان، وَمِوْرَاثًا الميم هذه زائدة والألف زائدة بعد الراء، وأما إِرْث هذه مجرد، وأين الواو؟ نقول: من وَرِثَ. الواو قلبت همزة نعم، إذًا إرث هذه اشتملت على الحروف الأصلية، إرث أين الواو؟ فهو مصدر وَرِثَ تقول: هذه الهمزة بدل عن الأصل، وما كان بدلاً عن الأصل حكم بأصالته، مثل قال وباع، الألف هذا أصلية أو لا؟ أصلية، لأنها بدلٌ عن أصل، بَاعَ بَيَعَ قَالَ قَوَلَ، إذًا هذه بدلٌ عن واو وبدلٌ عن ياء فلها حكم الأصل، كذلك هنا وأصله الواو، يعني: الإرث فقلبت همزة، والإطلاق الثاني بمعنى اسم المفعول مِيرَاث بمعنى الموروث، حينئذٍ إذا كان بمعنى الموروث تقول: مفعول هذا، فصار المصدر هنا بمعنى اسم المفعول لأن الميراث هذا لمصدر، ويطلق إطلاقًا غير مصدري بل بمعنى اسم المفعول فيكون معناه الموروث والتراث أصله التُّرَاث أصله وِرَاث مثل تُجَاه وِجَاه قلبت الوات تاءً تَقْوى وَقْوَى مثله، وهو لغة: الأصل والبقية، ومنه سمي مال الميت إِرْثًا لأنه أصله كان للغير وهو بقية من سلف لمن خلف، إذًا بقية فيه بمعنى البقاء، الإرث بمعنى البقاء والانتقال، وهنا بمعنى البقية فلا إشكال، فالمعنى يكون مطردًا، ومنه خبر مسلم:«اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم .. » ، يعني: موروث، بمعنى موروث، أي: أصله وبقيته منه، وشرعًا، يعني: الموروث حقٌّ قابلٌ للتجزي يثبت لمستحق بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو نحوها.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.