الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ:
فنشرُع في هذه الليلة: ليلة الأحد العاشر من شهر ربيع الأول من عام
1
432هـ في شرح كتابٍ يتعلق بعلم المنطق.
وعلم المنطق يُعدُّ عند بعض أهل العلم من علوم الآلة، وإن لم يكن آلةً مباشرة للكتاب والسنة، كما هو الشأن في علم اللغة العربية أو علم أصول الفقه أنه علمٌ يُعتبرا علمي آلة، لكنهما مباشرة يعني: يعتمد فهم الكتاب والسنة على علوم اللغة مباشرة، ويعتمد الاستنباط من الكتاب والسنة على أصول الفقه مباشرة.
وأما فن المنطق كما هو معلوم فيه شيءٌ من الخلاف من حيث الجواز وعدمُه، من حيث الإقبال عليه وتركُه. إلا أنه لو لم يُترجم -كما سيأتي في كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى- لكان المسلمون في غُنيةٍ عنه، ولكن احتاجه أهل العلم في بيان بعض المصطلحات التي دخلت علوم الآلة أو علوم الشريعة.
وكذلك فيما اعتمد عليه المخالفون، وهذا أهم من الأول؛ لأن المخالفين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتردية وغيرهم الذين خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بذات الخالق جل وعلا، إنما اعتمدوا على عقولهم واحتجوا بما يرونه مناسباً من هذه القواعد، لذلك المنطق يُعتبر قواعد تفكير إن صح التعبير، أو قواعد الاستدلال الذي يكون مناطه العقل، ليس الاستدلال الذي يكون مناطُه الشرع إنما الاستدلال العقلي.
حينئذٍ لما اعتمد المخالفون على هذه الاستدلالات أو هذه القواعد المنطقية تعيَّن في الرد عليهم أن يكون من يرد عليهم من أهل العلم متشبعاً بعلم الشريعة، وأن يكون كذلك مُلماً بأدلتهم؛ لأن من كان معتمداً على دليل وهذا الدليل ليس هو دليل الكتاب والسنة. يعني: لم يعتمد على الوحيين، فحينئذٍ من لم يكن ذا علمٍ بما سوى الوحيين قد يضعف في الرد عليه، فلا بد من معرفة ما استدل به المخالفون من أجل إبطال حُجج هؤلاء المخالفين فتعيّن حينئذٍ تلمُّس هذا العلم، وخاصة طلبة العلم الذين يجدون من أنفسهم مكانة للعلم، وأنه قد يبلغ مبلغاً يفيدون فيه الأمة مستقبلاً بإذن الله تعالى في صون الشريعة وفي الذب عنها.
ولذلك الشيخ الأمين رحمه الله تعالى يعتبر من علماء أهل السنة والجماعة؛ لأن تزكية هذا الفن إن جاءت من المخالف قد يكون فيها شيءٌ من الشبهة، لكن الشيخ الأمين رحمه الله تعالى كما هو معلوم من أهل السنة والجماعة، بل هو إمامٌ في علوم الشريعة، وإمامٌ في علوم الآلة كذلك، ولا إشكال فيه ولا تردد في هذا الحكم عليه رحمه الله تعالى، وقد صنَّف كتاباً أسماه آداب البحث والمناظرة، وقدَّم له مقدمة، هذه المقدمة مقدمة منطقية اشتملت على الخالص من هذا العلم كما سيأتي في كلامه، ونذكره رحمه الله تعالى (يعني: كلامه) من أجل معرفة ما اشتمل عليه.
وننُبه بأن هذا الفن إذا أقدم عليه الطالب وهو عنده شيءٌ من التردد في الإقبال عليه وأهميته ونحو ذلك، فحينئذٍ لن يستفيد، فالشيء الذي يتردد فيه الطالب سواء كان في المنطق أو غيره من العلوم، حينئذٍ لن يتمَّه، وإذا أتمه لن يفهمه على الوجه؛ لأن كل من لم يعلم قيمة العلم فحينئذٍ لن تتوجه إليه النفس، فإذا وقع شيء من النزاع بين طلاب العلم: هل يُدرس المنطق أو لا؟ يقرأ أو لا؟ هل نحضر أو لا؟
فحينئذٍ نقول: كلام أهل العلم في هذا واضحٌ بيِّن، وكلام من عمَّم في ذم علم المنطق، هذا مفصَّل.
كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لا يؤخذ على تراكيبه من حيث المبتدأ والخبر، أو الجملة الإسنادية .. ونحو ذلك، وإنما يُنظر بحاله هو عليه رحمة الله، فهو قد رد على الأشاعرة كما هو معلوم، رد عليهم بماذا؟
يخطئ من يقول بأنه رد عليهم بالكتاب والسنة، هذا ليس بصحيح، وإنما في جملة ما رد عليهم قد يكون يذكر بعض الآيات أو بعض الأحاديث، لكن أصل ردِّه إنما هو معتمدٌ على نقض ما قد اعتمدوه من أدلة، قد يكون القياس صحيحاً في نفسه. يعني: لا يلزم من كون أهل البدعة قد أخطئوا في استخدام الأقيسة والحُجج المنطقية، حينئذٍ يكون الرد عليهم بإبطال القياس وبإبطال المنطق لا.
ولذلك نقول دائماً بأن القياس الذي هو رابع الأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
القياس الصحيح وليس كل قياس، حينئذٍ إذا أخطأ من أخطأ من الفقهاء أو تشعَّبت معهم الأمور في الإكثار من القياس حتى صار القياس تُردُّ به بعض النصوص، فيقال: هذا الحديث مخالفٌ للقياس، صار فيه شيءٌ من الغلو من حيثُ الإثبات.
حينئذٍ ماذا نصنع؟
هل نرجع إلى الأصل فننقضه، أم نقول: هذه الفروع ليست على الجادة؟
لا شك أنه الثاني، حينئذٍ لا نرجع إلى الأصل الذي هو القياس ونقول: القياس باطل؛ لأن أكثر المتأخرين من الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة قد اعتمدوا هذا القياس حتى ردوا به بعض الأحاديث الصحيحة؛ لكونها مخالفة للقياس، بهذه الحجة الفاسدة.
حينئذٍ هل نرجع إلى القياس فنبطله من أصله، نقول: القياس ليس بدليلٍ شرعي؟
الجواب: لا، وإنما ننظر في هذه الأقيِسة التي اعتمدوا عليها، وظنوا أنها مخالفةٌ للشرع، أو أن الشرع جاء مخالفاً لهذه الأقيسة، فنبطلها من حيث هي.
كذلك الإجماع، الإجماع كما قال الشوكاني رحمه الله تعالى لا هيبة له عند المتأخرين؛ لكثرة من يدَّعيه، الإجماع المتيقَّن لا شك أنه دليلٌ شرعي: الكتاب، والسنة، والإجماع. والمقصود به إجماع الصحابة كما هو معلومٌ في محله.
حينئذٍ إذا أكثر المتأخرون من دعوى الإجماع في مسائل معلومة الخلاف، نقول: هذه الادعاءات للإجماعات باطلة في نفسها؛ لأنها لخلاف ثابت، أو لأنها مخالفة لإجماع الصحابة .. ونحو ذلك.
فوجود بعض الإجماعات المدَّعاة التي ليس لها مستند شرعي صحيح نقول: ولو صارت هذه الادعاءات كثيرة لا نرجع إلى الأصل فننقضُه، وإنما نحترم الأصل ونحفظ الأصل وهو الإجماع، ونبيِّن المراد به، ثم إذا وقع شيءٌ من الخلل في دعوى الإجماع نردُّ هذا الفرع ونحفظ الأصل.
وكذلك الشأن في القياس نحفظ الأصل، وهو مجمعٌ على إثباته عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وما وقع من نزاعٍ عند المتأخرين نقف معها ونردها ونفندها، وكذلك المنطق.
حينئذٍ نقول: المنطق الذي خلَّصه أهل الإسلام مما شابه من شُبه الفلاسفة الكفرية ونحوها في قواعده في الجملة صحيحة، لكن استخدمها من استخدمها على وجهٍ منحرف، فحينئذٍ نقول: نردُّ عليهم هذا الاستخدام وهذا الاستعمال، ونبقي الأصل محفوظاً على بابه.
يقول الشيخ الأمين رحمه الله تعالى: ومن المعلوم أن المقدمات التي تتركب منها الأدلة التي يحتج بها كل واحدٍ من المتناظرَين إنما تُوجه الحجة بها منتظمةً على صورة القياس المنطقي.
ومن أجل ذلك كان فنُّ آداب البحث والمناظرة ..
وهذا من العلوم المهجورة -آداب البحث والمناظرة-، لها أصولها، يعني: فنٌ مستقلٌ بنفسه.
ومن أجل ذلك كان فن آداب البحث والمناظرة يتوقف فهمه كما ينبغي على فهم ما لابد منه من فن المنطق؛ لأنَّ توجيه السائل المنعَ على المقدمة الصغرى أو الكبرى مثلاً.
يعني: السائل المعترض، يقول: أمنع المقدمة الصغرى وأمنع المقدمة الكبرى، فإذا كان لا يعرف المقدمة الصغرى من الكبرى فحينئذٍ كيف يتجِّه إليه السؤال؟
أو القدحَ في الدليل بعدم تَكرار الحد الأوسط أو باختلال شرطٍ من شروط الإنتاج ونحو ذلك لا يفهمه (أي: هذا الفن المعتمِد على مثل هذه المسائل) لا يفهمه من لا إلمام له بفن المنطق.
لا بد من فَهم هذا الفن من أجل إتقان فنِّ آداب البحث والمناظرة؛ لأن الاستعمال إنما يكون لهذه المصطلحات وهي غريبة، لأنها مصطلحات.
يعني: لا نرجع إلى المعنى اللغوي (المقدمة الصغرى، والمقدمة الكبرى، والحد الأوسط، والتكرار .. ونحو ذلك) لا نرجع إلى المعاني اللغوية، وإنما ننظر في المعاني الاصطلاحية.
ولا عجب؛ لأن المعاني الاصطلاحية هي المقدَّمة في كل فن، ولذلك نقول: هذا عامٌ وهذا خاص، هذا ناسخ وهذا منسوخ، هذا مقيَّد وهذا مطلق، والإجماع والقياس .. كل هذه اصطلاحات لها معانيها، حقائق عرفية عند أصحابها.
كذلك آدابُ البحث والمناظرة يعتمد على هذا الفن، وهذه الاصطلاحات توجد فيه (مقدمة صغرى امنعها؟ لا، أرتضيها .. نقضٌ للمقدمة الكبرى، الحد الأوسط لم يتكرر .. ) حينئذٍ كيف يجيب؟ بل كيف يقرأ؟
دعك من الدخول في المناظرات، كيف يقرأ ما كتبه المتقدمون؟ كيف يقرأ ما كتبه من كتَب في هذا الفن؟
قال رحمه الله تعالى: وكانت الجامعةُ قد أسندتْ إلينا تدريس فن آداب البحث والمناظرة، وكان لا بد من وضع مذكرةٍ تُمكِّن طلاّب الفن من مقصودهم فوضعنا هذه المذكرة وبدأناها بإيضاح القواعد التي لا بد منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة.
واقتصرنا فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة، وجئنا بتلك الأصول المنطقية ..
هذا انتبه له من هذا الإمام الجليل.
وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة (يعني: غير شائبة، الخلوص والشوب متقابلان) خالصة من شوائب الشُّبه الفلسفية.
انظر هنا النفي إنما هو مسلَّط من أجل أن يفهم طالب العلم ما يذكره أهل العلم.
النفي هنا مسلَّط على الشبه الفلسفية؛ لأنه قد يأتي معنا أن علم المنطق هل هو مقدِّمة لعلم الفلسفة أم جزءٌ منها؟ فيه خلاف.
هل هو علمٌ مستقلٌ بذاته، أم أنه مقدمة لغيره؟
هل هو علمٌ مستقل، أم أنه آلةٌ؟ فيه خلافٌ بينهم.
حينئذٍ إذا كان مقدمةً لعلم الفلسفة، حينئذٍ لا بد فيه شيءٌ من الفلسفة، وهذا لا بد منه .. لا ينفك عنه.
وإذا كان جزءاً من الفلسفة واضح الكلام، لا نحتاج إلى تعليق.
على القولين: أنه مقدمةٌ للفلسفة، جزءٌ من الفلسفة. لا بد وأن يكون فيه شيءٌ من مسائل الفلسفة.
حينئذٍ إذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء التخليص؟
نقول: التخليص إنما جاء ليس لكون هذه المسألة فلسفية أو لا، وإنما هل فيها شبهةٌ كفرية أو بدعية، لا يلزم أنها كفر ..
هل فيها شبهةٌ تتعلق بباب المعتقد أو لا؟
حينئذٍ علم الفلسفة على نوعين: منه ما يتعلق بعلم الاعتقاد كالإلهيات وغيرها، وهذا لا شك أنه باطل ولا يوجد في كتب المتأخرين كالإيساغُوجي ونحوه.
وثَم قسمٌ لا يتعلق بالاعتقاد، وإنما بالتفكير والنظر والنفس .. ونحو ذلك، وما يتعلق بالأقيسة والحجج بأنواعها والبراهين.
هذا وإن كان يُطلق عليه في بعضه أنه من مسائل الفلسفة إلا أنه ليس بمحرَّمٍ؛ لأن علم الفلسفة لم يحرِّمه أهل السنة والجماعة لكونه علم فلسفة فقط هكذا لا، نقول: الأصل في العلوم ما هو؟ الإباحة .. الأصل في العلوم الإباحة. هذا الأصل فيها، كما هو الأصل في الأشياء الطيبات ونحوها الأصل فيها الإباحة.
حينئذٍ إذا وُجد فيها أو تعلَّق بها أو تضمنت ما يُخل بالشريعة، أو بباب المعتقد، أو بذات الباري جل وعلا، حينئذٍ مُنعت، وما عداه يبقى على الأصل.
فحينئذٍ ما خلَّصه علماء الإسلام من علوم الفلسفة نقول: خلَّصوه من الشبه التي تتعلق بباب الاعتقاد، حينئذٍ لا يرد الاعتراض على أئمة السنة الذين قالوا بأن هذه كتب كالذي بين يدينا هذا أنه مُخلَّصٌ من علوم الفلسفة.
نقول: أنَّى لنا ذلك .. يَعترض المعترض.
نقول: المراد به أنه خُلِّص من شُبَه الفلاسفة، فليس فيه شيءٌ محرَّم، فمن اعترض على كون المنطق أنه جزءٌ من الفلسفة، أو مقدمةٌ للفلسفة، وأنه يلزم منه التحريم أخطأ؛ لأنه ليس كل علم الفلسفة محرّم.
ولذلك علم الحساب علمٌ فلسفي، علم الهيئة والهندسة علمٌ فلسفي، إذا قلنا الفلسفة بأنواعها السبعة المعلومة –العلوم- أنها محرّمة حرَّمنا جميع هذه العلوم، لكن لا هذا غلط افتراء على الله عز وجل.
فنقول: الفلسفة يُفصَّل فيها، فإذا كان كذلك فلو سُلِّم بأن هذه المسائل التي بين أيدينا من علم الفلسفة فالأصل فيها الإباحة، حتى يثبت أن هذه المسألة تتعلق بذات الباري جل وعلا، وأنها خطأٌ في باب المعتقد، حينئذٍ تُنزع ويُنظر فيها.
إذاً: قوله هنا: وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصة من شوائب الشبه الفلسفية. يعني: ليست خالصة من المسائل الفلسفية؛ لأن المنطق لا يمكن أن ينفك عن الفلسفة، هو مقدمةٌ لها أو أنه جزءٌ منها، وإنما الذي اعتنى به أهل الإسلام هو: تخليص هذه المسائل من الشبه المتعلقة بباب الاعتقاد.
فيها النفع الذي لا يُخالطه ضرر البتة. توكيد هذا، المعنى الذي ذكرتُه.
"فيها" أي: في هذه الأصول الخالصة من شُبه الفلسفة، فيها النفع الذي لا يخالطه ضرر البتة.
يعني: الضرر هنا من جهة المعتقد.
لأنها من الذي خلَّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة كما قال العلاّمة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة
…
إلى أن قال في منظومته في علم المنطق:
فَإِنْ تَقُلْ حَرَّمَهُ النَّوَاوِيْ
قُلْتُ نَرَى الأَقْوَالَ ذِي المُخَالِفَةْ
أَمَّا الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا
…
وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالسِّيُوطِي الرَّاوِيْ
مَحَلُّهَا مَا صَنَّفَ الْفَلَاسِفَةْ
لَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ عِنْدَ الْعُلَمَا
هذا توجيهٌ لما اشتهر عند بعض أهل العلم من أن المنطق محرّم ولا يجوز دراسته ولا تدريسه، ولا تعلُّمُه ولا تعليمُه.
نقول: المراد فيمن حرَّمه أنه المختلِط بشُبه الفلاسفة، قال: لا. كذلك الذي لا يختلط.
نقول: هذا قولٌ ويُعرض على الكتاب والسنة، والأصل فيه الإباحة.
إذاً: يُوجَّه على جهتين:
إما أن نقول: بأن من حرَّم دراسة علم المنطق مراده المنطق المشوب بشبَه الفلاسفة. وهذا لا إشكال فيه، إلا لمن كانت عنده أهلية النظر فحينئذٍ ينظر، الأصل في النظر في كتب أهل البدع الأصل المنع، إلا إذا كان يستطيع أن يميِّز بين الحق والباطل.
وأمّا قول الأخضري في سُلَّمِه:
وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ
فَابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ
…
بِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْوَالِ
وَقَالَ قَوْمٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا
جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ
ججج
ج
فهذه الأبيات اشتهرت في بيان ما يتعلق بحُكم المنطق، فصلٌ في جواز الاشتغال به، هذا ذكره صاحب السُلَّم في محله.
(وَالخُلْفُ) يعني: الاختلاف.
وَالخُلْفُ فِي جَوَازِ الاِشْتِغَالِ
فَابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَاوِي حَرَّمَا
…
بِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْوَالِ
...........................
يعني: (حَرَّمَا) الاشتغال بعلم المنطق.
(وَقَالَ قَوْمٌ) كالغزالي أبي حامد: (يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَا)
اختُلف في (يَنْبَغِي) قيل: واجبٌ على الكفاية، وقيل: مستحبٌ.
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ
…
جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
جج
يعني: المختلِط، هذا الذي يُحمل عليه كلام صاحب السُلَّم أن المراد به المختلِط.
وَالقَوْلَةُ المَشْهُورَةُ الصَّحِيحَهْ
…
جَوَازُهُ لِكَامِلِ القَرِيحَهْ
يعني الذكي الألمعي الذي يستطيع أن يميّز بين الغث والسمين، بين الحق والباطل.
مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ
…
لِيَهْتَدِي بِهِ إِلَى الصَّوَابِ
ج
قال الشيخ هنا: أما قول الأخضري (هذا الذي ذكرناه) فمحلُّه: المنطق المشوب بكلام الفلاسفة الباطل ..
يعني: هذا أخطأ الأخضري في ذكر هذه المسألة في هذا الكتاب؛ لأن كتابه إنما هو نظمٌ لإيساغوجي على المشهور، وإن لم يذكر ذلك في مقدمته، وإن زاد فيه بعض الأبواب.
فنظَمَ إيساغوجي، وإيساغوجي معلومٌ أنه (الذي شرحه زكريا الأنصاري هنا) أنه من (الَّذِي خَلَّصَهُ مَنْ أَسْلَمَا) يعني: الخالص من شُبه الفلاسفة.
حينئذٍ كيف تأتي بهذا الخلاف الذي هو ليس في هذا الموطن، فيُذكر فيما خلَّصه العلماء؟ هذا فيه شيءٌ من الخطأ.
وحينئذٍ نقول: هذا محله في المنطق المشوب بشبه الفلاسفة.
قال رحمه الله تعالى -الشيخ الأمين-: ومن المعلوم أنّ فن المنطق منذ تُرجِم من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية.
وهذا توجيه في أن أهل العلم الشرعي، لماذا يدرسُون علم المنطق؟ هو علمٌ دخيل، لا شك أنه دخيل ومُسلَّمٌ بهذا، لكن لماذا ندرُسه، ولماذا نشتغل به؟
لا لذاته وإنما لما يترتب عليه من فوائد.
قال: كانت جميع المؤلفات (يعني: كثير من المؤلفات) توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلَاّ من له إلمامٌ به.
وهذا موجود في علوم الآلة على جهة الخصوص، النحو أُدخل فيه كثيرٌ من الاصطلاحات، وكذلك الصرف أُدخل فيه كثير من الاصطلاحات، وكذلك البيان والبلاغة، وأهمها علم أصول الفقه فقد خُلِط بهذا الفن.
وأما علوم اللغة فهي أخف، ويمكن الاستغناء عن كثير من الكتب التي اشتملت على شيءٍ من المنطق بغيرها، يعني: الانفكاك أمرٌ سهل في علوم اللغة، وأما في أصول الفقه لا يكاد أن يسلم الناظر في هذا العلم، بل لا يكاد أن يتمكن، بل لن يتمكن إلا إذا نظر في هذه الكتب على وجه الخصوص.
لو نظرت في شروح جمع الجوامع وغيرها، والمستصفى والبرهان، لا بد أنه اشتمل على شيءٍ من ذلك. بل جعلوا مقدمات منطقية، حينئذٍ كيف يفهمها طالب العلم الذي لا بد أن يعلم هذا الفن وهو أصول الفقه؟
لأن عديم النظر في كتب أصول الفقه هذا عديمٌ في علم الشرع، لا شك في ذلك؛ لأن الشريعة إنما هي استنباط يعني: استنباط أحكام شرعية من الوحيين، وهذا معتمدُه علم أصول الفقه، ولن يتمكن الطالب في هذا الفن إلا بالنظر في هذه المطولات، وكلها مشتملة على هذه الاصطلاحات، كيف يفهمها؟
إذا ادعى مدعٍ بأنه قد فهم وهو لم يدرس المنطق، هذا لا تُقبل دعواه؛ لأنه قد يكون له شيءٌ من الفهم، لكن الفهم الذي ينبغي لا، لا يمكن أن يتصور المسائل على الوجه الذي أراده الكاتب –المصنِّف- إلا إذا عرف المصطلح الذي تكلم به، وهذا المصطلح إنما هو فن المنطق.
ولذلك نقول: المنطق من أوله إلى آخره كله مصطلحات (قواعد)، حينئذٍ لا بد للناظر في علوم الآلة، وأصول الفقه على جهة الخصوص من النظر في هذا الفن وإتقانه، لا بد من إتقانه من أجل أن يُتقن أصول الفقه.
قال هنا: فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا من له إلمامٌ به (بهذا الفن)، ولا يفهم الرد على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.
وهذه فائدة أخرى وهي: أن من درس المنطق ليسوا كلهم على مرتبة واحدة من الحق والباطل، قد يدرس المنطق ويستفيد منه فيما يستفاد في الحق، وفي الذب عن الشريعة، وقد يدرس المنطق من أجل تأصيل المسائل البدعية كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة .. كل هؤلاء دينهم، وعقيدتهم مبناه على الأمور العقلية، وهي مستنبطة أو معتمدة على هذه القواعد، هنا سيأتي السؤال الكبير: كيف ترد عليهم؟
هل تأخذ كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وتردده من غير فهمٍ، وخاصةً إذا كان الذي يرُد ليس كتابة الذي يرد بالمناظرة والمجادلة، وحينئذٍ كيف يرُد؟
هذا لا يمكن ولا يتأتى له إلا إذا نظر في هذا الفن.
لأنه أولاً: يفهم عقيدة المخالف بناها على أي شيء؟
ثم بعد ذلك ينقض هذه العقيدة.
فثَم أمران: الأمر الأول: يفهم دليل المستدل؛ لأنك إذا أردت أن ترُد باطلاً فلا بد أن تفهم هذا الباطل، كيف استوى؟ على أي ساق، على أي دليل، على أي وِجهة؟ لا بد أن تفهمه، أم ترد هكذا؟ نقول: لا. لا بد أن تفهم أولاً القول الباطل، فكيف تفهمه وهو قد استند إلى هذا الفن؟
إذاً: لا يمكن أن يُعرف ما عند المنطقيين والمتكلمين من الباطل إلا بمعرفة هذا الفن، ولا يمكن أن يُفهم ما عندهم من استدلالات إلا بفهم هذا الفن.
ثم ثالثاً: لا يمكن أن ننسف ما عندهم من باطل إلا بفهم هذا الفن، ولو قلنا بأن الرد واجب فحينئذٍ نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولكن هذا لا يكون مطلقاً لكل أحد وإنما لمن كانت عنده أهلية النظر في الشرع.
إذاً: قال: ولا يفهم الردَّ على المنطقيين فيما جاءوا به من الباطل إلاّ من له إلمامٌ بفن المنطق.
ثم قال: وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية.
"وقد يعين" قد للتحقيق هنا يعني: ليست للقلة، قد إذا دخلت على المضارع أفادت -في المشهور- التكثير أو التقليل، هذا المشهور عند النحاة. ولا تأتي للتحقيق إلا إذا دخلت على الماضي .. إذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق أو التقريب.
التحقيق: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1]، التقريب: قد قامت الصلاة .. قد غربت الشمس.
وعند جماهير النحاة لا تأتي للتحقيق، وهذا ليس بسديد بل الصواب أنها قد تأتي للتحقيق إذا دخلت على الفعل المضارع، قال تعالى:((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ)) [الأحزاب:18] هنا نحملها على التكثير أو التقليل؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما على التحقيق.
التحقيق المراد به: وقوع ما بعده. يعني: متحقَّقُ الوقوع، الحدث الذي بعد قد متحقق الوقوع ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] إذاً: الفلاح متحقق أو لا؟ متحقق.
ولذلك تُعد قد من المؤكِّدات عند البيانيين؛ لأنها تؤكِّد وقوع الحدث.
كذلك ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ)) [الأحزاب:18]، ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ)) [الحجر:97] كل هذه نقول: قد هنا للتحقيق، خلافاً لما اشتهر على ألسنة النحاة بأنها لا تكون إلا للتقليل والتكثير.
إذاً: "قد يعين" للتحقيق هنا.
قد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية. فزعموا أنَّ العقل يمنع بسببها كثيراً من صفات الله الثابتة في الكتاب والسنة.
نفوا كثيراً إن لم يكن جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، والتي الأصل فيها التسليم على ما جاء به قول الباري جل وعلا وقول نبيه صلى الله عليه وسلم اعتماداً على الأصل في باب الأسماء والصفات.
نفوا كثيراً من مدلولات هذه الأسماء والصفات، بناءً على أقيسةٍ، والأقيسةُ هذه سيأتي أنه الطريق الموصل إلى التصديق.
إذاً: على شيءٍ من فن المنطق.
هذه الأقيسة حقة أم باطلة؟ نقول: باطلة، كيف نفهم بطلانها؟ بهذا الفن، كيف نردُّ عليهم؟ بهذا الفن.
لماذا؟
لأن المعتمِد على النفي إنما اعتمد على أقيسةٍ باطلة ولا يمكن ردُّها إلا بفهم هذا الأصل عندهم.
قال هنا: لأنَّ أكبرَ سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجةُ عليه من جنس ما يُحتج به.
وهو كذلك.
لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطِل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتَج به. فالجهمي في باب الأسماء والصفات لا يؤمن بقرآن ولا بسنة قطعاً، وإنما يؤمن بعقله المقدّس، وعقله المقدّس هذا كالكتاب المقدّس يعني .. من جنس واحد.
فحينئذٍ لا يبني ما عنده إلا على هذه الأقيسة التي ظن أنها حقٌ، فحينئذٍ كيف يُنظر فيما عنده؟ نقول: لا بد من هذا الفن.
قال: لأنَّ أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به.
فالرد على الجهمي إنما يكون بالأقيسة الصحيحة الحقة، والرد على المعتزلي كذلك وغيره من أهل البدع.
وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيئة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها.
قال رحمه الله: ولا شك أنَّ المنطق لو لم يُترجَم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.
وهذه مُسلَّمة ولا إشكال فيها، ونحن نتكلم عن واقع لا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.
يعني: نتكلم عن واقع بمعنى أن العقيدة الآن -كتب المعتقد- قد خالطها شيءٌ من المنطق.
إذاً لا بد الكلام أو الفتوى أو النظر يكون باعتبار الواقع لا باعتبار شيءٍ في الذهن، وما ذكره الشيخ هنا شيءٌ واقعي أم ذهني؟ لو لم تُترجم لكنا في غنى، هل استغنينا؟ نقول: لا. لم نستغني، لماذا؟ لأنها تُرجمت. العكس.
حينئذٍ لو لم تُترجم كتب المنطق لكنا في غنى كما استغنى السلف الصالح، لكن لم نكن في غنى؛ لأنها تُرجِمت ودخلت في علوم الشريعة.
إذاً: نتكلم عن شيءٍ واقعي ولا نتكلم عن شيءٍ في الذهن.
لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه كما استغنى عنه سلفهم الصالح.
ولكنه لمّا تُرجم وتُعُلِّم وصارت أقيسته هي الطريقةَ الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتة بالوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه؛ ليردوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات.
كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يتعلموا هذا الفن؛ من أجل الذب عن الشريعة، وباب المعتقد على جهة الخصوص.
لأنّ إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق.
ثم قال رحمه الله تعالى: واعلم أنّ نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج إنْ رُكِّبت مقدماتُه على الوجه الصحيح صورةً ومادة.
يعني: القياس في نفسه صحيح وحق، كما أن الإجماع في نفسه صحيحٌ وحق، كما أن القياس (الدليل الرابع) في نفسه صحيحٌ وحق كذلك.
لكن قد يُردُّ القياس لكونه لم يأت على الصورة الصحيحة، قد يُرد الإجماع لكونه لم يستوفِ الشروط.
حينئذٍ إذا كثُرت الإجماعات ورُدَّت لا نرجع إلى الأصل فنرده من أصله، وكذلك الشأن في القياسات.
هنا الشيخ يشهد -رحمه الله تعالى- على أن القياس المنطقي في أصله صحيح وحق، بل يرى أنه قطعي، لكن متى؟ إنْ رُكِّبت المقدِّمات على الوجه الصحيح من حيث الصورة ومن حيث المادة.
يعني: إن استوفى الشروط، كما أن القياس في باب الشرعيات إذا استوفى الشروط فهو حق كذلك الشأن هنا.
إذاً: لا يُنظر في المنطق من حيث ما رتَّب عليه أهل البدع فحسب، هذه نظرة قاصرة، وهذا الذي أودى ببعض الطلاب هنا إلى مسألة التذبذب في تعَلُّم هذا الفن .. ندرُس أو لا ندرس؟
حينئذٍ نقول: النظر هنا في القواعد من حيث أصلُها، والنظر في استعمال هذه القواعد، حينئذٍ إذا استعمله المبتدئ على وجهٍ مخالف نرد عليه ببيان وجه المخالفة، وأما الأصل فيبقى على أصله.
ولذلك قال هنا: واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيحُ النتائج إن رُكِّبت مقدماته على الوجه الصحيح صورةً ومادة، مع شروط إنتاجه فهو قطعي الصحة (ليس ظني)، وإنما يعتريه الخلل من جهة الناظر فيه فيغلط، فيظُن هذا الأمر لازماً لهذا مثلاً. هذا يلزم من كذا وقد يخطئ، قد يظن أن هذا لازم وهذا ملزوم، وليس بينهما ملازمة، يمكن أو لا؟ يمكن.
قد يظن أن المقدمة الصغرى صحيحة وهي باطلة، أو العكس- الكبرى- .. ونحو ذلك.
فيستدل بنفي ذلك اللازم في زعمه على نفي ذلك الملزوم مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة.
إذاً: يقع الغلط والخطأ من حيث الاستعمال لا من حيث الأصل، فإنه قطعيٌ كما قال الشيخ هنا.
قال: ومن أجل غلطه في ذلك تخرج النتيجة مخالفة للوحي الصحيح لغلط المستدل. ولو كان استعماله للقياس المنطقي على الوجه الصحيح لكانت نتيجته مطابقة للوحي بلا شك؛ لأنّ العقل الصحيح لا يخالف النقل الصريح إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
إذاً: هذه الجملة نفيسة من كلام الشيخ الأمين رحمه الله تعالى ذكرها في مقدمة كتابه الذي يسمى بالمقدمة المنطقية أو آداب البحث والمناظرة، وجعلَ في القسم الأول قواعد المنطق، بيَّن فيه أنه ينبغي أن يدرُس أهل العلم الذين يتصدون للرد على المخالفين .. أن يدرسوا هذا الفن من أجل الرد على المخالفين، وعلى شبه هؤلاء المبتدعة.
ثم في نفسه كطالب العلم أن ينظر فيه ليفهم كما سيأتي في كلام الشوكاني رحمه الله تعالى .. أن يفهم مصطلحات هذا الفن من أجل أن يفهم كثيراً من كتب أصول الفقه، وما تعلق به من علوم اللغة.
وأصبح دراسة المنطق مطلوبةً عند بعض المتأخرين لدراسة بعض العلوم كالأصول. كما ذكرنا.
لأن كثيراً من مؤلفاتها الصيغة في قالبٍ منطقي فتعذر التمكن فيها إلا بدراسته.
نعم تعذَّر؛ لأنها في جُلِّها إن لم تكن كلها مبنيةٌ على هذا العلم، فلن يتمكن فيه طالب العلم إلا بالتمكن في هذا الفن.
وقد قرر ذلك جماعةٌ من أهل العلم.
قال ابن القاسم العبَّادي في حاشيته على تحفة المحتاج: قال في الإمداد: بل هو (أي: المنطق) أعلاها أي: العلوم الآلية.
وهذا من الغلو، كما هو الشأن في بعض من يغلو في باب القياس الشرعي (الذي هو رابع الأدلة)، هنا كذلك بعضهم يغلو في باب المنطق، حتى قال الغزالي: من لا علم له بالمنطق لا ثقة في علمه. يعني: علمُه هباءً منثوراً. هذا كلام فاسد لا يعوَّل عليه، لماذا؟
لأنه يُعتبر الأصل من حيث الإثبات ثم لا نزيد ولا ننقِص .. لا نقول: كل شيء حرام محرَّم من أصله، ولا نأتي نرفعه نقول: هو أعلى وأجل علوم الآلة، ومن لا معرفة له لا يوثق بعلمه! نقول: لا. هذا يُعتبر من الغلو.
قال: بل هو (أي: المنطق) أعلاها (أي: العلوم الآلية).
ثم قال: وإفتاء النووي كابن الصلاح بجواز الاستنجاء به.
والله أعلم بهذه الفتوى، لكن بناءً على ما كان مشوباً. يعني: فيه شيءٌ مما يخالف الشريعة جوَّزوا الاستنجاء به.
قال: يُحمل على ما كان في زمنهما من خلطٍ كثير من كُتبِه بالقوانين الفلسفية المنابذةِ للشرائع، بخلاف الموجود اليوم فإنه ليس فيه شيءٌ من ذلك ولا مما يؤدي إليه فكان محترَماً.
على كلٍ: الأصل فيه الإباحة، ما كان خالصاً من شُبه الفلسفة الأصل فيه الإباحة، وما كان خليطاً فيُنظر في الناظر، بناءً على أن الأصل في النظر في هذه الكتب الأصل فيه المنع.
فحينئذٍ إذا كان الناظر يستطيع أن يميز بين الحق والباطل (مُمَارِسِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ) كما مضى في قول الأخضري، فحينئذٍ يجوز له النظر وما عداه فالأصل فيه التحريم.
إذاً نقول: الأصل في دراسة علم المنطق غير المشوب بالفلسفة الإباحة؛ لأننا إذا قسَّمنا كتب المنطق إلى قسمين: مشوب وغير مشوب، جاء بعضهم قال: رحمك الله، غير المشوب هذا هو من علم الفلسفة. نقول: ومن الذي قال بأن علم الفلسفة كله حرام؟ وإلا لحرّمنا الحساب والهيئة والهندسة .. ونحوها، كلها صارت محرَّمة، لماذا؟ لأنها علومٌ فلسفية.
فحينئذٍ لا نعترض بكون هذا العلم مباحاً أنه جزءٌ من الفلسفة، نقول: جزءٌ من الفلسفة غير المحرَّمة التي الأصل فيها الإباحة.
ثانياً: الأصل الاستغناء كما ذكرنا عن هذا الفن، لولا أنه أُدخل على العلوم الشرعية ولهج به كثيرٌ من العلماء، فصارت مصنفاتُهم في كثيرٍ من الفنون مشوبةً بهذه الاصطلاحات المنطقية، لا سيما علم أصول الفقه.
وكلام الشيخ فيما مضى واضحٌ بيِّن.
ثالثاً: إذا عرفنا أنه لا بد منه، ليس المراد من هذا أن طالب العلم يقرأ فيه كما يقرأ في كتب الحديث، كل كتاب معتمد لأئمة الحديث أو شرحاً لبعض الأحاديث أنه يقرأه أو يقتنيه، أو الشأن في كتب التفسير الأصل فيها أنه يقرأ ما شاء. وإنما يأخذ ما يحتاجه، يعني: ليس المراد هنا أن يقرأ مائة كتاب ومائة حاشية، أو يحفظ ألفية أو ألفيتين، أو أزود من ذلك، وإنما نقول: نحتاج إلى شيءٍ تكون به القِوامة، وما عدى ذلك يُترك، لماذا؟ لأننا كما ذكرنا الأصل فهم الاصطلاحات.
ثانياً: إذا كانت معك الأصول .. لأنه علمٌ محصور .. علم المنطق محصور، وإنما الثرثرة الكثيرة عند المتأخرين هي التي أطالت هذا الفن، وإلا هو علم اصطلاحات من أوله إلى آخره أشبه ما يكون بقاموس تعاريف.
حينئذٍ ما يحتاجه طالب العلم هو الذي ينبغي التنبيه عليه؛ لنجمع بين الأمرين نقول: الأصل فيه الإباحة، ونحث وبقوة طلاب العلم أن يعتنوا بضبط هذا الفن، وبضبط ما يتعلق بباب المعتقد.
ثم ننبِّه: ليس المراد به أن يقرأ كل ما شاء أو يقرأ ما شاء، أو يحفظ كل شيء لا، إنما يأخذ ما يحتاجه، ولا بد من النظر فيما قاله أهل العلم.
المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلمه، وبعضهم اشترط هنا أن يكون عنده شيءٌ من علم المعتقد، لكن هذا ليس بشرط؛ لأننا قلنا هذا الباب مخلَّص فليس فيه شُبه، وخاصةً إذا قرأه على من هو من أهل السنة والجماعة؛ لأنه يرد الإشكال في بعض الأمثلة.
كل من كتَب في علم المنطق إما أشعري وإما ماترودي .. متأخرون، فحينئذٍ يأتي بعض الأمثلة تتعلق بباب المعتقَد، فالذي لا يعرف ولا يميِّز أو لا يقرأ على من يميِّز له ذلك، فحينئذٍ قد يقع في الإشكال.
فإذا كان لا يقرأ على مُعلِّمٍ من أهل السنة والجماعة، أو يقرأ بنفسه، أو يقرأ على أشعري إن جاز له ذلك. فحينئذٍ نقول: لا بد أن يكون عنده شيءٌ من باب المعتقد؛ ليسلم من الخلط.
من تحركت همته لنيل حظٍ من هذا الفن فعليه قبل الولوج فيه أن يأخذ حظاً من علم الكتاب والسنة دراسةً تأصلية. للأمر الذي ذكرناه.
رابعاً: المبتدئ في هذا الفن عليه أن يتدرج في تعلُّمه، فيأخذَه شيئاً فشيئاً على أهله (يعني: على ما يفهمه)، يشرع أولاً (على المشهور عند أهل العلم) في حفظ متن السلَّم المنورق. وهذا كما ذكرنا أنه نظمٌ لإيساغوجي، وإيساغوجي نثر، وبعضهم يقدِّم النثر فلا بأس، وبعضهم يقدِّم النظم ولا بأس. وكلاهما على خير.
من يحب حفظ النثر فليحفظ إيساغوجي، ومن يحب حفظ المنظومات فليحفظ السلَّم المنورق. هذه الكتب ليست توقيفية يعني: ليست مبناها على التوقيف من خرج عنها فقد وقع في محظورٍ.
فيحفظ متن السلَّم المنورق للأخضري، وهو مختصر مفيد وعليه شروح عديدة لأهل العلم وهو سهل العبارة، واضح الإشارة.
قيل: إنه نظمٌ لإيساغوجي وإن لم ينصَّ الناظم على ذلك، وعليه شروح كثيرة، من أحسنها وأجودها شرح الإيضاح -إيضاح المبهم- لأحمد الدمنهوري، وهو شرح جيد ومفيد جديد في هذا الفن؛ لأنه أشبه ما يكون بكتابٍ عصري. ثم يقرأ بعد إتقانه وإجادته شرح السلَّم المنورق كذلك لأحمد المَلَّوي. وهذا جيد ويفيد كمرحلة ثانية.
وهذا يكتفي به فيما يتعلق بشروح السلَّم، إذا أراد أن يكتفي بواحدٍ منهما فحينئذٍ ينظر في الدمنهوري (إيضاح المبهم)، والأحسن من ذلك أن يدرس أولاً إيضاح المبهم ثم بعد ذلك يضيف إليه شرح أحمد الملَّوي، وعليه حاشية للصبَّان، وهي كذلك حاشية نفيسة في هذا الباب.
ثم إذا أتقن هذا الجانب -الذي هو الأخضري- يرتقي إلى الشمسية وتهذيبِها، إما هذا أو ذاك، تهذيب الشمسية لسعد الدين التفتازاني، وعليه شرح للخبيصي، وعليه حاشية للعطار، والشمسية وشروحُها مشهورةٌ كذلك وعليها شرحٌ للتفتازاني.
ثم يقرأ الطالب بعد ذلك تهذيب الشمسية لسعد الدين مسعود التفتازاني، وعليه شروح أشهرها (التذهيب شرح التهذيب) للعلامة الخبيصي (مطبوع).
وكتبَ على التذهيب أبو السعادات حسن العطَّار حاشية نفيسة محررة. يعني: بالنسبة لفن المنطق، كما هي عادتُه في حواشِيه.
العطَّار له حواشي من أنفس ما يكتبه المحشُّون؛ لأن أكثر المحشِّين قد يعيشون فراغاً. يعني: يريد أن يلتمس حُجةً على صاحب الكتاب، ويذهبون بالصفحة والصفحتين في إعراب وتوجيه كلمات .. إلى آخره.
لكن بعض الحواشي لا، فيها فوائد وفيها درر، كحاشية الخضري على ابن عقيل، وحاشية الصبَّان على الأشموني. حاشيتان في النحو لا مثيل لهما.
كذلك حاشية العطَّار على جمع الجوامع -المحلي- لا مثيل لها، وهي أقوى وأنفس من حاشية البنَّاني.
هنا في باب المنطق شرْحُ زكريا الأنصاري عليه حاشية حسن العطَّار وهي أنفس من عُليِّش الذي معنا.
وكذلك في التذهيب له حاشية وهي حاشيةٌ نفيسة كذلك.
فإذا أتقن الطالب هذين الكتابين يكتفي، ثم تأتي الممارسة والملكة.
الممارسة والملكة لا تأتي بحفظ المصطلحات فقط، وإنما تأتي بماذا؟
الملكة كيف يُنشئها طالب العمل في نفسه؟ إنما يُنشئها بممارسة الفنِّ، ليس بالنظر في الفن.
فأنت لو كنت تحفظ ألفية ابن مالك، تحفظ فقط وتراجع كل يوم وتجرُد ابن عقيل كل أسبوع لن تكون نحوياً، لست معدوداً من النحاة أصلاً.
متى تكون نحوياً؟ عند الممارسة.
إذا مارستَ النحو يعني: نطقتَ وتكلمت وأعربت، ونظرت في الآيات وأعربت، واستخرجت واستنبطتَ .. إلى غير ذلك. حينئذٍ تتدرج في فن النحو، وإذا استمر طالب العلم في ذلك حينئذٍ يصل إلى الملكة -ملكات الفنون-، وهذه لا تكون إلا بالممارسات.
وفي علوم الشريعة تأتي كذلك بالجرد، وأما هنا فالمراد به أن يمارس والممارسة إنما تأتي فيما لو نظرتَ في كتب الأصوليين، تقف مع بعض المصطلحات، أو كتب النحو التي قلنا فيما سبق أنها مشوبةٌ باصطلاحات وعبارات منطقية، فتنظر في كل موضعٍ على جهة التطبيق لهذا الفن.
كما تنظر فيما لو حفظت ألفية ابن مالك في الإعرابات في القرآن، ماذا أُعرِب؟ أُعرب الألفية نفسها مثلاً، أو تنظر في إعراب القرآن فتمارس النحو، كذلك الصرف، كذلك البيان، كذلك المصطلح تدرسه ثم تمارس في التخريج ونحو ذلك.
هنا تدرسه ماذا تصنع تقف؟ لا، وإنما تمارس هذا الفن بالنظر فيما كتبه أهل الأصول من مقدمات أو فيما يتعلق بالمسائل، أو كذلك أهل النحو أونحو ذلك.
ثم فيما يتعلق بالرد تنظر فيما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في إبطال ما ادَّعاه من ادعى في كون عقيدته على قياسٍ صحيح، حينئذٍ بعد ذلك تستمر في هذا النوع، فتمارس الفن فتتكون عندك الملكة.
حينئذٍ إذا أتقنت ما ذكرتُه لك، حينئذٍ لا يُشكل عليك شيءٌ من مصطلحات القوم ولا من قواعدهم، بل فيما يظهر والله أعلم أنك تكون مشاركاً لهم؛ لأن أكثر ما ذُكر في الشمسية وفي السلّم إنما هو الذي يدندن به من يدندن في باب المعتقد من الأقيسة ونحوها.
ثم اعلم أن هذا الفن مسائله النثرية يصعب بقاؤها في الذهن كغيرها من العلوم، كالفرائض .. الفرائض ما تبقى، لكن لو حفظ طالب العلم نظماً سلساً، أو نظماً مطولاً، حينئذٍ يبقى معه شيءٌ من العلم.
ولذلك ننصح في هذا المقام وإن كان فيما سبق يحفظون الشمسية، لكن نقول: لا تحفظون الشمسية؛ لأنها من ضياع الأوقات تعتبر، وإنما تحفظ نظماً، وهذا النظم كما هو معلوم يُعتبر من نوع الرَّجز، ونوع الرجز هذا مستعذبٌ في اللسان وفي الآذان، وإذا حفظه الإنسان يستطيع أن يكرره خاصةً إذا كان النظم سلساً، حينئذٍ إما أن يحفظ السلَّم وهذا لا يكفيه فيما سبق، السلَّم لا يعتبر، كالآجرومية لا تكفيك في باب النحو، وإنما ينظر فيما زاد على ذلك.
فيحفظ السلّم أولاً، ثم بعد ذلك إما الشمسية (نظم الشمسية) وإما التوشيح، الشمسية هذه لبشير الغَزِّي تقع في (235) يعني رُبع ألفية .. قريباً من ذلك.
يقول فيها:
وَهَذِهِ أُرْجُوْزَةٌ سَنِيَّهْ
أنِيقَةُ الأَلفَاظِ وَالمَعانِي
…
ضَمَّنتُها مَسَائِلَ الشَّمْسِيَّةْ
تَعْذُبُ فِي الآذَانِ وَالأَذْهَانِ
وليس لها شرحٌ للأسف الشديد، وهذا الذي يجعلنا نعزف عنها، ففيها خمسة أبيات فيها إشكالات وفيها رموز، قرأتُها على أحد المشائخ لكنه فيها أعوازٌ كبير وشيءٌ من الغموض.
ثانياً: توشيح عبد السلام على متن السلم المنورق المسمَّى بالاحمرار، هذا يقع في (440) بيتاً يعني: نصف ألفية تقريباً.
جمع فيه كثيراً من المسائل التي تركها صاحب السلم فألحقها به من عدة شروح يقول في خاتمتها:
نَظَمتُهُ لِلْمُبْتَدِيْنَ تَبْصِرَهْ
مُعْتَمَدِي فِي نَقْلِهِ قَصَّارَهْ
وَأَصْلُه بَنَّانِي ذُوْ التِّبْيَانِ
وَرُبَّمَا زِدْتُ مِنَ المُخْتَصَرهْ
فَجَاءَ نَظْمَاً جَامِعَاً مُبِيْنَا
…
وَلِلشُّيُوخِ المُنْتَهِيْنَ تَذْكِرَهْ
جَمِّ المَعَانِي وَاضِحِ الْعِبَارَهْ
وَشَرْحُ قَدُّوْرَةِ ذِي الاِتْقَانِ
وَشَرْحِهَا مَسْأَلَةً مُحَرَّرَهْ
عَلَى مُهِمِّ فَنِّهِ مُعِيْنَا
وهذا أجود، ولو اعتكف عليه طالب العلم وحفظه وفهمه حق الفهم كفاه.
السلّم موجودٌ فيه بلفظه. يعني: من عنده قدرة أن يبدأ في المطولات، وهذا لا يُنصح به، لكن قد يكون شذوذ من قواعد، من شذ واستطاع أن يصبر على المتن فيبدأ به ابتداءً وانتهاءً، يكون هذا الكتاب الذي تبتدئ به، وهو الذي تتوسط به، وهو الذي تنتهي به. لكن يحتاج إلى شرح، فيه شرحٌ لبعض المعاصرين، لكن فيه إعوازٌ، ويحتاج إلى شرح.
وقد شرح التوشيح بعض المعاصرين ولكن فيه إعوازٌ كثير.
وأشملُ النظمين وأوسعها وأسهلها هو التوشيح.
إن يسَّر الله عز وجل نشرحه صوتياً وسيكون قريباً إن شاء الله تعالى، لكن موسَّعاً.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: وينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق، ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد أن يفهم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون من مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.
"ينبغي" هذه إما على جهة الإيجاب وإما على جهة الاستحباب "ينبغي"، وإن كانت في الشرع تأتي للتحريم المشدد ((وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ)) [مريم:92] وأما في استعمال الفقهاء فقد يعنون بها: ينبغي المستحب، المرادفة عند بعضهم للمستحب.
لكن في مثل هذه المواضع التي ليست في مصاف المسائل الفقهية قد يُحمل على الانبغاء بمعنى الإيجاب أو بمعنى الاستحباب.
قال: ينبغي للطالب أن يطَّلع على مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد "بعد" تدل على الترتيب- بعد أن يفهم النحو.
وهذا يدل على أن أولئك الأقوام إنما ساروا على الجادة يعني: يأخذوا النحو، ثم إذا أراد أن يرتقي إلى كتب المتوسطين، ومعلومٌ أن عبارات في اصطلاحات المنطقة التي يستعملها النحاة الذين يشرحون الكتب إنما ليست في كتب المبتدئين، لا يوجد في شروح الآجرومية مثلاً (إلا في شرحه الأعلى) .. لا يوجد في شروح الآجرومية مصطلحات المناطقة: تَصَوُّر وتصديق
…
إلى آخره، لا يوجد والله أعلم.
وإنما يوجد في القطر وما بعده، حينئذٍ يأخذ ما يحتاجه المبتدئ، ثم قبل الولوج في المتوسطات من كتب النحو يقول: تأخذ شيئاً من مختصرات المنطق؛ لأن العلوم يخدم بعضها بعضاً، ليس عندنا طريق واحد تشقه وتمشي لا، وإنما العلم له شعب، وكل شُعبةٍ تخدم الشعبة الأخرى، بينهما تعاون.
حينئذٍ إذا أراد الطالب أن ينظر في علمٍ ما ويجد مشقة في فهم بعض الاصطلاحات فلا بد أن يقدّم قبل أن يلج هذه الكتب المتوسطة أو المطولة لا بد أن يأخذ شيئاً من العلم الآخر ليعينه.
الطالب الذي يقرأ في الفقه مثلاً، أخَذَ المسألة وحكمَها، ثم إذا أراد أن ينتقل قد لا يحتاج في هذه المرحلة إلى علم أصول الفقه، إذا كان ستُلقَى عليه المسألة تصويراً فقط، بيان الحكم والدليل قد لا يحتاج إلى أصول الفقه، لكن إذا أراد أن يرتقي إلى القولين فحينئذٍ يقع تضارب: حرام، جائز، مكروه .. إلى آخره.
فكيف يميّز بين هذا وذاك؟ كيف يفهم ما يرِد على هذا القول والقول الآخر؟
فلا بد أنه قبل أن يلج في المرحلة المتوسطة أن يأخذ شيئاً من أصول الفقه، كذلك هنا كلام الشوكاني رحمه الله تعالى.
قال: بعد أن يفهم النحو.
النحو مقدّم، وهو أول علوم الآلة التي ينبغي العناية بها، يدرس علم النحو؛ ليفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون في مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية.
قال: ويكفيه في ذلك مثل: المختصر المعروف بإيساغوجي -كتابنا-، أو تهذيب السعد وشرحٍ من شروحهما.
يعني: إما إيساغوجي وإما تهذيب السعد للشمسية. إما هذا وإما ذاك.
وليس المراد هنا (بدراسة هذين الكتابين) إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالاً.
يعني: كمرحلة أولية فقط.
لئلا يعثُر على بحث من مباحث العربية من: نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه.
يعني: لئلا يقع في حرج؛ لأنه قد تأتي عليه مسألةٌ فيها اصطلاحٌ للمناطقة، أو مسألة مبناها على قاعدة من قواعد المنطق، فكيف يفهمها؟ لا بد أنه يستعين بذلك يعني: الفن المختصر قبل الولوج في هذه الكتب.
قال: لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من نحو أو صرف أو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكاً على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه، كما يقع كثيراً من الحدود والإلزامات فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة، فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.
إذاً قد يفهمها لكن لا يصل إلى الدرجة القصوى، ومن هنا نأتي نرُد على من يقول بأنه قد فهم الأصول مثلاً على وجهه دون أن ينظر في علم المنطق.
نقول: لا. كذبتَ وإنما صار عندك شيءٌ من الفهم لكن ليس على وجه التمام، ومن يدَّعي بأنه فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مناقشات الأشاعرة ونحوها، حينئذٍ نقول: هل درستَ علم المنطق؟ يقال: لا. وفهمتُ كلام ابن تيمية! نقول: لا. لا يسلَّم، وإنما فهمتَ بعضاً من كلام ابن تيمية، فهمتَ فهماً عاماً من كلام ابن تيمية، أما الفهم القوي الصحيح المتعمق فهذا لا يمكن؛ لأنه سيأتي بعبارات ويأتي بجمل ويأتي بأصول، وقد اعتمدها المناطقة، فإذا لم تفهم هذه الأصول على وجهها كيف تفهم الرَّد؟ كما ذكرناه فيما سبق.
فإذا كان الطالب عاطلاً عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.
ثم قال: ثم يشتغل بعلم المنطق فيحفظ مختصراً من مختصراته كالتهذيب أو الشمسية، ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن، فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك.
لأنه أشبه ما يكون بالقواعد التي يدندن حولها المعاصرون .. قواعد التفكير، هي من علم المنطق، علم البرمجة العصبية هذا نظرتُ فيه أكثرُه من علم المنطق، وبعضهم يحرِّم المنطق ويزهِّد فيه وهو يعطي دورات في البرمجة العصبية. هذا نسميه تناقضاً؛ لأنه ما درى علم المنطق، فلما جاء هذا العلم ظنه لأنه بأسلوب عصري ومترجم .. إلى آخره، فظن أنه علمٌ يتعلق بالتفكير، وكيف تفهم الآخرين .. إلى آخره.
وكله قواعد منطقية، هو مستقى من فن المنطق لكن بأسلوب عصري فقط، فالعلم هو بعينه.
على الوجه الذي ينبغي يستفيدُ به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحُجج العقلية عليه، وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو.
على ما ذكره الشيخ الأمين رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله تعالى. يعني بعد أن تفهم علم المنطق لا ينبغي للإنسان أن يتكلم في شيءٍ إلا وهو يتقنه، وأنا قدَّمت بهذه المقدمة من أجل أن تكون على بصيرة؛ لأن بعض العلوم أو بعض المسائل قد يتكلم فيها الإنسان أو الطالب على جهة التقليد، ثم من كان مقلداً الأصل أنه يكتفي بنفسه لا يُلزِم غيره؛ لأنه لا يجوز أن يُحتج لأحدٍ إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا تبنَّى قول من يرى التحريم أو التزهيد، أو لا يدرسه إلا الفارغون، أو نحو ذلك من العبارات التي قد تروج على بعض الطلاب. نقول: هذا اكتفي به في نفسك، إن أردت تأصيل المسألة فحينئذٍ لا بد أن تعلم أولاً ما هو المنطق، تدرُسه ثم بعد ذلك تنظر في هل يُقبل أو لا يُقبل.
تدرس المجاز أولاً وتعرف المجاز بتفاصيله وتمارسه ثم بعد ذلك تقول في مجاز أو ما في مجاز، أما أن تأتي هكذا وتقول: لا مجاز لا في اللغة ولا في القرآن نقول: لا.
أولاً تدرس هذا إذا أردت أن تتكلم بعلم، مقلِّد قل: أنا مقلِّد، لا إشكال فيه، يعني: نسلِّم لك إذا كنت مقلداً تقول: أنا مقلّد ونكتفي ولا نناقشك.
أما إذا أراد أن يناقش وأن يُنكر على غيره فحينئذٍ لا بد أن يكون أولاً يفهم هذا العلم أو يفهم هذه المسألة أو هذا الباب على الوجه الذي ينبغي، ليس سطحياً هكذا يأخذ كتاب معاصر ويقرأ، ثم يقول: لا مجاز، أو لا يُدرس المنطق ونحوه.
الشوكاني رحمه الله تعالى يقول (لعله وجد شيئاً من ذلك) يقول: وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علمٍ من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته، ولا يتصوره بوجهٍ من الوجوه. يعني: لا يدري عنه شيء البتة، هذا طيب إذا عرف أن ثم علماً، ولعله عرف باسمه فقط، وأنكره البعض فأخذ يُنكر معهم.
فحينئذٍ يقول رحمه الله تعالى: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي بالدليل.
يعني: في المسائل الشرعية حلال وحرام يأتي بالدليل لا إشكال فيه، وهذا موجودٌ حتى في عصرنا، يعني: هذه سلسلة (علمٌ متوارث) يأتي في مسائل الفقه فإذا به يقف بين مالكٍ والشافعي ويطالب بالدليل، بل يقف بين الصحابة، بين أبي بكرٍ وعمر ويطالب بالدليل. وهذا حسن إذا كان على وجه الإنصاف ومعرفة الأدلة والأصول، ومع الأدب والاحترام والتقدير. نقول: هذا لا إشكال فيه.
لكن إذا جاءت في بعض المسائل وخاصة في إنكار العلوم فإذا به يدندن حول ما يدندنه غيره ممن ينكر الفن، فيرى هنا الشوكاني رحمه الله تعالى أن بعض أهل العلم ممن له مكانة ويُنصف في المسائل الشرعية، إذا أراد أن يتكلم فإذا به يطالب بالدليل على وجهه، إذا جاء في بعض العلوم أنكرها على وجه العموم فلا ينظر فيها.
يقول هنا: وقد رأينا كثيراً ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي به بالدليل. فإذا سمع مسألة من فنٍ من الفنون التي لا يعرفها كعلم المنطق والكلام والهيئة ونحو ذلك نفر منه طبعُه.
لأنه ما يعرفه، جاهل أول ما يسمع شيئاً يجهلُه تنفر منه طبعُه.
ونفَّر عنه غيره وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط، ولا يفهم شيئا منها. فما أحق من كان هكذا بالسكوت، والاعتراف بالقصور، والوقوف حيث أوقفه الله تعالى، والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.
هل أدرسُ المنطق أو لا -وأنت ما درستَ-؟ تقول: لا أدري.
إن كنت مقلداً قل: قال فلان، وانقل قوله ولا إشكال فيه، تكون ناقلاً للعلم، وناقل العلم ليس من أهل العلم.
ولذلك نقل ابن عبد البر رحمه الله تعالى الإجماع على أن المقلِّد ليس من أهل العلم؛ لأنه إما عامّي وهذا قطعاً، وإما أنه متشبه بأهل العلم يعني: درس وتعلم إلى آخره، لكنه رأى أنه يجب تقليد إمام من الأئمة. هذا ليس من أهل العلم ولا يُعتد به لا بخلافه ولا بوجوده.
وحينئذٍ نقول: هذا يُعتبر من العوام.
قال هنا: والتمسك في الجواب إذا سُئل عن ذلك بقوله: لا أدري.
وإن كان ناقلاً نقل عن غيره، ولا يجعلها مسألة. يعني: يكون عليها ولاء وبراء، إما أن توافق وإما .. إلى آخره.
قال: فإن كان ولا بد متكلماً ومادحاً أو قادحاً فلا يكون متكلماً بالجهل وعائباً لما لا يفهمه، بل يُقدِّم بين يدي ذلك الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة ثم يقول بعد ذلك ما شاء.
يعني: لو درست علم المنطق أو درست المجاز وفهمته على وجهه ثم قلت: لا مجاز لا إشكال فيه، لكن لا تقل: لا مجاز وأنت ما تعرف المجاز من الحقيقة، وإنما تقلِّد غيرك. تقول: لا. قل: أنا مقلّدٌ.
وأما إذا أردت أن تحكم حكماً ابتدائياً يعني: منشَأً من عندك، فلا بد أن تعلم أولاً ما هو المجاز وتدرسه، ما تأخذ التعريف فقط لا، تعرف أنواع المجاز المرسل والاستعارة المكنية، وتجرب وتمارس .. إلى آخره، وتتلذذ بالآيات الواردة فيها، ثم بعد ذلك إذا ما طابت نفسك لهذا القول تقول: لا مجاز، ولا إشكال فيه والمسألة خلافية.
وأما ابتداءً هكذا تقول: لا مجاز. نقول: لا. وإنما تكون مقلِّداً.
المنطق كذلك دراستُه يزهِّد بعض الناس نقول: هذا إن كان عن علمٍ بالفن لا إشكال فيه، الخلاف معه لفظيٌ، وأما إن كان عن جهلٍ بالعلم وإنما قلَّد غيره، فهذا لا يُلتفت إليه.
إيساغوجي -الذي معنا في المنطق- متن إيساغوجي في المنطق يرجع هذا الاسم على شهرة هذا الكتاب ومكانته عند أهل العلم؛ لذلك كثرت شروحه وحواشيه.
يرجع هذا الاسم إلى منطقيٍ إغريقي قيل اسمه: فرفريوس. من أهالي مدينة صُوْر الساحلية الواقعة في جنوب لبنان. يعني: قبل الميلاد.
قيل: توفي سنة 233هـ ألَّف كتاباً اسمه إيساغوجي .. إيساغوجي بهذا الاسم، وهي كلمة يونانية تعني الكليات الخمس: جنس، فصل، عرَضٌ، نوعٌ، وخاص.
وَالكُلِّيَّاتُ خَمْسَةٌ دُونَ انْتِقاصْ
…
جِنْسٌ وَفَصْلٌ عَرَضٌ نَوْعٌ وَخاصْ
هذه إيساغوجي معناها الكليات الخمس؛ لأن بحث المنطق في الكليات .. المنطق كله من أوله إلى آخره مختصر في الكليات، وهذه الكليات ليست مطلقاً لأنها عقلية كما سيأتي، وإنما من حيث الإيصال إلى مجهول تصوري أو مجهول تصديقي.
إذاً: إيساغُوجي: هي كلمة يونانية في الأصل معناها -على المشهور-: الكليات الخمس وقيل غير ذلك، قيل: مقدِّمة المنطق، وقيل: المدخل إلى العلم، وقيل غير ذلك كما سيأتي في الشرح.
وقيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقلَه إلى العربية أبو عثمان الدمشقي.
إذاً: القول الأول أن الكتاب لصاحبه.
والقول الثاني: قيل: إن كتاب فرفريوس هذا نقله إلى العربية أبو عثمان الدمشقي في القرن التاسع الميلادي، ثم اختصره جماعةٌ واشتهر منهم: اختصارُ أثير الدين الأبهري -صاحبنا هذا.
إذاً: هل هو كتاب مرتجَل ابتداءً أم أنه مختصرٌ من غيره؟ فيه قولان.
واشتهر منهم اختصارُ أثير الدين الأبهري، وقيل: هما كتابان متغايران. فكتاب الأبهري غير كتاب فرفريوس اليوناني.
وهذا أو ذاك نحن لا نلتزم بتحقيق هذه المسائل، أصحاب المصنفات والكتب إلى آخره، الأسماء .. متى مات .. متى وُلد؟
نقول: هذه لا تعني طلاب العلم بالاشتغال بها، وإنما النظر في الكتاب نفسه، ولو كان صاحبه مجهولاً غير معروف.
كتاب المقصود هذا في الصرف، هذا من أنفَس ما كُتب للمبتدئين، هو أولى الاشتغال به من اللامية لابن مالك رحمه الله تعالى، لكن صاحبه غير معروف.
حينئذٍ هل لكون صاحبه مجهولاً نستغني عن الكتاب؟ نقول: لا؛ لأن المراد هذه المعلومات الموجودة صحيحة أم لا؟ إن كانت صحيحة الحمد لله كُفِينا، إن كان فيها خلْط فحينئذٍ ألحقناه بصاحبه، فلا يُلتفت إليها، لكن إذا صحَّت حينئذٍ لا يلتفت إلى المصنف.
ومتن إيساغوجي متنٌ جامعٌ لمهمات المسائل المنطقية، تلقاه العلماء بالقبول واعتمدوه إقراراً وشرحاً ونظماً منذ عهد مؤلفه، ولا يزال عمدةً إلى يومنا هذا.
لكن قد يُشتغل به في بعض البلاد دون بعض، وهذا موجودٌ وشهير وكثير أيضاً، ولذلك من نظر في كتاب أدب الطلب للشوكاني رحمه الله تعالى وهو إمام في علوم الآلة وعلوم المقاصد، تجد بوناً شاسعاً بين ما نقرأه نحن شمال الجزيرة، وبين ما يقرأه اليمنيون في الجنوب.
هم يقرءون في النحو الكافية، لا يعرفون الألفية، ولذلك هو نصَّ لما جاء متن الألفية قال: لا نعرفها ولم نشتغل بها، ونحن عندنا الاشتغال بالألفية والكافية لا نعرفها، قد نقرأ فيها مطالعات أو رجوع، لكن الكتاب المعتمد الذي يُحفظ هو الألفية.
فهذه المسائل دائماً نقول: ليست توقيفية، بعض الطلاب يقع بينهم نزاع وقد يقع هجر، وقد يستحقر الآخر لأنه ما حفظ كتاب كذا نقول: لا. هذا خطأ.
الأصل المعتمد: أن تحفظ، لا بد من هذا.
الأصل الثاني: أن تقرأ على شيخ.
هذان أصلان من حيث الإجمال متفقٌ عليهما بين أهل العلم، لكن ماذا تقرأ؟ هذا مختلف فيه، ولذلك يُعتمد الإقناع مختصر الخرقي، ثم يذهب ويأتي المقنع، ثم يذهب ويأتي اختصار .. تبدَّلت وتغيرت.
اعتمد الناس الخرقي وشرحوه وصار هو الكتاب المعتمد، أراد الله عز وجل أن ينصرف الناس عن الخرقي وُجد المقنع، فشُرح إلى آخره وهو الذي كان يُحفظ، ثم اختُصر فاعتكف الناس على المختصر.
إذاً: المسألة ليست توقيفية، فلا نجعل الاشتغال: نحفظ هذا أو نحفظ كذا الزاد، الدليل، عمدة الفقه .. هذا عبث واشتغال بما لا يعود بالفائدة على الطالب.
نعم هي على مراتب ولا شك، فالأفضل أن ينتقل الطالب إلى أعلى الدرجة، لكن إذا ما استطاع ينزل إلى ما هو دونه.
قال هنا: وهو الذي يُشتغل به في بعض البلدان إلى يومنا. هذا طبع طبعات لا تحصى كثرة، وعليه شروحٌ متعددة، فأولها شرح مؤلفه نفسه الأبهري سمَّاه: قال أقول. هذا اسم كتاب -قال أقول-، تسمى الفنقلة ذكرها صاحب البلبل في أول شرحه، الفنقلة: فإن قلتَ قلنا .. قال أقول.
قيل: طُبع سنة 1293هـ ثم وضع حاشيةً على هذا الشرح سماها مغني الطلاب في المنطق، كذلك طُبعت قديماً سنة 1260هـ
ثم توالت الشروح والحواشي على هذا الشرح.
إذاً: أول من شرح إيساغوجي هو صاحبُه، والقاعدة أو المعلومة والمطرد عند أهل العلم أن من شرح كتابه ضاع شرحُه، يبقى المتن ولكن يذهب، نستثني دائماً النخبة لابن حجر رحمه الله تعالى شرحَها فبقيَت، أما من عداه فالغالب أنه لا يُلتفت إليه. وهذه سُنة؛ لأنه إذا جاء يشرح متن غيره يأتي بالملقاط. يعني: يحاول أن يحصْحِص ويقلِّب العبارة باللوازم، وأما إذا جاء هو يفهم المراد فيشرح يختصر.
ولذلك الكافية لابن الحاجب شرحَها هو بنفسه، لكنه ما اشتهر طُبع موجود ويصوَّر، لكنه ما اشتهر إنما اشتهر شرح الرضي لأنه عقَّب كما يقول البعض: بالملقاط.
وابن مالك رحمه الله تعالى في كشف الظنون أنه أوَّل من شرح ألفيته .. ابن مالك صاحب الألفية، الكثير لا يدري أنه شرح الألفية، أين الشرح؟ مع أن المتن محفوظ وباقي، وأما الشرح فلم يبق.
هكذا كثير؛ لأنهم على ما ذكرنا سابقاً لا يلتفتون إلى الألفاظ وتقليب الجمل إلى آخره؛ لأنهم يفهمون المراد .. صاحب البيت أدرى بما فيه، وأما غيره فلا، يحصحص معه، يحاول أن يستقيم معه في العبارة ويشدد معه أحياناً، حينئذٍ لا بد من التقليب.
ومن شروح إيساغوجي شرحُ حسام الدين حسن الكاتي توفي سنة 760هـ وعلى هذا الشرح حواشي كذلك، نحن لا نشتغل كما ذكرنا فيما سبق بالحواشي كثيرة على هذا المتن.
ومن الشروح شرح زكريا الأنصاري توفي 910هـ سمّاه المطلَع أو المُطلِع ضُبط بالوجهين: مطْلَع مفْعَل، أو مُطلِع كما سيأتي، فرغ منه سنة 875هـ طُبع في بولاق سنة 1283هـ ثم بالحسينية سنة 1328هـ، ثم طُبع مراراً بعدها. وهذا يُعتبر أنفس شرحٍ لإيساغوجي وهو مختصر، اثنا عشر يوماً قد تكون كثيرة عليه، لكن نحاول ..
وقد كُتب على هذا الشرح عدة حواشي منها حاشية لشهاب الدين أحمد الغُنيمي سماها كشف اللثام عن شرح شيخ الإسلام، هذا مخطوطٌ بالأزهرية.
وحاشية العلامة الخُرشي المالكي توفي سنة 1101هـ ثم الشيخ أحمد بن علي المصري سماها المَجمَع أو المُجمِع لحل ألفاظ إيساغوجي وشرحِه المْطلَع أو المُطلِع على الضبط الذي ذكرناه.
وحاشية يوسف الحفناوي، هذه مطبوعة توفي سنة 1178هـ طُبعت في مطبعة بولاق سنة 1283هـ ثم بالمطبعة الشرفية بالقاهرة سنة 1302هـ، ثم تكرر الطبع، مطبوعة وموجودة.
وحاشية الشيخ حسن العطار شيخ جامع الأزهر كتبها 1250هـ وفرغ منها سنة 1236هـ وطُبعت في المطبعة العثمانية بالقاهرة سنة 1311هـ ثم بالميمينة سنة 1321هـ وكذلك موجود الآن، هذه غير موجودة، طبعتها مطبعة مصطفى الحلبي سنة 1347هـ ورق أصفر موجودة كذلك، وهي أنفسُ حاشيةٍ على شرح زكريا الأنصاري.
وكذا الشيخ عُلَيِّش أو عِلَيِّش أو عُلَيْش المالكي توفي سنة 1299هـ فرغ منها سنة 1283هـ وطبعت في المطبعة الوهبية بالقاهرة 1284هـ إلى غير ذلك من الشروح.
إيساغوجي إن اعتنى به المعتني فينظر في شرح زكريا الأنصاري من حيث الشروح ومن حيث الحواشي حاشية حسن العطَّار فيكتفي بذلك.
وإن نظر في السلَّم المنورق فيكتفي بما ذكرناه سابقاً ولا يحتاج إلى هذه الكتب، كثرة النظر في هذه الكتب كما ذكرنا فيما سبق ليس هو المراد في الذب -إن صح التعبير- عن دراسة هذا العلم، وإنما المراد أن يعرف ويقف على المصطلحات، ويكتفي بما يمكن الاكتفاء به، فإن وَجد من يتقن السلَّم وشروحه اكتفى به، ثم بعد ذلك التوشيح، وإن وَجد إيساغوجي فكذلك فيكتفي به على السلَّم وهكذا.
وليس المراد أن الطالب يتوسع فيه يقرأ صباح مساء أو نحو ذلك، فهذا ليس هو المطلوب.
قيل: نظمه الشيخ عبد الرحمن الأخضري وسمّاه السلَّم المنورق، اشتهر وعليه شروحٌ كثيرةٌ جداً، وشروح السُلَّم من حيث الفهم أوعب للطالب من شروح إيساغوجي. يعني: الذي يريد أن يفهم أكثر فشروحات السلَّم أوضح، ولذلك شرح القويسني سهل جداً، كذلك شرح الأخضري نفسه، وكذلك شرح الدمنهوري، كذلك شرح الملّوي المختصر .. كلها سهلة.
لكن زكريا الأنصاري فيه شيءٌ من الغموض وإن كان هذا محسوبٌ عليه هو في تصانيفه، أنه عنده شيءٌ من الغموض.
هذا ما يتعلق بمقدمة تتعلق بفن المنطق من حيث الحكم على جهة الإجمال ويأتي في موضعه سيذكر المصنف مقدمة العلم من حيث المبادئ العشرة الآتي ذكرها.
نقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
…
!!!