المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خاتمة في تحصيل ثمرات العلم النافعة واجتناء قطوفه الدانية اليانعة: - شرح المنظومة الميمية في الآداب الشرعية - جـ ٨

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌خاتمة في تحصيل ثمرات العلم النافعة واجتناء قطوفه الدانية اليانعة:

بسم الله الرحمن الرحيم

المنظومة الميمية في الآداب الشرعية للعلامة حافظ حكمي (8)

الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال العلامة حافظ -رحمه الله تعالى- في ميميته:

‌خاتمة في تحصيل ثمرات العلم النافعة واجتناء قطوفه الدانية اليانعة:

وحاصل العلم ما أملي الصفات له

فأصغِ سمعك واستنصت إلى كلمي

وذاك لا حفظك الفتيا بأحرفها

ولا بتسويدك الأوراق بالحمم

ولا تصدر صدر الجمع محتبياً

تمليه لم تفقه المعني بالكلم

ولا العمامة إذ ترخى ذؤابتها

تصنعاً وخضاب الشيب بالكتم

ولا بقولك يعني دائباً ونعم

كلا ولا حملك الأسفار كالبهم

ولا بحمل شهادات مبهرجة

بزخرف القول من نثر ومنتظم

بل خشية الله في سر وفي علن

فاعلم هي العلم كل العلم فالتزم

فلتعرف الله ولتذكر تصرفه

وما على علمه قد خط بالقلم

وحقه اعرف وقم حقاً بموجبه

ومنهج الحق فاسلك عنه غير عمي

أشقى وأسعد مختاراً أضل هدى

أدنى وأبعد عدلاً منه في القسم

أوحى وأرسل وصى آمراً ونهى

أحل حرم شرعاً كامل الحكم

يحب الإحسان والعصيان يكرهه

والبر يرضاه مع سخط لجرمهم

بمقتضى دين في الدارين مطرد

لا ظلم يخشى ولا خير بمنهضم

فاعمل على وجل وادأب إلى أجل

واعزل عن الله سوء الظن والتهم

للشرع فانقد وسلم للقضاء ولا

تخاصمن به كالملحد الخصم

وبالمقادير كن عبداً لمالكه

وعابداً مخلصاً في شرعه القيم

إياه فاعبد وإياه استعن فبذا

تصل إليه وإلا حرت في الظلم

وخذ بالأسباب واستوهب مسببها

وثق به دونها تفلح ولم تضم

بالشرع زن كل أمر ما هممت به

فإن بدا صالحاً أقدم ولا تجم

أخلصه واصدق أصب واهضم فذي شُرطت

في صالح السعي أو في طيب الكلم

أخلصه لله واصدق عازماً وأصب

صراطه واهضمن النفس تنهضم

لا تعجبن به يحبط ولا تره

في جانب الذنب والتقصير والنعم

وحيث كان من النهي اجتنبه وإن

زللت تب منه واستغفر مع الندم

ص: 1

وأوقف النفس عند الأمر هل فعلت

والنهي هل نزعت عن موجب النقم

فإن زكت فاحمد المولى مطهرها

ونعمة الله بالشكران فاستدم

وإن عصت فاعصها واعلم عداوتها

وحذرنها ورود المورد الوخم

وانظر مخازي المسيئين التي أخذوا

بها وحاذر ذنوباً من عقابهم

والزم صفات أولي التقوى الذين بها

عليهم الله أثنى واقتده بهم

واقنت وبين الرجا والخوف قم أبداً

تخشى الذنوب وترجو عفو ذي الكرم

فالخوف ما أورث التقوى وحث على

مرضاة ربي وهجر الإثم والأثم

كذا الرجا ما على هذا يحث لتصـ

ديق بموعود ربي بالجزا العظم

والخوف إن زاد أفضى للقنوط كما

يفضي الرجاء لأمن المكر والنقم

فلا تفرط ولا تفرط وكن وسطاً

ومثل ما أمر الرحمن فاستقم

سدد وقارب وأبشر واستعن بغدوٍ

والرواح وأدلج قاصداً ودم

فمثل ما خانت الكسلان همته

فطالما حُرم المنبت بالسأم

ودم على الباقيات الصالحات وحو

قل واسأل الله رزقاً حسن مختتم

واضرع إلى الله في التوفيق مبتهلاً

فهو المجيب وأهل المن والكرم

يا رب يا حي يا قيوم مغفرة

لما جنيت من العصيان واللمم

وامنن علي بما يرضيك واقضه لي

من اعتقاد ومن فعل ومن كلم

وأعل دينك وانصر ناصريه كما

وعدتهم ربنا في أصدق الكلم

واقصم ببأسك ربي حزب خاذله

ورد كيد الأعادي في نحورهم

واشدد عليهم بزلزال ودمدمة

كما فعلت بأهل الحجر في القدم

واجعلهمو ربنا للخلق موعظة

وعبرة يا شديد البطش والنقم

ثم الصلاة على المعصوم من خطأ

محمد خير رسل الله كلهم

والآل والصحب ثم التابعين لهم

وتم نظمي بحمد الله ذي النعم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فيقول الناظم -رحمه الله تعالى- في خاتمة هذه القصيدة النافعة الجامعة للوصايا التي يحتاجها كل طالب علم.

يقول:

خاتمة في تحصيل ثمرات العلم النافعة، واجتناء قطوفه الدانية اليانعة:

يقول -رحمه الله تعالى-:

وحاصل العلم ما أملي الصفات له

فأصغِ سمعك واستنصت إلى كلمي

ص: 2

يقول: حاصل العلم، خلاصة العلم، لباب العلم ما تتضمنه هذه الوصايا فأصغِ لها سمعك، وانتبه لها، "واستنصت إلى كلمي" أصغ نفسك بنفسك واستنصت غيرك، يعني اطلب الإنصات من غيرك ليستفيد ولئلا يشوش عليك.

وذاك لا حفظك الفتيا بأحرفها

. . . . . . . . .

يعني أنت تحرص على كلام أهل العلم، وتطلع على أقوال الفقهاء فقهاء الأمصار، إضافة إلى ما عندك من علم الكتاب والسنة، لكن مجرد حفظك للفتيا هذا ما .. ، لن تتأهل لأن تكون عالماً مستقلاً تستطيع أن تنقذ من يسألك من هلكة الجهل، ومن ظلامه إلى نور العلم.

وذاك لا حفظك الفتيا بأحرفها

ولا بتسويدك الأوراق بالحممِ

ص: 3

الحمم يعني الفحم الذي يكتب به، والحبر يشبهه، أسود مثله، يعني لا كثرة الكتابة تنفعك، ولا حفظك للفتاوى من غير تأصيل وبناء متين لهذا العلم على أصوله عند أهل العلم، ولذا تجدون بعض الناس يمضي من عمره الشيء الكثير، وقد يموت بعد أن زاحم العلماء عقود، ومع ذلك لا يستحق أن يسمى عالم، نعم يطلب العلم، ويسلك الطريق لطلب العلم، لكن ليست عنده الأصول التي تطلب ويبنى عليها العلم، نعم تجدون من يبرز في مدة يسيرة، ومن يتأخر تأهله للعلم، كل هذا بسبب الاهتمام بالأصول والقواعد التي يبنى عليها العلم، علم الكتاب والسنة، ومن نعم الله -جل وعلا- أن يسر للإنسان من يأخذ بيده إلى الطريق الصحيح في أول عمره، تجدون الشباب الآن نحمد الله -جل وعلا- أن هيأ لهم ويسر لهم من العلماء المخلصين من يدلهم على الجادة، يعني قبل لا أقول قبل يعني .. ، قبل العلماء يدرسون على الجادة، ثم بعد ذلك جاء هذا التعليم النظامي، وإن كان بعضهم ينتقد كلمة نظامي؛ لأنه يلزم منها على حد زعمه أن يكون تعليم المساجد فوضوي، إذا كان هذاك منظم التعليم في المدارس والجامعات نظامي، وإنما هو منسوب إلى من ينظمه من المشرفين عليه من قبل الموكلين من قبل ولي الأمر، أما بالنسبة لدروس المساجد فهذه موكولة إلى اجتهادات المشايخ، يعني هذا الذي من أجله يقال: تعليم نظامي، تعليم منظم ومرتب على نظر من يكلفه ولي الأمر بهذا، فهو من هذه الحيثية منظم، تجد التعليم في الحجاز نفس التعليم في نجد، والتعليم في الشمال نفس التعليم في الجنوب، ما يختلف، فهو منتظم ومنظم، ولا يلزم من هذا أن يكون التعليم في المساجد على الجادة يكون فوضوي، ما يلزم، هو تنظيم لكنه يختلف من شيخ إلى شيخ، ويختلف من قطر إلى قطر، وحتى الكتب التي تدرس في نجد مثلاً قد يدرس غيرها في نفس العلوم في اليمن، يعني إذا كانت عناية أهل نجد على سبيل المثال بالأجرومية مثلاً في النحو والقطر والألفية تجد هناك العناية بالكافية لابن الحاجب، العناية بملحة الإعراب للحريري، وهكذا تجد في الشام، وفي مصر وغيرها، يعني هذه أمور لا شك أنها منظمة، لكنها تتفاوت من بلد إلى بلد، لكن المقرر على أولى ابتدائي في أي قطر من الأقطار

ص: 4

تجده منظم، وعلى جميع الطلاب، والمرتب على أولى متوسط نفسه ما يتفاوت، ما يقولون: والله -أهل الحجاز- إحنا نجتهد بطلابنا، وأهل الشمال يبون يجتهدون وأهل .. ، لا، هو من هذه الحيثية، ولا يلزم من هذا أن يكون التعليم في المساجد فوضوي؛ لأني سمعت من يقول هذا الكلام، ما يلزم، إنما التعليم الرسمي الذي ترعاه الدولة هذا تعليم منظم من قبل من وكل إليه هذا الأمر من قبل ولي الأمر، تنظيم واحد متسق لا يتفاوت ولا يتباين، ولا يختلف من بلد إلى بلد، ولا من مستوى إلى مستوى.

من نعم الله -جل وعلا- أن يسر لطالب العلم من بداية الطريق من يأخذ بيده إلى الجادة، لذا تجدون كثير من طلاب العلم في المستوى الأخير من الجامعة في كلية شرعية تسأله عن بداهيات بعض العلوم ما يجيب، لماذا؟ لأنه أخذ هذه العلوم على طريقة رتبت لكافة الناس، مراعىً فيها أضعف الناس ما رعي فيها أجود الطلاب حتى ولا المتوسط في السنين المتأخرة مراعىً فيها الضعاف؛ لئلا يتعذب هؤلاء، وكل يمشي، والملحظ من قبل هؤلاء الدارسين أنهم يتعلمون من أجل أن يسلكوا في هذه الحياة، يعني من أجل أن يتوظف ويعيش في هذه الحياة، ولذلك تجد كثير من أوضاع طلاب العلم في الكليات الشرعية غير مرضي، وتسأله عن مسائل في الأصول الثلاثة وقد درسها في المرحلة الأولى من الابتدائي وحفظها نسيها، تجد مسائل في النحو في الأجرومية ما يعرفها، ولا اطلع عليها، تجد أشياء فيما رتب للمبتدئين تخفى عليه، وهو يمكن في الدراسات العليا؛ لماذا؟ لأنه أخذ هذا العلم على طريقة سهلة، ليست متينة تربي طالب علم.

ص: 5

الأمر الثاني: أنه في التعليم العالي في الجامعة يعطى العلم على طريق ناقصة، تتباين فيها أنظار المدرسين، المناهج واحدة في الكلية، ما تتغير، جاء مدرس أو تغير أو كذا، لكن يختلفون في أداء هذه المادة، فتجد منهم من ينجز المنهج في نصف المدة؛ لماذا؟ لأنه أعطاه الطلاب على طريقة موجزة مختصرة، وهؤلاء الطلاب بحاجة إلى شيء من التوسع، وشيء من التأصيل لهذا العلم، وبالعكس تجد مدرس ثاني ما أنجز إلا نصف المنهج أو أقل من نصف المنهج؛ لأنه توسع فيه، وأفادهم فيما شرح لهم، لكن يبقى أن الأبواب التي ما شرحت لهم فيها إعواز كبير، يعني يتخرج الطلبة وهو جاهل في هذه الأبواب، هذه طريقة التعليم في الجامعات، في الأخير بدأ المسئولون في الجامعات يهتمون لقضية إتمام المنهج، وأن يربط الطلاب بكتاب يكون بأيديهم، يدور عليه محور التعليم، وهذا لا شك أنه أفضل، تربية طلاب العلم على كتب أهل العلم لا شك أنه أفضل من تربيتهم على مذكرات وعلى كتابات عن مدرسين، أو إحالة على كتب معاصرين كما يفعله كثير من المعلمين، فطالب العلم الذي تخرج في التعليم النظامي في الكلية الشرعية مثلاً على هذا الوجه مدرس شرح له، سلق له المادة في نصف المدة، ويحتاج إلى تأصيل وتثبيت في هذه المرحلة، يحتاج إلى تشعب وتنظير للمسائل، أو مدرس أطال وأفاض ووسع وشرح وشرق وغرب ولا أنهى إلا ثلث المنهج مثلاً أو ربع المنهج، تجده يتخرج الآن هو في مفترق طرق، الآن هو تهيأ على ما يقال لسوق العمل، إما أن يكون قاضي أو يكون معلم، أو يكون داعية أو كذا، والآن تصدر للناس، ماذا يصنع؟ إذا راجع نفسه حضر درس حضر شيء وجد أنه تعليمه فيه خلل، يعني كلف بدرس ما استطاع، سئل عن مسألة والله حاول يتذكر ما استطاع، راجع نفسه، فهو بين أمرين، إما أن يتكبر ويقول: والله أنا جامعي ومعي شهادة، ومن كلية شريعة، والأصل أن المتخرج من هذه الكلية يقال له: شيخ، فأنا لست بحاجة إلى كتب الأطفال، ويستمر يتدرج في الكتب الكبيرة، ويخفى عليه بدهيات العلوم، فمثل هذا يستمر على ضعفه، لكن إن قال: أنا والله بحاجة إلى أن أبدأ من جديد، وبداءته من جديد في المتون الصغيرة هذه لا تكلفه شيء؛ لأن عنده أهلية، وتجاوز

ص: 6

مراحل، فحفظه لمتون المبتدئين، وفهم هذه المتون وقراءة شروحها، أو سماع ما سجل عليها لا يكلفه شيء، إلا أنه يتلافى فيه النقص الموجود عنده، وهذه وصيتي لطلاب العلم الذين فاتهم مثل هذا الأمر، ولو تخرجوا من الجامعة على ما يقولون، يرجع إلى كتب المبتدئتين وبإمكانه أن ينجزها في شهر واحد، هذا لا يضره، كتب المتوسطين في ثلاثة أشهر تنتهي، ثم بعد ذلك يكون سدد الخلل الذي عنده، سدد الخلل ويتابع تعليمه، ويقرأ عاد في المطولات، ويستطيع أن يقرئ الناس، ولذلك تجدون من يتصدر للتعليم أحياناً يُفتح عليه في مسائل يسيرة؛ لأنه أخذ التعليم على وجه فيه قصور.

يقول: "ولا تصدر" يعني لا تتصدر.

. . . . . . . . . صدر الجمع محتبياً

تمليه لم تفقه المعني بالكلمِ

ص: 7

يعني لا تتصدر المجالس، ثم بعد ذلك تشرح لهؤلاء الموجودين على طريقة لا تناسبهم "لم تفقه المعني بالكلمِ" لا بد أن تنظر في الحضور ما مستوى هؤلاء الحضور؟ فإما أن تشرح بطريقة سهلة ميسرة يفهمها كل من حضر، أو تشرح بطريقة متوسطة؛ لأن الطلاب عندك فيهم من يفهم، يعني فيهم عدد كبير يفهم، فهم لا ينزلون عن منزلتهم، أو تشرح بطريقة تتجاوز فيها عن مقدمات العلوم، وما يحتاجه المبتدئون والمتوسطون، تشرح بطريقة تناسبهم، لكن مثل هذا الكلام قد لا يمشي في من كثرت عنده الجموع، وتنوع عنده الطلاب، فيهم المبتدئ، وفيهم المتوسط، وفيهم المنتهي، فإما أن يسلك طريقة المتوسطين، يشرح للمتوسطين، والمبتدئ إذا ارتفعت همته، وسمت همته، وتعب قبل أن يحضر قد يستفيد، كما أن المنتهي يستفيد أيضاً، لكنه يود أن يكون الأسلوب أسلوب التعليم أرفع من هذا، فالتعليم الآن كان المشايخ معروف عندهم يعني، شيوخنا كان معروف عندهم تقسيم الطلاب، حلقة للصغار، حلقة للمتوسطين، وحلقة للكبار الذين يعلمون هؤلاء الصغار، ويخاطب كل مجموعة بما يناسب عقولهم ((حدثوا الناس بما يعرفون)) لكن الآن من الصعب جداً أن تقول: والله أنت صغير لازم تشوف لك مكان ثاني، أو تقول: والله أنت كبير وأكثر الطلاب أقل منك مستوى فقد لا تستفيد، أنت تشرح واللي يستفيد يستفيد، واللي ما يستفيد الشكوى إلى الله، وهذا جربناه في الدروس، أول ما يبدأ الدرس في المنتهى مثلاً جلس الطلاب في الشارع، فلما شافوا أسلوب الكتاب ما يناسبهم صعب، الكثير من الحضور طلاب علم صغار أو متوسطين، أسلوب الكتاب ما يناسبهم، أيضاً أسلوب الشرح كأنهم تصعبوه، نقص النصف في اليوم الثاني، في الأسبوع الثاني، ثم ما زال العدد ينقص إلى أن ألغينا الكتاب، وجعلنا بدله الخرقي؛ لأنه أسهل، ومع ذلك يعني كتاب الفقه له حضور وله وجود، وإن كان أقل من كتب العقيدة، أقل من الواسطية لمدة طويلة.

ص: 8

المقصود أن على المدرس أن ينزل إلى مستوى الطلاب، وإن كان تصنيف الطلاب في العصر الذي في وقتنا نحن فيه صعوبة؛ لأن طالب الجامعة وإن كان مستواه مستوى مبتدئ لن يتنازل أن يقول: والله أنا مبتدئ والله أنا با أدرس مع الصغار، والكبار الذي جاء قد يكون مثلاً أستاذ في الجامعة، وبجانبه طالب في الثانوية، وقد يكون قاضي تمييز، وبجانبه طالب في الجامعة، وقد يكون كذا، كيف تتعامل مع هؤلاء؟ أنا تحدثت مع المسئولين عن تنظيم الدروس، وعلى رأسهم الوزير، وزير الشئون الإسلامية، قال: هذا ميئوس منه، الطريقة التي نعيشها ميئوس منها، لكن الإنسان يسدد ويقارب، وينظر في وجوه الطلاب، وأسئلتهم، ويقدر مستواهم، وينزل إلى مستوى بعضهم، والبعض الآخر .. ، لن يستطيع أن يتعامل مع كل شخص بعينه، هذا فيه صعوبة.

على كل حال يقول:

ولا تصدر صدر الجمع محتبياً

تمليه لم تفقه المعني بالكلمِ

تأتي إلى طلاب صغار وتقرر عليهم مثلاً .. ، طلاب في المتوسط وتقول: أصول الفقه مهم جداً، أو النحو أو كذا ثم تأتي لهم بأعقد كتاب في الفن ما يصح، هذا تعذيب لهم، أو تأتي لطلاب في المراحل الأولى وتقرر عليهم مختصر خليل مثلاً، هذا تعذيب لهم، لكن عليك أن تنظر الطلاب، وتشوف المعني بالخطاب، وتشرح على مستواه، هذا كلام الشيخ رحمه الله.

ولا العمامة إذ ترخى ذؤابتها

تصنعاً وخضاب الشيب بالكتمِ

لا تظن أنك بلغت مبلغ من العلم لأنك لابس عمامة وتصبغ لحيتك بالكتم، وما أشبه ذلك، يعني السن لا يكفي لتصدر المجالس أبداً، إنما المعول على التأهل في التحصيل.

ولا بقولك يعني دائباً ونعم

كلا ولا حملك الأسفار كالبهمِ

يعني لا يعني بقولك دائباً ونعم، يعني نعم هذه ويش معنى: ولا بقولك يعني دائباً ونعم؟ يعني شرحك بيعني دائباً دائماً ونعم، إنما هذه طريقة مألوفة إذا قيل: نعم للطالب، قد يقال: نعم، وقد يقال: بركة، ويقال: حسبك، للبداية سم، ثم حسبك، يكرر كلمة نعم عند الحاجة إليها، يعني لا تتشبه بالمشايخ بألفاظهم، وتظن أنك صرت مثلهم، يعني مجرد تشبهك بألفاظ الشيوخ وسمت الشيوخ، عمامة، وذؤابة وخضاب وكيف يبدأ الدرس؟ وكيف يختم؟ أنت جالست الشيوخ وعرفت هذه الأمور، لكن هذا ما يكفي.

ص: 9

. . .

كلا ولا حملك الأسفار كالبهمِ

ص: 10

يعني ما يكفي أن يقال: والله فلان عنده مكتبة كبيرة، ثم بعد ذلك يعلم وهو ما تأهل؛ لأن مجرد اقتناء الكتب لا يعني العلم، بل الإكثار من اقتناء الكتب قد يكون صارفاً عن التحصيل، ولذا ابن خلدون يقول في مقدمته:"كثرة التصانيف تعوق عن التحصيل" وهذا شيء مجرب، يعني من عنده مكتبة، شيوخ أدركناهم مكتباتهم دالوبين أو ثلاثة، كتابين في التفسير، وكتابين أو ثلاثة في الحديث وهكذا، في العقيدة، في الفقه، قاموس واحد أو مرجع واحد في اللغة، وكتاب من كتب النحو، يعني كتب يسيرة، لكن هذه الكتب هضمت، وعُرف جميع ما فيها، ويوجد الآن من طلاب العلم من عنده خمسين ألف كتاب، تشغله بمراجعتها، وبعضه يحول دون بعض، يأتي يحتاج إلى كتاب فيجد الكتب مرصوصة دونه، ويشتري ثانية ويرصها ثانية، وهكذا، هذا يتعب في جمعها، وفي العناية بها، وفي الوصول إليها في بيته، وهذا شيء مجرب، فمجرد كثرة التصانيف هذه لا تعني أن الإنسان قد فاق غيره في العلم، حتى أن الحافظ الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل يقول: إن مجرد جمع الكتب ككنز الفضة والذهب، يقول: جامع الكتب ككانز الفضة والذهب، صحيح كتب لا يستفاد منها، إنما تجمع تركة بعده، أو قد يحتاج ويبيعها، مثل الذهب والفضة يجدها عند الحاجة إليها في معاشه، أما كونه يستفيد منها مع كثرتها، كل الطبعات من كتاب كذا، ومن كل طبعة نسخة كذا، والكلام هذا ما صدر من فراغ، ما يقال: إنه يقلل من أهمية الكتب، وشأن الكتب، يعني طالب علم ما عنده كتب كساع إلى الهيجاء بغير سلاح، الكتب هي سلاح طالب العلم، لكن ينبغي أن تؤخذ بحكمة وعقل، وأن الإنسان إذا احتاج لكتاب يشتريه، وقد يشتري الكتاب ليكون مرجع يرجع إليه عند الحاجة، لكن ما هو معنى هذا أنه يعذب بهذه الكتب كما هو الحاصل لبعض الشيوخ، صارت وبال عليه، وصار كثير منهم حضه من الكتب نقلها من مكان إلى مكان، إذا انتقل إلى بيت احتاج إلى سنتين أو ثلاث يرتب، وإذا سمع بأن هناك آفة نزلت بهذه الكتب أو اطلع على شيء منها في جهة ذهب ينقلها من مكان إلى مكان، وينظف ويعالج، وما أدري ويش؟ هذه مسألة لا شك أنها متعبة، ومثل ما قرروا مشغلة عن التحصيل، ونتكلم بهذا الموضوع من حرقة، وحرارة،

ص: 11

يعني عانينا من هذا كثيراً، لكن لا يعني أن طالب العلم لا يحتاج إلى الكتب، هذه ليست طريقة، طالب العلم لا بد له من الكتب، لا بد له من المراجع، قد يقول: هناك مكتبات كبيرة تغني عن اقتناء الكتب، نقول: نعم، لكن هل هذه المكتبات في حوزتك بحيث تراجعها متى شئت، هذا الكلام ما هو بصحيح، قد تحتاج إلى مسألة يفوت وقتها، والمكتبة العامة مغلقة، فكون طالب العلم يقتني الكتب ويتوسط في الاقتناء لا يسرف ولا يكثر، ولا يترك شيئاً يحتاج إليه.

. . . . . . . . .

كلا ولا حملك الأسفار كالبهمِ

ولا بحمل شهادات مبهرجة

بزخرف القول من نثر ومنتظمِ

يعني كان طلاب العلم إذا تأهلوا يشهد لهم شيوخهم، إما بنثر أو بنظم، يشهدون لهم أنهم تأهلوا للقضاء، تأهلوا للفتيا، تأهلوا للتعليم، تأهلوا للدعوة، ويزاولون من خلال هذه الشهادات التي أعطيت من قبل الشيوخ، وصارت الشهادات الآن تتولاها الجهات الرسمية، على طريقة التعليم الموجودة، فصار من هذه الشهادات أو ممن يحمل هذه الشهادات من لا يحمل العلم، فتجده يتقدم، أنا والله الآن تخرجت في كلية الشريعة، والعرف يدل على أن من تخرج من كلية الشريعة شيخ، والشيخ أهل لأن يستفتى، أهل لأن يقضي، أهل لأن يعلم، ثم إذا ابتلي وامتحن ما وجد على أدنى مستوى يتوقع منه، وهذا حاصل، حصل في كثير من الجهات، بل إذا قلت: إن هذا حصل في بعض خريجي قسم القرآن، ذهبوا ليعلموا القرآن في مدارس تحفيظ القرآن فوجدوا لا شيء، يعني إذا كان هذا في القرآن الذي يمكن ضبطه، وأنت بصدد تعلمه أربع سنين أو أكثر، مع ما يعين عليه من تجويد وقراءات وتفسير، ومع ذلك تجد الطالب إذا كان همه مجرد الشهادة لا يدرك شيئاً، فقد يحرم العلم بسوء القصد.

ولا بحمل شهادات مبهرجة

بزخرف القول من نثر ومنتظمِ

"بل خشية الله" العلم خشية الله "في سر وفي علن" هذه الذي يفقدها كثير ممن ينتسب إلى طلب العلم، والعلم الذي لا يورث الخشية ليس بعلم، والذي لا يخشى الله -جل وعلا- ليس من أهل العلم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر].

ص: 12

"في سر وفي علن" يعني نجد من إذا تحدث بكى وأبكى، فإن كان في سره كذلك فليبشر، ونجد من إذا خلا بكى، وفي المحافل يتصبر ويتمنع، وهذا لا شك أنه علامات الإخلاص ظاهرة عليه، ومنهم لا هذا ولا هذا، لا في سر ولا في علن، يقرأ القرآن أو يقرأ سورة هود، أو يقرأ الطور، أو يقرأ أي شيء كأنه يقرأ جرائد كما هو حالنا، نسأل الله -جل وعلا- أن يصلح الأحوال.

بل خشية الله في سر وفي علن

فاعلم هي العلم كل العلم. . . . . . . . .

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] فالعلم الذي لا يورث الخشية ليس بعلم، والعالم الذي لا يخشى الله ليس بعالم "كل العلم فالتزمِ".

فلتعرف الله ولتذكر تصرفه

. . . . . . . . .

يعني علمك بالله -جل وعلا- وما يجب له، وما ثبت في حقه في كتابه وعلى لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، هو الذي يدلك على الطريق الصحيح، وهو الذي يورث الخشية في القلب "من كان بالله أعرف كان منه أخوف".

فلتعرف الله ولتذكر تصرفه

وما على علمه قد خط بالقلمِ

وحقه اعرف وقم حقاً بموجبه

ومنهج الحق فاسلك عنه غير عمي

يعني اسلك الطريق المستقيم الذي درج عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، واحذر الابتداع، والخروج عن طريقهم ومسلكهم ومنهجهم، واحذر الإيغال في هذه المحدثات، وخذ منها بقدر الحاجة، يعني هذا المكبر مثلاً يحتاج إليه، لكن ما الداعي أن يستعمله إمام خلفه ثلاثة أشخاص، هذه محدثة، تستعمل في عبادة الأصل المنع، لكن الحاجة، إذا كثرت الجموع، واحتاج الناس إلى مكبر يستعمل، ونعرف من شيوخنا من مات وهو ما استعمله، لكن الحاجة هي التي تحدد، فالإقلال من المحدثات بقدر الحاجة منها، بقدر الضرورة منها هو الأصل، لا سيما ما يستعمل منه في عبادة من العبادات، ويتقرب به إلى الله -جل وعلا-.

ص: 13

منهم من يقول: هذه وسائل لا تضر، ولا شك أن هذه المحدثات منها المحدث الذي له أثر في العبادة، وله أثر في قلب العابد، مثل هذا يتخفف منه، وإن تيسر أنه يتركه هذا هو الأصل، ومنها ما هو مجرد وسيلة مثل النظارة الآن تستعملها في قراءة القرآن؛ لأنك ما تشوف الحروف إلا بها، هذه لا شك أنها محدثة، لكن يبقى أنها وسيلة إلى عبادة فهي عبادة، يعني النفقة فيها مأجور عليها، لكن هناك وسائل منها المختلط اللي فيه الحلال والحرام، وفيه الغث، وفيه السمين، فولوج أهل العلم فيها لا شك أنه مزري بهم، يعني ويش معنى أن عالم يقرر، يشرح تفسير وإلا حديث ثم قبله مغنية، وبعده تمثيلية وبعده كذا، والله هذا يعني ما هو بلائق، وإن كان اجتهد بعض طلاب العلم وقالوا: يصل الحق إلى بيوت، أو إلى مجتمعات ما يصل إليها، يعني المنابر هي الأصل، لكن هناك من لا يحضر إلى المساجد، واقتنى هذه القنوات يقول: خلونا ندخل إلى بيوتهم .... ، أنا أقول: الاجتهاد يؤجر عليه الإنسان بقدره، وبقدر ما وقر في نيته من إخلاص، لكن يبقى أن هذه الأمور لست لها وليست لي، يعني شخص يقرر قال الله وقال رسوله يخرج في قناة ماجنة وإلا .. ، لكني لا أحصر الاجتهاد على الآخرين، فمن رأى أنه ينفع في هذا الله يجازيه على قدر نيته.

يقول:

وحقه اعرف وقم حقاً بموجبه

ومنهج الحق فاسلك عنه غير عمي

أشقى وأسعد مختاراً أضل هدى

. . . . . . . . .

أشقى وأسعد، الله -جل وعلا- بين وهدى النجدين، وبين طريق الحق، وطريق الضلال، وجعل هناك حرية واختيار ومشيئة للعبد يختار بها ما كُتب له، يعني بطوعه واختياره يختار طريق السعادة أو طريق الشقاء، ولا أحد يجبره على أحد الطريقين، فالله -جل وعلا- ركب فيه هذا الاختيار، ومع ذلك لن يخرج عن إرادة الله ومشيئته، وقضاه الذي قدره عليه، وهل هو شقي أم سعيد؟ لكن ما في أحد يقول: إني حاولت أن أصلي ما قدرت، حتى الذين لا يصلون هل حاول منهم أحد أن يقوم إلى المسجد وعجز؟ إذاً له حرية واختيار، بطوعه واختياره ترك الصلاة، إذاً ما ظُلم.

أشقى وأسعد مختاراً أضل هدى

أدنى وأبعد عدلاً منه في القسمِ

ص: 14

منهم شقي وسعيد، ومنهم الضال، ومنهم المهتدي، ومنهم القريب، ومنهم البعيد، أدنى وأبعد، مثلاً جاء في الحديث وفيه كلام لأهل العلم أن أقرب الناس إلى الرب -جل وعلا- في يوم المزيد أقربهم إلى الإمام في الجمعة.

قرب بقرب والمباعد مثله

بعد ببعد حكمة الديانِ

هذا الذي يسمع هذا الكلام، وما جاء فيه من أثر، وما جاء في كتابة الداخلين إلى المسجد يوم الجمعة، من جاء في الساعة الأولى، ومن جاء في الساعة الثانية، يعني إذا قلنا: مسألة القرب والبعد هذا حديث ضعيف، لكن ماذا عن ((من غدا)) أو ((من راح في الساعة الأولى)) هذا في الصحيحين، ومع ذلك يعرف هذا، ومن أهل العلم الذين يدرسون مثل هذا الكلام، ولا يأتي إلا في آخر ساعة، يعني في أحد منعه من المجيء؟ ما في أحد منعه، هو طائع ومختار، وإذا انتبه من النوم نظر إلى الساعة قال: باقي ساعة على دخول الإمام، هذه حرية واختيار، يعني ما في جبر، ما هو الإنسان مجبور، يقول: والله أنا كتب علي أني من أهل الشقاء، ويش يدريك أن الله كتب عليك أنك من أهل الشقاء؟ كما تقوله الجبرية، وأن الإنسان لا حرية ولا اختيار، وأن تحركاته وتصرفاته مثل حركة الشجر، هذا قول باطل، يعني مجبور على أن يفعل كذا، مجبور على أن يتأخر عن الصلاة، مجبور على أن .. ، لكن لو أن إنساناً ضربه أو سرق ماله، هل يقول: رضينا بالقدر، هذا مجبور. . . . . . . . . هذا مجبور الذي ضربني، ما يمكن أن يقول مثل هذا الكلام، يقوله للتبرير لنفسه في ترك الواجبات، وانتهاك المحرمات.

أوحى وأرسل وصّى آمراً ونهى

. . . . . . . . .

أوحى إلى رسله وأنبيائه، وأرسل منهم من أرسل، ووصى وصى المكلفين {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [(15) سورة الأحقاف].

"آمراً ونهى" افعلوا ولا تفعلوا، اعبدوا ولا تشركوا، ونهى {وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [(32) سورة الإسراء].

أوحى وأرسل وصّى آمراً ونهى

. . . . . . . . .

"أحل حرم" يعني الله -جل وعلا- جعل بعض الأمور بعض الأعيان حلال، وبعضها حرام.

ص: 15

"شرعاً كامل الحكمِ" كل هذه الأمور صدرت عن حكمة بالغة من الله -جل وعلا-، سواءً كان منها المأمور أو المحظور، سواءً علمنا هذه الحكم أو لم ندركها {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [(23) سورة الأنبياء] ومع ذلك كثير منها مدرك الحكمة.

يحب الإحسان والعصيان يكرهه

. . . . . . . . .

يحب المحسنين، يحب الإحسان، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، وكرهه إلى عباده المؤمنين المخلصين.

. . . . . . . . .

والبر يرضاه مع سخط لجرمهمِ

يعني يسخط المنكرات والجرائم، ويحب البر.

بمقتضى ذين في الدارين مطردٌ

لا ظلم يخشى ولا خير بمنهضمِ

بمقتضى ذين التوفيق والهداية والإضلال والاستقامة والفسوق والفجور بمقتضى كون الناس أو كون الجن والإنس إلى فريقين شقي وسعيد.

بمقتضى ذين في الدارين مطردٌ

لا ظلم. . . . . . . . .

يعني أهل السعير إلى أهل إلى السعير، والأتقياء والأخيار إلى دار النعيم.

بمقتضى ذين في الدارين مطردٌ

لا ظلم يخشى ولا خير بمنهضمِ

{إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [(40) سورة النساء]{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [(123) سورة النساء] ما في ظلم، ولا فيه أيضاً لا يمكن أن يحمل الإنسان غير ما تحمل، ولا يمكن أن يهضم أو ينقص من حقه حسنة.

فاعمل على وجلٍ وادأب إلى أجلٍ

واعزل عن الله سوء الظن والتهمِ

ص: 16

"اعمل على وجلٍ" اعمل الأعمال الصالحة، واترك المحرمات على وجل وعلى خوف أن يرد العمل {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [(60) سورة المؤمنون] تقول عائشة: هم الذين يزنون ويسرقون؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن ترد عليهم أعمالهم)) فينبغي أن يكون الإنسان على غاية الوجل من رد العمل؛ لأن العمل قد يوجد وقد يوفق الإنسان للعمل، لكن قد يتخلف شرطه، أو يعتريه ما يعتريه من مانع من موانع القبول، ولذا يخاف كثير من السلف من قول الله -جل وعلا-:{وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [(47) سورة الزمر] يعني الإنسان يعلم الناس دهور، والناس تشير له بالبنان، ما شاء الله ما أجلده، ما أعلمه، ما أحذقه، ما أحلمه، وهو في النهاية من الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، أو يتعلم ليقال كما تقدم في كلام الناظم رحمه الله، فعلى الإنسان أن يكون على خوف تام، وحذر ومراجعة دائبة دائمة للنية، وتحسس للقلب باستمرار.

فاعمل على وجلٍ وادأب إلى أجلٍ

. . . . . . . . .

أنت تمشي إلى أجلك، وأيامك مراحل، كل يوم تقطع مرحلة، وأنت تدأب تمشي دائباً إلى أجلك، وكل يوم يمضي من عمرك ينقص عمرك بقدره.

. . . . . . . . . وادأب إلى أجلٍ

واعزل عن الله سوء الظن والتهمِ

ولا بد من تحسين الظن بالله -جل وعلا- ((لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)) لكن ليس في هذا معارضة لما تقدم، الإنسان يحسن الظن بربه، لكنه يسيء الظن بنفسه وعمله، فهذا الذي يجعله يعيش بين الرجاء والخوف، يخاف أن يخونه ما وقر في قلبه، أو انطوى عليه قلبه من دخل يخونه في أحوج الأوقات، يخاف من مثل هذا، ويعرف ويجزم بأنه سوف يقدم على رب كريم رؤوف رحيم، سبقت رحمته غضبه، فيجعله يرجو من الله، ويؤمل مع السعي الجاد في تحسين العمل.

للشرع فانقد وسلم للقضاءِ ولا

تخاصمنّ به كالملحد الخصمِ

للشرع انقد، انقد اجعل قيادك وزمامك وخطامك بيد الشرع، إذا قال لك: افعل افعل، لا تفعل لا تفعل.

"للشرع انقد وسلم للقضاء" خلاص نزلت بك مصيبة عليك أن ترضى وتسلم.

ص: 17

وكن صابراً للفقر وادرع الرضا

بما قدر الرحمن واشكره واحمدِ

. . . . . . . . . وسلم للقضاءِ ولا

تخاصمنّ به كالملحد الخصمِ

الملحد المجادل على طريقة أهل الشرك {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [(148) سورة الأنعام] الملحد يقول: والله لو أراد لي الهداية ما ألحد، العاصي قد يحتج بالقدر، لكن هل في هذا حجة له؟ أبداً، الله -جل وعلا- جعل فيك حرية الاختيار، وبين لك، وما ترك لك حجة.

وبالمقادير كن عبداً لمالكه

وعابداً مخلصاً في شرعه القيمِ

بالمقادير التي قدرت عليك كن عبد منقاد، مذل لله -جل وعلا-.

"كن عبداً لمالكه * وعابداً مخلصاً" يعني في الشرع في القدر كن عبداً، لا اختيار لك معه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [(36) سورة الأحزاب] خلاص ما في تردد، نفذ.

. . . . . . . . .

وعابداً مخلصاً في شرعه القيمِ

بالنسبة للشرع عليك أن تطيع فتعمل المأمورات، وتترك المحظورات.

إياه فاعبد وإياه استعن. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

قدم المعمول كما في قوله -جل وعلا-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [(5) سورة الفاتحة] للحصر، يعني إياه فاعبد ولا تعبد غيره، وإياه فاستعن ولا تستعن بغيره.

. . . . . . . . . فبذا

تصل إليه وإلا حرت في الظلمِ

يعني إذا أخلصت العبادة لله -جل وعلا- وصرفتها له لا لغيره، وكذلك لم تستعن بأحد من المخلوقين.

. . . . . . . . . فبذا

تصل إليه وإلا حرت في الظلمِ

ومن أراد أن يقف على أسرار إياك نعبد وإياك نستعين فليقرأ في كتاب مدارج السالكين لابن القيم.

وخذ بالأسباب واستوهب مسببها

. . . . . . . . .

ص: 18

خذ بالأسباب، أنت مأمور بفعل الأسباب، ولكن لا تعتمد عليها، وإنما الاعتماد على مسببها، فتعطيل الأسباب نقص في العقل، والاعتماد على الأسباب قدح في الشرع، قدح في الديانة، فالذي يقول: والله الأسباب لا تنفع ولا تضر، المسبب هو الله، وأنا أعتمد عليه، فيغتسل في ثيابه في شدة البرد ويخرج، يجلس تحت الماء بثيابه، ويخرج بها وهي تقاطر ماءاً في شدة البرد، يقول: أبداً هذه أسباب، والأسباب لا قيمة لها، العبرة بالمسبب، الله -جل وعلا- هو الواقي، نقول: لا، هذا قدح في عقلك، ولذلك قول الأشعرية مناقض للعقول قبل الشرائع، حينما يقولون: إن الأسباب لا قيمة لها، ولا تأثير لها، ويجيزون أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس، يقولون: البصر سبب للإبصار، والإبصار يحصل عنده لا به، كما أن قول المعتزلة بالمقابل أيضاً قدح في الشرع، يقولون: إن الأسباب مؤثرة بذاتها، وأهل السنة والجماعة يرون أن الأسباب مؤثرة بما جعل الله -جل وعلا- فيها من أثر، لكنها لا تستقل؛ لأنه قد يوجد مانع فلا يترتب أثر السبب عليه.

وخذ بالأسباب واستوهب مسببها

. . . . . . . . .

يعني استوهب اطلب من الله -جل وعلا- المسبب إذا بذلت الأسباب للشفاء وأنت مريض فاطلب الشفاء من الله -جل وعلا-، إذا بذلت الأسباب في طلب العلم فاسأل الله -جل وعلا- أن يفتح عليك من العلوم ما ينفعك في دينك ودنياك.

"استوهب مسببها * وثق به" يعني اسأل الله -جل وعلا- وأنت موقن بالإجابة، بعد بذل الأسباب، أسباب القبول ونفي الموانع.

"وثق به دونها" دون الأسباب "دونها تفلح ولم تضمِ"

بالشرع زن كل أمر ما هممت به

. . . . . . . . .

ص: 19

يعني الميزان لا بد أن يكون بالشرع، وإذا تنكب الإنسان عن الشرع ووزن أفعاله، ووزن غيره بميزان مخالف لميزان الشرع لا شك أنه حينئذٍ تختلط الموازين، وتكون النتائج عكسية، إذا لم يكن الوزن ميزان الشرع، فأنت لو تقدم لخطبة ابنتك شخص، فوزنته بميزان الشرع، ميزان الشرع دين وأمانة وإيش؟ وخلق، دين وأمانة وخلق، هذا الميزان الشرعي، إذا طبقت هذا الميزان النتائج بإذن الله -جل وعلا- حميدة، ما لم يكن هناك ابتلاء، إما لتكفير سيئات، أو لرفع درجات، نتائج حميدة، لكن إذا وزنته بميزان يختلف عن ميزان الشرع، قلت: والله هذا ثري، هذا وجيه، هذا وزير، هذا أمير، هذا كذا، هذا كذا، هذا وسيم، هذه موازين غير شرعية، وإذا اقتصرت عليها فلا شك أن النتائج سوف تخرج عكسية.

بالشرع زن كل أمر ما هممت به

. . . . . . . . .

أي عمل تريد أن تقدم عليه زنه بميزان الشرع، فإن كان نافعاً لك في دنياك وأخراك فأقدم عليه، وإن كان غير ذلك فاحجم.

"فإن بدا صالحاً" بعد وزنه بميزان الشرع فأقدم.

. . . . . . . . .

فإن بدا صالحاً أقدم ولا تجمِ

يعني لا تحجم، بل أقدم علي، وإن كان غير ذلك فأحجم ولا تقدم عليه.

"أخلصه واصدق أصب" لا بد من الإخلاص مع الإصابة، لا بد أن يكون العمل خالصاً صواباً لله -جل وعلا-، خالصاً لوجهه، صواباً على سنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

"واهضم فذي شرطت" يعني اعبد الله -جل وعلا- على مراد الله مخلصاً لله -جل وعلا- على سنة نبيه عليه الصلاة والسلام واهضم نفسك، يعني لا ترى لنفسك حق، لا تقول: والله أنا أستحق كذا؛ لماذا؟ لأنني أفضل من فلان، لأنني أفعل كذا من المأمورات، وأفعل كذا من النوافل، وهو مفرط، اهضم نفسك، وقد يكون عنده من العمل الخفي الذي لا تعرفه أنت، وإن كان ظاهره على خلاف ذلك، ما يزن جميع أعمالك، ولا شك أن هضم النفس يقتضي الرفعة، التواضع هو الذي يرفع الإنسان، بخلاف العجب والفخر، هذا هو الذي يأكل الحسنات.

"والعجب فاحذره" على ما تقدم.

. . . . . . . . . إن العجب مجترفٌ

أعمال صاحبه في سيله العرمِ

. . . . . . . . . فذي شرطت

في صالح السعي أو في طيب الكلمِ

ص: 20

سواءً كانت في العمل أو في القول، كل هذه مشروطة للقول والعمل.

أخلصه لله واصدق عازماً وأصب

. . . . . . . . .

أخلص العلم لله -جل وعلا-، أخلص في تعلمك، أخلص في صلاتك، أخلص في صيامك، أخلص في جميع أعمالك وأقوالك.

. . . . . . . . . واصدق عازماً وأصب

صراطه واهضمنّ النفس تنهضمِ

يعني تعود على هضم النفس تنقاد لك، أما إذا كنت عودتها على العجب، والتحدث عن نفسك في المجالس، أولاً: أن من يتحدث عن نفسه لا شك أنه يسقط من عيون الناس، الأمر الثاني: أنه ينقدح عنده الإخلاص، فإذا أخبر عن عمله في مجلس من المجالس لا شك أن أجره ينقص.

أخلصه لله واصدق عازماً وأصب

صراطه واهضمنّ النفس تنهضمِ

لا تعجبن به يحبط. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

لا تعجبن بعملك ولا بقولك يحبط.

. . . . . . . . . ولا تره

في جانب الذنب والتقصير والنعمِ

يقول: هذا العمل اجعله يضمحل ويذوب ويتضاءل أمام ذنوبك وتقصيرك ونعم الله -جل وعلا- عليك، تقول: والله قرأت، جلست اليوم أقرأ القرآن ساعة، لكن ماذا عن النعم التي تترى عليك التي تحتاج إلى شكر، التي منها توفيقك لقراءة القرآن، تقول: أنا والله اليوم حضرت أربع دروس، هذه نعمة عليك أن تشكرها لله -جل وعلا- ولا تفخر بها.

وحيث كان من النهي اجتنبه وإن

زللت تب منه واستغفر مع الندمِ

((إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) "وحيث كان من النهي اجتنبه" يعني من غير مثنوية، أما الأمر فأتوا منه ما استطعتم.

"وإن زللت" وقعت في محظور أو تركت مأمور تب منه، بادر بالتوبة، التوبة واجبة بشروطها {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [(31) سورة النور]"تب منه واستغفر مع الندمِ" ألزم لسانك الاستغفار مع الندم من فعل هذه المخالفة، سواءً كانت في ترك مأمور أو فعل محظور.

وأوقف النفس عند الأمر هل فعلت

. . . . . . . . .

ص: 21

يعني محاسبة مراقبة، إذا أويت إلى فراشك انظر ماذا فعلت؟ ماذا تركت؟ ما فعلت من طاعة فاحمد الله -جل وعلا- على أن وفقك عليها، وما فعلت من مخالفة سواءً كانت في كلام أو قول، أو تقصير في فعل تب إلى الله، بادر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [(18) سورة الحشر] ما قدمت ليوم العرض على الله -جل وعلا-.

. . . . . . . . . وإن

زللت تب منه واستغفر مع الندمِ

وأوقف النفس عند الأمر هل فعلت؟

والنهي هل نزعت عن موجب النقمِ؟

ص: 22

يعني حاسب النفس هل فعلت المأمور وتركت المحظور؟ لكن واقعنا يثقل علينا المحاسبة؛ لماذا؟ لأن تصرفاتنا في يومنا وفي ليلتنا كثيرة، والمخالفات كثيرة، والله يعفو ويسامح، فإذا أراد أن يحاسب كيف يحاسب؟ لا يحيط بما قال فضلاً عما فعل، أقواله لا يستطيع أن يحيط بها، كلامه كثير، تجد الإنسان ثرثار في أي مجلس، يتصدر ويتكلم بحق وباطل مباح ومحظور وفي غيبة ونميمة، وقد يقول كلمة حق، ثم بعد ذلك يردفها .. ، كلام كثير، يعني ما يمكن إلا أن تجيب مسجل يصحبك ليلك ونهارك، فإذا أويت إلى فراشك تسمع هذا المسجل، فتكون مدة التسجيل أكثر من وقت النوم، هذا واقع كثير من المسلمين، هذا الذي يثقل المراقبة، لكن عند سلف هذه الأمة الذين يراقبون ((أن تعبد الله كأنك تراه)) هذه منزلة المراقبة؛ لأن أقوالهم قليلة، وخلطتهم يسيرة، وأضر شيء علي الإنسان الخلطة، هي التي تجر له الأقوال والكلام؛ لأنه ما يمكن يخالط الناس ويسكت، لكن لو انزوى في بيته أو في مسجده أو في مكتبه وجلس يقرأ القرآن، ويذكر الله -جل وعلا-، وينظر في كتب العلم، وإذا نشط صلى له ركعتين، وما أشبه ذلك، هذا مراقبته ومحاسبته سهلة، لأن الكلمات التي تكلم بها مع الناس يسيرة ومعدودة، والوقت وقت الفراغ عنده بعد شغل عمره وأنفاسه في طاعة الله وقت فراغه يسير، لكن ماذا عن من وقته كله يجوب الأسواق يميناً وشمالاً واجتماعات ومحافل، وما أدري ويش؟ يعني هذا لا شك أن المراقبة عنده صعبة، يعني كمن يأتي إلى مؤسسة كبرى متعددة المناشط والفروع، ثم يقول: والله أنا محاسب لهذه الشركة، كيف تحاسب هذه الشركة؟ لكن شخص عنده محل ويبيع منه أشياء يسيرة يعرف ويش باع؟ ويش اشترى؟ وكذا يستطيع أن يخرج خلاصة يومية بنفسه، ما يحتاج إلى محاسبين، والله المستعان.

وأوقف النفس عند الأمر هل فعلت؟

والنهي هل نزعت عن موجب النقمِ؟

فإن زكت فاحمد المولى مطهرها

. . . . . . . . .

الذي طهرها وزكاها هو الله -جل وعلا- وهو المنعم المتفضل أولاً وآخراً، وهو أهل الحمد وأهل الشكر.

. . . . . . . . .

ونعمة الله بالشكران فاستدمِ

ص: 23

{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم].

. . . . . . . . .

ونعمة الله بالشكران فاستدمِ

وإن عصت فاعصها واعلم عداوتها

. . . . . . . . .

يعني النفس إن عصت أو حاولت وراودت الوقوع في معصية فاعصها "واعلم عداوتها" نعم النفس عدو للإنسان، نفسه الذي بين جنبيه عدوة له، تدعوه إلى ما لا يرضي الله -جل وعلا-.

وخالف النفس والشيطان واعصهما

وإن هما محضاك النصح فاتهمِ

يعني هذا البيت حق، وإن كانت القصيدة فيها باطل كثير، نعم.

وخالف النفس والشيطان واعصهما

وإن هما محضاك النصح فاتهمِ

هذا كلام صحيح ومقبول، والقصيدة فيها كما هو معلوم فيها الشرك -نسأل الله العافية- أعني البردة.

وإن عصت فاعصها واعلم عداوتها

وحذرنها. . . . . . . . .

حذر النفس، وكن على باستمرار مجاهداً لهذه النفس.

. . . . . . . . .

وحذرنها ورود المورد الوخمِ

{وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [(71) سورة مريم] الورود مضمون، لكن الصدور من هذا المورود هو المشكوك فيه.

. . . . . . . . .

وحذرنها ورود المورد الوخمِ

وانظر مخازي المسيئين التي أخذوا

بها وحاذر ذنوباً من عقابهمِ

يعني هم عذبوا واستحقوا العذاب من الأمم السابقة واللاحقة والمعاصرة إنما عذبوا بذنوبهم، بما كسبت أيديهم، ولا تفعل مثل ما فعلوا؛ لئلا تكون نتيجتك مثل نتيجتهم والسنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل.

. . . . . . . . .

. . . . . . . . . وحاذر ذنوباً من عقابهمِ

والزم صفات أولي التقوى الذين بها

عليهم الله أثنى واقتده بهمِ

اقتده بهؤلاء المتقين، وانظر إلى صفات المتقين؛ لتكون منهم، والتقوى هي الوسيلة الوحيدة للنجاة من عذاب الله -جل وعلا-، وهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين.

"واقتده بهم""واقنت" يعني ادع باستمرار، ادع ربك أن يثبتك على صراطه المستقيم، وأن يلزمك طريق الاستقامة، وأن يجنبك طرق الزيغ والغاوية.

واقنت وبين الرجا والخوف قم أبداً

تخشى الذنوب وترجو عفو ذي الكرمِ

ص: 24

يعني لا بد أن يكون المسلم بني الخوف والرجاء، يخاف الرب -جل وعلا-، ويرجوه، يخاف الرب بسبب ذنوبه، ويرجوه التماساً لعفوه وكرمه وجوده وإحسانه، لا يرجوه معتمداً على عمله، إنما يخافه بسبب عمله السيئ، ويرجوه معتمداً على كرمه؛ لأن العمل لن ينجي صاحبه، العمل ((لن ينجو أحد منكم بعمله)) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).

"وترجو عفو ذي الكرمِ"

فعبادة الله -جل وعلا- من قبل المسلم لا بد أن تكون دائرة بين الخوف والرجاء والمحبة، كما يقول أهل العلم:"من عبد الله -جل وعلا- بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ" فلا بد من الخوف والرجاء والمحبة.

فالخوف ما أورث التقوى وحث على

مرضاة ربي. . . . . . . . .

هذا الخوف النافع، يعني كونك تخاف من الله -جل وعلا- ولا تعمل عملاً ينجيك من هذا الخوف خوفك دعوى، لا قيمة له.

فالخوف ما أورث التقوى وحث على

مرضاة ربي. . . . . . . . .

وكذلك الرجاء.

. . . . . . . . . ما على هذا يحث لتصـ

ديق بموعود ربي بالجزا العظمِ

بالجزاء العظيم، عظم يعني عظيم صيغة مبالغة.

في البيت الأول:

فالخوف ما أورث التقوى وحث على

. . . . . . . . .

يعني خوف لا يحث على التقوى، أو رجاء لا يحث على التقوى، يعني خوف يؤدي إلى القنوط وترك العمل هذا موبقة من الموبقات، وكذلك الرجاء الذي يؤدي إلى الأمن من مكر الله، ولا يحث ولا يبعث على العمل هذا أيضاً من الموبقات.

. . . . . . . . . وحث على

مرضاة ربي وهجر الإثم والأثمِ

هجر الإثم يعني ما يؤول إلى الإثم من المعاصي، ويطلق أيضاً الإثم على أنواع من المعاصي كالخمر مثلاً قالوا: الإثم من أسماء الخمر، يقول الشاعر:

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم تذهب بالعقولِ

وإن كان بعضهم ينكر إطلاق الإثم على الخمر، ومنهم من يطلق الإثم على القمار، على كل حال هي بالجملة الإثم: فعل ما يستلزم الإثم والذنب الذي هو لا يرضي الله -جل وعلا-، والأثم والأثيم والآثم هو فاعل الإثم، اجتنبه واهجره، اهجر العاصي، اهجر المعاصي، واهجر العصاة.

ص: 25

كذا الرجاء ما على هذا يحث لتصـ

ديق بموعود ربي بالجزا العظمِ

يعني الرجاء المفرد الذي يعول على سعة رحمة الله وكرمه دون عمل هذا لا ينفع.

والخوف إن زاد أفضى للقنوط كما

يفضي الرجاء لأمن المكر والنقمِ

الخوف إذا زاد لا شك أنه يفضي بصاحبه إلى القنوط واليأس من روح الله، كما أن الرجاء إذا زاد أفضى إلى الأمن من مكر الله، وكلاهما من عظائم الأمور، بل يجب أن يكونا بالنسبة للمسلم كجناحي الطائر، لا يزيد أحدهما على الآخر، وإن كان بعض أهل العلم يستروح ويميل إلى أنه في وقت الصحة يغلب جانب الخوف، وفي وقت المرض يغلب جانب الرجاء.

"فلا تفرط ولا تفرط" يعني لا تضيع، ولا تفرط لا تزيد، كن متوسطاً "وكن وسطاً" لأن:

. . . . . . . . .

كلا طرفي قصد الأمور ذميمِ

والشيطان يدرس نفسية الإنسان، ويعرف ما يناسبه، هو يريد إضلاله على كل حال، فالإنسان ما دام في دائرة الإسلام فهو على خير، الشيطان إن استطاع أن يجره إلى الكفر والمعاصي وترك الديانة هذه وظيفة ليكون مثله ومعه في السعير، إن لم يستطع ووجد عنده تمسك بعبادات ولا يتنازل عنها، دفعه إلى الأمام إلى الزيادة، قال: أنت مفرط، ولا شفت شيء، أنت ما سمعت عن الفضيل ولا سفيان ولا .. ، ثم بعد ذلك يزيد ويزيد حتى يقع، يخرج من الدين وهو لا يشعر، كما حصل من الخوارج، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.

فلا تفرط ولا تفرط وكن وسطاً

ومثل ما أمر الرحمن فاستقمِ

يعني استقم على مثل ما أمرك الله به -جل وعلا-.

"سدد وقارب" لن تصل إلى الغاية، تتشوف نفسك إلى الغاية، ولن تصل إلى الكلام؛ لأنك مجبول على النقص، لكن مع ذلك سدد وقارب، احرص أن يكون عملك سداداً، على وفق ما جاء عن نبي الله -جل وعلا-، "وقارب" قارب الكمال وإن لم تستطعه.

سدد وقارب وأبشر واستعن بغدوٍ

والرواح وأدلج قاصداً ودمِ

((سددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)) يعني أول النهار وآخره، وأول الليل الذي هو الإدلاج والادلاج سير آخره، المقصود أنك تستغل آناء الليل وأطراف النهار.

ص: 26

"وأدلج قاصداً ودم" ما تقول: والله أنا أتعبد يوم يومين في الشهر أو شهر في السنة ويكفي، لا، دم على ذلك {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [(99) سورة الحجر] هذه هي الغاية.

فمثل ما خانت الكسلان همته

. . . . . . . . .

الكسلان لا يعمل، لا يعمل الواجبات لأنه كسلان، وقد لا يترك المحرمات ويتمنى على الله الأماني، وعنده همة عالية أنه سوف يصل إلى منازل المقربين وهو على وضعه من الكسل، يقصر في الواجبات، وقد يرتكب بعض المحظورات، ويتطاول على منازل الأبرار والمقربين.

فمثل ما خانت الكسلان همته

فطالما حرم المنبت بالسأمِ

الكسلان، يعني نضرب مثلاً بالقرآن أو بالصلاة أو بالصيام، الكسلان الذي يقول: اليوم والله أنا تعبان نقرأ -إن شاء الله- غداً، أو أنا والله اليوم أحس بتعب الرواتب اليوم مع التعب نتركها، غداً -إن شاء الله- نبدأ بملازمة هذه الرواتب، صيام النوافل يقول: والله اليوم حر، اصبر، اصبر إلى أن يبرد الجود، هذا كله تسويف، هذا الكسلان إذا تمنى قال: خلاص أنا -إن شاء الله- السنة الجايئة الآن ما بقي في السنة إلا شهر الحج أبي أحج، ولما جيت -إن شاء الله- وتفرغت أتعبد، هذا الذي يسوف ولو يوم واحد كسلان، وتخونه همته، إذا جاء من الغد تخونه همته، لكن بالمقابل أيضاً إذا زاد عن الحد صار منبتاً، يعني نفترض أن طالب علم قرر يحفظ القرآن، فالكسلان يقول: اليوم مشغول، غداً -إن شاء الله-، وغداً والله نزل بنا ضيف غداً إن شاء الله، وبعده وهكذا تمضي عليه الأيام والسنون ما يحفظ.

المنبت يقول: خلاص من اليوم -إن شاء الله- أحفظ القرآن، وينفذ ثم يأخذ على نفسه أن يحفظ جزء اليوم، هذا اليوم حفظ جزء، لما أوى إلى فراشه إذا هو تعبان، وأخل بالواجب، بواجب الوالدين، وانقطع عن بعض الإعمال، وقد يكون ترتب على ذلك ترك واجب أنيط به، هذا منبت، لكن هل يستمر على هذه الطريقة كل يوم يحفظ جزء؟ لن يستمر، هذا مجرب أنه إذا أخذ على نفسه قدر أكثر مما تطيق فإنه غداً لن يستمر، وإن استمر غداً لن يستمر بعده.

يقول:

فمثل ما خانت الكسلان همته

فطالما حرم المنبت بالسأمِ

ص: 27

يمل ويسأم، ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فعلى الإنسان ألا يحمل نفسه أكثر مما تحمل لا سيما في أول الأمر، في وقت المجاهدة، الآن ما زلت في وقت جهاد للنفس، ثم تحملها أكثر مما تتحمل هذا لا يصح، هذا يؤدي بك إلى الانقطاع ولا محالة، لكن إذا تدرجت تقول: والله أنا حافظتي ما تسعف، وعندي أعمال كثيرة فأنا أحفظ آية آيتين وأراجع عليهن تفسير بحيث أفهم، ومن الغد ثلاث آيات، وبعده تستمر لك أسبوع على ثلاث آيات، الأسبوع الثاني تزيد آية وهكذا، ثم بعد ذلك تنشط نفسك وهمتك، والحافظة أيضاً تتجدد إلى أن يصل بك الحد إلى ما وصل بسلف هذه الأمة الذين قضوا أعمارهم وأنفاسهم فيما يرضي الله -جل وعلا-، هؤلاء تعدوا مرحلة المجاهدة وبدؤوا بمرحلة التلذذ، جاهدوا سنين، ثم تلذذوا سنين، النبي عليه الصلاة والسلام قام حتى تفطرت قدماه، لو يقول واحد: أنا أسوي مثل النبي عليه الصلاة والسلام؟ وقام ليلة واحدة إلى أن سقط من التعب، الأقدام لن تتفطر بليلة معروف هذا، ثم من الغد يمكن ما يوتر ولا بركعة، هذا منبت لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، المنبت الذي يتابع السير على الدابة حتى تسقط وتهلك، ثم بعد ذلك يجلس من دون دابة.

. . . . . . . . .

فطالما حرم المنبت بالسأمِ

ودم على الباقيات الصالحات. . . . . . . . .

. . . . . . . . .

ص: 28

الباقيات الصالحات الذكر التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير "وحوقل" أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والجنة قيعان وغراسها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وجاء في الحديث: أن إبراهيم قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة قيعان، وأن غراسها التسبيح والتحميد، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهي الباقيات الصالحات، ولا يزال لسانك رطباً بذكر الله -جل وعلا- "وحوقل" لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة، من يتصور هذا الكنز؟ لا يخطر على بال، يعني الجنة التي ترابها المسك الأذفر، فما الذي يخفى تحت هذا التراب؟! يعني إذا كان الناس يكنزون الذهب تحت التراب العادي فيكف بالكنز الذي يكنز تحت المسك؟! يعني شيء لا يتصوره عقل، ولا يخطر على قلب بشر.

. . . . . . . . .

. . . . . . . . . واسأل الله رزقاً حسن مختتمِ

يعني اسأل الله حسن الخاتمة، واجعل لسانك رطباً دائماً ملازماً للدعوة بحسن الخاتمة؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح:((إن الإنسان ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) وسلف هذه الأمة على وجل دائم، ومراقبة تامة لحسن الخاتمة، فهم يلهجون بهذا في كل وقت، خوفاً من سوء الخاتمة؛ لأن العبرة بالخواتم.

واضرع إلى الله في التوفيق مبتهلاً

فهو المجيب وأهل المن والكرمِ

اضرع إلى الله في التوفيق أن يوفقك لما يكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة، مبتهلاً داعياً، وأخبت وانكسر بين يدي الله -جل وعلا-.

. . . . . . . . .

فهو المجيب وأهل المن والكرمِ

يا رب يا حي يا قيوم مغفرة

. . . . . . . . .

يعني أرجوك مغفرة، يا رب يا رب، وأولى ما يدعى به الله -جل وعلا- بهذا الاسم يا رب، وأهل العلم يقولون:"من قال: يا رب يا رب خمس مرات أجيبت دعوته" إذا لم يكن ثم مانع، واستدلوا بما جاء في آخر آل عمران، ربنا ربنا ربنا {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [(195) سورة آل عمران] يقولون:"من قال: يا رب يا رب خمس مرات استجيب له".

ص: 29

"يا حي يا قيوم" وجاء أن هذا هو الاسم الأعظم، وأنه في ثلاث آيات من القرآن، يعني في مفتتح آية الكرسي، وفي مفتتح آل عمران، وفي طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [(111) سورة طه].

"مغفرة" يعني أرجوك وأسألك مغفرة.

. . . . . . . . .

لما جنيت من العصيان واللممِ

لأن هذه المعاصي رتب عليها عقوبات، وإن كانت تحت المشيئة، لكن أنت لا تضمن، أنت تنظر إلى ما رتب عليها، وترجو المغفرة من الله -جل وعلا-، فابذل السبب، تب إلى الله -جل وعلا- يمحو أثر هذه المعاصي، المعاصي سواءً كانت من الذنوب الكبائر، أو اللمم من الصغائر.

وامنن علي بما يرضيك واقضه لي

من اعتقاد ومن فعل ومن كلمِ

بما يرضيك من الاعتقاد الموافق لما جاء عنك وعن رسولك عليه الصلاة والسلام، واتفق عليه سلف هذه الأمة من اعتقاد ومن فعل، يعني من أعمال بدنية، ومن كلم من قول باللسان.

"وأعل دينك" يسأل الله -جل وعلا- دائماً أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يخذل الكفر وأهله وأعداء الدين، وأن ينصر دينه.

وأعل دينك وانصر ناصريه كما

وعدتهم ربنا في أصدق الكلمِ

{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [(7) سورة محمد].

"واقصم ببأسك ربي" يعني يدعو على من خذل الدين.

واقصم ببأسك ربي حزب خاذله

ورد كيد الأعادي في نحورهمِ

يعني يدعو على من عادى هذا الدين وعادى أولياء الله -جل وعلا-.

واشدد عليهم بزلزال ودمدمة

. . . . . . . . .

اشدد عليهم بزلزال، أهلكهم بالزلازل القوية المدمرة.

. . . . . . . . . ودمدمةٍ

كما فعلت بأهل الحجر في القدمِ

يعني قوم صالح لما قتلوا الناقة دمدم عليهم بلدانهم -نسأل الله السلامة والعافية-.

واجعلهمو ربنا للخلق موعظة

. . . . . . . . .

اجعلهم للناس عبرة وموعظة مما حل بهم من الرزايا والمهلكات والفواجع والمثلات.

واجعلهمو ربنا للخلق موعظة

وعبرة يا شديد البطش والنقمِ

ثم الصلاة على المعصوم من خطأ

محمد خير رسل الله كلهمِ

ص: 30

يعني الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في خاتمة الدعاء كالطابع له، ولذلك دعا، ثم ختم بالصلاة، وختم كلامه كله ووصيته -رحمه الله تعالى- بالصلاة "على المعصوم من خطأ * محمد خير رسل الله كلهمِ""والآل والصحب" جمع بينهما لأن لكل من الآل والصحب حقوق على هذه الأمة، فالآل هم الأقربون، وهم وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الصحب فمنازلهم ومواقفهم في الدين مشهورة، فلولاهم لم يصل الدين إلى من بعدهم.

. . . . . . . . . ثم التابعين لهم

وتم نظمي بحمد الله ذي النعمِ

كما ابتدأ بالحمد ختم بالحمد، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 31