المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قول شريح فيما يقول الشارح قول شريح: والله إنها لدرعك، - شرح بلوغ المرام - عبد الكريم الخضير - جـ ١٠٧

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: قول شريح فيما يقول الشارح قول شريح: والله إنها لدرعك،

قول شريح فيما يقول الشارح قول شريح: والله إنها لدرعك، كأنه عرفها سابقاً أنها لأمير المؤمنين، ويعلم أنها درعه، لكنه لا يرى الحكم بعلمه، يعني لو أن قاضياً يعرف أن هذا الكتاب لفلان من طلاب العلم رآه بيده مراراً، ثم وقع بيد شخص آخر فادعى عليه صاحبه وليست لديه بينة، فاتجه النظر إلى المدعى عليه فحلف أنه كتابه، والقاضي يعرف أن هذا الكتاب كتاب فلان يعرفه، يحكم به لمن؟ هو ما عنده بينة إلا علم القاضي، قال الشارح:"ويعلم أنها درعه، لكنه لا يرى الحكم بعلمه" والجمهور يرون أن القاضي لا يحكم بعلمه، وإنما يحكم بالمقدمات الشرعية "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" ولو كنتُ أعرف أن الكتاب أو هذه الدرع أو غيرها لهذا الشخص.

لكن الذي ذكر عن شريح على وجه الخصوص القاضي في هذه الخصومة فيما ذكره ابن حجر وغيره في فتح الباري أن القاضي شريح يرى الحكم بعلم القاضي، ويذكرون أنه في قضية من القضايا يعرف أن هذه الآلة المدعى فيها لفلان؛ لأنه اعترف على نفسه في غير مجلس القضاء، الاعتراف إنما هو في مجلس القضاء، أما إذا كان الاعتراف قبل القضية فإنه يدخل في علم القاضي لا يدخل في المقاضاة، فحكم عليه شريح، وقال له .. ، قال المحكوم عليه: أريد بينة، فقال شريح فيما يذكرون عنه: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني لو اعترف في المجلس هذا ما في إشكال، لكن هذا الاعتراف سابق قبل الدعوى، مما تولد عنه علم القاضي بأن هذه المدعى فيها ليست له، وحكم بها لخصمه قائلاً: شهد عليك ابن أخت خالتك، من هو ابن أخت خالته؟ هو نفسه، هذا ما ذكر عن القاضي شريح، وهنا يقول، قول شريح: وإنها لدرعك كأنه عرفها، ويعلم أنها درعه؛ لكنه لا يرى الحكم بعلمه.

وعلى كل حال هذه القصة التي حصلت بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه- مع اليهودي هذه فيها ضعف.

سم.

بسم الله الرحمن الرحيم

وقال الحافظ -رحمه الله تعالى-:

‌باب: الشهادات

عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) رواه مسلم.

ص: 8

وعن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)) رواه أحمد وأبو داود.

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)) رواه أبو داود وابن ماجه.

وعن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه خطب فقال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" رواه البخاري.

وعن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر.

متفق عليه في حديث طويل.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم. قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ.

وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناد جيد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

باب: الشهادات

الشهادات: جمع شهادة، وهي مصدر شهد شهادة، والمصدر يجمع لتعدد أنواعه.

ص: 9

الشهادة: هي الإخبار عن الحق لمن هو له، وبعضهم يطلقها بإزاء علم، ويستدل بقوله -جل وعلا-:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [(18) سورة آل عمران] يعني علم، لكن في صدر سورة المنافقون {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [(1) سورة المنافقون] فغاير بين الشهادة والعلم، {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [(1) سورة المنافقون] فهناك مغايرة بين الشهادة والعلم؛ لأن الشهادة أعم؛ لأنها إخبار بما مفاده العلم إذا كان عن مشاهدة رؤية، أو ثبت مفادها بطريق يحصل به العلم القطعي، وقد يخبر يشهد بما مفاده، أو ما يفيده الظن الغالب كما في الاستفاضة مثلاً، الاستفاضة يثبت بها الحكم، ويشهد به، فلا يلزم أن تكون الشهادة صادرة عن علم مجزوم به، فالأصل أن تكون عن علم، إما رؤية أو سماع، أو بغير ذلك مما يفيد العلم، بطريق الحواس، أو الخبر المقطوع به، المجزوم به، وقد تكون الشهادة بسبب ظني كالاستفاضة.

ص: 10

قال رحمه الله: "عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها)) " وفي الحديث الذي يليه الآن الإتيان بالشهادة قبل السؤال في الحديث الأول سيق مساق المدح، وفي الحديث الثاني حديث عمران:((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون))

إلى آخره، سيق الإدلاء بالشهادة قبل الاستشهاد مساق الذم، وهنا يكون بين الحديثين تعارض، في الحديث الأول يمدح من يدلي بالشهادة قبل طلبها، وفي الحديث الثاني يذم من أدلى بالشهادة قبل طلبها، وللجمع بين الحديثين عند أهل العلم أكثر من نظر ومسلك، فمنهم من يقول: إن حديث زيد بن خالد الذي فيه مدح من يدلي بشهادته قبل طلبها في حالة ما إذا خشي ضياع الحق بأن يكون صاحب الحق لا يدري ولا يعرف هذه الشهادة، فيتقدم الشاهد إلى صاحب الحق، ويقول: عندي لك شهادة، وحينئذٍ يمدح لئلا يضيع الحق، أما إذا كان صاحب الحق يعرف أن هذا عنده شهادة في هذه القضية، فإن مبادرة الشاهد قبل طلبها لا شك أنه يورث تهمة، أنه يريد نفع المشهود له، وحينئذٍ يتهم في حقه، فيذم إذا أدلى بها قبل طلبها.

منهم من يفرق بين حقوق الآدميين، وما يتعلق بحقوق الله -جل وعلا- من أمر الاحتساب، فيجعل الحديث الأول، حديث زيد بن خالد منصب على ما إذا كانت الشهادة في حق لله -جل وعلا-، يدلي بها، ويبادر بإبدائها، فيتقدم بها قبل أن تطلب منه، والحديث الثاني حديث عمران فيما إذا كانت في حقوق الآدميين؛ لأنه بالنسبة لحق الله -جل وعلا- لا يتهم إذا بادر بالإدلاء بها قبل أن تطلب، لا يتهم؛ لأنه لا يحوز حظاً لنفسه، ولا لمن يتوقع ويرجو نفعه، بخلاف ما إذا كان في حق آدمي، فإنه قد يتهم.

ص: 11

منهم من حمل حديث زيد بن خالد الحديث الأول في مدح الإدلاء بالشهادة قبل طلبها أنه من باب المبالغة، وأنه لا يراد حقيقة اللفظ، وأن الشخص يشهد قبل أن يستشهد، لا يشهد حتى يستشهد لكنه لا يتأخر، وإنما يبادر بالإدلاء بالشهادة، فنزّلت هذه المبادرة التي ليس فيها تأخر منزلة من شهد قبل أن يستشهد؛ لأنه كأنه مجرد ما طلب منه شهد، فكأنه سبق الطلب بمبادرته، والجواب الأول هو جواب الأكثر، أكثر أهل العلم، وهو المرضي.

"عن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) " والشك هل قال ذلك مرتين أو ثلاثاً؟ فتكون مع قرنه ثلاثة أو أربعة؟ والمرجح الثلاثة، كما جاء في رواية الباب:((إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) خيركم، يعني الأمة، هو لا يخاطب الصحابة -رضوان الله عليهم- إنما يخاطب الأمة بمجموعها؛ لأن قرنه هم صحابته، فما عطف عليه ممن يلونهم من ليس من الصحابة من التابعين، ثم الذين يلونهم من أتباعهم، على خلاف بين أهل العلم في المراد بالقرن، وهم أهل زمان متقاربون في السن والوجود، كما قالوا في الطبقة.

ص: 12

واختلفوا في تحديد القرن بالزمان من أربعين إلى مائة وعشرين، لكن الاصطلاح بين أهل العلم استقر على أن المراد بالقرن مائة سنة، وعليه عامة المؤرخين الذين يؤرخون للقرون، جعلوه مائة سنة، مع أننا لو نظرنا إلى أعمار الناس فالقوم المتشابهون يجمعهم في الغالب سبعون سنة، وهذا قول جمع من أهل العلم أن المراد بالقرن سبعون سنة، وحدد ابن حجر في فتح الباري نهاية القرون المفضلة بسنة مائتين وعشرين، كيف يكون التحديد بمائتين وعشرين؟ على اعتبار أن القرن سبعين، طيب مائتين وعشرين، لماذا يصير مائتين وعشرة؟ بناء على أن ((ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) ثلاث، فقرنه انتهى بسنة عشرة، فإذا أضفنا إليها الذين يلونهم سبعين، والذين يلونهم سبعين، والذين يلونهم سبعين، يكون الحد مائتين وعشرين، وابن حجر ذكر في فتح الباري أنه في هذا الزمن كثرت البدع، وانتشرت، وصار لها من يدعهما ويروجها، ويمتحن عليها، أصول البدع وجدت في وقت مبكر، في آخر عهد الصحابة، وجد بعض البدع، لكنها ضعيفة، وإنما نشطت وقويت ودعمت وامتحن من أجلها الأخيار في هذا الزمان الذي ذكره ابن حجر رحمه الله.

((ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم)) يعني يوجد قوم ((يشهدون ولا يستشهدون)) هؤلاء الذين يدلون بشهاداتهم قبل أن تطلب يشك فيهم أنهم يوجد ما يدفعهم إلى الإدلاء بهذه الشهادة، فتقوى التهمة بالنسبة لهم، ولذا وجه إليهم الذم، وإلا ما الذي يجعل هذا الشاهد يدلي بما عنده قبل أن يطلب؟ إنما هو لرغبة أو رهبة، فسيق الخبر عنهم مساق الذم، وهذا فيما إذا لم يخش ضياع الحق، أما إذا خشي ضياع الحق فحديث زيد بن خالد صريح في أنه يدلي بشهادته قبل أن يستشهد.

((ويخونون ولا يؤتمنون)) يوجد بعد القرون المفضلة يخونون ولا يؤتمنون، وكثرت الخيانة في الناس، وأول ما يرفع من الدين الأمانة، قد يقول قائل: إنه وجد في عصر الصحابة، وفي عصر التابعين، وفي عصر تابعيهم من ذلك شيء، لكن الحكم عند أهل العلم إنما هو بالنسبة للغالب.

ص: 13

التفضيل في قوله: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) تفضيل أفراد في القرن الأول الذين هم صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، التفضيل أفراد عند عامة أهل العلم، وأن أدنى الصحابة منزلة أفضل من أفضل التابعين، ومنهم من يقول: التفضيل بين الصحابة والتابعين تفضيل إجمالي جملي، كالتفضيل بين التابعين وتابعيهم، وإلى هذا يميل ابن عبد البر، وعلى هذا قد يوجد في من بعد الصحابة من هو أفضل من بعض الصحابة، ولكن جماهير أهل العلم أن فضل الصحبة شرف لا يناله من جاء بعدهم، مهما عمل من الأعمال، ومهما بلغ من الفضل والعلم.

يستدل ابن عبد البر، ومن يقول بقوله بحديث:((أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره)) وأيضاً ما ثبت للمتمسك بالدين والسنة في آخر الزمان من أن للواحد منهم أجر خمسين، قيل: منهم يا رسول الله؟ قال: ((لا، منكم)) يدل على أنه يوجد في آخر الأمة من هو أفضل من بعض الصحابة، هذا ما يقرره ابن عبد البر، ولكن عامة أهل العلم على أن أدنى الصحابة منزلة أفضل من أفضل التابعين، والتفضيل إفرادي كل فرد فرد، وليس إجمالي كما هو شأن التفضيل بين التابعين وتابعيهم؛ لأن هذا الشرف بصحبته عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يناله أحد، وحديث المتمسك بالدين والعامل به في آخر الزمان له أجر خمسين بالنسبة لأجر العمل الذي يرتب عليه لقلة الأعوان، يكون له هذا الأجر، ويبقى أجر صحبة وشرف الصحبة لا يمكن أن يناله أحد، وهو بمفرده يرجح بجميع أعمال من جاء بعد الصحابة.

بالنسبة للتابعين وتابعيهم إجمالي؛ لأنه قد يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من بعض التابعين؛ لأن شرف الصحبة خاص بالصحابة.

ص: 14

((ينذرون ولا يوفون)) النذر معروف مقرر عند أهل العلم أنه مكروه، ويستخرج به من البخيل، إلزام المسلم نفسه شيئاً ليس بلازم، وإيجابه على نفسه أمر لا يجب عليه في أصل الشرع إنما يفعل ذلك البخيل الذي لا يعمل إلا إذا ألزم نفسه، لا يلتزم إلا إذا ألزم نفسه، لكن الوفاء به إذا كان نذر طاعة يجب الوفاء به، يجب الوفاء به، ويقرر أهل العلم أن النذر باب من العلم غريب، وسيلته مكروهة وغايته واجبة؛ لأن الوسائل لها أحكام الغايات، أحكام المقاصد، هذه من قواعد الدين، لكن في هذا الباب الوسيلة مكروهة والغاية واجبة، فإذا لم يف بنذره، وقد أمر بالوفاء بالعقود والعهود والنذور ((أوف بنذرك)) ((من نذر أن يطيع الله فليطعه)) يكثر من ينذر ولا يفي، بعض الناس يلزم نفسه يقول: إذا جاء آخر الشهر واستلمنا الراتب سوف أتصدق بمائة ريال، هذا لا يخلو إما أن يقترن بيمين أو لا يقترن، فإن اقترن باليمين دخل في حكم {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ} [(75) سورة التوبة] وإن لم يقترن بيمين فهو مجرد وعد، لا يثبت إلا بالقبض، لكن الوفاء بالوعد مطلوب، وأمره أخف مما لو اقترن بيمين، أو جاء على صيغة النذر الذي يلزم الوفاء به.

((ويظهر فيهم السمن)) البدانة تظهر في المتأخرين بكثرة، التنعم والترف، لا يوجد في سلف هذه الأمة، إنما فتحت الدنيا على من بعدهم، وكان السمن نادر في صدر هذه الأمة وفي خيارها، والسمن نتيجة للشره في الأكل والشرب والراحة، وهذا لا شك أنه يعوق عن تحصيل كثير من مصالح الدين، لكن بعض الناس خلقة يركبه اللحم والشحم من غير قصد، ومن غير أكل، تجد الأكل قليل جداً، ومع ذلك الوزن يزيد، وبعض الناس يأكل كثيراً ووزنه ينقص، مثل هذا ليس بيد الإنسان، إنما المراد به ذم الترف، وذم الشره في الأكل والشرب والراحة.

ص: 15

الشافعي رحمه الله يقول: "ما رأيت عاقلاً سميناً إلا أن يكون محمد بن الحسن" يعني فائق العقل جداً محمد بن الحسن، ومع ذلك يوجد كثير من العقلاء من هذا النوع، لكن المذموم ما يستطيعه الإنسان، هناك أشياء يستطيعها الإنسان وأشياء لا يستطيعها، وبعض الناس كما هو مشاهد وزنه يزيد وأكله قليل، بعض الناس يكون عنده غدد وجسمه قابل للزيادة هذا يزيد ولو قل أكله، هذا ما يلام، لكن الذي يلام من يسعى لذلك، وهي مجرد علامة في المتأخرين، والعلامات قد تكون مذمومة، وقد تكون هي لمجرد الإخبار، يعني علامة الخوارج حلق الشعر ((سيماهم التحليق)) أو قال:((التسبيد)) كما في البخاري، سيما الخوارج، لكن هل الحلق مذموم؟ هم لا يتركون فرصة للشعر أن ينبت يتعاهدونه كما يفعل -مع الأسف- كثير من الناس اليوم في لحيته يمر الموسى إذا أراد الخروج إلى الدوام يومياً، فالخوارج يمرون الموسى على شعورهم لأنها سيماهم، لكن من احتاج إلى حلقه أو لا يستطيع إكرامه فضلاً عن كونه في نسك حج أو عمرة هذا لا يذم، فهذه مجرد علامة من علاماتهم، وإن لم يترتب عليها مدح أو ذم، ونقول مثل هذا في ((يظهر فيهم السمن)) إذا لم يقصد ذلك.

قال رحمه الله: "وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي)) " الشارح يقول: غَمر بفتح الغين المعجمة، يراها بفتح الغين والميم غَمَر، وتكسر الميم، لكن الأكثر على أن الغين مكسورة ((ولا ذي غِمر على أخيه)) يعني حقد على أخيه ((ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)).

ص: 16

((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة)) لأنه ليس بعدل، فالخائن هو الذي ضيع الأمانة، سواءً كانت فيما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق العباد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} [(27) سورة الأنفال] فالذي يضيع حقوق الله خائن، والذي يضيع حقوق العباد خائن، فليس بثقة مرضي، ولا عدل تقبل شهادته {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [(2) سورة الطلاق]{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} [(282) سورة البقرة] والخائن ليس بمرضي، وليس بعدل، فلا تقبل شهادته و ((لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة)) سواءً كان ذكراً أو أنثى.

((ولا ذي غمر)) يعني حقد ((على أخيه)) لأن حقده عليه قد يحمله على أن يشهد عليه زوراً.

((ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت)) الخادم، الخادم لا تجوز شهادته لمن يخدمه؛ لأن مصلحته مرتبطة بمخدومه؛ لأنه يرجو نفعه، ويخشى ضره، وما يعود على المخدوم أثره يعود على الخادم، فله مصلحة من شهادته لسيده أو لمخدومه.

فلا بد من تحقق العدالة في الشاهد، كما أنه لا بد من تحققها في الراوي، والشهادة يطلب فيها العدول الثقات فلا تقبل شهادة من ذكر لتخلف العدالة، والعدالة وصف أو ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، فلا بد من ملازمة التقوى التي هي فعل المأمورات، وترك المحظورات، ولا يعني هذا أنه لا تقبل شهادة ولا رواية إلا شخص لا يعصي، فيترك بعض المأمورات، ويرتكب بعض المحظورات، إنما المراد به من يخطئ، ثم يعود ويتوب إلى الله -جل وعلا-، ويكون غالب حاله الاستقامة، وإلا فالعصمة غير متصورة في غير الأنبياء.

قال رحمه الله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية)) رواه أبو داود وابن ماجه".

ص: 17

((لا تجوز شهادة بدوي)) ساكن البادية من الأعراب الجفاة الجهلة؛ لأن هذا وصف كثير في البادية ((من بدا جفا)) ولبعدهم عن موارد العلم والنور يكثر فيهم الجهل، ويكثر فيهم الجفاء {الأَعْرَابُ -كما قال الله -جل وعلا- أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ} [(97) سورة التوبة] يعني لبعدهم عن أهل العلم يتصفون بالجهل، ويتصفون بالغلظة والشدة، ولاتصافهم الغالب بالجهل منعت شهادتهم على صاحب القرية الحضري، أما إذا ارتفع الوصف، وعرف عن هذا البدوي ساكن البادية العلم والإنصاف، قد يوجد فيهم، فإنه حينئذٍ تجوز شهادته، كما أجاز النبي عليه الصلاة والسلام شهادة الأعرابي في دخول شهر رمضان، فالمسألة مسألة وصف، فإذا تحقق الوصف وهو غالب بالنسبة للبادية قليل بالنسبة للحاضرة، فإذا تحقق هذا الوصف ردت الشهادة، سواءً كان الشاهد بدوياً أو حضرياً، لكن لما كان الوصف غالباً في البادية نص عليه، وتجد هناك منافسة بين سكان البادية وبين سكان الحاضرة، فتجد بعض الإشكالات والمشاكل بينهم، فتجد الحضري يتكلم في البدوي، والبدوي كذلك، فيحصل بذلك شيء مما يحمل على تجاوز الحق، فيحمل البدوي على أن يشهد على الحضري بغير حق والعكس، لكن المرد أولاً وآخراً للثقة والعدالة والأمانة، لكن لما كان الغالب في البادية الجهل والغلظة نص عليها، وإلا إذا وجد هذا الوصف في حضري أو غيره ردت شهادته.

قال رحمه الله: "وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب فقال: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" النبي عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، يحكم على الناس بما أعلمه الله -جل وعلا-، ويخبر عنهم، وقد يخبر بعض صحابته عن بعضهم، كما أخبر حذيفة عن بعض المنافقين، وسماهم له، لكن غير النبي عليه الصلاة والسلام المؤيد بالوحي هذا عليه أن يحكم بما يظهر له، والباطن الخفي الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- انقطع بانقطاع الوحي.

ص: 18

"إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" النبي عليه الصلاة والسلام يخبر عن بعض الناس، عن باطن أمورهم، وعن خفاياهم، وعما يخفونه في نفوسهم، لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله -جل وعلا-، لكن الله قد يعلمه عن بعض الناس فيؤخذون بالوحي، وأما بعد انقطاع الوحي بموته عليه الصلاة والسلام "وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم" وأما السرائر فتوكل إلى الله -جل وعلا-، فالمؤاخذة كلها على الظاهر.

إذا زكي الشاهد أو الراوي من قبل عدلين فهو مقبول الشهادة، والتزكية كما يقرر أهل العلم إنما يسأل فيها عما يخفى على الحاكم، وإن كان ظاهراً للمزكي، وبعضهم يقول: إن التزكية إنما هي على الأمور الباطنة، ولذلك عمر رضي الله عنه لما شهد عنده رجل فقال له عمر: لست أعرفك، فأت بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: آت بمن يعرفك؟ هذه أسئلة عن أمور باطنة، ولعل عمر -رضي الله تعالى عنه- قامت عنده قرائن تدل على عدم مطابقة التزكية للمزكى، وإلا إذا كان ظاهره الصلاح وزكي من قبل من يعرفه يكفي؛ لأن الحكم إنما هو على الظاهر، والناس بين إفراط وتفريط، يعني بدءاً من أهل العلم الذي يعدلون ويجرحون الرواة فيهم المتشدد، وفيهم المتساهل، وفيهم المتوسط، وبين من يتكلم في الناس إلى يومنا هذا مع أن الأعراض مزلة قدم كما يقول ابن دقيق العيد:"حفرة من حفر النار""أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها العلماء والحكام" كثير من الناس يتكلم بمجرد استرواح وميل أو توقع يخوله هذا التوقع إلى الاستطالة بعرض أخيه، -نسأل الله السلامة والعافية-، وبعض الناس ينزج فيعدل ويوثق ويزكي بالجملة.

ص: 19

الآن يحتاج في كثير من الأمور إلى أقوال المزكين، فيأتي هذا الذي طلب منه التزكية إلى أحد من أهل العلم فيطلب منه تزكية، فإما أن يتشدد ويرده بالكلية، يقول: أنا لا أعرف منك إلا ما يظهر لي ولا أعرف حقيقتك ولا سافرت معك ولا عاملتك بناءً على ما جاء عن عمر، فيتضيق الأمر على الناس، أو يزكي بالجملة، ويكيل من ألفاظ المدح ما لا يستحقه هذا المزكى، والمطلوب التوسط في الأمور كلها، اكتب عنه ما تعرف فقط، ولذا يأتي كثير ممن تطلب منه التزكية إلى أحد من أهل العلم فيحرجه يطلب منه التزكية، ويصعب على كثير من الناس مواجهة بعض طلاب العلم لا سيما إذا كان يحضر عنده الدروس، ويراه بكثرة أن يستفصل عن بعض الأمور، أو يقول: والله أنا لا أعرفك معرفة دقيقة، نعم أنت تحضر عندي، يكفيك أن أقول: تحضر عندي؟ وبعض أهل العلم يتشدد تشدداً يضيق على طلاب العلم في هذه الناحية التي يحتاجون إليها كثيراً، وخير الأمور أوساطها، على الإنسان أن يتوسط، لا يبخل بما يعرف، ولا يكتب ما لا يعرف.

قال رحمه الله: "وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد شهادة الزور من أكبر الكبائر" متفق عليه في حديث طويل".

بالمناسبة يعني من مناسبة ذكر أبي بكرة وذكر الشهادات يحسن أن نذكر ما يتعلق بشهادة القاذف إذا تاب؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(4 - 5) سورة النور] القاذف إذا تاب الحد يلزمه بالاتفاق، يجلد {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [(4) سورة النور] يبقى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [(4) سورة النور] هل يتناول الاستثناء الأمرين معاً أو يعود إلى الأخير فقط؟ كونه لا يعود إلى الأول الذي هو الحد هذا محل اتفاق، وكونه يعود إلى الأخير محل اتفاق يرتفع عنه وصف الفسق، لكن تقبل شهادته أو لا تقبل؟ خلاف بين أهل العلم.

ص: 20

السبب في رد الشهادة هو الفسق {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [(6) سورة الحجرات] والفسق ارتفع بالتوبة بالإجماع ارتفع، فإذا ارتفع الوصف المؤثر في رد الشهادة تقبل الشهادة، وهذا قول أكثر أهل العلم، ومنهم من يقول: لما قيل: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النور] يقتضي ذلك التأبيد، مع أن التأبيد قد نص عليه في بعض المسائل، ودل الدليل على ارتفاعه.

الله -جل وعلا- ذكر عن أهل النار عن الكفار أنهم لا يتمنونه أبداً، لا يتمنون الموت أبداً، ثم بعد ذلك إذا دخلوا النار {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [(77) سورة الزخرف] تمنوا الموت حينئذٍ، طلبوا الموت مع اقتران عدم التمني بالتأبيد، مما يدل على أنه لو اقترن النفي بالتأبيد أنه يمكن ارتفاعه إذا ارتفع الوصف المؤثر فيه، فالوصف المؤثر في رد الشهادة هو الفسق، وإذا ارتفع الفسق ارتفع الوصف المؤثر فتقبل الشهادة حينئذٍ.

قال رحمه الله: "وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد شهادة الزور من أكبر الكبائر" متفق عليه في حديث طويل".

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ )) ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان عليه الصلاة والسلام متكئاً فجلس، ثم قال:((ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور)) فما زال يكرر عليه الصلاة والسلام حتى قلنا: ليته سكت، شفقة عليه ورحمة به عليه الصلاة والسلام، وكرر، وغيّر جلسته؛ للاهتمام بشأن شهادة الزور؛ لما يترتب عليها من مفاسد عظيمة، قد يترتب عليها إزهاق نفس، قتل نفس معصومة، قد يترتب عليها قطع طرف، قد يترتب عليها أخذ مال، قد يترتب عليها ظلم لا يطاق، وكم من شخص ظلم مظلمة عظيمة بسبب شهادة زور، وكم من شخص أزهقت روحه بسبب شهادة زور، ولذا أكد النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وكان متكئاً فجلس ((ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور)).

ص: 21

قد يهتم بالشيء أكثر ممن هو أشد منه، قال:((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ما جلس من أجلهما، ولا كرر مع أن الإشراك أعظم ذنب يعصى الله فيه -جل وعلا-، عقوق الوالدين أعظم الحقوق بعد حق الله -جل وعلا- بر الوالدين؛ لأن الناس قد ينتهكون بعض المعاصي، ويستمرونها، فيحتاجون إلى التشديد الذي يجعلهم يقلعون عنه، وبعض الأمور -وإن كانت أعظم- لا يشدد فيها؛ لأن النفوس نفس المسلم في الجملة تنفر منها، تنفر من الشرك، وحق الوالدين الملموس ينفر منه صاحب الطبع السليم أن يعق والديه، فشهادة الزور قد يحمل عليها رغبة أو رهبة، أو طمع، أو ما أشبه ذلك، ثم يتساهل الناس فيه، ويشدد في بعض الأمور؛ لأن الناس يتساهلون فيه ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) بلى إنه كبير، يعني في نظر الناس ما هو بكبير، لكنه في حقيقة الأمر كبير.

"وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم. قال: ((على مثلها فاشهد أو دع)) أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، وصححه الحاكم فأخطأ" نعم الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده محمد بن سليمان ضعفه النسائي وغيره، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، فالحديث ضعيف.

ص: 22

طيب ((ترى الشمس؟ )) قال: نعم، قال:((على مثلها فاشهد أو دع)) قد يقول بعضهم: معناه صحيح؛ لأن التثبت في الشهادة مطلوب، كما يتثبت في رؤية الشمس ورؤية القمر، لكن التثبت إلى هذا الحد يخرج بعض أنواع الشهادة، وهو ما يكتفى فيه بالاستفاضة، يعني لو جاء شخص بلغ السن النظامية، ويريد استخراج ما يثبت هويته بطاقة، فجاء لجاره قال: تشهد لي أني فلان ابن فلان عند الأحوال؟ إن قلنا: على مثله فاشهد يستطيع وإلا ما يستطيع؟ يستطيع، هل حضر العملية التي بسببها وجد، وتابع العمل إلى أن وجد هذا الشخص وعرفه بعينه؟ يكفيه استفاضة أن هذا ولد فلان، يكفيه، يعني وفد إلى البلد أناس، شخص له أولاد، استمر هذا الشخص عشر سنين، وأنت تعرف أن هذا سكن هذا البيت، ومعه هؤلاء الأولاد، وهذه الزوجة، يعني ما تشهد أن هذه زوجته وهؤلاء أولاده؟ وما يدريك أنهم هم بحق أو باطل؟ لكن الاستفاضة في مثل هذا تكفي، ولو طلب في مثل هذا ((على مثلها فاشهد)) لتعذرت الشهادة، تتعذر الشهادة؛ لأن مقتضى على مثلها مثل الشمس أنك لا بد أن تحضر من أول العمل إلى آخره، وهذا دونه، ما يمكن حضوره أصلاً، هذا لا يمكن حضوره أصلاً، فالقابلة تقبل شهادتها، وإن كانت امرأة واحدة في مثل هذا العمل؛ لأنه لا يمكن للرجال أن يحضروا مثل هذه الأمور.

قال رحمه الله: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد" الأصل أن الشهادة من اثنين في الأموال، رجلان أو رجل وامرأتان، وفي الحدود الرجال، وفي الأموال برجل وامرأتين، قد يتعذر وجود رجلين، أو رجل وامرأتين، المدعي الذي أحضر شاهداً واحداً أصل الدعوى لا تقبل إلا ببينة، جاء ببينة لكنها ناقصة، مجرد الدعوى ضعيفة بدون بينة، تقوت بالشاهد، في مقابل يمين المنكر بشاهد أقوى، لكن تحتاج، ما زال فيها ضعف، لم تبلغ النصاب الشرعي، لم يكتمل النصاب {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [(2) سورة الطلاق] تتقوى هذه البينة الضعيفة بالشاهد الواحد باليمين، ولذا حديث: ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وقال: إسناد جيد.

ص: 23

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. أخرجه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان.

على كل حال الحديث صحيح، كونه عليه الصلاة والسلام قضى باليمين مع الشاهد هذا صحيح، وقال به جمهور أهل العلم، وإن خالف في ذلك أبو حنيفة أنه لا يحكم بيمين مع الشاهد، وإنما لا بد من تمام النصاب في الشهادة، لكن ما دام الحديث مخرج في مسلم، وقال به جمهور أهل العلم، وقويت الدعوى بوجود البينة الضعيفة بشاهد واحد، لكنها تترقى وتتقوى بيمين المدعي.

نقف على هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 24