المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تخرصات العصريين في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين - الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ تخرصات العصريين في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين

أعظم من خروج المهدي، فهل يصدق بوقوعها أم يسلك فيها مسلكه في أحاديث المهدي؟ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه، والله المسئول أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

وهذا آخر ما تيسر إيراده فيما يتعلق بالمهدي، وبقي الكلام في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين، وقبل إيراد كلام ابن محمود في ذلك والرد عليه، أذكر ما وقفت عليه من‌

‌ تخرصات العصريين في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين

.

فمنهم من ينكر وجود السد، ومستندهم في ذلك ما يزعمه بعض الناس أن السائحين من دول الكفر قد اكتشفوا الأرض كلها فلم يروا سد ذي القرنين، وهذا في الحقيقة تكذيب بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن السد، والتكذيب بما أخبر الله به في كتابه كفر وظلم، قال الله -تعالى-:{وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} ، وقال -تعالى-:{وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} ، والتكذيب بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أيضًا؛ لأن تكذيبه ينافي الشهادة بالرسالة، ويلزم عليه تكذيب قول الله -تعالى-:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» وفي هذا الحديث دليل على وجوب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنباء الغيب، ما مضى منها وما سيكون قبل قيام الساعة وبعد قيامها، ومن ذلك اندكاك السد في آخر الزمان، وخروج يأجوج ومأجوج على الناس، ومن لم يؤمن بهذا فهو داخل في حكم هذا الحديث الصحيح، والله أعلم.

قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء": " اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفًا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفي ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} " انتهى.

ص: 310

وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه: "السد حق ثابت، ولا ينفتح ليأجوج ومأجوج إلا قرب الساعة، فمن قال بعدم وجود سد على وجه الأرض، ومستنده في ذلك قول الكشافين من النصارى، وأنهم لم يعثروا عليه يكفر، وقد وقع للشيخ عبد الرحمن قاضي المرج مع متصرف بني غازي، فإنه قال في جمع عظيم إنه لا سد في الأرض موجود، لأخبار السائحين في الأرض من النصارى، فقام الشيخ عبد الرحمن إليه أمام الحاضرين وقال: كفرت، تصدق الكشافين وتكذيب رب العالمين، ثم تدارك المتصرف نفسه وقال: إنما قلت ذلك على طريق الحكاية عنهم، ولست معتقدًا لذلك، قال الكافي: ولا يكون قول الكشافين شبهة تنفي عنه الكفر؛ لأنه لو كان إيمانه ثابتًا لما ترك قول الله -تعالى- وقول رسوله صلى الله عليه وسلم المستحيل عليهما الكذب وتبع قول من لا دين له". انتهى.

ومن العصريين من يزعم أن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر، وقد صرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي بتكفير من قال ذلك كما سيأتي في كلامه قريبًا -إن شاء الله تعالى-، ووجه القول بتكفير من قال به أنه يلزم عليه تكذيب ما أخبر الله به في كتابه عن السد، وأنه قد حال بين يأجوج ومأجوج وبين الخروج على الناس، وأن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب تبارك وتعالى أي في آخر الزمان إذا دنا قيام الساعة - جعله دكاء فخرجوا على الناس، وذلك بعد ما ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض ويقتل الدجال، وقد جاء ذلك صريحًا في عدة أحاديث صحيحة؛ منها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، قال:«فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» الحديث رواه الإمام أحمد .....

ص: 311

ومسلم والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي:"هذا حديث غريب حسن صحيح".

ومنها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه: «فبينما هم كذلك إذا أخرج الله يأجوج ومأجوج» الحديث رواه الحاكم وابن مندة في كتاب الإيمان، قال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية":"قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح".

ومنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إليَّ ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافر فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارًا» رواه الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه قال العوام - وهو ابن حوشب أحد رواته -: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ثم قرأ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} .

وفي هذه الأحاديث دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وذلك عند اقتراب الساعة كما هو منصوص عليه في قوله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي دنا قيام الساعة، وفي هاتين الآيتين مع الأحاديث التي تقدم ذكرها أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج هم دول ................................................

ص: 312

الكفر في آسيا وأوربا وأمريكا وغيرها من بلاد المشركين؛ لأن هؤلاء الكفرة لم يزالوا مختلطين بالناس ولم يكن بينهم وبين الناس سد من حديد يحول بينهم وبين الخروج على الناس.

ومما يُرد به أيضًا على المتخرصين الزاعمين أن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر، ما جاء في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة، قال:«إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخِر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، رواه الطبراني والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

وفي هذين الحديثين دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون قبيل قيام الساعة، وأن خروجهم من جملة الآيات الكبار المؤذنة باقترابها.

وقد قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه "المسألة الثانية والثلاثون": "يأجوج ومأجوج هم أناس بالغون في الكثرة عددًا لا يعلمه إلا الله -تعالى-، ولا يستطيع أحد مقاومتهم عند خروجهم من السد لكثرتهم، وهم مفسدون في الأرض كما أخبر الله -تعالى- عنهم، وهم الآن محازون عن غيرهم بالسد الذي بناه ذو القرنين، وخروجهم علامة على قيام الساعة، فمن قال واعتقد أن يأجوج ومأجوج هم أوربا يكفر لتكذيبه الله -تعالى- في خبره: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}، قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}: "فحينئذ يخرجون (وهم) يعني يأجوج ومأجوج، (من كل حدب) من كل أكمة ومكان مرتفع، (ينسلون) يخرجون، (واقترب الوعد الحق) دنا قيام الساعة عند خروجهم من ..................

ص: 313

السد"، وأخرج ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه قال: "لو أن رجلا اقتنى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة" انتهى.

ومن أغرب أقوال العصريين ما زعمه طنطاوي جوهري في تفسيره أن يأجوج ومأجوج هم التتار، الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده، ولو كان الأمر على ما زعمه هذا المتخرص المتأول لكتاب الله -تعالى- على غير تأويله، لكان الدجال قد خرج في أول القرن السابع من الهجرة قبل خروج التتار على المسلمين، ولكان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قد نزل من السماء وقتل الدجال قبل خروج التتار، ولكان سد ذي القرنين قد دك في ذلك الزمان، ولكان أوائل التتار قد شربوا بحيرة طبرية وآخرهم لم يجدوا فيها ماء، ولكانوا قد حصروا نبي الله عيسى وأصحابه حتى دعا عليهم فأرسل الله عليهم النغف في رقابهم فأصبحوا فرسى كموت نفس واحدة، ولكانت الساعة قد قامت منذ سبعة قرون؛ لما جاء في حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ثم يجيء عيسى فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين والطبراني، قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح"، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي تقدم ذكره قريبًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة» فذكر الحديث في خروج الدجال وقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، ودعاء عيسى عليهم فيهلكهم الله، ثم ذكر عن عيسى أنه قال: ففيما عهِد إلي رب عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم التي لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا.

وعن سبيع - وهو ابن خالد - عن حذيفة رضي الله عنه قال: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأسأله عن الشر

فذكر الحديث وفيه: قال «ثم يخرج الدجال» قال: قلت: فبِم يجيء به معه؟ قال: «بنهر، أو قال ماء ونار، فمن دخل نهره حط أجره ووجب وزره، ومن دخل ناره وجب أجره وحط وزره» ، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: «لو أنتجت فرسًا لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة» " رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 314

وإذا لم يقع شيء من الأمور العظام التي ذكرنا، فمن أبطل الباطل وأقبح الجهل والتخرص واتباع الظن ما جزم به طنطاوي جوهري في قوله إن يأجوج ومأجوج هم التتار الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده، وقد تبعه على باطله وجهله صاحب "دليل المستفيد، على كل مستحدث جديد" فزعم أن التتار هم أوائل يأجوج ومأجوج، وزعم في موضع آخر من كتابه أن يأجوج ومأجوج قد تفرقوا في الأرض وصاروا دولا في آسيا وأوربا وأمريكا، وقد تقدم عن الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي أنه صرَّح بتكفير من قال بهذا القول، ومن المعلوم عند كل عاقل أن دول آسيا وأوربا وأمريكا لم تزل في أماكنها منذ زمان طويل، وأنه ليس بينهم وبين غيرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الناس.

فصفة يأجوج ومأجوج لا تنطبق على الدول المعروفة الآن، وقد تقدم في عدة أحاديث صحيحة أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، وأنهم لا يمكثون بعد خروجهم على الناس إلا مدة يسيرة، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى فيهلكهم الله جميعًا كموت نفس واحدة، فهم بلا شك أمة عظيمة، قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، وهذا السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز.

وأما كون السائحين في الأرض لم يروا يأجوج ومأجوج ولا سد ذي القرنين، فلا يلزم منه عدم السد ويأجوج ومأجوج، فقد يصرف الله السائحين عن رؤيتهم ورؤية السد، وقد يجعل الله فوق السد ثلوجًا متراكمة بحيث لا تمكن رؤية السد معها، أو يجعل الله غير ذلك من الموانع التي تمنع من رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد.

والواجب على المسلم الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يتكلف ما لا علم له به، ولا يقول بشيء من أقوال المتكلفين المتخرصين، بل ينبذها وراء ظهره ولا يعبأ بشيء منها.

والمقصود ههنا بيان أن إنكار السد ويأجوج ومأجوج بالكلية كفر بلا شك، لما في ذلك من تكذيب ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عن السد ويأجوج ومأجوج، وأما الاعتراف بوجود السد في قديم الزمان، والقول بزواله بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم، .........................

ص: 315

وخروج يأجوج ومأجوج واختلاطهم بالناس، فهذا أخف من القول الأول لما فيه من التأويل، ولا ينبغي أن يطلق الكفر على قائله، ولكن لا يجوز اعتقاده؛ لأنه قول باطل مخالف لما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن السد، أنه لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، وأن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال.

فصل

قال ابن محمود في صفحة (74، 75، 76) الحديث عن يأجوج ومأجوج، "لقد أكثر السفاريني في كتابه "لوائح الأنوار" من أحاديث يأجوج ومأجوج على صفة ما عمله في أحاديث المهدي؛ لأنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، ونحن نسوق لك قليلا من كثير من أحاديثه التي ذكرها منها حديث:«إن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش شحمة أذنه ويلتحف بالأخرى» ، وحديث:«إنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده» ، وأحاديث تصفهم بصفة الإرهاب، وأن لهم أنيابًا كالسباع وقرون، ونقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم: وذلك أن آدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب، فخلق منه يأجوج ومأجوج، قال: فهم إخوتنا لأبينا. كل هذه وما هو أكثر منها ذكرها السفاريني، ويأجوج ومأجوج قد أخبر الله عنهم في كتابه مما لا شك فيهم، فقال -سبحانه-:{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} ، وقال:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} ، فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم، وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة، ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟! لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم ولم يروا سدًا، وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا: إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها، فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلا: لا تبعدوا النظرة ...................................................

ص: 316

ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، والتي تداعي عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم، عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا قد احمرَّ وجهه، وهو يقول:«لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال:«نعم، إذا كثر الخبث» . وكان ابتداء حركتهم في ظهورهم على المسلمين، من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام. وقد روي الإمام أحمد وأبو داود، عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها» ، قالوا: يا رسول الله، أمِن قلة نحن يومئذ؟! قال:«لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله مهابة عدوكم منكم، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي في قلوبكم الوهن» ، قالوا: وما الوهن، يا رسول الله؟ قال:«حب الدنيا، وكراهة الموت» . ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعيد رحمه الله رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء ذلك واتهموه بأنه يُكذِّب بالقرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان، ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها".

والجواب: أن يقال: أما قول ابن محمود في السفاريني: إنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، فهو مما ينطبق عليه المثل المشهور وهو قولهم:"يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه"، فابن محمود أولى أن يوصف بأنه حاطب ليل ولا سيما في رسالته في المهدي ويأجوج ومأجوج، فقد جمع فيها ................................

ص: 317

من الغث والسقيم ما يتنزه عنه كل من له عقل ودين، وهي مع هذا خالية من السمين والصحيح لأنها كلها أخطاء من أولها إلى آخرها وقد تقدم إيضاح ذلك عند كل فقرة من كلامه.

وأما الأحاديث التي ساقها ابن محمود من كتاب السفاريني وأنكر عليه ذكرها في كتابه وقال أنه حاطب ليل.

فالجواب: أن يقال: أما الأحاديث المنكرة في صفات يأجوج ومأجوج فقد ذكرها ابن جرير والبغوي والقرطبي في تفاسيرهم، وذكرها القرطبي أيضًا في التذكرة، وذكرها غيرهم من أكابر العلماء، فمن أنكر على السفاريني وزعم أنه حاطب ليل من أجل أنه ذكرها، فلينكر على من ذكرها قبله من أكابر العلماء، وليصفهم بما وصف به السفاريني، ولا يجعل التحامل خاصًا بالسفاريني.

وأما الحديث الذي فيه: «إنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده» فقد رواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما مرفوعًا، وفيه بعض الصفات المنكرة مما قيل في يأجوج ومأجوج، قال الهيثمي:"فيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف"، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري:"أخرجه ابن عدي وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، والعطار ضعيف جدًا، ومحمد بن إسحاق، قال ابن عدي: ليس هو صاحب المغازي، بل هو العكاشي، قال: والحديث موضوع، وقال ابن أبي حاتم: منكر".

قال الحافظ ابن حجر: "لكن لبعضه شاهد صحيح أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود رفعه: «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفًا من الذرية»، وللنسائي من رواية عمرو بن أوس عن أبيه رفعه: «إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، وأخرج الحاكم وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمرو: «إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، ووراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مثله". انتهى المقصود مما ذكره الحافظ ابن حجر، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي ذكره الحافظ ابن حجر قد رواه عبد الرازق في مصنفه، والحاكم في المستدرك من طريقين، قال في كل منهما: "صحيح ..........................

ص: 318

على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنهم لو أرسلوا على الناس لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق أبي داود الطيالسي، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات".

وأما الحديث الذي فيه أن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، أو أن لهم قرونًا وأنيابًا مثل السباع، فكل هذه من الأحاديث الموضوعة، فلا يعول على شيء منها.

والصحيح ما قاله ابن كثير -رحمه الله تعالى- إنهم من بني آدم، وإنهم على أشكالهم وصفاتهم، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن حرملة، عن خالته رضي الله عنها قالت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب، فقال:«إنكم تقولون لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة» ، قال الهيثمي:"رجالهما رجال الصحيح". الشعاف: الشعور.

وأما ما نقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم، وأن أدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب فخلق منه يأجوج ومأجوج، فهو قول باطل مردود؛ لأن الله -تعالى- قال مخبرًا عن نوح عليه الصلاة والسلام:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ، فدلت هذه الآية الكريمة على أن يأجوج ومأجوج من ذرية نوح عليه الصلاة والسلام، وقد روى الحاكم في مستدركه، عن سعيد بن المسيب أنه قال:"ولد نوح عليه الصلاة والسلام ثلاثة؛ سام، وحام، ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير، وولد حام السودان والبربر والقبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج"، ورواه البزار في مسنده من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«وُلِدَ لنوح سام وحام ويافث، فوُلِدَ لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد لحام القبط والبربر والسودان» ، في إسناده محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي عن أبيه، وكلاهما ضعيف، قال ابن كثير:"والمحفوظ عن سعيد من قوله، وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله". انتهى.

ص: 319

وقال ابن كثير أيضًا: "من زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلطت بالتراب فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن، وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدًا، فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو في غاية الصغر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن»، وهذا فيصل في هذا الباب وغيره". انتهى.

وأما قوله: فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم، وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم، بل ومن ذرية نوح.

فجوابه: أن يقال: من آمن بما أخبر الله به في كتابه عن يأجوج ومأجوج لم يشك أنهم من وراء السد الذي بناه ذو القرنين، وقد أخبر الله عنهم أنهم ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب تبارك وتعالى جعله دكاء فخرجوا على الناس، وذلك في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، كما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله -تعالى- يوحي إلى عيسى بإخراج يأجوج ومأجوج، وقد تقدم هذا الحديث قريبًا، وحديث حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما بمعناه.

وأما قوله: وفي صفة خلقهم.

فجوابه: أن يقال: إنما يخوض في صفة خلق يأجوج ومأجوج من لا يعلم أنهم من بني آدم، فأما من علم أنهم من بني آدم فإنه لا يبقى عند شك أنهم على أشكال بني آدم وصفاتهم.

وأما قوله: وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟!

ص: 320

فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من التخليط الذي يتنزه عنه كل عاقل، فأما أوصاف الملائكة فمن أين لابن محمود العلم بها حتى يقول إن أوصاف يأجوج ومأجوج لا تنطبق عليها، وأما أوصاف بني آدم فقد قال ابن محمود إن يأجوج ومأجوج من نسل آدم ومن ذرية نوح، ولا يخفى على عاقل أن أوصاف بني آدم وأشكالهم متقاربة، وإنما يختلفون في الألسنة والألوان، وحسن الوجوه أو قبحها.

وأما قوله: ولا يدرون كيف يخرجون على الناس.

فجوابه: أن يقال: إن خروجهم على الناس في آخر الزمان لا يختلف عن خروج غيرهم من بني آدم، وإنما يكون ذلك إذا جعل الله السد دكاء كما قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} ، وقد أخبر الله عنهم أنهم من كل حدب ينسلون؛ أي يسرعون.

وأما قوله: أينزلون من السماء أم ينبعون من الأرض؟!

فجوابه: أن يقال: لا يظن بأحد من المسلمين أنه يقول بهذا القول المستهجن؛ لأن يأجوج ومأجوج ليسوا ملائكة ينزلون من السماء، وليسوا ماء ولا غيره من المعادن السائلة التي تنبع من الأرض.

وأما قوله: لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها، فلم يروهم ولم يروا سدًا.

فجوابه: أن يقال: الصواب أن يقال: سطح الأرض كله، ويقال أيضًا: إن قدرة بني آدم تعجز عن اكتشاف سطح الأرض كله، ولو قدر أنهم اكتشفوه فقد يصرف الله السائحين عن رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد، لما له في ذلك من الحكمة.

والمقصود هنا بيان أنه يجب الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وأن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروا السد وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب تبارك وتعالى جعله دكاء، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في الكلام على قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: " {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} ؛ أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} ؛ أي مساويًا ......................

ص: 321

للأرض، ولا بد من كون هذا، ولهذا قال:{وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، كما قال -تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية، ولهذا قال ههنا:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ؛ يعني يوم فتح السد على الصحيح". انتهى.

ويجب أيضًا الإيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، عن النواس بن سمعان وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وقد قال الله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، فدلت الآيتان على أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد جاء في حديث حذيفة بن أسيد، وحديث واثلة بن الأسقع، أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على اقتراب الساعة، وقد تقدم إيراد الحديثين قريبًا فليرجع إليهما (1).

وأما قوله: وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها.

فجوابه: أن يقال: إن الملاحدة قد تسلطوا على تكذيب القرآن في أشياء كثيرة غير السد ويأجوج ومأجوج، ولا سيما معجزات الأنبياء وما أيدهم الله به من خوارق العادات؛ مثل انشقاق القمر، وفلق البحر لموسى حتى صار كل فرق كالطود العظيم، وجعل العصا حية تسعى، وتفجير العيون من الحجر الصغير الذي يحمل على الدابة، وإهلاك الأحباش بالأحجار التي تحملها الطير في مناقيرها وأرجلها، إلى غير ذلك من المعجزات والخوارق التي لا تحتملها عقول الملاحدة، فلا يستكثر منهم التكذيب بوجود السد ويأجوج ومأجوج.

وأما قوله: فبينما هم في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج، قائلا: لا تبعدوا النظرة ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم.

(1) ص (313، 314).

ص: 322

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا الكلام بهذا السياق غير موجود في رسالَتَي ابن سعدي اللتين كتبهما في خروج يأجوج ومأجوج، والظاهر أن ابن محمود أخذه من مضمون كلام ابن سعدي ثم نسبه له، ولو أن ابن محمود نسبه إلى نفسه وذكر أنه أخذه من مضمون كلام ابن سعدي لكان أولى وأوفق للأمانة في النقل.

الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكره ابن محمود في يأجوج ومأجوج أنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، فهو قول مخالف لما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه جعل بين الناس وبين يأجوج ومأجوج سدًا من حديد، وأن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب تبارك وتعالى جعله دكاء، وحينئذ يخرجون على الناس، وذلك في آخر الزمان عند اقتراب الساعة، كما قال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وإذا في قوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} ، وفي قوله:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} لما يستقبل من الزمان، وهذا يدل على أن يأجوج ومأجوج لم يزالوا وراء السد حتى يأتي وقت خروجهم في آخر الزمان، وفي قوله:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} دليل على أنهم إنما يخرجون إذا دنا قيام الساعة.

وقد أوضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه النواس بن سمعان رضي الله عنه حيث قال بعد ذكر خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال: «فبينما هم كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى؛ إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج» الحديث، وفي حديث حذيفة وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقد تقدم إيراد هذه الأحاديث قريبًا فلتراجع (1).

ولا يخفى ما في الكلام الذي نسبه ابن محمود لابن سعدي من المخالفة لما أخبر الله به في كتابه، وما كان كذلك فهو باطل وضلال، ومن زعم أنه نور هداية ودلالة فلا شك أنه لا يعرف الفرق بين نور الهداية والدلالة وبين ظلام الضلال والإضلال.

الوجه الثالث: أن يقال: إن أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم قد ......

(1) ص 311 - 312.

ص: 323

كانوا موجودين في جميع الجهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وعن أيمان المسلمين وعن شمائلهم ومن خلفهم من قبل أن يوجد السد وبعد أن وجد، ولم يزالوا كذلك على ممر الأزمان، ومع هذا فلم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنهم هم يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم ولا من بعدهم من العلماء، حتى جاء المتكلفون في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة فزعموا أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، فهل يقول مسلم عاقل إن المتكلفين أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم بيأجوج ومأجوج، أو يقول من له أدنى عقل ودين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم إلى آخر القرن الرابع عشر من الهجرة كانوا في غمرة من الجهل ساهون، حتى طلع عليهم نور الهداية والدلالة من أحد المتكلفين القائلين في حقيقة يأجوج ومأجوج بغير علم؟ كلا، لا يقول هذا مسلم عاقل.

الوجه الرابع: أن يقال: إن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، كما جاء ذلك صريحًا في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبًا عن النواس بن سمعان، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فلتراجع (1)، ففيها أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم.

الوجه الخامس: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في حديث النواس بن سمعان الذي تقدم ذكره قريبًا أن يأجوج ومأجوج إذا بعثوا يمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما نحو ذلك، وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمروه على ماء إلا شربوه، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم؛ لأن الذين قد ملئوا الأرض شرقًا وغربًا من أمم الكفار لم يقع منهم شيء مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فلم يهلكوا ما أتوا عليه، ولم ينقصوا ما عندهم من المياه، فضلا عن أن يشربوا بحيرة طبرية وينشفوها، مع أن بعضهم كانوا مجاورين لها أزمانًا طويلة.

(1) ص (311، 312).

ص: 324

الوجه السادس: أن يقال: قد أخبر الله -تعالى- أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، فقال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وفي قوله:{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أوضح دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، ويدل على ذلك ما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، قال الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} ، قال السدي في قول الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير:"وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى.

الوجه السابع: أن يقال: قد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله -تعالى- عهد إلى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، وهذا يدل على أن خروجهم إنما يكون إذا دنا قيام الساعة، وقد روى ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:«لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة» ، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ قال:«عيسى ابن مريم» ، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» ، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وأنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وأن أول ظهورهم على المسلمين كان في غزوة مؤتة، فكل هذا من التوهمات والتخرصات، وقد ذكرت من الآيات والأحاديث ما فيه كفاية لرد هذا القول الباطل وبيان بطلانه.

الوجه الثامن: أن يقال: قد جاء في حديث ابن حرملة عن خالته أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين لا يزالون يقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، وقد تقدم هذا الحديث قريبًا (1)، وروى الإمام أحمد وابن سعد، والبخاري في تاريخه، والنسائي والطبراني، عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» ، وفي هذا الحديث وما قبله أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم .................................

(1) ص (319).

ص: 325

وأوطانهم؛ لأن القتال بين المسلمين وبين أمم الكفار لم يزل منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزال كذلك إلى أن ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ويقاتل الناس على الإسلام، ولو كان الأمر على ما توهمه المتكلفون لكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ وجدت أمم الكفار في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ظاهر البطلان.

الوجه التاسع: أن يقال: ما قرره الشيخ ابن سعدي في رسالته من أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم فهو مخالف لما قرره في تفسيره لسورة الأنبياء، فقد قرر فيها أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون في آخر الزمان، قال في الكلام على قول الله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية، ما نصه:"هذا تحذير من الله للناس أن يقيموا على الكفر والمعاصي، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، وقد سد عليهم ذو القرنين لما شكي إليه إفسادهم في الأرض، وفي آخر الزمان ينفتح السد عليهم فيخرجون إلى الناس، وفي هذه الحالة والوصف الذي ذكره الله، من كل مكان مرتفع وهو الحدب ينسلون أي يسرعون، في هذا دلالة على كثرتهم الباهرة وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد وتسهل عليهم الصعب، وأنهم يقهرون الناس ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يد لأحد بقتالهم". انتهى، وهذا صريح في رجوعه عما كان يقوله في يأجوج ومأجوج إنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وقال في تفسير سورة الكهف في الكلام على قول الله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} : "قال المفسرون ذهب متوجهًا من المشرق قاصدًا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين؛ وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال المتصلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحار، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس وجد من دون السدين قومًا لا يكادون يفقهون قولا؛ لعجمة ألسنتهم واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج وهما أمتان عظيمتان من بني آدم، فقالوا:{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} أي جعلا، {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} ، ودل ذلك على عدم اقتدارهم .............

ص: 326

بأنفسهم على بنيان السد

إلى أن قال على قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} : أي الجبلين الذين بني بينهما السد، {قَالَ انْفُخُوا} النار أي أوقدوها إيقادًا عظيمًا، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد {قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي نحاسًا مذابًا، فأفرغ عليه القطر فاستحكم السد استحكامًا هائلا، وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي فمالهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه ولا على نقبه لإحكامه وقوته، وقوله:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي لخروج يأجوج ومأجوج، {جَعَلَهُ} أي ذلك السد المحكم المتقن، {دَكَّاءَ} أي دكه فانهدم واستوى هو والأرض، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يحتمل أن الضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها يموج بعضهم ببعض، كما قال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون، ويموج بعضهم ببعض من الأهوال والزلازل العظام، بدليل قوله:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} ".

قلت والاحتمال الأول أقرب؛ لأن الله -تعالى- عقَّب قوله {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} بقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} ، فدل هذا على أن موج بعضهم في بعض يكون قبل النفخ في الصور، وهذا هو الذي قرره ابن كثير في تفسيره، وذكره عن السدي، والله أعلم.

وفيما نقلته من كلام ابن سعدي في تفسيره أبلغ رد على ابن محمود، حيث تعلق بالرسالة التي قد قرر ابن سعدي في الجزء الخامس من تفسيره خلاف ما قرره فيها، وهذا الجزء مطبوع في سنة 1375 من الهجرة في المطبعة السلفية بمصر، وقد أرسل لي المؤلف نسخة منه من حين طبعه وكتب الإهداء إليَّ بخطه، وكان هذا بعد إخراجه للرسالة التي غلط فيها في أمر يأجوج ومأجوج بنحو من سبع عشرة سنة، وقد أنكر كبار العلماء في البلاد النجدية ما قرره في رسالته في أمر يأجوج ومأجوج غاية الإنكار، واستدعاه الملك عبد العزيز إلى الرياض بسببها وتهدده وتوعده، وبعد ذلك لم نسمع عنه أنه تكلم في يأجوج ....

ص: 327

ومأجوج بشيء حتى طبع تفسيره، فإذا كلامه فيه على خلاف ما قرره في رسالته التي أنكرها كبار العلماء، ولم يخرج في تفسير الآيات من سورة الكهف ومن سورة الأنبياء عما ذكره المفسرون في أمر يأجوج ومأجوج، فيحتمل أنه قد رجع عما قرره في رسالته، وإن لم يكن رجع عن ذلك فكلامه في يأجوج ومأجوج متناقض، فيؤخذ بما كان منه موافقًا لأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ويرد ما خالفهم فيه.

وأما قوله: والتي تداعى عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها.

فجوابه: أن يقال: هذه الجملة ليست من كلام ابن سعدي، وإنما هي من كلام ابن محمود.

ويقال أيضًا: أما الأمم التي تداعت على المسلمين فهم من أصناف الكفار من غير يأجوج ومأجوج، وقد وقع بعض ذلك حين خرج التتار على المسلمين من المشرق، وتداعت عليهم الأمم الصليبية من المغرب، وأما يأجوج ومأجوج فإنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وبعد قتل الدجال، كما جاء ذلك صريحًا في حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم وغيره، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان وابن مسعود رضي الله عنهم نحو ذلك، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبًا (1).

وأما قوله: وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم، عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فزعًا قد احمرَّ وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:«نعم إذا كثر الخبث» .

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ليس هذا من كلام ابن سعدي، وإنما هو من كلام ابن محمود، ولو أنه بيَّن ذلك لكان خيرًا له، وأوفق للأمانة العلمية.

الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد غيَّر في لفظ الحديث، حيث قال:«فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى» ، .............

(1) ص (311، 312).

ص: 328

وصوابه: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها» .

والوجه الثالث: أن يقال: إنه من الصعب أن يعقد الشخص بين السبابة والوسطى، ولعل ابن محمود ذهب وهمه إلى ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما، رواه البخاري وأبو داود والترمذي، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وروي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ورواه البزار وقال فيه:"وضم أصبعيه". والفرق بين التحليق بالابهام والتي تليها وبين القران بين السبابة والوسطى لا يخفى على صغار العامة فضلا عن صغار طلبة العلم، ومع هذا فقد خفي ذلك على رئيس المحاكم والدوائر الشرعية بدولة قطر.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان الذين استدعاهم استنشاق رائحة البترول هم يأجوج ومأجوج لكانوا قد أهلكوا كل ما أتوا عليه، وشربوا كل ماء مروا عليه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها (1)، ولكان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قد نزل قبل إقبالهم إلى بلاد المسلمين، ولكانوا قد حصروا نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين حتى دعا عليهم فأهلكهم الله كموت نفس واحدة، وحيث أنه لم يقع شيء من هذا فلا شك إنما قاله ابن محمود في إقبال يأجوج ومأجوج على المسلمين وفي حقيقة الفتح لهم، إنما هو محض التخرص والقول بغير علم.

الوجه الخامس: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، ولا ينفتح هذا السد إلا في آخر الزمان بعد نزول عيسى وقتل الدجال، كما جاء ذلك في عدة أحاديث تقدم ذكرها (1)، ويدل على ذلك ما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، قال الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال ابن كثير في "البداية والنهاية":"يعني يوم فتح السد على الصحيح"، وذكر في تفسيره عن السدي أنه قال:"ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير:"وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى، ويدل عليه أيضًا قوله ...........................................

(1) ص 311 - 312.

ص: 329

-تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، ففي هاتين الآيتين دليل على أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وفيهما مع الآيتين من سورة الكهف أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وأقبلوا على المسلمين من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين.

الوجه السادس: أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الساعة: «إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وروي الطبراني وابن مردويه والحاكم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وصححه الحاكم والذهبي.

وإنما كان خروج يأجوج ومأجوج آية من الآيات العشر الدالة على دنو الساعة واقترابها؛ لأن الناس لم يروهم قبل خروجهم، ولما فيهم من الكثرة الهائلة، ولأنهم يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، حتى إن أوائلهم يشربون بحيرة طبرية، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، وشربهم لبحيرة طبرية ولغيرها من المياه الغزيرة غير معتاد ولا مألوف عند الناس، فلهذا كان خروجهم من الآيات الدالة على دنو الساعة، ولو كانوا قد خرجوا منذ أزمان طويلة لما كان خروجهم من قبيل الآيات العظام، والله أعلم.

وقد جاء أن الآيات العشر إذا ظهر أولها تتابعت في زمن يسير، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث، بعضها مرفوع وبعضها موقوف، منها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خروج الآيات بعضها على اثر بعض، يتتابعن كما يتتابع الخرز في النظام» وقد رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن أحمد بن حنبل وداود الزهراني، وكلاهما ثقة".

ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .....

ص: 330

قال: «الأمارات خرزات منظومات بسلك، فإذا انقطع السلك تبع بعضها بعضًا» قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضه بعضًا» قال الهيثمي: "فيه علي بن زيد، وهو حسن الحديث"، وقد رواه الحاكم في مستدركه ولم يتكلم عليه، وكذلك الذهبي.

ومنها ما رواه ابن عساكر عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط، إذا سقط منها واحدة توالت؛ خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وفتح يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها» .

ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «إذا رأيتم أول الآيات تتابعت» .

ومنها ما رواه ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «لو أن رجلا ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنتجت مهرًا عند أول الآيات، ما ركب المهر حتى يرى آخرها» .

وهذا الأثر والذي قبله لهما حكم الرفع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال عن توقيف.

وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا على المسلمين حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين.

الوجه السابع: أن يقال: ما زعمه ابن محمود من وقوع الفتح ليأجوج ومأجوج، وأن حقيقته هو تداعي أمم الكفار على المسلمين، وإقبالهم عليهم من حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عناه بما روته عنه زينب بنت جحش رضي الله عنها، والاستدلال على ذلك بحديث ثوبان رضي الله عنه، فهو بلا شك من تأويل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على غير المراد به، وفي الآيات التي ذكرنا من سورة الكهف وسورة الأنبياء مع ما في الأحاديث الصحيحة عن النواس بن سمعان، وحذيفة بن اليمان، وابن مسعود رضي الله عنهم أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل ...........................................................

ص: 331

الدجال أبلغ رد على الحقيقة التي زعمها ابن محمود وليست بحقيقة، وإنما هي تخرص واتِّباع للظن، وقد قال الله -تعالى-:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} .

الوجه الثامن: أن يقال: ما زعمه ابن محمود من تداعي أمم الكفار على المسلمين وإقبالهم عليهم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، فهو خلاف الحقيقة؛ لأن الكفار وإن كانوا قد حسدوا المسلمين على البترول لما ظهر عندهم وودوا لو انتزعوه منهم، فهم مع ذلك لم يتداعوا على المسلمين ولم يقبلوا عليهم من كل حدب ينسلون، ولم يكونوا يأخذون من بترول المسلمين شيئًا إلا بالثمن أو في مقابلة أعمالهم في استخراجه من أعماق الأرض وتصفيته، وكثير من أمم الكفار يتظاهرون بالصداقة للمسلمين ليبذلوا لهم شيئًا من البترول بالثمن، أفلا يستحي ابن محمود من نشر مزاعمه التي يشهد الواقع بخلافها؟!

وأما قوله: وكان ابتداء حركتهم في ظهورهم على المسلمين من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: لا يخفى على من له أدنى علم بالتواريخ والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث الجيش يوم مؤتة لقتال الروم، وهم الذين كانوا في الشام في زمن الجاهلية وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم ظهر عليهم المسلمون في زمان عمر بن لخطاب رضي الله عنه وانتزعوا الشام منهم، فأما يأجوج ومأجوج فبلادهم في أقصى المشرق من ناحية الشمال، ذكر ذلك غير واحد من المتكلمين على الأقاليم ومواقع البلدان فيها، وقد روي ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قال: "الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج، أمتين من وراء ردم ذي القرنين، قال: الجبلان أرمينية وأذربيجان". وروي أيضًا عن الضحاك في قوله: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان، وقال القرطبي في تفسير قوله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} : "وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان". انتهى.

وهؤلاء لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم جيشًا ولا دعاة يدعونهم إلى الإسلام، ولا يمكن الاتصال بهم، حتى يأتي الوقت الذي قدر الله خروجهم فيه، وهو بعد نزول عيسى وقتل الدجال، فحينئذ يخرجون ويطئون البلاد، ويهلكون كل شيء أتوا عليه، حتى يدعو عليهم نبي الله

ص: 332

عيسى فيهلكهم الله جميعًا، هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .

الوجه الثاني: أن يقال: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فزع واحمر وجهه حين فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم، فكيف يظن به أنه بعث جيشًا من أصحابه يوم مؤتة لغزو يأجوج ومأجوج ودعائهم إلى الإسلام، هذا كلام باطل مردود.

الوجه الثالث: أن يقال: إنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الروم الذين قاتلهم المسلمون يوم مؤتة أنهم من يأجوج ومأجوج ولا أشار إلى ذلك البتة، وكذلك لم يؤثر عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من العلماء أنهم قالوا ذلك، ولو كان الروم من يأجوج ومأجوج لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكان ذلك مشتهرًا عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، وحيث أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الروم إنهم من يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم من العلماء، فإنه يلزم على قول ابن محمود أحد أمرين؛ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد خفي عليه أن الروم من يأجوج ومأجوج، وخفي ذلك على الصحابة ومن بعدهم من العلماء، أو أنهم قد علموا ذلك وكتموه، وما لزم عليه أحد هذين الأمرين فهو قول سوء، لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل.

الوجه الرابع: أن يقال: إن الروم لم يبتدءوا المسلمين بالخروج إليهم، ولم يظهروا على المسلمين لا في غزوة مؤتة ولا فيما بعدها من الغزوات، وإنما كان الابتداء من المسلمين، وكان لهم الظهور على الروم حتى أجلوهم من الشام إلى القسطنطينية، ثم غزوهم بعد ذلك في القسطنطينية عدة مرات؛ أولها في زمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إلى أن أخذوها منهم في زمان محمد الفاتح وأجلوهم إلى أوروبا، ولو كان الأمر على ما توهمه ابن محمود، حيث زعم أن الروم من يأجوج ومأجوج، لكانوا قد أهلكوا المسلمين وغير المسلمين من حين خروجهم، كما هو مقتضى النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الخامس: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج قد حيل بينهم وببين الناس بسد من حديد يمنعهم من الظهور والاختلاط بالناس، ولا يندك هذا السد إلا عند اقتراب الساعة، كما هو منصوص عليه في القرآن، وقد جاء في حديث النواس بن سمعان وغيره من الأحاديث التي تقدم ذكرها أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، فمن قال بخلاف هذا فقوله باطل مردود.

ص: 333

الوجه السادس: أن يقال: إن الروم ليس بينهم وبين المسلمين شيء من السدود البتة، وقد كان العرب يختلطون بهم في الجاهلية والإسلام، ولو كانوا من يأجوج ومأجوج لما قدر أحد على الاختلاط بهم، ولكانوا قد أهلكوا العرب وغير العرب من كل ما أتوا عليه، كما هو منصوص عليه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي تقدم ذكره.

الوجه السابع: أن يقال: من المستحيل أن يغزو المسلمين يأجوج ومأجوج وأن يدعوهم إلى الإسلام؛ لأن الاتصال بهم غير ممكن من أجل السد الحائل بينهم وبين الناس، ومن زعم أن المسلمين قد غزوهم ودعوهم إلى الإسلام فلا شك أنه لا يدري ما يقول.

وأما قوله: ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء ذلك واتهموه بأنه يكذب القرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن، وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان.

فجوابه: أن أقول: قد ذكرت قريبًا أن الشيخ ابن سعدي قد قرر في تفسيره في أمر يأجوج ومأجوج خلاف ما قرره في رسالته، وقد كان طبعه للتفسير بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة، وفي طبعه لتفسيره مع ما فيه من المخالفة لما قرره في رسالته دليل ظاهر على رجوعه عما كان قرره في الرسالة، وفي تمسك ابن محمود بما قرره ابن سعدي في رسالته وإعراضه عما قرره في تفسيره أوضح دليل على سوء اختيار ابن محمود، وميله إلى الأقوال الشاذة والآراء المنحرفة.

وأقول أيضًا: إن رسالة ابن سعدي في أمر يأجوج ومأجوج خالية من ...........

ص: 334

التحقيق، وقد رأيت النسخة التي بعث بها أحد المشايخ إلى الملك عبد العزيز، وهي بخط المؤلف، وقرأتها كلها فلم أر فيها شيئًا من التحقيق عن يأجوج ومأجوج، ورأيت أيضًا رسالته المختصرة، وهي التي اعتمد عليها ابن محمود ونقل منها، وحاصل التحقيق الذي زعم ابن محمود أنه فيها هو المخالفة لما أخبر الله به في كتابه عن فتح يأجوج ومأجوج، وأنه يكون عند اقتراب الساعة، والمخالفة أيضًا لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وإذا كانت رسالة ابن سعدي مخالفة للقرآن والأحاديث الصحيحة، فأي تحقيق يكون فيها وأي فائدة ترجى من ورائها.

وأما قوله: على صفة ما ذكره في تفسيره.

فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في كلام ابن محمود من التمويه الذي يشهد الواقع بخلافه، وذلك لأن ابن سعدي قد قرر في تفسيره في أمر يأجوج ومأجوج خلاف ما قرره في رسالته التي تعلق بها ابن محمود، وقد ذكرت قريبًا ما ذكره ابن سعدي في تفسيره فليراجع (1)، ففيه أبلغ رد على ابن محمود.

وأما إنكار العلماء لرسالة ابن سعدي فهو صحيح، ولا أعلم عن أحد من العلماء النجديين أنه وافق ابن سعدي على رسالته في أمر يأجوج ومأجوج.

وأما قول ابن محمود: إن ابن سعدي استدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن.

فجوابه: أن يقال: أما الاستدعاء فهو واقع، وأما المحاكمة فلم تقع، وخلاصة القصة أن الشيخ ابن سعدي لما كتب رسالته في يأجوج ومأجوج أرسلها أحد المشايخ إلى الملك عبد العزيز رحمه الله، فعرضها الملك على بعض أكابر العلماء فأنكروها غاية الإنكار، فاستدعاه الملك إلى الرياض، فلما حضر إلى مجلس الملك حضر معه أكابر العلماء بأمر من الملك؛ ليناظروا ابن سعدي إن دعت الحاجة إلى المناظرة، فأخبرني من كان حاضرًا معهم، أنه لما دخل عليهم الملك وهم في مجلسه قاموا جميعًا للسلام عليه ومعهم الشيخ ابن سعدي، وبعد السلام على الملك جلس كل رجل منهم في مجلسه، فأخذ الملك يتهدد ويتوعد كل من خالف الكتاب والسنة بأنه سيفعل به ويفعل، وكلهم يعلمون أنه يريد بالتهديد والوعيد الشيخ ابن سعدي، .........................

(1) ص (326، 327).

ص: 335

ولما انتهى الملك من كلامه وسكت، سكت الحاضرون كلهم، فلم ينطق أحد منهم بكلمة، ثم بعد ذلك قاموا جميعًا وتفرقوا، وبعد ذلك لم نسمع عن الشيخ ابن سعدي أنه تكلم في أمر يأجوج ومأجوج بشيء حتى طبع تفسيره بعد سبع عشرة سنة من حين إخراجه للرسالة، فإذا كلامه في التفسير يوافق ما ذكره المفسرون في أمر يأجوج ومأجوج، ويخالف ما جاء في رسالته التي أنكرها العلماء وتهدده الملك وتوعده بسببها.

وأما قوله: فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم.

فجوابه: أن يقال: لا صحة لما ذكره ابن محمود ههنا فإنه غير واقع، وإنما أتى به ابن محمود من كيسه، والواقع في الحقيقة أن الشيخ ابن سعدي لما تهدده الملك وتوعده سكت، فلم ينطق بكلمة لا مع الملك ولا مع العلماء، إلا أنه دعا للملك بالحفظ وطول العمر، هذا ما ذكره لي بعض المشايخ الحاضرين مع ابن سعدي في مجلس الملك، فأما البرهنة عن الرسالة فهي من تلفيق ابن محمود.

وأما قول ابن محمود: إن رسالة ابن سعدي تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم.

فجوابه: أن يقال: إن الأمر في الحقيقة على خلاف ما زعمه ابن محمود، فكل ما وصف به رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج فهي بضده؛ لأنها تخالف ما جاء في القرآن والسنة عن يأجوج ومأجوج، وتوقع الجهال في الحيرة والشك فيما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم، وتفتح للملحدين باب القول في تأويل القرآن بالرأي والتخرص وتحريف الكلم عن مواضعه.

ويقال أيضًا: ما ذكره الله -تعالى- في كتابه عن دك السد وفتح يأجوج ومأجوج أنه يكون في آخر الزمان إذا اقترب الوعد الحق، أي إذا دنا قيام الساعة، فهو في غاية الوضوح والبيان، ومن زعم أن ذلك غير واضح وأنه يتطرق إليه اللبس والشك فلا شك أنه جاهل بالقرآن.

وأما قوله: لهذا تبين للعلماء حسن قصده.

فجوابه: أن يقال: هذا من التقول على العلماء، فإنه لم يبلغني عن أحد منهم أنه وافق ابن سعدي على رسالته، بل كلهم مجمعون على إنكارها والتحذير من الاغترار بها.

ص: 336

وأما قوله: وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: قد جاء في إثبات وجود السد ويأجوج ومأجوج آيات من القرآن وأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن النص على أن السد من حديد وقِطر- وهو النحاس- وفيه أيضًا النص على أن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا أن يظهروا السد وما استطاعوا له نقبًا، وفيه أيضًا النص على أن اندكاك السد إنما يكون إذا جاء وعد الله -تعالى- أي إذا دنا قيام الساعة، وفي الأحاديث النص على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم وقتله الدجال، وأنه لا يدان لأحد بقتالهم، وأنهم إذا خرجوا لا يأتون على شيءٍ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، وأن أوائلهم يشربون بحيرة طبرية، وأن آخرهم إذا مروا بها يقولون لقد كان بهذا مرة ماء، وأنهم يحصرون نبي الله عيسى وأصحابه فيدعو عليهم فيهلكهم الله ويميتهم، فهل يقول ابن محمود إن هذا كله من ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه، ولم ينظر إلى ما يترتب عليه من تكذيب ما جاء عن الله -تعالى- وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؟

الوجه الثاني: أن يقال: إنما زال عن الناس ظلام الأوهام والضلال بإنكار رسالة ابن سعدي والتحذير منها، وبيان أنها تخالف ما جاء في القرآن والسنة عن يأجوج ومأجوج، وحتى مؤلفها رحمه الله يظهر أنه قد زال عنه ظلام الأوهام والضلال بما قرره في تفسيره الذي كان طبعه له بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة، وقد ذكرت كلامه في تفسيره قريبًا فليراجع (1).

وأما قوله: وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إنه لم يكن لرسالة ابن سعدي أثر كبير إلا عند ابن محمود، وقد يكون لها أثر كبير عند أمثال ابن محمود من المتكلفين الخائضين فيما لا يعنيهم، فأما أهل العلم فقد أنكروها غاية الإنكار، وقد سمعت ذلك من كثير منهم، وبلغني ذلك عن كثير منهم ممن لم أجتمع بهم.

الوجه الثاني: أن يقال: إنها لم تقع بين الناس فتنة بيأجوج ومأجوج، إلا أن تكون من أفراد قليلين من العصريين المتكلفين الخائضين فيما لا يعنيهم من أمر ......................

(1) ص (326، 327).

ص: 337

يأجوج ومأجوج، القائلين فيهم بغير علم، فهؤلاء هم الذين افتتنوا بالكلام في يأجوج ومأجوج، ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ومنهم من زعم أنهم التتار الذين خرجوا على المسلمين في آخر زمان بني العباس، وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في يأجوج ومأجوج ينطبق عليهم قول الله -تعالى-:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، فأما المتمسكون بالكتاب والسنة فإنهم قد سلموا من الفتنة بيأجوج ومأجوج؛ لأنهم يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه عنهم وعن سدِّ ذي القرنين، ويؤمنون بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وفي خروجهم على الناس، ولا يتكلفون ما ليس لهم به علم.

وأما قوله: حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان.

فجوابه: أن يقال: هذا من تخرصات ابن محمود وتوهماته التي لا صحة لشيء منها، ولم تقع إلا في ذهن ابن محمود ومن كان على شاكلته.

وأما قوله: ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها.

فجوابه: أن يقال: ليس في رسالة ابن سعدي ما يتعظ به، ولا ما ينتفع بعلمه، ولكن الأمر في ابن محمود كما قيل:

يقضي على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

وقال ابن محمود في صفحة (77، 78، 79)، فقرات من كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله.

" اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم الموجودون الآن، الذين ظهروا على الناس كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم، فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي، كالجن ونحوهم ممن حجب الآدميون عن رؤيتهم والاحساس في الدنيا بهم، بيان ذلك في القرآن من قصة ذي القرنين في قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ

ص: 338

دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} إلى آخر الآيات، فمن فهم معنى هذه الآيات وما ذكره أصناف المفسرين فيها، علم قطعا أنهم كما ذكر الله في شكاية هؤلاء القوم الذين كثر إفسادهم لذي القرنين، بالقتل والنهب والتخريب وأنواع الفساد، فطلبوا منه أن يجعل بينهم وبينهم سدًا يمنعهم من الإفساد والنفوذ إليهم، فأجاب ذو القرنين طلبتهم طاعة لله وإحسانًا على هؤلاء المظلومين، فجعل بينهم وبينهم ردمًا، ومعلوم أنهم آدميون محسوسون، قد تناولوهم بأنواع الأذى، فلو كانوا جنسًا آخر كالجن ونحوهم ممن حجبوا عن الأبصار لم يمكنوا من الأذية لبني آدم إلى هذا الحد، ولم يطلب هؤلاء القوم من ذي القرنين ما لا قدرة له عليه، ولم يمنعهم من الأذية سد ولا ردم، وذلك أن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، فتحركوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم في أول قتال وقع من المسلمين في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف وجيش النصارى مائة وعشرون ألفًا، فكشف للنبي صلى الله عليه وسلم عنهم يوم قتالهم، فقال وهو يخطب الناس:«أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله، وهو خالد بن الوليد، ففتح الله عليه» يخبرهم بذلك وهو يبكي، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«ويل للعرب من شر قد اقترب، قد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» ، قال ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحالة المشاهدة، ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله، ومنها أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فإن السد كما ذكرنا هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها، المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك .....................

ص: 339

من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة، وهي سد محكم بينهم وبين الناس لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس، وقد اختلقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه، وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها، والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي يعتبر آية وبرهانًا عظيمًا على صدق القرآن وصحة ما جاء سول الله صلى الله عليه وسلم من آيات بينات لا تزال تشاهد وتظهر كل وقت، وحين يعتبر بها المعتبرون وينتفع بها المؤمنون ويسترشد بها الغافلون المعرضون وتقوم بها الحجة على المعارضين المعاندين، وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية وآثار موضوعة وقصص خرافية وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع". انتهى.

والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد غيَّر في بعض كلام ابن سعدي وزاد فيه بعض الشيء من عنده ولم يبين ذلك، وهذا عمل غير مرضي لأنه ينافي الأمانة في النقل، وسأنبه على ذلك -إن شاء الله تعالى-.

ويقال أيضًا كل ما نقله ابن محمود ههنا من رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج فهو باطل، سوى ما ذكره من الآيات من سورة الكهف، والحديث الذي أوله:«ويل للعرب من شر قد اقترب» ، فالآيات والحديث حق، ولكن لا متعلق لابن سعدي في شيء منها، وما سوى الآيات والحديث فكله توهمات وتخرصات لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل صحيح ولا واقع ولا مشاهدة، وفي تفسير ابن سعدي لسورة الكهف وسورة الأنبياء كفاية في الرد على ما جاء في رسالته فيما يتعلق بيأجوج ومأجوج، وقد ذكرت قريبًا أنه قد طبع تفسيره بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة.

فأما قوله: اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من ..................

ص: 340

أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم لموجودون الآن، الذين ظهروا على الناس كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن القرآن والسنة حجة على ابن سعدي فيما ذهب إليه في شأن يأجوج ومأجوج، وليس فيهما حجة له ولا ما يتعلق به بوجه من الوجوه، ومن تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، عرف يقينًا لا شك فيه أنه يخالف ما ذهب إليه ابن سعدي في رسالته، وذلك أن الله -تعالى- أخبر عن ذي القرنين أنه جعل بين يأجوج ومأجوج وبين غيرهم من الناس ردمًا، وأخبر تبارك وتعالى أن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأخبر عن ذي القرنين أنه لما أتمَّ بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ؛ أي إذا دنا قيام الساعة، جعل الله السد دكاء فخرج يأجوج ومأجوج على الناس، قال الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال ابن كثير في "البداية والنهاية":"يعني يوم فتح السد على الصحيح"، وذكر في تفسيره عن السدي أنه قال:"ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير:"وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى.

وقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، أوضح دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث صحيحة، منها حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال، ثم قال:«فبينما هم كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتلاهم فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» الحديث رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي:"حديث غريب حسن صحيح".

ص: 341

ومنها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أُسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إليَّ ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافر فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلى ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المُتم التي لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها، ليلا أو نهارًا» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن جرير، والحاكم، وقال:"صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه قال العوام- وهو ابن حوشب أحد رواته-: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ثم قرأ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} .

ومنها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه: «فبينما هم كذلك إذا أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة ويجيء آخرهم وقد انشفوه، فما يدعون فيه قطرة، فيقولون ظهرنا على أعدائنا قد كان ههنا أثر ماء» الحديث، وفيه:«فيدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فيبعث الله عليهم قرحة في حلوقهم، فلا يبقى منهم بشر» وذكر بقية الحديث. رواه الحاكم وابن مندة في كتاب الإيمان، وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية":"قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح".

ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ

ص: 342

كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، فيعيثون في الأرض، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسًا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ههنا ماء مرة» الحديث، رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرنه غدا، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله عز وجل أن يبعثهم إلى الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا -إن شاء الله- ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه، ويحصن الناس منهم في حصونهم» الحديث، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال:«ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة، قال:«إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخِر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".

ومنها حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه رواه الطبراني، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

وفي هذه الأحاديث مع ما تقدم من الآيات أبلغ رد على قول ابن سعدي إن يأجوج ومأجوج هم الأمم الموجود الآن؛ كالترك، والروس، وغيرهم من الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي في كلامه الذي تقدم ذكره.

ص: 343

الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن بعض صفات يأجوج ومأجوج بما يخالف أكثر الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، والطبراني عن ابن حرملة، عن خالته رضي الله عنها قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب، فقال:«إنكم تقولون لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة» رواه الإمام أحمد، والطبراني، قال الهيثمي:"ورجالهما رجال الصحيح".

الشعاف: الشعور.

ولا يخفى أن الألمان والإيطاليين والفرنسيين والإنجليز والأمريكان ليسوا عراض الوجوه صغار العيون، وكذلك أكثر الأمم من غيرهم، فصفات يأجوج ومأجوج لا تنطبق على أكثر الأمم التي ذكرها ابن سعدي.

الوجه الثالث: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث ابن حرملة عن خالته أن المسلمين لا يزالون يقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، وجاء نحو ذلك فيما رواه الإمام أحمد، وابن سعد، والبخاري في تاريخه، والنسائي والطبراني، وابن مردويه، عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» ، ومن المعلوم أن المسلمين قد قاتلوا كثيرًا من أمم الكفار في أول الإسلام وفيما بعد ذلك، واستولوا على كثير من الممالك شرقًا وغربًا وجنوبا وشمالا، ولم يزل القتال بين المسلمين وبين أعدائهم من الكفرة، ولا يزال الجهاد ماضيًا حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال وجنوده، ويقاتل الناس على الإسلام، فإذا خرج يأجوج ومأجوج وضعت الحرب أوزارها، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه ابن سعدي لكانت الحرب قد وضعت أوزارها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكان الدجال قد خرج قبل ذلك، ونزل نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام فقتل الدجال وقاتل الناس على الإسلام قبل غزوة مؤتة، وهذا لا يتصوره عاقل فضلا عن أن يتفوه بذلك.

الوجه الرابع: أن يقال: ما زعمه ابن سعدي من ظهور الترك والروس ودول البلقان والألمان وإيطاليا والفرنسيين والإنجليز واليابان والأمريكان ومن تبعهم من الأمم، يقتضي أن تكون هذه الدول محازة بسد من حديد قبل ظهورهم على الناس، فلا ................

ص: 344

يتصل بهم الناس ولا يخالطونهم ولا يعرفون عنهم شيئًا، وهذا معلوم البطلان بالضرورة عند كل عاقل.

يوضح ذلك الوجه الخامس: وهو أن الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي وزعم أنهم هم يأجوج ومأجوج قد كانوا موجودين في جميع الجهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً منذ أزمان طويلة لا يعلم ابتداءها إلا الله -تعالى-، ولم يحصرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الأمم، بل كان الناس يذهبون إلى أوطانهم ويخالطونهم في قديم الدهر وحديثه، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن سعدي من أنهم هم يأجوج ومأجوج لَما قدر الناس على الذهاب إليهم والاختلاط بهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا على الناس يطئون البلاد، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، وأخبر أيضًا أن أوائلهم يمرون على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، وأخبر أيضًا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، وأخبر أيضًا أنهم يحصرون نبي الله عيسى وأصحابه فيدعو عليهم عيسى وأصحابه فيهلكهم الله، وأخبر أيضا أنه بعد عيسى ابن مريم لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة، وأخبر أيضًا أن الله -تعالى- عهد إلى عيسى أنه بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، وأخبر أيضًا أن خروجهم من الآيات العشر التي تكون بين يدي الساعة، وأخبر أيضًا أن خروج هذه الآيات يتتابع كما يتتابع الخرز في النظام، وكل ما ذكر في هذه الأحاديث وفي غيرها من الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج لا ينطبق على أمم الكفار الموجودين الآن، والذين قد خالطهم الناس وعرفوهم حق المعرفة، وجرت بينهم وبينهم المعاهدات والمعاملات التجارية وعقود الشركات وغيرها من الأعمال الدنيوية، ومن تأمل الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج رأى فيها أبلغ رد على ابن سعدي، وعلى من قلده وأخذ بقوله.

وأما قوله: فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي، كالجن ونحوهم ممن حجب الآدميون عن رؤيتهم والاحساس في الدنيا بهم.

فجوابه: أن يقال: لا شك أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، وقد ذكرت قريبًا (1)

(1) ص (319).

ص: 345

ما رواه الحاكم عن سعيد بن المسيب أنه قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد يافث بن نوح"، وروي البزار بإسناد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا مثله، ولا يلزم من كونهم من بني آدم أن يكونوا هم الأمم الذين يعرفهم الناس ويخالطونهم، كما قد توهم ذلك ابن سعدي ومن قلده، وإنما هم أناس غيرهم قد حيل بينهم وبين الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، فلا يعرفهم الناس ولا يخالطونهم، ولا يخرجون على الناس إلا في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، كما ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يدل عليه قوله -تعالى- إخبارًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، قال الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} ، ويدل عليه أيضًا قوله -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} .

وأما قوله: وذلك أن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذه الجملة قد غيرها ابن محمود عما هي عليه في رسالة ابن سعدي وزاد فيها ونقص ثم لم يبين ذلك، وهذا ينافي الأمانة في النقل، وهذا نص كلام ابن سعدي قال:"ومنها أن الحاجز الذي بناه ذو القرنين بينهم وبين الطائفة المجاورة لهم، الذين شكوا إفسادهم جزء يسير جدًا من السد الطبيعي، الذي جعله الله بينهم وبين الناس، فإن نص القرآن صريح على أن ذا القرنين وصل إلى ما بين السدين، وأن السدين موجودان قبل ذي القرنين، وهما الجبال والبحار التي عن يمين تلك الفجوة التي بناها والبحار والجبال التي عن يسارها، فتلك الجبال والبحار الواصلة لمشارق الأرض ومغاربها سدان محكمان بينهم وبين الناس في تلك الأزمان وما بعدها، وليس لهم طريق في ذلك الوقت إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، فبناها ذو القرنين، فتم بنيانه الردم بينهم وبين الناس، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار". انتهى.

ص: 346

الوجه الثاني: أن يقال: في أول كلام ابن محمود لحن في قوله: إن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وصوابه: جبلين متقابلين متصلين.

الوجه الثالث: أن يقال: إن في هذا الكلام من التخرص واتباع الظن ما لا يخفى على عاقل، وهل يقول عاقل إن في الأرض جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يقول عاقل إن أوربا وأمريكا وآسيا سوى جزيرة العرب قد أحيطت بجبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وأين يكون موضع الفجوة التي جعل ذو القرنين فيها السد المانع للأمريكيين والأوربيين ودول آسيا من الخروج والاتصال بالعرب، وإن تعجب فهذا التوهم والتخرص من أعجب العجب، ومع هذا يزعم ابن محمود أنه نور هداية ودلالة، وهو في الحقيقة ظلمة حالكة وضلال عن الحق، ولو كان يأجوج ومأجوج قد خرجوا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار لكانوا قد وطئوا بلاد العرب وغيرها من البلاد، وأهلكوا كل شيء أتوا عليه، وشربوا كل ماء مروا عليه، ولكان الدجال قد خرج قبل ذلك، ونزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فقتل الدجال ودعا على يأجوج ومأجوج فهلكوا جميعًا، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في عدة أحاديث تقدم ذكرها قريبًا، وحيث أنه لم يقع شيء من هذه الأمور العظام فلا شك أن السد لا يزال باقيًا على حاله، وأن يأجوج ومأجوج لم يزالوا من وراء السد ولم يخرجوا على الناس، ولا يخرجون حتى ينزل عيسى ابن مريم ويقتل الدجال.

الوجه الرابع: أن يقال: إن الجبلين اللذين بنى ذو القرنين الردم بينهما هما في بلاد يأجوج ومأجوج الواقعة في أقصى المشرق من ناحية الشمال، وليسا متصلين بمشارق الأرض ومغاربها كما قد توهم ذلك ابن سعدي وابن محمود، وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"الجبلان؛ أرمينية، وأذربيجان"، وكذا قال القرطبي في تفسيره إن السدين جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وقال الضحاك في قوله -تعالى-:{بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} : "يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان"، هذا ما قاله هؤلاء الأئمة في السدين؛ أي الجبلين اللذين بنى ذو القرنين الردم بينهما، ولا أعلم عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من أهل العلم أنهم قالوا في الجبلين الذين بنى ذو القرنين الردم بينهما أنهما واصلان لمشارق الأرض ومغاربها، ...............................................

ص: 347

بل هذا مما يعلم بطلانه بالضرورة عند كل عاقل، إذ ليس في الأرض جبال متصلة من المشرق إلى المغرب، وكذلك لم أر لأحد من أهل العلم أنهم قالوا إن البحار الواصلة لمشارق الأرض ومغاربها إنها سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإنما هذا من التوهمات والتخرصات التي يعلم بطلانها بالضرورة.

يوضح ذلك الوجه الخامس: وهو أن يقال: إن البحار لم تكن حاجزًا بين الدول التي ذكرها ابن سعدي وبين غيرهم من الناس لا في قديم الدهر ولا في حديثه، وكذلك الجبال التي في مشارق الأرض ومغاربها لم تكن مانعة من اتصال العرب ولا غيرهم من الناس بتلك الدول لا في قديم الدهر ولا في حديثه، بل كان العرب وغيرهم من الأمم يذهبون إلى أي البلاد شاءوا من بلاد تلك الدول وغيرها من البلاد، وليس هناك حواجز تمنعهم من الذهاب في أنحاء الأرض وأقطارها إلا ما كان من بلاد يأجوج ومأجوج التي لا سبيل إليها إلا من الطريق الذي بناه ذو القرنين، وقد تقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك والقرطبي؛ إنها من قبل أرمينية وأذربيجان. فهذه البلاد لا سبيل إلى دخولها والاتصال بأهلها، ولا سبيل لأهلها إلى الخروج منها إلا في آخر الزمان، عند اقتراب الساعة وبعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، فحينئذ يندك السد ويخرج يأجوج ومأجوج من بلادهم، فيطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام فيهلكهم الله -تعالى-، وقد تقدم ذلك قريبًا في عدة أحاديث صحيحة فلتراجع (1).

وأما قوله: حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير.

فجوابه: أن يقال: هذه زيادة من ابن محمود وليست في رسالة ابن سعدي، وكان ينبغي لابن محمود أن يبين ذلك.

وأما قوله: فتحركوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف وجيش النصارى مائة وعشرون ألفًا، فكشف للنبي صلى الله عليه وسلم عنهم يوم قتالهم، فقال وهو يخطب الناس:«أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله، وهو خالد بن الوليد، ففتح الله عليه» يخبرهم بذلك ...................................

(1) ص (341 - 343).

ص: 348

وهو يبكي، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» .

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا الكلام لابن محمود سوى قوله في أوله: فتحركوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الجملة هي التي من كلام ابن سعدي فقط، وقد مزج ابن محمود كلامه مع كلام ابن سعدي ولم يبين ذلك، بل أوهم أن الكل من كلام ابن سعدي، وهذا ينافي الأمانة في العلم.

الوجه الثاني: أن يقال: إن المسلمين في يوم مؤتة إنما قاتلوا الروم ومن انضم إليهم من نصارى العرب، فأما يأجوج ومأجوج فإنهم لم يروهم فضلا عن أن يقاتلوهم، وقد قال الله -تعالى-:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، وقال -تعالى-:{الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، فسماهم في الآية الروم، وسماهم في الآية من سورة براءة أهل الكتاب، لو كانوا من يأجوج ومأجوج لسماهم بذلك كما سماهم به في سورة الكهف وسورة الأنبياء، وفي هذا أبلغ رد على من جعل الروم من يأجوج ومأجوج.

الوجه الثالث: أن يقال: إن المسلمين هم الذين تحركوا إلى قتال الروم وساروا إليهم في أوطانهم وبدأوهم بالقتال، فأما يأجوج ومأجوج فلا يقدر أحد على قتالهم كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مخبرًا به عن الله عز وجل، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتله الدجال، ثم قال:«فينما هو كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى؛ إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج» الحديث، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن عيسى عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل عهد إليه، أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، وقد تقدم إيراد هذا الحديث وحديث النواس بن سمعان قريبًا (1).

(1) ص (311 - 312).

ص: 349

الوجه الرابع: أن يقال: إن ابن محمود قد تصرف في سياق الحديث الذي فيه الإخبار عن قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم فقدَّم جعفرًا على زيد بن حارثة وزاد في آخر الحديث وغيَّر فيه، وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه ولفظه في "كتاب الجنائز" في "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له» ، ورواه في "كتاب المغازي" في "باب غزوة مؤتة من أرض الشام" ولفظه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال:«أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» ، ورواه في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في "باب مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه" بنحوه.

وأما قوله: وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم.

فجوابه: أن يقال: ليس الأمر كما زعمه ابن محمود، وإنما هذا مبدأ تحرك المسلمين لقتال الروم والسير إليهم في بلادهم، فأما يأجوج ومأجوج فلا يتصل بهم أحد حتى يدنو قيام الساعة فيجعل الله السد دكاء، وحينئذ يخرجون على الناس ويموج بعضهم في بعض كما قال -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} .

وأما قوله: وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» .

فجوابه: أن يقال: هذا من التقوُّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير المراد به، وقد جاء في حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فزعًا محمرًا وجهه يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلَّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، وذكر تمام الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة، وفي رواية لأحمد قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاقد بأصبعيه السبابة بالإبهام وهو يقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم» .

ص: 350

وإذا علم أن الذي قد فتح من ردم يأجوج ومأجوج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل موضع الدرهم، فهل يقول عاقل إن معناه ما كان بين المسلمين وبين الروم من القتال في يوم مؤتة؟ وهل يقول عاقل إنه كان بين المسلمين وبين الروم سد من حديد فتح منه يوم مؤتة مثل موضع الدرهم فخرج منه يأجوج ومأجوج على المسلمين؛ أي من هذا الثقب الضيق الذي هو مثل موضع الدرهم؟ كلا، لا يقول ذلك مؤمن، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه سيوحي إلى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد قتل الدجال:«إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم» ، فلو كان الذين قاتلهم الصحابة يوم مؤتة من يأجوج ومأجوج لما كان للصحابة رضي الله عنهم يدان بقتالهم، ولأهلكوا كل ما أتوا عليه.

وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فزع واحمر وجهه لما فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم وقال: «ويل للعرب من شر قد اقترب» ، وأما الروم فإنه لم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه فزع منهم ولا بالى بهم، وقد أرسل إليهم جيشًا من أصحابه يوم مؤتة فبدأوهم بالقتال، وقد فتح الله عليهم مع قلة عددهم وكثرة الروم، ثم سار صلى الله عليه وسلم بنفسه في غزوة تبوك يريد قتالهم ورجع من تبوك إبقاء على أصحابه لما نالهم من الجهد والمشقة، ثم جهَّز جيشًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما وأمره أن يسير إلى الروم، ومات صلى الله عليه وسلم وجيش أسامة مخيم حول المدينة فنفذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فساروا إلى الشام وقتلوا من الروم وغنموا منهم، ثم غزاهم المسلمون في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأجلوهم من الشام إلى القسطنطينية، وضربوا الجزية على من بقي منهم في الشام، وغزوا كثيرًا من الأمم التي زعم ابن سعدي ومن قلده أنهم من يأجوج ومأجوج، وظهروا عليهم وغنموا أموالهم وسبوا ذراريهم ونساءهم، ولم يبال المسلمون بأحد من تلك الأمم، ولو كانوا من يأجوج ومأجوج لما أطاقوا قتالهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله -تعالى- يوحي إلى عيسى ابن مريم بعد قتله للدجال:«إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون» ، وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أنهم إذا خرجوا لا يأتون على شيء إلا .................................................

ص: 351

أهلكوه، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنهم قد خرجوا وأن المسلمين قد قاتلوهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحال المشاهدة.

فجوابه: أن يقال: قد زاد ابن محمود في كلام ابن سعدي كلمة من عنده وهي قوله: "وظهور على الناس" ولم يبين ذلك، ويقال أيضًا لا صحة لشيء مما ذكر في هذه لجملة، وإنما هو خطأ مبني على التخرص واتباع الظن، وفيما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج وأن خروجهم إنما يكون عند دنو الساعة أبلغ رد على ما جاء في هذه الجملة.

وأما قوله: ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله.

فجوابه: أن يقال: هذا مما لا يشك فيه مسلم، ولو أن ابن سعدي تمسك في رسالته بما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج لا ستغنى عن التخرص واتباع الظن، ولظهر له أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، ولظهر له أنهم إذا خرجوا فإنهم يطئون البلاد، ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولم يكن لأحد طاقة بقتالهم.

وأما قوله: ومنها أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه.

فجوابه: أن يقال: لا صحة لشيء من هذا، وإنما هو من التخرص واتباع الظن، وقد قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، وقال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وفي هذه الآيات دليل على أن اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند دنو الساعة، وقد روي ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:«لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة» ، وقد ذكرت هذا الأثر وما يشهد له من الحديث المرفوع قريبًا فليراجع (1).

(1) ص (325).

ص: 352

وأما قوله: فإن السد كما ذكرنا هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة، وهي سد محكم بينهم وبين الناس لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس وقد اخترقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن أحدًا إنكار هذا ولا المكابرة فيه.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد قرر ابن سعدي في هذه الجملة أن السد الذي بين الناس وبين يأجوج ومأجوج إنما هو سد طبيعي من الجبال والمياه وليس بصناعي، وهذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه عن السد أنه مبني من زبر الحديد ومفرغ عليه القطر وهو النحاس المذاب، قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، ففي هذه الآيات أبلغ رد على من زعم أن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل به من الموانع الجبلية والمائية هي السد الذي قد حال بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وهل يقول عاقل إن الموانع الجبلية والمائية والبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع الجبلية هي السد الذي بناه ذو القرنين، وأن ذلك كله قد أندك وزال وخرج يأجوج ومأجوج على الناس؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل، وهل يقول عاقل إن الجو سد مانع من خروج يأجوج ومأجوج وقد اندك بالطائرات وخرج منه يأجوج ومأجوج على الناس؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل.

الوجه الثاني: أن يقال: إن البحار والموانع الجبلية لم تكن سدًا مانعًا من اتصال الأمم بعضها ببعض لا في قديم الدهر ولا في حديثه، بل كان الناس يجتازون البحار على .......

ص: 353

السفن ويجتازون الموانع الجبلية على الإبل والبغال والحمير، وقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يتصلون بمن يليهم من الأمم؛ كالروم والقبط والفرس والحبشة، ولم تكن البحار والموانع الجبلية سدًا مانعًا من اتصالهم بمن يليهم من الأمم، ولو كانت البحار والموانع الجبلية والمائية سدًا مانعًا من الاجتياز لما قدر العرب على الاتصال بالروم وغيرهم من الأمم، ولما قدر المسلمون على غزو الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فكلام ابن سعدي في هذه الجملة كلام غير معقول.

الوجه الثالث: أن يقال: لو فرضنا أن البحار والموانع الجبلية كانت سدًا محكمًا كما زعمه ابن سعدي، فهناك فجاج في الجبال وهناك سهول طويلة عريضة ليس فيها سد محكم يمنع أحدًا من الاجتياز من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وهناك سفن في البحار يجتاز فيها المسافرون من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وقد أخبر الله -تعالى- عن ذي القرنين أنه بلغ مغرب الشمس ومطلعها، ثم سار حتى بلغ الموضع الذي فيه يأجوج ومأجوج فجعل بينهم وبين الذين يلونهم سدًا من حديد يمنع يأجوج ومأجوج من الاجتياز والإفساد في الأرض، ولم تكن البحار والموانع الجبلية سدًا مانعًا لذي القرنين من السير في الأرض من المغرب إلى المشرق، ثم إلى موضع يأجوج ومأجوج، وفي هذا أبلغ رد على ما توهمه ابن سعدي رحمه الله.

الوجه الرابع: أن يقال: إن كلام ابن سعدي ينقض بعضه بعضًا، فقد قرر في أول كلامه الذي لم ينقله ابن محمود أن ذا القرنين بني الردم المانع ليأجوج ومأجوج من الخروج والإفساد في الأرض، قال: وكان ما وراءه وعن يمينه وشماله جبالا شاهقة وبحورًا زاخرة لا يستطيعون عبورها، وليس لهم معبر إلى الناس إلا من تلك الثنية التي سدها ذو القرنين، والمشهور أنها في شمال آسيا، بدليل ما هو معروف عند المؤرخين أن ذا القرنين ترك منهم طائفة خلف السد من جهة الناس فقيل لهم تُرك، قال: والمقصود أن يأجوج ومأجوج في ذلك الوقت لا نفوذ لهم على الناس إلا من تلك الثغرة التي بين جبال شاهقة، فسدَّها ذو القرنين وساوى بين الصدفين فلم يتمكنوا من نقب السد ولا صعوده ولا صعود الجبال التي عن يمينه وعن يساره، ثم نقض ذلك بقوله إن السد هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها، وأن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع إنها .........

ص: 354

سد محكم بينهم – أي بين يأجوج ومأجوج – وبين الناس، ثم زعم أنه لا يمكن أحدًا إنكار هذا؛ أي ما زعمه في آخر كلامه ولا المكابرة فيه.

وأقول: أيظن المتكلف أنه قد أتى بنص من كتاب الله -تعالى- أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه، أو أتى بإجماع لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه؟! كلا، إنه لم يأت بنص ولا إجماع، وإنما أتى بتوهمات وتخرصات مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما خالف الكتاب والسنة فهو قول باطل يجب إنكاره ولا يجوز إقراره.

الوجه الخامس: أن يقال: إن المكابرة على الحقيقة هي في قول المتكلف إن السد هو الموانع الجبلية والمائية، وإن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فهذا غاية في المكابرة والمخالفة لما أخبر الله به عن السد، وأنه بين صدفين أي جبلين، وأنه من زبر الحديد والقطر أي النحاس المذاب، وأنه إنما يندك عند اقتراب الساعة، وفيه أيضًا مخالفة لما أخبر الله به عن فتح يأجوج ومأجوج، وأنه يكون إذا اقترب الوعد الحق أي إذا دنا قيام الساعة، وفيه أيضًا مخالفة لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خروج يأجوج ومأجوج، وأنه إنما يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وأن الساعة يومئذ كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، فهذا هو الثابت في الكتاب والسنة وهو الذي لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه، وما خالفه فهو باطل مردود.

وأما قوله: وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة الصحيحة والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها.

فجوابه: أن يقال: إن نصوص الكتاب والسنة تدل على خلاف ما قرره ابن سعدي في قوله عن السد إنه هو الموانع الجبلية والمائية، وإن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، وكذلك الأدلة العقلية والواقع والمشاهدة فكلها على خلاف ما قرره ابن سعدي، وقد تقدم ببيان ذلك بما فيه كفاية -إن شاء الله تعالى-.

وأما قوله: والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه قد تبيَّن موافقته ........

ص: 355

للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي يعتبر آية وبرهانا عظيمًا على صدق القرآن وصحة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات بينات .... إلى آخر كلامه.

فجوابه: أن يقال: ما زعمه ابن سعدي من خروج يأجوج ومأجوج على الوصف الذي شرحه فالأمر فيه بخلاف ما توهمه ابن سعدي، ويدل على بطلان أوهامه وتخرصاته ومخالفتها للكتاب والسنة قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد دون يأجوج ومأجوج {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، قال الله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} ، وقال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، فدلت هذه الآيات على اندكاك السد وظهور يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد جاءت السنة بإيضاح ذلك وبيانه أتم بيان مما لا يدع لمبطل شبهة، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا طويلا في ذكر خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، ثم قال:«فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلي عيسى أني قد خرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عباد إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله» ، زاد الترمذي في روايته:«ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين» ، قال الترمذي:"هذا حديث غريب حسن صحيح"، قلت:"وإسناده أحد أسانيد مسلم"، وقد روي ابن ماجة هذه الزيادة مفردة عن هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا ابن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير .........................................................

ص: 356

عن أبيه، أنه سمع النواس بن سمعان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين» إسناده صحيح، رجاله كلهم من رجال الصحيح.

وروي الحاكم في مستدركه وابن مندة في كتاب الإيمان، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وفيه:«فينما هم كذلك إذ أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة ويجيئ آخرهم وقد أنشفوها فما يدعون فيها قطرة، فيقولون: ظهرنا على أعدائنا قد كان ههنا أثر ماء» الحديث، قال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية":"قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح".

وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بهذا، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافرًا فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلى ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا» قال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه:"قال العوام – وهو ابن حوشب أحد رواته–: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ثم قرأ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ".

وفي هذه الأحاديث النص على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد ............

ص: 357

خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، ففيها أبلغ رد على ما توهم ابن سعدي من وقوع اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج منذ أزمان طويلة، وفيها أيضًا أبلغ رد على ما توهمه من موافقة أوهامه وتخرصاته للكتاب والسنة.

ومما يرد به عليه أيضًا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في ذكر فتح يأجوج ومأجوج وخروجهم على الناس، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حفر يأجوج ومأجوج للسد كل يوم، وحديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر التي تكون بين يدي الساعة، وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه بمثل حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وهذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد تقدم إيرادها قريبًا فلتراجع، ففيها أبلغ رد على توهمات ابن سعدي وتخرصاته (1).

وأما قوله: وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية وآثار موضوعة وقصص خرافية وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع.

فجوابه: أن يقال: وكذلك من اعتمد على الأوهام والتخرصات في موضع السد واندكاكه، وخروج يأجوج ومأجوج قبل خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال، فهو محروم من الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور الكتاب والسنة في هذا السبيل.

" تنبيه "

ليعلم المطَّلع على كتابي هذا أن إنكاري لما توهمه ابن سعدي في أمر السد ويأجوج ومأجوج وما كتبته في التنبيه على أخطائه لا يمنعني من الثناء عليه والدعاء له بالمغفرة والرحمة، فقد خلَّف -رحمه الله تعالى- علمًا كثيرًا في مؤلفاته وعند تلاميذه، فأما ما كتبه في رسالته في السد ويأجوج ومأجوج فهو من الزلات المغمورة في جنب فضائله ومحاسنه، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معائبه

وقد ذكرت قريبًا أن طبع ابن سعدي لتفسيره بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع .....

(1) ص (342 - 343).

ص: 358

عشرة سنة يدل دلالة ظاهرة على رجوعه عما كان قرره في رسالته فليراجع ذلك (1)، والله المسئول أن يتغمدني وإياه وجميع المسلمين برحمته وفضله، وأن يغفر زلاتنا وخطايانا جميعًا، إنه سميع الدعاء قريب مجيب.

والمقصود من التنبيه على كلام ابن سعدي إنما هو في الحقيقة الرد على ابن محمود الذي تعلق بالكلام الباطل من كلام ابن سعدي، ونشره بعد اختفائه أكثر من أربعين سنة، وزاد فيه وغير في بعض أسلوبه، ولم يعبأ بما يناقضه من كلام ابن سعدي الذي قرره في تفسيره سورة الكهف وسورة الأنبياء من تفسيره المطبوع بعد إخراج رسالته في يأجوج ومأجوج بسبع عشرة سنة، ولو كان ابن محمود يتحرى الصواب لما عدل عن القول الموافق للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وهو ما قرره ابن سعدي في تفسيره واعتاض عن ذلك بالباطل المخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، وهو ما قرره ابن سعدي في رسالته التي تعلق بها ابن محمود، والله المسئول أن يرد ابن محمود إلى الحق والصواب، وأن يسامحنا وإياه ويغفر زلاتنا وخطايانا جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم.

وقال ابن محمود في صفحة (80، 81، 82) سد يأجوج ومأجوج.

"قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه: سألنا عن سد يأجوج ومأجوج غير واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار، ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة، فإن بقعة كل من القطبين لا سيما القطب الجنوبي لا تزال مجهولة، وقد استدل بعض العلماء على أن "السد" بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس ومطلعها، وليس ذاك "إلا" جهة الشمال أو جهة الجنوب، ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين، فإن حالة مدنية ذلك العصر وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن فنبني عليها اعتراضًا كهذا، فما "يدرينا" أن الاستطراق إلى أحد القطبين أو كليهما كان في زمن ذي القرنين سهلا، فكم من أرض يابسة فاضت عليها البحار فغمرتها بطول الزمان، وكم من أرض انحسر عنها الماء فصارت أرضًا عامرة متصلة بغيرها أو منفردة (جزيرة)، وكم من مدينة طمست حتى لا يعلم عنها شيء، ومن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة ..........................

(1) ص (326، 327).

ص: 359

أو الاستدلال ما يجهل بعض أسبابه، كالأنوار والنقوش "والألوان" وجر الأثقال عند المصريين القدماء، فالقرآن يقول في ذي القرنين:{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ} كذا من مطلع الشمس ومغربها وبين السدين، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية، أو كهربائية؟ الله أعلم بذلك. هذا ما يقال بالإيجاز في رد دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض التي بني عليها الاعتراض، ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطل وإن فرضنا إنها هي مسلمة، وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما حدهما الموضوع الذي يسمى الآن (دربند) بروسيا ومعناه السد، وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي باب الحديد، وهو أثر سد قديم بين جبلين يقال أنه من صنع بعض ملوك الفرس، ويحتمل أن يكون موضع السد وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك، وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريطة جغرافية قديمة لتلك الجهات وفيها رسم ذلك المكان وبيان أن وراءه قبلتين اسم إحداهما (آقوق) واسم الثانية (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهر جلي، وأما الموضع الثاني فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضعة فراسخ)، مدينة قديمة تسمى الطويلة، وفي شرقي هذه المدينة واد عميق جدًا يحيط به ثلاث جهات جبال شامخة منصبة ليس فيها مسالك معبدة، "فالمتوقل"(1) فيها على خطر السقوط والهوي، وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها، وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذارع الفارسي متر وأربع سنتمات) وفي الفجوة سد صناعي يمتد من أحد طرفي الجبلين إلى الآخر وهو من زبر الحديد المتساوية المقدار، فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع، فأما سمكه فخمسة عشر شبرًا، وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه، لأن أرضه غير مستوية، وفي القرن العاشر للهجرة لما فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل إلى قلعة تسمى "تسام" واقعة بجوار هذا السد، فأمر بعدِّ زبر الحديد المبني بها السد فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف، وفي طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان محكمتا البناء قديمتان تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة الباحثة، فهذا الوصف ...........................................

(1) التوقل الصعود في الجبال وغيرها.

ص: 360

ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين في حضرموت واليمن المعروفين بالأدواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس)، ولكن إن صح وجود السد فأين يأجوج ومأجوج منه، وهم التتر كما في تاريخ السوريين قبل الإسلام أو السكيثيين الذين وصفهم النبي حزقيال بما ينطبق على وصفهم في تاريخ اليونان ويعدهم النصارى رمزًا "لأعداء" الكنيسة، ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك ولم يكن فيما بقي مجهولا من الأرض فلم لا يجوز أن يكون قد اندك وذهب أثره من الوجود. إن قيل يمنع من ذلك أن اندكاكه وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة، أجبنا بجوابين؛ أحدهما: أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة وقرب الساعة "نسبي" أي هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين السنين، وثانيهما: أن هناك ساعة عامة وساعة خاصة، أي ساعة هلاك أمة معينة كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في الساعة". انتهى.

والجواب: أن أقول: قد وقع في نقل ابن محمود تحريف في ست كلمات وهو تحريف يحيل المعنى، وقد أصلحته على الأصل المنقول منه في فتاوى رشيد رضا، وجعلت كل كلمة بين قوسين صغيرين مزدوجين.

وأما قول رشيد رضا: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة فهو حق؛ لأنه لا يحيط علمًا بجميع ما على وجه الأرض من البقاع والمخلوقات إلا الله -تعالى-.

وأما قوله: إنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما

إلى آخر كلامه على الموضعين.

فجوابه: أن يقال: هذا الاحتمال بعيد من الصواب؛ أما الموضع الذي يسمى (دربند) فقد ذكر أن فيه أثر سد قديم بين جبلين، وأنه يحتمل أن يكون موضع السد، وهذا الاحتمال مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة؛ فأما الدليل من الكتاب فهو قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما بني السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في الكلام على هذه الآية: " {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي مساويًا للأرض ولا بد من ......................................................

ص: 361

كون هذا، ولهذا قال:{وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ، كما قال -تعالى-:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ولهذا قال ههنا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} ، قال ذاك حين يخرجون على الناس، قال ابن كثير: وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى.

وأما الدليل من السنة ففي سبعة أحاديث عن النواس بن سمعان، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبًا فلتراجع (1)، ففيها أبلغ رد على من ظن أن السد قد زال، ولو كان السد قد زال لكان يأجوج ومأجوج قد خرجوا على الناس منذ زواله وأهلكوا كل شيء أتوا عليه، وفي الأحاديث التي تقدم ذكرها عن النواس بن سمعان وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان النص على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وفي هذا أوضح دليل على أن السد إنما يندك في ذلك الزمان، فإذا اندك خرجوا على الناس، ويدل على أنهم يخرجون من حين يندك السد ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس» كما قال الله عز وجل: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} ، فيبعثون في الأرض وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» الحديث، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم» الحديث، ولو كان السد قد زال وبقي أثره لما كان للحفر الذي يستمر إلى وقت خروجهم معنى، وفي حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما النص على أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على اقتراب الساعة، وقد جاء في عدة أحاديث تقدم ذكرها (2) أن الآيات إذا خرج أولها تتابعت كالنظام إذا قطع سلكه فتتابع، وقد تقدم ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:«لو أن رجلا ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنتجت مهرًا عند أول الآيات، ما ركب المهر حتى يرى آخرها» ، وتقدم أيضا ما رواه ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:«لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة» ، وتقدم أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة ...........................................

(1) ص (341 - 343).

(2)

ص (330، 331).

ص: 362

-رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ قال:«عيسى ابن مريم» ، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» ، ففي هذا الحديث والأثرين قبله مع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة أوضح دليل على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون عند دنو الساعة، وهذا يدل على أن السد لا يزال باقيًا مانعًا لهم من الخروج، وأنه إنما يندك عند اقتراب الساعة.

وأما القبيلتان اللتان اسم إحداهما: (آفوق) واسم الثانية: (ماقوق) فإن كان بينهما وبين الناس سد من حديد فهما يأجوج ومأجوج، وإن لم يكن بينهما وبين الناس سد من حديد فليسا يأجوج ومأجوج.

وأما الموضع الثاني: الذي ذكر رشيد رضا أنه في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء وفيه سد من حديد فليس هو السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج قطعًا؛ لأن هذا السد على تقدير وجوده يكون في الجزيرة العربية، ويأجوج ومأجوج ليسوا في البلاد العربية ولا فيما يقرب منها من الأرض، وإنما هم في أقصى بلاد المشرق من ناحية الشمال، كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين والمتكلمين على الأقاليم ومواقع البلدان فيها، وقد روي ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك أن الصدفين اللذين بني ذو القرنين السد بينهما هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وقاله القرطبي في تفسيره، وأرمينية وأذربيجان في أقصى المشرق من ناحية الشمال.

وأما قوله: فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد.

فجوابه: أن يقال: هذا السد إن صح ما قيل عنه وأنه من زبر الحديد فليس هو السد المذكور في القرآن قطعًا، وإنما هو من بناية بعض التبابعة أو غيرهم من ملوك اليمن المتقدمين.

وأما قوله: وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين المعروفين بالأذواء.

فجوابه: أن يقال: على تقدير أن يكون ذو القرنين من أذواء اليمن فلا يلزم من ذلك أن يكون هو الذي بني السد الذي ذكره رشيد رضا إذ لا دليل يدل على ذلك، وعلى تقدير أن يكون هو الذي بناه فليس هو السد المذكور في القرآن؛ لأن ..........................

ص: 363

يأجوج ومأجوج ليسوا في بلاد اليمن، وإنما هم في أقصى بلاد المشرق من ناحية الشمال، وقد أخبر الله -تعالى- أنه مكَّن لذي القرنين وآتاه من كل شيء سببًا، وأخبر أنه بلغ مغرب الشمس ومطلعها ثم أتبع سببًا حتى بلغ بين السدين وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان وهناك جعل الردم دون يأجوج ومأجوج، ففي هذا إيماء إلى أن موضع السد في أقصى المعمورة من ناحية المشرق، وهذه الناحية بعيدة غاية البعد عن بلاد اليمن.

وأما قوله: إن يأجوج ومأجوج هم التتر.

فجوابه: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج غير التتر؛ لأن التتر ليس بينهم وبين غيرهم من الناس سد من حديد يمنعهم من الخروج والإفساد في الأرض، وقد خرج التتر على بلاد المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده فجاسوا خلال الديار وتبَّروا ما علوا تتبيرًا، ولو كان التتر هم يأجوج ومأجوج لكانوا قد شربوا المياه حين خرجوا على المسلمين وشرب أوائلهم بحيرة طبرية، ولكان الدجال قد خرج قبل خروجهم، ونزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فقتل الدجال، ولكانت القيامة قد قامت منذ سبعة قرون أو أكثر؛ لما في حديث حذيفة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يكون بعد خروج الدجال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أنتجت فرسًا لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة» وهو حديث صحيح، وقد تقدم إيراده وإيراد ما في معناه من الأحاديث قريبًا (1)، ولا شك في بطلان القول بأن التتر هم يأجوج ومأجوج، ومن قال بهذا القول الباطل فإنما يعتمد على التخرص واتباع الظن، وقد قال الله -تعالى-:{وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأما قوله: ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك ولم يكن فيما بقي مجهولا من الأرض فلم لا يجوز أن يكون قد اندك وذهب أثره من الوجود.

فجوابه: أن يقال: إن السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة؛ لقول الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ؛ أي دنا قيام الساعة كما قال -تعالى- إخبارًا عن ذي القرنين، إنه لما أتم بناء السد ..............

(1) ص (314).

ص: 364

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} ، وقد أخبر الله عنهم إنهم إذا خرجوا يموج بعضهم في بعض ثم ينفخ في الصور، قال السدي في قوله -تعالى-:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، وقد تقدم إيراد الأحاديث الدالة على أن خروج يأجوج ومأجوج من أمارات الساعة، وأنه يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، فلتراجع في موضعها (1).

وأما قوله: إن قيل: يمنع من ذلك أن اندكاكه وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة.

فجوابه: أن يقال: هذا هو الصحيح، والأدلة من القرآن والسنة تدل عليه، وقد تقدم إيرادها في عدة مواضع.

وأما قوله: أجبنا بجوابين؛ أحدهما: أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة وقرب الساعة نسبي أي هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين من السنين.

فجوابه: أن يقال: هذا الجواب باطل مردود لمخالفته للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقريب خروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة تقريبًا مطلقًا وليس تقريبًا نسبيًا، فمن الأحاديث الدالة على ذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة» الحديث، وفيه ذكر خروج الدجال وأن الله يهلكه إذا رأي عيسى، ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج وأن عيسى عليه السلام يدعو عليهم فيهلكهم الله، ثم قال:«ففيما عهد إلى ربي عز وجل إن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا» . رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن جرير، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه:"قال العوام- وهو ابن حوشب أحد رواته-: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ثم قرأ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} "، وقد تقدم إيراد هذا الحديث بطولة قريبًا فليراجع (2)، ففيه أبلغ رد على قول رشيد رضا أن قرب الساعة يمتد ألوفًا ....................................................

(1) ص (341 - 343).

(2)

ص (357).

ص: 365

من السنين، وعلى قوله أيضًا إن قرب اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة قرب نسبي، فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه قرب مطلق لا قرب نسبي، والله أعلم.

ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ «قال عيسى ابن مريم» ، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة» . وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خروج يأجوج ومأجوج يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وجاء مثل ذلك في حديثي ابن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وفي هذا أبلغ رد على قول رشيد رضا أن قرب الساعة يمتد ألوفا من السنين وعلى قوله أيضًا أن قرب اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة قرب نسبي، والحديث يدل دلالة واضحة على أنه قرب مطلق وليس قربًا نسبيًا، ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الآيات التي تكون بين يدي الساعة ومنها خروج يأجوج ومأجوج، وهما حديثان صحيحان، وقرب هذه الآيات العشر من الساعة قرب مطلق وليس قربًا نسبيًا؛ لأن منها طلوع الشمس من مغربها وبطلوعها من مغربها يغلق باب التوبة، وغلق باب التوبة قريب جدًا من قيام الساعة، والله أعلم، وقد روي ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:«لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة» ، وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف.

وأما قوله: وثانيهما: أن هناك ساعة عامة وساعة خاصة أي هلاك أمة معينة.

فجوابه: أن يقال: ما جاء في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبًا (1) عن عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وحذيفة بن أسيد الغفاري وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم فالمراد به الساعة العامة وهو قيام الساعة العظيمة، ومن حمل ذلك على الساعة الخاصة التي هي هلاك أمة معينة فقد أبعد النجعة وحمل الأحاديث على غير المراد بها، والله أعلم.

(1) ص (341 - 343).

ص: 366

" خاتمة ": تحتوي على نماذج من أخطاء ابن محمود ومجازفاته وشطحاته وتهافته في رسالته في إنكار المهدي، وما قاله أيضًا في اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج، وقد ذكرت ذلك مفرقًا في هذا الكتاب مع التنبيه على كل جملة منه، وإنما ذكره مجموعًا في الخاتمة تسهيلاً على من أحب الاطلاع على أقواله الباطلة والاعتبار بحال قائلها. والله المستعان.

فمن ذلك قوله في عنوان رسالته في إنكار المهدي ما نصه: "لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر" وقد ذكرت في أول الكتاب أن هذا العنوان مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وذكرت الأدلة على ذلك فليراجع ما تقدم (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أن رسالته في إنكار المهدي عقيدة حسنة وحقيقة مسلمة، وهذا قول باطل مردود؛ لأن رسالته مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، وما كان كذلك فلا يكون عقيدة حسنة ولا حقيقة مسلمة، وإنما هو عقيدة سيئة وبدعة مردودة.

ومن ذلك أنه في صفحة (3) دعي العلماء والطلاب إلى الاتحاد معه على إنكار المهدي، ولا شك أن هذا من الدعاء إلى الضلالة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح"، وقد زعم ابن محمود أن الاتحاد على إنكار المهدي من حسن الاعتقاد، وهذا من انقلاب الحقيقة عنده ومن رؤية الباطل في صورة الحق، وهل يقول عاقل أن إنكار الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي من حسن الاعتقاد؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل.

ومن ذلك قوله في صفحة (3) إنه قد رأى في نفسه أنه قد أصاب في رسالته في إنكار المهدي مفاصل الإنصاف والعدل، ولم ينزع فيها إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل، وهذا من انقلاب الحقيقة عند ابن محمود ومن رؤية الباطل في صورة الحق، وكيف يصيب مفاصل الإنصاف والعدل من قد جد واجتهد في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ولم يبال بردها وإطراحها، ثم يزعم أنه لم ينزع إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل، وهل يقول عاقل إن الشرع يُقِرُّ ..........................................................

(1) ص (9 - 22).

ص: 367

معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي وقلة المبالاة بها، أو أن العقل السليم يقر ذلك ولا يأباه؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل.

ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أنه قد قدَّم في رسالته عقيدة المسلم مع المهدي، وهذا قول باطل مردود؛ لأن الذي قدمه ابن محمود في رسالته ليس من عقائد المسلمين، وإنما هو بدعة وضلالة قد بنيت على المخالفة للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ونبذها وإطراحها.

ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أن جميع الناس من العلماء والعوام في كل زمان ومكان يقاتلون كل من يدعي أنه المهدي، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، وقال نحو ذلك في صفحة (32) وصفحة (33).

وأقول: إن هذه المجازفة لا أساس لها من الصحة، والجملة الأخيرة من كلامه مبنية على الرجم بالغيب، وهل يعلم ابن محمود ماذا يكون في المستقبل حتى يخبر عن جميع الناس من العلماء والعوام في كل زمان ومكان أنهم لن يزالوا يقاتلون كل من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} ، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .

ومن ذلك زعمه في صفحة (3) تقليدًا لأحمد أمين أن القول بخروج المهدي مجرد فكرة ليست من عقائد أهل السنة القدماء، وهذا الزعم مردود بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج المهدي.

ومن ذلك زعمه في صفحة (3) تقليدًا لرشيد رضا وأحمد أمين وسعد محمد حسن أن أصل من تبني الفكرة والعقيدة في المهدي هم الشيعة، وقال نحو ذلك في صفحة (24) وصفحة (27)، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة، وهو مردود بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي.

ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن عبد الله بن سبأ وشيعته أخذوا في صياغة الأحاديث ووضعها ونشرها في مجتمع الناس، وقال نحو ذلك في صفحة (16)، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي غير صحيحة ولا متواترة، وقال مثل ذلك في صفحة (8) وصفحة (12) وصفحة (16) وصفحة (27) ..................

ص: 368

وصفحة (39) وصفحة (51) وصفحة (52) وصفحة (70)، وهذه المجازفة مردودة بما ذكرته في أول الكتاب من الأحاديث الثابتة في المهدي، ومردودة أيضًا بما قاله غير واحد من أكابر العلماء في أحاديث المهدي إن بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وكذلك ما صرح به عدد من أكابر العلماء أن أحاديث المهدي متواترة، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي وتحسينهم لبعضها وقولهم إنها متواترة في أول الكتاب، فليراجع ذلك في موضعه (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي مسلسلة، وهذا الزعم خطأ ظاهر؛ لأنه ليس في أحاديث المهدي شيء مسلسل على ما هو معروف عند المحدثين من صفات الأحاديث المسلسلة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي مختلقة، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (5) أن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين أدركوا في أحاديث المهدي من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، وهذا الزعم مردود بتصحيح المحققين من المتقدمين والمتأخرين لبعض أحاديث المهدي وتحسين بعضها، ولا عبرة بمن تكلم فيها من العصريين الذين زعم ابن محمود أنهم أهل تحقيق، وهم بعيدون كل البعد عن التحقيق، وغاية ما عندهم المجازفة في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلة المبالاة بها.

ومن ذلك زعمه في صفحة (5) أن القول بصحة خروج المهدي يترتب عليه مضار ومفاسد كبار وفتن، وهذا لا أساس له من الصحة، وقد ذكرت في الجواب عنه أن المضار والمفاسد إنما تترتب على إنكار خروج المهدي في آخر الزمان وتكذيب الأحاديث الثابتة فيه.

ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته، وقال في صفحة (12): "وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته ........................................

(1) ص (41 - 45).

ص: 369

الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمه يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به"، وقال نحو ذلك في صفحة (58)، وقال في آخر كلامه: "ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة"، وقال في صفحة (36): "إن الله -سبحانه- في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب"، ثم ساق بقية الكلام الذي ذكره في صفحة (6)، وقال في صفحة (14) وصفحة (15): "وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر، إذ المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي"، وذكر في صفحة (43) حديث أبي سعيد الذي فيه: «المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف»، ثم قال: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُنزَّه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل"، وقال في صفحة (25): "وما هذا التهالك في محبته- أي محبة المهدي- والدعوة إلا الإيمان به وهو رجل من بني آدم، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به".

هكذا جازف ابن محمود في إطلاق هذه الكلمات النابية، وكرر ذلك في سبعة مواضع من رسالته، وزادت به المجازفة في بعض هذه المواضع، فتحكم على الله -تعالى- ذلك، وتجرأ على الرجم بالغيب حيث زعم في صفحة (58) أن الرسول لا يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب بالمهدي إلى يوم القيامة، وما يدريه عما يكون في المستقبل، وقد تقدم الجواب عما ذكرته ههنا من مجازفات ابن محمود وتخليطه مفرقًا في هذا الكتاب.

ومن ذلك أنه في صفحة (6) نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه قال في المنهاج: "إن الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء فطائفة أنكروها"، وقد اعتمد ابن محمود على قول الطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي مع علمه بتغليط شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لمن قال بهذا القول، وهذا ................................

ص: 370

من أقبح التقليد، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في الجملة التي نقل منها ابن محمود ما تقدم ذكره:"إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة"، وإنما أعرض ابن محمود عن نقل هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنها تهدم أقواله الباطلة في إنكار أحاديث المهدي وقوله إنها موضوعة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أن مما يقلل الاحتفال بأحاديث المهدي أنه لم يذكر في القرآن ولم يدخل البخاري ومسلم أحاديثه في كتبهما، وهذا زعم باطل مردود، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد ذكرت كلامهم في ذلك والجواب عنه في أول الكتاب فليراجع (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أن أحاديث المهدي متناقضة ومتعارضة في موضوعها وهذا زعم باطل، وقد ذكرت في الجواب عنه أنه ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تناقض ولا تعارض البتة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (7) أن المحققين من العلماء قد أيقنوا بأن أحاديث المهدي موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وهذا من التقوُّل على المحققين من المتقدمين والمتأخرين، وهلا ذكر كلامهم في ذلك إن كان صادقًا فيما يقول، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي وتحسينهم لبعضها، وما صرح به بعضهم من كونها متواترة في أول الكتاب فليراجع (2)، ففيه أبلغ رد على زعم ابن محمود وتقوله على المحققين من العلماء، فأما رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين فليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما هم أهل جراءة على الكلام في الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لأفكارهم أو أفكار من يعظمونه، فلا يلتفت إلى طعنهم في أحاديث المهدي ولا في غير ذلك من الأحاديث الثابتة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (7) أن كل حديث يذكر فيه المهدي فهو ضعيف، وهذه مجازفة مردودة بالأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (3).

ومن ذلك زعمه في صفحة (8) أن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء ................

(1) ص (59 - 69).

(2)

ص (41 - 45).

(3)

ص (9 - 17).

ص: 371

المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وهذه مجازفة سيئة جدًا أرسلها قائلها من غير تثبت ولا تعقل.

ومن ذلك زعمه في صفحة (8) أن الإمام أحمد كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، وأن الشافعي كان يقول للإمام أحمد:"إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي"، وهذه مجازفة لا يقولها عاقل ولا يغتر بها إلا جاهل بالشافعي وأحمد -رحمة الله عليهما-.

ومن ذلك قوله في صفحة (8) إن الناس مقلدة وقليل منهم المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم.

وأقول: قد ذكرت في الجواب عن هذه الجملة أن ابن محمود قد وقع في العيب الذي عاب به المحدثين والفقهاء، وذلك أنه كان ينقل من كلام رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وغيرهم من العصريين، ويقلدهم فيما قالوه في رد الأحاديث الثابتة في المهدي والقدح فيها بغير مستند صحيح يسوغ به القدح، وقد ذكرت أنه بهذا الفعل قد حكم على نفسه بأنه لا يعد من أهل العلم.

وأقول أيضًا أن الذين خرجوا الأحاديث الثابتة في المهدي كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحارث بن أبي أسامة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم من المحدثين، وكذلك الذين حكموا للصحاح من أحاديث المهدي بالصحة وللحسان منها بالحسن كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وزين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، ونور الدين الهيثمي، وغيرهم من أكابر العلماء، وكذلك الذين قالوا بتواتر أحاديث المهدي كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ أبو الحسين الآبري والذين نقلوا كلامه وأقروه، ومنهم أبو عبد الله القرطبي، وأبو الحجاج المزي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والسيوطي، وغيرهم من المتأخرين، فهل يقول ابن محمود إن هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم كلهم مقلدون، وأن رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين الذي أنكروا أحاديث المهدي وحكموا بأنها موضوعة هم المحققون المجتهدون؟ لا يستبعد منه أن يقول بهذا القول الباطل، بل هذا هو الظاهر من كلامه، ويدل على ذلك أربعة أمور؛ أحدها: أنه قد عاب على الشافعي وأحمد وقال فيهما ما قال مما تقدم ذكره، ........

ص: 372

ومن تهجم على الشافعي وأحمد وعابهما فغير مستبعد منه أن يعيب غيرهما من المحققين المجتهدين ويصفهم بالتقليد، الثاني: أنه زعم في صفحة (23) أن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، وأن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة؛ كأحاديث المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج، الثالث: أنه في صفحة (24) وصف العلماء المتقدمين والموجودين على قيد الحياة بصفة العجز حيث لم ينكروا أحاديث المهدي، الرابع: أنه أثنى على علماء الأمصار في صفحة (26)، ويريد بهم العصريين الذين كان ينقل عنهم ويعتمد على أقوالهم الباطلة في رد الأحاديث الثابتة في المهدي.

وقد زعم أنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، فهذا واضح جلي أنه قد عناهم بوصف التحقيق والاجتهاد، ومن كان اعتماده على آراء العصريين وتخرصاتهم وزبالة أذهانهم وتفكيراتهم الخاطئة فلا شك أنه مزجى البضاعة.

ومن ذلك إعجابه بما ظن أنه تحقيق معتبر عن أحاديث المهدي، وهذا التحقيق المزعوم مذكور في صفحة (8)، وهو بأضغاث الأحلام أشبه منه بكلام اليقظان، وحاصله رد الأحاديث الثابتة في المهدي والقول بأنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى.

ومن ذلك أنه في صفحة (8) وصفحة (9) نقل كلامًا لابن القيم من كتابه "المنار المنيف" واختصره اختصارًا يخل به وحذف منه ما فيه حجة عليه، وهذا خلاف الأمانة في النقل.

ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن المهدي مجهول في عالم الغيب وأنه لا حقيقة لخروجه، وهذا من مجازفاته ومكابراته في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج المهدي في آخر الزمان.

ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن الإيمان بخروج المهدي من التعصب، وهذا أيضًا من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك أنه في صفحة (9) تقوَّل على الذهبي وعليٍّ القاري، وزعم أنهما قالا في حديث صلاة عيسى خلف المهدي إنه موضوع، وقد ذكرت الجواب عن هذا .........

ص: 373

التقول في أول الكتاب فليراجع (1)، وأقول: أين الورع والتقوى؟! وأين الأمانة في النقل؟! أما عند هذا الرجل دين يحجزه عن التقول على علماء المسلمين؟!

ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن أعدل من أصاب الهدف في قضية المهدي هو أبو الأعلى المودودي، ثم ذكر كلامه الذي هو بعيد كل البعد عن إصابة الهدف في قضية المهدي.

ومن ذلك ما ذكره في صفحة (10) عن اعتقاده الذي يدين الله به، وهو إنكار خروج المهدي والإنكار على من يقول بصحة خروجه، ولا شك أن هذا من الاستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، ومن اتِّباع غير سبيل المؤمنين الذين يقابلون الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرضى والقبول والتسليم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (11) وصفحة (12) أنه يدعو العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد في أحاديث المهدي، وإنما هو في الحقيقة يدعوهم إلى الاتحاد على سوء الاعتقاد الذي يتضمن تكذيب الأحاديث الثابتة في المهدي، ويدعو إلى نبذها وإطراحها.

ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين قد حكموا على أحاديث المهدي بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست من كلامه، وأنهم ينزهون ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته عن الإتيان بمثلها، وهذا من التقوُّل على المحققين من المتقدمين والمتأخرين، وإنما يذكر بعض ذلك عن بعض العصريين الذين ليسوا من أهل التحقيق في الحديث، وإنما هم من أهل المجازفة والقول بغير علم، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين، وهؤلاء وأمثالهم من العصريين هم أئمة ابن محمود الذين ينقل عنهم ويقلدهم ويعتمد على أقوالهم الباطلة في تكذيب أحاديث المهدي، بل إنه قد زاد عليهم في إطلاق الصفات الذميمة على الأحاديث الثابتة في المهدي؛ كقوله: إنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست من كلامه، وإنها نظرية خرافية، وإنها أحاديث خرافة، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة. هكذا كانت مقابلته للأحاديث الثابتة في المهدي.

ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن الشبهة في أحاديث المهدي يقينية ..........

(1) ص (92، 93).

ص: 374

والكذب فيها ظاهر جلي، وهذا من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك قوله في صفحة (12): "وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به"، وقد ذكرت هذه الكلمات النابية قريبًا وتقدم الجواب عنها في أول الكتاب فليراجع (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن كل الأحاديث الدالة على خروج المهدي متناقضة متعارضة ومختلفة غير مؤتلفة، وأنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، وهذا من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك قوله في صفحة (12) إنه رأى لشيخ الإسلام ابن تيمية قولا يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود، وهذا غير صحيح؛ لأن شيخ الإسلام لم يذكر سوى أربعة أحاديث ذكرها في صفحة (211) من الجزاء الرابع من كتاب "منهاج السنة النبوية"، فإن كان ابن محمود قد وجد لشيخ الإسلام كلامًا غير الذي أشرنا إليه فليذكر الكتاب الذي وجد فيه ذلك وليذكر موضعه من الكتاب، ولا أظنه يجد شيئًا.

ومن ذلك زعمه في صفحة (12) وصفحة (13) أنه قد توسع في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، وإن ذلك مما فات على العالم النحرير- يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-، وهذه دعوى لا حاصل تحتها وأمنية يتعلل بها قائلها ولا حقيقة لها، والواقع في الحقيقة أنه قد توسع في المجازفة والمكابرة في رد الأحاديث الثابتة في المهدي وإطراحها ووصفها بالصفات الذميمة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (12) وصفحة (13) أن القول بخروج المهدي وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من ورود الأحاديث فيه أن ذلك من الاعتقاد السيئ ومن زلات العلماء، وأن من قال ذلك نسب إلى الخطأ والتقصير، ولا يخفى ما في هذا الكلام السيئ من قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل.

ومن ذلك قوله في صفحة (12): "وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله"، وهذا قول باطل مردود بالنص على أن الخلفاء الأربعة مهديون، ........

(1) ص (55 - 58).

ص: 375

وبالنص على أن عيسى ابن مريم يكون في آخر هذه الأمة إمامًا مهديًا، وبالأحاديث الثابتة في خروج المهدي في آخر الزمان، وفي بعضها النص على تسميته بالمهدي، ويرد هذا القول الباطل أيضًا بالإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأئمة المهديين، وإذا كانت معرفة ابن محمود التي وصفها بالتمام قد بلغت إلى هذا الحد من مخالفة النص والإجماع، فأحسن الله عزاءه في معرفته.

ومن ذلك زعمه في صفحة (13) أن كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية قد غرق فيها كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، ولا يخفى على من له علم ومعرفة ما في كلام ابن محمود من قلب الحقيقة؛ لأن الغارق في الحقيقة من جد واجتهد في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، وذلك هو ابن محمود ومن كان على شاكلته.

ومن ذلك قوله في صفحة (13): "وفي البخاري أن موسى لما لقي ذا القرنين بمجمع البحرين" وكرر اسم ذي القرنين ثلاث مرات في هذه الصفحة وفي صفحة (14)، وهذا من الأغلاط الفاحشة.

ومن ذلك قوله في صفحة (14): "يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين؛ إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده"، ولا يخفى ما في هذا القول من الدعاء إلى الضلالة ومعارضة النصوص على أن الخلفاء الأربعة مهديون، وأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يكون في آخر هذه الأمة إمامًا مهديًا، وأنها لا تنقضي الدنيا حتى يخرج رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالسنة ويكون مهديًا، وفيه أيضًا معارضة للإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأئمة المهديين، وهذا القول الباطل من ابن محمود مبني على قياس فاسد كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة.

ومن ذلك قوله في صفحة (14) وصفحة (15): "وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غني واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر، إذ المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل" ولا يخفى ما في هذا الكلام من التخليط والتلبيس الذي ينكره كل عاقل، وهل يقول عاقل إن المهدي يأتي بدين جديد، أو يقول عاقل إن المهدي ملك مقرب أو نبي مرسل؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل أبدًا ولو على سبيل الفرض والتقدير، وإنما يقول ذلك من في عقله خلل.

ص: 376

ومن ذلك قوله في صفحة (15): "وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي". وهذا القول من نمط ما قبله، وهل يقول عاقل إن دين الإسلام ناقص وإن إكماله يكون على يد المهدي أو غيره من هذه الأمة؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل.

ومن ذلك قوله في صفحة (15): "إن رسول الله قال في موقف عرفة، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله، وفي رواية أخرى وسنتي ولم يقل وتركت من بعدي المهدي".

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس الذي قد يغتر به بعض الناس، وهل وجد ابن محمود لأحد من الناس أنه قال إن المهدي يعتصم به كما يعتصم بالكتاب والسنة حتى يقول ما قال؟! ولو أن ابن محمود تأمل الأحاديث الثابتة في المهدي ونبذ تقليده لرشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين وراء ظهره لعلم يقينًا أن المهدي إمام من أئمة العدل الذين يعتصمون بالكتاب والسنة، ويحيون ما أماته الناس من السنن، ويزيلون الجور والظلم، ويبسطون القسط والعدل.

ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه، وأقول لو أن ابن محمود اعتني بالبحث عن الأحاديث الثابتة في المهدي كما اعتنى بتقليد رشيد رضا وأحمد أمين وغيرهما من المنكرين لخروج المهدي لما خفي عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من التصريح باسم المهدي، فقد جاء ذلك في أربع روايات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفي ثلاثة أحاديث عن علي وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم وفي حديث موقوف على عليٍّ، وهذه الأحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (1).

ومن ذلك أنه في صفحة (15) أورد حديثًا عن معاذ رضي الله عنه ولفَّقه من حديثين عن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما ومن حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حذيفة بأسماء ثلاثين .............

(1) ص (12 - 17).

ص: 377

من المنافقين، وهذا لا أصل له، وإنما الثابت أنهم كانوا اثني عشر رجلا.

ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أن الصحابة كانوا لا يُصلون إلا على من صلَّى عليه حذيفة، وهذا إنما ذكر عن عمر رضي الله عنه ولم يذكر عن غيره.

ومن ذلك قوله في صفحة (15) أن الصحابة كانوا يسمون حذيفة صاحب السر المكتوم، وهذه التسمية لم أر أحدًا ذكرها سوى ابن محمود، وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أن بعض الصحابة كان يسمى حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره.

ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن تذكير الناس بأن المهدي حق وأنه سيخرج على الناس لا محالة وأنه يملأ الأرض عدلا، أن هذا لا يزيد في الإيمان ولا في صالح الأعمال ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب.

وأقول: بل الأمر في الحقيقة بخلاف ما زعمه ابن محمود، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع في موضعه (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بل كلها مجروحة وضعيفة، وهذا من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار رجَّحوا أن أحاديث المهدي مكذوبة على رسول الله.

وأقول: إن هذا الزعم غير صحيح؛ لأن الذين طعنوا في أحاديث المهدي وزعموا أنها غير صحيحة أفراد قليلون من العصريين، وقد ذكرت أناسًا من رؤوسهم في عدة مواضع من هذا الكتاب (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أحاديث المهدي خرافة سياسية إرهابية، صيغت وصنعت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، وزعم في صفحة (24) أن المهدي وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر ويزيد كلٌ فيها ما يريد، وذكر أن هذا هو اعتقاده، وزعم في صفحة (27) أن فكرة المهدي ما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول وتوقع في الفضول، وزعم في صفحة (38) أن نظرية المهدي نظرية ..............................................................

(1) ص (119، 120).

(2)

ص (32، 49، 59، 70، 78) وغيرها من المواضع.

ص: 378

خرافية، وزعم في صفحة (58) أن دعوى المهدي هي في الأصل حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر، وزعم في صفحة (62) أن المهدي خرافة، هكذا زعم ابن محمود في هذه المواضع كلها أن المهدي والأحاديث الواردة فيه خرافة، وهكذا جازف وكابر في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، أما يخاف الله ويتقيه؟! أما يكون عنده شيء من الورع يحجزه عن الاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟!

ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن عبد الله بن سبأ كانت له اليد العاملة في صياغة الحديث والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول إن المهدي محمد بن الحنفية، وإنه بعث بعد موته وسكن بجبل رضوى، قال: وسموا بالسبئية، وقال إن كثير عزة سبئي.

وأقول: هذا الزعم لا أساس له من الصحة، والذين كانوا يقولون بإمامة محمد بن الحنفية هم الكيسانية أصحاب المختار بن أبي عبيد الكذاب، وكان كثير عزة كيسانيًا ولم يكن سبئيا كما قد توهم ذلك ابن محمود.

ومن ذلك زعمه في صفحة (18) أن عقيدة المهدي وما يكون من أمره ونشره للعدل في خلال سبع سنين من العقائد الخيالية الدخيلة وليست من عقائد الإسلام والمسلمين.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الزعم من المكابرة والاستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، ومن استهان بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد استهان بالرسول صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.

ومن ذلك زعمه في صفحة (19) أن العلماء من المتقدمين والمتأخرين تنبهوا لرد الأحاديث التي يتلونها ويموهون بها على الناس، فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبيَّنوا ما فيها من الجرح والتضعيف، وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين.

وأقول: هذا الزعم غاية في التمويه والتلبيس، ولا أعلم عن أحد من العلماء المتقدمين أنه رد الأحاديث الثابتة في المهدي ولا أخضعها للرد والإطراح الذي يسميه ابن محمود تصحيحًا وتمحيصًا، وإنما فعل ذلك أفراد من العصريين الذين هم سلف ابن محمود وأئمته في معارضة الأحاديث الثابتة في المهدي وإخضاعها ..............................................

ص: 379

للرد والإطراح، ومن أكبر الخطأ وأقبح المجازفة زعم ابن محمود أن الأحاديث الثابتة في المهدي مزورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل الزنادقة الكذابين، وقد ذكرت نموذجًا من الأحاديث الثابتة في المهدي في الرد على هذه الفِرية، فليراجع ذلك في موضعه (1).

ومن ذلك إيهامه في صفحة (19) أن ابن القيم قد انتقد أحاديث المهدي كلها وبين معائبها في كتابه "المنار المنيف"، وهذا الإيهام يرده كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف"، وقد ذكرت بعضه في أثناء الكتاب فلتراجع (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (19) أن الشاطبي ألحق المهدية بأهل البدع، قال:"ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي"، وهذا من التقول على الشاطبي.

ومن ذلك زعمه في صفحة (19) وصفحة (20) أن ابن خلدون في مقدمته فحص أحاديث المهدي، وبين بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وهذا الزعم يرده كلام ابن خلدون في مقدمته، وقد ذكرته في أثناء الكتاب فليراجع (3).

ومن ذلك ما نقله في صفحة (20) عن محمد فريد وجدي من الطعن في أحاديث المهدي، وقد زعم محمد فريد أن كثيرًا من أئمة المسلمين قد ضعَّفوا أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه "منهم الدارقطني والذهبي"، ولم يبين ذلك بل أوهم أن ذلك من كلام محمد فريد، وهذا ينافي الأمانة في النقل مع ما فيه من التقوُّل على الدارقطني والذهبي.

ومن ذلك قوله في صفحة (21) فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها، فأطلق اسم المهديين على الملحدين المدعين للمهدية كذبًا وزورًا، وهذا الإطلاق لا يجوز لأن اسم المهديين إنما يطلق على الخلفاء الراشدين ولا يطلق على غيرهم.

(1) ص (132 - 137).

(2)

ص (138 - 140)(207 - 210).

(3)

ص (141).

ص: 380

ومن ذلك زعمه في صفحة (21) أن القرمطي وأصحابه دخلوا مكة في سابع ذي الحجة، والصواب أنهم دخلوها في اليوم الثامن.

ومن ذلك زعمه في صفحة (21) أن أهل مكة والحجاج قاموا بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يبيِّتون أمرًا آخر وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن وقتلوا واحدًا منهم فبدأت الاشتباكات.

وأقول: لا أصل لشيء مما ذكره في هذه الجملة، ولم يذكره أحد من المؤرخين الموثوق بهم في النقل.

ومن ذلك أنه في صفحة (23) وصف العلماء المتقدمين بالتغفيل، حيث زعم أنهم يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، وزعم أيضًا أن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة؛ كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وزعم أنهم لا يتكلفون في نقدها، وهذه المزاعم مردودة على قائلها وعلماء السنة منزهون عنها.

ومن ذلك زعمه في صفحة (23) أن أحاديث المهدي متضاربة ومختلفة، وهذا من مجازفاته وأوهامه.

ومن ذلك زعمه في صفحة (24) أن المهدي وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر ويزيد كل واحد فيها ما يريد، وهذا من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك أنه في صفحة (24) وصف العلماء المتقدمين والعلماء الموجودين بالعجز؛ حيث لم يُحذِّروا من القول بخروج المهدي، وزعم أن القول بخروجه من الاعتقاد السيئ، وهذا من مكابراته وتهجمه على علماء أهل السنة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (24) أن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى، وهذا الزعم الباطل مردود، وهو مما أخذه من كلام أحمد أمين وقد تقدم بيان ذلك في موضعه (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (25) أن فكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع ........

(1) ص (160، 161).

ص: 381

سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته بحال، وهذا الزعم باطل مردود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في سيرة المهدي وصفته، وقد ذكرت الأحاديث في ذلك في أول الكتاب، فلتراجع (1).

ومن ذلك قوله في صفحة (25): "فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به – أي بالمهدي– والقرائن والشواهد تكذب به".

وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي والاستخفاف بها، وكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يعارض الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وينبذها وراء ظهره؟ أما يخشى من فعل هذا أن يصاب بالفتنة أو بالعذاب الأليم؟!

ومن ذلك قوله في صفحة (25): "وما هذا التهالك في محبته- أي محبة المهدي- والدعوة إلى الإيمان به؟! وهو رجل من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به"، وهذا كلام باطل مستهجن وقد تقدم الرد عليه في مواضع من هذا الكتاب.

ومن ذلك قوله في صفحة (26): "محاربة علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي".

وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من الإيهام والمجازفة؛ لأن علماء الأمصار قديمًا وحديثًا كانوا يؤمنون بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المهدي ويقابلون أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، وإنما شذ عنهم أفراد قليلون من العصريين المتكلفين الذين هم سلف ابن محمود وقدوته في رد الأحاديث الثابتة في المهدي وقلة المبالاة بها، ولا عبرة بهؤلاء لشذوذهم ومخالفتهم لما عليه أهل السنة والجماعة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن علماء الأمصار- يعني العصريين- متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصا وتصحيحًا حتى يجعلوه جليًا للعيان وصحيحًا بالدلائل والبرهان.

وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من المبالغة في مدح العصريين ووصفهم بما لا ينطبق عليهم.

(1) ص (10 - 17).

ص: 382

ومن ذلك ما ذكره في صفحة (26) عن العصريين، أنهم قرروا قائلين إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما.

وأقول: هذا هو الذي زعم ابن محمود أنه تحقيق وتدقيق وتمحيص وتصحيح، وهو مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين، وقد تقدم الجواب عنه في موضعه (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن أحاديث المهدي على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وهذا خطأ مردود؛ لأن كل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنباء الغيب فالإيمان به واجب، وهو مما يتعلق بعقيدة الدين.

ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن أحاديث المهدي ما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان أو في أوله يقوم بها فلان أو فلان بدون ذكر المهدي، فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها.

وأقول: هذا زعم باطل مردود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وأخبر أنه من أهل بيته، وأنه يعمل بسنته، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا.

ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أنه يجب طرح فكرة المهدي وعدم اعتقاد صحته.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وما عارض الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قول سوء، يجب طرحه ورده على قائله.

ومن ذلك قوله في صفحة (26): "وعندنا كتاب الله نستغني به عنه- أي عن المهدي- كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة".

وأقول: إن فساد هذا القول لا يخفى على الصبيان الأذكياء فضلا عن الرجال العقلاء، وهل يقول عاقل أنه يستغنى بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن أئمة العدل، الذين يعملون بالكتاب والسنة ويحملون الناس على العمل بهما؟! كلا، لا يقول ذلك عاقل.

ومن ذلك قوله في صفحة (27): "ولعل العلماء الكرام والأكابر من الطلاب ........

(1) ص (167 - 168).

ص: 383

يقومون بجد ونشاط إلى أبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم وعلى أئمة المسلمين وعامتهم.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من الحث على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ونبذها وإطراحها، وقد قال الله -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، والله المسئول أن يعيذ المسلمين عامة والعلماء والطلاب خاصة مما دعاهم إليه ابن محمود من معارضة الأحاديث في المهدي.

ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن أحاديث المهدي ما هي إلا أحاديث خرافة، تلعب بالعقول وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم، وهذا من مجازفاته ومكابراته في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، أما عند الرجل دين يحجزه عن المجازفات والمكابرات والتهجم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلة المبالاة بها؟!

ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة.

وأقول: إن الجهل كل الجهل في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي بدون مستند صحيح، بل مجرد الرأي والتقليد لبعض العصريين الذين يعتمدون على تفكيراتهم الخاطئة في معارضة الأحاديث الثابتة وردّها.

ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن الأحاديث الواردة في المهدي هي التي أفسدت العقول، وهذا من مكابراته، ومن زعم أن شيئًا من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم يفسد العقول فلا شك في فساد تصوره ووقوع الخلل في عقيدته.

ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن علماء الأمصار قاموا بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، وهذا الزعم مبني على التوهم والتمويه؛ لأن أكثر علماء الأمصار كانوا على خلاف ما نسبه إليهم، ولا يعرف إنكار المهدي إلا عن أفراد قليلين من العصريين، وقد ذكرت أسماءهم عند الجواب على هذه الجملة من كلام ابن محمود، فليراجع ذلك في موضعه (1).

(1) ص (174).

ص: 384

وفي صفحة (27) أنكر ابن محمود على العلماء الذين يصدعون على رؤوس الناس بصحة خروج المهدي، وزعم أنهم يسيرون في طريق مخالف، وأنهم يحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم.

وأقول: إن المُنكَر في الحقيقة هو إنكار ابن محمود على العلماء الذين قابلوا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرضي والتسليم، وصدعوا على رؤوس الناس بصحة ما جاء فيها من خروج المهدي في آخر الزمان، فهؤلاء هم المصيبون بخلاف الذين عارضوا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصفوها بالصفات الذميمة تقليدًا لبعض العصريين، فهؤلاء هم الذين يسيرون في طريق مخالف لطريق أهل الحق، وهم الذين يحجرون رأي الجمهور على الأقوال الباطلة، ومن المنكر أيضًا رميه العلماء المتمسكين بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي بأنهم يعتقدون ما تربوا عليه في صغرهم، وأنهم يقلدون الآباء والمشايخ، وهذه الصفات لا تنطبق عليهم، وإنما تنطبق على من رماهم بما هم بريئون منه.

ومن ذلك قوله في صفحة (27): "إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا، وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى".

وأقول: أما التحقيق الذي أحال عليه وزعم أنه تحقيق معتبر فليس فيه تحقيق البتة، وإنما هو تخليط وتمويه وتلبيس ومجازفة في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، ولا تروج أوهامه إلا على ضعفاء البصيرة.

ومن ذلك ما ذكره في صفحة (28) عن بعض العلماء أنهم يشمأزون وتشتد كراهيتهم لرسائل العصريين وبحوثهم التي يعالجون فيها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، ثم زعم أن من واجبهم تلقِّي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، والتدبر والتفكر في مدلولها، والتزود مما طاب منها، ليزدادوا علمًا إلى علمهم.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من الحث على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب أخباره الصادقة عن المهدي، وما كان معارضًا للأحاديث الثابتة أو داعيًا إلى معارضتها فهو جهل صرف، وليس فيه علم نافع ..............................

ص: 385

يتزود منه، والعلماء الذين يشمأزون وينفرون وتشتد كراهيتهم للرسائل والبحوث التي يعالج أصحابها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان هم المصيبون، ومن أنكر ذلك عليهم فقوله هو المنكر في الحقيقة.

ومن ذلك أنه في صفحة (29) وضع عنوانًا سماه "عقيدة المسلم مع المهدي" قرر فيه إنكار خروج المهدي، وزعم أن ذلك هو الحق الذي يعتقده ويدعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه، وهذا التقرير لا يطابق العنوان، وإنما المطابق له أن يقول:"عقيدة المنكرين للمهدي".

ومن ذلك قوله في صفحة (29): "لقد علق بعقائد العامة وبعض العلماء وجود مهدي في عالم الغيب، لا يعلمون مكانه ولا زمانه، فمنهم من يؤمن به ويصدق بظهوره وينكر على من أنكره، ومنهم من ينكر وجود المهدي بتاتًا، ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه، ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله".

وأقول: إن علماء أهل السنة وعوامهم قديمًا وحديثًا يؤمنون بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خروج المهدي في آخر الزمان، وفي علوق وجود المهدي بعقائدهم دليل على تحقيقهم للشهادة بالرسالة، وأما كون المهدي في عالم الغيب الآن فذلك لا ينفي خروجه إلى عالم الحس والمشاهدة في آخر الزمان، وليس العلم بمكان المهدي وزمانه شرطًا من شروط الإيمان بخروجه كما قد توهم ذلك ابن محمود، ومن أنكر وجود المهدي بتاتًا، وطعن في صحة الأحاديث الثابتة فيه، وزعم أنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه مكابر ومعرِّض نفسه للفتنة أو العذاب الأليم، لقول الله -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ومن ذلك قوله في صفحة (29): "إن الحق الذي يعتقده ويدعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه هو أنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده".

وأقول: لا شك أنه قد اعتقد الباطل المخالف للكتاب والسنة والإجماع، ودعا الناس إلى اعتقاده، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب فليراجع (1).

ومن ذلك قوله في صفحة (29): "إن المهدي ليس بملك معصوم ولا نبي مرسل".

(1) ص (9 - 22).

ص: 386

وأقول: قد كرر ابن محمود قوله إن المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل. وهذا التكرار مستهجن ولا حاصل تحته، وقال في هذا الموضع: إنه ليس بملك معصوم، ولم أر أحدًا سبقه إلى وصف الملائكة بهذه الصفة وإن كانوا معصومين عن الكبائر والصغائر.

ومن ذلك زعمه في صفحة (29) أن كل الأحاديث الواردة فيه – أي في المهدي– ضعيفة ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يُحدِّث بها، وهذا من مجازفاته وأخطائه.

ومن ذلك أنه في صفحة (29) وضع عنوانًا سماه "مقام المسلم من المهدي" قرر فيه أنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه، وأنه لا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه، وهذا التقرير لا يطابق العنوان؛ لأن مقام المسلم من المهدي لا بد أن يكون بالإيمان بخروجه في آخر الزمان، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث من الصحاح والحسان تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (1)، وبالجملة فمقام المسلم من المهدي على خلاف ما زعمه ابن محمود.

ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أنه ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به – أي بالمهدي–، وهذا قول باطل مردود؛ لأن خروج المهدي ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بوقوعه فالإيمان به من عقائد المسلمين.

ومن ذلك تغليطه للسفاريني في صفحة (30) حيث أدخل الإيمان بالمهدي في عقيدته، وابن محمود هو الغالط في الحقيقة، حيث أنكر ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار بخروج المهدي في آخر الزمان.

ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أن دعوى المهدي في مبدئها للشيعة، وأن بعض أهل السنة اقتبسوا هذا الاعتقاد من الشيعة، وهذا خطأ ظاهر.

ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أن دعوى المهدي ليست من عقيدة أهل السنة، وهذا خطأ؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بخروج للمهدي في آخر الزمان، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق يجب الإيمان به، وهو داخل في عقائد أهل السنة، سواء ذكره العلماء في كتب العقائد أو لم يذكروه.

(1) ص (9 - 17).

ص: 387

وفي صفحة (31) استدل على إنكار خروج المهدي بأنه لم يذكر في القرآن ولا في صحيح البخاري ومسلم، وهذا الاستدلال باطل، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (31) أن أحاديث المهدي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وكلها متخالفة ومضطربة ينقض بعضها بعضًا، وهذا من أقبح المجازفات والمكابرات، وكيف يستجيز المسلم أن يجعل الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، التي هي أو غالبها قصص خيالية مكذوبة؟! أما يخشى ابن محمود أن يصاب بالفتنة أو بالعذاب الأليم على استخفافه بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره الصادقة؟!

ومن ذلك زعمه في صفحة (31) أنه لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب، وهو من أهل الدنيا ومن بني آدم، وهذا خطأ مردود بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن رجال كثيرون ممن مضى من الأنبياء وغيرهم، وأخبر عن رجال كثيرين يكونون في آخر الزمان؛ ومنهم نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ومنهم المهدي، والقحطاني، والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا، والدجال، ويأجوج ومأجوج، والمؤمن الذي يقتله الدجال ثم يحييه، فمن لم يصدق بخروج هؤلاء في آخر الزمان فلا شك أنه فاسد العقيدة.

ومن ذلك استهزاؤه وسخريته بالمهدي، حيث قال في صفحة (32):"وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات، أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة تحارب معه، أو الجن تسخر له كما سخرت لداود؟ "

وأقول: إنه لمن المستغرب جدًا مقابلته للأحاديث الواردة في المهدي بالسخرية والاستهزاء، أما فيه دين يحجزه عن الاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأقول أيضًا: إن الجن لم تسخر لداود، وإنما سخرت لسليمان، وإذا كان هذا قد خفي على ابن محمود مع أنه مذكور في القرآن، فمن باب أولى أن تخفى عليه الأحاديث الثابتة في المهدي، وأن يتهجم عليها ويقابلها بالسخرية والاستهزاء.

ومن ذلك زعمه في صفحة (32) أنهم يوم أحد دلوا النبي صلى الله عليه وسلم في حفرة ظنوه ميتًا، وهذا غير صحيح.

(1) ص (59 - 69).

ص: 388

ومن ذلك زعمه في صفحة (32) وصفحة (33) أن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، علماؤهم وعامتهم، متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي؛ لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها، ولا يزالون يقاتلون من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة.

وأقول: هذه مجازفة مردودة، وقد تقدم التنبيه على بطلانها في أول الخاتمة فليراجع (1).

ومن ذلك قوله في صفحة (33) وصفحة (34): "إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض، لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده".

وأقول: قد كرر ابن محمود هذا الكلام المستهجن في عدة مواضع، وزاد في هذا الموضع قوله: ولم يخلف رسول الله شيئًا منه – أي من الدين– لا في السماء ولا في الأرض، وقد تقدم الجواب عن هذا في أثناء الكتاب فليراجع (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (34) أن أحاديث المهدي، مع أحاديث الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن، كل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، وأنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات والمدرجات والتحريفات.

وأقول: هذه مجازفة لا أساس لها من الصحة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (34) أن ابن خلدون حكم على أحاديث المهدي بالضعف، وهذا مما قلد فيه رشيد رضا، وليس الأمر على ما زعمه رشيد رضا وابن محمود؛ لأن ابن خلدون لما نقد أحاديث المهدي استثنى منها القليل أو الأقل منه فليراجع ذلك في آخر كلامه على أحاديث المهدي في مقدمته.

ومن ذلك زعمه في صفحة (35) أن ابن القيم ذكر في كتابه "المنار المنيف" ...........

(1) ص (368).

(2)

ص (198، 199).

ص: 389

أحاديث المهدي وضعفها، وهذا من التقول على ابن القيم -رحمه الله تعالى-؛ لأنه قد صحح بعض أحاديث المهدي وحسن بعضها وقال بعد إيرادها:"وهذه الأحاديث أربعة أقسام؛ صحاح وحسان وغرائب وموضوعة"، ونقل قول الآبري في تواتر أحاديث المهدي وأقره على ذلك، فليراجع كلامه في "المنار المنيف"، فإنه على خلاف ما موَّه به ابن محمود.

ومن ذلك زعمه في صفحة (35) أن الشاطبي في كتابه "الاعتصام" جعل المهديين من أهل البدع، قال:"ويعني بالمهديين الذين يصدقون بخروج المهدي"، وهذا من التقول على الشاطبي، وقد ذكرت كلام الشاطبي في أثناء الكتاب، فليراجع؛ ليعلم ما في كلام ابن محمود من تحريف الكلم عن مواضعه (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أنه كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل التعارض والتناقض والمخالفات والإشكالات.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة والبطلان؛ لأن القائلين بتضعيف أحاديث المهدي أفراد قليلون من العصريين، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من المعارضين للأحاديث الثابتة في المهدي، فهل يقول عاقل أن الإجماع يكاد ينعقد بأقوال هؤلاء الأفراد وأمثالهم، مع كونها أقوالا باطلة مخالفة للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما عليه جمهور العلماء قديمًا وحديثًا؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل.

ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليها فنون من المضار، والمفاسد الكبار، والفتن المتواصلة، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها.

وأقول: لا يخفى بطلان هذا القول على من له علم ومعرفة، وليس يترتب على التصديق بالمهدي شيء من المضار والمفاسد والفتن، وإنما تترتب المضار والمفاسد والفتن على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب أخباره الصادقة، وأما تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإخبار بالمهدي أو غيره من الأمور التي ستقع في آخر الزمان فهو من أغرب الأقوال وأشدها نكارة، وهو خلاف ما عليه المسلمون من ................................................

(1) ص (210 - 212).

ص: 390

مقابلة الأحاديث الثابتة بالرضى والتسليم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من ببني آدم، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته.

وأقول: لا يخفى ما في هذه المجازفة من القول على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن وجود المهدي أضر على الناس من عدمه.

وأقول: إن هذا من قلب الحقيقة، إذ لا يخفى على عاقل أن وجود الإمام العادل أنفع للناس من عدمه.

ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أنه من المحال أن يكون المهدي على صفة ما ذكروا، ولا يخفى ما في هذه المجازفة من الرجم بالغيب والتألي على الله.

ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن اعتقد بطلانه- أي المهدي- وعدم التصديق به يعطى القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتتان.

وأقول: بل الأمر بالعكس؛ لأن راحة القلوب والفرح والأمان والاطمئنان والسلامة من الزعازع والافتتان إنما تكون بالرضى والتسليم لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن فكرة المهدي نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وأنهم وضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأحكموا أسانيدها فصدقها الجمهور لبساطته، وكان لذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام.

وأقول: هذا الكلام الباطل ملخص من كلام أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام"، وهو مردود عليه وعلى من اغتر به ونقله راضيًا به.

ومن ذلك زعمه في صفحة (38) أن دعوة المهدي نظرية خرافية لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم.

ص: 391

وأقول: هذه المجازفة ناشئة عن فساد التصور، وهي مردودة بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج المهدي وحسن سيرته.

وفي صفحة (39) وضع عنوانًا سماه "التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر"

وأقول: إن هذا العنوان مبني على المجازفة والإيهام والتوهم؛ لأن كلام ابن محمود في أحاديث المهدي ليس فيه تحقيق البتة فضلا عن أن يكون فيه تحقيق معتبر، وإنه لينطبق عليه قول الشاعر:

يقضي على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

وهل يقول عاقل إن معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، ووصفها بالصفات الذميمة يعد من التحقيق المعتبر؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل أبدًا.

ومن ذلك قوله في صفحة (39): "اعلم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وإننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم فيه باسمه".

وأقول: قد ثبت في المهدي أحاديث كثيرة من الصحاح والحسان، ولبعضها عدة طرق مروية بالأسانيد الثابتة، وفي بعضها التصريح باسم المهدي، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على مزاعم ابن محمود، ولو أن ابن محمود سَلِمَ من تقليد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين المعارضين للأحاديث الثابتة في المهدي، لكان حريًا أن يوفق لوجود الأحاديث الثابتة التي جاء فيها التصريح باسم المهدي، وقد روي الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حبك الشيء يعمي ويصم» .

ومن ذلك قوله في صفحة (39): "وقد نزَّه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن".

وأقول: قد ذكر هذا القول الباطل في صفحة (6) وصفحة (31)، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم التنبيه على ذلك (2).

(1) ص (9 - 17).

(2)

ص (371 - 388).

ص: 392

ومن ذلك قوله في صفحة (39): "لهذا لا ننكر على من أنكره– يعني المهدي–، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه".

وأقول: لا شك أن هذا من انقلاب الحقيقة عند ابن محمود، ورؤيته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل الذي ينبغي إنكاره.

ومن ذلك زعمه في صفحة (39) أن الأحاديث التي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة في ذكر المهدي كلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى.

وأقول: هذا من مجازفاته التي كررها في عدة مواضع.

ومن ذلك أنه في صفحة (39) ذكر حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما في ذكر الخلفاء الاثني عشر، وهو حديث صحيح قد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما، ومع هذا فقد شك ابن محمود في صحته، فقال في صفحة (40):"فالاستدلال به على فرض صحته غير موافق ولا مطابق"، هذا حاصل تحقيق ابن محمود الذي زعم أنه تحقيق معتبر.

ومن ذلك قوله في صفحة (40): "إن حديث جابر بن سمرة ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حملة على حكام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة". فعبَّر ابن محمود عن الواقع فيما مضى بأنه ملموس ومشاهد بالأسماع والأبصار.

وهذا كلام غير معقول؛ لأن الواقع في الماضي إنما يعبر عنه بالعلم ولا يعبر عنه باللمس ولا بالمشاهدة؛ لأن اللمس والمس إنما يكون بمباشرة اليد أو غيرها من الأعضاء لجسم آخر من غير حائل، وأما المشاهدة بالأبصار فإنما تكون للشيء الحاضر الذي تمكن مشاهدته، وأما المشاهدة بالأسماع فغير معقول؛ لأن الآذان إنما جعلت للسمع لا للمشاهدة، وبعد فهكذا يكون التحقيق المعتبر الذي تضحك منه الثكلى.

ومن ذلك زعمه في صفحة (41) أن المهدي مجهول في عالم الغيب.

وأقول: قد كرر ابن محمود هذه الكلمة في عدة مواضع من رسالته، وإذا كان المهدي مجهولا عند ابن محمود فإنه معلوم عند أهل السنة والجماعة، وأما كونه الآن في عالم الغيب فذلك لا يمنع من الإيمان بخروجه في آخر الزمان، والقول في خروجه كالقول في خروج غيره ممن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم في آخر الزمان؛ ...........................................

ص: 393

كالقحطاني والجهجاه والخليفة الذي يحثو المال حثوًا، وكذلك خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وخروج يأجوج ومأجوج، فكل هؤلاء من باب واحد يجب الإيمان بخروجهم في آخر الزمان وإن كانوا الآن في عالم الغيب، ومن أنكر خروجهم أو خروج أحد منهم ورد الأحاديث الثابتة في ذلك فإنما يرد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (41) وصفحة (42) أن المهدي خيال غيبي يوجد في الأذهان دون الأعيان، وهذا من مجازفاته.

ومن ذلك أنه في صفحة (42) قال: "روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا» قال: ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم، ورواه الترمذي أيضًا".

وأقول: إن ابن محمود قد أبدل رواية أبي داود برواية الإمام أحمد ونسبها لأبي داود، وهذا خطأ، ثم زعم أن الترمذي رواه وهو لم يروه، وإنما أشار إليه بعد إيراده لحديث ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال:"وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة"، وهذا خطأ آخر، ثم قدح في صحة حديث علي رضي الله عنه بدون ذكر علة في إسناده يسوغ بها القدح فيه، وهذا خطأ ثالث، ثم زعم أنه على فرض صحته فإنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا، وهذا خطأ رابع، ثم أبدى احتمالا أن قوله "مِنَّا" من أهل ديننا وملتنا، وهذا خطأ خامس، وأبدى احتمالا آخر أنه من المحال وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، وهذه خطأ سادس، وبعد فهذا هو التحقيق المعتبر عند ابن محمود، ومن كان هذا تحقيقه للأحاديث فأحسن الله عزاءه فيما أضاع من العلم، وقد تقدم الجواب عن هذه الأضغاث في أثناء الكتاب فليراجع (1).

ومن ذلك قوله في صفحة (43): "ولا يمتنع كونه – أي المهدي– من جملة الخلفاء السابقين".

وأقول: بل ذلك ممتنع بالنص على أن المهدي من أهل بيت النبي، وبالنص على أنه يخرج في آخر الزمان.

(1) ص (237 - 241).

ص: 394

ومن ذلك قوله في صفحة (43): "وهذا الحديث – يعني حديث علي رضي الله عنه هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة".

وأقول: قد ذكرت أسانيد حديث علي رضي الله عنه في أول الكتاب، وذكرت أنها صحيحة فليراجع ذلك (1).

ومن ذلك أنه في صفحة (43) ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، يمكث في الأرض سبع سنين» ثم قال: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل".

وأقول: ليس في ذكر أوصاف المهدي ما ينبغي تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من التخليط المستهجن، والتشكيك في صحة الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة، بعضها على شرط الشيخين، وبعضها على شرط مسلم، وقد تقدم إيرادها في أول الكتاب فلتراجع (2)، ففيها أبلغ رد على تخليط ابن محمود وتشكيكه الذي ظن أنه تحقيق معتبر.

ومن ذلك زعمه في صفحة (44) أن المشكلة والفتنة بدعوى المهدي يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة، وهذا من الرجم بالغيب، ومن أين له العلم بما يكون في المستقبل؟!

ومن ذلك زعمه في صفحة (44) أن دعوى المهدي والاتصاف بالأوصاف المذكورة في حديث أبي سعيد صارت مركبًا للكذابين الدجالين، قال:"وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته".

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من إرادة التلبيس والتشكيك في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي لا مجال للتشكيك في صحته.

ومن ذلك أنه في صفحة (44) ذكر ما رواه أبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» ، ..........

(1) ص (14، 15).

(2)

ص (11 - 14).

ص: 395

ثم أجاب عنه بجواب لا مزيد عليه في التخليط والتحريف والمجازفة، وقد تقوَّل فيه على البخاري والعقيلي والمنذري وحرَّف كلامهم، وقد ذكرت الرد عليه مستوفى في أثناء الكتاب (1)، فليراجعه من أحب الاطلاع على تحقيق ابن محمود الذي زعم أنه تحقيق معتبر؛ ليرى ما فيه من المجازفة والتخليط والتحريف والتقول على العلماء.

ومن ذلك أنه في صفحة (45) ذكر ما رواه أبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» الحديث، ثم أجاب عنه بأنه ليس بصحيح ولا بصريح، قال:"ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة"، ثم زعم أن السيوطي صرح في كتاب "اللآلئ المصنوعة" بأنه موضوع، وأتى فيما بعد ذلك بأنواع من المجازفة والتخليط الذي زعم أنه تحقيق معتبر، والحاصل أن كلام ابن محمود على حديث أم سلمة رضي الله عنها مبني على التوهم والمجازفة والتقول على السيوطي، والاستهزاء والسخرية بالمهدي، وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فهذا حاصل تحقيق ابن محمود لحديث أم سلمة رضي الله عنها، وقد ذكرت الرد عليه مستوفى في أثناء الكتاب فليراجع (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (48) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل بيته: «إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» .

وأقول: هذا من أوهام ابن محمود التي زعم أنه حقق بها أحاديث المهدي، وقد ذكرت في الجواب عن هذا الوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه المقالة لأهل بيته، وإنما قالها للأنصار، وذكرت الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع (3).

ومن ذلك أنه في صفحة (48) ذكر ما رواه الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المهدي مِنَّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة» . ثم ذكر اعتراض أبي عبية على هذا الحديث وقلده في ذلك، قال:"ورواه ابن ماجة، وقال: ياسين العجلي ضعيف"، وهذا من التقول على ابن ماجة، ثم زعم أيضًا أن ابن ماجة أشار إلى تضعيفه، وهذا أيضًا من التقول على ابن ماجة، فهذا حاصل تحقيق ابن ..........................................

(1) ص (248 - 252).

(2)

ص (253 - 261).

(3)

ص (262 - 263).

ص: 396

محمود لهذا الحديث الحسن، وقد ذكرت في الرد عليه أن الشيخ أحمد محمد شاكر قد صحح هذا الحديث في تعليقه على المسند.

ومن ذلك أنه في صفحة (49) ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مِنَّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورا وظلمًا» . قال: ورواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، ثم أجاب عنه بقوله: "إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت كهذه الأحاديث وأمثالها؛ لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم، ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما؛ لكون الغالب عليها الضعف والوضع.

وأقول: هذا حاصل تحقيق ابن محمود لهذا الحديث الصحيح الذي لا مطعن فيه بوجه من الوجوه، ولا يخفى ما في كلامه من التقوُّل على علماء الحديث، حيث زعم أنهم قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، والواقع في الحقيقة أنهم لم يتحاشوا عن الروايات الصحيحة عنهم، وإنما كانوا يتحاشون عن الروايات الضعيفة عنهم وعن غيرهم، وأيضًا فإن الحديث الذي أورده ههنا ليس من أحاديث أهل البيت، وإنما هو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وليس في أسانيده إلى ابن مسعود رضي الله عنه أحد من أهل البيت، فلا وجه إذا للطعن فيه بأن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، وليس هذا بتحقيق وإنما هو تخليط وتلفيق.

ومن ذلك أنه في صفحة (50) وصفحة (51) ذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي فيه: «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم» . ثم قال إنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، قال:"ولا يَقِل عن ضعف سائر الأحاديث المذكورة في المهدي".

وأقول: أما حديث أنس رضي الله عنه فهو ضعيف جدًا، وأما سائر أحاديث المهدي ففيها الصحيح والحسن والضعيف، ومن جعل الجميع من باب واحد وحكم عليها كلها بالضعف فقد أخطأ خطأ كبيرًا وقفا ما ليس به علم.

ومن ذلك زعمه في صفحة (51) أن علي بن محمد القاري قال في كتابه "الموضوعات الكبير" إن الحديث الذي جاء فيه أن عيسى ابن مريم يصلي خلف المهدي حديث موضوع، وهذا من التقوُّل على القاري.

ص: 397

ومن ذلك قوله في صفحة (51): "وإننا متى حاولنا جمع أحاديث المهدي التي يقولون بصحتها وتواترها بالمعنى، وقابلنا بعضها ببعض لنستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي، فإنه يعسر علينا حصوله، وكلها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، بل هي متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرون مهديًا، صفة كل واحد غير الآخر، مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بها، ثم ذكر عشرة من الذين زعم أنهم مهديون ولم يذكر غيرهم، ولو وجد إلى الزيادة سبيلا لبادر إلى المغالطة والتشكيك بها في الأحاديث الواردة في المهدي، وحاصل العشرة الذين ذكرهم في صفحة (51) وصفحة (52) وزعم أنهم مهديون يرجعون في الحقيقة إلى أربعة، أحدهم: عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وهو أفضل المهديين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي جاء فيه ضعيف جدًا فلا يثبت به شيء، والثاني: المهدي الذي يخرج في آخر الزمان وهو الذي جاء ذكره في الأحاديث الكثيرة، والثالث: الحارث الحراث وهو من أعوان المهدي وأنصاره وليس بمهدي، والحديث الذي جاء فيه ضعيف فلا يثبت به شيء، والرابع: الرجل الذي أخواله من كلب وليس بمهدي، وإنما هو عدو المهدي الذي يبعث الجيش لقتاله. وبما ذكرنا يضمحل المهديون الذين زعم ابن محمود أنهم يبلغون إلى عشرين مهديًا، وتعود الحقيقة إلى رجل واحد وهو المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرتها في أول الكتاب، وذكرت ما لبعضها من الطرق الكثيرة الثابتة، فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على من زعم تعدد المهدي الذي جاء ذكره في الأحاديث الكثيرة.

وأما زعمه في صفحة (51) وصفحة (52) أن أحاديث المهدي كلها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى بل هي متعارضة ومتخالفة وغالبها حكايات عن أحداث، فقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (2).

ومن ذلك قوله في صفحة (53) فصل من كلام ابن القيم في كتابه "المنار ..........

(1) ص (9 - 10).

(2)

ص (270 - 273).

ص: 398

المنيف"، ثم ذكر أربعة أحاديث من الضعاف التي ذكرها ابن القيم، وأعرض عن الأحاديث التي صححها وهي خمسة أحاديث، وأعرض أيضًا عن قوله في أحاديث المهدي: إنها أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة، وأعرض أيضًا عما نقله عن الآبري في قوله إن أحاديث المهدي متواترة، وقد أقرَّه ابن القيم على هذا القول، إلى غير ذلك مما أعرض عنه من كلام ابن القيم، مما هو مخالف لرأيه الشاذ في إنكار المهدي وتكذيب الأحاديث الثابتة فيه، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "إن أهل السنة ينقلون ما لهم وما عليهم، وإن أهل البدعة ينقلون ما لهم ولا ينقلون ما عليهم"، ثم ذكر ابن محمود كلام ابن القيم في مهدي الرافضة ومهدي المغاربة ومهدي الباطنية، ثم قال في صفحة (55): "فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقه لكونها دعوى باطلة من أصلها"، وأقول لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة والتمويه والتلبيس على ضعفاء البصيرة، وقد ذكرت في الجواب أن ابن القيم إنما أنحى بالملام على الرافضة ومهدي المغاربة ومهدي الباطنية، فأما أهل السنة فكلامه صريح في موافقتهم على القول بخروج المهدي في آخر الزمان، فليراجع ما ذكرته في أثناء الكتاب (1) ففيه كشف لتمويه ابن محمود وتلبيسه.

ومن ذلك زعمه في صفحة (56) أن الجهل أدى إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وأن مثل هذه الأحاديث هي التي أفسدت العقول وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية.

وأقول: هذا من المجازفات التي لا أساس لها من الصحة.

ومن ذلك قوله في صفحة (56): "إنه على فرض صحة هذه الأحاديث أو بعضها أو تواترها بالمعنى حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم

إلى أن قال: فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين".

وأقول: كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بوقوعه فيما مضى أو فيما سيأتي قبل قيام الساعة أو بعد قيامها فإنه يجب الإيمان به، سواء ذكره العلماء في ......................

(1) ص (273 - 275).

ص: 399

عقائدهم أو لم يذكره، ومن ذلك خروج المهدي في آخر الزمان، وقد ذكرت أقوال العلماء فيما يتعلق بهذه الأمور في أثناء الكتاب، فليراجع ما تقدم (1)، ففيه أبلغ رد على ما توهمه ابن محمود.

ومن ذلك زعمه في صفحة (56) أن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص؛ كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من رواء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة، فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبون لصحة خروجه.

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من التلبيس والتشكيك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الجواب عن هذا التشكيك مرارًا، فليراجع ذلك في أثناء الكتاب (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (57) أنه يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله -تعالى- نستغني به عن كل دعيٍّ مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة، التي تثار من آن لآخر".

وأقول: أما زعمه أن القول بخروج المهدي فكرة فذلك مما أخذه تقليدًا عن أحمد أمين، وأما زعمه أنه يجب طرح فطرة المهدي جانبًا فلا يخفى ما فيه من المكابرة والمعارضة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في المهدي، وما كان بهذه المثابة فإنه يجب أن يضرب به عرض الحائط، وأن يرد على قائله كائنًا من كان.

وأما قوله: فعندنا كتاب الله نستغني به عن كل دعي مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فجوابه: أن يقال: ليس المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأدعياء المفتونين، حاشا وكلا، وإنما هو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين يعملون بالسنة ويملئون الأرض قسطًا وعدلا، ولا يضره إنكار من ..............................

(1) ص (277 - 279).

(2)

ص (270 - 279).

ص: 400

أنكره من العصريين، ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة.

وأما زعمه أنه يستغنى بالكتاب والسنة عن المهدي، فهو كلام لا يقوله عاقل، وقد تقدم الرد عليه في أثناء الكتاب فليراجع (1).

وأما رجاءه أن تستريح ببيانه نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة، التي تثار من آن لآخر. فهو مما تضحك منه الثكلى، وقد ذكرت الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (58) أن دعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح، وهي في الأصل حديث خرافة يلقفها واحد عن آخر، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف، حيث غزي بها قوم على آخرين، وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة، إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به إذ هو جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل.

وأقول: لا يخفى على من له علم ومعرفة ما في هذا الكلام الباطل من المجازفات والشطحات والاستخفاف بالأحاديث الثابتة في المهدي والطعن فيها بدون مستند يسوغ به القدح وإلصاق الصفات الذميمة بها، وما في ذلك أيضًا من الكلام المستهجن الذي قد ردده في سبعة مواضع من رسالته، وهو زعمه أن الرسول لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب

إلى آخر كلامه الذي لا يشبه كلام العقلاء، وما فيه أيضًا من الرجم بالغيب والتحكم على الشريعة، وقد تقدم الرد عليه في عدة مواضع في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (3).

ومن ذلك قوله في صفحة (62): "وإني أرجو بعد دراستهم لهذه الرسالة بأن .......

(1) ص (169 - 170).

(2)

ص 281 - 282.

(3)

ص (281 - 282). ص (55 - 58، 215 - 218، 246 - 248، 282 - 286).

ص: 401

ينتبهوا ويتناصحوا، فيغسلوا قلوبهم عن اعتقاد هذه الخرافة، التي ستضرهم وتضر أبناءهم ومجتمعهم من بعدهم.

وأقول: إن رسالة ابن محمود في إنكار المهدي هي الضارة في الحقيقة، وهي من المنكرات التي يجب التحذير منها؛ لأن مبناها من أولها إلى آخرها على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي والاستخفاف بها ووصفها بالصفات الذميمة، وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام على هذه الجملة فليراجع (1).

ومن ذلك أنه في صفحة (62) وثلاث صفحات بعدها نقل كلامًا لرشيد رضا في إنكار خروج المهدي والتشكيك في الأحاديث الواردة فيه، وقد قلده ابن محمود واعتمد على أقواله الباطلة وقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (2).

ومن ذلك زعمه في صفحة (69) أن المحققين من علماء المسلمين قد بينوا بطلان أحاديث المهدي المنتظر وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها.

وأقول: إنما يعرف هذا عن أفراد قليلين من العصريين، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين، ومن قلدهم وسار على نهجهم الباطل في معارضة الأحاديث الثابتة في لمهدي، وهؤلاء ليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما هم أهل جراءة على رد الأحاديث الثابتة والقدح فيها بغير حجة، فأما علماء الحديث – وهم المحققون على الحقيقة– فقد أعطوا كل حديث من أحاديث المهدي ما يستحقه من الدرجة، فصححوا بعضا وحسنوا بعضًا وضعفوا بعضًا وقرر بعضهم أنها متواترة، وقد ذكرت أقوالهم في أول الكتاب فلتراجع (3)، ففيها أبلغ رد على من تقوَّل على المحققين.

ومن ذلك قوله في صفحة (70): "والحق أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا".

وأقول: ليس هذا بحق، وإنما هو باطل لمعارضته للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان.

(1) ص (286 - 287).

(2)

ص (287 - 293).

(3)

ص (10 - 17)(41 - 45).

ص: 402

ومن ذلك قوله في صفحة (70): "وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء"، وكلها متعارضة ومتخالفة ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى".

وأقول: أما زعمه أن الأحاديث الواردة في المهدي من الضعاف التي لا يعمد عليها فهو قول باطل مردود بالأحاديث الثابتة من الصحاح والحسان، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (1).

وأما قوله إن أكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء" فهو من أوهامه؛ لأن أبا نعيم لم يرو منها في "الحلية" سوى ثلاثة أحاديث، عن علي وابن مسعود وأبي سعيد رضي الله عنهم، وقد ذكرتها في أول الكتاب من رواية الإمام أحمد وغيره.

وأما زعمه أنها كلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى، فهو من مجازفاته ومكابراته.

ومن ذلك قوله في صفحة (70): "ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونها لا حقيقة لها، فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًا، فلا ينكر على من أنكره، كما رأيت لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار".

وأقول: أما الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع فقد رجع إلى الحق والصواب في رسالة له سماها "تحديق النظر بأخبار الإمام المنتظر"، وأما رشيد رضا فلا يستكثر منه إنكار أحاديث المهدي، فقد أنكر كثيرًا من أشراط الساعة ومعجزات الأنبياء، وغير ذلك مما هو ثابت في الصحيحين أو في غيرهما من الصحاح والسنن والمسانيد، وقد تقدم الرد على بعض أقواله الباطلة في أثناء الكتاب، فليراجع (2).

ومن ذلك قوله في صفحة (70) وصفحة (71): "لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء ......

(1) ص (9 - 17).

(2)

ص (287 - 294).

ص: 403

من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد رأيت له قولا يقول فيه بصحة خروجه، وأن فيه سبعة أحاديث، فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه ويأجره الله عليه، وقد أخذ بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء".

وأقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لم يذكر سوى أربعة أحاديث عن علي وابن مسعود وأبي سعيد وأم سلمة رضي الله عنهم، ذكر ذلك في صفحة (211) من الجزء الرابع من كتابه "منهاج السنة النبوية"، وذكر ذلك الذهبي في مختصر المنهاج، الذي سماه "المنتقى من منهاج الاعتدال".

والقول بخروج المهدي ليس هو من الأقوال الاجتهادية كما زعم ذلك ابن محمود، وليس هو قولا لشيخ الإسلام ابن تيمية وحده كما زعم ذلك أيضًا، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء المتأخرين أخذوا ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن القول بخروج المهدي هو أحد أقوال أهل السنة، ذكر ذلك ابن القيم في كتابه "المنار المنيف"، قال:"وأكثر الأحاديث على هذا تدل". انتهى. وجمهور العلماء قديمًا وحديثًا على القول بخروج المهدي في آخر الزمان، ومستندهم في ذلك ما جاء في أحاديث كثيرة من الصحاح والحسان أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك (1)، وإنما شذ عنهم أفراد قليلون من العصريين الذين هم أئمة ابن محمود في إنكار خروج المهدي والطعن في الأحاديث الثابتة فيه.

ومن ذلك قوله في صفحة (71): "إن الصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي".

وأقول: ليس هذا القول بصحيح، وإنما هو باطل بمقتضى الدلائل والبراهين، وقد ذكرت في أول الكتاب من الأحاديث الثابتة، ومن أقوال المحققين في تصحيح بعض أحاديث المهدي وتحسين بعضها، والقول بأنها متواترة ما فيه كفاية لرد هذا القول الباطل الذي لا يعرف إلا عن أفراد قليلين من العصريين.

ومن ذلك قوله في صفحة (71): "لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من ........

(1) تراجع الأحاديث الواردة في ذلك في صفحة (9 - 17).

ص: 404

الدجالين المنحرفين فإنه يسمى نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان".

وأقول: إن دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا مثل دعوى الدجالين للنبوة، فكما لا تقدح دعوى الدجالين في دلائل نبوة الأنبياء فكذلك دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا لا تقدح في الأحاديث الثابتة في المهدي ولا تؤثر فيها، وإذا فليس لابن محمود متعلق في توهين أحاديث المهدي بدعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا.

ومن ذلك قوله في صفحة (85): "فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا عن واقعهم ويتركوا واجبهم لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات، ثم يفرض عليهم علماؤهم التحرج الفكري والجمود الاجتماعي على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه وعدم الخروج عنه، وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب هو من سائر البشر، يأتي في آخر الزمان فينقذ الناس من الظلم والطغيان".

وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المهدي والاستخفاف بشأنها، حيث زعم أن التصديق بخروج المهدي في آخر الزمان من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، كذا قال ابن محمود -هدانا الله وإياه- وكذا قابل الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقابلة السيئة، وقد تقدم الرد على كلماته النابية مبسوطًا في آخر الكلام على ما يتعلق بالمهدي فليراجع (1).

ومن ذلك قوله في الحديث عن يأجوج ومأجوج في صفحة (74) وصفحة (75): "فالمسلمون يصدقون بوجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم وفي مكان وجودهم وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء، أم ينبعون من الأرض؟! لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم ولم يروا سدًا، وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها".

(1) ص (303 - 310).

ص: 405

وأقول: لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة ما في هذا الكلام من التخليط الذي يتنزه عنه كل عاقل، ويظهر منه أن قائله إنما أراد به تفنيد ما ذكره علماء المسلمين في كتب التفسير والتاريخ عن يأجوج ومأجوج، وتشويه أقوالهم في ذلك من غير استثناء قول عن قول ومن غير تفريق بين الحق والباطل مما ذكروه، ويدل على هذا قوله في الجملة التي سيأتي ذكرها إن المسلمين كانوا في غمرة من الجهل ساهون حتى طلع عليهم ما زعم أنه نور هداية ودلالة، وفي الكلام الذي ذكرته آنفًا أشياء تشبه الهذيان، منها قوله إن أوصاف يأجوج ومأجوج لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم.

وأقول: أما أوصاف الملائكة فلا يعلم بها إلا الله -تعالى- أو من أطلعه الله على ذلك من المرسلين، فالخوض في صفاتهم نفيًا أو إثباتًا لا يقوله عاقل؛ لأن ذلك من الرجم بالغيب والقول بغير علم.

وأما أوصاف بني آدم فلا يشك عاقل أنهم على صفات بني آدم وأشكالهم؛ لأنهم منهم، ومن توهم فيهم غير ذلك فذلك دليل على كثافة جهله.

ومنها قوله: ولا يدرون كيف يخرجون على الناس أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟!

وأقول: لا يُظن بأحد من العقلاء أنه يقول بهذا الهذيان، أو يدور ذلك في مخيلته، ولو قُدِّر أن أحدًا من ضعفاء العقول قال ذلك فلا عبرة بأقوال المعتوهين وأشباههم، ولم أر أحدًا ذكر هذا القول المستهجن قبل ابن محمود، وقد تقدم الجواب عن شبهات ابن محمود وتخليطه مفصلا في أول الكلام على ما يتعلق بيأجوج ومأجوج، فليراجع هناك (1).

ومن ذلك قوله في صفحة (75): "فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلا: لا تبعدوا النظرة ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، والتي تداعى ............................

(1) ص (317 - 322)

ص: 406

عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى".

وأقول: إن هذا الكلام بهذا السياق غير موجود في رسالة ابن سعدي، ولو أن ابن محمود نسبه إلى نفسه وذكر أنه أخذه أو أخذ بعضه من مضمون كلام ابن سعدي لكان أولى له من الإطلاق الموهم أن الكلام لابن سعدي، ولا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة التي لا يقولها من له أدنى مسكة من عقل، وهل يقول عاقل إن المسلمين منذ زمان نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى سنة ألف وثلاثمائة وتسع وخمسين من الهجرة كانوا في غمرة من الجهل ساهون في أمر يأجوج ومأجوج، حتى طلع عليهم ما زعم المتكلف أنه نور هداية ودلالة؟! كلا، لا يقول ذلك عاقل، وقد تقدم الجواب عما في كلامه من الأباطيل مفصلا في أثناء لكلام على ما يتعلق بيأجوج ومأجوج فليراجع هناك (1).

وفيما ذكره الله -تعالى- في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كفاية وغنية عن أقوال الناس وتخرصاتهم وتوهماتهم، فيجب على المسلم أن يتمسك بما جاء في الكتاب والسنة، وينبذ ما خالفهما وراء ظهره.

ومن ذلك زعمه في صفحة (75) أن ابتداء حركة يأجوج ومأجوج في ظهورهم على المسلمين من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام.

وأقول: هذا زعم باطل مردود؛ لأن المسلمين إنما غزوا الروم في يوم مؤتة، فأما يأجوج ومأجوج فمحازون بالسد الذي بناه ذو القرنين، ولا يمكن الاتصال بهم فضلا عن غزوهم ودعوتهم إلى الإسلام، ولا يخرجون من السد إلا عند اقتراب الساعة بعد نزول عيسى وقتل الدجال.

ومن ذلك زعمه في صفحة (76) أن رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسريه، وأقول هذا خلاف الواقع؛ لأن ما قرره ابن سعدي في تفسيره يخالف ما قرره في رسالته، وكان طبعه للتفسير بعد إخراجه للرسالة بسبع ..........................

(1) ص (323 - 332).

ص: 407

عشرة سنة، وهذا يدل دلالة ظاهرة على أنه قد رجع عما في الرسالة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (76) أن ابن سعدي برهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان.

وأقول: هذا مما أتى به ابن محمود من كيسه ولا صحة لشيء منه، وقد تقدم الجواب عنه مفصلا فليراجع (1).

ومن ذلك ما نقله في صفحة (77) من رسالة ابن سعدي أنه قال: "إن يأجوج ومأجوج هم الأمم الموجودون الآن؛ كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم".

وأقول: هذا قول باطل مردود بالأدلة من الكتاب والسنة، وقد تقدم بيان ذلك مع الجواب عن هذه الجملة فليراجع (2).

ومن ذلك قوله في صفحة (78): "إن هناك جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، فتحركوا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى في وقعة مؤتة، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم".

وأقول: كل ما ذُكِر ههنا فهو باطل وضلال، وهل يقول عاقل إنه يوجد في الأرض جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وكذلك لا يقول عاقل له علم ومعرفة إن يأجوج ومأجوج ...................

(1) ص (336 - 338).

(2)

ص (340 - 346).

ص: 408

قد ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، وإنهم قد تحركوا في وقعة مؤتة، وإن هذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، فكل هذا من التخرص واتباع الظن وليس لذلك حقيقة البتة.

ومن ذلك قوله في صفحة (78): "ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحالة المشاهدة".

وأقول: لا صحة لما ذكره ههنا، ولم يخرج يأجوج ومأجوج إلى الآن، ولا يمكن أن يخرجوا إلا بعد نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في أحاديث صحيحة تقدم ذكرها (1).

وإذا علم أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان، فهل يقول عاقل إنهم قد خرجوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم لم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس، وإن ازديادهم وظهورهم على الناس قد وصل إلى حال مشاهدة للناس؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل يؤمن بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خروج يأجوج ومأجوج.

ومن ذلك زعمه في صفحة (78) أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، وهذا لا أساس له من الصحة.

ومن ذلك زعمه في صفحة (78) وصفحة (79) أن السد هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضي عليها أزمان متطاولة وهي سد محكم بينهم وبين الناس، لا يجاوزها منهم أحد بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس، وقد اخترقوا هذه البحار ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه.

وأقول: لا صحة لشيء مما ذكره ههنا، وإنما هو التخرص واتباع الظن وإلصاق اسم يأجوج ومأجوج على من ليس منهم، وقد تقدم الجواب عن هذه الجملة مفصلا فليراجع (2).

(1) ص (311، 312).

(2)

ص (353 - 355).

ص: 409

ومن ذلك قوله في صفحة (79): "وهذه الأدلة التي ذكرناه من نص الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة، كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها".

وأقول: ليس في كلامه عن السد ويأجوج ومأجوج شيء من الأمور اليقينية البتة، وإنما هي أمور وهمية وتخرصات ومزاعم باطلة بلا شك، والنصوص من الكتاب والسنة تناقض ما زعم أنها أمور يقينية، وكذلك الأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها على خلاف مزاعمه التي تقدم ذكرها، وقد تقدم بيان ذلك بما أغنى عن إعادته (1).

ومن ذلك زعمه في صفحة (79) أن ظهور يأجوج ومأجوج على الوصف الذي شرحه قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة والعلم الصحيح العقلي الحسي.

وأقول بل الأمر في الحقيقة بعكس ما زعمه صاحب هذا القول الباطل، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع (2).

ومن ذلك ما نقله في صفحة (81) وصفحة (82) عن رشيد رضا أنه قال: "يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما"؛ ثم ذكر موضعًا بروسيا فيه أثر سد قديم بين جبلين، وموضعًا آخر يبعد عن صنعاء اليمن بعشرين مرحلة في الشمال الشرقي.

وقد ذكرت في الجواب عنه أن هذا الاحتمال بعيد من الصواب، وذكرت الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، فليراجع ما تقدم ذكره (3).

ومن ذلك ما نقله في صفحة (82) عن رشيد رضا أنه زعم أن يأجوج ومأجوج هم التتر، وهذا زعم باطل؛ لأن التتر ليس بينهم وبين الناس سد من حديد يمنعهم من الخروج والإفساد في الأرض.

ومن ذلك ما نقله في صفحة (82) رشيد رضا أنه قال: "لم لا يجوز أن يكون السد قد اندك وذهب أثره من الوجود".

(1) ص (355).

(2)

ص (356 - 358).

(3)

ص (361 - 364).

ص: 410

وأقول: هذا التجويز غير جائز؛ لأن اندكاك السد إنما يكون عند اقتراب الساعة كما أخبر الله بذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على دنو الساعة، وأن خروجهم إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وقد تقدم الجواب عما في كلام رشيد رضا من الأخطاء فليراجع (1)، وكذلك كل ما ذكرته في الخاتمة من مجازفات ابن محمود وتوهماته في رسالته في إنكار المهدي، فقد تقدم الجواب عنه مفصلا.

ولابن محمود أخطاء كثيرة ومجازفات وشطحات وجراءة على تغيير بعض الأحكام الشرعية، وذلك كثير في بعض رسائله سوى ما في رسالته في إنكار المهدي، وقد ذكرت نموذجًا من ذلك في أول الكتاب مع الجواب عن قول ابن محمود في صفحة (16):"إنه قد توسع في العلوم والفنون بعد أن بلغ سن الأربعين من العمر" فليراجع هناك (2).

وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على أباطيل ابن محمود، وأرجو من الله -تعالى- أن يرده إلى الحق والصواب، وأن يغفر لنا وله الجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وقد كان الفراغ من تسويد هذا الكتاب في ليلة الاثنين الموافق 15 من شهر صفر سنة 1401 هـ من الهجرة على يد كاتبه الفقير إلى الله -تعالى- حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

(1) ص (361 - 366).

(2)

ص (104 - 107).

ص: 411