المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نبذة في وصية طالب العلم - شرح المنظومة الميمية في الآداب الشرعية - جـ ٣

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌نبذة في وصية طالب العلم

وذكرنا ما ذكره أبو بكر الآجري في كتابه (أخلاق العلماء في منة أهل العلم على أهل الجهل) يعني تصور أنك في بلد ما فيه عالم، وأشكل عليك أدنى مسألة من مسائل الدين أو من مسائل الدنيا، كيف تنحل هذه المسألة؟ كيف تنحل هذه المشكلة؟

هم الهداة إلى أهدى السبيل وأهـ

ـل الجهل عن هديهم ضلوا لجهلهمِ

وفضلهم جاء في نص الكتاب وفي

الحديث أشهر من نار على علمِ

النار إذا كانت في بطن وادي ما ترى، لكن إذا كان على علم، على رأس جبل يراها الناظر من بعيد، فالنصوص نصوص الكتاب والسنة التي جاءت في فضل العلم وفضل العلماء أشهر من نار على علم، يعني من النار التي توقد فوق رأس جبل.

نعم.

‌نبذة في وصية طالب العلم

يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً

فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ

وقدس العلم واعرف قدر حرمته

في القول والفعل والآداب فالتزم

واجهد بعزم قوي لا انثناء له

لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم

والنصح فابذله للطلاب محتسباً

في السر والجهر والأستاذ فاحترم

ومرحباً قل لمن يأتيك يطلبه

وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهم

والنية اجعل لوجه الله خالصة

إن البناء بدون الأصل لم يقم

ومن يكن ليقول الناس يطلبه

أخسر بصفقته في موقف الندم

ومن به يبتغي الدنيا فليس له

يوم القيامة من حظ ولا قسم

كفى به من كان في شورى وهود وفي الـ

إسراء موعظة للحاذق الفهم

إياك واحذر مماراة السفيه به

كذا مباهاة أهل العلم لا ترم

فإن أبغض كل الخلق أجمعهم

إلى الإله ألد الناس في الخصم

والعجب فاحذره إن العجب مجترف

أعمال صاحبه في سيله العرم

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

وقدم النص والآراء فاتهم

قدم وجوباً علوم الدين إن بها

يبين نهج الهدى من موجب النقم

وكل كسر الفتى فالدين جابره

والكسر في الدين صعب غير ملتئم

دع عنك ما قاله العصري منتحلاً

وبالعتيق تمسك قط واعتصم

يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:

"نبذة" قليلة مختصرة يستفيد منها طالب العلم، وهي عبارة عن مجموعة وصايا لطالب العلم، يحثه على الازدياد من طلب العلم، وينير له الطريق، ويرسم له بعض المعالم التي عليه أن يسلكها.

يقول:

نبذة في وصية طالب العلم

ص: 6

يقول:

يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً

فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ

لأنك في طريقك إلى أن تكون من الهداة من العلماء الذين تقدم ذكر فضلهم في النصوص، وفي كلامه السابق رحمه الله.

"لا تبغي به بدلاً" ويوجد -ولله الحمد- من طلاب العلم من صبروا وصابروا وثابروا واستمروا السنين كما أنه وجد من ترك الطلب لا سيما لما شاعت واشتهرت التجارة الرابحة في أسرع مدة وأقصر وقت، كتجارة الأسهم، يعني فقدنا بعض الطلبة، يعني لا ننكر أننا خسرنا بعض الطلبة، فقد تركوا وابتغوا بدلاً من العلم، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وانساقوا وراء الأسهم، ثم بعد ذلك حصل ما حصل من الكوارث والخسائر الفادحة، وندموا ولات ساعة مندم، وصعب عليهم الرجوع، وبعضهم رجع، ولذا يقول:

يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً

فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ

ما الذي كسبه من أعرض عن العلم بعد أن حفظ كتاب الله وشيئاً من سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وحفظ بعض المتون، ثم انصرف عنها إلى البديل إلى الحطام الفاني، ثم نسي ما حفظ، ما نسبة ربحه إلى خسارته، لا نسبة بين الخسارة والربح في هذه الصورة ألبتة، لا نسبة بين خسارته وربحه، افترض أنه كسب الدنيا بحذافيرها، ولا يعرف قدر الدنيا إلا العارفون بالله -جل وعلا- وبموعوده، وما ثبت عنه وعن نبيه عليه الصلاة والسلام، المطلعون على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وكيفية عيشه ونظرته إلى هذه الدنيا.

سعيد بن المسيب لما جاءه الخاطب يخطب ابنته للوليد بن عبد الملك ابن الخليفة، وقال له: جاءتك الدنيا بحذافيرها، ما قال: فرصة، نتفرغ للعلم، والدنيا تأتي من هذا الطريق، قال: لا، جاءتك الدنيا بحذافيرها، قال: إذا كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة فماذا ترى يقص لي من هذا الجناح، هؤلاء هم الذين يعرفون قدر الدنيا.

يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً

فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ

وقدس العلم. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

العلم جاءت النصوص بتقديسه وتعظيمه والرفع من شأنه، فارفع من شأنه وقدسه وعظمه في نفسك وفي غيرك.

وقدس العلم واعرف قدر حرمته

في القول والفعل والآداب فالتزمِ

ص: 7

في القول والفعل، لا يكون تقديسك للعلم وحثك على العلم والتعلم والتعليم بمجرد القول، لكنك أعمالك تخالف ما تقول، فكأنك تدعو بقولك، وتصد بعملك، كما هو حالنا وحال كثير ممن يتصدى لهذا الأمر، إذا قارنت بين العلم والعمل وجدت البون شاسعاً، فكأن من يتحدث في هذه الموضوعات يحث الناس بلسانه، لكن ماذا عن العمل، ولا شك أن صرف الناس بالعمل أعظم من جلبهم بالعلم والقول فقط؛ لأن الناظر إلى العمل يقول: لو كان العمل بهذا العلم نافعاً لما ترك العمل به، ولكان أولى الناس بالعمل به لمعرفته، وتمام خبرته بفضل هذا العلم لا بد أن يعمل به، وما دام لا يعمل به هو فلا شك أن العمل به غير مجدٍ، إذاً تعلمه ليس بمجدٍ، فهو يحث الناس بقوله، ويصرفهم بعمله، نظير ذلك الطبيب مهما نصح في التحذير من الدخان وهو يدخن ما يستفاد منه، يستفيد المريض إذا قال له: لا تدخن وهو يدخن؟ ما يستفاد منه، ومهما قال العالم: احرصوا على الأوقات، واغتنموا الأوقات وهو يضيع أوقاته يمين وشمال وفي القيل والقال، واحرصوا على قيام الليل وهو ما يقوم الليل، احرصوا على الصوم وهو ما يصوم هذا ما فيه فائدة.

وقد العلم واعرف قدر حرمته

في القول والفعل والآداب فالتزم

يعني تأدب بأدب العلم، يعني لا يليق بطالب علم أو بعالم أن يكون وضعه مثل وضع عامة الناس، ويوجد ممن يحمل شيئاً من العلم، وإذا جلست في مجلس لا تجد أي فرق بينه وبين العوام.

واجهد بعزم قوي لا انثناء له

. . . . . . . . .

اجهد في تحصيل العلم والعمل به بعزم قوي لا انثناء له، لا تنثني لا يثنيك أي شيء من المغريات، لا يثنيك لين الفراش، ولا جمال الزوجة، ولا طيب الهواء والجو، ولا متعة التنزهات والرحلات.

واجهد بعزم قوي لا انثناء له

لو يعلم المرء قدر العلم لم ينمِ

يعني لو أن الإنسان يدرك حقيقة هذا العلم ما تهنأ بنوم؛ لماذا؟ يريد أن يستغل هذه الساعات التي ينامها في تحصيل أكبر قدر ممكن من العلم.

والنصح فابذله للطلاب محتسباً

. . . . . . . . .

ص: 8

يعني على العالم أن يبذل النصح لطلابه، على العالم أن ينصح لطلابه، والنصيحة كما جاء في الحديث:((الدين النصيحة)) وأولى الناس بنصحك أهل بيتك ومعارفك وأقاربك وجيرانك وطلابك، الأقربون أولى بالمعروف {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [(214) سورة الشعراء] والطلاب بمنزلة الأولاد، فعلى العالم أن يبذل النصيحة لهم، كما أن على الطالب ألا يضجر الشيخ، إذا رأى أن الوقت غير مناسب، أو أن الشيخ غير متهيئ للإكثار من الأسئلة يترك، تجد بعض الطلاب –هداهم الله- ولا شك أن هذا باعثه الحرص على الإفادة والاستفادة من الشيخ، مجرد ما يسلم الشيخ من الصلاة قبل أن يؤدي الأذكار يأتي ليسأل، ويصعب أن يقول الشيخ باستمرار: انتظر قليلاً، دعنا نذكر الله وكذا، تجد بعض أهل العلم إذا سلم جهر بالذكر على غير عادته ليخبر الطالب اللي بجنبه ومن عن يمينه واللي بيساره أن المسألة ما زالت يعني، انتظر قليلاً، وبعض الطلاب ما يقدر هذه الأمور، وبعضهم إذا رأى الشيخ يقرأ قرآن، جالس في المسجد يقرأ القرآن، أكثر عليه من الأسئلة وأنهى الوقت بأسئلته وبمشاكله وقضاياه، وإذا قال له الشيخ: أنا والله مشغول الآن، قال: كيف مشغول؟ جالس يقرأ قرآن ومشغول؟ ويش معنى مشغول؟ يعني ما يقدرون المسائل قدرها، وهذا فيه إحراج للشيوخ، وبعض الطلاب ما يدرك مثل هذه الأمور، يريد أن يأخذ حاجته، والمطالبة من الطرفين، لا يطالب طرف على حساب طرف آخر، الشيخ عليه أن يبذل، على الشيخ أن يبذل، وعلى الطالب أن يرفق بشيخه، ولا يضجر شيخه؛ لأن الشيخ ظروفه مثل ظروف غيره، أحياناً يأتي بعد درس وينصرف إلى بيته فيتبعه بعض الطلاب ويوقفونه عند الباب، يمكنه محتاج للدورة، والطالب ما يقدر هذه الأمور، أو يكون بعد صلاة ظهر أو عصر والشمس محرقة، ويوقف الشيخ في الشمس، هذا موجود من كثير من الطلاب، فيصعب على الشيخ أن يصرفهم بأسلوب غير مناسب، وبعض الطلاب لا يفيد به إلا التصريح، فكما أن الشيخ مطالب بالبذل والصبر على الطلاب ومحض النصح للطلاب، أيضاً الطرف الآخر مطالب، وفي آداب العالم والمتعلم ما يكفي ويشفي، لكن كثير من طلاب العلم في غفلة عن دراية هذه الأمور، ومراجعة هذه الأمور، والصحابة

ص: 9

كانوا على أدب رفيع قوي مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نهوا عن الإكثار من الأسئلة، أسئلة يستفيدون منها، وقد أمر الله -جل وعلا- بالسؤال {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [(43) سورة النحل] لكنهم نهوا عن الإكثار من الأسئلة التي تضجر، ابن آدم مركب من أمور من لحم ودم ومشاعر ومن .. ، المقصود أنه يضجر مهما كان، إنما أنا بشر عليه الصلاة والسلام مع ما جُبل عليه من خلق ومن حلم ومن تواضع لكن مع ذلك نهوا عن الإكثار من المسائل لهذا الأمر، فكانوا يفرحون إذا جاء الرجل العاقل من أهل البادية ليسأل النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يستفيدوا.

فعلى طالب العلم أن يتحين الأوقات المناسبة، ولا يضجر الشيخ، كما أن على الطرف الآخر على الشيخ أن يبذل، أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يبين ولا يكتم، على ما ستأتي الإشارة إليه في هذه المنظومة -إن شاء الله تعالى-.

والنصح فابذله للطلاب محتسباً

في السر والجهر والأستاذ فاحترمِ

النصح للطلاب لا بد منه، إذا جاء طالب يستشير في كتاب يقرأ على العالم أن ينظر مستوى هذا الطالب ويشير إليه بما يناسبه، ولا ينظر إلى مصلحته هو، إنما ينظر إلى مصلحة الطالب وينصح للطالب، بعض الشيوخ إذا جاءه الطالب قال: أريد أن أقرأ عليك، ويش تختار لي أي كتاب؟ فبعض الشيوخ يختار ما يحتاجه من الكتب هو، هذا ليس من النصح للطالب، وقد يكون هذا الكتاب غير مناسب للطالب، فمن باب النصيحة وبذل النصيحة لهذا الطالب أن ينظر الشيخ فيما ينفع الطالب.

والنصح فابذله للطلاب محتسباً

في السر والجهر والأستاذ فاحترمِ

ومرحباً قل لمن يأتيك يطلبه

وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهمِ

من يأتيك يطلبه من أهل البلد، وليكن عنايتك وترحيبك بمن هو أبعد فأبعد عن أهل البلد؛ لأن أهل البلد ما تعبوا مثل تعب من جاء من الآفاق، فهؤلاء لا شك أنهم أهل للعناية والرعاية.

ومرحباً قل لمن يأتيك يطلبه

وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهمِ

ص: 10

أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بسند فيه كلام لأهل العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيأتيكم أقوام يطلبون العلم فإذا رأيتموهم فقولوا: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم)) والحديث لا يسلم من ضعف.

والنية اجعل لوجه الله خالصة

إن البناء بدون الأصل لم يقمِ

ما في بناء بدون قاعدة وبدون أساس، والنية هي الأصل، والإنسان يؤجر على نيته أكثر من أجره على عمله، العمل المجرد عن النية لا أجر فيه، بينما النية المجردة عن العمل إذا وجد ما يمنع منه يرتب عليها الأثر.

والنية اجعل لوجه الله خالصة

إن البناء بدون الأصل لم يقمِ

ومن يكن ليقول الناس يطلبه

أخسر بصفقته في موقف الندمِ

أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل تعلم العلم وتعب في تحصيله ثم علم الناس، فيجاء به يوم القيامة فيقال: ماذا صنعت؟ فيقول: والله تعلمت وتعبت وسهرت وبذلت ثم علمت الناس، وهديت الناس، وأرشدت الناس ثم يقال له: كذبت، إنما فعلت ذلك ليقال: عالم، ثم يسحب على وجهه ويلقى في النار، والثاني المجاهد يؤتى به فيقال له: ماذا صنعت؟ فيقول: جاهدت في سبيلك حتى استشهدت، فيقال: كذبت، إنما قاتلت ليقال: جريء شجاع، وقد قيل، ثم يسحب على وجهه فيلقى في النار، والثالث: المنفق صاحب الأموال الذي ينفقها في وجوه الخير فيما يبدو للناس، ثم يقال له: ماذا صنعت؟ فيقال: جمعت الأموال وأنفقتها .. ، ما من سبيل ترضاه إلا وقد أنفقت فيه، فيقال له: كذبت، إنما أنفقت ليقال: جواد، فيسحب على وجهه فيلقى في النار.

فهؤلاء الثلاثة هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فالأمر عظيم جد خطير، يعني ما هي المسألة سهلة لا يمكن أن تخرج من هذا الشأن كفافاً لا عليك ولا لك، لا، فإما أن تكون في الدرجات العليا يتراءك أهل الجنة كالكوكب الدري الغابر في السماء من عظم المنزلة ورفعت الدرجات، أو تكون أول من تسعر به النار يوم القيامة، فاختر لنفسك.

ومن يكن ليقول الناس يطلبه

أخسر بصفقته في موقف الندمِ

حين لا ينفع الندم.

ومن به يبتغي الدنيا فليس له

يوم القيامة من حظ ولا قسمِ

كفى به من كان في شورى وهود وفي الـ

إسراء موعظة للحاذق الفهمِ

ص: 11

الذي في الشورى قول الله -جل وعلا-: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [(20) سورة الشورى] معلق بالإرادة، الإرادة هي النية، والتي في هود قوله:{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [(15 - 16) سورة هود].

كفى به من كان في شورى وهود وفي الـ

إسراء موعظة للحاذق الفهمِ

والذي في الإسراء: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء} [(18 - 20) سورة الإسراء] يعني بعد أن بين للفريقين طريق النجاة وطريق الشقاء {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [(10) سورة البلد] ولم يبق لأحد {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} [(20) سورة الإسراء].

إياك واحذر مماراة السفيه به

كذا مباهاة أهل العلم لا ترمِ

روى ابن ماجه والترمذي بسند فيه كلام عن ابن عمر مرفوعاً: ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار)) نسأل الله العافية.

فإن أبغض كل الخلق أجمعهم

إلى الإله ألد الناس في الخصمِ

في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) الخصم دائم الخصومة (فعل) صيغة مبالغة (فعل) مثل حذر، الدائم الخصومة، والألد هو الذي يدعي الباطل ولا يقبل الحق، يجادل عن الباطل بقوة، وإذا عرض عليه الحق وبين له لم يقبله.

ص: 12

والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ

أعمال صاحبه في سيله العرمِ

لماذا؟ لأن المعجب بعمله مزكٍ لنفسه ولعمله، مترفع عن الخلق، متكبر عليهم، يرى أن له فضل على الناس.

والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ

أعمال صاحبه في سيله العرمِ

محبط للأعمال -نسأل الله السلامة والعافية-.

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

. . . . . . . . .

يعني العلم كثير.

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

. . . . . . . . .

لأن العلم بحور، لا يمكن أن يحاط به، إذا كان علم موسى والخضر في علم الله -جل وعلا- مثل ما نقر العصفور من البحر، والله -جل وعلا- يقول لجميع المخلوقين:{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] يعني إذا ضم علم جميع المخلوقين ما هو بالنسبة لعلم الله -جل وعلا- إلا شيء يسير، فعلى طالب العلم أن يبدأ بالمهم المهم، وتجد بعض الطلاب عندهم كتب كثيرة جداً، والتحصيل أقل، وكثرة الكتب ليست علامة على كثرة العلم أبداً، بل هي في الغالب مشغلة عن التحصيل، تجده هذا اليوم يأخذ الكتاب يقرأ له كلمة، يأخذ هذا الكتاب ويقرأ صفحة، ثم يتنقل من علم إلى علم، ينظر في علوم لا حاجة له بها، ويترك الأهم فلا يلتفت إليه، فيكون هذا على حساب هذا، والواقع يشهد بهذا، يعني إذا ذهبتم إلى المكتبات تجدون كتب تُحقق من قبل طلاب علم، هي أبعد ما تكون عن الأهمية، يعنى بعض الطلاب بجزء بيبي، وجزء الألف دينار، وجزء كذا، وإذا سألته عن أوضح حديث في صحيح البخاري ما يدري، ليست له عناية في البخاري، هذا ابتدأ بالمهم المهم؟ لا، هذا اشتغل بالمفضول عن الفاضل.

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

. . . . . . . . .

لأن المسألة مسألة صعود وترقي، يبدأ بالمهم فالمهم؛ لأن العمر لا يستوعب كل شيء، ما يقول: والله أنا با أخر هذا العلم إلى أن أفرغ له، عليه أن يقدم ما يحتاج إليه في كل علم من العلوم، بدءاً من الدرجة الأولى، ثم الثانية، ثم إلى أن يصعد إلى السلم الذي أو رأس السلم الذي رتبه أهل العلم لطبقات المتعلمين.

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

وقدم النص. . . . . . . . .

النص من الكتاب والسنة يقدم على قول كل أحد.

ص: 13

"والآراء فاتهمِ" يعني بدلاً من أن تقدم هذه الآراء، ويحكم بها على النصوص قدم النصوص واتهم الآراء، يعني بعض المقلدة إذا أحضر له أو ذكر له الدليل الصحيح من الكتاب أو من السنة قال: ولو، لو كان .. ، يعني أنت أعرف من الإمام أحمد، أو من الإمام أبي حنيفة أو من الإمام مالك، أنت أعرف منهم؟ يعني يخفى عليهم هذا الدليل؟ ما يمكن يخفى، تعرفه أنت، أو فهمك أفضل من فهم الإمام أحمد أو غير الإمام أحمد؟

المقصود أن الإنسان إذا سمع قال الله وقال رسوله يقف، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة هم أولو العرفانِ

وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

وقدم النص والآراء فاتهمِ

الآراء التي تخالف النصوص اتهمها لا تتهم النص؛ لأن بعض الناس يتهم النص أنه يحتمل تأويل، يحتمل نسخ، يحتمل أنه مخصص، يحتمل أنه مقيد، ومع ذلك يعمل بأقوال الأئمة، ولا يعني هذا أن أقوال الأئمة تهدر، لا، يستفاد منها، لكن الأقوال والاجتهادات والأقيسة في مقابل النصوص فاسدة الاعتبار عند أهل العلم، "والآراء فاتهمِ".

قدم وجوباً علوم الدين إن بها

يبين نهج الهدى من موجب النقمِ

قدم علوم الدين، يعني طالب العلم عنده مكتبة فيها كل الفنون، فيها التفسير، وفيها الحديث، وفيها العقيدة، وفيها الفقه، وفيها التاريخ، وفيها الأدب، وفيها وفيها وفيها، فيها الطب، فيها رحلات، وفيها موسوعات، كل العلوم موجودة، فيها الدواوين، فيها الشعر والنثر والقصص وغيرها، والمجلات، والذكريات، وفيها من كل شيء، ما الذي العناية به أهم؟ يقول:

ص: 14

"قدم وجوباً علوم الدين" علوم الدين هي التي جاءت النصوص بمدحها، ومدح أربابها وحامليها، أما العلوم الأخرى فهي قد تكون مما يعين، قد يكون فيها إعانة على التحصيل من بعض الوجوه، يعني تقرأ في كتب التاريخ؛ لأن فيها متعة وفيها عبرة، فيها عبرة التاريخ كما يقولون: يعيد نفسه، والأسباب التي انعقدت لهلاك الأمم السابقة إذا وجد نظائرها النتائج واحدة، السنن الكونية لا تتغير، ولذا إذا لو قرأ طالب العلم في الجزء السادس من نفح الطيب وطبق على وضعنا الحالي القائم يضع يده على قلبه، يقول: اللهم سلم سلم، التاريخ يعيد نفسه، بنفس الأسلوب الذي نعيشه الآن، وذهب أولئك نهباً للأعداء وفريسة للأعداء، استولي على محارمهم وعلى أملاكهم، وشردوا وقتلوا، والنتائج واحدة، السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل، ونعيش ما يقرب من عيشهم الآن.

قدم وجوباً علوم الدين إن بها

يبين نهج الهدى من موجب النقمِ

طالب العلم أيضاً قد يحتاج إلى شيء من الاستجمام والراحة والاطلاع على أخبار الأمم الماضية واللاحقة والمعاصرة يحتاج إلى أن يخرج قليلاً من باب الاستجمام، ومن باب توسيع الأفق؛ لأن بعض المسائل تحتاج إلى شيء من السعة، يعني لو ضربت مثال واحد لبان لنا أن أهل العلم لم يهملوا العلوم الأخرى، لكن يجعلونها خادمة لعلوم الدين، لا يجعلونها أصول قائمة برأسها ينبغي أن تخدم، لا، يجعلونها خادمة لعلوم الدين، فالمثال الذي تقدم في ألفاظ الجرح والتعديل قول أبي حاتم الرازي في جبارة بن المغلس بين يدي عدل، الحافظ العراقي يقول: هذا تعديل، يعني أبو حاتم يوثقه، ويقرأها:"بين يديَّ عدلٌ" وهذا توثيق، لكن الحافظ ابن حجر أوجس خيفة من هذه اللفظة؛ لماذا؟ لأنها من بين أقوال أهل العلم التي كلها تنصب في تضعيف هذا الرجل، فكيف يقول أبو حاتم وهو أشدهم:"بين يدي عدل" فصار يبحث، فوجد في أدب الكاتب ما فيه طرف الخيط، وأن شخصاً يقال له: العدل بن جزء بن سعد العشيرة على شرطة تبع، ثم وجد أيضاً في الأغاني ما يدل على ذلك بزيادة، وأن تبع إذا أراد قتل شخص قال: استلمه يا العدل، وهو على شرطته، فيقول الناس:"بين يدي عدل" يعني هلك، خلاص انتهى.

ص: 15

وفي الأغاني أيضاً قصة أخرى إبراهيم بن هارون الرشيد كان على مأدبة، ومعه القائد طاهر، فأخذ هذا الصبي هندبات إما كوسة وإلا قرع وإلا شيء من هذا، أخذها من الطعام فضرب بها عين طاهر، طاهر أعور، ضرب العين السليمة، فذهب يشكوه إلى والده، فقال: هذا ما فعل هذا الصبي بعيني السليمة، والأخرى بين يدي عدل، يعني تالفة، يعني صرنا نستفيد من هذه الكتب، لكن فائدة يعني فائدة لا تعادل حجم هذه الكتب وما فيها من شرور، فيها شرور، وفيها أيضاً فيها مجون، وفيها كلام سخيف ومخل بالأدب، ولا يليق بطالب العلم، لكن مع ذلك يستفاد منها على إقلال، يعني ما يوغل فيها، وتجعل ديدن وإلا ورد كما يفعله بعض الناس، بعض الناس يقرأ الأغاني مراراً، أو يقرأ مثلاً كتب الأدب المطولة والمختصرة، ويعنى بالموسوعات وبالرحلات وبالذكريات، ويترك قال الله قال الرسول، هذا ليس بصحيح، ولذا قال:

قدم وجوباً علوم الدين إن بها

يبين نهج الهدى من موجب النقمِ

وكل كسر الفتى فالدين جابره

والكسر في الدين صعب غير ملتئمِ

كل كسر سواءً كان حسي أو معنوي، سواء انكسر أحد أعضائه ينجبر هذا، والدين يعوض، وسواء كان معنوي أيضاً وجد من يسخر منه، وجد من يهزأ به، هذا أمره يسير؛ لأنه معلق بالدنيا، والدنيا ليست شيء ممر.

وكل كسر الفتى فالدين جابره

والكسر في الدين صعب غير ملتئمِ

لا سيما إذا لم يتدارك بتوبة وأوبة ورجعة.

دع عنك ما قاله العصري منتحلاً

وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ

ص: 16

"دع عنك ما قاله العصري منتحلاً" يعني من علومهم المعاصرة التي لا تعين على ما يورث الخشية لله -جل وعلا- من علوم الكتاب والسنة وعلوم الدين التي جاء الحث عليها، فعلوم المعاصرين يستفاد منها في أمور الدنيا، يعني لو أن الإنسان أفنى عمره وتخصص في الطب أو في الهندسة أو في الزراعة أو في الكيمياء أو في غيرها من العلوم هذا يستفيد في أمور دنياه، كأنه نجار، كأنه مزارع، وأيضاً النية لا تؤثر فيها، لا تؤثر سلباً، يعني لو قصدها، قال: أنا أتعلم الطب أتكسب، لا أريد إلا الدنيا ما عليه شيء، يعني مثل المزارع ومثل التاجر ومثل الصانع هذه أصلها للدنيا، لكن إذا نوى بذلك التقرب إلى الله -جل وعلا- ونفع العباد يؤجر على هذه النية.

دع عنك ما قاله العصري منتحلاً

وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ

يعني في وقت من الأوقات يقال لطلاب العلم وقد سمعناه وقيلت لنا: اترك تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، هذه مضى وقتها، عليك بما كتبه المعاصرون، الذين يعرفون مشاكل العصر، وقضايا العصر، وينزلون عليها، اترك كتب المتقدمين نقول: لا "وبالعتيق تمسك" ما في علم إلا بكتب المتقدمين، يعني كون الإنسان يطلع على ما كتبه المعاصرين طيب وجيد، يطلع على ما كتبه العلماء المعاصرين، لا سيما من كانت عنده شيء من الالتزام بالقواعد، قواعد العلم والتعليم، أما من انسلخ مما ينبغي أن يزاوله شارح الكتاب أو شارح السنة هذا لا يلتفت إليه، يعني مثل تفسير طنطاوي جوهري الذي كأنه كتاب علوم، كله رسوم لذوات الأرواح، وكله نظريات، وكله نقول عن يهود ونصارى وكفار، وتجارب أمم، يعني كلها .. ، الكتاب محشو بمثل هذا، والفائدة في جانب هذه الأمور قليلة جداً.

ص: 17

يعني من الطرائف التي ذكرها، يعني استدل على جواز التصوير:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ} [(43) سورة الأنفال] يقول: هو يرى العدو على حقيقته، ولا يمكن أن يرى حقيقة أقل مما هو عليه إلا بصورة، ليست حقيقة، أوروا العدد قليل بصورة لا بالحقيقة، فهذا يدل على جواز التصوير، يقول: فعرضت هذا .... ، قلت: هذا يدل على جواز التفسير، فعرضت هذا الاستنباط على شيخ من شيوخ الأزهر، فقال: أنا أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن هذا يدل على وجوب التصوير، يعني مثل هؤلاء يؤخذ عنهم علم، أو تضاع الأوقات في قراءة كتبهم! وعندنا أئمة إمام المفسرين على الإطلاق الطبري، وشيخهم ابن كثير، وهذه الكتب التي هي من مشكاة النبوة، التفسير بالأثر، بأقوال النبي .. ، تفسير القرآن بالقرآن، تفسير القرآن بالسنة، بأقوال الصحابة والتابعين، باستنباط على الوجه الشرعي المعروف، على الجادة المعروفة عند أهل العلم، أهل علم وعمل، أهل تقوى، أهل ورع، ولا يمنع أن تأخذ من التفاسير الأخرى ما يعينك على الاستنباط من الكتاب، وما يدلك على إعجاز القرآن وبلاغة القرآن، تأخذ من كل اتجاه بطرف، يعني تأخذ من أحكام القرآن، تقرأ في الكتب التي أعربت القرآن، تقرأ في الكتب التي بينت وجوه إعجاز القرآن، تقرأ في شروح الأحاديث التي تعينك على فهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

. . . . . . . . .

وبالعتيق تمسك قط واعتصمِ

لتلزم الجادة، يعني كتابات المعاصرين ومن بيئات وثقافات متفاوتة ومتباينة لا بد أن يوجد عندك شيء من الاضطراب، أما إذا كنت على الجادة في تلقيك عن كتب الأئمة من أهل العلم فهذا بإذن الله -جل وعلا- تكون النتيجة مضمونة، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 18