المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه - الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه

وقال أيضا: "من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم".

وقال أيضا: "واعلم أنه ليس بين العبد وبين أن يكون كافرًا، إلا أن يجحد شيئًا مما أنزل الله، أو يزيد في كلام الله أو ينقص، أو ينكر شيئًا مما قال الله عز وجل، أو شيئًا مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

وقال أيضًا: "وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار، فاتهمه على الإسلام، ولا شك أنه صاحب هوى مبتدع".

وقال أيضًا: "ومن جحد أو شك في حرف من القرآن، أو في شيء جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقي الله مكذبًا". انتهى ملخصًا مما ذكره "صاحب طبقات الحنابلة".

الوجه الخامس: أن يقال: إن إثارة الفتن وسفك الدماء من بعض الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا، لا يقدح في صحة الأحاديث الواردة في المهدي ولا يؤثر فيها، ونظير ذلك دعوى النبوة ممن ادعاها كذبًا وزورًا، وقاتل الناس على ذلك وأراق دماء المسلمين؛ مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وسجاح، والمختار بن أبي عبيد، وغيرهم من الكذابين الدجالين، الذين كانت لهم شوكة واتباع، فكما لا يقول مسلم إن دعوى هؤلاء الدجالين للنبوة وما حصل منهم من المضار والمفاسد الكبار وسفك الدماء مما يشهد به التاريخ، لا تقدح في صحة الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء، ولا تؤثر فيها، فكذلك لا يقول عاقل له أدنى علم ومعرفة أن دعوة المدعين للمهدية كذبًا وزورًا، تقدح في صحة الأحاديث الواردة في المهدي وتؤثر فيها.

الوجه السادس: أن يقال‌

‌ من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه

بنقل الثقات، ومن قال بهذا القول الباطل فلا شك أنه لا يدري ما يقول؛ لأن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بنقل الثقات معناه التهجم على الأحاديث الصحيحة، ومقابلتها بالرد والإطراح.

وقال ابن محمود في صفحة (5): ومنها أن المهدي الذي يزعمون صحة خروجه، أن اسمه محمد بن عبد الله، وأن صفته أجلى الجبهة، أقنى الأنف، وهذه التسمية بهذه الصفة توجد بكثرة في الطوائف المنتسبين إلى الحسن والحسين، فلا تعطي يقينًا في التعيين، فمتى أتى من انطبعت فيه هذه الأوصاف وقال أنني أنا المهدي فعند

ص: 53

ذلك يقع المحذور من إثارة الفتنة، بين مصدق به ومكذب، وبين محب ومحارب، فيكون اعتقاده شقاء على العباد طول حياتهم؛ لوقوع الاشتباه فيه دائمًا، مما يتنافى مع الدين الذي جعله الله رحمة للخلق أجمعين، فقال:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان داخل في ضمن الإيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، والخسوف الثلاثة، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، فمن لم يؤمن بهذه الأمور أو بشيء منها فهو ممن يشك في إيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور الغيبية لا يكون شقاء أبدًا ولا يتنافى مع الدين، وإنما الشقاء كل الشقاء في تكذيب ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يتنافى مع الدين على الحقيقة.

الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها الذي تقدم ذكره، أنه يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام. فدل هذا على أن المهدي الذي يكون في آخر الزمان لا يتقدم بدعوى أنه المهدي ويطلب من الناس أن يبايعوه على ذلك، وإنما يخرجه الناس وهو كاره فيبايعونه، وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن الأرض قبل بيعة المهدي تكون قد امتلأت ظلمًا وعدوانًا، فيملؤها قسطًا وعدلا. وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن هذه الأمة تنعم في زمانه نعمة لم ينعموا مثلها؛ ترسل السماء عليهم مدرارًا، ولا تدخر الأرض شيئًا من النبات، والمال كدوس؛ يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ. ومن كان هذه صفته فهو المهدي على الحقيقة، وبيعته تكون رحمة للناس؛ لأن الله -تعالى- يزيل الاختلاف والزلازل والبلابل والظلم والجور بسببه، ويبدل ذلك بالقسط والعدل والنعمة العظيمة التي ينعم بها المسلمون في زمنه. وهذا بخلاف الذين يدعون لأنفسهم المهدية كذبًا وزورًا، ويقاتلون الناس لطلب الرياسة وتحصيل الأغراض الدنيوية، فهؤلاء هم الذين يثيرون الفتن ويحصل بسببهم الشقاء على العباد.

ص: 54

الوجه الرابع: أن يقال: إن المهدي الذي يخرج في آخر الزمان لا يسمى مهديًا من أجل أنه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن اسمه محمد بن عبد الله، ولا من أجل كونه أجلى أقنى، وإنما يسمى مهديًا من أجل صلاحه وعمله بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومطابقة خلقه لخلق النبي صلى الله عليه وسلم، ونشره للقسط والعدل، وإزالته للجور والظلم، ومن كانت أعماله بخلاف ما ذكرنا فليس بمهدي، ولو كان من أهل البيت النبوي، وكان اسمه محمد بن عبد الله، وكان أجلى أقنى؛ لأن هذه الأمور لا تفيده شيئًا إذا لم تكن أعماله مطابقة لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المهدي. وقد كان المهدي العباسي مطابقًا في الاسم واسم الأب لاسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه، ومع هذا فلم يكن هو المهدي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في آخر الزمان؛ لأن أعماله مختلفة عن أعمال الخلفاء الراشدين المهديين.

وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي فإنه يجب الإيمان به، قال الله -تعالى-:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، ومن ذلك ما أخبر به عن الأمور التي تكون بعده إلى قيام الساعة كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، ومن جملة ما أخبر به خروج المهدي في آخر الزمان، فيجب الإيمان بذلك تصديقًا لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما يجب الإيمان بغير ذلك مما أخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- أنه سيكون بعده، ومن آمن ببعض ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بعضه، فلا شك أنه فاسد العقيدة، وقد تقدم قول البربهاري أن من أنكر شيئًا من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه متهم على الإسلام، وإنه صاحب هوى مبتدع.

الوجه الثاني: أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس

حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا

ص: 55

مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله» [رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ فيدخل فيه جميع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه، وما أخبر به. فدل على أن من رد شيئا مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حلال الدم والمال، ومن لم يؤمن بالأحاديث الثابتة في المهدي فلا شك أنه داخل في عموم هذا الحديث الصحيح، والله أعلم.

الوجه الثالث: أن يقال: إن وجوب الإيمان بما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون بعده، ليس مقصورًا على ما إذا أخبر عن ملك مقرب أو نبي مرسل، أو من يأتي بدين جديد كما زعم ذلك ابن محمود، بل كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أنباء الغيب مما مضى قبله، وما يأتي بعده إلى يوم القيامة، وما يكون بعد ذلك، إلى أن يدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، فإنه يجب الإيمان به، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة.

الوجه الرابع: أن يقال: إن المحال على الحقيقة أن يخرج مهدي يكون ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً، أو يأتي بدين جديد يجب على ابن محمود الإيمان به والعمل بموجبه على حد زعمه، ويستثنى من ذلك عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، فإنه ينزل في آخر الزمان حكمًا عدلا، فيقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ولا يأتي بدين جديد، وهو أفضل المهديين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ندري عن ابن محمود، هل يؤمن بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، أم أن نزوله وخروج المهدي عنده على حد سواء؟! وكذلك لا ندري، هل يؤمن بخروج الدجال، وأن عيسى يقتله، أم أنه لا يؤمن بذلك؟ فقد ذكر لنا أنه ينكر خروج الدجال، ونرجو أن لا يكون ذلك صحيحًا.

الوجه الخامس: أن يقال: لو ادعى رجل أنه المهدي، وزعم أنه ملك مقرب أو نبي مرسل، لكان الواجب على المسلمين تكذيبه وقتاله؛ لأنه لا يدعي ذلك إلا من هو كذاب دجال، وكذلك لو ادعى رجل أنه المهدي، وزعم أنه أتى بدين جديد، فإنه يجب على المسلمين تكذيبه وقتاله؛ لأنه لا يدعي الإتيان بالدين الجديد إلا من هو كذاب دجال مدع للنبوة، وكذلك من زعم أن دين الإسلام ناقص، وأنه يريد أن يكمله، فلا شك أنه دجال كذاب كافر يجب تكذيبه وقتاله، وأما المهدي

الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في آخر الزمان فطريقته طريقة غيره من أئمة العدل، الذين

ص: 56

يعملون بالكتاب والسنة، ويقومون بالقسط والعدل، ويزيلون الجور والظلم، فمن وصفه بصفات الملائكة أو الأنبياء أو غير ذلك من الصفات التي لا تليق به وبأمثاله من أئمة العدل، فقوله باطل مردود.

الوجه السادس: أن يقال قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه» ، ورواه الإمام أحمد وإسناده إسناد مسلم، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له الجهجاه» ، ورواه الإمام أحمد والترمذي وإسناد كل منهما إسناد مسلم ولفظهما:«لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له جهجاه» ، وروى الإمام أحمد ومسلم أيضًا، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثيًا لا يعده عدًا» ، وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وهؤلاء كلهم رجال من بني آدم، وهم الآن في عالم الغيب، وسيخرجون إلى الوجود في آخر الزمان، وليسوا ملائكة مقربين ولا أنبياء مرسلين، ولا يأتون بدين جديد، فهل يصدق ابن محمود بخروجهم في آخر الزمان، أم أن خروجهم وخروج المهدي عنده على حد سواء؟! فإن حصل منه التصديق بخروجهم انتقض قوله في المهدي، وإن رد الأحاديث الواردة فيهم كما فعل ذلك في أحاديث المهدي، فتلك مكابرة واستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه السابع: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بالتقاتل على التصديق بالمهدي والتكذيب به، ولم يأذن لهم في ذلك، بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن سفك الدماء بغير حق، وشدد في ذلك، فقال في خطبته يوم عرفة:«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» [رواه مسلم وغيره] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر:«ألا أن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت» قالوا: نعم، قال:«اللهم أشهد - ثلاثًا- ويلكم أو يحكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، وفي صحيح البخاري أيضًا عن

ص: 57

ابن عباس وأبي بكرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وهذا الزجر الشديد والنهي الأكيد عام لكل من تجرأ على سفك الدماء بغير حق، ومن ذلك القتال لتحصيل الرياسة بدعوى المهدية، كما قد وقع ذلك من أناس كثيرين؛ مثل المهدي العبيدي، وابن التومرت، وأضرابهما ممن جعل دعوى المهدية طريقًا إلى تحصيل الأغراض الدنيوية، فهؤلاء عصاة مرتكبون لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أمته يتقاتلون على حساب التصديق بالمهدي والتكذيب به، فقد تقوَّل على النبي صلى الله عليه وسلم ونسب إليه ما لم ينقل عنه.

وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أننا لسنا بأول من كذب بهذه الأحاديث، فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "المنهاج" بعد ذكره لأحاديث المهدي: إن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء، فطائفة أنكروها. مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء، كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان".

والجواب: أن يقال: وهل يظن ابن محمود أن تقليده للذين غلطوا في إنكار الأحاديث الواردة في المهدي، يكون حجة مقبولة لا يمكن ردها ولا إنكارها، كلا فإن التقليد ليس بحجة، فضلا عن تقليد المخطئين في أخطائهم، فإن هذا مما يتنزه عنه كل عاقل.

ويقال أيضًا: إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كاف في الرد على ابن محمود؛ لأنه قد صرَّح أن الطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي قد غلطت في الإنكار، كما صرح في أول كلامه الذي لم ينقله ابن محمود، أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود، والترمذي، وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، ثم ذكر عدة أحاديث عن ابن مسعود، وأم سلمة، وأبي سعيد، وعلي رضي الله عنهم، ورد على الذين أنكروا هذه الأحاديث محتجين بحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا مهدي إلا عيسى بن مريم» ، قال:"وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه". انتهى. وفي متابعة ابن محمود للطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي، مع علمه بتغليط الشيخ تقي الدين لمن قال بهذا القول، دليل على سوء اختيار ابن محمود وقلة مبالاته برد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 58

وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم ولم يدخلاها في كتبهما مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم ثباتها عندهما، كما أنه ليس له ذكر في القرآن مما يقلل عدم الاحتفال بها".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أول هذا الكلام مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين وآخره مأخوذ من كلام المستشرق دونلدسن، فأما رشيد رضا فقد قال في صفحة (499) من الجزء التاسع من تفسيره المسمى تفسير المنار:"إن الشيخين لم يعتدا في صحيحيهما بشيء من أحاديث المهدي". وأما أحمد أمين فقال في صفحة (237) من الجزء الثالث من كتابه "ضحى الإسلام": "ولم يرو البخاري ومسلم شيئًا من أحاديث المهدي، مما يدل على عدم صحتها عندهما". انتهى. وأما دونلدسن فإنه قد تعرض لذكر المهدي وما جاء في ظهوره في آخر الزمان، ثم قال:"ولما كان القرآن نفسه لم يرد فيه ما يؤيد هذه الفكرة كان من الضروري الالتجاء إلى الحديث لإثباتها، ومع هذا فبالنظر إلى عدم ذكر القرآن شيئًا عن المهدي وأن الأحاديث الواردة بشأنه كلها ضعيفة أو مشكوك فيها، فإن عقيدة المهدي لا تدخل في اعتقادات أهل السنة والجماعة". انتهى. وقد نقله عنه سعد محمد حسن في صفحة (70) من كتابه "المهدية في الإسلام".

وإذا علم هذا، فقد تقدم قريبًا (1) قول ابن محمود أن أكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضا وقليل منهم المحققون، فقد أثبت ههنا على نفسه أنه من المقلدة بل أنه قد قلد أناسًا ليسوا بأهل أن يقلدوا ويؤخذ عنهم.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الشيخين لم يستوعبا إخراج الأحاديث الصحيحة في صحيحيهما ولا التزما بذلك، وقد قال الحافظ ابن حجر في أول مقدمة فتح الباري: روى الإسماعيلي عنه -أي عن البخاري- أنه قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا، وما تركت من الصحيح أكثر"، وقال أبو أحمد ابن عدي: سمعت الحسن بن الحسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت البخاري يقول: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول"، وقال مسلم في صحيحه في آخر "باب التشهد في الصلاة": "ليس كل

شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"، وقال أبو عمرو

(1) ص (46).

ص: 59

ابن الصلاح في كتابه "علوم الحديث": "أول من صنف الصحيح البخاري، وتلاه مسلم بن الحجاج وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز، إلى أن قال: أنهما لم يستوعبا الصحيح في صحيحيهما، ولا التزما ذلك؛ فقد روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول، وروينا عن مسلم أنه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه، ثم ذكر ابن الصلاح أن المستدرك على الصحيحين للحاكم يشتمل مما فاتهما -أي الشيخين- على شيء كثير، قال: وإن يكن عليه في بعضه مقال، فإنه يصفو له منه صحيح كثير، قال: وقد قال البخاري: احفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، قال ابن الصلاح: وجملة ما في كتابه الصحيح سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثًا بالأحاديث المكررة، وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث"، وفي حاشية "علوم الحديث" نقلاً عن ابن الصلاح أنه قال:"وهكذا صحيح مسلم هو نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرر، فقد روينا عن أبي قريش الحافظ قال: كنت عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم ابن الحجاج فسلم عليه، فلما أن قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، فقال: ولمن ترك الباقي".

قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشتهرة لأئمة الحديث؛ كأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي بكر ابن خزيمة، وأبي الحسن الدارقطني، وغيرهم منصوصًا على صحته فيها، ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجودًا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي، وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره، ويكفي مجرد كونه موجودًا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه؛ ككتاب ابن خزيمة، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري وكتاب مسلم؛ ككتاب أبي عوانة الاسفرائيني، وكتاب أبي بكر الإسماعيلي، وكتاب أبي بكر البرقاني، وغيرها من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين. وكثير من هذا موجود في "الجمع بين الصحيحين" لأبي عبد الله الحميدي. واعتنى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتاب سماه "المستدرك" أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين، مما رآه على

شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرط البخاري وحده، أو على

ص: 60

شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به، فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه، ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم ابن حبان البستي رحمهم الله أجمعين-" انتهى كلام ابن الصلاح.

وقال ابن كثير في كتابه "الباعث الحثيث": "ثم إن البخاري ومسلمًا لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها، قال: وقد خرجت كتب كثيرة على الصحيحين يؤخذ منها زيادات مفيدة وأسانيد جيدة؛ كصحيح أبي عوانة ،وأبي بكر الإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم الأصبهاني وغيرهم، وكتب أخر التزم أصحابها صحتها؛ كابن خزيمة، وابن حبان البستي، وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير، مما يوازي كثيرًا من أحاديث مسلم بل والبخاري أيضًا وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة؛ وهم أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وكذلك يوجد في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، ومسندي أبي يعلي والبزار وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء، ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه بعد النظر في حال رجاله وسلامته من التعليل المفسد، ويجوز له الإقدام على ذلك، وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النواوي، وخلافًا للشيخ أبي عمرو، وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتابًا سماه "المختارة" ولم يتم، كان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم" انتهى كلام ابن كثير باختصار.

وإذا علم هذا فنقول: إن إعراض البخاري ومسلم عن إخراج أحاديث المهدي في صحيحيهما، لا يدل على عدم ثباتها عندهما كما زعم ذلك ابن محمود، فكم من حديث صحيح عندهما ولم يخرجاه كما صرحا بذلك في الروايات التي تقدم ذكرها، وخصوصًا ما ذكره ابن الصلاح عن البخاري؛ أنه كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح.

ص: 61

الوجه الثالث: أن يقال: ما صححه بعض أهل العلم بالحديث مما رواه غير الشيخين فهو كثير جدًا، وقد يكون أكثر مما في الصحيحين، وهو متلقى بالقبول عند أهل العلم. ومن أجمع الكتب للأحاديث الصحيحة بعد الصحيحين موطأ الإمام مالك، وفي مسند الإمام أحمد من الأحاديث الصحيحة شيء كثير جدًا، وكذلك في السنن الأربع، وقد ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن الشافعي أنه قال:"ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابًا من موطأ مالك"، قال ابن كثير في كتابه "الباعث الحثيث":"قول الإمام الشافعي لا أعلم كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، إنما قاله قبل البخاري ومسلم"، وقال السيوطي في شرح الموطأ:"الصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء"، قال الشيخ أحمد محمد شاكر:"وهذا غير صواب، والحق أن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأن ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها، مما تحويه الكتب الأخرى". انتهى.

وقال أبو بكر بن داسه: "سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمَّنته هذا الكتاب، وجمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض". انتهى.

وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي قال: "قال أبو عيسى -يعني الترمذي-: صنفت هذا الكتاب- يعني الجامع- فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم". انتهى.

وقد كان الحاكم أبو عبد الله، والخطيب البغدادي يسميان كتاب الترمذي "الجامع الصحيح"، وكان أبو علي ابن السكن والخطيب البغدادي يقولان في سنن النسائي إنه صحيح، وفي هذا القول والذي قبله تساهل؛ لأن جامع الترمذي وسنن النسائي ليس كل أحاديثهما صحيحة، بل فيهما الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، ففي إطلاق اسم الصحيح عليهما نظر، وقد يقال إن هذا الإطلاق من باب التغليب؛ لأن أكثر أحاديثهما صحاح وحسان، فيصح إطلاق اسم الصحيح عليهما من هذه الحيثية، والله أعلم.

ص: 62

وأما سنن ابن ماجة فقد ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن ابن ماجة أنه قال: "عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما في إسناده ضعف". انتهى، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية":"إن كتاب سنن ابن ماجة يشتمل على أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة، وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثًا، ربما يقال إنها موضوعة أو منكرة جدًا". انتهى.

وإذا علم أن الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين كثيرة جدًا، وأن أهل العلم كانوا يتلقونها بالقبول وإن كانت في غير الصحيحين، فهل يقول عاقل له أدنى علم ومعرفة أنه يسوغ ردها أو رد شيء منها وعدم الاحتفال بها- أي عدم المبالاة بها- حيث لم يأخذ بها البخاري ومسلم ولم يدخلاها في صحيحيهما؟ لا أظن أن عاقلا يقول بهذا القول الباطل، وقد قال الله -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-:"الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".

الوجه الرابع: أن يقال: إن بعض الأحاديث الواردة في المهدي قد رويت بالأسانيد الثابتة، وقد تقدم في أول الكتاب قول الإمام الشافعي:"إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبدًا، إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه".

وتقدم أيضًا قول الإمام أحمد: "كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ".

وتقدم أيضًا قول ابن شاقلا: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل، موصولة بلا قطع في سندها، ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام".

وقال أبو محمد ابن حزم في كتاب "الأحكام": إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معًا". انتهى.

وكلام العلماء في الإنكار على الذين يعارضون الأحاديث الصحيحة

ص: 63

وتشديدهم في ذلك كثير جدًا، وقد ذكرتُ طرفًا من ذلك في أول الرد على الزنديق المصري المدعو بصالح أبي بكر فليراجع هناك، ففيه أبلغ رد على من تجرأ على رد الأحاديث الثابتة في خروج المهدي، زاعمًا أنها غير ثابتة، وأنه لا يحتفل بها؛ أي لا يبالي بها لكونها ليست في الصحيحين.

الوجه الخامس: أن يقال: قد جاءت الإشارة إلى المهدي في عدة أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما، وروى البخاري حديثًا منها، أولها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه فقلنا: يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله، فقال:«العجب إن ناسًا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم» ، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال:«نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» [رواه الإمام أحمد ومسلم] من حديث عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها وهذا لفظ مسلم، ولفظ أحمد قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم إذ ضحك في منامه ثم استيقظ، فقلت: يا رسول الله، مم ضحكت؟! قال:«إن أناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد استعاذ بالحرم، فلما بلغوا البيداء خسف بهم، مصادرهم شتى، يبعثهم الله على نياتهم» ، قلت: وكيف يبعثهم الله على نياتهم ومصادرهم شتى، قال:«جمعهم الطريق منهم المستبصر وابن السبيل والمجبور، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى» ، وقد رواه البخاري في "كتاب البيوع" في "باب ما ذكر في الأسواق" من حديث نافع بن جبير بن مطعم قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم» ، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! قال:«يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم» .

الحديث الثاني: روى مسلم من طريق جرير وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد الله بن القبطية، قال: دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» ، فقلت:

ص: 64

يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟! قال:«يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته» ، وقال أبو جعفر: هي بيداء المدينة. حدَّثَنَاه أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا عبد العزيز بن رفيع بهذا الإسناد وفي حديثه قال: فلقيت أبا جعفر فقلت: إنها إنما قالت ببيداء من الأرض، فقال أبو جعفر كلا والله إنها لبيداء المدينة، وقد رواه الإمام أحمد عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع فذكره بنحوه. ورواه أبو داود في "كتاب المهدي" من سننه فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد الله بن القبطية، عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم بقصة جيش الخسف، قلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟! قال:«يخسف بهم ولكن يبعث يوم القيامة على نيته» إسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث الحسن -وهو البصري- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي إذ احتفز جالسًا وهو يسترجع، فقلت: بأبي أنت وأمي، ما شأنك يا رسول الله تسترجع؟! قال:«جيش من أمتي يجيئون من قبل الشام، يؤمون البيت لرجل يمنعه الله منهم، حتى إذا كانوا بالبيداء من ذي الحليفة خسف بهم ومصادرهم شتى» ، فقلت: يا رسول الله، كيف يخسف بهم جميعًا ومصادرهم شتى؟! فقال:«إن منهم من جبر، إن منهم من جبر» ثلاثًا، ورواه أيضًا من حديث الحسن عن أمه - واسمها خيرة مولاه أم سلمة - عن أم سلمة رضي الله عنها فذكره بنحوه وإسناده حسن.

وروى أيضًا من حديث يوسف بن سعد، عن عائشة رضي الله عنها مثله، ومن حديث يوسف بن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها مثله، ولم يسق لفظه، بل أحال به على حديث أم سلمة رضي الله عنها، وقد أورد حديث الحسن عن أم سلمة رضي الله عنها في مسند عائشة رضي الله عنها من أجل هذه الرواية، وكل من الإسنادين جيد، رجاله كلهم ثقات.

وروي أيضًا من حديث المهاجر المكي؛ وهو المهاجر بن القبطية، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يغزو جيش البيت حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» ، قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت المكره منهم؟! قال:«يبعث على نيته» إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات.

ورواه أيضا عن سفيان بن عيينه، عن ابن سوقة، عن نافع بن جبير، عن أم سلمة

ص: 65

-رضي الله عنها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجيش الذي يخسف بهم، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: لعل فيهم المكره! فقال: «إنهم يبعثون على نياتهم» إسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الترمذي عن نصر بن علي الجهضمي، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، فذكره بمثله، وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن نافع بن جبير، عن عائشة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: وروايته عن عائشة رضي الله عنها قد رواها البخاري في صحيحه وتقدم ذكرها، ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، ونصر بن علي، وهارون بن عبد الله الحمال، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بمثله، وإسناده صحيح، أما عن محمد بن الصباح، ونصر بن علي فهو على شرط الشيخين، وأما عن هارون بن عبد الله فهو على شرط مسلم.

الحديث الثالث: روى مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن أمية بن صفوان، سمع جده عبد الله بن صفوان يقول: أخبرتني حفصة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم، وينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم، فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم» ، فقال رجل أشهد عليك أنك لم تكذب على حفصة، وأشهد على حفصة أنها لم تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينه، فذكره بنحوه، وإسناده إسناد مسلم. ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أمية بن صفوان بن عبد الله، فذكره بنحوه، وزاد بعد الحديث المرفوع، فلما جاء جيش الحجاج ظننا أنهم هم، إسناده صحيح على شرط البخاري، وفي رواية لمسلم عن يوسف بن ماهك، أخبرني عبد الله بن صفوان، عن أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«سيعوذ بهذا البيت- يعني الكعبة - قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة، يبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم» ، قال يوسف وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة، فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش.

الحديث الرابع: عن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينتهي الناس عن غزو هذا البيت حتى يغزوه جيش، حتى إذا كانوا ببيداء

من الأرض خسف بأولهم وآخرهم ولم ينج أوسطهم» قالت: قلت: يا رسول الله،

ص: 66

أرأيت المكره منهم! قال: «يبعثهم الله على ما في أنفسهم» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

الحديث الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتهي البعوث عن غزو بيت الله تعالى حتى يخسف بجيش منهم» رواه الحاكم في مستدركه، وقال غريب صحيح، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وهذه الأحاديث الخمسة التي روى البخاري حديثًا منها، وروى مسلم ثلاثة منها، تؤيد حديث أم سلمة الذي تقدم ذكره مع أحاديث المهدي في أول الكتاب (1)، وهو الحديث التاسع في ذكر مبايعة الرجل القرشي بمكة، وذكر الخسف بالجيش الذي يبعث إليه من الشام، وقد رواه أبو داود في "كتاب المهدي" من سننه، وروى معه عدة أحاديث من الأحاديث الواردة في المهدي، ومنها حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الجيش الذي يخسف به، والخسف المذكور في هذه الأحاديث الخمسة لم يقع إلى الآن، وسيقع في آخر الزمان إذا ظهر المهدي ودنا قيام الساعة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني عن بقيرة امرأة القعقاع بن أبي حدرد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: «إذا سمعتم بجيش قد خسف به قريبًا فقد أظلت الساعة» ، وفي رواية قالت: إني لجالسة في صفة النساء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يشير بيده اليسرى، فقال:«يا أيها الناس إذا سمعتم بخسف ههنا قريب فقد أظلت الساعة» ، قال الهيثمي: فيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح.

الحديث السادس: عن الجُريري - بضم الجيم واسمه سعيد بن إياس-، عن أبي نضرة -واسمه المنذر بن مالك بن قِطعة بكسر القاف وسكون الطاء المهملة، هكذا ضبطه الخزرجي في "الخلاصة"، وضبطه الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" بضم القاف وفتح الطاء المهملة العبدي- قال: كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثوًا لا يعده عدا» ، قال الجريري: فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء أتريانه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا. رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد أحد إسنادي مسلم.

الحديث السابع: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول

(1) ص: (16، 17).

ص: 67

الله صلى الله عليه وسلم: «من خلفائكم خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عدًا» رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد أحد إسنادي مسلم، وفي رواية لأحمد:«يكون في آخر الزمان خليفة يعطي المال ولا يعده عدًا» إسناده صحيح على شرط مسلم، وفي رواية له قال:«ليبعثن الله عز وجل في هذه الأمة خليفة يحثي المال حثيا ولا يعده عدًا» إسناده حسن.

الحديث الثامن: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده» رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد إسناد مسلم.

وهذه الأحاديث الثلاثة التي رواها مسلم مطابقة لما جاء في بعض الروايات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في ذكر المهدي، وفيها:«ويكون المال كدوسًا، قال: يجيء الرجل، فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل» ، وفي رواية أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه في ذكر المهدي:«أنه يقسم المال بالسوية بين الناس، حتى يأمر مناديًا فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان؛ يعني الخازن، فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا، فيقول له: احث» الحديث، وقد تقدم ذكره (1)، وتقدم أيضًا (2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر المهدي، وفيه:«والمال كدوس، يقوم الرجل يقول: يا مهدي أعطني، فيقول: خذ» ،فهذه الروايات التي جاءت في صفة المهدي مطابقة لصفة الخليفة الذي جاء ذكره في الأحاديث الصحيحة عن أبي سعيد وجابر، وأنه يكون في آخر الزمان، وأنه يحثو المال حثوًا لا يعده عدًا، وهذه الصفة لم توجد في أحد ممن مضي من الخلفاء والملوك والأمراء، وإنما تكون في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان.

وأما قول ابن محمود: كما أنه ليس له ذكر في القرآن، مما يقلل عدم الاحتفال بها.

فجوابه: أن يقال: لو كان عدم ذكر الشيء في القرآن يقلل الاحتفال بالأحاديث الواردة فيه - أي يقلل المبالاة بها- لذهبت السنة أو أكثرها، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ

(1) ص 13.

(2)

ص 16.

ص: 68

هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، من حديث المقدام بن معد يكرب الكِندي رضي الله عنه، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأنبياء وغيرهم من الماضين بقصص لم تذكر في القرآن، وأخبر أيضًا عما سيكون بعده إلى قيام الساعة، وعما يكون بعد ذلك إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وما يكون بعد ذلك، وكثير مما أخبر به لم يذكر في القرآن، وكذلك الصلاة والزكاة والحج، فإنها لم تذكر في القرآن على وجه التفصيل، وإنما ذكرت فيه على وجه الإجمال، وجاء تفصيل أحكامها في السنة، وكذلك أكثر الأحكام، فإن بعضها لم يذكر في القرآن، وبعضها قد ذكر فيه على وجه الإجمال، وفصلت أحكامه في السنة، وقد تلقى أهل العلم ما ثبت من ذلك بالقبول والتسليم، ولا أعلم أحدًا قبل ابن محمود توقف عن قبول الأحاديث التي رواها الثقات عن الثقات، وقال إنه لا يحتفل بها - أي لا يبالي بها- من أجل أن ذلك لم يذكر في القرآن، فهذا قول باطل أحدثه ابن محمود وهو مردود عليه.

وأما قوله: مما يقلل عدم الاحتفال بها.

فجوابه: أن يقال: إن كلام ابن محمود ينقض بعضه بعضًا؛ لأنه إذا قلَّ عدم الاحتفال بأحاديث المهدي- أي قلَّ عدم المبالاة بها-، فإنها تصير إذا مما يحتفل به - أي مما يبالي به- والظاهر من كلام ابن محمود أنه أراد أن يقول: مما يقلل الاحتفال بها. فزاد قوله "عدم" فانعكس مراده، وصار كلامه متناقضًا.

وقال ابن محمود في صفحة (6) وصفحة (7): "ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فمهدي اسمه اسم الرسول واسم أبيه اسم أبيه، ومهدي اسمه أبو عبد الله، ومهدي يشبه الرسول في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلق، ومهدي يصلحه الله في ليلة، ورجل يخرج هاربًا من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل اسمه الحارث بن حران يوطِّئ أو يمكن لآل محمد، ورجل يخرج من وراء النهر، ورجل يبايع له بعد وقوع فتنة عند موت خليفة، ورجل أخواله كلب وتأتيه الرايات السود من قبل العراق وأبدال الشام، ومهدي يصلي عيسى ابن مريم

ص: 69

خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صلِّ أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه تكرمة الله لهذه الأمة، فهذه وما هو أكثر منها مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: أما أول هذا الكلام فهو مأخوذ من كلام رشيد رضا في تفسير المنار، وقد نقله ابن محمود بالمعنى، وغير عبارته وأسلوبه بعبارة وأسلوب أبسط منه؛ ليوهم أنه لم يقلد أحدًا في كلامه، وأما آخره فهو مأخوذ من كلام محمد فريد وجدي في دائرة المعارف، وهذا ملخص كلام رشيد رضا، قال في صفحة (499) من الجزء التاسع من تفسير المنار:"وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيها أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما". إلى أن قال في صفحة (501): "ولأجل ذلك كثر الاختلاف في اسم المهدي، ونسبه، وصفاته، وأعماله". ثم قال في صفحة (503): "فهذا نموذج من تعارض الروايات وتهافتها في المهدي". انتهى.

وأما محمد فريد وجدي، فقال في صفحة (481) من الجزء العاشر من دائرة المعارف:"وقد ضعف كثيرون من أئمة المسلمين أحاديث المهدي، واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه". انتهى.

وأما ما سوى كلام رشيد رضا ومحمد فريد وجدي، فكله من تهويل ابن محمود وتلبيسه على الجهال، وقد جعل اسم المهدي متعددًا على أحد عشر رجلا، وهذه الكثرة التي زعمها ابن محمود ترجع في الحقيقة إلى أربعة، أحدهم المهدي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في آخر الزمان، وهو الذي تدور عليه جميع الأحاديث الثابتة في المهدي كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. والثاني الحارث الحراث؛ الذي يخرج من وراء النهر يوطِّئ لآل محمد. والثالث الذي أخواله كلب؛ وهو عدم المهدي. والرابع الذي يقال له أبو عبد الله وهذه الكنية ليست للمهدي، وإنما هي من دعاوي الرافضة في مهديهم المزعوم الذي ليس له وجود بالكلية.

الوجه الثاني: أن يقال: ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تناقض ولا تعارض البتة، ومن ادعى التناقض والتعارض بينها فإنه لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون

ص: 70

جاهلا بالأحاديث الثابتة في المهدي، وإما أن يكون مكابرًا في ردها، وهذا هو الظاهر من حال المردود عليه؛ فإنه قد كابر في ردها، وأورد المكابرة بطريق المغالطة.

الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اسم المهدي يواطئ اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وأن اسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في حديث حسن الإسناد عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة» ، وجاء في حديث صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يكون اختلاف عند موت خليفة، يخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» الحديث، وفيه:«أنه يأتيه أهل الشام وعصائب من أهل العراق فيبايعونه» ، وجاء في حديث جيد الإسناد عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة» ، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يخرج رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، وخلقه خلقي، فيملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وجورًا» ، وروى أبو داود في سننه بإسناد فيه ضعف عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى ابنه الحسن فقال:«إن ابني هذا سيدكما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخلق - ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلا» .

قال شمس الحق في "عون المعبود": "على قوله «يشبهه في الخلق» بضم الخاء واللام وتسكن، «ولا يشبهه في الخلق» بفتح الخاء وسكون اللام؛ أي يشبهه في السيرة ولا يشبهه في الصورة". انتهى. ولبعض هذا الحديث شاهد مما تقدم (1) من حديث ابن مسعود وأبي سعيد رضي الله عنهما، والمذكور في هذه الأحاديث رجل واحد وهو المهدي المبشر به، وليس متعددًا كما زعم ذلك ابن محمود في كلامه الذي هو صريح في المغالطة.

وأما الرجل الذي اسمه الحارث، فهو الذي يخرج من وراء النهر كما جاء ذلك في حديث علي رضي الله عنه يرفعه:«يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث حراث» الحديث رواه أبو داود بإسناد ضعيف، وقوله حراث بتشديد الراء صفة له أي

(1) ص (10 - 11).

ص: 71

زراع، قال شمس الحق في "عون المعبود":"هكذا في أكثر النسخ وهو المعتمد، وفي بعض النسخ الحارث بن حراث". انتهى، وقد صحَّف ابن محمود فقال اسمه الحارث بن حران، بالنون، وصوابه الحارث حراث بالثاء المثلثة، وزعم ابن محمود أن الحارث والذي يخرج من وراء النهر رجلان، وأن كلا منهما يقال فيه أنه المهدي، وهذا من أغلاطه أو من مغالطته؛ لأن الذي جاء في الحديث أن الذي يخرج من وراء النهر هو الحارث، وأنه يوطِّئ أو يمكِّن لآل محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هو بالمهدي، وإنما هو من أنصار المهدي، وقد ذكرت أن الحديث ضعيف الإسناد فلا يعتمد عليه.

وأما الرجل الذي أخواله من كلب، فلم يقل أحد أنه المهدي كما قد زعم ذلك ابن محمود يريد بذلك المغالطة، وإنما هو رجل من قريش يبعث جيشًا لقتال المهدي فيهزمهم جيش المهدي ويظهر عليهم، وقد تقدم بيان ذلك في حديث أم سلمة رضي الله عنها (1).

وأما قوله: ومهدي يصلي عيسى ابن مريم خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صلِّّ أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه.

فجوابه: أن يقال هذا تكرار أُرِيدَ به المغالطة؛ لأن الرجل الذي يصلي عيسى خلفه هو المهدي، وعيسى عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول للمهدي: تقدم فصلِّ فإنها لك أقيمت، كما جاء ذلك في حديث أبي إمامة الذي رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحافظ الضياء في "المختارة"، وهو حديث طويل فيه ذكر خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وفيه فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال:«هم يومئذ قليل وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم» الحديث.

وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا،

(1) ص 16 - 17.

ص: 72

فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة»، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث وهب بن منبه، عن جابر رضي الله عنه وفيه:«فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا» ، وذكر بقية الحديث بنحوه. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "المنار المنيف":"إسناده جيد". ففي هذا الحديث الصحيح أن المهدي هو الذي يقول لعيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-: تعال صل بنا، وأن عيسى يقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء.

فأما قول ابن محمود: ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى صل أيها الأمير، فيقول كل إنسان أمير نفسه.

فجوابه: أن يقال: هذا اللفظ لم يرد في شيء من الأحاديث الواردة في المهدي ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وإنما أتى به ابن محمود من كيسه، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه.

وأما قوله: فهذه وما هو أكثر منها، مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلا عن تصديقها.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما الأئمة المحققون على الحقيقة؛ ومنهم الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والعقيلي، والبيهقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والهيثمي، فإنهم قد صححوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب وفي الفصل الثاني منه (1)، وقد نص على صحة بعضها كثير من المتأخرين؛ ومنهم ابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وصديق بن حسن وغيرهم، وذكر غير واحد من العلماء أنها متواترة، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع (2).

وأما المتحذلقون من العصريين، وهم الذين تجرءوا على رد الأحاديث الثابتة في المهدي، وزعموا أنها موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما يخبطون خبط عشواء، فما وافق أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وأذناب الغربيين قبلوه ولو كان ضعيفًا أو موضوعا، وما خالف أفكارهم أو

(1) ص (10 - 17) و 42وص (41 - 43).

(2)

ص (43 - 45).

ص: 73

أفكار من يعظمونه لم يبالوا برده وإطراحه ولو كان صحيحًا أو حسنًا، ومن نظر في كتبهم رأى من ذلك الشيء الكثير، وقد قلدَّهم ابن محمود في رد أحاديث المهدي وإطراحها، وزعم أنها كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وزعم أيضًا أنها خرافة وأنها نظرية خرافية وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة. هكذا جازف وخرج عن حد المعقول إلى غير المعقول، وقد قال الله -تعالى-:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} ، أما يخشى ابن محمود أن يكون داخلا في عموم المشاقين للرسول صلى الله عليه وسلم المتبعين غير سبيل المؤمنين؟ أما يخشى أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم؟

الوجه الثاني: أن يقال: إن الحكم على بعض الأحاديث بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست من كلامه، لا يكتفي فيه بمجرد الدعوى كما فعل ذلك ابن محمود، وكما كان يفعله غيره من العصريين، بل لا بد أن يكون في أسانيدها بعض الوضاعين، ولا بد أن يذكر القادح فيها كلام أئمة الجرح والتعديل في الراوي المتهم بالوضع؛ لتكون الدعوى مقرونة بالبينة، فأما بهت الأبرياء بأنهم وضعوا أحاديث لا علاقة لهم بها وليسوا من رواتها، فهذا لا شك في تحريمه، فإن كان المبهوت مسلمًا غير متهم في دينه؛ مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، فبهته كبيرة من الكبائر؛ لقول الله -تعالى-:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .

وقال ابن محمود في صفحة (7): "فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين، فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكر في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها".

ص: 74

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن علماء السنة لم يغتروا بكثرة الأحاديث الواردة في المهدي كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما اعتمدوا على ما ثبت من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قسم بعض علماء السنة أحاديث المهدي إلى صحيح وحسن وضعيف، وقد تقدم قول الشوكاني وصديق بن حسن في ذلك، وهذا يدل على أنهم لم يغتروا بكثرة الأحاديث الواردة في المهدي، وإنما كانوا يعتمدون على الصحاح والحسان منها، ويذكرون الضعيف المنجبر لاعتضاده بالأحاديث الصحيحة، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود من أن كثرة الأحاديث هي التي حملت علماء السنة على التصديق بها، لما قسمها أهل السنة إلى صحيح وحسن وضعيف، ولجعلوها صحاحًا من باب واحد.

الوجه الثاني: أن يقال: كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أهل السنة يقبلونه قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، بخلاف أهل الزيغ؛ الذين لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة وإطراحها.

الوجه الثالث: أن يقال: إن علماء السنة إنما سمعوا وأطاعوا لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ امتثالا لقول الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، ولقوله -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقوله -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "، فكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلمين قبوله بدون تردد، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة.

الوجه الرابع: أن يقال: قد أنطق الله ابن محمود بما يطابق الواقع من حيث لا يشعر، فإنه قال:"إن بعض علماء السنة وسائر العلماء من المتأخرين صدقوا بالأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقبلوها قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها، بدون تفكر ولا تدبر"، فعلى قوله هذا يكون الذين تفكروا وتدبروا في أحاديث المهدي، وقابلوا بعضها ببعض، وزعموا التعارض بينها والاختلاف، فردوها جملة بدون مبالاة- أنهم ليسوا أهل سنة، وإنما هم أهل بدعة وفتنة، وهؤلاء .............................................................

ص: 75

يخشى عليهم أن يكونوا داخلين في عموم قول الله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .

الوجه الخامس: أن يقال: ليس بين الأحاديث الواردة في المهدي تعارض واختلاف البتة، وقد تقدم بيان ذلك قريبًا عند الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6)، ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها، فليراجع (1).

الوجه السادس: أن يقال: معاذ الله أن يرجع أهل السنة عن التصديق بما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أخبر به، وسواء في ذلك ما أخبر به عن المهدي، وما أخبر به عن غيره؛ مما مضى، وما سيكون في آخر الزمان؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، وغير ذلك من الأمور التي ينكرها بعض العصريين.

وقال ابن محمود في صفحة (7): "وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، كحديث علي مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا»، ومثله عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «المهدي منا أهل البيت»، وكذا عن علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق»، ومثله حديث أم سلمة مرفوعًا: «المهدي من عترتي ومن ولد فاطمة» رواها كلها أبو داود في سننه وغيره".

والجواب: أن يقال: أما قوله وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، فهو مما قلد فيه بعض العصريين، ومنهم رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وسعد محمد حسن، وغيرهم من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرت في أول الكتاب تسعة أحاديث من الصحاح والحسان الواردة في المهدي، وذكرت لبعضها عدة طرق من الصحاح والحسان فلتراجع (2)، ففيها أبلغ رد على ابن محمود وعلى سلفه، الذين زعموا أن أحاديث المهدي كلها ضعيفة.

وأما حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا» فهو حديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه ..

(1) ص (70 - 71).

(2)

(9 - 17).

ص: 76

في أول الكتاب فليراجع (1).

وأما حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «المهدي منا أهل البيت» فهو حديث حسن، رواه الإمام أحمد وابن ماجة، وتقدم ذكره في أول الكتاب (2)، وقد وهم ابن محمود فزعم أن أبا داود قد رواه، وهو لم يروه.

وأما حديث علي رضي الله عنه أنه نظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد» الحديث، فهو حديث ضعيف الإسناد وقد تقدم التنبيه عليه قريبًا (3)، ولبعضها شاهد من حديث ابن مسعود وأبي سعيد رضي الله عنهما وقد تقدم ذكرهما في أول الكتاب (4).

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها فقد تكلم بعضهم في إسناده، وقد سكت عليه أبو داود، وقد قال أبو بكر بن داسه: سمعت أبا داود يقول: فذكر ما قاله في سننه، وفيه أنه قال:"وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض"، وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير:"إسناده حسن".

وقال ابن محمود في صفحة (7) وصفحة (8): "وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت؛ لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم، كما تحاشى عنها البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة، وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها، مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي فلا ذكر لها فيه".

الجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما إعراض بعض المحدثين عن إثبات بعض الأحاديث في كتبهم عن أهل البيت فليس فيه دليل على ضعف أحاديث المهدي كلها، وليس فيه حجة لمن تهجم على أحاديث المهدي وقابلها بالرد والإنكار، زاعمًا أنها كلها ضعيفة، وما أكثر الأحاديث التي لم يذكرها البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي، وهي مع ذلك صحيحة. وفي موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجة، وجامع الترمذي، وصحيح ابن خزيمة، .........................................

(1) ص (14 - 15).

(2)

ص (15 - 16).

(3)

ص (71).

(4)

ص (9 - 12).

ص: 77

وابن حبان، ومستدرك الحاكم، وغيرها من المسانيد والمستخرجات والمعاجم شيء كثير من الأحاديث الصحيحة، ولا أظن أن عاقلا يقول: إن ما لم يذكره البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي في كتبهم فإنه لا يكون صحيحًا، لِم يترتب على ذلك من أبطال كثير من السنن.

الوجه الثاني: أن يقال: قد روي مسلم في صحيحه ثلاثة أحاديث في ذكر الخسف بالجيش الذي يغزو الكعبة، وروى البخاري حديثًا منها، وفيها إشارة إلى المهدي، وقد تقدم بيان ذلك قريبًا (1)، وتقدم أيضًا ما رواه مسلم عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما في ذكر الخليفة الذي يكون في آخر الزمان يحثي المال حثيا ولا يعده عدًا، وهي ثلاثة أحاديث، وفيها إشارة إلى المهدي كما تقدم بيانه (2).

وأما قوله: وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها.

فجوابه: أن يقال: إثبات علمهم بضعفها يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، وليس مع من ادعى علمهم بضعفها سوى اتباع الظن، وقد قال الله -تعالى-:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» .

وأما قوله: مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزَّه مسنده عن أحاديث المهدي فلا ذكر لها فيه.

فجوابه: أن يقال: إن شيوخ أبي داود والترمذي كثيرون جدًا، وبعض الشيوخ يروي من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، فلا يبعد أن يكون الدارمي لم يرو شيئًا من أحاديث المهدي، وقد يكون روى منها وترك ذكرها عمدًا، كما ترك أحاديث الإيمان، والمناقب، وتفسير القرآن، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، فلم يذكرها في كتابه، ويبعد أن يكون لم يرو في ذلك شيئًا، فهل يقول ابن محمود أن الدارمي قد نزه كتابه عن ذكر الأحاديث في الإيمان، والمناقب، والتفسير، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، كما قد قال ذلك في أحاديث المهدي؟ أم يخص التنزيه بأحاديث المهدي فقط تقليدًا لرشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأضرابهم من العصريين، الذين لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وأتباع الغربيين؟ والذي لا يشك فيه أن التقليد لمن ذكرنا هو

(1) ص (64 - 66).

(2)

ص (67 - 68).

ص: 78

الذي حمل ابن محمود على رد الأحاديث في المهدي، وتنزيه مسند الدارمي عنها.

وقال ابن محمود في صفحة (8): "ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين، أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، كما ذكر عن الإمام أحمد؛ أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه. ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إلي حتى أثبته في كتابي"، وكذلك سائر علماء كل عصر ينقل بعضهم عن بعض، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود؛ كالترمذي، وابن ماجة؛ لخروج الحديث من كتاب إلى مائة كتاب، وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم، لكون الناس مقلدة، وقليل منه المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم".

والجواب: أن يقال: قد جازف ابن محمود في هذه الجملة غاية المجازفة، وتجاوز حد المعقول إلى غير المعقول، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال:

وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى

يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل

فأما قوله: ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه.

فجوابه: أن يقال: هذه المجازفة بعيدة كل البعد عن الصواب، ولا أعلم أحدًا رمي سائر العلماء من السلف ومن بعدهم في كل عصر بالتقليد سوى ابن محمود، ويالها من زلة ما أبشعها وأشنعها، وإذا كان علماء السلف ومن بعدهم من سائر العلماء في كل عصر مقلدة عند ابن محمود، وهو لا يعد المقلد من أهل العلم، فمن هم العلماء، ومن هم المحققون إذا؟ ولعل ابن محمود كتب هذا الكلام وهو في حالة لا يشعر معها بما كان يكتبه.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» رواه الإمام أحمد، والبخاري ومسلم، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وثبت نحوه عن عدد كثير من الصحابة رضي الله عنهم رووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرتُ هذه الأحاديث في كتابي " إتحاف الجماعة، بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" في "باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة" فلتراجع هناك.

ص: 79