المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ النظر في النصوص - الاستبصار في نقد الأخبار - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٥

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ النظر في النصوص

وهذا كلّه جعاجع، والصواب إنما هو‌

‌ النظر في النصوص

، فإن وُجِد فيها دلالة بيِّنة فذاك، وإلا نُظِر في التعديل أشهادة هو أم خبر؟ أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر؟ فإن تعيَّن واحدٌ من هذه الثلاثة فذاك، وإلا نُظِر في الحكمة التي لأجلها فرّق الشارع بين الشهادة والخبر، ثم ينظر في التعديل أمثل الشهادة في تلك الحكمة، أم كالخبر؟ فهذه ثلاثة مسالك.

فأما النصوص فهاكها، فمنها حديث "الصحيحين"

(1)

عن أنس في الثناء على الميّت وفيه: مُرَّ بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"وجبت"، ثم مَرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال:"وجبت"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت [له] الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".

ولهما

(2)

من طريق أبي الأسود عن عمر نحو هذه كقصته، فقال أبو الأسود: فقلت: وما "وجبت" يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة"، فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان"، ثم لم نسأله عن الواحد.

أقول: وتفسير هذا ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أنس مرفوعًا: "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا

(1)

البخاري (1367)، ومسلم (949).

(2)

هو في البخاري (1368) دون مسلم. وأخرجه الترمذي (1059)، والنسائي (1934).

ص: 49

يعلمون منه إلا خيرًا إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون"

(1)

. ذكره الحافظ في "الفتح"

(2)

وإيضاحه: أن في "الصحيحين" أيضًا عنه صلى الله عليه وآله وسلم [ص 51]: "كلُّ أُمتي معافى إلا المجاهرين"

(3)

. وعقَّبه البخاري

(4)

بحديث ابن عمر مرفوعًا: "يدنو أحدُكم من ربه حتى يضع كَنَفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم".

وفي معنى هذا أحاديث أخرى في أنَّ من ستره الله عز وجل من المؤمنين في الدنيا لم يفضحه في الآخرة.

ومن السرِّ في ذلك ــ والله أعلم ــ أن الإنسان إذا أظهر المعصية كان ذلك مما يجرِّئ الناسَ عليها، أولًا: لأنه يكثر تحدّثهم بها فتتنبَّه الدواعي إلى مثلها

(5)

، وقد قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].

وثانيًا: لأنه إذا لم يُعاجل بالعقوبة هانت على الناس.

ثالثًا: لأن العاصي يتجرأ على المعاصي بعد ذلك؛ لأنه كان يخاف أولًا

(1)

أخرجه أحمد (13541)، وابن حبان (3026)، والحاكم:(1/ 534).

(2)

(3/ 231).

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

(6070).

(5)

تحتمل: "فعلها".

ص: 50

على شرفه وسمعته، وبعد الفضيحة لم يبق ما يخاف عليه، بل يقول كما تقول العامة:"يا آكل الثوم كل وأكثر".

رابعًا: أنه يحرص على أن يدعو الناس إلى مثل فعله؛ ليشاركوه في سوء السمعة، فتخف الملامة عنه.

خامسًا: يخرج بذلك عن قول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، لأنه إن أمر بمعروف أو نهى عن المنكر، قيل له: ابدأ بنفسك ألم تفعل كذا وكذا.

سادسًا: يكون سببًا لعدم إفادة أمر غيره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن [ص 52] مَن يُؤمر أو يُنهى يقول: لستُ وحيدًا في هذا، قد فعل فلان كذا، وفلان كذا، وأنا واحد من جملة الناس.

سابعًا: أن ذلك يقلِّل خوف الناس من الله عز وجل، يقول أحدهم: أنا من جملة عباد الله العاصين، هذا فلان وهذا فلان وذاك فلان، وقد تقدم في فصل (5)

(1)

حديث: "ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده".

وفي "الصحيحين"

(2)

: "لا تقتل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سنّ القتل".

وقد قال الله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

(1)

(ص 37).

(2)

البخاري (3335)، ومسلم (1677) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 51

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يصح أن يكون حالًا من الفاعل والمفعول معًا، فيدخل فيه أن المتبوع يحمل من أوزار مَن تَبِعه وإن لم يعلم بأنهم يتَّبِعونه، كما أنَّ ابن آدم الأول لم يكن يعلم بمن سيستنّ به في القتل.

وليس ما تقدَّم بمخالفٍ لقول الله عز وجل: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. وما في معناها؛ لأن التحقيق أنَّ المتبوع إنما عُذِّب بوزره. وبيان ذلك: أنّ أصل الإثم في المعصية مَنوطٌ بتعمّدها، وأما زيادة قدره فمَنوطٌ بما ينشأ عنها من المفاسد. ألا ترى لو أنّ ثلاثة صوبوا بنادقهم إلى ثلاثة قاصدين [ص 53] رميهم، ثم أطلقوا بنادقهم، أنّ أصل الإجرام قد وقع من كلٍّ منهم، وأما زيادة مقداره فموقوف على ما ترتَّب على ذاك الفعل، فلو أخطأ أحدهم، وأصاب آخر فجَرَح، وأصاب الثالث فقَتَل، لكان جرم الثالث أغلظ من جرم الثاني، وجرم الثاني أغلظ من جرم الأول.

وقد حرّم الله عز وجل ما حرّم ولم يفصِّل ما يترتَّب على المحرَّمات من المفاسد، فمن علم بالتحريم ثم أقدم على الفعل، فقد التزمَ ما يترتَّب عليه من المفاسد، فدخلت كلُّها في وِزْره وإن لم يعلم بتفصيلها، فتدبّر.

هذا وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل يقول: "وغفرت له ما لا يعلمون" ظاهرٌ في أن شهادتهم إنما تنفع إذا كانت مطابقةً لعلمهم لأنه إنما يغفر له ما لا يعلمون، فإن كانوا علموا شرًّا فكتموه، وقالوا: لم نعلم إلا خيرًا أو نحو ذلك، لم ينفعه ذلك، بل يضرهم؛ لأنهم شهدوا زورًا.

وبناءُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم الحكم على ثناء الناس بقوله: "وجبت" صريحٌ في أن الذين أثنوا كانوا عدولًا عنده صلى الله عليه وآله

ص: 52

وسلم، فبنى على أن شهادتهم مطابقة للواقع في أن الذي أثنوا عليه خيرًا لم يظهر منه للناس إلا الخير.

وإذا كان الإنسان بحيث لا يظهر منه لجيرانه الأَدْنين ونحوهم من أهل الخبرة إلا الخير، فهو العدل، والمثني عليه منهم بذلك مُعَدِّل له، فالمثنون [ص 54] على الميت من جيرانه وأهل الخبرة به معدِّلون له. وقد نصَّ في الحديث على أنه يكفي في ذلك الأربعة، ويكفي الثلاثة، ويكفي الاثنان، ففي هذا دليل واضح على كفاية الاثنين في التعديل.

ويبقى النظر في الواحد، فقد يقال: قد ثبت من حديث جابر وغيره أنه كان للصحابة رضي الله عنهم أن يراجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّتين، فإذا قال الثالثة، لم يكن لهم أن يراجعوه بعدها

(1)

. وشواهد هذا في الأحاديث كثير، فابتداؤه صلى الله عليه وآله وسلم بذكر الأربعة يشعر بالنهي عن السؤال عن الواحد، وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لعله إنما ابتدأ بالأربعة مستشعرًا أنهم سيراجعونه فيسألونه عن الثلاثة، ثم يراجعونه ثانية، فيسألونه عن الاثنين، ثم يقفون لما تقرَّرَ عندهم من المنع عن المراجعة فوق اثنتين.

وفي هذا دلالة ما على أنّ ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنّة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر ممّا تقدّم أنها تجب لمن لم يَظْهر منه إلا الخير، وإن لم يثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما

(1)

قصة حديث جمل جابر في الصحيح ليس فيها ذلك، ووقع التصريح بذلك عند أحمد في "المسند" (14846) قال:"كنّا نراجعه مرتين في الأمر إذا أمرنا به، فإذا أمَرَنا الثالثة لم نراجعه .. ". وانظر رسالة المؤلف في "حجيّة خبر الواحد".

ص: 53

هي لحكم

(1)

من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم "وجبت".

وقد يحتمل أن الشهادة تنفع، فمن لم يشهدوا له في الدنيا، وكان في نفسه لم يظهر للناس منه إلا الخير، فيحتاج في الآخرة إلى أن يسأله الله عز وجل، كما في حديث [ص 55] ابن عمر المتقدم

(2)

، ثم يقول له:"إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم"، ومن شهدوا له لم يحتج إلى هذا السؤال. والعلم عند الله عز وجل.

وقد يُقال: إنّ قول عمر: "ثم لم نسأله عن الواحد" يُشعر بأنه لم يفهم من الحديث أنّ الواحد لا يكفي.

وأقول: إذا صحّ أنّ في الحديث إشارة إلى ذلك لم يضرها أن يتردّد فيها الصحابي.

لكن لقائل أن يقول: سلّمنا إشارة ما إلى أنه لا يكفي ثناء الواحد على الميت في الحكم له بالجنة، ولكن لا يلزم من هذا عدم الاكتفاء بتعديل الواحد للشاهد والمخبر، فإنَّ الحكمَ للميت بالجنة لا ضرورةَ إليه ولا كبير حاجة. فإذا كان من أهل الجنة ولم يحكم له الناس بذلك، لم يترتَّب على ذلك مفسدة، بخلاف الشهادات والأخبار، فإنّ الضرورة فيها قائمة، وفي ردّ شهادة العدل وخبر الصادق ما لا يخفى من المفاسد، فتأمّل.

ومن النصوص: ما وقع في قضية الإفك من سؤال النبي صلى الله عليه

(1)

تحتمل: "بحكم".

(2)

(ص 48).

ص: 54

وآله وسلم أسامة عن عائشة، فأخبر أنه لا يعلم إلا خيرًا، وكذلك سأل بريرة، وسأل أيضًا زينب بنت جحش وكلتاهما أثنت خيرًا، وبنى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك قوله على المنبر:"من يعذرني مِن رجلٍ قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما عَلِمتُ على أهلي إلا خيرًا"

(1)

.

وفي الاحتجاج بهذا نظر؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان هو نفسه خبيرًا بعائشة، وإنما استظهر بسؤال غيره؛ لئلا يقول المنافقون: إنَّه لحبِّه إيّاها

(والعياذ بالله).

وهذا ــ والله أعلم ــ من الحكمة في تأخير الله عز وجل إنزال براءتها.

وقال البخاري في "الصحيح"

(2)

: " (باب إذا زكى رجلٌ رجلًا كفاه)، وقال أبو جميلة: وجدت منبوذًا فلما رآني عمر قال: عسى الغُوَير أبؤسًا، كأنّه يتهمني. [ص 56] قال عريفي: إنه رجل صالح، قال: كذاك، اذهب وعلينا نفقته".

وهذا الأثر أخرجه مالك في "الموطأ"

(3)

، وفيه بعد قوله "كذاك" قال: نعم. فقال عمر: اذهب فهو حُرّ ولك ولاؤه، وعلينا نفقته.

والحجة فيه: أن عمر قَبِل تعديل العريف وحده، وبنى على ذلك تصديق أبي جميلة في أنّ ذلك الطفل كان منبوذًا، وأقرّه في يده، ولا يقرّ اللقيط إلا في يد عدل، وحكم له بولائه، وأنفق عليه من بيت المال.

(1)

أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (277) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

كتاب الشهادات، باب 16 قبل حديث (2662). معلقًا، ووصله البيهقي:(6/ 201). وانظر "فتح الباري": (5/ 275).

(3)

(2155).

ص: 55

وقد أُجيب عن هذا بأنه مذهبٌ لعمر، مع أنّ أبا جميلة إما صحابي، وإما من كبار التابعين، فلا يلزم من الاكتفاء في تعديله بواحد أن يُكْتَفى بذلك فيمن بعد ذلك.

وهذا الجواب ضعيف، والظاهر أنّ هذا مذهب عمر، فإن لم يكن في النصوص ما يخالفه، ولا نُقِل عن الصحابة ما يخالفه صحّ التمسُّكُ به.

ثم ذكر البخاري

(1)

في الباب حديث أبي بكرة: أثنى رجلٌ على رجل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:"ويلك قطعت عنقَ صاحبِك، قطعتَ عنقَ صاحبِك" مرارًا، ثم قال:"من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه ولا أزكِّي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه".

قال ابن حجر في "الفتح"

(2)

: "ووجه احتجاجه بحديث أبي بكرة: أنّه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد؛ لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح. واعترضه ابنُ المنيِّر بأنّ هذا القدر كافٍ في قبول تزكيته، وأمّا اعتبار النصاب فمسكوت عنه. وجوابه: أنّ البخاريَّ جرى على قاعدته بأنّ النصاب [ص 57] لو كان شرطًا لذُكِر؛ إذ لا يُؤخَّر البيانُ عن وقت الحاجة".

أقول: لا يخفى حال هذا الجواب، فإنه ليس في الحديث أنّ الممدوح شهد أو أخبر، ولا أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بنى على مدح المادح

(1)

(2662).

(2)

(5/ 276).

ص: 56

حكمًا يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل.

نعم الأشبه بدقة نظر البخاري ــ رحمه الله تعالى ــ ولُطْف استنباطه، أنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمادح:"قطعتَ عنقَ صاحبِك" ثناءً على الممدوح؛ فإنّ قَطْع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي:"إنّ الآفة على الممدوح أنّه لا يأمن أن يُحْدِث فيه المدح كِبرًا أو إعجابًا، أو يتّكِل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأنّ الذي يستمرّ على العمل غالبًا هو الذي يعدّ نفسَه مقصّرًا" ذكره في "الفتح"

(1)

.

فكأنّ البخاري ــ رحمه الله ــ فهم أنّ المدح إنّما يقطع عنق من له عنق، والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"قطعت عنق صاحبك" دلالة على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بأنّ للممدوح عنقًا، يخشى أن يقطعها المادحُ بمدحِه، والعنق هي العدالة، فقد تضمّن ذلك القضاء بأنّ الممدوح عدل. وهذا ــ على لُطْفه ــ لا يكفي للحجة، وفيه بَعْد ذلك أنّه ليس في الحديث أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف الممدوح، حتّى يُقال:[ص 58] إنّه إنّما أثبت له سلامة العنق بثناء ذاك المادح.

وأمّا المسلك الثاني: فالأقرب أنّ تزكية الشاهد شهادة، وأما تزكية المخبر فإن كانت ممّن جاوره وصَحِبه مدّة فظاهرٌ أنّها خبر، وإن كانت ممّن تأخّر عنه كتعديل الإمام أحمد لبعض التابعين فقد يُقال إنها حكم؛ لأنّ أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأئمة

(2)

، لبيان

(1)

(10/ 478)، وهو في "الإحياء":(3/ 170).

(2)

تحتمل: "الأمة".

ص: 57

أحوال الرواة ورواياتهم. وقد يقال: إنّها فتوى لأنّها خبر عمّا أدّى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكمًا شرعيًّا فتُبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى.

والأقرب أنّها خبر أيضًا.

وأمّا المسلك الثالث: فقد شرحت في "رسالة الاحتجاج بخبر الواحد"

(1)

بعضَ ما ظهر لي من الحكمة في أنّه لا يكفي في الزنا أقلّ من أربعة شهود، وفي الدماء وغيرها بشاهدين، وفي الأموال بشاهد ويمين المدَّعِي عند قوم، والاكتفاء في الخبر بواحد. والذي يظهر من ذلك: أنّ تعديل الشاهد كالشهادة بالدماء ونحوها في أنه لا يكفي إلا اثنان، وأنّ تعديل المخبر كالخبر.

وعلى كلّ حال فخبر من عدَّلَه اثنان أرجح من خبر من لم يعدِّله إلا واحد، وإن قامت الحجةُ بكلٍّ منهما، والله أعلم.

[ص 59] هذا كلّه حال المعدِّل، فأمّا الجارح فشرطه: أن يكون عدلًا، عارفًا بما يوجب الجرح إن جَرَح ولم يفسِّر، وقلنا بقبوله. واشترط بعضُهم أيضًا أن لا يكون بينه وبين المجروح عداوة دنيوية شديدة، فإنها ربما أوقعت في التحامل، ولا سيّما إذا كان الجرح غير مفسّر. وزاد غيره: العداوة الدينية، كما يقع بين المختلفين في العقائد، وقد بسطتُ القولَ في ذلك في "النقد البريء"

(2)

.

(1)

(ص 28 فما بعدها).

(2)

هذا العنوان القديم لكتاب "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل". وانظر البحث فيه: (1/ 87 - 98).

ص: 58

فرع

تقدَّم أنّ من شَرْط المعدِّل أن يكون ذا خبرة بمن يعدِّله، وذكروا أنّ الخبرة تحصل بالجوار أو الصحبة أو المعاملة. ولا شكّ أنّه لا يكفي جوار يوم أو يومين، وكذلك الصحبة، وكذا المعاملة لا يكفي فيها أن يكون قد اشترى منه سلعة أو سلعتين، بل لا بدّ من طول الجوار أو الصحبة أو المعاملة مدّةً يغلب على الظنّ حصول الخبرة فيها، والمدار في ذلك على غَلَبة ظنّ المزكِّي الفَطِن العارف بطباع الناس وأغراضهم.

واشتراط الخبرة بهذا التفصيل في مزكِّي الشاهد لا إشكال فيه، وإنّما الإشكال [ص 60] في تزكية الرواة، فإنّ ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدّمين غالبه من كلام من لم يُدْرِكهم، بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلّم في التابعين فيوثِّق ويضعِّف.

قد يتوهَّم من لا خبرةَ له أنّ كلام المحدِّث فيمن لم يدركه إنّما يعتمد النقلَ عمّن أدركه، فالمتأخّر ناقلٌ فقط، أو حاكم بما ثبت عنده بالنقل

(1)

.

وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل، فإنّ المتأخِّر يذكره، فإن لم يذكره مرّة ذكره أخرى، أو ذكره غيره. والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم:"ثقة" أو "ضعيف" أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقلٌ يوافق ذلك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم.

(1)

وهذا التوهم ساقه المؤلف على شكل أسولة في (الرسالة الثالثة) من هذا المجموع ولم يجب عليها هناك، فخذ جوابها من هنا.

ص: 59