الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: بلوغ المرام –
كتاب القضاء (3)
باب: الشهادات
الشيخ: عبد الكريم بن عبد الله الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم" الراشي: هو الدافع للمال من أجل أن يحكم له، والمرتشي هو الآخذ من أجل أن يحكم، ولا يختص هذا بالحاكم ولا بالقاضي، بل كل من له نفوذ أو يستطيع النفع ممن يأخذ أجراً على عمله، أما من لا يأخذ أجراً فله أن يأخذ بقدر أجرته، أجرة المثل من صاحب القضية له أجرة المثل، أما العامل الذي يتقاضى أجراً من عمله فأخذه لهذا المال رشوة، وسواءً قُدم على أنه رشوة صريحة مكشوفة، أو على أنه هدية، والمقصود منها كسب القضية، أو منفعة، يقدم له خدمة في مقابل أن ييسر له أمر نجاح قضيته، والمرتشي هو الآخذ على أي وجه كان، سواءً أخذ مالاً، أو أخذ منفعة، قُدم له خدمة هذه رشوة، والعامل على الصدقة لما أهدي له يقال له: ابن اللتبية أهدي له، فلما قدم إلى المدينة قال: هذا هو الصدقة، وهذا أهدي إلي، قال النبي عليه الصلاة والسلام:((هلا جلس في بيت أبيه فينظر هل يهدى له؟ )).
الرشوة إن كانت لأخذ ما لا يستحقه فهذه مجمعة على تحريمها، وأنها من كبائر الذنوب، وأنها من أعظم معاول الهدم، واستقامة الأمور والأحوال في المجتمعات، الآن كثير من المجتمعات لا تستخرج فيها الحقوق إلا بالرشوة، والذي يتورع عن الرشوة يضيع حقه في كثير من المجتمعات، وهذا هو الذي جعل الراشي والمرتشي مستحقان للعنة الله؛ لأن آثارها سيئة، وعواقبها وخيمة، سواءً كان المبلغ المدفوع رشوة كبيراً أو صغيراً، كلها رشوة.
بعضهم يقول: إن لي حق في هذه الجهة، ولا يدفع لي إلا إذا دفعت، فأنا أدفع هذه الرشوة، وهذا المبلغ من أجل استخراج حقي، وبعض أهل العلم قد يتسمح في مثل هذا، لكنها داخلة في عموم اللفظ ((لعن الله الراشي والمرتشي)) فإذا دفع هذا المال ولو كان لاستخراج حقه فإنه داخل، وإن تسمح بعضهم في ذلك وقال: إنه لا يصل إلى حقه إلا بهذه الطريقة؛ لأن الراشي في مثل هذه الصورة وإن كان الأمر بالنسبة إليه أخف مما لو لم يكن له حق، فإن المرتشي الذي يأخذ المال ليخرج هذا الحق الذي يستحقه الراشي لن يفرق مستقبلاً بين محق ومبطل، فهي إعانة له، والقاعدة أن ما حرم أخذه حرم دفعه، فيحرم على الموظف أن يأخذ مبلغاً من المال ليستخرج حقك الذي لا تستطيع استخراجه، وقد تقول: أنا أتوصل بهذه الرشوة إلى استخراج حقي، وقد وجدت من يفتيني، نقول: إنه يحرم على هذا الموظف الأخذ، ومن ثم يحرم عليك الدفع؛ لأن ما حرم أخذه حرم دفعه، ثم بعد ذلك هذا المرتشي سوف يأخذ من المبطل إذا أخذ من المحق.
على كل حال هذه الخصلة الذميمة التي عاثت في كثير من بلدان المسلمين -فضلاً عن غيرهم- فساداً، وصارت أمور الناس لا تمشي إلا بدفع شيء من المال، وتتابع عليها الصغير والكبير، وضيع الحقوق والحدود بسببها، بعضهم يأخذ شيء يسير ويمشي المعاملة داخل في اللعن، ولو كان يسيراً، وبعضهم يدفع أموالاً طائلة ليستخرج في مقابلها ما هو أعظم منها، داخل في اللعن أيضاً ((لعن الله الراشي)) الذي يدفع المال ((والمرتشي)) الذي يأخذ، وفي بعض الطرق:((والرائش)) الواسطة، السفير بينهما.
((في الحكم)) وهذه اللفظة لا توجد في كثير من الروايات، فإذا عرفنا أن الرشوة هي ما يأخذه من يُعين على استخراج ما ليس له، وقد يندرج فيه كما أشرنا من له حق، يدخل فيه دخولاً أولياً، إذا دفعت الرشوة للحاكم أو للقاضي ليحكم بغير حكم الله، ثم من دونه من أعوانه ليسهل لهذا الراشي كسب القضية، وتيسير الحكم، أو تخفيفه، من ذلكم الشفاعة -الجاه- في الحدود، كما في حديث المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فأرادوا من يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعفو عن الحد، فتشفعوا بأسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وقال:((أتشفع في حد من حدود الله؟ )) وكذلك الشفاعات التي يترتب عليها تقديم غير المستحق وتأخير المستحق، جاء الخبر:((اشفعوا تؤجروا)) لكن على ألا يترتب على هذه الشفاعة ضرر على أحد، إذا ترتب عليها ضرر على أحد فإنه حينئذٍ لا تجوز، وبذل المال وبذل الجاه من أجل كسب هذه الأمور من القضايا والتقديم والتأخير كل هذا ممنوع، إذا ترتب على الشفاعة والجاه الضرر.
ومن شفع فليس له أن يأخذ على هذه الشفاعة أجراً، على خلاف بين أهل العلم، لكن المرجح أنه لا يجوز أن يأخذ عليها أجراً، إنما يشفع لله، إذا رأى أن المشفوع له أهل لما شفع له به.
قال: "رواه أحمد والأربعة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي".
هنا مسألة وهي: أن الإنسان قد يكون مديراً أو رئيساً في دائرة أو وزيراً أو مسئولاً، تأتي الهدايا أحياناً تكون باسمه الشخصي، وأحياناً يكون باسم وظيفته، يعني المؤسسات العلمية تجد مثلاً مدير الجامعة، أو عميد الكلية أو رئيس القسم يهدى إليهم كتب، يهدى كتب، هدية مقدمة لرئيس قسم كذا، هدية مقدمة لعميد كلية كذا، فهل هذه الهدية له أو لمن يقوم مقامه بعده؟ أو هي للعمل وليست للشخص؟ أحياناً تكون باسمه الشخصي، هدية لفلان هذه ما فيها إشكال، تكون له، لكن أحياناً يؤلف كتاب لا سيما من منسوب هذه الجهة، وهي جهة علمية، يقولون: هدية لفضيلة عميد الكلية، ليس باسمه، وإنما بوصفه، هذا الذي يظهر أنها ليست له؛ لأن المراعى فيها الوصف، وإذا كان التنصيص على اسمه هدية لفلان فالمراعى فيه الشخص، ويأتي فيها ما يأتي في الهدايا، إذا كان يهدي إليه قبل العمل، وإذا كان يتهم، أو يظن به أنه يكسب من وراء هذه الهدية تسهيل أو مراعاة في شيء من الأمور فإنها حينئذٍ داخلة في الرشوة.
"وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو عند الأربعة إلا النسائي إلا أنه لم يذكر فيه لفظ الحكم الذي جاء في حديث أي هريرة".
والرشوة محرمة بالإجماع، ومن كبائر الذنوب؛ لأنها توعد عليها باللعن، ومن ضابط الكبيرة أنها إن توعد عليها بلعن أو غضب أو بنار أو بعدم دخول الجنة، أو ترتب عليها حد في الدنيا، فإن هذا ضابط الكبيرة عند شيخ الإسلام وغيره.
يتصور من يتصدى لفصل الخصومات بين الناس وليس له أجر ولا رزق من بيت المال، إن كان له أجر أو رزق من بيت المال هذا لا يجوز له أن يأخذ من الخصوم شيئاً، وإن أخذ فهو الرشوة، لكن إذا لم يكن له رزق من بيت المال، وذلك حينما تكون أمور الناس غير منتظمة، يوجد من يتصدى للفصل بين الناس، وليس له أجر مرتب من بيت المال، هل له أن يأخذ من الخصوم؟ لا يجوز أن يأخذ من أحد الخصمين؛ لأن لأخذه من أحدهما أثر على نفسه، فيخشى أن يميل ويحيف على الثاني، لكن إذا قال: قضيتكم هذه أفصل بينكما فيها بمبلغ كذا، بينكما بالسوية، في هذه الصورة لا يخشى أن يميل مع أحدهما دون الآخر.
في عمل المحامين يأخذون الأجر في مقابل المحاماة، منهم من يأخذه مقطوعاً من أول الأمر، سواءً كسب القضية أو خسرها، هذا لا يظن به أن يبذل الأسباب من أجل أن يكسب القضية، ولا يحمله ذلك على الفجور في القضية من باب ((وإذا خاصم فجر)) أما إذا كان الأجر على النجحان على ما يقولون، على كسب القضية فهذا يخشى منه أن يحمله هذا الأجر على أن يفجر في قضيته، في خصومته، وأن يسعى جاهداً لكسب القضية من حق أو باطل، ويجلب عليها بما يستطيع، وقد يدخل فيها من يستطيع التأثير، وقد يبذل فيها شيء من المال على جهة الرشوة، وهكذا، فمثل هذا في إساغته نظر، إنما يوكله ليقاضي ويخاصم عنه بمبلغ كذا سواء كان الحق له أو عليه، وحينئذٍ يضمن نزاهة الخصومة، والمحامون هم في مزلة من الأقدام، في مزلة قدم، يخشى عليهم بسبب تأثير المادة، وهي من وسائل الكسب المربحة في وقتنا، وفي عصرنا، فيخشى على المحامي أنه لا يحرص على إحقاق الحق، وإنما يحرص على كسب القضية، فإن أعطي المال من أجل إنجاح القضية هذا ظاهر، لكن قد يسعى لإنجاح القضية ولو لم يعط على النجحان على ما يقولون؛ ليشتهر بين الناس أنه يكسب القضايا، فعليه أن يتقي الله -جل وعلا-؛ لأن من خصال المنافق ((وإذا خاصم فجر)) ويكون بليغاً في حجته، حاضراً في بديهته، ثم بعد ذلك يكسب القضايا، وهو يعرف أنه مبطل، هذا يدخل في هذا الباب -نسأل الله السلامة والعافية-.
قال رحمه الله: "وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" رواه أبو داود، وصححه الحاكم" لكنه ضعيف؛ لأنه من رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وهو ضعيف عند أهل العلم.
ومن العدل بين الخصوم المطلوب من القاضي الواجب عليه أن يعدل بين الخصمين في كل شيء، ولا يظهر منه لا بتصريح ولا بتلميح ولا بقرينة أن أحدهما أقرب إليه من الثاني، ومن هذا أن يقعد بين يديه على حد سواء، وهذا الحديث كما عرفنا ضعيف، لكن من العدل الواجب على القاضي أن يكون مجلس الخصمين متساوٍ، فلا يكون أحدهما في كرسي أثير مريح، والثاني دونه، ولا يكون أحدهما أقرب إلى القاضي والثاني أبعد، بل لا بد أن يكون قربهما منه على حد سواء، ولا يكون أحدهما أرفع في مجلسه من الثاني والثاني دونه، بل لا بد أن يستويا في المجلس.
من الذي يجلس في الكرسي الذي عن يمين القاضي والكرسي الذي عن يساره؟ المفترض أن هذا مجلس قاضي وأمامه كرسيان، يحرص كل واحد أن يجلس على الأيمن؛ لأنه إن قدم شيء بدء به، والكلام سوف يبدأ معه، الأولى أن يكون في الكرسي الأيمن المدعي؛ لأنه هو الذي يُبدأ به بالكلام، والمدعى عليه في الكرسي الأيسر، وأهل العلم يقررون أن الأولية لها دخل في الأولوية، فأول من يبدأ به هو الأولى بأن يجلس عن يمين القاضي، فالأولية لها دخل في الأولوية.
أخرج أبو نعيم في الحلية -حلية الأولياء- قصة لعلي بن أبي طالب مع يهودي بين يدي القاضي شريح، علي بن أبي طالب سقط منه درع من دابته، فالتقطه اليهودي، فادعاه علي رضي الله عنه قال اليهودي: هذا درعي، فقال: لا، هذا درعي في يدي، وأنت مدعٍ، فتحاكما إلى شريح، علي رضي الله عنه في وقتها أمير المؤمنين، والقصة فيها ضعف، لكن لا يبعد وقوعها، فتحاكما عند شريح، أمير المؤمنين مع يهودي، تحاكما عند القاضي شريح، وهو من مشاهير القضاة في تاريخ الإسلام الطويل، أجلسهما بين يديه فقال: ما تقول يا علي؟ قال: هذه درعي، سقطت من دابتي، قال: عندك بينة؟ قال: نعم، فأحضر مولاه قنبر، وابنه الحسن، فقبل شهادة المولى، ورد شهادة الحسن؛ لأنه لا تقبل شهادة الابن لأبيه ولا العكس، وقال لليهودي: ما عندك؟ قال: هي درعي وفي يدي، وعنده استعداد يحلف، بل حلف، فحكم بالدرع لليهودي، قضى بالدرع لليهودي، ويعرف شريح أن الدرع لأمير المؤمنين؛ لأن علياً رضي الله عنه قال: أترد شهادة من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد مع أخيه الحسين، سيدا شباب أهل الجنة؟ قال: أنا أشهد أنهما سيدا شباب أهل الجنة، لكن في هذا المجلس يستوي المسلمون، وإذا ردت شهادة الابن من غيرك فترد منك، والتهمة والظنة حاصلة في شهادة الابن لأبيه والعكس، قال: صدقت، والله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك، صدقه، ثم بعد ذلك ما الذي حصل؟ حكم به لليهودي، والنتيجة؟ أن اليهودي أسلم لما رأى من عدالة الإسلام والمسلمين، وقال: إنها لأمير المؤمنين، كما يقول: هي درعه سقطت من دابته، وأعطاه إياه.