المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نموذج عملي لكيفية تحليل حدث الابتلاء: - الابتلاء وكيف تستفيد منه الدعوات

[مجدي الهلالي]

الفصل: ‌نموذج عملي لكيفية تحليل حدث الابتلاء:

المهم هو حُسن الفهم عن الله والقراءة الصحيحة لحدث الابتلاء، والنظرة المتكاملة الشاملة له، والبدء باتهام النفس أولاً حتى تحسن استفادتنا من هذا الحدث ويصبح منحة، ووقودًا جديدًا للدعوة تنطلق به إلى الأمام راشدة، ويدفع أبناءها إلى مزيد من البذل واستشعار المسئولية، وإدراك طبيعة المعركة، والخروج من روتين الحياة، وحالة الاسترخاء {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].

‌من حكم التمحيص قبل التمكين:

ولنعلم جميعًا بأن الله عز وجل يغار على دعوته، ويحب أولياءه العاملين له، لذلك فهو يسوق لهم الابتلاء بين يدي رحمته، وقبل تمكينهم في الأرض ليذوقوا القهر فلا يقهروا الناس إذا مُكنوا، ويذوقوا تحكُّم الخصم فيهم واستبداده بهم، فإذا ما مُكنوا ذكروا ماضيهم المرير فلا يوقعون بالناس مثله أبدا، وحينئذ تكون المحنة في حقهم اليوم وقاية من الضياع غدًا، وهو ضياع لصفقة الآخرة والأبد.

‌ولماذا يبتلى الأنبياء

؟!

قد يتبادر للذهن تساؤل يقول: ولماذا يبتلى الأنبياء وهم خيرة الخلق وأحباء الله وأصفياؤه؟!

يجيب عن هذا السؤال القاضي عياض في كتابه: الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول:

فإن قيل: فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدّتها

عليه صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من الأنبياء على جميعهم السلام؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء، وامتحانهم بما امتُحنوا به، كأيوب ويعقوب ودانيال، ويحيى، وزكريا، وإبراهيم، ويوسف، وغيرهم، صلوات الله عليهم، وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه.

فاعلم - وفقنا الله وإياك- أن أفعال الله تعالى كلها عدل، وكلماته جميعها صدق، لا مبدل لكلماته، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم:{لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14].

فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم، ورفعة في درجاتهم، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضا، والشكر والتسليم، والتوكل، والتفويض، والدعاء، والتضرع منهم، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، وتذكرة لغيرهم، وموعظة لسواهم ليتأسَّوا في البلاء بهم، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم، ويقتدوا بهم في الصبر، ومحوٌ لَهنَّاتٍ فرطت منهم، أو غفلات سلفت لهم، ليلقوا الله طيبين مُهذّبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأَجْزل (1).

‌نموذج عملي لكيفية تحليل حدث الابتلاء:

وأخيرًا نسوق إليك أخي القارئ نموذجًا عمليًا لكيفية تحليل حدث الابتلاء ننقله لك باختصار من كتاب زاد المعاد في هدى خير العباد للإمام ابن القيم، وذلك في معرض حديثه عن «الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد» .

يقول رحمه الله: وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمهات «تلك الحكم» وأصولها في سورة (آل عمران) حيث افتتح القصة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]، إلى تمام ستين آية.

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 178.

ص: 7

فمنها .. تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} [آل عمران: 152]. فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم، وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرًا ويقظة، وتحرزًا من أسباب الخذلان.

ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله، وأتباعهم، جرت بأن يُدالوا مرة، ويُدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائمًا، دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتُصر عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق، وما جاؤوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.

ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون ويكرهون، فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد في السراء والنعمة والعافية ..

ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا وأظفرهم بعدوهم في كل موضع، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدًا لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلا يُصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.

ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة، ذلوا وانكسروا، وخضعوا، فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].

فهو سبحانه إذا أراد أنه يعز عبده ويجبره وينصره، أذاقه مس الحاجة إليه، وضرورة الافتقار إليه، حتى يستشعر من أعماق نفسه ضرورة التوكل عليه، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه.

ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين، منازل في دار كرامته، لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيَّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة، والتي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.

ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، و ذلك مرض يعوقها عن جدَّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.

ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصَّدَّيقيَّة إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تُراق دماؤهم في محبته، ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل لنيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليه من تسليط العدو.

ص: 8

ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يُهلك أعداءه ويمحقهم، استدرجهم لما فيه عقوبتهم وهلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم: بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى عباده، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه ذلك في قوله {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ - إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139، 140].

فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم وتقوية نفوسهم، وإحياء عزائمهم وهممهم، وبين حُسن التسلية، وذكر الحِكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم (1).

وفي النهاية:

أخي القارئ: إن الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، ولقد من الله علينا بنعم كثيرة وفيوض غزيرة، ومن سنته أن يبتلي عباده تذكيرًا أو تحذيرًا أو تطهيرًا، والسعيد من أحسن التعامل مع حَدَث الابتلاء بما يحقق مصلحة دينه ودعوته.

والحمد لله رب العالمين

وصلَّ اللهم على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

(1) زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم 3/ 218 - 222 باختصار وتصرف يسير

ص: 9