المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء - شرح حلية طالب العلم - الشثري

[سعد الشثري]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء

‌المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

فإن الله جل وعلا قد رغَّب في طلب العلم، ورتَّب عليه الأجور العظيمة، كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العلم رضًا بمَا يَطْلُبُ)

(1)

، وكما قال النبي: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهْلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إلى الجنَّةِ"

(2)

، وكما جاء في الحديث الثالث:(مَنْ خَرَجَ في طَلَب العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ)

(3)

.

ولذلك أشاد الأئمة بطلب العلم، ورغَّبوا فيه، وحثُّوا عليه انطلاقًا من هذه النصوص، وذلك أن حاجة الأمة إلى العلماء أشد من حاجتها إلى وجود غيرهم مِنْ طَوَائِفِ النَّاس، سواءً كان العُبُّاد، أو كان أهل الجهاد، أو كان أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك أن هذه العبادات لا تصح إلا بعلم، لو جاهد بدون علم، لكان ما يؤدي إليه جهاده من الفساد أعظم مما يؤدي إليه من إصلاح الأحوال، وهكذا في بَقِيَّة الأعمال؛ مَنْ تَقَرَّبَ إلى الله بصلاة ليست مبنيَّة على علم، فقد يكون فيها من المُبطلات والمُفسدات ما يجعلها غير مقبولة عند الله عز وجل، ولذلك اهتمَّ الأئمة بالعلم، ورغَّبوا فيه، وجَعَلوهُ شَرْطًا للعمل، كما قال الإمام البخاري: "باب العلم قبل القول والعمل

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي (3535)، والنسائي (158).

(2)

أخرجه الترمذي (2646)، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (223).

(3)

أخرجه الترمذي (2647).

(4)

الباب رقم (10) من كتاب العلم.

ص: 5

واسْتَدَلَّ عليه بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].

إذا تَقَرَّر هذا، فإن الله - جل وعلا - قد وازن بين العلماء وبين غيرهم، فَرَفَعَ شأن العلماء، وبيَّن رفْعَةً مكانتهم، كما قال - جل وعلا -:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال سبحانه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (فضل العالم عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ)

(1)

، (وفَضلُ العالم عَلَى العَابِدِ، كَفَضَل القَمَر عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِب)

(2)

، والنصوص في هذا كثيرة.

والعِلْمُ لا يَحصل إلا بطلبه، وبذل الأسباب من أجل تحصيله، ولذا كان طلب العلم من أفضل القربات.

وحاجة الأمة إلى العلماء أشد من حاجتها إلى غيرهم كما تقدَّم، ومن هنا فإن العلماء هم الذين يأمرون الناس بالخير، وهم الذين يعلِّمونهم ما فيه نفعهم في دنياهم وآخرتهم، وهم الذين يقي الله الأمة من الشرور، وهم الذين يستنبطون حلول مشاكل الأمة من كتاب الله - جل وعلا - ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذا تَوَجَّه الناس إلى رعاية العمل الإسلامي بدون أن يكون ذلك مبنيًّا على علم، كان ذلك سببًا من أسباب انتكاسة العمل الإسلامي؛ وذلك لأن العمل متى كان مبنيًّا على عاطفة، ولم يكن مبنيا على علم شرعي مؤصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كان ما يُؤَدِّيهِ من المفاسد أكبر مما يُؤَدِّيهِ من المصالح، خصوصًا في مثل أزماننا هذه، التي ركض فيها أهل الضلالة والفساد نحو

(1)

أخرجه الترمذي (2685).

(2)

أخرجه الترمذي (2682)، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (323).

ص: 6

مجتمعات المسلمين، يقودهم عدونا الأكبر الشيطان، من أجل صد الناس عن دين الله، ولهم في ذلك حيلٌ ومكر كثير، من حيلهم أنهم يدفعون الناس إلى ردود فعل غير محسوبة النتائج؛ فتؤدي إلى مفاسد شنيعة؛ وذلك لأنهم لم ينطلقوا في تصرفاتهم من علم شرعي، ولذلك ذكر العلماء أن من شروط الفعل المكلَّف به: العلم، بحيث يكون المرء عالمًا بأن الشرع قد كلَّف بذلك الفعل، ويكون المرءُ عالمُا بكيفية أداء ذلك الفعل، لكن العلم له طرائق في تعلُّمه، لا يمكن الاستفادة من هذا العلم إلا عندما نقوم بالالتزام بآداب التعلُّم، بحيث نتصف بهذه الآداب ونُطبِّقها في تعلمنا، فمن تعلم العلوم بدون أن يتأدَّبَ بالآداب الشرعية لم يبارك له في علمه، وكان الناس ينفرون منهُ، ويظنون أن تلك النُّفرة من العلم الذي يحمله، وإنما النُّفرة من سوء تأدُّبه، وسوء تخلُّقه بأخلاق الإسلام، فحينئذ قد يكون ما يؤديه من المفاسد أكثر مما يؤديه من المصالح، ولذلك عني أهل العلم بالتأليف في آداب طلب العلم منذُ العصور الأولى، فألّفت مؤلَّفات كثيرة، منها آداب حملة القرآن، ومنها أخلاق أهل العلم، لطائفة من أهل العلم، ولا زال علماء الشريعة يَعْتَنُون بهذا الباب، ولكن كل عصر تولد فيه مستجدات تجعل أهل العلم يحاولون أن ينصُّوا على أحكام هذه المستجدات من آداب طلب العلم في مؤلفاتهم، ولذلك كُلَّما وُجد عندنا كتاب يعتني بالمستجدات المتعلِّقة بطلب العلم وآدابه وطريقته كانت الاستفادة من ذلك أكثر وأشمل.

ومما أُلف في أدب طلب العلم كتاب: "حلية طالب العلم" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأمة الذين لهم مؤلفات عديدة، وقد كان عضوًا في هيئة كبار العلماء، وعضوا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وقد نفع الله به كثيرًا، ولم يمُت إلا منذ سنوات قليلة، ونَفَعَ الله بعلمه، ونشر الله ذلك العلم في الأمة في مشارق

ص: 7

الأرض ومغاربها، ولذلك فإني أستعين بالله في شرح هذا الكتاب "حلية طالب العلم" الذي فاز بمميزات:

أول هذه المميزات: اشتماله على أدب طلب العلم.

وثانيها: أن هذا الكتاب ألفَهُ عالم سلَفِي سُنّي، ينطلق من النصوص الشرعية فيما يكتبه.

وثالثها: أن هذا الكتاب اشتمل على آداب كثيرة من آداب طلب العلم، حتى فيما يتعلق بتربية طالب العلم في نفسه، وفي أخلاقه، وفي تعامله مع الله - جل وعلا - ومع عباده.

ومن مميزات هذا الكتاب: شموله لكثير من هذه الآداب، ولم يترك إلا الشيء القليل.

ومن مميزات هذا الكتاب: أنه قد تعرض لمسائل عصرية يحتاج إليها طالب العلم، سواءً فيما يتعلق بالتحزّبات والافتراقات، أو فيما يتعلَّق بجعل الولاء والبراء الجماعة أو حزب أو نحوه، أو فيما يتعلَّق بالوسائل الحديثة لطلب العلم وكيفية الاستفادة منها.

كذلك من مميزات هذا الكتاب: أنه أُلِّف بلغة رفيعة فيها ألفاظ عربية، بحيث يتعلَّم الإنسان من هذا الكتاب عددًا من الألفاظ اللغوية التي قد لا يجدها في غيره، ثم فيه من الألفاظ الجزلة القوية المؤدّية للمعنى ما يجعل لغة طالب هذه الكتاب تَعلُو وتَرتَفِع.

ولذلك لعلَّنا نشرح هذا الكتاب المبارك، كتاب "حلية طالب العلم" للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد رحمه الله تعالى، ورفع درجته، وأعلى منزلته في علِّيين، وجعلنا وإياكم ممن تبع هذا الإمام، واستفاد من علمه، وسار على طريقته، ورضي الله عنه بذلك، هذا ونبتدئ بإذن الله قراءة الكتاب.

ص: 8

‌مقدمة المؤلف

الحمد لله، وبعد:

فأقيد معالم هذه الحلية المباركة عام 1408 هـ، والمسلمون - ولله الحمد -

(1)

(1)

هذه مقدمة كتاب "حلية طالب العلم"، ذكر المؤلف فيها عددًا من الأمور:

الأمر الأول: السَّبَبُ الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب، وهو أنه رأى نهضَةً علمية مباركة من شباب الأمة نحو تعلّم العلوم الشرعية النافعة في الدنيا والآخرة، ولذلك خشي أن يكون هذا التعلم غير منضبط بالضوابط الشرعية فيُودي إلى مفاسد عديدة، ويؤدي إلى تضييع أوقات الشباب بما لا ينفعهم، ويقول: بأنه قد بذل خُطوة في هذا في رسالة "التعالم"، من أجل بيان من اندسَّ في طلب العلم، وهو ليس من العُلماء ليُحذر منه، ومن أجل ألا يُطلب العلم على يديه. ثم بعد ذلك بيّن أن هذه الشريعة مبنيَّة على الأخلاق الفاضلة، وأن أهل الإسلام يتمسَّكون بالخلقِ الطَّيِّب، ومن أَوْلَى من يتمسك بالخُلُق الطيب هم علماء الشريعة وطلبة العلم، ولذلك ألف هذه الرسالة في بيان آداب الشرع، من أجل أن يتمسك بها المتعلِّمون.

الأمر الثاني: أن من سنة العلماء التي توارثوها، وَرِثَهَا الصغير عن الكبير، أنهم يتعلمون آداب طلب العلم قبل بدئهم في تعلم العلوم، فلا بد أن نسير على هذ الطريقة؛ لأن هذه الأمة المحمَّديَّة لا تجتمع على ضلالة، ولذلك أوْصَى بوصية التزام دراسة آداب طلب العلم قبل دراسة ذات العلم، سواءً كان في المساجد أو في دور التَّعلم.

الأمر الثالث: وهو أنه من فاتته هذه الآداب فاته خيرٌ كثير، وفاته علم، بسبب عدم تأدبه بآداب التَّعلّم.

ثم ذكر أن هذا الكتاب لم يُعن باستيفاء الآداب، وإنما ذكر أمثلة ونماذج من أجل أن تفهم بقية المسائل بواسطة هذه الآداب التي ذكرها المؤلف في هذا الكتاب.

نمر على بعض الألفاظ الموجودة في الكتاب؛ لعلنا إن شاء الله نفسِّر شيئًا من هذه الألفاظ:

ص: 9

يعايشون يقظة علمية

(1)

تتَهَلَّل لها سبحات الوجوه

(2)

، ولا تزال تنشط متقدمة إلى الترقي والنضوج

(3)

في أفئدة شباب الأمة، مجدها ودمها المجدد لحياتها

(4)

، إذ نرى الكتائب الشبابية تترا يتقلبون في أعطاف العلم

(5)

مُثقَلِينَ بِحَمْلِهِ يَعُلّون منه وينهلون

(6)

، فلديهم من الطموح

(7)

والجامعية

(8)

، والاطلاع المدهش

(9)

، والغوص على مكنونات المسائل

(10)

،

(1)

قال المؤلف: "يعايشون يقظة علمية": يعني: أن المسلمين أصبح في حياتهم ومما شاع بينهم التوجه إلى العلم الشرعي، وتعلُّم هذا العلم، وهذا يُعدّ "يقظة علمية" كأنهم قد أفاقوا من السُبات والنوم إلى التَّعَلم.

(2)

ثم قال: "تَتَهلَّل له" أي أن سُبُحات الوجوه - وهي قسمات الوجوه وما فيها من أجزاء - تتهلل، بمعنى أنها تفرح ويظهر منها آثار الاستِبشَار.

(3)

وقال: "ولا تزال تنشط متقدمةً إلى التَّرقِّي والنضوج"، الترقي: الصعود إلى أعلى، والنضوج: أن يكون الشيء على تمامه، بحث يكون على أكمل وجوهه.

(4)

وقال: "في أفئدة شباب الأمة مجدها ودمها المُجدِّد لحياتها"؛ لأن هذا العلم هو الذي يُجدِّد للأمة حياتها، ويعيدها إلى الهدي النبوي.

(5)

ثم قال: "نرى الكتائب الشبابية تترا"، يعني: تأتي طائفة بعد طائفة "يتقلبون في أعطاف العلم"، عِطْف الثوب: جانبه وطرفه الذي يُتَحَلى به.

(6)

وقال: "مُثقلين بحمله يعُلُّون منه وينهلون" النَّهل: الشرب أول مرة، والعَلَل: الشرب في المرة الثانية.

(7)

قوله: "فلديهم من الطموح"، يعني الرغبة الجامحة للتعلم.

(8)

قوله: "والجامعية" يعني: الرغبة في جمع أكبر قدر من العلوم.

(9)

قوله: "والاطلاع المدهش"، يعني: الذي يجعل الإنسان يُعْجَبُ به.

(10)

قوله: "والغوص على مكنونات المسائل"، يعني: المسائل الخفية الغامضة التي يضعها أهل العلم في غير مواضعها.

ص: 10

ما يفرح به المسلمون نصرًا، فسبحان الله من يحيى ويميت قلوبًا

(1)

.

لكن، لا بد لهذه النواة المباركة من السَّقي

(2)

والتعهد في مساراتها كافة

(3)

، نشرًا للضمانات

(4)

التي تكف عنها العثار والتعصب

(5)

في مثاني الطلب، والعمل من تموجات فكرية، وعقدية، وسلوكية، وطائفية، وحزبية

(6)

.

(1)

قوله: "ما يفرح به المسلمون نصرًا، فَسُبْحَانَ من يحيي ويميت قلوبًا"، فحياة القلوب هي في العلم، وموت القلوب في ترك العلم.

(2)

قوله: "لكن لا بد لهذه النواة المباركة من السَّقي"، بحيث "نمدها" بطرائق التعلّم وآداب التعلم.

(3)

قوله: "والتعهد في مساراتها كافة"، يعني: في الطرق المتعددة التي يسلُكُونها في طلب العلم.

(4)

قوله: "نشرًا للضمانات"، يعني: للحواجز التي تحجز هؤلاء الشباب عن الضلال والإضلال، وعن الإسفاف في التعامل والخُلُق.

(5)

قوله: "التي تكف عنها العثار"، وهو السقوط مرة.

- "والتعثر": يعني السقوط الشديد الذي لا يتمكن الإنسان من التجاوز لمكان السقوط مرة أخرى.

(6)

قوله: "في مثاني الطلب والعمل .. "؛ لأن هناك "تموجات فكرية"، يعني: أن هناك أمورًا ناتجة عن أفكار بعض الناس، وذلك أن الشياطين تُلقي في قلوب بعض العباد وساوس يظنونها معقولات وأفكارًا فيبثونها، ويكتبونها، ويتكلَّمون بها في وسائل الإعلام، فتسبب موجات فتن مختلفة، وهناك أيضًا تموّجات عقدية، فهؤلاء من الطائفة الفلانية، وهؤلاء من الطائفة الفلانية، كيف نقي شبابنا هذه التموّجات؟ لا بد أن=

ص: 11

وقد جعلت طوع أيديهم رسالة في "التَّعالُم"

(1)

تكشف المندسين بينهم، خشية أن يردوهم

(2)

، ويضيعوا عليهم أمرهم

(3)

،

= يكون ذلك من خلال تعلمهم لآداب طلب العلم، وكذلك في الأمور السلوكية فيما يفعلونه ويؤدونه من السلوكيات والتصرفات التي قد يكون منشؤها ناشئًا من شرق أو غرب، ولا بد من أن نتعلم الآداب لنقي هؤلاء الشباب الذين توجهوا للعلم من العَثَرات السلوكية، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بتقسيم أهل الإسلام وجعلهم طوائف وأحزابًا يعادي بعضهم بعضًا؛ إذ إن هناك من يحاول أن يفرِّق المسلمين ويوجِد الشَّتات بينهم، ولذلك لا بد أن نعطي آدابًا واضحة تجمع أبناء الأمة ليكونوا على طريقة واحدة وهيئة واحدة، ينطلقون من الكتاب والسنة، وكلَّما رجع الناس إلى الكتاب والسنة كان ذلك سببًا لتآلف قلوبهم ومحبَّة بعضهم لبعض، وجعلهم أمة واحدة ويدًا واحدة على من سواهم، وكلما ابتعدوا عن الكتاب والسنة حصل النزاع والشقاق والتطاحن والتقاتل بينهم، ومن هنا نعلم أن التآُلف بين القلوب نعمة ربانية تكون لمن تمسك بكتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

(1)

رسالة التعالُم رسالة ألَّفها الشيخ رحمه الله لبيان صفات أولئك الذين يدَّعون العلم، ويحاولون أن ينسبوا إلى أنفسهم علومًا وهم ليسوا كذلك، وليسوا من أهل العلم في شيء، وإنما يريدون إظهار أنفسهم، وأذكر أن الشيخ ضرب لذلك أمثلة، فقال:"الطُّبوليّون"، وقال: (الخنفشاريُّ"، ولعل التنبيه إلى هذا يأتي - إن شاء الله - في هذا الكتاب.

(2)

قال: "خشية أن يُردُّوهم"، يعني: نخشى أن يأتي هؤلاء المتعالمون لطلاب العلم، فيكون ذلك سببًا لجعل طلاب العلم يتَردُّون ولا ينتفعون بالعلم.

(3)

قوله: "ويضيِّعوا عليهم أمرهم"؛ بأن يوجهوهم إلى غير العلم النافع، أو يعطوهم معلومات خاطئة، أو يدلوهم على طرائق مخالفة لطرائق أهل العلم.

ص: 12

ويبعثروا مسيرتهم في الطلب

(1)

، فيستلُّوهم وهم لا يشعرون

(2)

.

واليوم أخوك

(3)

يشد عضدك، ويأخذ بيدك، فأجعل طوع بنانك رسالة تحمل "الصفة الكاشفة"

(4)

لحليتك

(5)

، فها أنا ذا أجعل سن القلم على القرطاس

(6)

، قاتل ما أرقم لك

(7)

أنعم الله بك عينًا

(8)

:

(1)

قوله: "ويُبَعْثِروا مسيرتهم في الطلب"، كم وجدنا من هؤلاء المُتعالمين مِنْ صد الطلاب عن طلب العلم باسم طلب العلم.

(2)

ثم قال: "فيَسْتَلُّوهم وهم لا يشعرون"، يعني: يستخرجوهم استخراجًا لطيفًا، كما يقال: استلَّ الشَّعرة من العجين، يعني: استخرجها استخراجًا لطيفًا.

(3)

قوله: "واليوم أخوك"، يقصد المؤلف نفسه.

(4)

قوله: "يشد عضدك"، ويأخذ بيدك، فأجعل طوع بنانك رسالة تحمل "الصفة الكاشفة"، الصفات على نوعين: صفة كاشفة توضح وتُبَيِّن الموصوف، وهناك الصِّفات التي يُراد بها إعمال مفهوم المخالفة، وتُسمى:(الصفة المقيِّدة)، عندما تقول: رجل طويل، فـ (طويل) وصفٌ كاشف، وعندما تقول: أعتق رقبةً مؤمنة، معناها أنك تقول: في الكفارة: لا تعتق غير المؤمنة.

الصفة الكاشفة: أي الكيفية التي تتضح بها حال الشيء الموصوف، وهذا الوجه من الصفة هو الذي يراد به تمييز الموصوف الذي لا يعلم، ليميز من سائر الأجناس بما يكشفه. انظر حرف الصاد من "الكليات" 3/ 92.

(5)

قوله: "لحليتك"، الأصل في الحلية ما تلبسه النساء من الذهب والفضة ونحو ذلك، وهنا المراد به الآدابُ التي يتأدب بها طالب العلم فتظهر أمام الناس.

(6)

قوله: "فها أنا ذا أجعل سِنَّ القلم على القرطاس"، سن القلم: يعني طرف القلم.

(7)

قوله: "فاتلُ ما أرقم لك"، اقرأ ما كتبته لك.

(8)

قوله: "أنعم الله بك عينًا"، يعني: أنني أدعو الله عز وجل أن تنعم العيون برؤيتك.

ص: 13

لقد تواردت موجبات الشرع على أن للتحلِّي بمحاسن الأدب، ومكارم الأخلاق، والهدي الحسن، والسمت الصالح: سمة أهل الإسلام

(1)

، وأن العلم - وهو أثْمَن درة في تاج الشرع المطهر

(2)

- لا يصل إليه إلا المتحلِّي بآدابه

(3)

، المتخلِّي عن آفاته

(4)

، ولهذا عناها العلماء

(5)

بالبحث والتَّنبيه، وأفردوها بالتأليف، إما على وجه العموم لكافة العلوم، أو على وجه الخصوص، كآداب حملة القرآن الكريم، وآداب المحدِّث، وآداب المفتي، وآداب القاضي، وآداب المحتسب، وهكذا ..

والشأن هنا في الآداب العامة لمن يسلك طريق التعلم الشرعي

(6)

.

وقد كان العلماء السابقون يلقنون الطلاب في حِلَقِ العِلْمِ آداب الطلب، وأدركت خبر آخر العقد في ذلك الوقت في بعض حلقات العلم في المسجد النبوي الشريف؛ إذ كان بعض المدرسين فيه يدرس طلابه كتاب الزرنوجي (م سنة 593 هـ) رحمه الله تعالى، المسمى:"تعليم المتعلم طريق التعلم".

فعسى أن يصل أهل العلم هذا الحبل الوثيق الهادي لأقوم طريق، فيدرج تدريس هذه المادة في فواتح دروس المساجد، وفي مواد الدراسة النظامية،

(1)

قوله: "لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلِّي بمحاسن الآداب .. إلى أن قال: "سمة أهل الإسلام"، يعني: صفتهم الظاهرة، فالسمة هي الصفة الظاهرة.

(2)

قوله: "وأن العلم هو أثمن دُرَّة في تاج الشرع المطهر"، الدرة نوع من أنواع الجواهر، والتاج هو ما يلبس على الرأس.

(3)

قوله: "لا يصل إليه إلا المتحلِّي بآدابه"، المتحلِّي يعني: المتصف بالصفة الظاهرة.

(4)

قوله: "المتخلي عن آفاته"، يعني التارك للأخلاق الرديئة التي تكون سببًا لفوات العلم، وتكون من آفاته.

(5)

قوله: "ولهذا عناها العلماء"، يعني: الآداب بالبحث والتنبيه.

(6)

قوله: "والشأن هنا في الآداب العامة لمن يسلك طريق التعلم الشرعي"، يعني: أنني سأخصص كتابي في آداب طالب العلم.

ص: 14

وأرجو أن يكون هذا التَّقييد فاتحة خير في التنبيه على إحياء هذه المادة التي تهذب الطالب، وتسلك به الجادة في آداب الطلب وحمل العلم، وأدبه نفسه، ومع مدرِّسه، ودرسه، وزميله، وكتابه، وثمرة علمه، وهكذا في مراحل حياته.

فإليك حلية

(1)

تحوي مجموعة آداب، نواقضها

(2)

مجموعة آفات

(3)

، فإذا فات أدب منها اقترف المفرط آفة من آفاته، فمقل ومستكثر

(4)

، وكما أن هذه الآداب درجات صاعدة إلى السنة فالوجوب، فنواقضها دركات هابطة إلى الكراهة فالتحريم.

ومنها ما يشمل عموم الخلق من كل مكلف، ومنها ما يختص به طالب العلم، ومنها ما يدرك بضرورة الشرع، ومنها ما يُعرف بالطَّبع، ويدل عليه عموم الشرع من الحمل على محاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، ولم أعن

(1)

ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتتابع الناس على تعلم آداب التعلم فقال: "فإليك حلية"، يعني أهدي إليك حلية.

(2)

قوله: "تحوي مجموعة آداب، نواقضها"، يعني: يضادها.

(3)

قوله: "مجموعة آفات" فأنت إذا عرفت هذه الآداب، عرفت ما يقابلها من الآفات.

(4)

قوله: "فإذا فات منها أدب، اقترف المفرط آفة من آفاته، فمقلٌّ ومُستكثر"، وبعض هذه الآداب مستحب، وبعضها واجب، وكذلك ما يقابلها من الآفات منها ما هو مكروه، ومنها ما هو محرم. ما المراد بالسنة؟ هو المستحب، والنفل والمندوب، الذي طلبه الشارع طلبًا غير جازم، يُؤجر صاحبُه ولا يُعاقب تاركُه، لكن لا ينبغي لطالب العلم أن يتركه؛ لأن طلبة العلم هم أعلى الأمة بعد الأنبياء والصحابة، ولذلك يشرع لهم أن يلتزموا هذه السنن، أما الواجب فهو ما طلبه الشارع طلبًا جازمًا، بحيث يؤجر فاعله متى فعله الله، ويُعاقب تاركُه، والمراد بالمكروه هو ما نهى عنه الشارع نهيًا غير جازم، بحيث يُؤجر تاركُه متى تركه لله، ولا يعاقب فاعله، وأما المحرَّم فهو ما نهى عنه الشارع نهيًا جازمًا، بحيث يأثم فاعله متي فعله قصدًا عمدًا، ويؤجر تاركه متى تركه الله.

ص: 15

الاستيفاء لكن سياقتها تجري على سبيل ضرب المثال، قاصدا الدلالة على المُهِمَّات، فإذا وافقت نفسًا صالحة لها

(1)

، تناولت هذا القليل فكثَّرَتْهُ، وهذا المجمل ففَصَّلَتْهُ، ومن أخذ بها، انْتَفَعَ وَنَفَعَ، وهي بدورها مأخوذة من أدب من بارك الله في علمهم، وصاروا أئمة يُهْتَدَى بهم، جمعنا الله بهم في جنته، آمين.

* * * * *

(1)

قوله: "هذه الآداب منها ما يشمل كل مكلف، ومنها ما يختص به طلبة العلم، إلى أن ذكر قوله: فإذا وافقت نفسًا صالحة لها"، فمن يتلقَّى العلم، منهم من يكون عنده استعداد ونفس مهيأة لطلب العلم، وبالتالي تتقبل نفسه العلم، وتلتزم به، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، فهؤلاء عندهم نفوس صالحة، أسأل الله - جل وعلا - أن يجعل نفوسنا وإياكم صالحة لذلك. فهذه النفوس إذا قبلت هذه الآداب كثَّرتها واستفادت منها، وإذا وجدت كلامًا مختصرًا، فصَّلته وعرفت المراد به، والمعاني التي اشتملها ذلك الكلام.

من أخذ بهذه الآداب انتفع في نفسه ونفع غيره، وهذه الآداب مأخوذة من الكتاب والسنة، ومأخوذة من سير سلفنا الصالح الذين قال الله فيهم:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، فأثنى على تابعيهم؛ لكونهم اتبعوا سلفنا الصالح، وقال سبحانه:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} [لقمان: 15].

ص: 16

‌الفصل الأول آداب الطالب في نفسه

(*)

* هذا هو الأدب الأول من آداب طالب العلم.

المؤلف رحمه الله تعالى قسَّم آداب طلب العلم إلى آداب الطالب في نفسه، وآدابٍ متعلقة بكيفية الطلب والتلقي، وآداب الطالب مع شيخه، وأدب الطالب مع زميله، وأدب الطالب في حياته العلمية، وآداب متعلقة بالعمل وبالعلم، ثم هناك محاذير متعلقة بطلب العلم.

إذن قسَّم المؤلف كتابه إلى سبعة فصول:

الفصل الأول: في آداب طالب العلم في نفسه: طالب العلم في نفسه لا بد أن يلتزم بآداب شرعية محددة: أولها أن يعلم أن طلب العلم عبادة، ويترتب على ذلك أنه لا بد أن يلتزم بشروط العبادات، متى تكون العبادة صحيحة؟ إذا وجد فيها شرطان:

الشرط الأول: الإخلاص لله: والشرط الثاني المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون علم الإنسان على وفق الشريعة، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} أي: يكون فيه متَّبعًا، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} أي: أنه يخلص عمله لله، فينوي بأعماله وجه الله والدار الآخرة.

جاء في تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، قال الفضيل بن عياض:(أحسن عملًا: أن يكون صوابًا خالصًا)، صوابًا يعني: على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، خالصًا يعني: بنية الله.

إذا تقرَّر هذا فإن في الشرط الأول - وهو ما يتعلق بإخلاص النية - هناك نصوص كثيرة تدل على وجوب إخلاص النية في جميع الأعمال، ذكر المؤلف منها قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، وحديث: (إنما الأعمال=

ص: 17

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)

[1]

، وبين أنه إذا لم ينو الإنسان بطلبه للعلم وجه الله والدار الآخرة كان مشركًا، وكون الشرك يكون في معابد المشركين هذا نستنكره، لأنه فساد، فإذا وجد في بلاد الحرمين استنكرناه أكثر، فإذا وجد في بيوت الله في المساجد كان استنكارنا له أعظم، وما ذاك إلا شأن أولئك الذين يريدون بطلب العلم غير وجه الله تعالى. استمع لما يقوله - جل وعلا - فيمن أراد بعمله الدنيا:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16]. واسمع قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19]، ولذلك على كل منا أن يحرص على إخلاص النية في طلب العلم ماذا ننوي؟ ننوي إرضاء رب العالمين، وننوي رفعة الدرجة في الجنة، وننوي الحصول على الدرجات، فإن قال قائل: ما هي أوجه ترك هذا الأدب، أدب الإخلاص في طلب العلم؟ نقول هنا أمثلة: منها الرياء، رياء الشرك، بأن يقول: أنا أتعلم من أجل أن أكون صاحب منزلة عند الناس، أو أتعلم من أجل أن يتكلم الناس في علمي ويثنوا عليَّ، أو من أجل أن يقول الناس ما أكثر محفوظاته.

الشرط الثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم: لأن من لم يتابع الهدي النبوي في العبادة فإن عبادته مردودة؛ لأنها تكون بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)

[2]

، أي مردودٌ على صاحابه، وقال صلى الله عليه وسلم:(كل بدعة ضلالة)

[3]

، والله - جل وعلا - يقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، ولذلك جاءت النصوص بالأمر باتباع هذ النبي الكريم، فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ =

[1] أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، وابن ماجه (4227)، وغيرهم.

[2] أخرجه البخاري (2550)، ومسلم (1718).

[3] أخرجه مسلم (867)، وأبو داود (4607)، والنسائي (1578).

ص: 18

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولذلك يحرص الإنسان على اقتفاء الهدي النبوي، وخصوصًا في طلب العلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وفد عليه الطلاب وعلَّمهم، وجعل لهذا التعلم آدابًا وسنًا وطرائق، ولذلك لا بد أن نقتدي بهذا الهدي الكريم، ولا يمكن أن نقتدي بهذا الهدي الكريم حتى نتعلم السُّنُّة الواردة في ذلك، إذ كيف تقتدي بشيء أنت لا تعرفه؟

أو يكون مقصوده التفوق على الأقران، فيقول: أتعلم وأدرس من أجل أن أكون الأول على زملائي، ومن أجل أن كون سابقًا لفلان أو لفلان، أو يكون تعلمه سُلَّما لأغراض وأعراض بحيث يقول: أنا أريد أن أكون لي أموالٌ كثيرةً بسبب طلبي العلم، أو أريد أن يكون لي منزلة، وبالتالي إذا طلبت من أحد المسؤولين أمرًا من الأمور استجابوا لي، أو يكون لي منزلة وجاه بحيث إذا شفعت لأحدٍ من قرابتي شُفِّعْتُ فيه، أو أن يعظمني الناس في المجالس إذا دخلت في المجلس وضعوني في صدر المجلس، أو ليُقبِّلوا رأسي. كل هذه أغراض فاسدة تخالف الإخلاص في النية.

إذا حصل شيء من هذه الأمور، ولم تكن من قصد الإنسان، ولم تكن عنده ذات قيمة ومنزلة، فهذه لا تؤثر عليه، لو حصل أن عالمًا أصبح الناس يقبِّلون رأسه، لم يكن قاصدًا لذلك ولا مريدًا، له وأذِن لهم ليكون ثوابًا لهم؛ لأن الإنسان لا يستفيد من تقبيل الناس لرأسه شيئًا، بل قد يؤذونه ويؤلمون رقبته، فالمستفيد المُقبِّل لا المُقبَّل، فحينئذ لا تؤثر على نيته وإخلاصه. ويدل على ما سبق ما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: (أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة؛ منهم رجلٌ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال:=

ص: 19

‌العلم عبادة

(1)

:

أصل الأصول

(2)

في هذه "الحلية" بل ولكل أمر مطلوب عِلْمُكَ بأنَّ العلم عبادة، قال بعض العلماء:"العلم صلاة السر، وعبادة القلب".

= كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال قارئٌ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)

[1]

. والعياذ بالله، أتعب نفسه في الدنيا، ولم يحصل ثمرةً في الآخرة.

وجاء في سنن الترمذي أن: من (طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار)

[2]

، فالأمر خطير، وليس الأمر بالسهل.

وذكر المؤلِّف أيضًا عددًا من الآثار المتعلقة بهذا.

(1)

قال: "العلم عبادة"، يقصد بالعلم: العلم الشرعي؛ لأنه مما يتمحَّض أن يكون عبادة، والناس فيه على ثلاثة أصناف:

الأول: من جعله الله من أجل أن يُنيله الآخرة، فهذا مؤمن موحد مُثاب.

الثاني: من جعله الله لينيله الله الدُّنيا، فليس له في الآخرة من خلاق.

الثالث: من قصد به الدنيا مباشرة، فهذا مشرك آثم مستحق للغضب دنيا وآخر.

(2)

وقول المؤلف: "أصل الأصول"، هذا الأصل، يعني يتعلق بالنية ويتعلق بالمتابعة، قال بعض العلماء: "العلم صلاة السر، وعبادة القلب؛ لأن العلم منشؤه ذاتي من القلب، والنية فيه تكون مما يختص به، أو مما يُضْمَر في القلوب.

[1] أخرجه مسلم (1905)، والنسائي (3137).

[2] أخرجه الترمذي (2654)، وابن ماجه (253).

ص: 20

وعليه، فإن‌

‌ شرط العبادة

‌1 - إخلاص النية لله سبحانه وتعالى،

لقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]:

وفي الحديث الفرد المشهور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات

). الحديث

(1)

.

فإن فقد العلمُ إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات

(2)

، ولا شيء يحطم العلم مثل: الرياء، رياء شرك، أو رياء إخلاص، ومثل التسميع، بأن يقول مسمعًا: علمت وحفظت

(3)

.

(1)

وقول المؤلف: "في الحديث الفرد المشهور"، الفرد يعني أنه غريبٌ رواه راوٍ واحد عن راوِ واحد عن راوٍ واحد، وذلك أن هذا الحديث قد رواه يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التَّيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب، فهو فردٌ في أربع طبقات من إسناده (مشهور)؛ لأنه اشتهر بَعْدَ ذلك على الألسن واستفاض، فقد رواه عن يحيى بن سعيد قرابة مائتي راوٍ.

(2)

وقول المؤلف: "فإن فقد العلم إخلاص النية، انتقل من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات"، لأنه حينئذ يكون شركًا؛ إما شركًا أكبر وإما شركًا أصغر، ومثل المؤلف له بالأمثلة.

(3)

قوله: "ومثل التسميع بأن يقول مسمِّعًا"، للناس: أنا علمت بكذا، وأنا حفظت كذا، بحيث يكون له منزلة. مثَّل المؤلف بما يفقد فيه الإخلاص: بحب الظهور؛ فيقول: أتعلم حتى يعرفني الناس، ويكون لي معرفة، ويعرفني من في مشارق الأرض ومغاربها، فإنَّ هذا ليس من الإخلاص في شيء.

ص: 21

وعليه، فالتزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب؛ كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلمًا لأغراض وأعراض، من جاه، أو مال، أو تعظيم، أو سمعة، أو طلب محمدة، أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها، وذهبت بركة العلم، ولهذا يتعيَّن عليك أن تحمي نيَّتَك من شوب الإرادة لغير الله تعالى، بل وتحمي الحِمَى.

وللعلماء في هذا أقوال ومواقف بينت طرفًا منها في المبحث الأول من كتاب "التعالم"، ويزاد عليه نهي العلماء عن "الطبوليات"

(1)

، وهي المسائل التي يراد بها الشهرة.

وقد قيل: "زلة العالم مضروب لها الطبل".

وعن سفيان رحمه الله تعالى أنه قال: "كنتُ أوتيتُ فهم القرآن، فلما قبلتُ الصُّرَّةَ سُلِبْتُهُ"

(2)

.

(1)

قال: ويزاد عليه نهي العلماء عن "الطبوليات"، يأتي الإنسان بالمسألة الغريبة فينشرها في وسائل الإعلام، ثم يأتي ضعاف القلوب فيصفقون لها، ويطبلون لها، وينشرونها في الأمة، ولذلك نقل هذه الكلمة "زلة العالم مضروب لها الطبل"؛ لو أتى إنسان غير معروف بقول شاذ فيكتب كتابة مخالفة لما استقر في علم الشريعة لانطمست ولم يكن لها أثر، وإنما نخشى من زلة العالم، فإنه يزلُّ بها عالم، هذا ما أراده المؤلف بهذه الكلمة.

(2)

قال سفيان: "كنت أوتيت فهم القرآن"، يعني معرفة معاني آيات القرآن وأسراره وحكمه، وتمكنت من استنباط الأحكام منه، "فلما قَبِلتُ الصُّرَّة" أخذت المال من الناس، سُلبت هذه القدرة، وهي فهم القرآن، وحينئذٍ يحذر الإنسان - طالب العلم - من الرغبة =

ص: 22

فاستمسك رحمك الله تعالى بالعروة الوثقى العاصمة من هذه الشوائب؛ بأن تكون - مع بذل الجهد في الإخلاص - شديد الخوف من نواقضه، عظيم الافتقار والالتجاء إليه سبحانه.

ويؤثر عن سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله تعالى قوله: "ما عالجت شيئًا أشد على نفسي من نيتي"

(1)

.

وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده: "يا أبي! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعَظَهُم غيرُك لا يبكون؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة".

وفقك الله لرشدك آمين.

= في الدنيا وبذل العلم من أجله، فإنه يكون سببًا من أسباب عدم فهمه للعلم، ومن أوّله فهم القرآن، وليعلم بأن ما أتى من هذا المال بدون طلب، وبدون إشراف نفس، ولم تتعلق نفسه به، وقضى حوائجه، فحينئذ لا يلحقه به حرج، كما ورد في حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غيرُ مُشْرِفٍ ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)

[1]

.

(1)

ثم ذكر المؤلف قول سفيان أيضًا: ما عالجت شيئًا أشدَّ علي من نيَّتي"، النية سهلة على من سهَّلها الله عليه، وفي لحظة وفي ثانية تتمكن من قلب نيتك وتجعل أعمالك الله، وفي نفس الوقت هي صعبة عسيرة؛ لأن الناس يغفَلون عنها من جهة؛ ولأن الشيطان يحرص على إفساد النوايا؛ لأن النية عظيمة النفع، كبيرة الأثر، جالبة البركة، ومن ثم فالشيطان يحرصُ على إفساد النيات من أجل هذا الأمر.

[1] أخرجه البخاري (1473)، ومسلم (1045)، والنسائي (2607).

ص: 23

الخصلة الجامعة

(1)

لخيري الدنيا والآخرة: محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحقيقها بتمحّض المتابعة وقفو الأثر للمعصوم:

قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31].

وبالجملة، فهذا أصل هذه الحلية

(2)

، ويقعان منها موقع التَّاج من الحُلَّةِ

(3)

.

فيا أيها الطلاب! ها أنتم هؤلاء تربَّعتم للدرس، وتعلقتم بأنفس علق (طلب العلم)، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلانية، فهي العدة، وهي مهبط الفضائل، ومتنزّل المحامد، وهي مبعث القوة، ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن، فلا تفرطوا.

‌2 - كن على جادة السلف الصالح

(4)

:

(1)

وقول المؤلف: "الخصلة الجامعة"، يعني الشرط الثاني من شروط العبادة، المتابعة، والمتابعة هي الجالبة لمحبة الله ولمحبة رسوله، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

(2)

قوله: "وبالجملة فهذا أصل هذه الحلية"، الذي هو الإخلاص والمتابعة.

(3)

قوله "ويقعان منها موقع التاج من الحلة"، في أعلى شيء وأبرك شيء وأعظم شيء وأكثر شيء أثرًا؛ الإخلاص والمتابعة.

(4)

قوله في الحلية الثانية: "كن على جادة السلف الصالح"، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:(أن خير أمته هم القرن الأول، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فهؤلاء هم خير الأمة

[1]

، وإذا=

[1] أخرجه البخاري (2508)، ومسلم (2533).

ص: 24

كن سَلَفِيًّا على الجادة

(1)

، طريق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم،

= أردنا أن نكون ممن اتصف بالخيرية فلنكن ممن يسير على طريقتهم، قال الله - جل وعلا -:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، والله - جل وعلا - قد أمر باتباع طريقة الصالحين، كما قال - جل وعلا -:{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وأمر بالاقتداء بأهل الفضل، ولذلك لما ذكر قول إبراهيم وممن معه، أمر بالاقتداء بهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6]، ولما ذكر الله - جل وعلا - السابقين من المهاجرين والأنصار أمر باتباعهم، وأثنى على من اتبعهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)

[1]

، وقال:(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)

[2]

، والنصوص في هذا كثيرة.

ولذلك تجد السلف الصالح عندهم من الفوائد والبركة الشيء الكثير، عندهم كلام قليل فيه معان كثيرة، فما أعظم مِنَّة الله علينا بأن جعل سلفنا أولئك القوم الصالحين! فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنت عليه النصوص، قال تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، والنصوص في الثناء عليهم كثيرة.

(1)

قول المؤلف: "كن سلفيًا"، بعض الناس يقول: السلف مرحلة زمنية، فكيف ينتسب المتأخر للسلف؟ فنقول: اتباع السلف ليس مرحلة وإنما هو علم وعمل، وبالتالي نحن نقصد اتِّبَاع السلف الذي جاءت النصوص به، فمن طالبنا بغير ذلك لم نسمع منه.

[1] أخرجه الترمذي (3662).

[2] أخرجه الترمذي (2676)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (42).

ص: 25

فمن بعدهم ممن قفا أثرهم في جميع أبواب الدِّين

(1)

، من التوحيد، والعبادات، ونحوها، متميزًا بالتزام آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال

(2)

،

(1)

ثم قال المؤلف: "اتبع طريق السَّلف الصالح ومن قفا أثرهم في جميع أبواب الدين"؛ لأن بعض الناس يقتدي بالسلف في باب دون باب، فحينئذ يضل في الباب الذي ترك فيه الاقتداء بسلف الأمة، أضربُ لهذا مثالًا: يأتيك إنسان يُتقِنُ أبواب الصفات، ويكون على طريقة السلف الصالح فيه، ولكنه في أبواب الإيمان لا يكون كذلك، حينئذٍ ضيَّع جزءًا من طريقة السلف، عندما يأتي في أبواب الإيمان وأبواب الصفات على طريقة السلف، لكنه يخالف طريقة السلف فيما يتعلق بمعاملة الولاة، حينئذ لا يكون سلفيًا، لأنه وإن كان سلفيًا في باب لكن لا يقال له بأنه سلفيٌ بإطلاق، ذكر المؤلف من ذلك:(التوحيد والعبادات ونحوها).

(2)

قوله "وترك الجدال"، الجدال قد يراد به توضيح الحق والاستدلال له، فيكون محمودًا، مرغبًا فيه، وقد يكون المراد به المناقشة العقيمة، والمجادلة بما لا يصل إلى ثمرة، بحيث يكون مقصود كلٍّ من المتكلمين الانتصار للنفس، فحينئذ يكون مذمومًا، أما الدليل على المحمود فقول الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46]، هذه الآية اشتملت على النوعين: الجدال المذموم، والجدال المحمود، وقال تعالى في الجدال المحمود:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فإذا كان الجدال ليس بالتي هي أحسن فإنه يكون مذمومًا، وإن كان بالتي هي أحسن فإنه يكون محمودًا، فما صفة الجدال المحمود؟ أن يكون المقصود والمراد هو إعلاء الحق وبيانه، وإرشاد الناس إليه، لا الانتصار للنفس، إذا كان المجادل ملتزمًا بالآداب والأخلاق الشرعية، إذا كان المجادل لا يتكلم بلسانه بما يخالف الحق، أو بما يكون منافيًا للأدب.

ص: 26

والمراء

(1)

، والخوض في علم الكلام،

(2)

وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع.

قال الذهبي رحمه الله تعالى: "وصح عن الدارقطني أن قال: ما شيء أبغض إليَّ من علم الكلام. قلت: لم يدخل الرجل أبدًا في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيًا"

(3)

. ا. هـ.

(1)

قوله: "المراء"، المراد بالمراء: الحديث والمجادلة التي لا تصل إلى ثمرة ونتيجة، بحيث يردِّد كل منهما مقالته وينتصر لها، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)

[1]

، فإن المرء يأتي بالحق ويوضحه ويبينه ويقيم الدليل عليه، وحينئذ يكتفي بذلك.

(2)

قوله: "والخوض في علم الكلام"، علم الكلام الذي ذمَّةُ السلف الصالح يراد به: الحديث في المباحث العقدية على مقتضى الطرائق اليونانية، طرائق غير المسلمين، فإن الكلام في التوحيد على مقتضى ما ورد في الكتاب والسنة محمود مرغَّبٌ فيه، سواء كان بالدلالة الشرعية المجردة، أو بالدلالة العقلية الموافقة لها؛ لأن القرآن قد اشتمل على أعلى الأدلة العقلية الواردة في المباحث العقدية، انظر في آخر سورة (يس)، فإنها حجج عقلية ترشدك إلى الإيمان بالبعث يُذْعِنُ لها كل عاقل منصف.

(3)

قوله: "صح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إليَّ من علم الكلام. قلت: لم يدخل الرجل أبدًا"، الذهبي يثني على الدارقطني، يقول:"لم يدخل الدارقطني في علم الكلام ولا الجدال، بل كان سلفيًا".

[1] أخرجه أبو داود (4800).

ص: 27

وهؤلاء هم (أهل السنة والجماعة) المتبعون آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأهل السنة: نقاوة المسلمين، وهم خير الناس للناس"

(1)

ا. هـ.

فالزم السبيل، {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

‌3 - ملازمة خشية الله

(2)

:

التَّحَلّي بعمارة الظاهر والباطن بخشية الله تعالى، محافظًا على شعائر الإسلام، وإظهار السنة ونشرها بالعمل بها والدعوة إليها؛ دالًا على الله

(1)

ثم ذكر كلمة شيخ الإسلام: "أهل السنة نقاوة المسلمين"، يعني صفوتهم "وهم خير الناس"، لأنهم يرشدونهم إلى الحق، ويحسنون إليهم، ويكُفّون عن الكلام في معايبهم، وبالتالي هم خير الناس للناس، بينما بقية الطوائف يكون عندهم من الشر والأذى ما يقابلون به إحسان أهل السنة إليهم، ولذلك من رحمة الله أن جعل أهل السنة أهل الصفات الحسنة الذين يحسنون إلى الخلق، وكلما ابتعد الإنسان عن السنة تقرَّب إلى الله بإيذاء الناس.

(2)

الأدب الثالث من حلية طالب العلم: "ملازمة خشية الله تعالى"، بحيث يمتلئ قلبك من مخافة الله التي تدفعك إلى طاعته، وتبعدك عن معصيته، والفرق بين الخوف والخشية أن الخوف يُلاحظ فيه الخائفُ ضَعْفَ نفسه، والخشية يُلاحِظُ فيها الخاشي قوة المخشي، فعندما يُلاحظ المرء قدرة الله - جل وعلا - تبدأ عنده درجة الخشية، وكلاهما مطلوب؛ الخشية والخوف، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، والخشية أيضًا مطلوبة، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 19 - 21]، فإذن الخشية من الدرجات المطلوبة، والخشية تدفع الإنسان إلى المحافظة على شعائر الإسلام في باطنه وظاهره.

ص: 28

بعلمك وسمتك وعملك، متحليًا بالرجولة، والمساهلة، والسمت الصالح

(1)

.

وملاك ذلك خشية الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى:"أصل العلم خشية الله تعالى".

فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن خير البرية من يخشى الله تعالى، وما يخشاه إلا عالم، إذن فخير البرية هو العالم، ولا يغب عن بالك أن العالم

= الخشية تنشأ من أمور:

أولها: العلم بالله تعالى وبقدرته وبصفاته، ومن ذلك أن يعلم العبد أن الله مطلع عليه في كل أحواله.

الثاني: مما تنشأ عنه الخشية، معرفة العبد بأن ربه قادر عليه، قادرٌ على إنزال العقوبة به، ويُطالع سنن الله في الكون في الأمم السابقة كم أنزل بهم من العقوبات.

والخشية تنشأ من ملاحظة الدار الآخرة، وأن المرء عما قريب منتقل إليها، ومحاسبٌ على أعماله في الدنيا، فأذا استحضر الإنسان ذلك زادت عنده صفة الخشية من الله تعالى.

هذه الخشية ليست خاصة بالقلب بل لها مظاهر في ظاهر البدن، منها المحافظة على شعائر الإسلام ومنها إظهار السنة، ومنها حرص الإنسان على نشر السنة والدعوة إليها، ومنها أن يكون المرء متخلقًا بالأخلاق الفاضلة، سهلًا مع عباد الله.

- وهذا معنى قول المؤلف: "والمساهلة"، يعني أن يكون هيِّنًا رفيقًا مع الخلق.

(1)

قوله: "السَّمت الصالح"، فالسَّمت المراد به الصفة الظاهرة، قال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [فاطر: 28].

ص: 29

لا يعدُّ عالمًا إلا إذا كان عاملًا، ولا يعمل العالم بعلمه إلا إذا لزمته خشية الله.

وأسند الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بسند فيه لطيفة إسنادية برواية آباء تسعة، فقال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن زيد بن أكينة بن عبد الله التميمي من حفظه؛ قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل)

(1)

.

وهذا اللفظ بنحوه مروي عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى.

‌4 - دوام المراقبة

(2)

:

التحلي بدوام المراقبة الله تعالى في السِّرّ والعلن، سائرًا إلى ربك بين

(1)

ثم أورد المؤلف أثر "هتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل"، يعني: أن صاحب العلم إذا عَمِلَ به بقي علمُه، وإذا لم يعمل به فإن العلم يزول، ولكن هذا الأثر الذي ذكره المؤلف ضعيف الإسناد، فيه عبد العزيز التميمي، وهو مُتكلَّمٌ فيه، ولذلك لا يصح هذا الأثر، وهو ضعيف جدًّا.

(2)

هذه الصفة الرابعة من صفات طالب العلم، حلية طالب العلم تقتضي أن الطالب يستشعر أن الله تعالى يُراقِبُهُ، فهو يراقب عمله الظاهر، وهو يراقب نيته ومقصده؛ لأن الله تعالى كما وصف نفسه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5]، وكما قال - سبحانه - في وصف نفسه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، ومن =

ص: 30

الخوف والرجاء، فإنهما للمسلم كالجناحين للطائر

(1)

.

فأقبل على الله بكليتك

(2)

، وليمتلئ قلبك بمحبته

(3)

، ولسانك بذكره،

= استشعر هذه الصفة، وكانت صفةً ملازمةً له، وصل إلى أعلى مراتب الدِّين، وهي صفة الإحسان، فإن صفة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والمؤمن يتَّصف بهذه الصفة حال وجوده بين أيدي الناس وحال خلوته؛ لأنه يعلم أن الله - جل وعلا - مُطَّلِعٌ عليه في جميع أحواله، {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29]، كذلك هذه الصفة تجعل المؤمن يستشعر الخوف ويستشعر الرجاء، فهو يخافُ على نفسه أن يُعاقبه الله بسبب ذنوبه، وهو في نفس الوقت يرجو من الله أن يُسبغَ عليه نعمهُ، وأن يرحمه بسبب أن الله كريم عفو رحيم متفضِّل، فهو يخاف بسبب فعل نفسه، ويرجو بسبب رحمة ربه.

(1)

قوله: "فإنهما - يعني الخوف والرجاء - للمسلم كالجناحين للطائر"، وهذا يدلك على خطأ من يقول: العبادة تكون بالمحبة فقط، بل لا بد في العبادة من خوف ورجاء ومحبة.

(2)

قوله: "فأقبل على الله بكُلِّيَّتك"، يعني: بجميعك، من أقبل على الله فإن الله سيكون له معينًا، ومؤيدًا وناصرًا، من كان مع الله كان الله معه، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

(3)

قوله: "وليمتلئ قلبك بمحبة الله"، لأن محبة العبد لربه من القربات، قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وليمتلئ لسانك بذكر الله فإن ذكر الله سبب من أسباب طمأنينة القلب التي يتمكن القلب بها من تحصيل العلم، وذكر الله سبب من أسباب طرد الشياطين التي تلقي الوساوس في قلوب العباد، وذكر الله سبب من أسباب إعانة الله للعبد كما قال سبحانه:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وفي الحديث القدسي=

ص: 31

والاستبشار والفرح والسرور بأحكامه وحكمه سبحانه

(1)

.

= يقول الله تعالى: (وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)

[1]

، وهذا الوصف مما يؤكد عليه خصوصًا في زماننا هذا؛ فإن الإكثار من ذكر الله أعظم أسباب تحصيل العلم، وكلما كان الإنسان مكثرًا لذكر الله فتح الله ذهنه للفهم الصحيح، وجعل قلبه يحوي العلم الكثير، وبارك الله في شأنه كله، وكلما أقل الإنسان من ذكر الله، ابتعدت عنه البركة، ولذلك ليكن لطالب العلم أورادٌ يومية، وكلما خَلا بنفسه اشتغل لسانه بذكر الله، وترك هذه الوساوس التي تشغل قلبه في أوقات خلوته.

وإذا تأمل الإنسان الأمر بذكر الله، وجد أن الله لا يأمر بالذكر إلا ويصفه بصفة الكثرة، كما قال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، بينما وصف المنافقين بأنهم كانوا:{وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، حينئذ إذا أراد الإنسان أن يبارك له في وقته، وفي شأنه، فليُكثر من ذكر الله، ومن أعظم أنواع الذكر: قراءة القرآن.

(1)

قوله أيضًا: من الأمور التي يتصف بها طالب العلم: "الاستبشار والفرح والسرور بأحكام الله وحكمه سبحانه وتعالى"، فافرح بما أنعم الله عليك، وافرح بإنزال هذا الكتاب، وافرح ببعثة هذا النبي الكريم، وافرح بأن تعلمت شيئًا من أحكام هذه الشريعة، قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

هذا شيء من الصفات التي ذكرها المؤلف في حلية طالب العلم مما يتعلق بصفة طالب العلم في نفسه.

[1] أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، والترمذي (3603).

ص: 32

‌5 - خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء

(1)

:

(1)

ذكر المؤلف رحمة الله تعالى أدبًا خامسًا من آداب طالب العلم، وهو خفض الجناح ونبذ الخيلاء، والكبرياء، والمراد بهذا التواضع، فخفض الجناح، بأن يكون المرء يُحْسِنُ التعامل، ذليلًا في تعامله مع غيره، بحيث لا يري لنفسه فضلًا، ولا مكانة، ولا يرى أنه أعلى من غيره، هذا هو خفض الجناح، بحيث يكون بمثابة من يرى أنه والناس بمرتبة واحدة، ولا يري له فضلًا على أحد من الناس، ولا يرى أنه أرفع أو أعلى من أي أحد من الخلق مهما كانت منزلة من يقابله.

وأما الخيلاء والكبرياء فالمراد بها: رؤية المرء للنفس حتى يُخيّل للإنسان أنه أعلى من غيره، وأرفع درجة منهم، وأما الكبرياء فقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها جحد الحق واحتقار الخَلق.

إذا تقرر هذا فإن الكِبْر والبَطرَ من الأمور المحرَّمة في الشريعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ)

[1]

، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبرٍ)، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال:(إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغَمْطُ الناس)

[2]

.

بطر الحق: يعني جحده، وغمط الناس: يعني احتقارهم.

والنصوص الواردة في النهي عن الخيلاء والكبرياء كثيرة، جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)

[3]

.

[1] أخرجه مسلم (2865)، وأبو داود (4895)، وابن ماجه (4179).

[2] أخرجه مسلم (91)، وأبو داود (4092).

[3] أخرجه البخاري (5784)، والترمذي (1731)، وأبو داود (4085).

ص: 33

تحل بآداب النفس، من العفاف

(1)

، والحلم

(2)

، والصبر

(3)

، والتواضع للحق

(4)

، وسكون الطائر، من الوقار

(5)

والرزانة

(6)

، وخفض الجناح

(7)

، متحملًا ذلّ التعلم لعزة العلم، ذليلًا للحق.

(1)

فقول المؤلف: "تحل بآداب النفس من العفاف"، المراد بالعفاف: ترفع النفس عما لا يليق بها، فابتعادها عن الأمور السيئة والفواحش، وترفعها عنها يعد عفافًا.

(2)

قوله: "الحلم فهو السكينة والأناة، بحيث يصبر الإنسان على أذى الآخرين، ويكون حسن التعامل معهم.

(3)

قوله: "الصبر" فيراد به ضبط النفس مع ورود أذية الآخرين، كما يراد به الصبر في طاعة الله، والصبر عن معاصي الله.

(4)

قوله: "والتواضع للحق"؛ بحيث إذا جاءك الحق من أي أحد قبلته وعملت به مهما كان قائله.

(5)

قوله "وسكون الطائر من الوقار"؛ بحيث لا يكون الإنسان خفيفًا ولا سريعًا، وإنما تظهر عليه السكينة والهدوء.

(6)

قوله: "والرزانة"؛ بحيث لا يتصرف الإنسان تصرفات فيها تسرع، أو فيها دلالة على طيش.

(7)

قوله: "وخفض الجناح"، يعني: التواضع مع الآخرين، "متحملًا ذل التعلم" من أجل أن تنال عزة العلم "ذليلًا للحق".

ص: 34

وعليه فاحذر نواقض هذه الآداب

(1)

، فإنها مع الإثم تقيم على نفسك شاهدًا على أن في العقل علة، وعلى حرمان من العلم والعمل به، فإياك والخيلاء، فإنه نفاق وكبرياء، وقد بلغ من شدة التوقي منه

(2)

عند السلف مبلغًا.

(1)

قوله: واحذر نواقض هذه "الآداب"، فإن المرء يكسب بهذه الآداب الأجر والثواب متى نوى التقرب بها الله، ويكسب أيضًا محبة الناس له، لكن إذا اتصف الإنسان بضد هذه الآداب، فإنه:

أولًا: يأتم.

وثانيًا: يمقته الله.

وثالثًا: يحتقره الناس، ويعلمون أن في عقله مرضًا وعلة، ومن ثم يجتنبونه.

ورابعًا: يكون سببًا لحرمان العلم والعمل.

(2)

قوله: "وقد بلغ من شدَّة التَّوقِّي مِنْهُ"، يعني بلغ من شدة السلف للحذر من ذلك مبالغ عالية، من ذلك أن عمرو بن الأسود يخشى إذا أطلق يديه، وبدأ يرسلهما وهو يمشي، أن تتحرك يمينًا وشمالًا وأن تتقدم، ثم بعد ذلك مظهرًا من مظاهر الخيلاء، ولذلك كان يمسك شماله بيمينه.

وعلى كلٍّ، هذا تطبيق للنصوص السابقة، والنصوص السابقة دلت على التحذير من الكبر والخيلاء، ورغَّبت في ضدهما من خفض الجناح والوقار والسكينة.

وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)

[1]

.

وأما تطبيقات هذا فإنه يختلف ما بين زمان وآخر، قد نرى في زمن من الأزمان أن هذا التصرف فيه خيلاء وكبرياء، لكنه يكون في زمان آخر تصرفًا معتادًا لا يكون من الخيلاء=

[1] أخرجه البخاري (635)، ومسلم (603).

ص: 35

ومن دقيقه ما أسنده الذهبي في ترجمة عمرو بن الأسود العنسي المتوفى في خلافة عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى: "أنه كان إذا خرج من المسجد قبض بيمينه على شماله، فسئل عن ذلك؟ فقال: مخافة أن تنافق يدي".

قلت: يمسكها خوفًا من أن يخطر بيده في مشيته، فإن ذلك من الخيلاء. ا. هـ.

وهذا العارض عرض للعنسي رحمه الله تعالى.

واحذر داء الجبابرة (الكِبْر)، فإن الكِبرَ والحرص

(1)

والحسد

(2)

أول ذنب

= في شيء، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بأنواع الألبسة، فقد نلبس لباسًا في عصرنا الحاضر لكن هذا اللباس ليس معتادًا في زمان آخر، عندك مثلًا: كان أهل الزمان الأول يسيرون بهذه البشوت، يلبسها الصغير والكبير، ويلبسها العامي، ولا يتركها أحد، ففي ذلك الزمان لا يعد لبسها من الخيلاء في شيء، لكن في زماننا هذا اقتصر لبسها على المناسبات العامة، أو على العلماء ليعرفهم الناس، فحينئذٍ ويكون لبسها من غيرهم في غير المناسبات نوع خيلاء.

(1)

قوله: "واحذر داء الجبابرة وهو الكِبر، فإن الكِبرَ والحرص"، الحرص: الإسراع بالنفس من أجل طمع.

(2)

قوله: "والحسد"، المراد بالحسد تمني زوال النعم التي أنعمها الله على الغير، هذه الأمور من الحسد والكبر أول ذنب عصى به إبليس ربه، هكذا يقرره طائفة من العلماء.

لأن آدم حسده إبليس، وتكبَّر إبليس، حيث قال: كيف أسجد لمن خلقت طينا؟ من كان مخلوقًا من النار كيف يسجد لمخلوق من الطين؟ وقول المؤلف: فتطاولك من أمثلة الكبرياء المذمومة شرعًا"، التطاول على المعلم كبرياء، المراد بالتطاول: الترفع عليه، ومضادة كلامه، ورفع الصوت عليه ونحو ذلك، هذا يُعَدُّ من الكبرياء.

ص: 36

عصي الله به، فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء

(1)

، وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان.

العلم حرب للمكان المتعالي

كالسيل حرب للمكان العالي

فالزم - رحمك الله - اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك

(2)

.

(1)

قوله ومن أمثلته: "استنكافُك عمن يفيدك ممن هو دونك"، استنكافك يعني ترفعك عمن يأتيك بفائدة، إذا كان هذا ممن هو دونك فإنه من الكبرياء، فينبغي للإنسان أن يقبل الفائدة، ولو كانت من أصغر صغير، ولا يستنكف عن ذلك.

صورة أخرى من صور التكبر: التقصير عن العمل بالعلم فإنه من مظاهر التكبر، لكن عندما يجد الإنسان مجتمعًا من المجتمعات لا يؤدي سنة كان يعتادها، فيتركها من أجلهم هذا نفاق.

ثم ذكر المؤلف هذا البيت:

العلم حرب للفتى المتعالي

كالسيل حرب للمكان العالي

المتعالي يعني: المتكبر.

كالسيل حرب للمكان العالي، فالمكان العالي لا يصله السيل، إنما السيل يجري في مكان منخفض، وهكذا العلم، العلم لا يناله - كما ورد عن بعض السلف - مستح ولا متكبر.

(2)

قوله: "فالزم اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك"، يعني: التنقص منها.

وإذا جاءتك نفسك وخيَّلت إليك أنك على منزلة عالية، وأنك قد استفدت علمًا كثيرًا فكذِّبها، وقل: يا نفس هذا ليس من صفاتك، لم تستفيدي من العلم إلا الشيء القليل، وانظر إلى قصة موسى عليه السلام مع الخضر، لما سئل موسى: (أيُّ الناس أعلمُ؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يَرُدُّ العلم إليه، فأوحى الله إليه: أن عبدًا من عبادي بمجمع=

ص: 37

وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء

(1)

أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب

ونحو ذلك آفات من العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علمًا أو رفعة في ولاية، فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقامًا يغبطك عليه الناس.

وعن عبد الله ابن الإمام الحجة الرواية في الكتب الستة بكر بن عبد الله المزني رحمهما الله تعالى، قال:"سمعت إنسانًا يحدِّث عن أبي، أنه كان واقفًا بعرفة فرَقَّ فقال: لولا أني فيهم، لقلت: قد غفر لهم"

(2)

، خَرَّجَه الذهبي ثم

= البحرين، هو أعلم منك. قال يا رب، وكيف به؟

[1]

، فسأله الرحلة إليه، لماذا؟ لأنه سيعرف حقيقة نفسه بعد ذلك، وطلب أن يذهب إلى من هو أعلم منه، وتعرفون من قصتهم في سورة الكهف ما تعرفون.

(1)

قوله: "ومراغمة النفس عند الاستشراف لكبرياء"، إذا تطلعت نفسك إلى التكبر على الخلق، قم بإمساك لجامها، وقدها، ولا تجعلها تستشرف الكبرياء، أو الغطرسة، أو حب الظهور، أو الإعجاب بالنفس، فكل هذا من آفات النفس التي يجب علينا أن نروض النفس من أجل مضادتها.

قال المؤلف في بيان الأدب الخامس من آداب طالب العلم: خفض الجناح ونبذ الكبرياء، والخيلاء، قال من آفات النفس الكبرياء، والغطرسة، وحب الظهور والإعجاب بالنفس، فإن هذه الآفات تقتل النفس، ولا تمكنها من طلب العلم، وكلما ازددت علمًا أو رفعة في ولاية فاحذر من التكبر، والزم التواضع، تحرز بذلك السعادة العظمى، فإن المتكبر كالبعيد يراه الناس صغيرًا ويراهم صغارًا.

(2)

ثم أورد رواية عن بكر بن عبد الله المزني قال ابنه: "كان أبي واقفًا بعرفة فرَقّ، أي رقَّت نفسُه، وبدأت العَبرة تخرج من عينه، ثم بعد ذلك أزرى بنفسه وتنقصها، فقال: =

[1] أخرجه البخاري (122)، ومسلم (2380).

ص: 38

قال: "قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يُزْري عن نفسه ويَهْضمها"

(1)

. ا. هـ.

‌6 - القناعة والزهادة

(2)

:

التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد: "الزهد بالحرام، والابتعاد عن حِمَاه، بالكف عن المشتبهات

(3)

وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس".

ويؤثر عن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: "لو أوصى إنسان لأعقل الناس، صرف إلى الزُّهَّاد"

(4)

.

= أخشى أن لا يُغفر لهم بسببي". بكر بن عبد الله المزني إمام، عالم، حجة، قد بثَّ من العلم ما بثَّ، ومع ذلك يخشى أن لا يُقبل من الحجيج ولا يُغفر لهم بسببه هو.

(1)

قال الإمام الذهبي: "كذلك ينبغي للعبد أن يُزري على نفسه"، أي: أن ينتقص منها، وأن يهضمها ويأخذ بعض ما يكون لها؛ من أجل أن يكون ذلك سببًا لقبول الله له، كلما تواضع العبد الله كان ذلك سببًا لرفعة العبد عند الله - جل وعلا -، وكلما ترك الإنسان الكبرياء، والعُجب بالنفس كان أدعى لقبول الأعمال، وأدعى إلى معية الله، وأدعى لأن تكون معية الله مع العبد.

(2)

الأدب السادس من آداب طالب العلم، وهو القناعة والزهد، أما القناعة فالمراد بها: عدم استشراف النفس لما لم يُعطِه الله للعبد، بحيث يكون راضيًا بما رزقه الله - جل وعلا - هذه هي القناعة. أما الزهد فالمراد به: ترك ما لا ينفع في الآخرة.

(3)

قوله: "الزهد بالحرام والابتعاد عن حماه بالكف عن المشتبهات"، الزهد بالحرام هذا يقول له الفقهاء: الورع، فالمراد بالورع هو ترك الحرام، والمراد بالزهد ترك ما لا ينفع.

(4)

قوله: "قال الإمام الشافعي: لو أوصى إنسانٌ لأعقل الناس، فإنه يصرف إلى الزهاد"، لماذا؟ لأنهم انتفعوا بما لديهم ولم يقدموا على ما لا ينفعهم، وليس المراد بالزهد ترك الدنيا، وإنما المراد بالزهد استعمال الدنيا قلت أو كثرت فيما ينفع العبد في آخرته، =

ص: 39

وعن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لما قيل له: ألا تصنف كتابًا في الزهد؟ قال: "قد صنفت كتابًا في البيوع"

(1)

.

يعني: "الزاهد من يتحرر عن الشبهات

(2)

والمكروهات في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحرف". ا. هـ.

= فالمراد بالزهد: الاقتصار على ما ينفع، ولذلك نجد مثلًا سليمان بن داود وأباه قد آتاهما الله من الدنيا ما آتاهما، ولا يعد هذا مناقضًا للزهد، وإنما من جاءته الدنيا واستعملها فيما ينفعه في الآخرة فإنه يعد زاهدًا، قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]، فدل هذا على أن الأموال التي يعطيها الله - جل وعلا - للعبد إذا استعملها في طاعة الله - جل وعلا - فإنه حينئذ يكون من الزهاد، ولو كان عنده من الأموال الشيء الكثير، وأن الله - جل وعلا - إذا لم يجعل العبد يصرف ما أعطاه الله له في مراضيه فإنه ليس بزاهد، ولو لم يكن عنده من الدنيا إلا الشيء القليل.

(1)

قوله: "وعن محمد بن الحسن الشيباني لما قيل له: ألا تصنِّف كتابًا في الزهد؟ قال: صنفت كتابًا في البيوع"، لأن من كان يترك من البيوع ما لا ينفعه فإنه حينئذ سيكون زاهدًا.

(2)

قوله: "الزاهد من يتحرَّز عن الشبهات"، والشبهات تشمل صورًا:

الصورة الأولى: إذا كان هناك مسائل يختلف أهل العلم فيها وللخلاف محله، فحينئذ هذه المسائل من الشبهات.

الصورة الثانية: مسائل فيها أدلة متعارضة، ولم يعرف الفقيه كيفية الجمع بينها، فهذه من المسائل المشتبهات.

الصورة الثالثة: أن يكون هناك مسائل لا ندري هل تدخل في تطبيق الحرام أو في تطبيق الحلال، فحينئذٍ هذه المسائل من المشتبهات، والمشتبهات لها عشر صور، هذه أبرز صور المشتبهات.

ص: 40

وعليه، فليكن معتدلًا في معاشه بما لا يشينه

(1)

، بحيث يصون نفسه ومن يعول

(2)

، ولا يرد مواطن الذلة والهون

(3)

.

وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي المتوفى في 17/ 12/ 1393 هـ رحمه الله تعالى متقلِّلًا من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني بقوله:"لقد جئت من البلاد - شنقيط - ومعي كنز قلَّ أن يوجد عند أحد وهو (القناعة)، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية". فرحمه الله رحمة واسعة آمين

(4)

.

(1)

قوله: "وعليه فليكن معتدلًا في معاشه بما لا يشينه"، يعني: ما يكون سببًا لورود ذم أو ما لا يحمد عليه، بحيث لا يثني عليه بسوء.

(2)

قوله: "بحيث يَصُون نفسه ومن يعول"، فهو يقتات ويعمل، ولكن لا يكون ذلك العمل من المشتبهات، أو مما يخالف المروءات.

(3)

قوله: "ولا يرد مواطن الذلة والهون"، يعني: المَحَال التي يكون ورودها أو فعلها سببًا من أسباب اعتقاد الناس أن هذا يخالف المروءة، فالصنائع أو الأعمال التي تخالف المروءات عند الناس يجتنبها طالب العلم.

(4)

ثم ذكر المؤلف عن شيخه الشيخ الأمين الشنقيطي، وهو من علماء الأمة فضلًا وعلمًا، ومن سمع أحاديثه أو أشرطته ودروسه، علم ما آتاه الله - جل وعلا - من العلم، وتفسيره أضواء البيان من الكتب النادرة العظيمة المشتملة على علم كثير، مع كونه لا يتجاوز تفسير الآيات التي يفسر القرآن فيها بالقرآن، أو يستنبط منها أحكام فقهية، والشيخ الشنقيطي نموذج للزاهدين، فالزهد عظيم الشأن ليس في حال من أعرضت عنه الدنيا، ولكن الزهد فيمن أقبلت عليه الدنيا.

إذا تقرر هذا فإن من آتاه الله المال الكثير فاستعمله في طاعة الله فهذا زاهد.

ص: 41

‌7 - التحلي برونق العلم:

التحلي بـ (رونق العلم) حسن السمت

(1)

، والهدي الصالح، من دوام السكينة، والوقار، والخشوع، والتواضع، ولزوم المحجة

(2)

، بعمارة الظاهر والباطن، والتخلي عن نواقضها.

وعن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم"

(3)

.

(1)

هذا هو الأدب السابع من آداب طالب العلم، بحيث يكون ظاهر طالب العلم موافقًا للعلم الذي يطلبه، بحيث يكون حَسَنَ السمت، ذكرنا فيما سبق أن السمت هو الصورة الظاهرة، بحيث تكون أخلاقه الظاهرة وكلامه وملبسه دالًا على كونه من طلبة العلم، فيكون هديه الظاهر موافقًا لهدي أهل الصلاح، ومن ثم يلازم السكينة؛ وهي طمأنينة النفس والوقار، بحيث يكون ظاهره غير منبئٍ عن خلاف هذه، وكذلك يتَّصفُ بالخشوع، فليس متسرعًا ولا متبادرًا لما لا ينبغي، وليس متكلِّمًا بما لا يُناسب حاله، وكذلك يتَّصِفُ بصفة التواضع، ويتباعد عن التكبر.

(2)

قوله: "ولزوم المحجة"، المراد بالمحجة: وسط الطريق الموصل إلى المراد، بحيث لا يكون ممن يميلُ جهة اليمين ولا جهة الشمال، ويَعمُر ظاهره وباطنه بعبادة الله تعالى، وذكره، والتخلي عن نواقض ذلك.

(3)

قوله: "قال ابن سيرين: (كان يتعلمون الهدي - وهو الصفة الظاهرة كما يتعلمون العلم"، بحيث تكون ظواهرهم موافقة لبواطنهم، ظواهرهم متحلية بالأوصاف الشرعية، والأخلاق المرعية.

ص: 42

وعن رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى أنه قال لرجل: "حدِّثنا، ولا تحدِّثنا عن مُتَمَاوت ولا طعَّان"

(1)

.

رواهما الخطيب في الجامع وقال: "يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس بالسخف، والضحك والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفه، والذي لا يخرج عن حدِّ الأدب وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه، وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة"

(2)

. ا. هـ.

(1)

قوله: "قال رجاء بن حيوة لرجل: (حدثنا ولا تحدثنا عن متماوت ولا طعَّان)، والمتماوت هو من كان متصفًا بصفة موت القلب، بأن يكون باطنه غير معمور لله - جل وعلا، "ولا طعان"، وهو الذي يبذل لسانه في القدح في الآخرين وسبهم.

(2)

قوله: "قال الخطيب: (يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب .. ) "، ما المراد باللعب؟ العمل الذي ليس له ثمرة، ومن أمثلته: هذه الألعاب التي في زماننا وعصرنا، سواء كانت في الإنترنت أو في جهاز الهاتف، أو في غيرهما.

كذلك يتجنب العبث، مثل أن يحرك يديه حركات لا فائدة منها، كذلك يتجنب التَّبذُل في المجالس، والتبذل في المجالس: الحديث في كل ما يقصد الناس الحديث فيه، بحيث لا يوجد له ضوابط في حديثه، ومن ثم تجده يتكلم بالسُّخف والمراد بالسخف الأمور التوافه، التي لا قيمة لها ولا منزلة، أو يتكلم بأمور مضحكة التي ينتج عنها قهقهة، وكثرة التندُّر، والتنكيت على الآخرين، وكذلك على طالب الحديث أن يتجنب إدمان المزاح والإكثار منه، لو مزح مرة جاز ولم يناف ذلك آداب طالب العلم، لكن أن يكون ذلك دأبه في كل حديثه وفي كل أموره، فهذا ليس من شأن طالب العلم، إنما يُسْتَجَاز من المزاح الشيء =

ص: 43

وقد قيل: "من أكثر من شيء عُرف به"

(1)

.

فتجنب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك، وبعض من يجهل يظن أن التبسط في هذا أريحية

(2)

.

= اليسير النادر القليل والطريف، الذي لا يخرج عن حد الأدب، ولا عن طريقة العلم، أما أن يكون كل حديثه وكل مجالسه مبنية على المزاح، ويتكلَّم بالأمور الفاحشة في المزاح التي تكون كبيرة، وتكون عظيمة أن تصدر من إنسان يطلب العلم، أو يتكلم في الأمور السخيفة التافهة التي لا قيمة لها، أو يتكلم من المزاح بما يُوغِرُ الصدور، بحيث يُعلِّق على هذا، ويُنكِّت على هذا، فهذا يورث القطيعة، ويورث غِل القلوب، ويجلب الشر، وهذا كله مذموم.

وأصل كثرة المزاح - حتى ولو لم يكن بهذه الأمور؛ من الفاحش والسخيف والمورث للعداوة - يضع من قدر الإنسان، ويزيل صفة المروءة منه، ما هي صفة المروءة؟ المروءة المراد بها اجتناب الإنسان ما لا يُثنى عليه من الأوصاف عند الناس، وبعضهم يقول: المروءة اجتناب الإنسان الصفات غير المرغوب فيها.

مثال هذا: مما يُرغب فيه أن يكون الإنسان في مجتمعاتنا لابسًا للثياب، فإذا لبس البنطلونات لم يُعدّ حينئذٍ ممن اتصف بصفات المروءة؛ لأن الناس لا يثنون على من ترك هذه الثياب المعتادة.

(1)

قوله: "وقد قيل: من أكثر من شيء - من مزاح أو ضحك - عُرف به"، بحيث يكون موصوفًا به فيقال: فلان مزَّاح.

(2)

قوله: "فتجنَّب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك، وبعض من يجهل يظن أن التبسط في هذا أريحية"، الأريحية يعنى ما يكون منتجًا لراحة النفس، بعض الناس يعد الضحك والتبذل وكثرة المزاح من الأريحية التي ترتاح لها النفوس، وهذا ليس من ذلك في شيء، بل إن الناس إذا وجدوا شخصًا يكثر من المزاح والتعليق على الآخرين، فإنه حينئذ تنفر منه نفوسهم.

ص: 44

وعن الأحنف بن قيس قال: "جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصَّافًا لفرجه وبطنه"

(1)

.

وفي كتاب المحدث الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القضاء: "ومن تزيَّن بما ليس فيه، شانه الله"

(2)

.

وانظر شرحه لابن القيم رحمه الله تعالى.

(1)

قوله: "قال الأحنف بن قيس: (جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام) "، وذلك لأن هذه الأمور ليست من الأمور التي تقصدها نفوس العقلاء، وترتفع نفوسهم بها، وإنما ينبغي أن تكون مجالسنا فيها ذكر الآداب، فيها ذكر الأحكام الشرعية.

كذلك من الأمور التي تتعلق بهذا: أن لا يظهر الإنسان صفة ليس متصفًا بها حقيقة، كأن يُظهر للآخرين أنه يقوم الليل وليس كذلك، أو يظهر للآخرين أنه يقرأ القرآن أو يحفظ كتاب الله، وليس فيه تلك الصفة.

(2)

قوله: "قال عمر رضي الله عنه: (من تزين بما ليس فيه شانه الله) "، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)

[1]

، المتشبع بما لم يعط: الذي يقول أنا متصف بالصفة الفلانية، ومتصف بالصفة الفلانية، وهو لا يتصف بذلك، هذا كلابس ثوبي زور، والزور: هو الكذب وتمويه الحقائق، وجعلها كالثوبين لأنه أولًا قد كذب على نفسه، بحيث يُظهر أنه متصف بهذه الصفة وليس كذلك، وكذلك قد زوَّر صورته في نفوس الآخرين، ولذلك جعله كلابس ثوبي زور.

[1] أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2129).

ص: 45

‌8 - تحل بالمروءة:

التحلي بـ (المروءة)، وما يحمل إليها من مكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وتحمل الناس

(1)

، والأنفة من غير كبرياء

(2)

، والعزة في غير جبروت

(3)

، والشهامة في غير عصبية

(4)

، والحمية في غير جاهلية

(5)

،

(1)

هذا هو الأدب الثامن من آداب طالب العلم: التحلي بالمروءة.

تقدم معنا أن المروءة: التزام الصفات المحمودة عند الخلق، واجتناب الصفات غير المرغوب فيها عند الخلق.

والتحلي بالمروءة من مكارم الأخلاق، ومن أمثلة المروءات التي يحسن لطالب العلم أن يلتزم بها: أن يكون ملازمًا للأخلاق الفاضلة، يحسن التعامل مع الآخرين، ومن ذلك طلاقة الوجه؛ بحيث لا يكون عابسًا أو يكون معرضًا بوجهه عن طلابه أو عن زملائه.

ومن المروءة: إفشاء السلام. ومن المروءة تحمُّل الناس، والمراد بتحمل الناس: الصبر على أذيتهم.

(2)

قوله: "الأنفة من غير كبرياء"، المراد بالأنفة: ترفُّع بالنفس عما لا يليق بها، بحيث لا يفعل الإنسان فعلًا لا يكون مناسبًا لحاله.

(3)

قوله: "العزة في غير جبروت"، أي: فلا يقدم على فعل لا يليق به، فيرفع نفسه من غير تكبر.

(4)

قوله: "والشهامة في غير عصبية"، بأن يكون مقدِّمًا للخير للآخرين شهمًا، كريمًا، لكن لا يكون دافعه لذلك العصبية ونفع قرابته فقط، وإنما يكون دافعه لذلك التقرب لله - جل وعلا -.

(5)

قوله: "والحمية في غير جاهلية"، والمراد بالحمية: أن يحمي المؤمنون بعضهم بعضًا عما لا يليق بهم تقربًا لله، ولا يكون الدافع لذلك صفة من صفات أهل الجاهلية.

ص: 46

وعليه فتنكب (خوارم المروءة)، في طبع، أو قول، أو عمل، من حرفة مهنية

(1)

، أو خلة رديئة، كالعجب، والرياء، والبطر، والخيلاء، واحتقار الآخرين

(2)

، وغشيان مواطن الريب

(3)

.

(1)

قوله: "وعليه فتنكب (خوارم المروءة) في طبع، أو قول .. "، خوارم المروءة ليست من شأن أهل العلم، وخوارم المروءة تقدم لنا أمثلتها سواء كانت هذه الخوارم في طبع؛ كأن يكون الإنسان مخراقًا، أو يكون عجلًا، أو كانت الخوارم في قول، بأن يتكلم بالكلام غير اللائق، كأن يسب ويقدح في الآخرين، أو كانت الخوارم في عمل، كأن يبتذل نفسه في الذهاب إلى أماكن لا تليق به، وكذلك يجتنب الحرف المهنية التي يحتقرها الناس؛ لأن طالب العلم ينبغي أن يوجد له مكانة في الناس من أجل أن يقبلوا ما ينشره من العلم، وعندما يمتهن حرفة مَهِينة فإنه حينئذٍ يكون مناقضًا، ويكون مما لا تقبله نفوس الناس، وبالتالي لا يسمعون له، ولا يأخذون ما لديه من علم. وهكذا يجتنب الأوصاف الرديئة.

(2)

قوله: "خلة رديئة

" يعني الوصف، والرديء يعني السيئ غير المقبول، ومن ذلك العجب بأن يرى الإنسان لنفسه فضلًا، والرياء بأن يكون مقصوده بما يؤديه من العمل اطلاع الناس عليه، والبطر وهو نوع من أنواع الكبرياء، ويكون فيه جحد للحق، والخيلاء بترفع النفس عما يكون مناسبًا لها، ومظنة أن للنفس فضلًا على الغير، ومن الصفات الرديئة: احتقار الآخرين.

(3)

قوله: "غشيان مواطن الريب"، أي: المواطن التي يُظَنُّ فيمن دخلها بظن السوء، من أمثلة ذلك: عندما يذهب الإنسان إلى الأمكنة التي فيها معازف، فهذا موطن من مواطن الريب، ولو لم يكن مقصده مكان العزف، وكان مقصده محلًا مجاورًا له، هذا من خوارم المروءة، لأن هذا من مواطن الريب، ولذلك يجتنبه الإنسان، وهكذا أيضًا المحال التي فيها معاص يجتنبها طالب العلم؛ لأن هذه من مواطن الريب، وإذا خشي أن يظن به =

ص: 47

‌9 - التمتع بخصال الرجولة

(1)

:

تمتع بخصال الرجولة من الشجاعة وشدة البأس في الحق ومكارم الأخلاق

(2)

،

= ظن السوء احتاط لذلك، وبذل من الأسباب ما يدفع مثل هذا الظن السيئ، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته زوجته صفية وهو معتكف، فلبثت معه في المسجد، فلما أرادت أن تنصرف انقلب معها وكانوا في ليل، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(على رسلكما، إنها صفية بنت حيي) فقالا: سبحان الله يا رسول الله، قال:(إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، - أو قال - شيئًا)

[1]

، كما ورد في الصحيح.

(1)

هذه الخصلة التاسعة من خصال طالب العلم: اتصافه بصفات الرجولة، وصفات الرجولة أنواع: منها الشجاعة، بحيث يكون مقدامًا على الأفعال الطيبة، ولا تكون نفسه ذات خور أو ضعف عن الإقدام عما يليق به، فالشجاعة صفة من صفات الرجال الذين يُثنى عليهم بها، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تَعوَّذ من الجبن والجبن هو الضعف والخور مما يقابل الشجاعة، ومن أنواع الشجاعة: شدَّة البأس في الحق.

(2)

قوله: "مكارم الأخلاق"، ومن صفات الرجال اتصافهم بمكارم الأخلاق، وبذلك يكونون على الخلق العالي، وقد جاءت الشريعة تُرغِّب في اتصاف المؤمنين بالصفات العالية، والأخلاق الكريمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أنا زعيم ببيت أعلى الجنة لمن حسن خُلُقه)

[2]

، وجاء في حديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن المؤمن ليدرك بحسن خُلُقه درجة الصائم القائم)

[3]

.

[1] أخرجه البخاري (3281)، ومسلم (2175)، والترمذي (1172)، وأبو داود (2470).

[2] أخرجه أبو داود (4800).

[3] أخرجه أبو داود (4798).

ص: 48

والبذل في سبيل المعروف

(1)

، حتى تنقطع دون آمال الرجال.

(1)

قوله: ومن خصال الرجولة "البذل في سبيل المعروف"، بحيث يعطي الإنسان لله، وكم من آية في كتاب الله تُثني على أولئك الذين يبذلون في سبيل الله، قال - جل وعلا:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]، والآية التي قبلها:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقال - جل وعلا -:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، يعني: يضاعفها، وقد وعد الله - جل وعلا - المنفقين في سبيله بالخلف في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة، قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(قال الله عز وجل: يا ابن آدم أَنْفِق، أُنْفِق عليك)

[1]

، وجاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)

[2]

، يعني: خسارة وذهابًا للمال.

كذلك هذه الصفات الثلاث الشجاعة والأخلاق الفاضلة والبذل بالمعروف، من وجدت فيه أصبح ممن يعظم أجرهم، ومن الرجال الذين يعتمد عليهم، وممن تكون لهم مكانة عند الخلق، ويقابل هذا الصفات صفات مذمومة. =

[1] أخرجه البخاري (4687)، ومسلم (993).

[2] أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010).

ص: 49

وعليه، فاحذر نواقضها من ضعف الجأش، وقلة الصبر، وضعف المكارم، فإنها تهضم العلم

(1)

، وتقطع اللسان عن قولة الحق، وتأخذ بناصيته إلى خصومة في حالة تلفح بسمومها في وجوه الصالحين من عباده

(2)

.

= أولها: ضعف الجأش والجبن والخور، والضعف صفة يذم بها الإنسان.

الصفة الثانية: قلة الصبر وعدم التمكن من إمساك النفس في المكارم وأفعال الخيرات.

الثالثة: عدم فعل الأخلاق الفاضلة، وعدم البذل في طرق الخير.

(1)

فهذه الأمور "تهضم العلم"، يعني تنقص مقدار العلم، فالعالم متى كان باذلًا في المعروف منفقًا فيه فإن الله - جل وعلا - يبارك له في علمه، ويضع له القبول في الأرض.

(2)

وكذلك هذه الصفات، وهي الجبن وسوء الأخلاق والبخل "تقطع اللسان عن قولة الحق"، بحيث تعجز الإنسان عن أن يتكلم بما ينتفع به الناس في دنياهم وآخرتهم، بل إن هذه الصفات تجعل طالب العلم في حالة يتمكن أعداؤه منه، ويتمكنون من بث سمومهم في سمعته، فيكون ذلك سببًا لإعراض الناس عن العلم النافع بسبب عدم اتصاف أصحابه بهذه الصفات التي تجعل الناس يقبلون عليه.

ص: 50

‌10) هَجْرُ التَّرَفُّهِ

(1)

:

لا تسترسل في (التنعم والرفاهية)، فإن (البذاذة من الإيمان)

(2)

[1]

، وخذ بوصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه المشهور، وفيه: (وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا

(3)

واخشوشنوا ..

(4)

)

[2]

.

(1)

ذكر المؤلف ها هنا الأدب العاشر من آداب طالب العلم، وهو ترك الاسترسال في التنعم والرفاهية، والمراد بالتنعم استخدام أنعم ما يكون من الثياب والمراكب ونحو ذلك.

(2)

قوله: "فإن البذاذة من الإيمان"، ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(البذاذة من الإيمان)

[3]

، والمراد بالبذاذة: ترك الترفه، وعدم استعمال الناعم من الملابس والمراكب.

(3)

قوله: "جاء في كتاب عمر: (إياكم والتنعم وزي العجم وتمعددوا) "، أي: شابهوا معد بن عدنان الذي كان يترك الرفاهية في لباسه وسائر أموره.

(4)

قوله: "واخشوشنوا"، يعني: ليكن من أموركم الخشونة، مما يكون مخالفًا للتنعم.

[1] كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، راجع له "السلسلة الصحيحة"، رقم (341)، و "تعظيم قدر الصلاة" رقم (484)، لابن نصر المزوري.

[2]"مسند علي بن الجعد" 1/ 517 رقم (1030)، وعنه "الفروسية" لابن القيم ص 9، و "أدب الإملاء والاستملاء" ص 118، وأصله في الصحيحين وغيرهما.

[3] أخرجه أبو داود (4161)، وابن ماجه (4118).

ص: 51

وعليه، فازْوَرَّ عن زيف الحضارة

(1)

، فإنه يؤنث الطباع

(2)

، ويرخي الأعصاب

(3)

، ويقيدك بخيط الأوهام، ويصل المجدون لغاياتهم وأنت لم

(1)

قوله: "وعليه فازور عن زيف الحضارة .. "، جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرضًا مصبوبًا، وعند رأسه أهب معلقة، قال: فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال:(ما يبكيك؟) فقلت: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال:(أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟)

[1]

.

فالمقصود أن الإنسان يستعمل ما لديه، فلا يتكلَّف في ملبسه، ولا يتكلف في مركبه، ولا يتكلف في أنواع الأثاث لديه، وذلك لأن التكلف في ذلك يخالف سمت طالب العلم، ويجعل الناس يظنون به ظن السوء.

- وقوله: "وعليه" أي: وبناء على ما مضى.

- وقوله: "فازْوَرَّ"، يعني أعرض.

- وقوله: "عن زيف الحضارة"، والمراد به الصورة الظاهرية الزائفة.

(2)

وقوله: "فإنه يؤنث الطباع"، يجعل الطبع مشابهًا لطبع من يكون رقيقًا في أموره.

(3)

وقوله: "ويُرخي الأعصاب"، وبالتالي لا يتمكن الإنسان من أن يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يكون قويًا في الحق، ومثل ذلك يقيدك بخيط الأوهام: الناس لم يعجبهم لباسي، الناس لم يكن ثوبي حسنًا عندهم، الناس لم يعجبوا بالطيب الذي استعمله، ويكون همه في هذه الأمور الظاهرة، ويترك الأمور الحقيقية التي ينبغي به أن يتوجه لها، ولا يتمكن المجدون من الوصول لغاياتهم؛ لأنهم اشتغلوا بالتوافه، ويصل =

[1] أخرجه البخاري (4913).

ص: 52

تبرح مكانك، مشغول بالتأنق في ملبسك، وإن كان منها شيات

(1)

ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتًا صالحًا

(2)

، والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتماء الشخص

(3)

،

= المجدُّ إلى الغاية وأنت تشتغل بالصورة الظاهرة، لم تبرح مكانك؛ لأنك مشغول بالتأنق في الملبس، يعني حسن اختيار أنواع الملابس، هذا القماش، هذه النوعية من القماش أفضل من تلك النوعية، وهذا الكبك أحسن من ذلك الكبك، هذه الساعة خير وأحسن، وهذا الجوال بهذه الصفة أحسن من تلك الصفة، والنوع الفلاني من الجوالات أحسن، ومن ثم يصبح يشتغل بهذه الأمور التوافه الظاهرة، وإن كان منها شيات ليست محرمة، نحن لا نستطيع أن نقول إنها محرمة، لكن طالب العلم مشتغل بما هو أعظم وأنفع وأعلى، حيث اشتغل بما يوصله إلى جنة الخلد، فكيف يكون مشتغلًا بهذه الأمور الظاهرة.

(1)

قوله: "وإن كان منها شِيَات .. "، الشِّيّة هي الأمور القليلة التي ليست بمحمودة.

(2)

وقوله: "ليست محرمة ولا مكروهة، لكن ليست سمتًا صالحًا"، أي: ليست من صفة طالب العلم.

(3)

قوله: "والحلية في الظاهر كاللباس عنوان على انتهاء الشخص"، من جاء وعليه شماع وقد زخرف ذلك الشماغ، عَرَفْتَ طَرِيْقَتَه وحكمت عليه، إذا وجدته قد لبس من الساعات المزخرفة التي فيها جذب لرؤية الآخرين عرفت توجهه، وعرفت طريقته، فالحلية في الظاهر عنوان على انتهاء الشخص، ولذلك الأشخاص في ملبسهم يذهب كل واحد منهم إلى من يشاكله في اللباس، ومن هنا من لبس الملابس الكاملة، لبس الغترة، ولبس البشت، وجدته مع من كان بهذه الصفة، ومن خَلَعَ العباءة وجدته مع من ماثله، ومن خلع الغترة وجدته مع من ماثله، وهكذا فالناس كالطيور يأتون إلى من يماثلهم في الصفة، والطيور على أشكالها تقع.

ص: 53

بل تحديد له، وهل اللباس إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الذات؟!

(1)

.

فكن حذرًا في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك

(2)

، في الانتماء والتكوين، والذوق، ولهذا قيل: الحلية في الظاهر

(3)

تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف الناس من: الرصانة والتعقل؛ أو التَّمَشْيُخ والرهبنة؛ أو التصابي وحب الظهور

(4)

.

(1)

قوله: "وهل اللباس إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الذات"، لذلك من وجدته يلبس أنواعًا من الألبسة حكمت عليه من مجرد لباسه.

(2)

قوله: "فكن حذرًا في لباسك، لأنه يعبر لغيرك عن تقويمك"، فالناس يحكمون عليك من خلال ما تلبسه، سواء في انتمائك إلى من تنتمي؟ وكذلك في تكوينك؛ ما هي شخصيتك؟ يعرفونها من اللباس، وكذلك في ذوقك، فيعرفون ما هو ذوقك، وما الذي تشتهيه وما لا تشتهيه من خلال رؤية لباسك؟ وانظر إلى نفسك كم من شخص بمجرد رؤيته الظاهرة ارتاحت نفسك إليه؟ وكم من شخص بمجرد رؤيته الظاهرة اشمأزت نفسك منه وابتعدت عنه كل الابتعاد؟ وهذا تجدونه في نفوسكم.

(3)

قوله: "ولهذا قيل: الحلية في الظاهر"، ما تظهره من حليتك ولباسك.

(4)

قوله: "تدل على ميل في الباطن، والناس يصنفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي للناظر تصنيف الناس"، نحن نلبس جميعًا هذه الكوفية - الغترة - ومع ذلك يحكم الناس علينا بأحكام مختلفة لطريقة اللبس، فهذا يصفونه بالعقل والحكمة، وهذا يصفونه بالطيش من مجرد لبسته لهذا النوع من أنواع اللباس، وهكذا أيضًا بلباسك يحكمون هل أنت شيخ؟ هل أنت ممن يقبل على الخير؟ أم أنت ممن يقبل على الشر؟ هل =

ص: 54

فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالًا لقائل، ولا لمزًا للامز، وإذا تلاقى ملبسك وكيفية لبسك بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم الشرعي، كان أدعى لتعظيمك والانتفاع بعلمك، بل بحسن نيتك يكون قربة، إنه وسيلة إلى هداية الخلق للحق.

= أنت ممن يتصابى ويحاول أن يظهر نفسه بمظاهر الصبيان وصغار السن؟ هل أنت ممن يحب الظهور ويجب لفت الأنظار إليه أو لا؟ فحينئذٍ خذ من اللباس ما يكون مزينًا لك عند الله - جل وعلا - ومبعدًا لقالة السوء ومظنة السوء فيك، واترك ما يشينك من اللباس، وينقص درجتك عند ربك، لكن لا يعني هذا أن يلبس الإنسان الثياب المخرقة، أو يلبس الثياب المتسخة، أو يلبس ما لا يعتاده الناس من اللباس، إنما يلبس ما يكون معتادًا عند أهل الخير والصلاح من اللباس، ويتزيَّا بزيِّهم، ولذلك لم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه طريقة أهله وقبيلته، لبس مثل لباسهم، لكن على صفة محمودة، ولذلك تجد بعض الناس طريقة لبسه تدل على العقل والرزانة.

اللباس إذا لم يكن على الصفة المعهودة جعل للناس فيك مقالًا، ومنها إذا جاء طالب علم لبس في كوفيته من أنواع الزري، وجعل في ثوبه أنواع المخططات التي تكون لافتة للنظر، فحينئذ هذا ليس لائقًا به، وليست هذه اللبسة من ملابس أهل الفضل والعلم، وهذه قد تجعل الناس يتكلمون فيه ويلمزونه، ومن ثم لا يقبلون ما لديه من العلم، وإذا تلاقي ملبسك ونوع الملبس وكيفية اللبس - طريقة اللبس - بما يلتقي مع شرف ما تحمله من العلم انتفع الناس بك، وأخذوا منك العلم، وإذا أحسنت النية في لباسك وفي اختيار نوعه، كان ذلك سببًا للحصول على الأجر من جهة، وسببًا لقبول الناس منك وأخذهم الحق عنك.

ص: 55

وفي المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أحبِّ إليَّ أن أنْظُرَ القارئ أبيض الثياب)

(1)

.

أي: ليعظم في نفوس الناس، فيعظم في نفوسهم ما لديه من الحق.

والناس - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى -: "كأسراب القَطَا

(2)

، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض"

(3)

.

فإياك ثم إياك

(4)

من لباس التصابي

(5)

.

(1)

قوله: "قال عمر رضي الله عنه: (أحبُّ إليَّ أن انظر القارئ أبيض الثياب) "، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باختيار الثياب البيضاء، وقال:(البسوا من ثيابكم البيض وكفنوا فيها موتاكم)

[1]

، وهذا لأن الثوب الأبيض يجر النفوس إليه، وترتاح العين برؤيته، ويسكن القلب بالاطلاع على صاحبه.

(2)

قوله: "والناس كما قال شيخ الإسلام: كأسراب القطا"، القطا نوع من أنواع الطيور.

(3)

وقوله: "مجبولون على تشبه بعضهم ببعض"، فطائر القطا إذا فعل واحد منهم شيئًا فعل البقية مثل فعله، تجدونهم في أول النهار إذا صوَّت واحد منهم لجت أصواتهم في وقت واحد.

(4)

قوله: "فإياك ثم إياك .. "، يعني احذر.

(5)

قوله: "من لباس التصابي"، أي: أن تلبس مثل لبس الصبيان بحيث يظن الناس أنك صغير السن.

[1] رواه الترمذي (994)، والنسائي (1896)، وأبو داود (3878).

ص: 56

أما اللباس الإفرنجي، فغير خاف عليك حكمه

(1)

.

وليس معنى هذا أن تأتي بلباس مشوّه

(2)

،

(1)

قوله: "أما اللباس الإفرنجي، فغير خاف عليك حكمه، .. "، ذكر المؤلف اختيار الألبسة التي تكون من بلدان أخرى، فهذا ليس من شأن طالب العلم، وإن كان إذا ذهب إليهم قد يلبس مثل لباسهم، مثال هذا: لباس أهل الخليج يخالفوننا في بعض الصفات، فحينئذ لا ينبغي لطالب العلم أن يلبس مثل لباسهم عند أصحابه وجماعته وأهل بلده لماذا؟ لأن الناس يلتفتون إلى هذا، ويكون مثارًا لكلامهم وحديثهم، فينصرفون عن علمك وعن حديثك إلى الاطلاع على لباسك، وهكذا مثلًا لباس أهل باكستان لا يلبسه طالب العلم، لماذا؟ لأنه ليس من الألبسة المعتادة، وهكذا أيضًا اللباس الذي يكون للكفار، فإن المؤمن حريص على الابتعاد عن التشبه بغير المسلمين، وقد ورد في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن التشبه باليهود

[1]

، وعن التشبه بالنصارى

[2]

، وعن التشبه بالأعاجم

[3]

، وعن التشبه بالمجوس

[4]

.

(2)

قوله: "وليس معنى هذا أن يأتي الإنسان بلباس مشوَّه"، أي: إما وسخ، وإما مقطع، فإن هذا من لباس الشهرة، ومن هنا فإنه يُنهى عنه، وقد ورد في الحديث النهي عن لباس الشهرة

[5]

.

[1] أخرجه الترمذي وأحمد 2/ 356 (8657) من حديث أبي هريرة، وأخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عمر 8/ 137 (5074) والزبير بن العوام رضي الله عنهم.

[2] أخرجه الترمذي (2695)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

[3] أخرجه أحمد (22255)، وأبو داود (5230).

[4] أخرجه مسلم (260).

[5] أخرجه أبو داود (4029)، وابن ماجه (3607)، والنسائي (9487).

ص: 57

لكنه الاقتصاد في اللباس برسم الشرع

(1)

، تحفة بالسمت الصالح، والهدي الحسن.

وتطلب دلائل ذلك في كتب السنة والرقاق

(2)

، لا سيما في "الجامع" للخطيب.

ولا تستنكر هذه الإشارة، فما زال أهل العلم ينبهون على هذا في كتب الرقاق والآداب واللباس، والله أعلم

(3)

.

(1)

قوله: "لكنه الاقتصاد في اللباس"، أيضًا يتجنب الإنسان ذلك اللباس الذي له أثمان كثيرة، فإن هذا إسراف، والإسراف منهي عنه في الشريعة، وبالتالي إذا التزم الإنسان بهذه الآداب كان متصفًا بالسمت الصالح، والهدي الظاهر الحسن.

(2)

قوله: "وتطلب دلائل ذلك في كتب السنة والرقاق"، أي: أن أهل العلم قد كتبوا لذلك أمثلة في كتب الرقائق والسنة، وقد ألف عدد من الأئمة كتبًا في هذا، وألفوا في الزهد كتبًا عديدة، ومثَّل المؤلف لذلك بكتاب "الجامع لآداب الراوي والسامع" للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى.

(3)

قوله: "ولا تستنكر هذه الإشارة،

"، أي: لا يقولن قائل: ما مدخل هذا في آداب طالب العلم فنقول:

أولًا: النصوص الشرعية قد وردت بهذه الآداب.

ثانيًا: الناس عند التزام هذه الآداب يُقبلون على علم ذلك المتعلم.

ثالثًا: الناس ينفرون ممن لم يتصف بهذه الآداب ولا يقبلون منه علمًا.

رابعًا: أن لبس ما يخالف ما تقدم يعدُّ من أنواع الشهرة التي تورث في النفس ترفعًا وتكبرًا، وطالب العلم ينبغي به أن يعالج نفسه من ذلك.

ص: 58

‌11) الإعراض عن مجالس اللغو

(1)

:

لا تطأ بساط من يَغْشَوْنَ في ناديهم المنكر

(2)

، ويَهْتكُون أستار الأدب، متغابيًا عن ذلك، فإن فعلت ذلك، فإن جنايتك على العلم وأهله عظيمة

(3)

.

(1)

هذا هو الأدب الحادي عشر: الإعراض عن مجالس اللغو، والمراد باللغو: أنوع الكلام الباطل، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1 - 3]، وبعض أهل العلم يقول: إن المراد باللغو: ما لا فائدة له من الكلام، وكلاهما قد يكون مرادًا هنا، فطالب العلم يحفظ وقته، ومن حفظه لوقته أن يعرض عن مجالس اللغو، ليستعمل وقته في طاعة الله - جل وعلا -.

(2)

قوله: "ولا تطأ بساط من يغشون في ناديهم المنكر"، المراد بالمنكر: المعصية؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يجلس في مجلس يُعْصَى الله فيه، وهو قادر على ترك ذلك المجلس، قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]، وقال - جل وعلا -:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وجاء في سنن أبي داود بسند ضعيف:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر)

[1]

، وهكذا بقية أنواع المعاصي.

(3)

قوله: "متغابيًا عن ذلك

"، يعني: لا تجلس في ذلك المجلس الذي فيه معصية، وفيه هتك لستر الأدب، متغابيًا عنه غير ملتفت إليه، فإن فعلت ذلك وجلست في هذه =

[1] رواه أبو داود في "السنن"(3774)، وقال:"وهو منكر".

ص: 59

(12) الإعراض عن الهيشات

(1)

:

التصون من اللغط والهيشات، فإن الغلط تحت اللغط، وهذا ينافي أدب الطلب.

ومن لطيف ما يستحضر هناك ما ذكره صحاب "الوسيط في أدباء شنقيط" وعنه في "معجم المعاجم": "أنه وقع نزاع بين قبيلتين، فسعت بينهما قبيلة أخرى في الصلح، فتراضوا بحكم الشرع، وحكَّموا عالمًا، فاستظهر قتل أربعة من قبيلة بأربعة قُتِلوا من القبيلة الأخرى، فقال الشيخ

= المجالس، فإن جنايتك على العلم وأهله عظيمة؛ لأن الناس يبدءون يهتكون أستار الأدب مع أهل العلم، ولا يقيمون لهم وزنًا، ويكون ذلك سببًا من أسباب انتشار المعاصي والمنكرات؛ لأنهم إذا رأوا طلبة العلم يجلسون في مجلس المعصية ولا ينكرونها فعل أهل المعاصي تلك المعاصي في الظاهر، وجاهروا بها. ومن قواعد الشريعة: الترغيب في عدم إظهار المنكرات، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(كل أمتي معافى إلا المجاهرين)

[1]

.

(1)

الأدب الثاني عشر من آداب طالب العلم: أنه يتصوّن عن اللغط والهيشات.

والمراد بالهيشات: ما يحصل من الخصومات والتجمعات التي يكون فيها كلام بعض الناس على بعض مما لا يمكن ضبطه ولا تعرف عاقبته، فإن دخول طلبة العلم في الهيشات ينتج عنه أن الناس قد يعتدون عليهم، وقد يتكلمون فيهم، وقد يكون ذلك سببًا من أسباب احتقارهم، وعدم معرفة ما لديهم من علم يستوجب رفع مكانتهم والأخذ بيدهم، ومن ذلك المظاهرات والتجمعات في الطرقات.

وذكر المؤلف هنا ما يتعلق بهذا النداء الذي وقع بين هاتين القبيلتين.

[1] أخرجه البخاري (6069).

ص: 60

باب بن أحمد: مثل هذا لا قصاص فيه. فقال القاضي: إن هذا لا يوجد في كتاب. فقال: بل لم يخل منه كتاب. فقال القاضي: هذا "القاموس"؛ يعني أنه يدخل في عموم كتاب - فتناول صاحب الترجمة "القاموس"، وأول ما وقع نظره عليه:(والهيشة: الفتنة، وأم حبين، وليس في الهيشات قود)، أي: في القتيل في الفتنة لا يُدْرَى قاتله، فتعجب الناس من مثل هذا الاستحضار في ذلك الموقف الحرج" .. ا. هـ. ملخصًا.

(13) التحلي بالرفق

(1)

:

التزم الرفق في القول، مجتنبًا الكلمة الجافية، فإن الخطاب اللين يتألف النفوس الناشزة.

وأدلة الكتاب والسنة في هذا متكاثرة

(2)

.

(1)

هذا هو الأدب الثالث عشر من أدب طالب العلم: "التحلي بالرفق".

والمراد بالرفق: السهولة واللين، ولا يعني هذا نفي العقوبة، أو نفي ما يكون مؤديًا إلى أخذ الإنسان بحقوقه.

(2)

قوله: "وأدلة الكتاب والسنة في هذا متكاثرة"، جاء في ذلك نصوص عديدة، قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شأنه)

[1]

، وقد جاء في الحديث أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل =

[1] أخرجه مسلم (2594).

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلًا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله)

[1]

.

وجاء في عدد من الأحاديث الترغيب في لين القول، وعدم إغلاظه؛ ليكون ذلك سببًا في تأليف القلوب.

قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال سبحانه:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

والناس مهما كانت قلوبهم يتمكَّن طالب العلم من جلبهم بالكلمة الطيبة اللينة السهلة.

ولذلك انظر: كم من كلمة أثرت في نفوس كانت بعيدة عن الخير، ناشزة عنه، بعيدة عن طاعة الله - جل وعلا -؟! وكم من كلمة قاسية كانت سببًا من أسباب ابتعاد كثير من الناس عن طاعة الله تعالى؟ والعبد يحرص على لين القول تقربًا لله، وليكون ذلك أدعى لقبول قوله، لا انتصارًا لنفسه، ولا ترويجًا لذاته، وإنما رغبة في نشر الخير، وأملًا في قبول الناس ما يقوله من دعوة إلى الله - جل وعلا -، ويكون هذا سببًا من أسباب زيادة حسناته وعلو درجته عند الله - جل وعلا - وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(الكلمة الطيبة صدقة)

[2]

.

[1] أخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2164)، وأبو داود (5206).

[2] أخرجه البخاري (2734)، ومسلم (1009)، وابن حبان (472).

ص: 62

(14) التأمل

(1)

:

التحلي بالتأمل، فإن من تأمل أدرك، وقيل:"تأمَّل تُدْرِكْ".

وعليه، فتأمل عند التكلم: بماذا تتكلم؟ وما هي عائدته؟

(1)

الأدب الرابع عشر من آداب طالب العلم: "أن يكون متأملًا متفكرًا في عواقب الأمور".

التأمل يشمل عددًا من الأمور:

أولها: التفكر: بحيث يعرف حقيقة ما يعرض عليه، سواء كان من آيات الله الكونية، أو من آيات الله الشرعية، وقد جاءت النصوص في الترغيب في التفكر في ذلك.

الثاني: الاعتبار: وهو مقايسة النفس بغيرها، بحيث يقيس العبد نفسه على غيره فيما يتعلق بما حصل لهم، سواء كان من العاقبة الحميدة، أو العواقب السيئة، فإن ما حل بغيرك سيحل بك متى فعلت مثل فعله.

الأمر الثالث: التدبر: بحيث يعرف الإنسان معاني الكلام، ويتأمل في دلالاته، وقد جاءت النصوص بالترغيب في التدبر للقرآن، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، وقال - جل وعلا -:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].

وحينئذٍ أيضًا يتأمل الإنسان في كلامه، فلا يتكلم إلا بالكلام الذي تكون عاقبته حميدة.

ويشمل هذا أمورًا:

الأول: أن يكون اللفظ مناسبًا غير نابٍ أو أقل مما يراد به من المعاني، فإن اللغة واسعة، واللفظ يدل على معنى، وهناك ألفاظ تدل على معنى أعلى من المعنى المقصود، وهناك ألفاظ تدل على معانٍ أقل منه، فحينئذ ننتقي من الألفاظ ما يكون دالًا على المراد، وبالتالي يتفكر الإنسان في ألفاظه، ويتفكر في معاني الألفاظ بحسب الدلالة اللغوية قبل أن يتكلم بالكلمة. =

ص: 63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الثاني: أن يتأمل الإنسان في العواقب التي تنتج عن هذه الكلمة، فإن كانت العاقبة حميدة تكلم بها، وإن كانت العاقبة غير ذلك لم يتكلم بها.

الثالث: أن يتأمل في طريقة كلامه وأسلوبه، بحيث يكون مرتبًا ترتيبًا صحيحًا لا يأتي بكلام متنافر لا يصح أن يرتب بعضه مع بعض.

الرابع: أن يحرص أن يكون كلامه سهلًا، بحيث يجتنب التقعر في الكلام.

الخامس: أن يحرص أن يكون كلامه سهلًا من جهة وضوحه، واضحًا عند سامعه، يعرف المراد به.

السادس: أن يجتنب اللفظ الذي يكون مجملًا يحتمل معاني متعددة، فإن الألفاظ المشتركة إذا أطلقها الإنسان قد يفهم منها غير ما يريده المتكلم به.

السابع: فيما يتعلق بإطلاق الأسئلة، يتحرى الإنسان في أسئلته عند شيخه، فلا يتكلم بلفظ في سؤاله إلا وهو دال على المراد الذي يريده، ويكون ملتزمًا فيه جانب الأدب، كذلك يكون كلامه مفهومًا عند شيخه، بحيث يجتنب ما قد يظن أنه لا يُفْهَم.

وكذلك يحرص عند سؤاله ألا يتكلم بالألفاظ التي لها معان متعددة، ويكون الكلام في أحد هذه الأبواب التي يفهم منها خلاف مراد السائل، مثال هذا: كلمة (المفرد) في النحو نطلقها مرة ونريد بها ما يقابل الجملة، وما يقابل شبه الجملة، ومرة نطلق كلمة (المفرد) ونريد بها ما يقابل المثنى والجمع، فعندما يأتي الشيخ ويتكلم في باب الخبر، ويقول: الخبر ينقسم إلى مفرد وجملة وشبه جملة، فيسأله عن المفرد الذي هو مقابل للمثنى والجمع، فحينئذٍ يكون قد أدخل في الكلام ما يكون سببًا للتشويش، إما تشويشًا على الطلاب، أو محرجًا للأستاذ؛ لأنه سيمتنع عن الجواب لكي لا ينتقل للجواب عن ذلك السؤال في ذلك الموطن؛ خشية من تداخل هذه المصطلحات.

ص: 64

وتحرز في العبارة والأداء دون تعنت أو تحذلق

(1)

، وتأمل عند المذاكرة: كيف تختار القالب المناسب للمعنى المراد، وتأمل عند سؤال السائل: كيف تتفهم السؤال على وجهه حتى لا يحتمل وجهين، وهكذا.

= مثال ذلك: عندما يأتي الفقيه أو الأصولي ويأمر الناس بالعمل بالنصوص، ثم يأتي السائل ويسأله عن النص الذي في مقابلة الظاهر، فحينئذٍ هذا السؤال يُلْبِس، وقد يُظَنُّ أن العمل بالنصوص إنما يراد به الأدلة القطعية، وهذا ليس مرادًا للشيخ، وإنما مراد الشيخ بكلامه: النص الذي يشمل ما كان صريح الدلالة، وما ورد عليه احتمال، ويشتمل أيضًا اللفظ الظاهر، فعندما يأتي الطالب ويسأل عن هذا اللفظ يكون قد أوقع الناس في لبس، سواء أوقع شيخه أو أوقع زملاءه.

(1)

قوله: "وتحرز في العبارة .. "، كلمة العبارة: يراد بها الجملة من الكلام، وذلك أن هذه اللفظة أصلها من الفعل (عبر) بمعنى انتقل من مكان إلى مكان، وقد أمر الله - جل وعلا - بالاعتبار فقال:{فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، يعني: اعتبروا بأذهانكم، وانتقلوا بذهنكم من حال أولئك اليهود الذين خربت عليهم بيوتهم، وعذبوا بهذا التعذيب المذكور في أول السورة، وقيسوا أنفسكم، وانتقلوا بأذهانكم لأنفسكم، فإنكم إذا فعلتم مثل فعلهم عاقبكم الله بمثل عقوبتهم، وبعض أهل العلم يطلق على (الجملة من الكلام) هذا اللفظ:(العبارة)، وهذا ناشئ من منشأ عقدي؛ وذلك أن بعض الطوائف يرون أن الكلام هو المعاني النفسية، وأن الألفاظ والأصوات والحروف عبارة عن الكلام، وليست هي الكلام، ولذلك يسمون الجُمَل والكلمات عبارات، وهذا نشأ من أصل عقدي، ولذلك ينبغي التحرز من إطلاق هذه الجملة جملة (العبارة)، بحيث يراد بها الألفاظ.

ص: 65

(15) الثبات والتثبت

(1)

:

تحل بالثبات والتثبُّت، لاسيما في الملمات والمهمات، ومنه: الصبر والثبات في التلقي، وطي الساعات في الطلب على الأشياخ، فإن "من ثبت نبت".

(1)

هاتان صفتان ذكرهما المؤلف في آداب طالب العلم المتعلِّقة بنفسه:

الصفة الأولى: الثبات: والثبات يراد به البقاء على الخير والدعوة له، والأمر بالمعروف وعدم الانتقال إلى غيره، والثبات يشمل ما يأتي:

أولًا: الثبات في المعتقدات، بحيث لا ينجر الإنسان في معتقده لأي متكلم يتكلم معه، حتى يكون متثبتًا في أمره.

الثاني: الثبات فيما يتعلق بالتصرفات، فلا يكون الإنسان من أتباع كل ناعق، كلما تكلَّم متكلِّم صار معه، وإنما يكون ثابتًا على مبدئهِ وطريقته.

الثالث: الثبات فيما يتعلق بنصرة الأشخاص، فلا ينصر غيره إلا إذا علم أنه على حق ويستمر في ذلك، وأما أن ينصر قريبه أو صاحب بلده بدون أن يكون متثبتًا من حاله، فهذا يكون من العصبية المذمومة كحمية الجاهلية.

الرابع: الثبات فيما يتعلق بما يؤديه العبد من الأعمال الصالحة، بحيث لا تصرفه الصوارف عن عمله الصالح الذي يؤديه، سواء كان من الفرائض أو النوافل، وتعلمون أن النصوص قد جاءت بالترغيب في المداومة على الأعمال الصالحة، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أحبُّ العمل إلى الله أدومه وإن قل)

[1]

.

[1] أخرجه البخاري (6099)، ومسلم (2818)، وأبو داود (1368)، والنسائي (762).

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الأمر الخامس: مما يؤمر بالثبات فيه: الثبات في طلب العلم، بحيث لا تأتي المشغلات فتصرف الطالب عن طلبه للعلم، وهذه مسألة مهمة جدًّا ينبغي الالتفات إليها، فإن بعض الناس عندما يأتيه أدنى أمر ينشغل عن طلب العلم، ولا يثبت فيه، وحينئذٍ لا يرزق بركته ولا يستمر معه، نجد طلبة العلم كثيرين ثم بعد ذلك لا يثبتون، وما هذا إلا لانشغالهم مرات بتوافه، ومرات بلعب، ومرات بلغو، ومرات بهيشات، ومرات بأمور لا تناسب طالب العلم، ولذلك هذه الهيشات وهذه المشغلات تكون سببًا في انصراف طالب العلم عن طلب العلم، ولذلك رغب المؤلف هنا في الصبر والثبات في التلقي، وطي الساعات في الطلب على الأشياخ، فإن من ثبت - يعني في طلب العلم - نبت، وأصبح عاليًا، وأما من بذل من وقته شيئًا ثم انصرف فإنه لا يستفيد العلم.

والصفة الثانية: التثبت: بحيث لا يقبل ما يرد عليه من الواردات حتى يكون متيقنًا منه أنه الحق، وأنه الصحيح، وهذا يشمل أمورًا:

أولها: ما يتعلق بالمعتقد، فإذا وردت إليك مسألة عقدية فيها كلام أحد من الناس، فتثبت فيها حتى تحقق من النصوص ومن صحة النقل.

وثانيهًا: التثبت فيما يتعلق بالأحاديث التي تورد على الإنسان، فلا يأخذ منها إلا ما تثبَّت أنه صحيح ثابت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إما بمعرفة إسناده، أو بمعرفة مَنْ صَحَّحَه من أهل العلم، أو بنقله عن عالم التزم الصحة في حديثه وفيما ينقله من الأحاديث.

الثالث: التثبت في نسبة الأقوال إلى علماء الشريعة، فكم من مرة وجدنا أقوالًا تنسب إلى فقهاء وهم منها براء، وهذا في مسائل عظيمة من مسائل العقائد فضلًا عن مسائل الفقه.

ص: 67

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وإذا نظر الإنسان إلى مثل هذا وجده كثيرًا، حتى إنهم قالوا عن بعض المسائل: هذه مسائل التراجم أو قول التراجم، ما معنى قول التراجم؟ هو القول الذي تنسبه كل طائفة إلى الطائفة الأخرى بدون أن تكون النسبة صحيحة.

مثال ذلك: مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ إذا نظرنا إلى كتب الأصول عند الحنفية، قالوا: وقد قالت الشافعية بأن الكفار غير مخاطبين، وإذا نظرنا إلى كتب الشافعية وجدناهم يقولون: الحنفية يقولون بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.

وإذا نظرنا مثلًا إلى مسألة التصويب والتخطئة في المعتقدات وجدناهم ينسبون أقوالًا عظيمة إلى عبيد الله بن الحسن العنبري، وهو منها بريء، بل ينسبون إلى طوائف كثيرة أقوالًا هم منها براء، وفي نفس الوقت في مثل هذه المسألة مسألة التأثيم بالخطأ في مسائل العقائد، نجدهم ينسبون إلى جماهير أهل العلم خلاف ما يقولون به، ومن هنا ففي مسألة التصويب والتخطئة نجد أئمة كالنووي وابن حجر ينسبون إلى الجمهور أنهم يقولون بأن كل مجتهد مصيب؛ لأنهم يقصدون جمهور الأشاعرة، وإلا فإن جمهور أهل العلم من بقية الطوائف يقولون بخلاف هذا، ويقولون: إن المصيب واحد، وإن ما عداه مخطئ، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بالأخبار التي يتناقلها الناس، يكون الإنسان متثبتًا فيها ولا يقبل منها إلا ما يكون قد قامت البراهين والدلائل على صحته، قال الله - جل وعلا -:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وورد في بعض القراءات {فَتَثَبَتُوا} .

* * * * *

ص: 68

‌الفصل الثاني كيفية الطلب والتلقي

(16) كيفة الطلب ومراتبه

(1)

:

"من لم يتقن الأصول حرم الوصول".

(1)

بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله آداب طالب العلم في نفسه انتقل إلى الآداب المتعلقة بكيفية الطلب والتلقي.

وأول هذه الآداب: أن يحرص على التدرج في التعلم، بحيث يأخذ كل أناس ما يناسبهم، وينبغي أن يكون هذا بأمور:

الأمر الأول: الارتباط بعالم ناصح فاهم مشفق، بحيث إذا ارتبط الإنسان بالعالم استفاد من سمته وهديه، وكذلك درَّجَهُ في العلم، وانتقى له من الكتب ما يناسبه، ويكون صالحًا لحاله.

الأمر الثاني: حسن اختيار الكتاب الذي يدرسه الطالب، وأضرب لهذا مثلًا: سألني بعض الطلاب هنا أن أشرح لهم "مختصر التحرير"، و "مختصر "التحرير" كتاب طويل وصعب، وفيه مباحث دقيقة ومبنية على أصول عقدية، وقد لا يستوعبها هؤلاء، ثم قد يضيق الوقت عندهم، فيأخذون ربع الكتاب، أو نصف الكتاب، ثم لا يتمكنون من إتمامه وإكماله، فيكون عندهم في نفوسهم نوع من التنقص لعدم إكمالهم للكتاب، ولذلك اخترنا لهم أن يكون لنا دورة علمية في كل أسبوع منها نأخذ متنًا علميًّا، فيكون ذلك سببًا من أسباب التحصيل، وإكمال مهمات هذه الكتب، وإدراك الأهداف التي سعى إليها مؤلفو هذه المتون.

الأمر الثالث: التدرج في التعلم، بحيث يبتدئ الإنسان بالنقطة الأولى، ويتجه إلى المتن الأقل ليضبطه ويتقنه، فيكون بمثابة الأساس الذي يؤسس عليه البنيان، وأما إذا أتى ليبني سقف البيت وهو لم يبن أساسه بعد فإنه لن يتمكن من بنائه، ولو وضع سقفًا فهو عما قريب =

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= سيسقط، وهذا من أكثر المسائل التي نُعْنَى بها في عصرنا، تجد بعضهم ينتقل إلى المطولات، فيكون سببًا في تخليطه في المسائل، وإدخاله المسائل بعضها ببعض، كم أدركنا من أناس رغبوا في الخير فأخذوا كتاب "المغني"، فبدءوا يقرؤونه يقولون: نريد الكتاب الشامل المحتوي على العلم كله، فلما ابتدءوا في قراءته فإذا في أوله مسائل عديدة متعلقة بالمياه لا يفهمونها، ولا يدركون مصطلحات أهل العلم فيها، فكان ذلك سببًا لتركهم التعلم بالكلية.

ويحضرني في هذا أن بعض الفقهاء الذين ذكروا أنهم كانوا يدرسون مختصر الخرقي، فلما طلبوا من شيخهم أن ينتقل بهم إلى كتاب آخر، قال: هذا الكتاب قد ضبطته، وعرفت ما فيه سأُدرِّسكم إياه، ومن أراد غيره فلينتقل لغيري، ثم قال: أنت يا فلان ويا فلان لا تنتقل عن هذا الكتاب حتى تضبطه، وبذلك لا بد من التدرج في التعلم.

الأمر الرابع: معرفة المصطلحات العلمية في الكتب التي يريد الإنسان قراءتها، بحيث كلما مر عنده لفظ عرف معناه، وعرف مراد أهل العلم به، بحيث لا يُنَزّل كلام أهل العلم على غير مرادهم، فإنك إذا لم تَفْهَمْ هذه المصطلحات، فحينئذ ستفهم كلام الفقهاء فهمًا خاطئًا مغلوطًا، وأضرْبُ لهذا مثلًا: جاءني إنسان ووجدني أقرأ كتاب "الرد على المنطقيين" كانت هيئته حسنة، وأعرف عنه رغبة في العلم، فطلب مني استعارة هذا الكتاب فأعرته له، وبعد أسبوع أعاد لي الكتاب، وقال: هذا كتاب قيم فيه فوائد كثيرة، لكن هذا الكتاب اشتمل على كلمة لا أعرف ما مدخلها في الكتاب، فقلت له: ما هي هذه الكلمة، قال: كلمة الحد، فما مدخل العقوبات عند المناطقة؟ فقلت له: قد أتعبت نفسك بدراسة هذا الكتاب، المراد بالحد: التعريف، والمؤلف في الرد على المنطقيين يرد على المناطقة طريقتهم في التعريفات التي هي الحدود، فعندما يفهم القارئ أن المراد هو الحد الذي يقصد به العقوبة المقدرة حينئذ يكون قد فَهِمَ الكتاب على غير مراد صاحبه.

الأمر الخامس: الحرص على الحفظ، وأول ما يُحْفَظ النصوص الشرعية، الكتاب، والسنة، فإن الإنسان إذا لم يحفظ هذه الأصول فإنه حينئذ لا ينطلق في تعليمه، ولا في دعوته، ولا في علمه من منطلقات صحيحة؛ لأنَّ منطلقات العلم هي النصوص كتابًا =

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وسنة، من عرفها تمكن من تأسيس علم صحيح، ومن لم يعرفها فإنه حينئذ سيعرف شيئًا من المعلومات يسيرًا لا كلها، وبالتالي لا يكون قد وصل إلى مقصود الشرع ومراده.

الأمر السادس: وهو أن يحرص الإنسان على اختيار الكتب والمؤلفات التي يعرفها الناس في بلده، ويكون لها مكانة في ذلك البلد، من أجل أن يتمكن من ضبطها، ومن أجل أن يكون ذلك سبيلًا لنشرها في الأمة، ومن أجل اجتماع كلمة الناس من خلال تعلمهم في كتب متقاربة، وأما إذا درسنا كتبًا لا يعرفها الناس، وجعلناها هي الأساس الذي ننطلق منه في التعلم، حينئذٍ نكون قد نافرنا بقية طلبة العلم، ولم نكن وإياهم على وفاق.

الأمر السابع: عدم الملل في التعلم، وقد أشرنا إلى هذا فيما سبق، فإن الإنسان إذا كان كلما قرأ كتابًا وانتصف فيه مل منه، وانتقل إلى كتاب آخر لم يتمكن من ضبط العلم.

الأمر الثامن: من الأمور التي ينبغي أن تُعْرَف هو عدم الخلط بين العلوم، وليس المراد به أن لا يتعلم الإنسان علمين في زمن واحد، في سنة واحدة أو في يوم واحد، وإنما المراد به ألا يدخل بعضهما في بعض في وقت واحد؛ لأن مصطلحات أهل الفنون تختلف، ومراد كل طائفة يغاير مراد الطائفة الأخرى.

الأمر التاسع: من الأمور التي ينبغي أن تكون عند طالب العلم: ألا يَدْخُلَ في الخلاف حتى يتقن أساس ذلك الفن الذي يدرسه؛ لأنك إذا دخلت في الأقوال، وفي الأدلة وأنت لم تحط بالمراد بهذه المسائل، فحينئذ ستنزل كلامهم على غير مرادهم، ولن تتمكن من فهم هذه المسألة.

الأمر العاشر: ينبغي أن يعلم بأن التعلم في الكتاب لا يعني العمل به، فطالب العلم يتعلم ما في هذا الكتاب، لكنه عند العمل يسأل فقهاء عصره إن لم يكن مجتهدًا، وإن خالف الاجتهاد والفتوى ما في ذلك الكتاب فإنه يسأل عن سبب المخالفة؛ حتى يحيط بالقولين، ويعرف مستند كل منهما.

هذا شيء فيما يتعلق بكيفية الطلب والتلقي ومراتبه.

ص: 71

"من لم يتقن الأصول، حُرِمَ الوصول"

(1)

، و "مَنْ رَامَ العِلْمَ جُمْلَة، ذَهَبَ عنه جُمْلَة"

(2)

، وقيل أيضًا:"ازدحام العلم في السمع مضلَّة الفهم"

(3)

.

وعليه، فلا بد من التأصيل والتأسيس لكل فَنٍّ تَطْلُبُه، بضبط أصله ومختصره على شيخ متقن، لا بالتحصيل الذاتي وحده، وآخذًا الطلب بالتدرج

(4)

.

(1)

قوله: "من لم يُتْقِن الأصول حرم الوصول"، المراد بالأصول هنا: القواعد والأسس التي يتعلم الإنسان بناءً عليها، حرم الوصول، مراد أهل العلم: أن من لم يعرف قواعد التعلم ومراتبه فإنه لم يتمكن من الوصول لتحصيل العلم.

(2)

قوله: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة"، فمن أراد أن يحصل العلم كله في وقت واحد فإنه حينئذٍ سيذهب معه سريعًا، ولذلك ينبغي بالإنسان أن يقعد القواعد، ثم بعد ذلك يبني عليها فروع العلم.

(3)

قوله: "ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم"، فإن السمع كلما كان مصغيًا لأنواع التعليم مبتدئًا بالأقل فالأكثر، فإنه حينئذ سيفهم، وسينتقل من حال الجهل إلى حال العلم.

(4)

قوله: "فلا بد من التأصيل والتأسيس .. "، قالوا: التأصيل: معرفة الأصول، وهي القواعد التي ينبني عليها التعلم، والتأسيس يعني: معرفة الأسس التي ينبني عليها العلم، فالتأصيل معرفة قواعد التعلم هذا المراد هنا، والتأسيس: معرفة الأسس والقواعد التي يُبنى عليها العلم، وذلك بضبط أهل العلم، وبدراسة مختصرٍ على شيخ متقن لا بالتحصيل الذاتي وحده، وجدنا من حاول أن يحصل العلوم بنفسه دون الاستناد إلى شيخ وجدنا منه أمورًا كثيرة، منها:

أولًا: الخطأ في نطق الكلمات، فتجدهم لا يضبطون تشكيل الكلمة ضبطًا صحيحًا؛ وذلك لأنهم أخذوا الكتاب فقرءوا منه، فظنوا أن ما نطقوه هو الصحيح؛ لأن الكتب في =

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الغالب غير مُشَكَّلَة، لذا قرأ:(مُنى)، وهي (مِنى)، وقرأ:(أسيد بن حبيب) وهو (أُسيد بن حبيب)، وقرأ:(عَتاب بن أُسيد)، وهو (ابن أسيد)، وهكذا لأنه اعتمد على ما في هذه الكتب، ولم يكن لديه شيخ يأخذ منه طريقة نُطق هذه الكلمة.

الأمر الثاني: أن من لم يتعلم على شيخ أدخل المسائل بعضها في بعض، فقد مثلنا له فيما مضى بمن قرءُوا مسألة: من سبقه الحدث في الصلاة، فحينئذ يقول الفقهاء: يستخلف من وراءه، فيقدمون إمامًا يصلي بهم، بينما في مسألة من تذكَّر الحدث في أثناء الصلاة قالوا: تبطل صلاته وتبطل صلاة من خلفه، هكذا قال فقهاء الحنابلة، فيأتي إنسان، فيظن أن هذه المسألة هي تلك المسألة، فيَنسِب إلى هؤلاء الفقهاء ما لم يقولوه.

الأمر الثالث: من الأمور التي تنبني على تعلُّم الإنسان بنفسه بدون مراجعة شيخ عالم: أن فهم الكلمات والمصطلحات لا يُعْرَفُ إلا من خلال هؤلاء العلماء الذين يتعلم الإنسان عليهم، وقد مثَّلت لكم بأمثلة: مصطلح واحد يختلف من باب إلى باب، وهناك مصطلحات تختلف من عالم إلى عالم، وهناك مصطلحات تختلف من فن إلى فن، وهناك مصطلحات تختلف من منهج إلى منهج، مثال هذا: إذا قال إنسان أو فقيه: الكفالة جائزة، ما المراد بالكفالة؟ إن كان حنبليًا فهو يريد الالتزام بإحضار بَدَنِ مَنْ عليه حق، هذه كفالة، وإن لم يكن حنبليًا فهو يريد: الالتزام بدفع ما في ذمة الآخرين الذي يُسميه الحنابلة: الضمان. إذن من هنا اختلف المصطلح باختلاف المنهج، وقد يكون باختلاف الأبواب، فكلمة الضمان يراد بها مرة: ضم ذِمة إلى ذمة، ومرة يراد بها: دفع التعويض عن المتلفات، فكيف يعرف الإنسان التفريق بينهما؟ يعرف ذلك بكونه يتعلم على معلم يدله على مُراد أهل العلم بذلك اللفظ.

الأمر الرابع: معرفة الصحيح من الضعيف، عندما يأتي الإنسان ويقرأ الكتب يكون كحاطب ليل، لا يميز بين صحيحها وضعيفها، وعندما يراجع العلماء الفاهمين يدلونه =

ص: 73

قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]

(1)

.

= على الصحيح من الضعيف، بل يوجدون لديه قدرة وملكة يتمكن بواسطتها من التمييز بين الصحيح والضعيف، ولذلك في عصرنا الحاضر وجدنا من لم يطلب العلم على العلماء يقومون بتسجيل أشرطة، ثم يكون في هذه الأشرطة من الطوام الشيء الكثير عند النطق بالكلمات لا ينطقونها بنطق صحيح، وعند الروايات لا يفرقون بين الرواية الصحيحة والرواية الضعيفة، ثم لا يتمكنون من ربط المسائل بعضها ببعض، أو ربط الحوادث بعضها ببعض؛ لأنهم ليس لديهم دراسة سابقة مبنية على تحصيل عند عالم متمكن.

إذا تقرر هذا فإنه لا بد أن يختار الإنسان العالم المتقن، أما من انتسب إلى العلم ولم يكن متقنًا له فحينئذ قد يوقعه في أشياء كثيرة، مخالفة للصواب والحق.

ومما يتعلق بهذا: أن تختار في كل فن من يتقنه حتى تكون بذلك قد حصلت الإتقان في ذلك الفن، وقد يوجد علماء يتقنون فنونًا عديدة، فمثل هؤلاء هم الذين يُحْرَصُ على اقتناصهم واقتناص التعلم منهم؛ وذلك لأن العلوم الشرعية يرتبط بعضها ببعض، فعندما تأتي بشخص عارف في الفقه، ومتقنٍ لكلام أهل العلم فيه، لكنه لا يعرف قواعد الأصول، أو لا يعرف مباحث المعتقد يكون درسك معه مقطوعًا؛ لأن مسائل الفقه مرتبطة بالأصول، وهناك مسائل فقهية عديدة فيها جوانب عقدية.

(1)

ذكر المؤلف عددًا من الأدلة الدالة على مشروعية التدرج في طلب العلم، ومنها قوله تعالى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، كثير من أهل العلم يفرق بين الفعلين: أنْزَل ونزَّل؛ لأن نزَّل يراد بها التنزيل المفرَّق، وأما أنزل فيحتمل أن تكون كذا وأن تكون كذا، وهذا إنما يكون عند المقارنة بين اللفظين.

ص: 74

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]

(1)

.

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].

فأمامك‌

‌ أمور لا بد من مراعاتها في كل فَنٍّ تَطْلُبه:

(1)

حفظ مختصر فيه

(2)

.

(2)

ضبطه على شيخ متقن

(3)

.

(1)

ثم جاء بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، هنا لم يؤت في مقابلة أنزل وقيد بقوله: جملة واحدة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} هذه هي الفائدة الأولى: أن يثبت العلم في قلب المتعلم {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} .

ذكر المؤلف عددًا من الوسائل في التعلُّم:

(2)

أولها: "حفظ مختصر في العلم"؛ فإنه يبقي ذلك العِلْم في القلب.

(3)

وثانيها: "ضبط العلم"؛ أي: ضبط مصطلحاته وضبط ألفاظه ومعانيها، وضبط أساليبه وضبط أبوابه، والمراد بالضبط الحفظ التام، والضبط يكون للعلم، ويكون لكتبه، فيضبط ما ألف فيه من مؤلفات، ويضبط أيضًا مواطن بحث المسائل التي تبحث، أين يبحث أهل العلم هذه المسألة؟ لأن كثيرًا من المسائل تبحث في غير مظانها، يبحث الإنسان عنها في باب وهي في باب آخر، مثال هذا حديث:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن توصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)

[1]

، رواه مسلم. وجعله في آخر باب صلاة الجمعة؛ فهذا ليس مظنة له، إذن لا بد أن نعرف مواطن بحث المسائل، ومن أمثلة ذلك: خبر صلاة ابن عمر خلف الحجاج، أخرجه البخاري في باب التهجير بالرواح =

[1] أخرجه مسلم (883)، وأبو داود (1129).

ص: 75

(3)

عدم الاشتغال بالمطولات وتفاريق المصنفات قبل الضبط والإتقان لأصله

(1)

.

(4)

لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب، فهذا من باب الضجر

(2)

.

(5)

اقتناص الفوائد والضوابط العلمية

(3)

.

(6)

جمع النفس للطلب والترقي فيه، والاهتمام والتحرق للتحصيل

(4)

= يوم عرفة

[1]

؛ من كتاب الحج، ولذا قال بعضهم: لم يروه البخاري؛ عندك مثلًا: مسائل متعلقة بالمسابقة أين تُبْحَث؟ فإن بعض أهل العلم يبحثها في كتاب القضاء، في باب الشهادات، وبعض أهل العلم يبحثها في كتاب الجهاد، وبعض أهل العلم يبحثها في كتاب المعاملات في باب الإجارة، إلى غير ذلك من طرائق أهل العلم، فعندما يتعلم الإنسان العلم على شيخ، وفي فن معين، وعلى مذهب معين يعرف أين تبحث هذه المسائل.

(1)

ثالثها: كذلك لا ينتقل الإنسان إلى الكتاب المطول حتى يتقن المتون الأولى في ذلك العلم.

(2)

رابعها: لا يترك مختصرًا وهو لم يكمله إلى مختصر آخر.

(3)

خامسها: ينبغي أن نقتنص الفوائد كلما وجدنا فائدة علمية، وضابطًا حرصنا على تقييده، ليرسخ الفهم، ويكون ذلك سببًا من أسباب انتفاع الإنسان بهذا العلم.

(4)

وسادسها: الحرص على جعل النفس تلتفت إلى التعلم ولا تلتفت إلى غيره، بحيث يُجمع العبد نفسه في الطلب وفي الترقي من درجة إلى درجة، ويكون في نفسه حرقة ورغبة شديدة في التعلم.

[1] أخرجه البخاري (1577).

ص: 76

والبلوغ إلى ما فوقه حتى تفيض إلى المطولات بسابلة موثقة

(1)

.

وكان من رأي ابن العربي المالكي أن لا يخلط الطالب في التعليم بين عِلْمَيْن، وأن يقدم تعليم العربية والشعر والحساب، ثم ينتقل منه إلى القرآن.

لكن تعقبه ابن خلدون بأن العوائد لا تساعد على هذا، وأن المقدَّم هو دراسة القرآن الكريم وحفظه، لأن الولد ما دام في الحجر؛ ينقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ، صعب جبره

(2)

.

(1)

قوله: "والبلوغ إلى ما فوقه حتى تفيض إلى المطولات بسابلة موثقة"، يقال: فاض الماء بحيث امتلأ المكان الأول فانتقل بعضه إلى مكان آخر، فاض الماء فهو يفيض، فينتقل من المختصرات إلى المطولات، وقوله:"بسابلة" السابلة السحاب القَوِي الذي فيه مطر كثير، "موثقة" ما يكون متوثقًا من علمه.

(2)

ذكر المؤلف خلافًا بين ابن العربي المالكي وبين ابن خلدون فيما يتدرج فيه من التعلم، فابن العربي يرى تقديم العربية والشعر والحساب، ثم ينتقل إلى القرآن، وابن خلدون يرى أن المقدَّم هو القرآن وحفظه، وعلى كل فإن معرفة العربية لغة كان الناس يحرصون عليها؛ وذلك لأن الصبي في أول تكلمه إذا عُلِّمَ العربية نطقًا وأسلوبًا تكون العربية سليقة له، فهذا يكون أول ما يتعلمه الإنسان، وأما تعلم العربية كقواعد، وتعلم أنواع علوم العربية فيكون بعد إتقان القرآن؛ لأن تعلم القرآن وحفظه يعين على معرفة العربية، ومعرفة العربية تعين على فهم القرآن، فهو يبتدئ أولًا بحفظ القرآن، ثم يتعلم العربية فينطلق من العربية إلى فهم القرآن.

ص: 77

أما الخلط في التعليم بين عِلْمَيْن فأكثر؛ فهذا يختلف باختلاف المتعلمين في الفهم والنشاط.

وكان من أهل العلم من يدرس الفقه الحنبلي في "زاد المستقنع" للمبتدئين، "والمقنع" لمن بعدهم للخلاف المذهبي، ثم "المغني" للخلاف العالي، ولا يسمح بالطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية .. وهكذا؛ دفعًا للتشويش.

واعلم أن ذكر المختصرات والمطولات التي يؤسس عليها الطلب والتلقي لدى المشايخ تختلف غالبًا من قطر إلى قطر باختلاف المذاهب، وما نشأ عليه علماء ذلك القطر من إتقان هذا المختصر والتمرس فيه دون غيره

(1)

.

(1)

ذكر المؤلف التدرج في التعلم، وذكر أنه كان من شأن أهل العلم أن لا يخلطوا بين المتعلمين، فيكون لطائفة التعلم في أول الفنون والمتون بالعلم، ثم بعد ذلك من أتقنه انتقل إلى المرحلة الأخرى، وأما إذا خُلط الطلاب بعضهم مع بعض فإنه يؤدي إلى التخبط؛ وذلك أن المبتدئ يسأل سؤالًا يناسب حاله، فيضجر منه من هو أعلى درجة منه، ويمل من طلب العلم في ذلك المجلس، وإذا سأل المتمكن والمتوصل سؤالًا قد لا يفهمه المبتدئ، فيكون ذلك سببًا لخلط العلوم في ذهنه، وإدخال بعضها في بعض، ولذلك كان من الشأن المحمود تقسيم طلبة العلم بحسب درجاتهم، أما بالنسبة لاختيار المتون فيختلف - كما تقدم - من بلد إلى بلد، ومن أهل مذهب إلى أهل مذهب، وحينئذ يختار الشيخ لطلابه ما يناسبهم من المتون ويتوافق مع أحوالهم.

ص: 78

والحال هنا تختلف من طالب إلى آخر باختلاف القرائح والفهوم، وقوة الاستعداد وضعفه، وبرودة الذهن وتوقده

(1)

.

وقد كان الطالب في قطرنا بعد مرحلة الكتاتيب والأخذ بحفظ القرآن الكريم يمر بمراحل ثلاث لدى المشايخ في دروس المساجد: للمبتدئين، ثم المتوسطين، ثم المتمكنين.

ففي التوحيد: "ثلاثة الأصول وأدلتها"، و "القواعد الأربع"، ثم "كشف الشبهات"، ثم "كتاب التوحيد"، أربعتها للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، هذا في توحيد العبادة

(2)

.

(1)

قوله: "والحال هنا تختلف من طالب إلى آخر .. "، أي: الطلاب يختلفون من حيث جودة الفهم، ومن حيث ما لديهم من صفات تؤهلهم لحفظ العلم، وما لديهم من رغبة في التعلم؛ وما لديهم من قوة الذهن وضعفه، ولذلك فيُنتقى لكل مجموعة ما يناسبهم من الكتب، ذكر المؤلف حال علماء هذه البلاد، وكيف كانوا يتدرجون في اختيار المتون، وابتدأ بعلم المعتقد والتوحيد؛ لأن التوحيد يُقدَّم على غيره من الفنون، وذلك لأنه أصل الأصول، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من جاءه أول ما يعلمه إفراد الله بالعبادة؛ ولأن هذا هو الذي يجعل الإنسان من أهل دين الإسلام، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل المعلمين يأمرهم بأن يبتدئوا بهذا الأصل، قال:(يا معاذ، إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله)، وفي رواية:(إلى شهادة أن لا إله إلا الله)

[1]

.

(2)

ذكر المؤلف الكتب المؤلفة في أنواع الفنون، وهي كتب نافعة قيمة، وكثير منها محلّ عناية أهل العلم في كثير من الأقطار.

[1] أخرجه البخاري (1496)، والترمذي (625)، وأبو داود (1584).

ص: 79

وفي توحيد الأسماء والصفات: "العقيدة الواسطية"، ثم "الحموية"، و "التدمرية"، ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فـ "الطحاوية" مع شرحها.

وفي النحو: "الآجرومية" ثم "ملحة الإعراب" للحريري، ثم "قطر الندى" لابن هشام، و "ألفية ابن مالك" مع شرحها لابن عقيل.

وفي الحديث: "الأربعين" للنووي، ثم "عمدة الأحكام" للمقدسي، ثم "بلوغ المرام" لابن حجر، و "المنتقى" للمجد بن تيمية، رحمهم الله تعالى، فالدخول في قراءة الأمات الست وغيرها.

وفي المصطلح: "نخبة الفكر" لابن حجر، ثم "ألفية العراقي" رحمه الله تعالى.

وفي الفقه مثلًا: "آداب المشي إلى الصلاة" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم "زاد المستقنع" للحجاوي رحمه الله تعالى، أو "عمدة الفقه"، ثم "المقنع" للخلاف المذهبي، "والمغني" للخلاف العالي، ثلاثتها لابن قدامة رحمه الله تعالى.

وفي أصول الفقه: "الورقات" للجويني رحمه الله تعالى، ثم "روضة الناظر" لابن قدامة رحمه الله تعالى.

وفي الفرائض "الرحبية"، مع شروحها، و "الفوائد الجلية".

وفي التفسير: "تفسير ابن كثير" رحمه الله تعالى.

وفي أصول التفسير: "المقدمة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

وفي السيرة النبوية: "مختصرها" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأصلها لابن هشام، وفيه "زاد المعاد" لابن القيم رحمه الله تعالى.

ص: 80

وفي لسان العرب: العناية بأشعارها، وكـ "المعلقات السبع"، والقراءة في "القاموس" للفيروز آبادي رحمه الله تعالى

وهكذا من مراحل الطلب في الفنون.

وكانوا مع ذلك يأخذون بجرد المطولات، مثل "تاريخ ابن جرير"، وابن كثير، وتفسيرهما، ويركزون على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى، وكتب أئمة الدعوة وفتاواهم، لاسيما محرراتهم في الاعتقاد

(1)

.

(1)

قوله: "وكانوا مع ذلك

"، يعني: مع دراستهم للمتون وتفهمها (يأخذون بجرد المطولات)، يعني: بقراءتها بدون شرحها، وقد يعلقون تعليقًا خفيفًا على شيء من هذه المطولات، وأدركنا ممن يقرأ المطولات، وتجرد في مجالسهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

ومَثَّل المؤلف بالكتب التي كانت تُجْرَد بتاريخ ابن جرير، وتفسير ابن جرير، وتاريخ ابن كثير، وتفسير ابن كثير، وكُتُب شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنهم كانوا يحرصون على قراءتها، ويبذلون من أوقاتهم من أجل تعلمها، "وكتب أئمة الدعوة وفتاواهم، لاسيما محرراتهم في الاعتقاد"، وأعطيكم فائدة متعلقة بهذا، وهي أن أهل العقيدة الصحيحة يبارك الله لهم في أذهانهم وفهومهم، ولذلك تجد عندهم من الفوائد ما لا تجده عند غيرهم، ويكون عندهم من الاختصار في اللفظ ما ليس عند غيرهم، فالأقوال القليلة عندهم تدل على المعاني الكثيرة، وذلك أنهم لما جرَّدوا عبادتهم لله، وجرَّدوا مقاصدهم لله بارك الله في علومهم، وبارك الله في أقوالهم؛ ولذلك كلما كان الإنسان صاحب معتقد صحيح فإن الله - جل وعلا - يجعلك تستفيد منه أكثر من الاستفادة من غيره، ولهذا انظر إلى كتب الشيخ محمد، ألفاظ =

ص: 81

وهكذا كانت الأوقات عامرة في الطلب، ومجالس العلم، فبعد صلاة الفجر إلى ارتفاع الضحى، ثم تكون القيلولة قبيل صلاة الظهر، وفي أعقاب جميع الصلوات الخمس تُعْقَد الدروس

(1)

، وكانوا في أدب جم، وتقدير بعزة نفس من الطرفين على منهج السلف

(2)

= مختصرة تدل على معانٍ كثيرة، وهذا من بركة ما آتاه الله لذلك الإمام غفر الله له؛ ينبهك إلى جزئيات تكون منطلقًا لك في حياتك كلها، وهكذا امتاز أصحاب المعتقد الصحيح الصحابة فمن تبعهم بكلام سهل يسير لا تجد مثل هذه التنبيهات عند غيرهم، بل عند غيرهم تجد الكلام طويلًا كثيرًا وفائدته قليلة، ولذلك كان من فضل الله - جل وعلا - على هذه البلاد أن جاءنا فيها من العلماء من يكون محلّ ثقة عند العالم الإسلامي ككل؛ وذلك لأنهم ينطلقون في علمهم من معتقد صحيح، ويُؤسسون علمهم على أصول صحيحة، وقواعد للتعلم صحيحة، وكذلك يستندون ويعتمدون في كلامهم على أدلة شرعية واضحة من القرآن والسنة، ونحمد الله على ذلك.

(1)

قوله: "وهكذا كانت الأوقات عامرة في الطلب

"، ذكر المؤلف كيف كان أولئك يشغلون جميع أوقاتهم بالتعلم، فكانت الأوقات كلها عامرة في الطلب ومجالس العلم، ذكر المؤلف صفتهم في هذا، والناظر في تراجمهم يجد هذا واضحًا جليًا، فحينئذ لا ينبغي للإنسان أن يلتفت إلى هذه المشغلات التي تشغله من أنواع الألعاب، أو أنواع المجالس، أو أنواع الأحاديث الجانبية في غير العلم الشرعي، أو الكلام في تفاصيل الوقائع والحوادث السياسية.

(2)

قوله: "وكانوا في أدب جم وتقدير .. "، ذكر ما هم عليه في هذه الحلقات من أدب جم، وتقدير فيما بينهم، وعزة نفس للإنسان بحيث لا يذهب إلى سفاسف الأمور، مع =

ص: 82

الصالح رحمهم الله تعالى، ولذا أدركوا، وصار منهم في عداد الأئمة في العلم جمع غفير، والحمد لله رب العالمين.

فهل من عودة إلى أصالة الطلب في دراسة المختصرات المعتمدة، لا على المذكرات، وفي حفظها لا الاعتماد على الفهم فحسب

(1)

، حتى ضاع

= انسجامهم بطريقة المتحابين ونهج سلفنا الصالح، ولذلك أدركوا وصار منهم في عداد الأئمة في العلم جمع غفير، ولذلك لا زال أهل العلم يستندون إلى أقوال علماء هذه البلاد ويرجعون إليهم، وهذا من فضل الله - جل وعلا -.

(1)

قوله: "فهل من عودة إلى إصالة الطلب

"، طالب المؤلف بالعودة إلى أصالة الطلب في دراسة المختصرات المعتمدة، وبالرجوع إلى كتب أهل العلم.

أما الكلام الوعظي والحديث السياسي والمحاضرات العامة والتي ليس لها أساس ومنهج فإنها لا تنضبط، وبالتالي ينبغي في دروسنا أن نرجع إلى المتون العلمية حتى نضبط العلوم ونعرفها، وأما الكلام الذي يكون بدون رجوع إلى كتب أهل العلم فإنه لا ينضبط، ولا يؤسس طالبًا للعلم؛ لأنه يحفظ ما في هذه المذكرات وينساها بعد مرور أوقات الاختبار فيها، أو بعد مضي زمن، ثم بعد ذلك يصبح هو والعامي في مرتبة واحدة، ولكن من ضبط العلم بمراجعة متونه وأصوله فإنه حينئذ يتمكن بذلك من ضبط العلم، وبذلك أيضًا نعرف مواطن بحث المسائل في الكتب، ومن هنا ينبغي أن لا يعتمد على مجرد الفهم، وينبغي أن يكون لنا طريقة في حفظ الأصول الشرعية، كتابًا وسنةً ومتون أهل العلم، فإنه بمضي الوقت يضيع الفهم ويبقى الحفظ، فالحفظ إذا بقي أمكن الفهم، لأن الآلة عندك موجودة، لكن إذا كان عندك فهم ولم يكن عندك الأصل فإن المفهوم يضيع، وتكون عندك الآلة، لكن ليس عندك الأصل الذي ترجع إليه في الفهم.

ص: 83

الطلاب فلا حفظ ولا فهم! وفي خلو التلقين من الزغل والشوائب والكدر سير على منهاج السلف

والله المستعان

(1)

.

وقال الحافظ عثمان بن خُرَّزَاد (م سنة 282 هـ) رحمه الله تعالى: "يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإن عُدِمت واحدة، فهي نقص، يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط، وحذاقة بالصناعة، مع أمانة تعرف منه"

(2)

.

(1)

قوله: "وفي خلو التلقين من الزغل والشوائب والكدر سير على منهاج السلف"، الزغل: ما يكون من الشوائب في أنواع الأقمشة والقطن ونحوها، والشوائب: ما يدخل في أنواع الحبوب إما السنبل أو القشرة فهذه كلها شوائب، والكدر غالبًا يكون في المياه الشيء غير الصافي، فينبغي أن تكون المتون والكتب التي نقرؤها خالية من مثل هذا، لتتابع الناس على مراجعتها، بخلاف المذكرات الدراسية التي قالها إنسان وتكلم بها، لكنه مرات يتكلم بكلمة ويتعب ذهنه فيريد أن يتكلم بكلمة فتخرج منه كلمة أخرى، وتجدون هذا عند كثير من المعلمين والمدرسين، بينما الكتب حرص أصحابها على ضبطها، ثم بعد ذلك وُجد أناسٌ كثر يتدارسونها وينبهون على ما فيها من مثل هذا، بخلاف هذه المذكرات فإنها لا تشتمل على ذلك، ولا زال سلفنا وأئمتنا يسيرون على هذه الطريقة بمراجعة المتون العلمية، فحينئذ لا ينبغي أن تغرنا مثل هذه الدعايات التي تُنَفِّر من كتب أهل العلم المتقدمين.

(2)

قوله: "قال الحافظ عثمان بن خرزاد .. "، ذكر صفات راوي الحديث وصاحب الحديث:

أولها: العقل الجيِّد الذي يعرف به عواقب الأمور، ويميز به بين المتشابهات.

ثانيها: دين وورع بحيث لا يعتمد على الظنة، أو يكون شاذًا في حديثه، أو يعتمد على رواية من لا يصح أن يعتمد على روايته. =

ص: 84

قلت - أي الذهبي -: "الأمانة جزء من الدين (1)، والضبط داخل في الحِذْقِ، فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون: تقيًا، ذكيًا، نحويًا، لغويًا، حييًا، سلفيًا، يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد، ويحصل من الدواوين المعتبرة خمس مائة مجلد، وأن لا يَفْتُرَ من طلب العلم إلى الممات بنية خالصة، وتواضع (2)،

= ثالثها: يحتاج إلى الضبط وهو تمام الحفظ بحيث يروي كما سمع.

رابعها: يحتاج إلى حذاقة في الصناعة، معرفة القواعد التي يُصَار عليها في التعلم.

خامسها: وجود الأمانة لئلا يُدْخِلَ في العلم ما ليس منه، وينبغي أن يُعرَف بذلك حتى يوثق بكلامه، من لم يُعرَف بأنه أمين لم يُعْتَمَد على قوله.

* وذكر المؤلف أيضًا كلام الذهبي، فقال:"الأمانة جزء من الدين .. "، بحيث يرجع بعض هذه الصفات السابقة الخمس إلى بعضها، فالأمانة رجعت إلى الدين، والضبط رجع إلى الحفظ، وحينئذ قال:"ينبغي أن يكون تقيًا"، والتقوى: الإقدام على الطاعة، والهرب من المعصية تقربًا لله، من أجل الآخرة، وأن يكون ذكيًا يعرف حقائق الأمور وبواطنها، نحويًا: يعرف قواعد ضبط أواخر الكلمات، لُغَويًا: يفهم معاني الكلام، زكيًا: يعني: طاهرًا ليس في نفسه خبث ولا طوية غير محمودة، حييًا: يستحيي مما لا يليق به، سلفيا: سائرا على نهج سلفنا الصالح، يبتعد عن البدع.

* قوله: "يكفيه أن يكتب بيديه مائتي مجلد .. "، يعني أن طالب العلم حتى يصل يحسن أن يكتب بيديه مائتي مجلد من الفوائد، ومن أنواع العلم (ويُحَصل من الدواوين المعتبرة خمسمائة مجلد)، فإذا قرأ خمسمائة مجلد، وكتب مائتي مجلد من الفوائد فقد أحرز العلم.

ص: 85

وإلا فلا يتعنَّ"

(1)

. ا. هـ.

وعليه أيضًا ألا يفتر من طلب العلم، ولا يتوقَّف، بل يستمر ولا يمل إلى الممات، فإنه إذا توقف وظن أنه قد علم أصبح ينتقل إلى الجهل، ولا بد أن يكون ذلك بنية خالصة لله، لا يريد دنيا، ولا يريد مراءاة الخلق، ولا يريد أن يكون له سمعة عندهم (وتواضع) بحيث لا يترفع ولا يتكبر.

(1)

قوله: "وإلا فلا يتعنَّ"، في نفسي من هذه الكلمة ما فيها؛ وذلك أن طلب العلم قربة وعبادة، فلو فرضنا أن إنسانًا كان بليد الذهن، أو كان حفظه ضعيفًا، لا ينبغي أن يكون ذلك صادًا له عن التعلم؛ لأن كل حرف يتعلمه يؤجر به عند الله - جل وعلا -، فحينئذ كيف يُفَوِّت على نفسه هذا الأجر، (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة)

[1]

، ولا يشترط في هذا أن يكون صاحب عقل جيد، ولا أن يكون صاحب حفظ وضبط، ولا أن يكون حاذقًا في الصناعة، بمجرد تعلّمه يُؤْجَر، ولو لم يكن قادرًا على الحفظ، فحينئذٍ هذه الصفات ينبغي أن نحرص على تحصيلها، وإذا لم نتمكن من تحصيلها كاملة، فلا يعني أن يكون ذلك صارفًا لنا عن التعلم.

وقد ذكر الشيخ ترتيبًا جيدًا للكتب في أكثر الفنون، وهو ترتيب جيد في الجملة، لكن يحتاج إلى تكميل في بعض جزئياته، ففي الأصول هناك مرتبة وسطى بين الورقات وروضة الناظر، يحسن أن تكون مختصر ابن اللحام؛ وفي التفسير يمكن أن تكون المرحلة الأولى في تيسير الكريم المنان لابن سعدي، ويذكر أحد شروح كتاب التوحيد في آخر المراحل.

[1] أخرجه الترمذي (2646)، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (223).

ص: 86

(17) تلقي العلم عن الأشياخ

(1)

:

الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأسانيد،

(1)

ذكر المؤلف هاهنا الأدب السابع عشر من آداب طالب العلم: وهو أن يتلقى طالب العِلْمِ العلمَ عن الأشياخ، ذلك أن هذا العلم ينقله سلف الأمة إلى خَلَفِها بالنقل والرواية، ولذلك فإن من أدب طلب العلم أخذه من العلماء والأشياخ، لا تلقيه من الكتب؛ وذلك لعدد من الأمور:

الأمر الأول: أن ما يُكْتَب في الكتب تختلف قدرات الناس في معرفة كيفية تشكيله وقراءته، فإذا درسه على مُعَلِّم نبَّه إلى الأخطاء التي تقع في طريقة نطق هذه الكلمات، ومثال هذا عند قراءتنا لهذا الكتاب، نجد أننا نخطئ في طريقة نطق بعض الكلمات، فيأتي الشيخ وينبه عليها، سواء نبَّه عليها مباشرة، أو أعاد نطقها مرة أخرى، بحيث تستقر الكلمة على طريقة نُطْقِ الشيخ، وضربنا لذلك أمثلة.

الأمر الثاني: التمييز بين أنواع الروايات؛ فإن الروايات منها ما هو صحيح، ومنها ما ليس كذلك.

الأمر الثالث: متعلِّق بالقدرة على فهم التراكيب من الكلام؛ فإن المرء إذا قرأ الكتاب وحده قد يُدخِل جملة في جملة، فمن ثم ينقلب عليه المعنى الذي ذكره المؤلف.

الأمر الرابع: أن الطالب إذا تلقَّى العلم عن شيخه استفاد من سَمْتِه ومن هَدْيه، وبالتالي أثَّر في سلوكه.

الأمر الخامس: أن الطالب قد يُشْكِل عليه مسائل، فإذا كان الشيخ عنده سأله عن تلك المسائل المشكلة، وإذا لم يكن عنده شيخ فإنه حينئذٍ لن يتمكن من إتقان جميع الكتب، وتبقى الإشكالات في ذهنه، وكم من مرة وجدنا أخطاء مطبعية في الكتب، فإذا كان عند =

ص: 87

الأصل

(1)

في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأسانيد

(2)

والمثافنة للأشياخ

(3)

، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف

(4)

وبطون الكتب، والأول

(5)

من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق، وهو المعلم

(6)

، أما الثاني عن الكتاب، فهو جماد، فأنى له اتصال النسب؟

(7)

.

= الإنسان شيخ أرشده إلى الخطأ في ذلك الكتاب، وإذا لم يكن عنده شيخ فإنه قد يظن أن ما في الكتاب صواب، وهو من الأخطاء الإملائية أو الطباعية.

الأمر السادس: أن هناك مصطلحات تختلف ما بين موطن وموطن آخر، فإذا قرأ الإنسان العلم على شيخ بيَّن له معاني تلك المصطلحات.

(1)

قوله: "الأصل في الطلب .. "، الأصل يراد به القاعدة المستمرة.

(2)

"أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ"، جمع أستاذ.

(3)

"والمثافنة للأشياخ"، يعني: يأتي عندهم قريبًا منهم حتى يكون ثفنه قريبًا من ثفنه، والثفن في الأصل: الجسم البارز في صدر البعير.

(4)

"قال: والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف"، جمع صحيفة.

(5)

"وبطون الكتب، والأول"، الذي هو التلقي على الأشياخ.

(6)

"من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق وهو المعلم"، لأن الحي إذا أخذ عن حي استفاد منه حياته.

(7)

"أما الثاني"، فهو أخذ "عن الكتاب فهو جماد"، ومن ثم لا يكون هناك اتصال بالنسب، والمراد بالنسب هنا سلسلة الرواية والإسناد؛ لأنك إذا أخذت الكتاب بالرواية اتصل الإسناد حتى يصل إلى الشيخ الأعلى.

ص: 88

وقد قيل: "من دخل في العلم وحده، خرج وحده"، أي: من دخل في طلب العلم بلا شيخ؛ خرج منه بلا علم، إذ العلم صنعة، وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلا بد إذًا لتعلمها من معلمها الحاذق

(1)

.

وهذا يكاد يكون محلّ إجماع كلمة من أهل العلم؛ إلا من شذَّ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب (م سنة 453 هـ)، وقد رد عليه علماء عصره ومَنْ بعدهم.

قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته له: "ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنَّف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين، وهذا غلط"

(2)

.

(1)

قوله: "قال: (من دخل في العلم وحده - أي بلا شيخ - خرج وحده - أي بلا علم) "، فإذا دخلت في المطبخ وأنت لا تحسن الطبخ، ووجدت أنواع ما يجهز به الطعام، حينئذٍ لن تتمكن من الطبخ إلا أن يكون عندك طباخ ماهر يرشدك إلى كيفية الطبخ، هكذا في العلم، عندك مؤلفات، وعندك كتابات متنوعة ما هو الأنسب لك؟ وكيف تتعلم؟ وما الكتب المناسبة لك؟ وما هي مبادئ العلم التي يحسن أن تبتدئ بها؟ لا يمكن أن تعرفه بنفسك.

(2)

قوله: "وقال الحافظ في ترجمة له .. " ابن رضوان: عالم من علماء مصر، طبيب، يقول: بأنه يرغب في تحصيل العلم من الكتب فقط، ولذلك رد العلماء عليه، ومن هنا قال عنه الذهبي:"لم يكن له شيخ، صنَّف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين"، وهذه الطريقة غلط، ولعل مثل ذلك إنما يكون في أصحاب المهن والعلوم الأخرى، فابن رضوان هذا طبيب، ولذلك ظن أنه يحصل العلم الشرعي بطريق القراءة من الكتب.

ص: 89

وقد بسط الصفدي في "الوافي "الرد عليه، وعند الزبيدي في "شرح الإحياء" عن عدد من العلماء مُعَللين له بعدة علل، منها ما قله ابن بطلان في الرد عليه: "السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تَصُدّ عن العلم

(1)

، وهي معدومة عند المعلم، وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ والغلط بزوغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب، أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب، وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة، وألفاظ

(1)

قوله: "وعند الزبيدي في "شرح الإحياء" عن عدد من العلماء معللين له بعدة علل .. "، محمد مرتضى الزبيدي من علماء اليمن شرح الإحياء، وله تحقيقات وكتب كبيرة، قال:"في الكتاب أشياء تصد عن العلم"، من مثل الأخطاء المطبعية وأخطاء النساخ، واشتباه الحروف بعضها مع بعض، واحتمالية زوغان البصر، تجد الإنسان يقرأ ثم يترك سطرًا من زوغان بصره، وقد يكون يقرأ ويجد كلمة فينتقل إلى نفس الكلمة في السطر الذي بعده، ومن ثم يؤدي إلى معنى مغاير للمعنى الذي يريده المؤلف، وكذلك القارئ مقلد، فإن مذهب صاحب الكتاب سيتبعه المقلد القارئ بدون أن يعرف هل هو مذهب صواب أو مذهب خطأ، وقد يكون في النقولات شيء من الملحوظات، فكم من عالم ومؤلف وفقيه أراد أن ينقل من غيره فحصل تغييرٌ فيما ينقل، وكذلك قد يدمج القارئ مواضع المقاطع فيدخل جملة في جملة، ويخلط في مبادئ التأليف، وذكر أيضًا الخطأ في فهم المصطلحات التي يمكن أن تكون خاصة بفن، ويجهلها القارئ فيكون ذلك صادًا له عن الاستمرار في التعلم، بينما من كان عنده معلم فإنه لا تنطلي عليه هذه الأمور.

ص: 90

يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة، كالنوروس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح المتعلم من تكلفها عند قراءته على المعلم، وإذا كان الأمر على هذه الصورة فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه، وهو ما أردنا بيانه .. قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي ولا من مصحفي، يعني: لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف .. "

(1)

.

والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ، ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في العُزَّاب من الإسفار لراقمه.

(1)

قوله: "قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: (لا تأخذ العِلْم من صحفي ولا مُصْحَفي)، الصُّحفي من أخذ علمه من الصحف، والمصحفي من أخذ قراءته من المصحف، فلا بد من شيخ يقرأ الإنسان عليه، ولذلك تواتر عن علماء الأمة أن الإنسان يبحث عن أشياخ له، وقد ألف جماعات كثر مؤلفات في معاجم شيوخهم، وقد أوصل بعضهم شيوخه إلى ألف شيخ، فكون العلم في الكتب جعل غير المتأهلين يدخلون في الحديث عن مسائل العلم ويتخبطون فيها، وهذا مشاهد خصوصًا في عصرنا، فلما وُجدت هذه الأشرطة، وهذا الضواغط التي تضغط المكتبات العلمية في أشرطة اكتفى أناس بها، ولم يطلبوا العلم على العلماء، فكان ذلك سببًا من أسباب وُلُوج غير المؤهلين في الكلام عن علوم الشرع، فخبطوا وجاءوا بكلام لا يستسيغه صاحب دين، أو صاحب عقل.

ص: 91

وكان أبو حيان محمد يوسف الأندلسي (م سنة 745 هـ) إذا ذُكِر عنده ابن مالك يقول: "أين شيوخه؟ ".

وقال الوليد: "كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريمًا يتلاقَّاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله.

وروى مثلها ابن المبارك عن الأوزاعي.

ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل

(1)

، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بَعْدُ نقط ولا شكل

(2)

، فتتصحف الكلمة بما

(1)

قوله: "ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل"، الرواية بالإجازة نوع من أنواع الرواية، فالرواية لها مراتب:

المرتبة الأولى: أن يقرأ الشيخ والتلميذ يسمع عنه، وهذه يُقَال لها قراءة الشيخ.

المرتبة الثانية: أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع، فيُثْبِت سماعه أو يسكت، وهذه يُقَال لها القراءة على الشيخ، ويسميها بعضهم: العرض.

المرتبة الثالثة: الإجازة، بأن يَرْوِي عن كتبه التي أجاز له الرواية عنها، يقول: أُجِيزُ لك أن تروي عني الحديث الفلاني، فهذه الإجازة لم يسمع بها جميع الحديث، لا بقراءة الشيخ، ولا بقراءة التلميذ.

(2)

قوله: "ولا سيما في ذلك العصر؛ حيث لم يكن بَعْدُ نَقْط ولا شكل"، فإذا لم يتخذ الإنسان له شيخًا، فقد يقع في أخطاء بسبب تغير النقط أو بتغير التشكيل، فتَتَصَحَّف الكلمة بما يُحِيْلُ المعنى، ومن نماذج هذا، قرأ بعضهم: المؤمن كِيْسُ قُطْن، وصوابه: كَيِّس فَطِن، وقرأ الآخر: الحيَّة السوداء دواء من كُلّ داء، وصوابه: الحبة، من أين وقع؟ وقع الخطأ من عدم اختيار الشيخ الذي يُقْرَأ عليه.

ص: 92

يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال، وكذلك التحديث من الحفاظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر" ا. هـ.

ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا، كما في "المقدمة" له.

ولبعضهم

(1)

:

مَنْ لَمْ يُشَافِهِ عالمًا بأصولِه

فيقينُه في المشكلاتِ ظُنُونُ

وكان أبو حيان كثيرًا ما ينشد:

يظن الغَمْرُ أنَّ الكتب تَهْدي

أخا فهم لإدراكِ العلوم

وما يدري الجهولُ بأن فيها

غوامض حيَّرت عقل الفهيم

إذا رُمت العُلُومَ بغير شيخٍ

ضَللتَ عن الصراط المستقيم

وتلتبسُ الأمورُ عليك حتَّى

تصيرَ أضلَّ من (تُومَا الحكيم)

* * * *

(1)

ثم ذكر المؤلف أشعارًا لبعضهم تدل على نفس المعنى.

ص: 93

‌الفصل الثالث أدب الطالب مع شيخه

(18) رعاية حُرْمَةِ الشيخ

(1)

:

بما أن العِلْمَ لا يؤخذ ابتداءً من الكتب، بل لا بد من شيخ تُتْقِنُ عليه مفاتيح الطلب؛ لتأمن مِنَ العَثَار والزَّلَل، فعليك إذن بالتحلي برعاية حرمته، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محلّ إجلال منك

(2)

وإكرام وتقدير وتلطف

(3)

، فخذ بمجامع

(1)

هذا نوع آخر من آداب طالب العلم، وهو من أدب الطالب مع شيخه، وقد تقدم معنا قسمان: أدب الطالب فيما يتعلق بنفسه، والثاني الآداب المتعلقة بكيفية الطلب والتلقي، الأول من آداب الطالب مع شيخه، حسن اختيار الشيخ؛ ويختار الإنسان الشيخ المتقن؛ ليَأمَن مِنَ العثَار، ويأمن من الزَّلل، ولا بد لطالب العلم من شيخ يتعلم منه الأدب الحسن والسمت الصالح، ويفتح له أبواب العلم بذكر مآخذ المسائل وعللها، ويزيل الشبهات، ويجيب عما يشكل، ويتعلم منه طريقة التدريس، وكيفية نطق المصطلحات العلمية، والأدب الثاني من آداب الطالب مع شيخه: رعاية حرمة الشيخ؛ وذلك لأن الله - جل وعلا - رفع من شأن المعلمين، وهذا معلِّم، ثم إنه يعلمك، فقد استفدت منه علمًا، فهو صاحب فضل عليك، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ثم الأمر الآخر أن الشيخ يبث العلم، فعندما تحفظ حرمته وتراعى يكون ذلك سببًا من أسباب تلقي العلم عنه، فإذا لم تراعَ حرمته، وتم احتقاره أو إهماله لم يعرفه الناس، ولم يأخذوا من علمه.

(2)

قوله: "فليكن شيخك محلّ إجلال منك"، يعني تقدير واحترام.

(3)

قوله: "وإكرام وتقدير وتلطف"، التقدير معرفة المقدار، والتلطف يعني تسهيل النَّفْس عند مقابلته، ويكون هذا في طريقة الجلوس، وفي طريقة الحديث، وفي اختيار =

ص: 94

الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير، أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنبًا الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل

(1)

.

= الأسئلة، وفي حسن الأدب عند تصفح الكتاب أمامه، وفي ترك التطاول، أي: اعتقاد أن للنفس فضلًا على الآخرين، يستدعي ترفعها عليهم، وترك الماراة أيضًا، وهو الحديث العقيم، والمناقشة غير الهادفة.

(1)

قوله: "وعدم التقدم عليه بكلام

"، أي الثالث من آداب التلميذ مع شيخه، إذا جاءت مسألة ينتظر الطالب فلا يتكلم حتى يتكلم شيخه، وإذا بدأ في المجلس يبتدئ الشيخ قبل تلميذه، وهكذا أيضًا في المسير؛ فلا يتقدم عليه في السَّير، ولا يكثر الكلام عند شيخه؛ لئلا يشوش عليه، ولئلا يكون كلامه صارفًا لذهنه عن فهم كلام شيخه.

فقوله: "عدم التقدم عليه" يشمل أيضًا عدم معارضته والرد عليه، أو الإلحاح عليه في جواب، وإذا سأل شيخه فسكت فإنه يحفظ الأدب معه فلا يسأل مرة أخرى، ويتجنب الإكثار من السؤال، لعله أن يأتي في كلام شيخه ما يجيب عن سؤاله، خصوصًا إذا كان هناك جماعة يشاهدون الموقف، فإنه حينئذ يكون حفظ الأدب مع الشيخ أولى.

وإذا لم يحافظ الإنسان على هذه الآداب؛ بحيث كان الطالب يتقدم على شيخه في الجواب، فإنه سيجعل الطالب يعتقد أنه أفضل من شيخه، وأنه عنده علم ليس عند شيخه، فيورثه ذلك الغرور، ويورث شيخه الملل منه، وهكذا ينادي الطالب شيخه بما يكون أحب إلى نفسه من الأسماء التي فيها إجلال له، ومعرفة لحقه.

ص: 95

ولا تناده باسمه مجردًا، أو مع لقبه كقولك: يا شيخ فلان! بل قل: يا شيخي! أو يا شيخنا! فلا تسمه، فإنه أرفع في الأدب، ولا تخاطبه بتاء الخطاب، أو تناديه من بُعْدٍ من غير اضطرار

(1)

.

وانظر ما ذكره الله تعالى من الدلالة على الأدب مع معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].

وكما لا يليق أن تقول لوالدك ذي الأبوة الطينية: (يا فلان) أو (يا والدي فلان)، فلا يجمل بك مع شيخك.

والتزم توقير المجلس، وإظهار السرور من الدرس والإفادة به

(2)

.

(1)

قوله: "ولا تنادله باسمه مجردًا، .. " أي: يجتنب الطالب النداء على شيخه من مكان بعيد، فإذا كان الشيخ بعيدًا فلا تناده حتى تقرب منه، فتكلمه فتناديه؛ ذلك لأنه إذا كان بعيدًا فناديته قد يكون ذلك سببًا من أسباب جرأة الناس عليه.

وهكذا أيضًا إذا خاطبه الإنسان عن بعد فإنه سيتطلب منه أن يرفع صوته بالجواب، وهذا من الأمور غير المستحسنة عند العرب.

هكذا أيضًا لا تناده باسمه، كما أنه لا يحسن أن تنادي والدك باسمه، فهكذا الأب من التعلم.

(2)

قوله: "والتزم توقير المجلس .. "، أي مجلس الشيخ يحفظ الطالبُ الأدبَ فيه، ويُوقِّر المجلس، ويظهر للشيخ ولغيره أنه قد استفاد من هذا الدرس، وأنه فرح به.

ص: 96

وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه، ومن ذا الذي ينجو من الخطأ سالمًا؟

(1)

واحذر أن تمارس معه ما يضجره، ومنه ما يسميه المولدون:(حرب الأعصاب)، بمعنى: امتحان الشيخ على القدرة العلمية والتحمل

(2)

.

(1)

قوله: "وإذا بدأ لك خطأ من الشيخ

"، أي: إذا وقع من الشيخ خطأ؛ - لأن الشيخ غير معصوم، فحينئذٍ لا ينبغي للطالب أن يُشَهِّرَ به، ولا أن يسقط الشيخ من عينه؛ لأن ذلك سبب من أسباب الحرمان من العلم؛ لأنه ما من أحد إلا وقد يقع في زلل.

وهكذا أيضًا يجتنب طالب العلم ما يؤدي إلى نفرة الشيخ منه، أو عدم تقبله الكلام منه، ولهذا صور:

الصورة الأولى: مطالبة الشيخ بأن يتحدث في مسائل لم يجتهد فيها، والإلحاح عليه في ذلك.

الصورة الثانية: تكرار السؤال على الشيخ ليتحدث في أمور يرى الشيخ عدم الجواب فيها، من باب السياسة الشرعية.

الصورة الثالثة: إذا كان الشيخ يخشى من مآلات كلامه وآثاره، قد لا يتكلم فيما له عاقبة سيئة على الناس، أو يُوجد خصومة بينهم، فالشيخ سيترك ذلك، فعندما تلح في طلب الحديث منه فإنك تُحرجه في مثل ذلك.

(2)

مما ذكره الشيخ هنا من الأمور المذمومة: أن يقوم التلاميذ بامتحان شيخهم؛ ليعرفوا قدرته على التحمل، هل يصبر أو لا يصبر؟ فهذا أيضًا يخالف الأدب، فإن قال قائل: قد وُجِد اختبارات للمحدثين فيما مضى، قيل: تلك الاختبارات ليست من تلميذ للشيخ، ثم إن تلك الامتحانات لفائدة، وهي معرفة الصادق المتقن الضابط في الرواية من غيره، فهذه الاختبارات توصل طالب العلم إلى درجة التلقي من الشيخ، وأما من ثبتت أهليته قبل ذلك، فلا يحسن أن تطرح عليه هذه المسائل المشْكِلَة.

ص: 97

وإذا بدا لك الانتقال إلى شيخ آخر، فاستأذنه بذلك؛ فإنه أدعى لحرمته، وأملك لقلبه في محبتك والعطف عليك

(1)

.

إلى آخر جملة من الأدب يعرفها بالطبع كل موفق مبارك، وفاءً لحق شيخك في "أبوته الدينية"، أو ما تسميه بعض القوانين باسم "الرضاع الأدبي" وتسمية بعض العلماء له "الأبوة الدينية" أليق، وتركه أنسب

(2)

.

واعلم أنه بقدر رعاية حرمته يكون النجاح والفلاح، وبقدر الفوت يكون من علامات الإخفاق

(3)

.

تنبيه مهم: أعيذك بالله من صنيع الأعاجم والطرُقِيّة، والمبتدعة الخلفية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع، من لحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف، والقبض على اليمين باليمين والشمال عند السلام، كحال تودد الكبار للأطفال، والانحناء عند السلام، واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي، مولاي، ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد

(4)

.

(1)

قوله: "وإذا بدا لك الانتقال إلى شيخ آخر فاستأذنه بذلك"،، أي: وإذا بدأ لك الانتقال من شيخ إلى شيخ آخر فاستأذن الشيخ الأول؛ حفاظًا لحرمته، ولتبقى المودة بينك وبين شيخك، ويستمر في العطف عليك.

(2)

قوله: "وفاء الحق شيخك في أبوته الدينية .. "، ذكر المؤلف ماذا يُسَمَّى المعلم؟ بعضهم يقول: أبوك من الرضاعة الأدبية، وبعضهم يقول: هذه الأبوة الدينية.

(3)

قوله: "واعلم أنه بقدر .. "، اعلم أنه بقدر رعايتك لحرمة الشيخ يكون نجاحك وفلاحك، وكلما تركت حرمة الشيخ أدى بك ذلك إلى الإخفاق وعدم الاستفادة، فهناك ثلاثة إن لم يُكْرَمُوا لم يُعطوا، منهم المعلم.

(4)

قوله: "تنبيه مهم"، أي: وانتبه، فإن كونك تحفظ الأدب مع الشيخ لا يعني أن تغلو فيه، من مثل لحس يده، أو تقبيل الكتف، فهذه كلها ليست مشروعة، ولا يقال بأن =

ص: 98

وانظر ما يقول العلامة السلفي محمد البشير الإبراهيمي الجزائري رحمه الله تعالى (م سنة 1380 هـ) في "البصائر"؛ فإنه فائق السياق.

(19) رأس مالك - أيها الطالب - من شيخك

(1)

:

القدرة بصالح أخلاقه وكريم شمائله، أما التلقي والتلقين فهو ربح زائد، لكن لا يأخذك الاندفاع في محبة شيخك فتقع في الشناعة من حيث لا تدري، وكل من ينظر إليك يدري، فلا تُقَلِّده بصوت ونغمة، ولا مشية وحركة وهيئة، فإنه إنما صار شيخًا جليلًا بتلك، فلا تسقط أنت بالتبعية له في هذه.

= هذا من التلقي على المشايخ؛ لأن هذه الأفعال غير محمودة في الشرع، ومثله أيضًا الانحناء عند السلام، والتخضع في الكلام.

والغلو المذموم يكون برفع الإنسان عن منزلته، والتجاوز به للحدود الشرعية، والغلو مذموم شرعًا قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [الأنعام: 77]، وقد نهي عن الغلو في الأنبياء عليهم السلام.

(1)

هذه هي الصفة التاسعة عشرة من صفات طالب العلم؛ أن يستفيد الطالب من أخلاق شيخه، فإذا عرف الطالب أن شيخه هو الذي استفاد منه العلم، هكذا يستفيد من أخلاقه فيقتدي به فيها، لكن يجب على الطالب أن يقتلع الشناعة في محبة شيخه، وأن لا يقدم على أمور مخالفة بناء على أنها من محبته، ومن أمثلة ذلك:

الأمر الأول: الحديث في بقية الشيوخ بالقدح؛ لأنهم ليسوا شيوخًا لك، ولأنك تظن أنهم ينافسون شيخك، هذا حرام ولا يجوز؛ لأن عمل العلماء والمشايخ مبنيٌّ على التعاون، وبالتالي كل منهم يعاون الآخر، فعندما يطعن بعضهم في بعض، أو يريد إلغاء قدرته في ذلك، فإنه يخالف الشرع. =

ص: 99

(20) نشاط الشيخ في درسه

(1)

:

يكون على قدر مدارك الطالب في استماعه، وجمع نفسه، وتفاعل أحاسيسه مع شيخه في درسه، ولهذا فاحذر أن تكون وسيلة قطع لعلمه بالكسل والفتور والاتكاء، وانصراف الذهن وفتوره.

= الأمر الثاني: استبعاد وقوعه في الخطأ، فإنه مما يلاحظ في هذا أن محبة الشيخ أمر مطلوب؛ لأنه صاحب فضل عليك، فتتقرب إلى الله بمحبته محبة زائدة عن محبتك لأفراد المؤمنين، لكن لا تجعلك محبته تظن عصمته، ولا مانع من أن تحب من تظن أنه يخطئ.

الأمر الثالث: أن تلاحظ ألا توصلك هذه المحبة إلى تقليده في نغمة الصوت، أو أسلوب الحديث وطريقة الكلام.

الأمر الرابع: أن لا تقلده في ملابسه أو سيارته، فإن التقليد يكون في العلم والتعلم والتعليم والعمل به، وأما الصورة الظاهرة فإنه لا يُقَلَّد فيها، فإنه إنما صار شيخًا بعلمه وعمله وتعلمه وتعليمه، فيُقْتَدَى به في ذلك، وأما طريقة مشيته وطريقة كتابته وحركة يديه عند الدرس، فهذه لم تجعله شيخًا، إنما الذي جعله شيخًا هو العلم.

(1)

هذه من صفات المعلم، بحيث يلاحظ أحوال الطلاب، ويلاحظ تفاعلهم معه، فيجعل ما يلقيه من المعلومات على مقدار ذلك، وفي ثنايا هذا النهي عما يُشغل الشيخ حال الدرس، فإذا كانت كثرة حركتك تشغله عن الدرس وإكماله فاجتنبها، وهكذا نوم الإنسان في درسه قد يؤدي إلى فتور شيخه، وبالتالي يجب عليه أن يحاول ما يستطيع ألا يأتيه النوم أثناء درسه بأن يأخذ ليلًا كفايته من النوم، وهكذا يحاول الطالب اجتناب شرود الذهن؛ فإن شرود ذهن الطالب يجعل المعلم لا يتقن تعليمه؛ لأن الطالب سيشتغل بما في ذهنه، وسيشتغل المدرس بمحاولة إعادته إلى درسه.

ص: 100

قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "حق الفائدة أن لا تساق إلا إلى مبتغيها، ولا تعرض إلا على الراغب فيها

(1)

، فإذا رأى المحدث بعض الفتور من المستمع، فليسكت، فإن بعض الأدباء قال: نشاط القائل على قدر فهم المستمع"

[1]

.

ثم ساق بسند عن زيد بن وهب، قال:"قال عبد الله: حَدَّثِ القَوْم ما رمقوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فانزع"

(2)

ا. هـ.

‌21) الكتابة عن الشيخ حال الدرس والمذاكرة

(3)

:

وهي تختلف من شيخ إلى آخر، فافهم

(4)

.

(1)

بقى هنا مسألة، وهي أن من جاءك للتعلم، فأنت تبذله له، لأنه راغب مقبلٌ عليه، لكن من لم يأتك هل تقبل عليه فتعلّمه، إن كان في التعلم فلا يبذل إلا لراغب فإن كان في الدعوة فلا بأس أن يدعى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى الناس في منازلهم.

(2)

قوله: "فإذا رأى المحدث بعض الفتور"، وهو الانقطاع والعجز "من المستمع فليسكت" الشيخ؛ لأنه إذا كان الطالب متعبًا فقد يفهم من كلام شيخه ما لا يريده الشيخ.

(3)

هذا هو الأدب الحادي والعشرون من آداب طالب العلم: الكتابة عن الشيخ حال الدرس والمذاكرة، وذلك لأنك إذا كتبت مع الشيخ اشتغلت يدك بالكتابة، واشتغلت عينك بالمشاهدة، واشتغلت أذنك بالسماع، فكان ذلك مؤديًا إلى حفظ ما يلقيه الشيخ؛ لأنك قد استخدمت فيه جوارح مختلفة.

(4)

قوله: "وهي تختلف من شيخ إلى آخر"، أي: يختلف باختلاف حال الشيخ، فمنهم من لا يعلِّق على الكتاب، وبالتالي لا تتمكن من الكتابة، ومنهم من يكون تعليقه على المواطن المشكلة، ومنهم من يزيد إلى الأماكن الغامضة، وهكذا، ولذلك لا يمكن إعطاء حكم واحد يشمل الجميع فيما يكتبه التلاميذ عن شيخهم حال الدرس.

[1] الجامع لآداب الراوي والسامع ص 330.

ص: 101

ولهذا أدب وشرط:

أما الأدب: فينبغي لك أن تُعْلِمَ شيخك أنك ستكتب، أو كتبت ما سمعته مذاكرة

(1)

.

وأما الشرط: فتشير إلى أنك كتبته من سماعه من درسه

(2)

.

‌22) التلقي عن المبتدع

(3)

:

(1)

قوله: "وأما الأدب فينبغي لك أن تعلم شيخك أنك ستكتب .. "، أي: عند الكتابة ينبغي للطالب أن يخبر الأستاذ، فيقول: أستأذنك في الكتابة، وهذا من الآداب المستحبة.

(2)

قوله: "وأما الشرط فتشير إلى أنك كتبته من سماعه من دروسه"، فتقول: أنا سمعته يقوله حفظًا، وأنا سمعته يقوله من كتابه، فيبين أحوال الشيخ حال الرواية؛ لأن الراوي عندما يعلم بأنه يكتب عنه يتحفظ في كلامه غاية التحفظ؛ لأن ما سيقوله سيبقى.

(3)

هذا فصل مهم من فصول هذه الرسالة: هجر المبتدع وعدم التلقي عنه، والمؤلف له رسالة في باب هجر المبتدع.

نشير إلى شيء من القواعد المتعلقة بهذا الأدب:

القاعدة الأولى: أن البدعة تؤثر على ذهن الإنسان، فلا يتمكن من التمييز والفهم كما يتمكن صاحب السنة وصاحب المعتقد الصحيح؛ وذلك لأمور:

الأمر الأول: أن الفهم والعلم فيه إمداد من الله عز وجل لبعض عباده، فالله - جل وعلا - يزيد بعض العباد فهمًا وعلمًا على غيرهم، وكلما قرب الإنسان من السنة وابتعد عن البدعة كان فهمه أكثر.

الأمر الثاني: أن أهل السنة عندهم طمأنينة وسكون، وبالتالي فاضطراب النفس ليس موجودًا عندهم، واضطراب النفس يؤثر على قدرة الإنسان على العلم والتعلم، ولذلك فنحن نختار أهل السنة؛ لما لديهم من اليقين والطمأنينة والسكينة. =

ص: 102

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الأمر الثالث: أن العلوم يرتبط بعضها ببعض، والمسائل يرتبط بعضها ببعض، فعندما تأتي للمبتدع قد لا يثير عندك البدعة، لكنه يتحدث في أثر من آثارها، وبالتالي تظن انقطاع الصلة بين هذه المسألة ومسألة البدعة، بينما في حقيقة الأمر بينهما ترابط، أضرب لهذا مثلًا: في أصول الفقه عندما يأتيك ويبحث لك مسألة: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ فيأتيك المعتزلي ويقول: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده. ولا يذكر منشأ مخالفته، وهو أنهم يقولون بأن الأمر تشترط له الإرادة - يعني الإرادة الكونية - بناءً على مذهبهم في القدر بنفي خلق الله لأفعال العباد، ويأتيك الأشعري في هذه المسألة ويقول: الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة اللفظ بناءً على بدعتهم في قولهم: الكلام هو المعاني النفسية بينما مذهب أهل السنة والجماعة: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق المعنى وليس من طريق اللفظ، فعندما تذهب إلى العالم المبتدع فتدرس عليه هذه المسألة لا يشير إلى الأساس العقدي لها، فمن ثم سينطلي عليك الباطل في هذه المسألة.

هكذا أيضًا في مبحث النحو، هناك مسائل نحوية لها علاقة بمباحث عقدية، فعندما تأتي إلى نحوي مبتدع قد يأتيك بأثر البدعة، وتنطلي عليك، ولا يذكر لك أساس البدعة، ومن هنا لا تربط بين الأساس والأثر، والنحو فيه مسائل كثيرة مبنية على أمور عقدية، مثال ذلك: يقول القائل: حرف (لن) يدل على النفي المؤبد، ويكرر لك هذا الأمر، ويمثل يقوله تعالى: مثلًا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، ويقول: هذا للنفي المؤبد، فتنطلي عليك وتستقر في نفسك، حتى إذا جاءك قول الله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، نفيت الرؤية في الدنيا والآخرة، من أين نشأ هذا القول الفاسد بنفي رؤية المؤمنين الله في الآخرة؟ نشأ هذا القول من استقرار هذه المعلومة في ذهنك:(أن لن للنفي (المؤبد) التي أخذتها من هذا المبتدع.

الأمر الرابع: أن في أخذ الناس عن المبتدع رفعًا لشأنه عندهم، ومن ثم يقبل الناس عليه فيأخذون ما لديه من غث وثمين، صحيح أنت لم تدرس عنده إلا النحو، لكنك بدراستك عنده وضعت له مكانة، فأقبل الناس عليه، فدَرَسُوا المعتقد والأصول والفقه والنحو عنده، وحينئذٍ تكون سببًا في ضلال غيرك لأخذه من هذا المبتدع. =

ص: 103

احذر (أبا الجهل) المبتدع

(1)

، الذي مَسَّهُ زيغ العقيدة

(2)

،

= الأمر الخامس: أن ارتباطك بالمبتدع ودراستك عليه يجعل الناس ينسبونك إلى تلك البدعة التي عند هذا المعلِّم، صحيح أنت لم تدرس عنده إلا هذا العلم، لكن الناس شاهدوك عنده، وشاهدوك تتعلم منه، فحينئذ قد ينفرون منك؛ لأنهم يظنون أن البدعة التي عند الشيخ انتقلت إليك.

والبدعة أخف من الشرك، فإذا كان هذا التحذير من المبتدع، فالتحذير من أهل الشرك من باب أولى، فإذا وُجِد من يعرف النحو لكنه يصرف العبادة لغير الله، ويذهب إلى الولي فيدعوه من دون الله فهذا أولى بالهرب منه، ولا يصح أن يُجْعَل له مكانة ومنزلة.

والبدعة هي الطريقة المخترعة في الدين بأن ينسب إلى الدين ما ليس منه، وقد تكون البدعة في المعتقد وهي أشد، وقد تكون في العمل ..

(1)

فقوله: "احذر أبا الجهل المبتدع" لأن المبتدع إنما نشأ ابتداعه من أمور من الجهالات؛ إما بتأخير النصوص وعدم تحكيمها، أو لكونه يتحكم في الأخذ من النصوص بما يراه، فهو ينتقي من النصوص ما يوافق بدعته، ولا يجعل اعتقاده تابعًا للنص، ثم هو أيضا ثالثًا يحرِّف دلالات النصوص لتتوافق مع بدعته، وهذا كله جهل؛ إما جهل بسيط أو جهل مركب، والجهل البسيط ألا يكون لديك معلومة لا بإثبات ولا بنفي، فعندما أسألك: هل زيد خلف الجدار؟ تقول: لا أعلم، هذا جهل بسيط، والجهل المركب أن يكون علمك مخالفًا للواقع، كما لو قلت: زيد خلف الجدار؟ فقال: نعم خلف الجدار، وهو ليس كذلك، هذا جهل مركب. والمبتدعة لا يخلون من أحد هذين الجهلين.

(2)

فقوله: "مسه زيغ العقيدة" الزيغ هو الميلان، قال تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7].

ص: 104

وغشيته سحب الخرافة

(1)

، يُحكِّمُ الهوى ويُسَمِّيه العقلَ، ويعدل عن النص، وهل العقل إلا في النص؟! ويستمسك بالضعيف، ويبعد عن الصحيح، ويقال لهم أيضًا:(أهل الشبهات)، و (أهل الأهواء)، ولذا كان ابن المبارك رحمه الله تعالى يسمى المبتدعة:(الأصاغر)

(2)

.

وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث وهاتِ (العقل)، فاعلم أنه أبو جهل

(3)

،

(1)

قوله: "وغشيته سحب الخرافة"، الخرافة هي الكلام المتخيل غير الواقع، ومنه الأدلة غير الصحيحة، ويقولون أن منشأ الخرافة رجل بهذا الاسم، كان يحدث أن الجن أخذوه، ووقع بينه وبينهم ما وقع من حوادث ووقائع، فكان يروي أحوالهم ووقائعهم، فسمي كل كلام غير مقبول بهذا الاسم، يقال: حديث خرافة.

(2)

قوله: "يحكم الهوى

"، يعني يُقدِّم ما ترغبُه نفسه، أو ما يراه بعقله، ويُسمي هذا الهوى الذي في قلبه العقل، وهو ليس من العقل في شيء، ويعدل عن النص، والعقلُ في النص، من جاء بكلام يقول بأنه مقتضى العقل يخالف النص، فإن كلامه جهل وليس بعقل، ولذلك صاحب الهوى إذا ورد عليه الدليل الضعيف الذي يوافق هواه أخذ به، وإذا ورد عليه الدليل القوي الذي يخالف هواه تركه وأوَّله وحرَّفه، وهؤلاء يقال لهم أهل الشبهات؛ لأن الشياطين ألقوا في قلوبهم شبهات ظنوها معقولات، فجعلتهم يتركون النصوص من أجلها، وأهل السنة يسمّون هؤلاء: أهل الأهواء؛ لأنهم يقدمون هواهم على مدلول النصوص، ولذلك كان ابن المبارك يُسمِّيهم (الأصاغر).

(3)

قوله: "وقال الذهبي: إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث

"، ذكر أن الناس منهم من يقول: الحجة في المطالب العقدية العقل،=

ص: 105

وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حَلَّ فيه، إن جبنت (جبنت يعني ضعفت، وخفت) منه فاهرب، وإلا فاصْرَعْهُ، وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه" (1)

[1]

ا. هـ.

= ويقصد ما يراه بعقل نفسه، فهذا مبتدع، وليقولن قائل: كيف تردون دلالة العقل، فنقول له: لأننا لا نرد دلالة العقل الصحيحة، وإنما المخالف يريد أن يجعل قناعاته هي العقل، بينما عقله يمكن أن يكون فيه شبهة أوْرَدَتْهُ للخطأ في المعتقد، ويمكن أن تكون الشياطين ألقت في عقله وساوس جعلته يبتعد عن الحق، ويمكن أن يكون قد خفي عليه بعض وجه الحق الخفاء دليله، فظن أن ما لديه هو العقل.

* قوله: "وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل والعقل .. " مثل ذلك ما إذا جاءك أهل التصوف، وقالوا نسير على الذوق والوجد والإلهام، وما يلقيه الله في قلوبنا، فهؤلاء أيضًا مبتدعة؛ لأن الشياطين تُلْقِي في قلوبهم وساوس يظنونها إلهامًا، وقد يأتيهم الشيطان، ويقول: أنا ملك، فيأخذون منه، وحينئذٍ احذر من عدوك الشيطان؛ لأنه قد يلقي في قلبك وفي عقلك وساوس تظنها أدلة عقلية ويقينية، وما هي إلا جهالات، ومن هنا ينبغي أن تتخذ الأسباب التي تجعلك لا تستجيب لوساوس الشيطان؛ ومن ذلك: أن تكثر من قراءة القرآن، وأن تكثر من التهليل، وأن تكثر من ذكر الله؛ لئلا يلقي الشيطان في قلبك هذه الشبهات فتكون من المبتدعين.

[1] سير أعلام النبلاء 4/ 472.

ص: 106

وقال أيضًا رحمه الله تعالى: "وقرأت بخط الشيخ الموفق قال: سمعنا درسه - أي ابن أبي عصرون - مع أخي أبي عمر وانقطعنا، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعد فقال: لِمَ انقطعتم عني؟ قلت: إن أناسًا يقولون: إنك أشعري، فقال والله ما أنا أشعري. هذا معنى الحكاية"

(1)

[1]

.

وعن مالك رحمه الله تعالى قال: "لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به"

(2)

[2]

.

(1)

قوله: "وقال أيضًا: وقرأت بخط الشيخ الموفق .. " ذكر المؤلف حادثة الموفق مع أخيه أبي عمر والد صاحب الشرح الكبير، وذكر أنهم قابلوا شيخهم بعد انقطاع، فقال لهم: لِمَ انقطعتم عني؟ قالوا: قد قيل إنك أشعري، فلما قيل لهم إنه أشعري تركوه ودرسه.

(2)

قوله: "وعن مالك رحمه الله تعالى قال: .. "، الإمام مالك يقول: أربعة لا يؤخذ العلم عنهم: أولهم: سفيه، وهو الذي يتصرف بتصرفات غير محسوبة النتائج، ولا يفكر في عواقب تصرفاته، وإن كان أروى الناس. وكذلك لا يؤخذ العلم عن صاحب بدعة يدعو إلى هواه؛ إذ قد يلتصق بنفسك ما عنده من بدعة. وكذلك لا يؤخذ العلم من الكذاب الذي يكذب في حديث الناس، وإن كان لا يكذب في الحديث النبوي أو في العلم، لأن من تجرأ على الكذب على الناس فإنه قد يتجرأ على الكذب في الأحكام الشرعية. وكذلك من كان سيء الحفظ فإنه لا يؤخذ منه، ولو كان عابدًا فاضلًا صالحًا.

[1] سير أعلام النبلاء 21/ 129.

[2] سير أعلام النبلاء 8/ 67.

ص: 107

فيا أيها الطالب إذا كنت في السعة والاختيار؛ فلا تأخذ عن مبتدع: رافضي، أو خارجي، أو مرجئ، أو قدري، أو قُبُوري .. وهكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال - صحيح العقد في الدين متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر - إلا بهجر المبتدعة وبدعهم

(1)

.

وكتب السير والاعتصام بالسنة حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة، والابتعاد عنهم، كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعات يطول شرحها، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيدات فيها.

فقد كان السلف رحمهم الله تعالى يحتسبون الاستخفاف بهم، وتحقيرهم ورفض المبتدع، وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم، ومشاورتهم، ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سني ومبتدع.

وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع، فينصرف، وقد شوهد من العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى (م سنة 1389 هـ) انصرافه عن الصلاة على مبتدع

(2)

.

(1)

قوله: "فيا أيها الطالب .. ". قال المؤلف: طلبة العلم على صنفين:

الصنف الأول: من كان يختار مشايخه فهذا يُوصَى بأن لا يأخذ العلم عن مبتدع، واستند المؤلف في هذا إلى كلام الأئمة في التحذير من المبتدعة، والتحذير من الاقتراب منهم، والتوجيه بمنابذتهم، والابتعاد عنهم، وكان السلف يحتسبون تحقير أهل البدع، ويحذرون من مخالطتهم ومؤاكلتهم.

(2)

قوله: "وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع"، ذكر أن الشيخ محمد بن إبراهيم ترك الصلاة على مبتدع، والصلاة على أصحاب الكبائر والذنوب والبدع يُشْرَع =

ص: 108

وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم، وينهى عن حكاية بدعهم؛ لأن القلوب ضعيفة، والشبه خطَّافة.

وكان سهل بن عبد الله التستري لا يرى إباحة الأكل من الميتة للمبتدع عند الاضطرار؛ لأنه باغ، لقول الله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173]، فهو باغ ببدعته

(1)

[1]

.

وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك رحمه الله تعالى مع من سأله عن كيفية الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور:"أظنك صاحب بدعة"، وأمر به فأُخْرِجَ

(2)

[2]

.

وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم،

= أن يتركها أهل الفضل والمكانة، من أجل أن يحذر الناس مما لدى هؤلاء من المعاصي والبدع، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى من عليه دين، وأذن لأصحابه بأن يصلوا عليه، من أجل أن يحذر الناس من فعل هؤلاء.

(1)

قوله: "وكان سهل بن عبد الله"، ذكر المؤلف رأي سهل بن عبد الله في أكل المضطر المبتدع من الميتة، وهذا اجتهاد منه رحمه الله، وقد لا يوافقه غيره في هذا.

(2)

قوله: "وكانوا يطردونهم من مجالسهم .. "، وقد أمر الإمام مالك بإخراج من سأل عن كيفية الاستواء.

[1] تفسير الثعلبي 2/ 46، وتفسير البغوي 1/ 184.

[2] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/ 398، حلية الأولياء 6/ 325، الأسماء والصفات للبيهقي ص 408.

ص: 109

حذرًا من شرهم، وتحجيمًا لانتشار بدعهم، وكسرًا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ والعامي، والعامي: مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالبًا

(1)

.

ونرى في كتب المصطلح، وآداب الطالب، وأحكام الجرح والتعديل: الأخبار في هذا.

فيا أيها الطالب، كن سلفيًا على الجادة، واحذر المبتدعة أن يفتنوك، فإنهم يوظفون للاقتناص والمخاتلة سبلًا

(2)

يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول - وهو (عسل) مقلوب -

(3)

وهطول الدمعة، وحسن البزة،

(1)

قوله: "حذرًا من شرهم": أي: الفائدة من هجر أهل البدع هي:

أولًا: لئلا يقع في نفسك شيء من بدعهم، بدون أن تشعر.

وثانيًا: تحجيم لانتشار بدعهم؛ لأن الناس إذا رفعوا شأن المبتدع بدءوا يأخذون منه في بقية العلوم، فانتشرت البدع التي لديهم.

ثالثًا: كسر لنفوسهم، بحيث لا يصبح لهم مكانة ولا منزلة، فمن ثم لا يتمكنون من نشر البدع.

ورابعًا: هرب من تزكية المبتدعة خصوصًا عند المبتدئين.

(2)

قوله: "كن سلفيًّا على الجادة، واحذر المبتدعة أن يفتنوك؛ فإنهم يوظفون بالاقتناص والمخاتلة سبلًا"، فالمبتدعة يريدون أخذ طلاب العلم، وإبعادهم عن طريق السلف، وبالتالي قد تجد عندهم كلامًا طيبًا لينًا سهلًا؛ من أجل اقتناص الطلاب.

(3)

قوله: "وهو عسل مقلوب"، يعني لَسْع كلامه عسل في الظاهر، لكن في حقيقته مقلوب عسل، يعني لسع، وقد يظهرون لك هطول الدمعة وحسن الثياب والإغراء بالكلام البلاغي، وقد ينقلون روايات عن الكرامات ونحو ذلك، فلا تغتر بهؤلاء.

ص: 110

والإغراء بالخيالات، والإدهاش بالكرامات، ولحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف، وما وراء ذلك إلا وحم البدعة ورهج الفتنة، يغرسها في فؤادك، ويعتملك في شراكه، فوالله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم.

أما الأخذ عن علماء السنة، فالعق العسل ولا تَسَل

(1)

.

وفقك الله لرشدك، لتنهل من ميراث النبوة صافيًا، وإلا فليبك على الدين من كان باكيًا.

وما ذكرته لك هو في حالة السَّعة، والاختيار، أما إن كنت في دراسة نظامية لا خيار لك، فاحذر منه مع الاستعاذة من شرِّه باليقظة من دسائسه على حد قولهم:"اجْنِ الثمار وأَلْقِ الخَشَبَةَ في النار"، ولا تتخاذل عن الطلب، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتبين أمره، وتتقي شره، وتكشف ستره

(2)

.

(1)

قوله: "أما الأخذ عن علماء السنة فالعق العسل ولا تَسَلْ"، لأن عندهم ميراث النبوة قد أخذوه، وعندهم السنة والتوحيد.

(2)

قوله: "وما ذكرته لك هو في حالة السعة والاختيار": أي ما سبق في القسم الأول: وهو من يختار شيوخه.

القسم الثاني: من كان في دراسة نظامية، وبالتالي يُلْزَم بأن يدرس على هذا المبتدع، فحينئذ يدرس الإنسان عليه وينتقي معلوماته، ويقارنها، ويتيقظ من دسائسه، ولا يقول الإنسان: سأتوقف عن التعلم من أجل هذا المبتدع، والمؤلف يخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف.

ص: 111

ومن النتف الطريفة أن أبا عبد الرحمن المقرئ حدث عن مرجئ، فقيل له: لِمَ تحدث عن مُرْجئٍ؟ فقال: "أبيعكم اللحم بالعظام"

(1)

.

فالمقرئ رحمه الله تعالى حدث بلا غرر ولا جهالة؛ إذ بين فقال: "وكان مرجئًا".

وما سطرته لك هنا هو من قواعد معتقدك، عقيدة أهل السنة والجماعة، ومنه ما في "العقيدة السلفية" لشيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (م سنة 446 هـ)، قال رحمه الله تعالى:"ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالأذان وقرت في القلوب ضرَّت وجرَّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرَّت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] "

(2)

ا. هـ.

وعن سليمان بن يسار: (أن رجلًا يقال له: صبيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه، وقد أعد له عراجين

(1)

قوله: "ولم تحدث عن المرجئي؟ "، أي ما يتعلق بالحديث عن المرجئ، قيل لأبي عبد الرحمن المقرئ:"لِمَ تحدث عن المرجئ؟ قال: أبيعكم اللحم بالعظام"، يعني أترك اللحم الذي تستفيدون منه، ثم أحدثكم بالعظام، أي أنني أوضح حاله وأكشف بدعته.

(2)

قوله: "ويبغضون أهل البدع .. "، ذكر المؤلف نقلًا عن الصابوني فيما يتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة في مثل هذا، وجماعة من الصحابة والتابعين.

ص: 112

النخل، فقال: من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عرجونًا من تلك العراجين، فضربه حتى دمي رأسه، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعي به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري باليمن: لا يجالسه أحد من المسلمين)

[1]

.

وقيل: كان متهمًا برأي الخوارج.

والنووي رحمه الله تعالى قال في كتب "الأذكار": "باب: التبري من أهل البدع والمعاصي"

[2]

.

وذكر حديث أبي موسى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصَّالِقَة، والحالِقة، والشَّاقَّة)

[3]

، متفق عليه، وعن ابن عمر براءته من القدرية، رواه مسلم.

والأمر في هجر المبتدع ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، وعلى هذا تتنزل المشروعية من عدمها، كما حرَّرَه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع.

والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون إذا قلَّ العلم، وفشا الجهل

(1)

،

(1)

قوله: "والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون إذا قلَّ العلم وفشا الجهل"، فلذلك علينا أن نحتسب الأجر في بث العلم، وتعليم الناس من أجل أن ننفي هذه البدع.

[1] أخرجه الدارمي (144).

[2] أخرجه مسلم (8).

[3] أخرجه البخاري (1234)، ومسلم (104).

ص: 113

وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال"

(1)

. ا. هـ.

فإذا اشتد ساعدك في العلم فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحجة والبيان، والسَّلامُ

(2)

.

(1)

قوله: "يقول شيخ الإسلام (فإن هذا الصنف - يعني أهل البدع - يكثُرُون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، فيكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال) "ا. هـ.

(2)

قوله: "في إذا اشتد ساعدك في العلم"، أي: إذا استفدت العلم فقم بقمع البدع، وبيان مخالفتها للشرع، وإذا أمكن ألا تقيم للمبتدع وزنًا بعدم ذكر اسمه فهو أولى وأحسن؛ لأن ذكر الموحِّد للمبتدع يرفع من شأنه هل تعرفون حفص الفرد؟ هل تعرفون بشرًا المريسي؟ هؤلاء مبتدعة، ذكر الأئمة أسماءهم فعُرِفت واشتهرت، حتى لو بحثت عن ترجمة هؤلاء فإنك لا تجد لهم ترجمة، هناك مبتدعة كثر لم يلتفت إليهم، ولم يتكلم الأئمة بأسمائهم، فلم يكن لهم ذكر ولا تاريخ، ولذلك إذا كان المبتدع يمكن إهماله وعدم ذكر اسمه فهو أولى، نأخذ ما لديه من البدع، فنكشفها ونبين زيفها، ونبين المعتقد الصحيح في مثل ذلك، وبذلك نكون قد رددنا الهدف الذي يقصده، وكم من شخص يتكلم بالبدعة من أجل أن يشتهر ويُعْرَف، فعامله بنقيض قصده، بإهماله وعدم ذكر اسمه.

ص: 114

‌الفصل الرابع أدب الزمالة

‌23) احذر قرين السوء

(1)

:

كما أن العرق دساس، فإن "أدب السوء دساس"؛ إذ الطبيعة نقَّالة،

(1)

هذا هو الأدب الثالث والعشرون لطالب العلم: اختيار القرين الذي يعين الإنسان في طلب العلم، والبعد عن قرين السوء الذي يُشْغِل الإنسان عن طلب العلم، وقد جاءت النصوص الشرعية بالترغيب في اختيار قرناء صالحين يعينون الإنسان على الخير، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة)

[1]

.

وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)

[2]

وقال جل وعلا: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، ومن هنا جاءت الشريعة في الترغيب في اختيار الأصدقاء الطيبين، والمرء يستفيد من اثنين في مسألة القدوة:

أولهما: من يراه مثلًا له فحينئذٍ يقتدي به، ومن هنا جاءت الشريعة بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

ثانيهما: من يخالطه ويظهر هذا فيما يتعلق بالأصدقاء، فإن الصديق يأخذ المرء من أخلاقه من حيث لا يشعر.

[1] متفق عليه البخاري (5524)، ومسلم (2628).

[2] أخرجه الترمذي (2378)، وأبو داود (4833).

ص: 115

كما أن العرق دساس

(1)

، فإن "أدب السوء دساس"

(2)

؛ إذ الطبيعة نقَّالة

(3)

، والطباع سرَّاقة

(4)

، والناس كأسراب القطا مجبولون

= كما أن من فوائد القرين التعاون معه على الخير، ومن ذلك طلب العلم، والناس عندما يتعاونون على الحق والخير يستمرون على ذلك، وإذا انعزل الإنسان ولم يجد له معاونًا على الخير قد تضعف نفسه، لكن إذا وجد أخًا له كلما ضعفت نفس أحدهما قوَّته القوة الموجودة في نفس الآخر، وبالتالي يستمرون على العمل الصالح، ومن ذلك طلب العلم، فإن النفس ملولة، فإذا وجدت طالبًا يعينك على طلب العلم فتمسك به، وحينئذ كلما ملت نفسك انتقلت إلى زميلك ليقوم بتنشيط نفسك على طلب العلم، ثم إن إبقاء النفس على حال واحدة يجعلها تمل، وذلك أن المرء إذا قرأ وحده وذاكر وحده تمل نفسه، فإذا وجد أصدقاء خير يذاكر معهم مرة ويذاكر وحده مرة ابتعدت عنه السآمة، فإذا ملَّت النفس انتقل إلى قرنائه فذاكر معهم.

(1)

قوله: "فإن العرق دساس"، يعني: أن العرق ولو كان خفيًا فإنه يؤثر على ما يمتد إليه ذلك العرق، وقد ورد هذا في حديث

[1]

، ضعفه كثير من أهل العلم، وهذا في الزوجة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باختيار الزوجة التي من منبت طيب، وذكر أن العرق دساس.

(2)

قوله: "فإن أدب السوء ساس"، يعني: أن صديق السوء يؤثر على صديقه.

(3)

قوله: "إذ الطبيعة نقَّالة"، يعني: أن الطبائع والأخلاق تنتقل من شخص إلى آخر.

(4)

قوله: "والطباع سرَّاقة"، يعني: أن النفوس تقتدي بمن حولها، وتفعل مثل أفعالها ولو من حيث لا تشعر، والناس مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.

[1] أخرجه ابن عدي 8/ 349 من حديث أنس، بإسناد معلول، كما أخرجه 7/ 383 من حديث ابن عمر، بسند ضعيف فيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف.

ص: 116

على تشبُّه بعضهم ببعض، فاحذر معاشرة من كان كذلك

(1)

، فإنه العطب

(2)

و "الدفع

(3)

أسهل من الرفع"

(4)

.

وعليه

(5)

، فتخير للزمالة والصداقة مَنْ يُعينُك على مطلبك

(6)

،

(1)

قوله: "فاحذر معاشرة من كان كذلك"، يعني: من كان سيئًا.

(2)

قوله: "فإنه العطب"، يعني: سبب الهلاك دنيا وآخرة.

(3)

قوله: "والدفع"، بترك صحبة هؤلاء ابتداءً.

(4)

قوله: "أسهل من الرفع"، الذي هو مصاحبتهم ثم قطع تلك الصحبة، فقبل أن تصاحبهم امنع نفسك من مصاحبتهم، فإن نفسك إن تعلقت معهم قد تعجز عن قطع تلك الصحبة، ونضرب لذلك أمثلة:

المثال الأول: أصحاب المخدرات والخمور إذا صاحبهم الإنسان فإنهم سيجرونه إلى فعلهم شيئًا فشيئًا حتى يُبتلى بهذا الأمر، ويكون مماثلًا لهم، وإن كان في الأول يقول: لن أقدم على فعل هذه الأمور، لكنه مع الزمن تضعف نفسه قليلًا قليلًا.

مثال ثان: أصحاب المعاصي؛ فإنهم يجرون صاحبهم إلى معاصيهم، كالفواحش، والنظر في وجوه النساء، والتلذذ بالحديث معهن، فإن من صاحب من كان كذلك أصبح مثلهم.

مثال ثالث: أصحاب اللعب واللهو، من صاحبهم شاركهم في ذلك، وقد يلهيه ذلك عن التعلم.

- وقوله: "الدفع أسهل من الرفع"، هذه قاعدة فقهية، والدفع منع الشيء من الوقوع قبل وقوعه، والرفع إزالته بعد حصوله.

(5)

قوله: "وعليه"، يعني: بناءً على ما سبق.

(6)

قوله: "فتخير للزمالة والصداقة من يعينك على مطلبك"، يعني: على الهدف الذي تقصده.

ص: 117

ويقرِّبك إلى ربك

(1)

، ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك.

وخذ تقسيم الصديق في أدق المعايير

(2)

:

1 -

صديق منفعة

(3)

.

2 -

صديق لذة

(4)

.

(1)

قوله: "ويقربك إلى ربك، بحيث يكون صديقك معينًا لك على طاعة الله، ومن أعظم أنواع الطاعة - كما سبق - طلب العلم، فاختر الصديق الذي يعينك على التقرب إلى رب العزة والجلال، بأن يكون معينًا لك على طلب العلم، وبالتالي تتوافق الأهداف عندك وعندهم، أما إذا كان يهدف لشيء، وأنت تهدف إلى شيء آخر فحينئذٍ لن يكون بينكما تلك الألفة، إلا أن تنجرف إلى غرضه أو ينجرف إلى مقصدك.

(2)

قوله: "وخذ تقسيم الصديق .. "، قسم الأصدقاء إلى ثلاثة أقسام:

(3)

قوله: "صديق منفعة"، مثال ذلك: شخص بينك وبينه تجارة، فهذا صديق منفعة، فحينئذ هذه الصداقة لا حرج على الإنسان فيها، لكنها مرتبطة بهذه المنفعة، إذا انقطعت تلك التجارة انقطعت تلك الصحبة والصداقة، وهذا النوع من الصداقة ليس من المحبة الإيمانية في شيء.

(4)

قوله: "صديق لذة"، هذا النوع الثاني؛ كمن اجتمعوا على جلسة أو على لعب أو على لهو، فهؤلاء أصدقاء لذة إذا انتهت تلك اللذة أو ملوا منها انقطعت صداقتهم، وقد تكون تلك اللذة لذة مباحة، وقد تكون لذة محرمة فيعظم الإثم بها، وقطع تلك الصداقة أولى للعبد في دنياه وآخرته، وخصوصًا طلبة العلم؛ لأنها وإن كانت لذة مباحة إلا أنها تضيع وقت العبد، وتشغله عن الهدف الذي خلق من أجله.

ص: 118

3 -

صديق فضيلة

(1)

.

فالأولان منقطعان بانقطاع موجبهما، المنفعة في الأول واللذة في الثاني

(2)

.

وأما الثالث: فالتعويل عليه

(3)

، وهو الذي باعث صداقته تبادل الاعتقاد في رسوخ الفضائل لدى كل منهما

(4)

.

(1)

قوله: "صديق فضيلة"، نوع ثالث، وهو الذي اجتمعت معه على اكتساب فضائل، سواء كانت تلك الفضائل فضائل عملية، كاجتماعهم على صوم أو صلاة أو اعتكاف في مسجد أو نحو ذلك، أو كانت فضائل علمية كطلب العلم عند شيخ أو عالم.

(2)

قوله: "فالأولان منقطعان .. "، أي: فالصديقان الأولان تنقطع صداقتهما بانقطاع موجب تلك الصداقة، الموجب - بكسر الجيم - هو السبب، بينما الموجَب - بفتح الجيم - هو الأثر، فإذا انقطعت المنفعة عند الأول انقطعت الصداقة، وإذا انقطعت اللذة عند الثاني انقطعت الصداقة، والصداقة فيهما ليست من أسباب الأجر والثواب.

(3)

قوله: "وأما الثالث فالتعويل عليه"، وبمجرد تلك الصداقة يحصل الأجر العظيم، وقد جاء في الحديث:(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم -: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه - يعني على الله محبة وإيمانًا ليعين بعضهما بعضا على طاعة الله - وتفرقا عليه)

[1]

، يعني لما جاءهما سبب التفرّق كانا على المحبة الإيمانية الأولى، وهذا التفرّق قد يكون بسفر، وقد يكون بموت، وقد يكون بسبب آخر من الأسباب.

(4)

قوله: "وهو الذي باعثُ صداقتهِ تبادل الاعتقاد في رسوخ الفضائل لدى كل منهما"، السبب في هذه الصداقة: رغبة كل منهما أن يتبادلا في الخير، وأن يعين بعضهما بعضا في رسوخ الفضائل، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ)

[2]

.

[1] أخرجه البخاري (660)، ومسلم (2391).

[2] أخرجه مالك في الموطأ 2/ 953.

ص: 119

وصديق الفضيلة هذا "عُمْلَة صعبة"

(1)

يعز الحصول عليها

(2)

.

ومن نفيس كلام هشام بن عبد الملك (م) سنة 125 هـ) قوله: "ما بقي من لذات الدنيا شيء إلا أخ أرفع مؤونة التحفظ بيني وبينه"

(3)

ا. هـ.

ومن لطيف ما يقيد قول بعضهم: "العزلة من غير عين العلم زلة، ومن غير زاي الزهد: علة"

(4)

.

(1)

قوله: وصديق الفضيلة هذا عُملة صعبة"، يعني أننا لا نجدها في كل وقت، وإنها عسيرة الحصول.

(2)

قوله: "يعز الحصول عليها"، يعني: يندر.

(3)

ثم جاء بكلام الخليفة هشام بن عبد الملك: "ما بقي من لذات الدنيا شيء إلا أخ أرفع مؤونة التحفظ بيني وبينه".

(4)

قوله: "العزلة من غير عين العلم: زلة، ومن غير زاي الزهد: علة"، كلمة العزلة، تعني انفراد الإنسان وحده، إذا حُذِفَت منها العين أصبحت زلة، ولذلك إذا اعتزل المرء ولم يخالط الآخرين لا بد أن يكون معه علم، كذلك كلمة العزلة إذا حذف منها الحرف الثاني وهو الزاي أصبحت علة، فالعزلة لا بد فيها من علم وزهد، أما إذا انعزل الإنسان وحده وكان غير عالم أصبح عنده جهل، ومن ثم يؤدي ذلك إلى ضلال بكونه يتقرب إلى الله بطرائق جاهلية؛ وبطرائق الجُهَّال، وكذلك العزلة وانفراد الإنسان وحده إذا لم يكن معه زهد فإنه مرض، وهو سبب من أسباب الأمراض النفسية التي ترد على الإنسان، والعزلة في الأصل غير محمودة وغير مرغوب فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخالط الناس فينصح ويُعلِّم ويُعطي ويتكرَّم، ويفعل الخير مع غيره، إلا إذا قدر المرء أن خلطته مع غيره ضرر به.

ص: 120

‌الفصل الخامس آداب الطالب في حياته العلميَّة

‌24) كِبَر الهمَّة في العلم

(1)

:

من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة، مركز السالب والموجب في شخصك

(2)

، الرقيب على جوارحك،

(1)

القسم الخامس من أقسام آداب طالب العلم: الآداب المتعلقة بحياته العملية، وذكر الأدب الرابع والعشرين: وهو كبر الهمة في العلم، بحيث يكون مقصود الإنسان من التعلم مقصودًا كبيرًا، ولا يقتصر على الهدف الضعيف القليل، جاء في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)

[1]

، فلم يقتصر في الهمة في الجنة بأدنى درجاتها، بل رغب في أعلى الدرجات، وكِبْرُ الهمَّة في العلم بكون المرء يقصد بتعلُّمه وجه الله والدار الآخرة، ويكون هدفه تحصيل جميع العلوم التي ترضي رب العالمين، فلا يستصغر قدرته عند علم من العلوم، وإنما يبذل من الأسباب ما يجعله يحصل علمًا كبيرًا، ومن كبر الهمة: أن يعمل في طلب العلم ونشره ليكون ممن يأتي يوم القيامة بأجور خلق كثيرين، وأضرب لذلك مثلًا: في المدارس النظامية، إذا جاء طالب ورغب أن يكون عنده معدّل تام، بأن يحصل مائة في المائة، فإنه حينئذ يبذل سببًا كثيرًا، وقد لا يحصِّل إلا خمسة وتسعين لكن حصَّل شيئًا كثيرًا، أما من قصد النجاح فقط، وكانت همته أن يتجاوز المقرر، ففي غالب أحواله لن يتمكَّن من النجاح.

(2)

قوله: "من سجايا الإسلام التحلي بكبر الهمة"، بحيث يكون مقصود الطالب أعلى الدرجات، وكبر الهمة هو مركز السالب والموجب في شخصك"، فهو الذي يدفعك إلى اكتساب الفضائل العالية، وهو الذي يجعلك تراقِبُ جوارحك بحيث لا تعصي الله بها.

[1] أخرجه البخاري (6987).

ص: 121

كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرًا غير مجذوذ

(1)

، لترقى إلى درجات الكمال، فيجري في عروقك دم الشهامة

(2)

والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراك الناس واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور.

والتحلي بها يسلب منك سفاسف الآمال والأعمال، ويجتثُّ منك شجرة الذل والهوان والتملق والمداهنة

(3)

، فكبير الهمة ثابت الجأش، لا ترهبه المواقف، وفاقدها جبان رعديد، تغلق فمه الفهامة

(4)

.

(1)

قوله: "كبر الهمة يجلب لك بإذن الله خيرًا غير مجذوذ"، يعني: غير مقطوع وغير منقطع.

(2)

قوله: "لترقى إلى درجات الكمال، فيجري في عروقك دم الشهامة"، أي: يجعلك تواظب وتبذل من نفسك في ميدان العلم والعمل، فحينئذ تصبح ممن قصر نفسه على أفضل الأعمال، ولا يجعلك تتوجه إلى الأمور التَّوافه، ولا تشغل وقتك بما لا تنتفع به.

(3)

قوله: "التحلّي بها يسلب من سفاسف الآمال .. "، التحلي بكبر الهمَّة يبعد عنك الأمور التي لا قيمة لها من الآمال والأعمال، فسفاسف الآمال والأعمال بعيدة عنك، وكِبَر الهمة يُبعِدُ عنك شجرة الذل والهوان؛ لأنه يجعلك تمضي في الحق والخير ويبعد عنك التملق والمداهنة؛ لأنك قد لاحظت رب العزة والجلال فلن يؤثر فيك مطالعة الناس لعملك.

(4)

قوله: "فكبير الهمة ثابت الجأش"، بحيث يكون قويًا شديدًا، لا ترهقه أدنى حركة، فسماع الأصوات ومشاهدة الأشخاص لا تجعله يتزعزع عن موقفه، ففاقد كبر الهمة تجده يخاف من كل صوت وأدنى رعدة تجعله يبعد عما يقصده من الخير ومن العمل الصالح، بل صغر الهمة يجعل الإنسان لا يتمكن من الكلام لمجرد أدنى كلمة تقال فيه.

ص: 122

ولا تغلط فتخلط بين كِبَر الهمة والكِبْر، فإن بينهما من الفرق كما بين السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع

(1)

.

كِبَر الهمة حلية ورثة الأنبياء، والكِبْر داء المرضى بعلة الجبابرة البؤساء

(2)

.

فيا طالب العلم ارسم لنفسك كبر الهمة، ولا تنفلت منه، وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك

(3)

، لتكون دائمًا على يقظة من

(1)

قوله: "ولا تغلط فتخلط بين كِبَرِ الهمة والكِبْر"، كبر الهمة أن يكون هدفك عاليًا، والكبر: تَرَفَّع عن الخلق وعدم قبول بالحق، فإن بين الكبر وكبر الهمة فرقًا كبيرًا "كالسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع"، الرجع التي تأتي فيها السحب، والأرض ذات الصدع: التي تتصدَّع من أجل جذور النبات فيها.

(2)

قوله: "كبر الهمة حلية ورثة الأنبياء"، وهم العلماء، لكن الكبر ليس من صفة العلماء، بل هو "داء للمرضى الذين ابتلوا بعلة الجبابرة البؤساء".

(3)

قوله: "وقد أومأ الشرع إليها في فقهيات تلابس حياتك"، أحكام الشرع تُرغِّبكَ في كبر الهمة، وسواء كان في العلم أو في العمل، ففي العمل مثلًا، انظر إلى ترغيب الشارع في الأعمال الصالحة، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:(وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافل حتى أحبَّه)

[1]

، جعلك تقصد الجمع بين الفرائض والنوافل كلها، لتجمع محبة ربك لك. وانظر فيما يتعلق بالعلم في قول الله عز وجل:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فيجعل النفس تطلب كمال العلم والزيادة، طلبت زيادة العلم لكبر همتك.

[1] أخرجه البخاري (6502).

ص: 123

اغتنامها، ومنها: إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، وعدم إلزامه بقبول هبة ثمن الماء للوضوء، لما في ذلك من المنة التي تنال من الهمة منالًا، وعلى هذا فقس، والله أعلم

(1)

.

‌25) النّهْمَة في الطَّلب

(2)

:

إذا علمت الكلمة المنسوبة إلى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

(1)

قوله: إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء .. "، أي: انظر لمسألة إباحة التيمم للمكلف عند فقد الماء، عندما لا تجد ماء يجوز لك أن تتيمم، لقوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، لو قُدِّر أن هناك شخصًا معك، وقال: خذ ثمن الماء واشتر به ماءً، نقول: لا يلزمه أخذ هذا المال، ويجوز له التيمم؛ لأن في أخذ هذا المال منة من المعطي على المَعْطَى، وهذا ينال من الهمَّة، ويُنْقِص من همة الإنسان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اليد العليا خير من اليد السفلى)

[1]

. وقال: (المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف)

[2]

.

(2)

الأدب الخامس والعشرون من آداب طالب العلم: "النهمة في الطلب"، بحث تستمر الرغبة في طلب العلم مع الإمكان، ولا يقنع بالقليل منه، وتستمر معه هذه الرغبة، وقد جاء في الخبر أن طالب العلم لا يُشْبع نهمته مهما حصَّل من العلم، (واثنان منهومان لا يشبعان)

[3]

، ذكر منهما: طالب العلم، ومن هنا فإن طالب العلم لا تتوقف رغبته عند حد؛ لأن العلم بحر لا ساحل له، ومن هنا فالمرءُ يحرص على تحصيل أكبر قدر منه، وبعض =

[1] أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1033)، وأبو داود (1648).

[2] أخرجه مسلم (2664).

[3] أخرجه الطبراني في الكبير 10/ 180 (10388)، والحاكم 1/ 169 (312)، والبيهقي في المدخل (450) ص 300.

ص: 124

(قيمة كل امرئ ما يحسنه)

[1]

، وقد قيل: ليس كلمة أحضّ على طلب العلم منها، فاحذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر

[2]

.

= الناس يقول بأنكم يا أيها الطلاب لن تأتوا بشيء جديد، وحينئذ فلماذا تنهكون أنفسكم بطلب العلم، فيقال لهم:

أولًا: نحن نطلب العلم، وتزداد رغبتنا فيه من أجل إرضاء رب العزة والجلال، ومن أجل دخول الجنة، فلو قُدِّر أننا لن نأتي بشيء جديد فنحن سنحصل على الأجر والثواب.

الأمر الثاني: أن الله - جل وعلا - من رحمته بعباده أن جعل أهل العلم يعرفون ويكتشفون في كل زمان ما عجز عنه الأوائل، فهذا من رحمة الله؛ حتى يستمر العلم، وتستمر النهمة في طلبه.

الأمر الثالث: أن الناس تنتابهم أوقات الجهالات يُنسى فيها العلم، فالعالم وإن لم يأت بشيء جديد، إلا أنه يرشد الأمة إلى طريقتها الأولى طريق النبوة.

الأمر الرابع: أنه ما من زمان إلا وفيه أناس يبثون الشبهات على الخلق، فطالب العلم هو المخوّل لكشف هذه الشبهات، والرد عليها، فحينئذٍ كان الأولى أن يقال: كم ترك الأول للآخر!، وحينئذٍ لنستكثر من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم هو العلم، لقوله:(العلماء ورثة الأنبياء)

[3]

.

[1] جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/ 416، ترتيب الأمالي الخميسية للشجري 1/ 177.

[2] جامع بيان العلم 1/ 416.

[3] أخرجه الترمذي (2682)، وأبو داود (3641)، وابن ماجه (223).

ص: 125

فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطَّلب والتَّحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر:"كم ترك الأول للآخر! "

(1)

.

وفي ترجمة أحمد بن عبد الجليل من "تاريخ بغداد"

(2)

للخطيب، ذكر من قصيدة له:

لا يكون السَّرِيُّ مثل الدَّنيِّ

لا ولا ذو الذَّكاء مثلُ الغبيِّ

قيمةُ المرءِ كُلَّمَا أن أحْسَنَ المرْ

ء قَضَاءً من الإمام عليِّ

26) الرحلة للطلب

(3)

:

"من لم يكن رُحْلَة لن يكون رُحْلَة".

(1)

قوله: "وابذل الوسع في الطلب .. "، اطلب علمًا كثيرًا، كذلك ابذل الوسْعَ في التحصيل وفي التدقيق، لا تكتف بأخذ الأقوال فقط؛ بل دقِّق بينها وميِّز بينها، واعرف ما ينفعك منها. "ومهما بلغت في العلم، فتذكر: (كم ترك الأول للآخر!!) ".

(2)

آداب العلماء والمتعلمين للخطيب البغدادي ص 28، ولم أجده في التاريخ.

(3)

هذا أدب آخر من آداب طالب العلم: وهو الرحلة في طلب العلم لملاقاة العلماء، وقد قَصَّ الله عز وجل علينا قصة موسى عليه السلام عندما سافر إلى الخضر من أجل أن يستفيد منه، وانظر أيضًا في الأخبار رحلات الصحابة عندما كان ينتقل بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل طلب العلم، كما في حديث مالك بن الحويرث، وانظر إلى أخبار أبي هريرة عندما انتقل ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة أبي ذر في صحيح مسلم عندما ارتحل من أجل طلب العلم، وهكذا أيضًا لم يزل علماء الإسلام يرحلون من أجل طلب العلم، وينتقلون من مكان إلى مكان من أجل ذلك الهدف العظيم، فالارتحال لطلب العلم يحدث به عدد من الفوائد: =

ص: 126

فمن لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعد تأهله ليُرْحَل إليه؛ لأن هؤلاء العلماء الذين مضى وقت في تعلمهم وتعليمهم، والتلقي عنهم لديهم من التحريرات والضبط، والنكات العلمية، والتجارب، ما يعز الوقوف عليه أو على نظائرة في بطون الأسفار

(1)

.

= الفائدة الأولى: تنويع التلقي عن العلماء، فإن من خالط علماء كثر رأى مناهج مختلفة، وشاهد طرائق مختلفة في التعليم، وفيما يحسنه من العلوم، وفي طريقة التعلّم والتعليم، وفي الكتب التي تُدْرَس، أما من اقتصر على شيخ واحد فلن يحصل له مثل ذلك، إلا أن يكون عالمًا متفنِّنًا في علوم مختلفة.

الفائدة الثانية: أن الراحل في طلب العلم يعوِّد نفسه على التعلم، وعلى الاشتياق لمعرفة العلماء؛ وعلى التفنُّن في العلم، فبذلك تنشط نفسُه في التعلم.

الفائدة الثالثة: أن الراحل المسافر في طلب العلم يجد في وقته فسحة في طلب العلم؛ لأنه سيقلل من أشغاله، وحينئذ يكون ذلك أدعى الحفظه العلم، ولكونه يعي ما يتعلمه.

الفائدة الرابعة: أن الرحلة تجعل الإنسان يخالط قرناء يماثلونه في الهدف والمقصد في طلب العلم، فيكون لذلك أثر عظيم في تنشيط النفس على التعلم.

الفائدة الخامسة: أن المرء عند تنقله من مكان إلى مكان تعرف نفسه قيمتها، ولا يغتر بما كان يظن نفسه عليه من حال جيد قبل سفره ورحلته، ومن ثم تعرف النفس قيمتها، فتبذل ما تستطيعه في تحسين شأنها وتعلية مكانتها عند الله عز وجل.

(1)

قوله: "فمن لم يرحل في طلب العلم للبحث عن الشيوخ، والسياحة في الأخذ عنهم، فيبعد تأهله ليُرحل إليه"، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن =

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة)

[1]

، فهذا فيه دلالة على مشروعية الرحلة لطلب العلم؛ والعلماء قد أمضوا أوقاتًا عديدة، فشاهدوا شيوخًا كثيرين، وعرفوا طرائق في التعلم والتعليم، ولذلك يجد الإنسان عندهم تحريرات؛ بحيث يحررون المسائل ويعرفون المراد بها، وعندهم ضبط للألفاظ وضبط للمسائل ومعرفة الفرق بينها، وكذلك عندهم نكات علمية والمراد بالنكتة العلمية: الشيء العلمي النادر الذي لا يحصله الإنسان عند أي مؤلف أو في أي كتاب وكذلك يحصل الإنسان عند هؤلاء العلماء التجارب، فهم قد مارسوا وعرفوا أحوال الناس، وعرفوا دقائق أمورهم، وقد مرَّت بهم تجارب كثيرة وخبرات عديدة، فالإنسان إذا قرأ في الكتب ولم تمر عليه تلك التجارب فقد يكون حينئذٍ لا يتقن العلم، أضرب لذلك مسألة: في القضاء، من دَرَسَ كتب أهل العلم في باب القضاء، وأتقنها وعرفها وضبطها ضبطًا كاملًا، فإنه تفوته أشياء، بخلاف من مارس القضاء، وأخذ من أصحاب التجارب والخبرة فيه، فإنه ينتبه إلى أشياء ليست موجودة في الكتب، بل في الكتب مرات قد يطلق اللفظ ويراد به غير ظاهره، مثال ذلك: في كتاب الحج قد يطلقون مرات: (وعليه دم)، ويريدون بالدم فدية الأذى التي يُخيَّر الإنسان فيها بين الإطعام أو الصيام أو الذبح، فعندما يجد من ليس لديه خيرة ولا تجربة هذا اللفظ (عليه دم) يخطئ في فهمها فيقول: يتعيَّن الدم، وهذا خلاف مراد الفقهاء

[2]

.

مثال آخر: في كتاب مختصر الخرقي، قال في باب الحج (ومن وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجهما وعليه بدنة) الخ، هذا كلامهم على وفق طريقتهم الأولى؛ لأنه لا يعقل في زمانهم أن يمر إنسان بمنى فلا يرمي، ولم يكونوا يتصورون أن يتجاوزها الحاج =

[1] أخرجه الترمذي (2680).

[2] قال الحجاوي في زاد المستقنع: "فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم، قال البهوتي في شرحه: "أي شاة، أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام".

ص: 128

واحذر القعود عن هذا على مسلك المتصوفة البطَّالين، الذين يفضلون "علم الخرق"

(1)

على "علم الورق"

(2)

.

= إلى مكة بدون رمي، لأن منى في الطريق، لكن في زماننا لما تطورت وسائل الانتقال، ووجدت السيارات وينتقل الإنسان من مزدلفة إلى مكة بدون أن يمر بمنى، فقد يطوف ويسعى ويقصر قبل أن يرمي، فيكون بذلك قد تحلل التحلل الأول، وحينئذ نقول: إذا جامع بعد هذا لم يفسد حجه؛ لأنه قد تحلل التحلل الأول، ولم تجب عليه بدنة، ولم يجب عليه الحج من قابل، فمثل هذه الفائدة إذا قرأها الإنسان في الكتاب ولم يتصل بعالم يشرح له ذلك فسينزل الكلام على غير مراد مؤلفه به، فمثل ذلك يدلك على أهمية الأخذ من العلماء والرحلة إليه، وبذلك نكون قد سلكنا طريق التعلم بالرحلة إلى العلماء.

(1)

قوله: "واحذر القعود عن هذا على مسلك المتصوفة البطالين .. "، أي: أهل التصوف الذين من صفتهم البطالة وترك التعلم، فمثل هؤلاء طريقهم مخالف لطريق الشرع؛ لأنهم يفضلون علم الخرق على علم الورق. والخرق قد تفسر بمعنيين: إما الخرقة التي يعطيها الأول للثاني، يعطيها الشيخ لمريده لينتقل إليه التصوف، ويصبح من أهل الولاية وأصحاب السلوك إلى الله بزعمهم، أو أن المراد به أن أهل التصوف يتركون ما الناس فيه من حال فيلبسون ثيابًا مخرقة متقطعة، لكن لعل المعنى الأولى أولى.

(2)

وقوله: "على علم الورق"، وهو طلب العلم الذي يُسجل في الأوراق، وبهذا تعرف أن منهج أهل السنة والجماعة هو أن يكون الطريق إلى الله مبتدئًا بالتعلم، أما من جاء وجعل الطريق إلى الله في الخروج من بلد إلى بلد لمجرد السفر، ويسمونه السياحة يتقربون به لله، بدون أن يكون المقصد من ذلك السفر هو طلب العلم، أو مقصد آخر موافق لمقصد الشرع، وسمي ذلك في سبيل الله، فإنه ليس على الطريقة السلفية.

ص: 129

وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما يَصْنَع بالسماع من عبد الرزاق من يَسْمَع من الخلاق؟!

(1)

[1]

.

وقال آخر:

إذا خاطبوني بعلم الورق

برزت عليهم بعلم الخرق

فاحذر هؤلاء، فإنهم لا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا، بل فيهم من كان بأسًا وبلاء على الإسلام

(2)

.

(1)

قوله: "وقد قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الخلاق؟! "، وذلك أن المتصوفة يرون أن من مصادر التلقي الإلهام والكشف، وهذا طريق باطل لا يصح بناء الأحكام عليه؛ لأن الله لم يأمرنا بالرجوع إلى ما في النفوس من ذلك، وإنما أمرنا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ولأن ما يُلْقى في النفوس لا يأمن الإنسان منه إذ لا يعرف مصدره؛ لأن الشياطين تلقي في النفوس معنى يظن بعض الناس أنه الخير وأنه الحق، وحقيقة الحال أنه ليس كذلك.

(2)

قوله: "قال آخر:

إذا خاطبوني بعلم الورق

برزت عليهم بعلم الخرق

فاحذر هؤلاء، فإنهم لا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا"، إذا نظرنا حال المبتدعة وجدناهم يقدمون طريقتهم في الابتداع على نصرة الإسلام، ولذلك يحذر الإنسان من طريقة هؤلاء، وإن كان المرء مأمورًا بكف أذاه عنهم، وعدم إيصال السوء إليهم، لكن ذلك لا يعني صحة طريقهم وإنما هم على خلاف الطريقة المرضية؛ لأن الطريقة المرضية تحصل بالتعلم، لا بهذه الأفعال التي تضيع الأوقات ولا يحصل الإنسان بها شيئًا، ومثل هؤلاء من يأخذ من المنجمين، وأهل الأبراج ومدعي الغيب، والمتخرصة في تفسير الأحلام.

[1] انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، لمجد الدين الفيروزآبادي 4/ 90، ومدارج السالكين لابن القيم 2/ 438.

ص: 130

‌27) حفظ العلم كتابة

(1)

:

ابذل الجهد في حفظ العلم (حفظ كتاب)؛ لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من الضياع، وقصرٌ لمسافة البحث عند الاحتياج، لاسيما في مسائل العلم التي تكون في غير مظانها، ومن أجل فوائده أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون لديك مادة تستجر منها، مادة تكتب فيها بلا عناء في البحث والتقصي

(2)

.

(1)

هذه من آداب طالب العلم: تقييد الفوائد الفرائد وكتابتها، فإن الإنسان تمر به حال دراسته مسائل في غير مظانها، وتمر به مسائل وفوائد لا يتوقع مرورها عليه في ذلك الموضع، وكذلك تمر على الإنسان معلومات غرائب، بحيث تلفت ذهنه لفتًا، وتجر نفسه إلى تذكرها ومعرفتها، والإنسان ينسى، فحينئذ يحسن به أن يقيد هذه الفوائد، سواء كانت قريبة عليه أو عزيزة لديه، أو كانت في غير مواطن بحثها، بحيث يسهل عليه مراجعتها، والكتابة للعلم جاءت به الشريعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اكتبوا لأبي شاهٍ)

[1]

، ويدل على هذا أن الله عز وجل قد كتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، ولم يكتف في ذلك بكونه محفوظًا، وجاء في الحديث:(أنه لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)

[2]

، وقد أثرت كتابة عدد من الأحاديث عن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبوة بإقراره صلى الله عليه وسلم.

(2)

قوله: "ومن أجل فوائده أنه عند كبر سنه .. "، إذا تقرر هذا فإن الكتابة تفيد إبعاد النسيان عن الإنسان، وتذكيره بأدنى لفتة فيما كان يعرضه في الوقت السابق، وتُعِينُه حال كبره وكثرة نسيانه، فإن الإنسان عند كبر سنه إذا كان قد وضع مادة علمية تختصر له المعلومات فإنه بذلك يتمكن من مراجعة هذا الجزء فيكون حافظًا لعلمه.

[1] أخرجه البخاري (6880)، ومسلم (1355)، وأحمد (7242).

[2] أخرجه البخاري (7453).

ص: 131

ولذا فاجعل لك (كُنَاشًا) أو (مذكرة) لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجتمع لك بعد في مذكرة مرتبًا له على الموضوعات، مقيدًا رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته:"نقل"، حتى لا يختلط بما لم ينقل كما تكتب:"بلغ صفحة كذا" فيما وصلتَ إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما تبلغه قراءة

(1)

.

وللعلماء مؤلفات عدة في هذا، منها:"بدائع الفوائد" لابن القيم، و"خبايا الزوايا" للزركشي، ومنها: كتاب "الإغفال" و"بقايا الخبايا" وغيرها

(2)

.

(1)

قوله: "ولذا فاجعل لك كناشًا .. "، ومن هنا أمر المؤلف بوضع مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والمسائل التي تبحث في غير مظانها، ومن أنواع ذلك: أن يكتب الإنسان هذه الكتب في أول الكتاب التي تقرأ عليه، وينبغي به أن يقيد رأس المسألة في أول هذه الفائدة، ثم ما نقل منه من كتاب ورقم صفحته وجزئه، ثم بعد ذلك إذا نقَلَ هذه المعلومات التي في أول الكتاب وفي غلاف الكتاب إلى دفتره الأصلي بَيَّن أنها قد نقلت إلى ذلك الدفتر؛ حتى لا يختلط ما نقل بما لم ينقل.

(2)

قوله: "وللعلماء مؤلفات عدة في هذا

"، ذكر المؤلف أن هذه الطريقة استخدمها بعض أهل العلم، فكانت سببًا في شهرة كتبهم، ومن ذلك كتاب "بدائع الفوائد" لابن القيم رحمه الله، إذ فيه فوائد متنوعة بعضها بلاغية، وبعضها حديثية، وبعضها نحوية، وبعضها عقدية في هذا الكتاب وفي خبايا الزوايا اعتنى الزركشي بالمسائل الفقهية التي تبحث في غير مظانها.

ص: 132

وعليه فقيِّد العلم بالكتاب، لاسيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير مساقها، ودررًا منثورة تراها وتسمعها تخشى فواتها .. وهكذا، فإن الحفظ يضعف، والنسيان يَعْرضُ.

قال الشعبي: "إذا سمعت شيئًا فاكتبه، ولو في الحائط" رواه خيثمة (1).

وإذا اجتمع لديك ما شاء الله أن يجتمع فرتبه في تذكرة، أو كناش على الموضوعات، فإنه يُسْعِفُكَ في أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.

‌28) حفظ الرعاية

(2):

ابذل الوسع في حفظ العلم (حفظ رعاية) بالعمل والاتباع، قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:"ويجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده وجه الله سبحانه"

[1]

.

* قوله: "فإن الحفظ يضعف، والنسيان يعرض قال الشعبي:(إذا سمعت شيئًا فاكتبه، ولو في الحائط)

[2]

"، ذكر المؤلف هذا القول للشعبي، وكان الشعبي من أكثر الناس حفظًا، وكان له قوة غريبة في الحفظ، ومع ذلك أمر بالكتابة.

* الأدب الثامن والعشرون من آداب طالب العلم: أن يحفظ الطالب العلم من خلال رعايته، ورعاية العلم على أنواع:

أولها: أن يرعاه بالعمل؛ بحيث كلما علم مسألة عمل بها فهذا يكون قد عمل بعلمه، وتَرْكُ العمل بالعلم من أسباب غضب الله تعالى، كما في سورة الفاتحة، وقد جاء في =

[1] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السماع للخطيب 1/ 80.

[2] تقييد العلم للخطيب 1/ 99.

ص: 133

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أيْ فلانُ ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)

[1]

.

وكثير من أهل العلم قد حذر من هذا، روى جندب رضي الله عنه مرفوعًا:(إن مثل الذي يعلِّم الناس ولا يعمل بعلمه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)

[2]

.

الطريقة الثانية لرعاية العلم: أن يكون مقصد الإنسان وجه الله والدار الآخرة، فإنك إذا قصدت ذلك بارك الله في علمك وجعلك تحفظه، ويبقى في ذهنك، أما من قصد الدنيا، فإن الدنيا زائلة، وما عُمل لله يبقى، وما كان لغيره يفنى.

الطريقة الثالثة: الدعوة إلى ما لديك من العلم، فإن هذا يبقي العلم عندك، فمتى كنت تدعو الناس وتدرِّسهم وتعلِّمهم، بقي العلم لديك، ومتى أهملت ما لديك من العلم، فلم تراع فيه ذلك، ولم تدع إليه فإنه مع مرور الزمن ستنساه ولن يبقى عندك.

الأمر الرابع: مما يحصل به رعاية العلم وحفظه: ترك المفاخرة به؛ فإن من فاخر بالعلم عاقبه الله بزوال ذلك العلم منه، وكثير من الناس فاخر بما لديه من العلم فكان ذلك سببًا من أسباب زوال العلم عنه؛ لأن الله - جل وعلا - جعل من سمة العلماء التواضع، فمن فاخر بالعلم وترفع به، وقال: علمي أحسن من علم غيري وضعه الله - جل وعلا -، وانظر: في قصة موسى لما قيل له: (هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلي، عبدنا خضر)

[3]

.

[1] أخرجه البخاري (3267).

[2] أخرجه أبو داود في الزهد (377) ص 326، وابن أبي عاصم في الآحاد (1681)، والطبراني 2/ 167 (1685).

[3] أخرجه البخاري (74).

ص: 134

وليحذر أن يجعله سبيلًا إلى نيل الأعراض، وطريقًا إلى أخذ الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه.

وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة، واتخاذ الأتباع، وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه

(1)

.

(1)

قوله: "وليتق المفاخرة والمباهاة به"، يعني: وصف النفس بالعلو لكونها قد اتصفت بالعلم، ولا يكن قصده في طلب الحديث الرياء، وإنما ينوي بطلبه للحديث رضا رب العالمين، ودخول الجنة.

ولا ينوي الأعراض كالجاه والرئاسة والعلو والسمعة بأنه أخذ الشهادة، ولا يقصد الأعواض كالمرتبات وأجر المحاماة ونحوها.

الطريقة الخامسة: عدم الاستهزاء بالجهال، والضحك على تصرفاتهم، فإن الإنسان متى استهزأ بالآخرين لكونهم لا يعلمون عاقبه الله بسلب العلم منه، وقد جاء في الحديث:(لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك)

[1]

.

كذلك من طرائق حفظ العلم ورعايته: حفظ مكانة أهل العلم، فإنك عندما تنتقص غيرك من العلماء فإن ذلك يكون سببًا في عدم تمكينك من تحصيل العلم؛ فإن الله - جل وعلا - جعل حملة العلم لهم مكانة وحرمة، وجعل المعتدي عليهم بالأذية يعاقب بالعقوبات الدنيوية والأخروية، كما في جاء في الحديث:(من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)

[2]

، ولذلك يحفظ الإنسان لسانه من الكلام في علماء الشريعة.

[1] أخرجه الترمذي (2506).

[2] أخرجه البخاري (6502).

ص: 135

وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية

(1)

، فإن رواة العلوم كثر، ورعاتها قليل، ورب

(2)

حاضر كالغائب

(3)

، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء، إذا كان في اطِّرَاحه لحكمه

(4)

بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه

(5)

.

(1)

قوله: وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية .. "، وهذه وسيلة أخرى من وسائل حفظ العلم بالرعاية، ألا وهي: التأمل والتدبر والتفكر في العلم الذي تعلمته؛ لتستفيد منه، وتستخرج منه الفوائد، فإن من يحفظ العلوم كثر، لكن من يستفيد منها ويأخذ منها الفوائد قليل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)

[1]

.

(2)

قوله: "ورُبَّ"، يعني: يمكن أن يوجد.

(3)

قوله "حاضر كالغائب"، بل قد يكون الغائب أكثر فهمًا وحفظًا ومعرفة وإدراكًا من الحاضر، وفي مرات يكون هناك من يحفظ المرويات، وتكون منزلته بمنزلة الجاهل لا يستفيد من ذلك العلم، بل قد تكون منزلته أدنى من منزلة الجاهل.

(4)

وقوله: "ورب حامل للحديث ليس معه منه شيء إذ كان في اطراحه لحكمه"، يعني في تركه حكم الحديث، والعمل به والدعوة إليه.

(5)

وقوله: "منزلة الذاهب عن معرفته وعلمه يكون كالذاهب، ونقول: الصواب أن حامل العلم الذي لا يعمل به أقل درجة من الشخص الذي لا يحْمِلُ ذلك العلم؛ لأنه إذا كان عندك عينان تتمكن من الإبصار بهما، ثم بعد ذلك تغلق عينيك، وتكون ممن يضرب في الأعمدة والجدران فإن حال من كان كذلك أقل من الأعمى الذي يضرب في الأعمدة والجدران لعجزه عن الرؤية.

[1] أخرجه الترمذي (2656)، وأبو داود (3660).

ص: 136

وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه

(1)

، وتوظيف السنن على نفسه

(2)

، فإن الله تعالى يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ا. هـ.

‌29) تعاهد المحفوظات

(3)

:

تعاهد علمك من وقت إلى آخر؛ فإن عدم التعاهد عنوان الذهاب للعلم مهما كان.

(1)

قوله: "وينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] "، ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم إما عبادة يجمل بنا أن نقتدي به فيها، وإما جبلة وعادة فلا يشرع أن نتقرب الله بفعلها.

(2)

وقوله: "وتوظيف السنن .. "، أي: تطبيقها.

(3)

هذا هو الأدب التاسع والعشرون من آداب طالب العلم: "تعاهُد المحفوظات"، بحيث يكرر الإنسان ما يحفظه من وقت لآخر، سواء كان هذا المحفوظ من كتاب الله عز وجل الذي ينبغي لطالب العلم أن يجعل له وردًا يوميًا من كتاب الله، ولا ينبغي أن يقل ورده عن جزء في اليوم ليختم في كل شهر، وهكذا يتعاهد ما يحفظه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بذلك قد تمكن من حفظ هذه الأحاديث، وتمكن بذلك أن يكون داعيًا إلى الله منطلقًا في دعوته من النصوص الشرعية كتابًا وسنة.

ص: 137

عن ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)

[1]

.

رواه الشيخان، ومالك في "الموطأ"

(1)

.

= وهكذا يتعاهد ما يحفظه من فنون أهل العلم ومتونهم، فإنك إذا لم تتعاهد هذه المحفوظات فإنها ستذهب، فإذا كان القرآن مع عظمته ومع كونه ميسِّرًا للذكر، كما قال - جل وعلا -:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17، 22، 32، 40]، إلا أنه مع ذلك إذا لم يتعاهده المرء فإنه يفوت ويُنْسى، فإن الله - جل وعلا - يغار على قلب العبد، فإذا فرَّغ العبد قلبه لتذكر محفوظاته ومن أولاها كتاب الله فإنه حينئذٍ يبقى هذا المحفوظ، وإذا كان القلب لا يشتغل بذكر الله، ولا بقراءة كتابه غار الله على كتابه، فلم يجعله باقيًا في قلب ذلك العبد، دلَّ على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:(تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عُقُلها)

[2]

.

(1)

وحديث ابن عمر: (إنما مثل صاحب القرآن - أي: حافظ القرآن - كمثل صاحب الإبل المعلقة - يعني المربوطة الأقدام - إن عاهد عليها - يعني: تفقد هذا الرباط - تمكن من إمساكها، وإن أطلقها)، ولم يربطها ولم يعلقها فإن هذه الإبل ستذهب، وستكون من الإبل الشوارد.

[1] أخرجه البخاري (4743)، ومسلم (789)، ومالك في الموطأ (474).

[2] أخرجه مسلم (791).

ص: 138

قال الحافظ ابن عبد البر

(1)

رحمه الله: "وفي الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه، ذهب عنه

(2)

، أي من كان، لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير

(3)

، وإذا كان القرآن الميَسَّر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟. وخير العلوم ما ضبُط أصلُه، واستذكر فرعه، وقاد إلى الله تعالى، ودل على ما يرضاه"

[1]

ا. هـ.

(1)

قوله: "قال الحافظ .. "، نقل المؤلف كلام الحافظ ابن عبد البر؛ وهو هو مكانةً ومنزلة وعلمًا وفضلًا.

(2)

قوله: "وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه

"، أي: لم يكرره ولم يعده مرة بعد أخرى، سواء كانت الإعادة بقراءته، أو بتكرار تدريسه، أو بقراءة الناس عليه ذلك العلم.

(3)

قوله: "من لم يتعاهد علمه ذهب عنه، أي من كان؛ لأن علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير"، لأنه أساس العلوم.

ويبدو أن السنة أيضًا كانت كذلك، لكن السنة قد يعتبرها البعض تابِعَة أو مفسرة، وقد يعتبرها بعضهم دليلًا مستقلًا، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يُتَعَاهد فما ظنك بغيره من العلوم؟! والعلوم لها أصول: متى ضبطتَ الأصل ضبطتَ ما يترتب عليه من الفروع، فاضبط الأصل واحفظه حفظًا كاملًا، وبذلك تكون قد عرفت تلك الفروع وعرفت الرابط بينها، ومن ضبط الأصل واستذكر الفرع بنيَّة التَّقرب الله حصل حينئذٍ على رضا رب العالمين.

[1] التمهيد 14/ 132 - 133.

ص: 139

وقال بعضهم: "كل عز لم يؤكد بعلم، فإلى دُلٍّ مصيره"

(1)

[1]

ا. هـ.

(1)

قوله: وقال بعضهم: (كل عز لم يؤكد بعلم، فإلى ذل مصيره) "، ذكر قول حكيم العرب الأحنف، وذلك أن أيّ عزٍّ إذا لم يكن معه علم يقيّد تصرفات صاحب ذلك العز بقيود الشريعة فإن الله - جل وعلا - يعاقبه بسلب تلك النعمة؛ لأن الله تعالى يقول:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

وسأضرب لذلك أمثلة:

أولها: عز المال، من كان عنده مال عَزَّ به، فإن سار به على موجب الشريعة وعلى طرائقها فإنه حينئذ ستستمر تلك النعمة، ويبقى عزه، أما إذا لم يؤكدها بعلم وأصبح يتصرف فيها خبط عشواء، فإنه حينئذ سيزول عنه ذلك المال عما قريب مهما كان صاحبه.

المثال الثاني: من كان عنده عز متعلق بمكانة وجاه، فإن كان يصرفها بعلم بَقِيَتْ هذه النعمة، وإن لم يكن له علم فإنها سَتُسْلَب منه هذه النعمة، وسيصيرُ إلى الذل، وهكذا في بقية الأسباب المؤدِّية إلى العز، فإن لم تؤكد بعلم فإنها ستؤول بالإنسان إلى ذُل، وأنتم تشاهدون هذا في زمانكم، تأملوا تجدوه واضحًا جليًا، انظر من كان عنده مال فعمل فيه بالشرع، وأنفق منه في الخير؛ بارك الله له في ماله وأبقى عزه، ومن أفسده ماله، ثم أصبح يخبط به خبط عشواء فإنه عما قريب سيفتقر، وكم من إنسان شاهدتموه كان صاحب مال وعز ومكانة، ثم بعد ذلك افتقر وذلَّ؟! وشاهِدُ ذلك في كتاب الله: قصة قارون.

وهكذا أيضًا من كان عِزّه بوظيفة أو بعمل أو بجاه، سواء كان بمكانة أو بمنزلة أو بغير ذلك من الأسباب التي يعز الإنسان بها، إذا لم يُؤَكّد ذلك العز بعلم فإنه عما قريب سيصير إلى ذُلٍّ.

[1] إحياء علوم الدين 1/ 8، جامع بيان العلم ص 73، من كلام الأحنف.

ص: 140

‌30) التفقه بتخريج الفروع على الأصول

(1)

:

(1)

الأدب الثلاثون من آداب طالب العلم: التفقه في تخريج الفروع على الأصول، فالمراد بالفقه: الفهم الدقيق الذي يُمكنك من استخراج الأحكام من الأدلة، هذا هو الفقه، وهو من أجلِّ العبادات، وحاجة الأمة إليه من أعظم الحاجات، وقد رغَّب الله عز وجل في ذلك في قوله سبحانه:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وأمر الله عز وجل بالرجوع إلى هذا الصنف، وهم الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة، لقوله سبحانه:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، يعني: يستخرجون الحكم من الأدلة، وهذا هو الفقه.

جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)

[1]

، ولفظة الفقه تطلق على اصطلاحات متعددة:

أولها: الاصطلاح الشرعي، حيث يُرَادُ بالفقه: معرفة الأحكام والقدرة على استخراجها من الأدلة، سواء كانت أحكامًا عقدية، أو أحكامًا عَمَليَّة، بحيث يشمل العقيدة، ويشمل علم الفروع، ويشمل التفسير، ويشمل فهم الحديث، فإن هذا كله يسمى فقهًا في الاصطلاح الشرعي.

الثاني: من إطلاقات الفقه القدرة على استخراج الأحكام من الأدلة التي يسمونها الملكة.

الثالث: إطلاق اسم الفقه على الأحكام العملية، وهذا هو الغالب على عمل المؤلفين، إذا قالوا: كتب الفقه، فالمراد بها الأحكام العملية، وهناك طائفة خصوه بالأحكام.

[1] أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037).

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الاجتهادية غير ما يُعْلَم من الدين بالضرورة، كما فعل الرّازي وغيره

[1]

، لكن الاصطلاح المشهور هو الثاني، أما الاصطلاح والاستعمال الشرعي فهو الأول، كما في الحديث:(من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)

[2]

، وهو الذي كان عليه علماء الشريعة في الزمان الأول، ولذلك كان الإمام أبو حنيفة يقول:"الفقه هو معرفة النفس ما لها وما عليها".

- فقول المؤلف في الأدب الثلاثين: "بتخريج الفروع على الأصول"، المراد بالفروع: المسائل التي تبنى على غيرها، وتعرف أحكامها من خلال غيرها، والفرع في اللغة هو الجزء المستخرج، وبعضهم يقول: هو ما يُبنى على غيره، والأصول: جمع أصل، والأصول يراد بها أحد ثلاثة اصطلاحات:

الأول: الأدلة الشرعية؛ فالقرآن والسنة هما أصول الأحكام، وهي الأصل في تخريج الفروع على الأصول، وحينئذ نحتاج مع هذه الأصول إلى علم أصول الفقه بقواعد الاستنباط، وأنواع دلالات الألفاظ الذي هو: تخريج، أو تفقه.

والمصطلح الثاني: أن يراد بالأصول القواعد الفقهية، فإنها قواعد يُحكم بها على فروع كثيرة، وتشتمل على دليل المسألة وعلى مآخذها.

والمصطلح الثالث: أن يراد بالأصول الضوابط الفقهية لكل باب، وهذه الضوابط اعتنى العلماء بكتابتها في مؤلفاتهم الفقهية، وخصوصًا المختصرات؛ ك (زاد المستقنع)، ونحوه، وحينئذ نجد أن الناس الذين يستخرجون الأحكام على ثلاثة أنواع:

الأول: من يقيس المسائل الجديدة على المسائل التي تكلم فيها الأئمة، وهولاء يسمون أهل التخريج. =

[1] المحصول 1/ 10، شرح تنقيح الفصول ص 17.

[2] أخرجه البخاري (71) كتاب العلم باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، ومسلم (1037)، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الثاني: من إذا وردت إليه مسألة عرف حكمها من القواعد الفقهية التي عنده، فعندما تواجهه مسألة ما كمسألة أحكام ركوب الطائرات مع وجود الضيق فيها؟ يستخرجه من قواعد المشقة والضرر: المشقة تجلب التيسير، أو قول بعضهم: العسر سبب لليسر، فهذه الرتبة أعلى من الرتبة السابقة؛ لأنها تعتمد على العلل وعلى مآخذ الأدلة، أما الأولى فتعتمد على أقوال الفقهاء.

الثالث: من يعتمد على الأصول الشرعية كتابًا وسنة وكلما وردت إليه مسألة نظر في كتاب الله، وفي سنة نبيِّه بالقواعد الأصولية، فاستخرج الحكم منها، من الكتاب والسنة، وهؤلاء كالكبريت الأحمر، ووجودهم في الأمة قليل نادر، ولو يوجد في الزمان مئة من هؤلاء لكفوا الأمة، أسأل الله - جل وعلا - أن يكثر من هذا الصنف في أمة محمد إلى قيام الساعة، وأن يجعلكم من هذا الصنف.

إذا تقرر هذا فإن الكتاب والسنة فيهما نص على جميع المسائل؛ إما بذكر المسألة باسمها، أو بالإتيان بحكم عام يشمل مسائل متعددة كثيرة، ولذلك ما من مسألة إلا وفي كتاب الله حكمها، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، لكن قد يخفى النص في بعض المواطن على بعض الفقهاء، فيحتاج إلى إعمال القياس.

بعد ذلك اعتنى أهل العلم بالتأليف في فن يسمونه: تخريج الفروع على الأصول، بحيث يرجعون المسائل الفقهية الفرعية، إلى القواعد الأصولية، ولعل هذا ليس مراد المؤلف، فالأصول عنده إما القواعد أو النصوص، وقد ألَّف جماعات في تخريج الفروع على الأصول، وممن ألف في ذلك "الزنجاني" الشافعي المتوفى سنة 656 هـ، كتابه:"تخريج الفروع على الأصول"، و"ابن التلمساني" المالكي في "مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على =

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الأصول"، وممن ألَّفَ أيضًا "ابن اللحام" الحنبلي في كتابه "القواعد والفوائد الأصولية"، وممن ألَّفَ في هذا "التمرتاشي" الحنفي، وألَّفَ جماعة في هذا الباب.

ولكن يلاحظ عليهم أمور:

أولها: أن المسألة الفقهية تُبْنَى على أدلة كثيرة، فعند حصر المسألة الفقهية في دليل واحد يكون ذلك جورًا على بقية الأدلة الواردة في المسألة، ومثال ذلك: عندنا مسألة فقهية بنيت من قبل بعض العلماء، على دليل من شرع من قبلنا، وبينما المسألة فيها دليل آخر من الكتاب ودليل من السنة، فعندما تحصر المسألة الفقهية في شرع من قبلنا يكون كلامًا خاطئًا.

الأمر الثاني: أن كثيرًا من أهل العلم يُخرِّج المسائل أو الكلام الفقهي على الكلام الفقهي، أو يخرِّج ألفاظ الناس على الكلام الفقهي، فعندك مثلًا إذا قال الزوج: زوجتي طالق، فهنا هل تطلق جميع الزوجات، أو لا تطلق إلا زوجة واحدة؟ موطن خلاف، ذكر بعض العلماء أنها مخرجة على قاعدة: المفرد المضاف إلى معرفة هل يَعُمّ أو لا؟ حينئذ نقول: نحن لا نعتني أصالة في علم تخريج الفروع على الأصول بتخريج كلام الناس على الأصول، وإنما نعتني بتخريج المسائل الفقهية الشرعية على الأصول.

الأمر الثالث: أن كثيرًا منهم يخرِّج المسألة المتعلقة بالشروط على أصل التقعيد وإن كانت متفرعة على بعض شروط المسألة الأصولية، مثال هذا: عندنا مسألة: الأمر هل يفيد الوجوب أو لا؟ يأتي فقيه ويخرّج عليها مسألة الإشهاد في البيع، لقوله:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وفي الحقيقة هذه المسألة لا تخرَّج على قاعدة الأمر يفيد الوجوب، وإنما تخرَّج على قاعدة: هل وُجِدَت قرينة تصرف هذا الأمر عن أصله الذي هو الوجوب أم لا؟ والأولى في التخريج ربط المسائل بالأدلة، فالأصل أن تخرج المسائل الفقهية على النصوص، فإن عجز الإنسان عن ذلك خرَّجها على العلل والقواعد الفقهية.

ص: 144

من وراء الفقه

(1)

: التفقه، ومعتمله هو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(نَضَّر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها، ووعاها، فأدَّاها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)

[1]

.

قال ابن خير رحمه الله تعالى في فقه الحديث: "وفيه بيان أن الفقه هو الاستنباط والاستدراك في معاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه بيان وجوب التفقه، والبحث على معاني الحديث، واستخراج المكنون من سرِّه"

[2]

.

وللشيخين؛ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى، في ذلك القدح المعلى، ومن نظر في كتب هذين الإمامين، سلك به النظر فيها إلى التفقه طريقًا مستقيمًا

(2)

.

(1)

فقول المؤلف: "من وراء الفقه التفقه، فمنشأ حصول الفقه عندك هو التفقه، والتفقه والفقه هو الذي يجعلك تعلق الأحكام الشرعية بأدلتها وبعللها، وهو هذا الفقه الذي هو تعليق الحكم بدليله، وهو الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فالفقه هو الاستنباط، يعني: استخراج الحكم من الدليل، وهو التدقيق في معاني الكلام والفهم، يعني استخراج الفوائد من الكلام، وفي ضمن هذا الحديث أن التفقه واجب للحاجة إليه، والتفقه يكون بالبحث في معاني الحديث كتابًا وسنة، مما يدخل في التفقه، فمن معاني التفقه استنباط الفوائد، واستخراج الأحكام من الأدلة.

(2)

قوله: "وللشيخين في ذلك القدح المعلى"، ما هو القدح؟ السهم الذي يُدْرك محل السبق، وبعضهم يقول: هو الريش التي تكون في السهم أو في مقدمته. =

[1] أخرجه أحمد (4157)، والترمذي 10/ 124، وابن ماجه 1/ 85.

[2] فهرسة ابن خير ص 9.

ص: 145

ومن مليح كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله في مجلس للتفقه: "أما بعد: فقد كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام المشروعة

(1)

، تصويرًا

(2)

، وتقريرًا وتأصيلًا، وتفصيلًا، فوقع الكلام في

فأقول لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا مبني على أصل وفصلين .... ".

واعلم أرشدك الله أن بين يدي التفقه (التفكر)

(3)

؛ فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في غير آية من كتابه إلى التحرك بإحالة النظر العميق في (التفكر) في

= ومن نظر في كتب هذين الإمامين - شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - فإنه يستنبط منهما فوائد كثيرة؛ تقول: كيف فتح الله عليهم بهذه الفوائد؟!.

(1)

قوله: "قال ابن تيمية: (أما بعد: فقد كنا في مجلس التفقه في الدين والنظر في مدارك الأحكام) "، المدارك التي هي العلل والمعاني، وهي التي يُرْبَطُ الحكم بها.

(2)

قوله: "تصويرًا .. "، يعني معرفة صورة المسألة، وهذا أول ما تبدأ به، ثم بعد ذلك تبحث المسألة تقريرًا: أي تقرر هذه المسألة، ثم تأصيلًا: معرفة الأصل الذي ترجع إليه ومعرفة كيف انْبَنَتْ هذه المسألة على أصلها ثم تفصيلًا، أي تفرع المسائل على ذلك الأصل، فهذه أربع مراحل لفقه المسائل العلمية.

(3)

قوله: "بين التفقه (التفكر) "، (التفكر)، هو التأمل، فإنك قبل أن تحصل لك رتبة الفقه لا بد أن يسبقها تفكر، والله - جل وعلا - قد أمر عباده بالتفكر، سواء التفكر في الآيات الشرعية كتابًا وسنة، أو التفكر في الآيات الكونية. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]، والمراد بآياته في هذه الآية: الآيات الشرعية؛ لأن البيان وُجد في الكتاب والسنة، وحينئذٍ نعلم أن التفكر طريق للتفقه، لكن التفقه أعمق، فالتفكر وسيلة، والتفقه نتيجة، وقد عاب الله المنافقين بأنهم:{لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، ومن هنا فالتفقه مبني على الأدلة والبراهين، لكنه إذا حصل هناك هوى وتشهٍّ فإن الإنسان لن يفقه، فالتشهي والهوى مما يصد العقل عن التفقه.

ص: 146

ملكوت السماوات والأرض، وإلى أن يمعن المرء النظر في نفسه، وما حوله، فتحًا للقوى العقلية على مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان وتعميق الأحكام، والانتصار العلمي:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

وعليه فإنه "التفقه" أبعد مدى من "التفكر" إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].

لكن هذه التفقه محجوز بالبرهان محجور عن التشهي والهوى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

فيا أيها الطالب! تحلَّ بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه، لعلك أن تتجاوز من مرحلة الفقيه إلى فقيه النفس كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلِّق الأحكام بمداركها الشرعية، أو فقيه البدن كما في اصطلاح المحدثين

(1)

.

(1)

قوله: "فيا أيها الطالب، تحَلَّ بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه"، وحينئذ تصل إلى مرحلة فقيه النفس، والناظر في الأحكام الشرعية يجد أن الفقهاء على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الفقيه الذي ينظر في جزئيات المسائل ويتقنها، فمِثْلُ هذا قد يسمونه بالفقيه، ولكنه لا يجوز له استنباط الأحكام من الأدلة.

والنوع الثاني: من يتجاوز الجزئيات إلى الكلِّيات، فيُحَصِّل كليات الشريعة، فهذا يتمكن من التخريج والتفقه، ولكن قد يخطئ كثيرًا؛ لأنه يَغْفَل عن جزئيات تُرَتَّب عليها كُلِّيَّات.

الثالث: من أدرك الجزئيات والكليات، وهذا هو فقيه الناس.

ص: 147

فأجِلِ النظرَ عند الواردات بتخريج الفروع على الأصول، وتمام العناية بالقواعد والضوابط

(1)

.

وأجمع النظر في فرع ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام من قواعدها وأصولها المطردة، كقواعد المصالح، ودفع الضرر والمشقة، وجلب التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع

(2)

.

= قال المؤلف في تفسير التفكير "هو التحرك بإجالة النظر"، يعني تقليب النظر الذي يجعل العقل يجول؛ ليصل إلى المكان العميق في التفكر.

(1)

قوله: "فأجل النظر عند الواردات"، يعني المسائل الجديدة. "بتخريج"، هذه الواردات على أصولها، ومما يُعِينُك على ذلك: ضبطك للقواعد الفقهية والضوابط.

(2)

وذكر المؤلف شيئًا من الكليات، ومنها:"المصالح، ودفع الضرر والمشقة، وجلب التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع"، هذه كلها من القواعد الكلية، والمراد بالمصالح المعتبرة، وسبق أن ذكرنا أن الشرع ينقسم إلى كليات وجزئيات، من حَصَّلَ الجزئيات ولم يحصِّل الكليات لا يجوز له أن يجتهد، وليس مؤهلًا للاجتهاد والفتوى.

والثاني: من تجاوز الجزئيات إلى معرفة الكليات لكنه لم يُحِط بالجزئيات، فهذا يجوز له الاجتهاد، لكن كثيرًا ما يخطئ؛ لأنه يَخْفَى عليه بعض الجزئيات التي تخالف تأصيله، مثال هذا: ما هي المعاني في باب صلاة الجمعة، وما مقصد الشارع من هذا الباب؟ مقصد الشارع من اجتماع الناس، فقد يأتيك فقيه فيقول: قد نؤخِّر صلاة الجمعة عن أول الوقت، فالمستَحَبّ أن يؤخر صلاة الجمعة عن أول الوقت إذا كان هناك عَمَل، أو كان هناك شغل، فحينئذٍ نقول: هذا اجتهاد جيد، لكن مرة قد يوجد من نظر إلى المعنى الكلي، وغفل عن المعاني الجزئية فيقول: الناس لا يتمكنون من الاجتماع يوم الجمعة في دول =

ص: 148

وهكذا هديت لرشدك أبدًا، فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق.

وعليك بالتفقه - كما أسلفت - في نصوص الشرع، والتبصر فيما يَحُفّ أحوال التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة

(1)

، فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك فإن وقتك ضائع، وإن اسم الجهل عليك لواقع

(2)

.

= الغرب لانشغالهم بالوظائف، ويوم الإجازة هو يوم الأحد، فمراعاة لمقصد الشريعة الكلي في اجتماع الناس نجعل صلاة الجمعة يوم الأحد، فهنا وقعنا في خطأ؛ لأننا راعينا الكلي ولم نلحظ الجزئي.

وهكذا أيضًا فيما يتعلق بدفع الضرر، أو بجلب التيسير، أو بالحيل أو الذرائع، لابد من ملاحظة الأمرين معًا، الكلي والجزئي، إن لاحظنا الجزئي وقعنا في الغلط، وصادمنا كليات الشريعة، وإن لاحظنا الكلي وحده قد نقع في خطأ؛ لأننا قد لا نلتفت إلى جزئي حضر فيه كلي آخر، لأننا لو جعلنا صلاة الجمعة يوم الأحد لأدى ذلك إلى تغيير مراتب الشرع، وانطماس الشريعة بالكلية، وكلما كانت هناك مسألة ذهبنا نغير في الشرع من أجل هذه المسألة، صحيح إننا التفتنا إلى كلي، لكن غفلنا عن كلي أهم وأولى منه، وما ذاك إلا لأننا غفلنا عن الجزئيات.

(1)

في هذا الباب دعا المؤلف إلى التفقه في نصوص الشرع، وهذا أعلى من التفقه في القواعد، وأعلى من التفقه في المقاصد والكليات الشرعية.

(2)

قوله: "فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك"، يعني انتقل وتركك، "فإن وقتك ضائع"، هذه المعاني؛ وهي تخريج الفروع على الأصول والتفقه هي التي تعطيك التمييز الدقيق، يعني الفصل بين المسائل المختلفة باختلاف عللها ومداركها، وهو الذي يعطيك المعيار الصحيح الذي تحكم به على المسائل، وعلى المتكلمين في الحكم.

ص: 149

وهذه الخلة بالذات هي التي تعطيك التميز الدقيق والمعيار الصحيح لمدى التحصيل والقدرة على التخريج، فالفقيه

(1)

هو من تعرض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكمًا

(2)

.

والبلاغي ليس من يذكر لك أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسري بصيرته البلاغية من كتاب الله مثلًا، فيخرج من مكنون علومه وجوهها وإن كتب أو خطب؛ نظم لك عقدها. وهكذا في العلوم كافة

(3)

.

(1)

قوله: "فالفقيه هو من تُعْرَض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكمًا من النصوص"، هذا هو الفقيه، لكن لا بد أن يعرف الأصول؛ أي: النصوص الشرعية، ويعرف قواعد الاستنباط ويتمكن من تخريجها.

(2)

وقوله: "لا نص فيها" مراده لم يعرف الناس النص في تلك المسألة، وإلا ما من مسألة إلا وفيها نص، لكن في بعض المواطن تخْفَى بعض النصوص على بعض الفقهاء، فيحتاجون إلى إعمال التخريج وإعمال القياس.

ومن حَفِظ القواعد الأصولية ولم يتمكن من تطبيقها فهو ليس بأصولي، هكذا من حفظ الفروع الفقهية، لكنه لا يتمكن من استخرج أحكامها من النصوص، فهذا ليس بفقيه، إنما هو فروعي، ولو حفظ المغني، أو حفظ المنتهى، أو حفظ زاد المستقنع، والروض، لكنه لا يعرف استخراج أحكام المسائل الجديدة من الأدلة فهذا ليس بفقيه، بل هذا فروعي.

(3)

قوله: "البلاغي ليس من يذكر لك .. "، هكذا أيضًا في مصطلح البلاغي أو النحوي، لو وجد إنسان حفظ قواعد النحو ولكنه لا يستطيع أن يطبقها، ولا يستطيع أن يستخرج الخطأ، ولا يستطيع أن يفهم من خلال قواعد النحو كلام الله وكلام رسوله، وكلام الناس، فحينئذ هذا ليس بنحوي، هكذا مثله الفقيه الذي لا يعرف كيفية الاستنباط فهذا ليس بفقيه.

ص: 150

(31) اللجوء إلى الله تعالى في الطلب والتحصيل

(1)

:

لا تفزع

(2)

إذا لم يُفْتَح لك في علم من العلوم، فقد تعاصت بعض العلوم على بعض الأعلام المشاهير

(3)

، ومنهم من صرح بذلك كما يعلم من تراجمهم، ومنهم: الأصمعي في علم العروض، والرهاوي المحدث في الخط، وابن الصلاح في المنطق، وأبو مسلم في علم التصريف، والسيوطي في الحساب، وأبو عبيدة، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري، وأبو الحسن القطيعي، وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، وأبو حامد الغزالي، خمستهم لم يفتح لهم بالنحو.

(1)

هذا الأدب متعلق بصعوبة ببعض المسائل أو بعض الفنون، هل تكون عائقًا لطالب العلم عن مواصلة العلم؟ أقول: لا يحسن أن يكون ذلك عائقًا عن مواصلة العلم، لماذا؟ لأنه:

أولًا: طلب العلم لله، فمقصوده الأساسي هو الأجر والثواب، وهذا حاصل على كل حال، ولو لم يفهم العلم.

ثانيًا: العلم مسائل متعددة، وفنون مختلفة، فإذا استعصى عليك فن وفهمت غيره، أو استعصت عليك مسألة وفهمت غيرها فحينئذ أنت قد حصلت، ولا لوم عليك في ذلك.

(2)

فقوله: "لا تفزع"، أي: لا تحزن، ولا يصدنك عن طلب العلم كونك لم تفهم علمًا من العلوم، ما لم تفهمه تجاوزه إلى غيره.

(3)

قوله: "لا تفزع إذا لم يفتح لك في علم من العلوم، فقد تعاصت بعض العلوم على بعض الأعلام المشاهير"، أي: ماذا نفعل عند استعصاء بعض العلوم؟

أولًا: نواصل العلم والتعلُّم في بقية العلوم وبقية المسائل، وهذه المسألة التي استشكلت علينا نتركها حتى يأتي وقت فهمها، فكونك تريد فهم مسألة، فتعيقك عن =

ص: 151

فيا أيها الطالب! ضاعف الرغبة

(1)

، وافزع إلى الله في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كثيرًا ما يقول في دعائه، إذا استعصى عليه تفسير آية من كتاب الله تعالى:"اللهم يا معلم آدم وإبراهيم علِّمني، ويا مفهِّم سليمان فهِّمني"، فيجد الفتح في ذلك

[1]

.

= فهم بقية المسائل، فهذا ليس من العقل في شيء، فاتركها إلى غيرها من المسائل حتى يأتي سبيل فهمها.

الثاني: الاتصال بالعلماء الفاهمين الناصحين وهم سيشرحون لك هذه المسألة، ويبينونها لك.

الثالث: مراجعة كتب أهل العلم الأخرى، فإنها تسهِّل لك الفهم، فقد يتكلم الإنسان بجملة غير مفهومه في موطن، ويتكلم إنسان آخر عن هذا المعنى في كتاب آخر بأسلوب واضح سهل.

الأمر الرابع: التوكل على الله وحسن اللجوء إليه بأن يُعلِّمك ويُفهِّمك، والله قد وعد بإجابة الداعين، ومما يتعلق بهذا طلب العبد من ربه - جل وعلا - أن يزيده من العلم، كما قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

لهذا نجد بعض الأئمة عسر عليم فهم بعض العلوم، فلم يصدهم ذلك عن التعلم، بل أصبحوا أئمة علماء مشهورين في فنون أخرى غير الفنون التي استعصت عليهم، وقد ذكر المؤلف نماذج.

(1)

قوله: "ضاعف الرغبة، وافزع إلى الله في الدعاء .. "، على طالب العلم أن يتقرب إلى الله بالسؤال والتضرع بين يديه أن يفهمه ما استشكل عليه، وكان من الأدعية: (اللهم =

[1] إعلام الموقعين 4/ 257، المستدرك على مجموع الفتاوى 5/ 250.

ص: 152

(32) الأمانة العلمية

(1)

:

يجب على طالب العلم فائق التحلي بالأمانة العلمية، في الطلب، والتحمل، والعمل والبلاغ، والأداء.

= إني أسألك فهم النبيين، وحفظ المرسلين، والملائكة المقربين)

[1]

.

وكم من إمام عرضت له هذه المسائل وهذه الإشكالات فلجأ إلى الله، وإلى الصلاة؛ فسَهُل له ما استعصى عليه، وقد قال ابن عمر:(مكثتُ السنين في حفظ سورة البقرة)

[2]

، فلم ينقص هذا من مكانته، بل هو من أجل علماء الأمة، وقال الإمام أحمد:"جلست تسع سنوات أدْرس باب الحيض"، وما ذاك إلا أنه استعصى عليهم العلم، فقَلَّبوا النظر وكرَّرُوه وأعادوه حتى فهموه.

(1)

الصفة الثانية والثلاثون من صفات طالب العلم الأمانة العلمية، بحيث لا يكون كاذبًا في نسبة شيء إلى نفسه وهو من كلام غيره، ولا يكون كذلك خائنًا، فيما يتعلق بعمله، فلا يُعْطِي ولا يتكلَّم إلا بما يظُنّ أنه الصواب والصحيح، فالأمانة العلمية مطلوبة في النقل، وفي الحديث والتكلم وقد جاءت النصوص بالترغيب في الأمانة وفي حفظها، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] وحذرت الشريعة من الخيانة، فمن خصال المنافق أنه إذا عاهد غدر، وأنه إذا اؤتمن خان

[3]

.

[1] موطأ مالك برواية يحيى الليثي، (479)، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 163، شعب الإيمان للبيهقي (1956)، 2/ 330.

[2] حاشية الروض المربع لابن قاسم 1/ 369.

[3] أخرجه البخاري (34) كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، ومسلم (58)، كتاب الإيمان، باب خصال المنافق.

ص: 153

"فإن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها في أن يكون رجالها أمناء فيما يروون أو يصفون، فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مس العلم بقرحة، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة

(1)

.

لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص لا يطلبون العلم ليتحلوا بأسنى فضيلة، أو لينفعوا الناس بما عرفوا من حكمة، وأمثال هؤلاء لا تجد الأمانة في نفوسهم مستقرًا، فلا يتحرجون أن يرووا ما لم يسمعوا، أو يصفوا ما لم يعلموا، وهذا ما كان يدعو جهابدة أهل العلم إلى نقد الرجال، وتمييز من يُسْرِف في القول ممن يصوغه على قدر ما يعلم، حتى أصبح طلاب العلم على بصيرة من قيمة ما يقرؤونه، فلا تخفى عليهم منزلته من القطع بصدقة أو كذبة أو رجحان أحدهما على الآخر، أو احتمالهما على سواء"

(2)

.

= ونهت الشريعة عن الخيانة في الحديث: (لكلِّ غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غَدْرَةُ فلان)

[1]

.

إذا تقرر هذا؛ فإن الأمانة تكون في الطلب، وتكون في وقت التحمُّل والحفظ، وتكون في وقت العمل، وتكون في أثناء الدعوة والبلاغ.

(1)

قوله: "فمن تحدث في العلم بغير أمانة، فقد مس العلم بقرحة"، القُرْحَة مرض باطني يكون في المعدة، يصيبها فيجعلها لا تتمكن من هضم الطعام، فمن تحدَّث في العلم بغير أمانة فإنه سيشوش على الناس، "ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة".

(2)

قوله: "لا تخلو الطوائف المنتمية إلى العلوم من أشخاص."، أي: طوائف يتعلمون العلم لأهداف غير مقبولة، فهم لا يتعلمون العلم ليتحلوا بالفضائل ويتخلقوا بها، وهم =

[1] أخرجه البخاري (7111)، ومسلم (1736)، والترمذي (2191).

ص: 154

(33) الصدق

(1)

:

صدق اللهجة: عنوان الوقار، وشرف النفس ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، ورسول المودة مع الخلق، وسعادة الجماعة، وصيانة الديانة، ولهذا كان فرض عين، فيا خيبة من فرط فيه! ومن فعل فقد مس نفسه وعلمه بأذى.

= لم يتعلموا الله، وهم لا يتعلمون العلم لنفع الناس وتعليمهم، فحينئذ لن توجد أمانة علمية عندهم، وبعض الناس يحاول أن يمدح نفسه بنسبة أفعال جميلة للآخرين إليه، وفي الحديث:(المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)

[1]

، وهذا هو الذي جعل بعض الأئمة يتكلم في بعض الرواة قدحًا، وكلما وجدوا شخصًا ألف أو روى تكلموا فيه ببيان مواطن خطئه ومواطن تعثره، ليصبح الطلاب على بصيرة من قيمة هذه المقروءات والمسموعات.

(1)

هذا هو الأدب الثالث والثلاثون من أدب طالب العلم: الصدق، قد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:(عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)

[2]

، ويقول صلى الله عليه وسلم:(الصدق طمأنينة والكذب ريبة)

[3]

، والصدق له صلة بالأمانة، فإن غَيْر الأمين غير صادق، ونضرب لهذا مثلًا: من قال: إن الفقيه الفلاني لا يقول بكذا، وهو لم يتأكد أو يعرف خلافه، فحينئذ ليس بصادق ولا بأمين، وصِدْق اللهجة ينتج عنه أمور:

[1] أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2129).

[2] أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607)، والترمذي (1971)، وأبو داود (4989).

[3] أخرجه الترمذي (2518).

ص: 155

قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: "تعلم الصدق قبل أن تتعلم العلم"

[1]

، وقال وكيع رحمه الله تعالى:"هذه الصنعة لا يرتفع فيها إلا صادق"

(1)

[2]

.

فتعلم - رحمك الله - الصدق قبل أن تتعلَّم العلم والصدق: إلقاء الكلام على وجهٍ مطابق للواقع والاعتقاد، فالصدق من طريق واحد، أما نقيضه الكذب فضروب وألوان ومسالك وأودية، يجمعها ثلاثة

(2)

:

= أولها: رضا رب العزة والجلال، وتحصيل التقوى.

وثانيها: أن الصدق سبب لتوقير الخلق للإنسان، وقبولهم ما جاء به.

وثالثها: أن الصدق يحصل به الشرف وطمأنينة النفس ونقاء السريرة، وسمو الهمة، والصدق يحصُلُ به رجحان، العقل، ويحصل به محبة الخلق، ويحصل به صيانة الديانة.

(1)

قوله: "قال الأوزاعي: (تعلم الصدق قبل أن تتعلم الحديث) وقال وكيع: (هذه صناعة لا يرتفع فيها إلا صادق) "، يعني لا يُحَصّل فيها العلم إلا صادق، ومن هنا يُقدَّم تعويد النفس على الصدق على طلب العلم، والصدق يكون بأمرين: موافقة الواقع، وموافقة الاعتقاد، فلو كنت أظن أن زيدًا ليس وراء الجدار، وقلت: زيد وراء الجدار، وكان - حقيقةً - زيد وراء الجدار، حينئذ هذا يخالف الاعتقاد، لكنه لا يخالف الواقع فهذا كذب، مثال هذا: رأى أخته حاملًا، فقال في بطنها ولد ذكر، فولدت وأصبح ولدًا ذكرًا، نقول هنا: هذا كلام كاذب، وهو وإن وافق الواقع لكنه يخالف الاعتقاد، وبالتالي يكون كلامًا كذبًا.

(2)

قوله: "وأودية، يجمعها ثلاثة .. " قسَّم المؤلف الكذب ثلاثة أقسام:

[1] الجامع للخطيب 1/ 303 (655).

[2] الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع للخطيب 2/ 6 (1009).

ص: 156

1 -

كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقًا أو مبتدعًا فيصفه بالاستقامة

(1)

.

2 -

وكذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع، كالمنافق ينطق بما يقوله أهل السنة والهداية

(2)

.

3 -

وكذب الغبي: بما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد، كمن يعتقد صلاح صوفي مُبتدع فيصفه بالولاية، فالزم الجادة (الصدق)

(3)

(1)

قوله: "كذب المتملق": وهو الذي يعتقد أن كلامه باطل، ويكون كلامه مخالفًا للواقع، مثال ذلك: محمد قابله شخص بينه وبينه عداوة، فقال له: إني أحبك، وفي الحقيقة هو لا يحبه، حينئذ هو مخالف للواقع ومخالف للاعتقاد، فهذا إذن متملق.

(2)

قوله: "كذب المنافق": المنافق يقول: الدعاة صادقون، نافعون للأمة، لكن في نفسه يقول: والله ما لهم فائدة، فهو يقول: الدعاة صادقون نافعون للأمة بلسانه، لكن في قلبه يقول: ضيقوا على الناس، فحينئذ نقول: هذا منافق كاذب؛ لأنه تكلم بكلام يوافق الواقع، لكنه يخالف اعتقاده.

(3)

قوله: "كذب الغبي بما يخالف الواقع": ومثال ذلك: رجل يظن أن محمدًا خلف الجدار، فقال: محمد خلف الجدار، لكنه لم يكن خلف الجدار، كذلك من اعتقد أن الصوفي المبتدع صالح، ووصفه بالولاية، هذا يخالف الواقع؛ لأن شرط الولاية الإيمان والتقوى، كما في قوله سبحانه:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62)، لو جاءك صوفي يقول باطراح التكاليف، فحينئذ نقول: هذا المتكلم مخالف للواقع، لكنه يطابق اعتقاده، فيكون هذا من الكذب.

ص: 157

فلا تضغط على عَكَدِ اللسان

(1)

، ولا تضم شفتيك، ولا تفتح فاك ناطقًا إلا على حروف تُعَبِّر عن إحساسك الصادق في الباطن، كالحب والبغض، أو إحساسك في الظاهر

(2)

، كالذي تدركه الحواس الخمس السمع والبصر، والشم والذوق واللمس.

فالصادق لا يقول: "أحببتك" وهو مبغض

(3)

، ولا يقول:"سمعت" هو لم يَسْمَعْ، وهكذا. واحذر أن تحوم حولك الظنون فتخونك العزيمة في صدق اللهجة، فتُسجل في قائمة الكذابين

(4)

.

(1)

قوله: "فلا تضغط على عَكد اللسان"، أي: يضم أجزاء اللسان يعني بالكذب.

(2)

قوله: "ولا تضم شفتيك، ولا تفتح فاك ناطقًا .. "، فاك يعني: الفم، ولا تتكلم إلا بالصدق. ولا تنطق "إلا على حروف تُعبِّر عن إحساسك الصادق في الباطن، كالحب والبغض، أو إحساسك في الظاهر"، سواء أدركته بالحواس الخمس، أو أدركته بواسطة الاستدلال.

(3)

قوله: "فالصادق لا يقول: "أحببتك" وهو مبغض"، هذا من أي أنواع الكذب؟ هذا متملق، يخالف الواقع والاعتقاد.

(4)

قوله: "ولا يقول: سمعت وهو لم يسمع، واحذر أن تحوم حولك الظنون"، فيتهموك بالكذب، وحينئذ لا يُقْبَل منك، وبالتالي تصبح من الكذبة، قد يقول القائل: كيف أدرِّب نفسي على الصدق وترك الكذب، فنقول: يحصل هذا بأمور:

أولًا: استحضار أن الله أمرك بذلك.

ثانيًا: بمعرفة رذيلة الكذب، وفضيلة الصدق.

ثالثًا: بالنظر في أحوال أهل الصدق والكذبة، فأهل الصدق نصرهم الله وأيَّدهم، وأهل الكذب خذلهم الله.

ص: 158

وطريق الضمانة لهذا - إذا نازعتك نفسك بكلام غير صادق فيه -: أن تقهرها بذكر منزلة الصدق وشرفه، ورذيلة الكذب ودركه، وأن الكاذب عن قريب ينكشف.

واستعن بالله ولا تعجزن، ولا تفتح لنفس سابلة المعاريض في غير ما حصره الشرع.

فيا طالب العلم! احذر أن تمرق من الصدق إلى المعاريض فالكذب، وأسوأ مرامي هذه المروق (الكذب في العلم) لداء منافسة الأقران، وطيران السمعة في الآفاق

(1)

.

(1)

قوله: "سابلة المعاريض .. "، المعاريض: أن تتكلم بكلام له معنيان:

أحدهما: معنى يفهمه غيره، لكنه غير واقع، وتريد غيرك يصدقك.

والثاني: خفي موافق لما في الخارج لا تريد من غيرك فهمه.

جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في المعاريض مندوحة عن الكذب)

[1]

، نمثل للمعارض لما سألته هذا أخوك؟ - وهو ليس ابن أبيه ولا أمه - قال: نعم، وأراد أخوة الإسلام، فالظاهر أني لما سألت: هل هذا أخوك؟ أريد الأخوة من النسب، فلما قال: نعم، حينئذ أوهمني بأن المراد الأخوة النسبية، وكان مراده الأخوة الإيمانية.

ما حكم المعاريض؟ المعاريض على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: إذا كان سيتوصل بها إلى إبطال الحقوق وأكل أموال الناس فهي حرام، قال: أشهد بالله أن ما له عند زيد شيء، هذه العبارة تنفي وجود الحق، لكن لما عُدنا إليه سألناه قال: أنا أقصد (ما) الموصولة، فقولي:(ما له) يعني الذي له على زيد شيء، هذا من المعاريض، وتوصلنا به إلى إبطال حق، فيكون محرمًا، كذلك المعاريض في الأيمان لا تجوز =

[1] أخرجه ابن السني مرفوعًا في عمل اليوم والليلة (327).

ص: 159

ومن تطلع إلى سمعة فوق منزلته فليعلم أن في المرصاد رجالًا يحملون بصائر نافذة، وأقلامًا، ناقدة فيزنون السمعة بالأثر، فتتم تعريتك عن ثلاث معان:

الأول: فقد الثقة من القلوب.

الثاني: ذهاب علمك وانحسار القبول.

الثالث: أن لا تُصَدَّق ولو صدقت

(1)

.

وبالجملة فمن يحترف زخرف القول، فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى. والله أعلم.

= لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يُصدِّقُك به صاحبك)

[1]

.

النوع الثاني: المعاريض التي يتوصل بها إلى إحقاق حق، أو إصلاح بين اثنين، أو إبطال خصومة، هذه مشروعة، ويؤجر الإنسان عليها إن شاء الله.

النوع الثالث: معاريض للتخلص من إحراج الآخرين بدون أن تؤثر على حقوقهم، فهي جائزة لكنها ليست من طبائع أهل العلم.

بعض الناس يكذب في المسائل العلمية ليكون له مكانة ومنزلة، فيقول: أنا وجدت الكتاب الفلاني، وهو ما قرأه ولا اطلع عليه فهذا كذب! لا يُبَارك له في كلامه.

(1)

قوله: "ومن تطلَّع إلى سمعة فوق منزلته"، فإن الله سيعاقبه، وما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع والكذب يورث أمورًا:

أولها: عدم الثقة في الكاذب، إذا كذب أول مرة، فاحتمال أن يكذب مرة ثانية.

ثانيها: ذهاب بركة علمه، بل قد يؤدي إلى زوال العلم بالكلية.

والثالث: عدم قبول الناس وعدم تصديق الناس لكلامه فالساحر يُظهر للناس أمورًا مخالفة للحق والواقع، حينئذ كان فيه شبه من الكاذب، ولذلك قارن المؤلف بينهما.

[1] أخرجه مسلم (1653)، وأحمد (7119)، وأبو داود (3255)، وابن ماجه (2121).

ص: 160

(34) جنة طالب العلم

(1)

:

جنة العالم (لا أدري)، ويهتك حجابه الاستنكاف منها، وقوله: يقال: .... وعليه، فإن كان نصف العلم (لا أدري) فنصف الجهل:(يُقال) و (أظن).

(1)

جُنة طالب العلم، هذا هو الأدب الرابع والثلاثون والجنة الوقاية، إذا كان على بدنك حديد يحميك في المعارك يسمونها واقية الرصاص، هذه الجنة مثل واقية الرصاص، ما الذي يقي طالب العلم من الشرور؟ كلمة: لا أدري، فإذا سُئِل عن مسألة وهو لا يعرفها، قال: لا أدري.

ولقد كان الأئمة يحرصون على هذا الورع في الفتوى والعلم، قال قائلهم من أخطأ لا أدري أصيبت مقاتله، يعني: أنه أصيب في المحل الذي يموت منه.

سئل الإمام مالك عن ست وثلاثين مسألة: فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري، وأجاب في أربع، قيل للإمام مالك في مسألة فقال: لا أدري قال: أتيت إليك من مصر، وقد سأل أهلها عن هذه المسألة، قال: أخبِرْ من وراءك أن مالكًا لا يدري، هل أنقَصَ ذلك من درجة الإمام مالك؟! هل قلَّل من قيمته وإمامته؟! لا والله، بل زاده إمامة وقيمة، ومن هنا لما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال:(ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)، يعني: لا أعلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المسألة فلا يجيب، ينتظر الوحي فكيف بغيره، وإذا كان من كان كذلك يتوقف في الجواب عن مسائل، فكيف بنا نحن؟! ومن هنا لا يستحيي الواحد منا أن يقول: لا أدري.

ومثله ومثل كلمة (لا أدري): الجُمَل الأخرى التي تماثلها، مثل: هذه المسألة تحتاج إلى بحث ولم أبحثها، تحتاج إلى تقليب نَظَر، إذا استنكف الإنسان من هذه الكلمة بمعنى أنه تركها تكبرًا عليها، وظن أنها من أسباب التنقص، فحينئذ وقع في الجهل، وخُشي عليه أن يكون ممن يقول على الله بلا علم.

ص: 161

(35) المحافظة على رأس مالك (ساعات عمرك)

(1)

:

الوقت، الوقت للتحصيل، فكن حِلْفَ عمل لا حِلْفَ بطالة وبَطَر، وحِلْسَ معمل لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسمر

(2)

، فالحفظ على الوقت بالجد والاجتهاد

(1)

الله - جل وعلا - خلقنا من أجل غاية؛ وهي عبادته - جل وعلا -، كما في قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومن أعلى درجات العبادة: طلب العلم، ومن هنا فاستعمل حياتك فيما خُلقت له، واستعمل جميع وقتك من أجل الهدف والغاية التي خُلِقت من أجلها، ثم إنك سَتَرِدُ على رب العزة والجلال، وسيسألك عن كل أعمالك، وجميع أوقاتك، ماذا عملت فيها؟

[1]

، حينئذ استعمل هذا الوقت في العمل الذي يكون سببًا لفلاحك ونجاحك، ومن ثم يترك الإنسان تضييع الأوقات فيما لا يفيد.

كان بعض الأئمة يحرص على استعمال وقته فيما يفيد، ولا يترك منه شيئًا، حتى إن المجد بن تيمية جد شيخ الإسلام كان يُقرأ عليه العلم عند قضائه للحاجة

[2]

، لا يريد أن يُفَوِّت وقته، وبعضهم كان إذا جاءه الأضياف يحرص على أن يشتغل ببري القلم عند أضيافه؛ لئلا يضيع شيء من وقته، والشواهد في هذا كثيرة، ومن هنا فاحفظ عمرك.

(2)

قوله: "فكن حلف عمل لا حلف بطالة وبطر"، الحلف هو العقد الذي يعقده الإنسان، فاعقد نفسك مع الأعمال حتى تنتج وتثمر، ولا تكن مع البطالة، وهي ترك العمل، والبطر الذي هو تضييع الوقت وجحد هذه النعمة، وحينئذ كن "حلس معمل"، والحلس هو المرابط، "ولا تكن حلس تلهٍّ وسمر"، فالتلهي ابتعد عنه، والسمر الذي لا يفيدك ابتعد عنه، فالمحافظة على الوقت يكون بالجد والاجتهاد.

[1] أخرجه الترمذي (2417).

[2] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 284.

ص: 162

وملازمة الطلب ومثافنة الأشياخ

(1)

، والاشتغال بالعلم قراءة

(2)

وإقراء

(3)

، ومطالعة وتدبرًا وحفظًا وبحثًا، لاسيما في أوقات شرخ الشباب

(4)

ومقتبل العمر

(5)

، ومعدن العاقبة، فاغتنم هذه الفرصة الغالية، لتنال رتب العلم العالية، فإنها "وقت جمع القلب، واجتماع الفكر"، لقلة الشواغل والصوارف عن التزامات الحياة والترؤس

(6)

، ولخفة الظهر والعيال.

(1)

قوله: "وملازمة الطلب، ومثافنة الأشياخ"، بملازمتهم ومجالستهم حتى تكون قريبًا منهم.

(2)

قوله: "والاشتغال بالعلم قراءة"، أي: يقرأ لنفسه.

(3)

قوله: "وإقراءً"، أي: يقرأ لغيره، أو يُقرأ عليه.

(4)

قوله: "ومطالعة وتدبرًا وفهمًا وحفظًا، وبحثًا وخصوصًا في أوقات شرخ الشباب"، ووقت أول الشباب أدْعَى بأن تحفظه.

(5)

قوله: "ومقتبل العمر"، وبذلك إذا اغتنمت الوقت حصلت على رتب العلم العالية، فوقت الشباب هو وقت اجتماع القلب، ليس عندك مشغلات كثيرة تشغل قلبك وتجعلك تنسى، ووقت الشباب هو وقت اجتماع الفكر.

(6)

قوله: "لقلة الشواغل والصوارف .. " ليس عند الشباب عيال، ولا عنده حوائج يُشغل بها، ولا يهتم بقضايا عامة أو خاصة، ومن ثم اجتنب التسويف، أيها الشباب وبادر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(بادروا بالأعمال ستًا، ما تنتظرون إلا غنى مُطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو كبرًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر منتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمر)

[1]

، وقال:(بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم)

[2]

. إذا بادر الإنسان أعمال الطاعة، ومنها طلب العلم، فهذا شاهد وجود كِبَر الهمة لديه.

[1] أخرجه الترمذي (2306)، والطبراني في المعجم الأوسط (8498).

[2] أخرجه. مسلم (186).

ص: 163

ما للمعيل وللعوالي إنما

يسعى إليهن الفريدُ الفارد

(1)

وإياك وتأمير التسويف على نفسك، فلا تسوف لنفسك بعد الفراغ من كذا، وبعد (التقاعد) من العمل هذا

وهكذا، بل البدار قبل أن يصدق عليك قول أبي الطحان القيني:

حنتني حانيات الدهر حتى

كأني خاتل أدنو لصيد

قصير الخطو يحسب من رآني

ولست مقيدًا أني بقيد

وقال أسامة بن منقذ:

مع الثمانين عاث الضعف في جسدي

وسائني ضعف رجلي واضطراب يدي

إذا كتبت فخطي خط مضطرب

كخط مرتعش الكفين مرتعد

فاعجب لضعف يدي عن حملها قَلَمًا

من بعد حمل القنا في لَبَّةِ الأسَدِ

فقل لمن يتمنى طول مدته

هذي عواقب طول العمر والمُدَد

فإن أعملت البدار، فهذا شاهد منك على أنك تحمل "كبر الهمة في العلم".

(1)

قوله: "ما للمعيل .. "، المعيل: كثير العيال والعوالي: المنازل الرفيعة، ولا تنافي بين ما ذكره المؤلف والزواج، بل الزواج من أسباب استقرار النفس، ومن ثم كثرة اشتغاله بالعلم، واستيعابه له.

ص: 164

(36) إجمام النفس

(1)

:

خذ من وقتك سويعات تجم بها نفسك في رياض العلم من كتب المحاضرات (الثقافة العامة)، فإن القلوب يروح عنها ساعة فساعة.

وفي المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (أجمعوا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان)

(2)

.

(1)

هذا هو الأدب السادس والثلاثون من آداب طالب العلم: إجمام النفس؛ بحيث لا يحملها على شيء في جميع الأوقات فتمل منه، وكذلك لا يتعب نفسه تعبًا يجعلها تصبح لا تميز العلوم، فإن من جعل نومه قليلًا أقل مما تحتاج إليه نفسه ضعفت نفسه، ولم يستطع التركيز والبحث، وهكذا من لم يَطْعَم الطعام الذي يغذيه، فإن نفسه تضعف، وبالتالي يكل، ولا يتمكن من الفهم، ومن مواصلة التعلم، وشاهد هذا كثير في النصوص الشرعية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن المُنبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى)

[1]

، المنبت الذي يركب ناقته ويسير بها ويواصل بدون أن يرتاح، فحينئذ يُتعب ناقته فتعجز في نصف الطريق، فيكون لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، وجاء في الحديث؛ حديث النفر الثلاثة الذين قال قائلهم: أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أقوم ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فعتب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(أما والله إني لأخشاكم الله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)

[2]

.

(2)

قوله: "وفي المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: .... "، وكذلك النظر في بعض النكت والطرائف حتى تنشط نفسك، والنكت: هي الأمور الغريبة؛ والطرائف هي التي تتحرك لها النفس وتطرب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما جاء منه المزاح، قال

[1] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4743).

[2] أخرجه البخاري (5063).

ص: 165

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في حكمة النهي عن التطوع في مطلق الأوقات

(1)

: "بل في النهي بل في النهي عنه بعض الأوقات مصالح أخر، من إجمام النفوس بعض الأوقات، مِنْ ثِقَل العبادة، كما يجم بالنوم وغيره، ولهذا قال معاذ: إني لأحتسب نومتي، كما أحتسب قومتي

"

[1]

.

وقال: "بل قد قيل: إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض الأوقات: إجمام النفوس في وقت النهي لتنشط للصلاة، فإنها تنبسط إلى ما كانت ممنوعة منه، وتنشط للصلاة بعد الراحة. والله أعلم)

[2]

ا. هـ

= علي: (أجموا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل)

[3]

.

(1)

قوله: "قول ابن تيمية: في حكمة النهي في التطوع المطلق في بعض الأوقات"، وشاهد هذا أيضًا في منع المكلف من العبادة في بعض الأوقات من أجل ألا يتعب نفسه، وانظر إلى حديث عبد الله بن عمرو لما كان يصوم ولا يفطر، وكان يقوم حتى أثر ذلك على نفسه، فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عبادته، ثم بعد ذلك أرشده إلى ترك مواصلة العبادة، بحيث يجعل وقتًا للراحة، ولا يشق على نفسه، وانظر في حديث تلك المرأة (زينب) التي كانت تضع حبلًا في المسجد حتى إذا تعبت تعلقت بالحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا، حُلُوهُ لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد)

[4]

.

ومن ذلك المفاوتة بين الفنون، فإنك لو استمررت على فنّ واحد من الممكن أن تمل نفسك، فتنتقل من علم إلى علم، كداخل البستان مرَّة يأكل عنبًا، ومرة يأكل رمانًا، ومرة يأكل تينًا، ومرة يأكل من غيره، أما لو أكل من صنف واحد فسيملّ.

[1] مجموع الفتاوي 23/ 187.

[2] مجموع الفتاوى 23/ 217.

[3] ربيع الأبرار 5/ 446.

[4] أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784)، والنسائي (1643).

ص: 166

ولهذا كانت العطل الأسبوعية للطلاب منتشرة منذ أمد بعيد، وكان الأغلب فيها: يوم الجمعة، وعصر الخميس، وعند بعضهم يوم الثلاثاء، ويوم الاثنين، وفي عيدي الفطر والأضحى من يوم إلى ثلاثة أيام وهكذا

(1)

.

ونجد ذلك في كتب آداب التعليم، وفي السير، ومنه على سبيل المثال:"آداب المعلمين" لسحنون، و"الرسالة المفصلة" للقابسي، و"الشقائق النعمانية"، وعنه في "ابجد العلوم"، وكتاب "أليس الصبح بقريب" للطاهر بن عاشور، و "فتاوى رشيد رضا"، و"معجم البلدان"، و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية".

(37) قراءة التصحيح والضبط

(2)

:

احرص على قراءة التصحيح والضبط على شيخ مُتْقِن، لِتَأْمَن من التحريف والتصحيف والغلط والوهم.

وإذا استقرأت تراجم العلماء - وبخاصة الحفاظ منهم - تجد عددًا غير قليل ممن جرد المطولات في مجالس أو أيام قراءة ضبط على شيخ متقن.

فهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قرأ "صحيح البخاري" في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات، و"صحيح مسلم" في أربعة مجالس في نحو يومين وشيء من بكرة النهار إلى الظهر، وانتهى ذلك في يوم عرفة، وكان

(1)

قوله: "كانت العطل الأسبوعية"، ومن هنا حرص أهل العلم على جعل إجازة وعطلة في الدراسة.

(2)

قوله: "قراءة التصحيح"، عندما يقرأ المقبل على طلب العلم الكتاب على شيخ متقن، فإنه سيصحح قراءته فيأمن من تحريف النطق وأخطاء الطباعة.

ص: 167

يوم الجمعة سنة 813 هـ، وقرأ "سنن ابن ماجه" في أربعة مجالس، و"معجم الطبراني الصغير" في مجلس واحد، بين صلاتي الظهر والعصر.

وشيخه الفيروز آبادي قرأ في دمشق "صحيح مسلم" على شيخه ابن جهبل قراءة ضبط في ثلاثة أيام.

وللخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي، وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، وانظرها في "السير" للذهبي، و"طبقات الشافعية" للسبكي و"الجواهر والدرر" للسخاوي، و"فتح المغيث"، و "شذرات الذهب"، و"خلاصة الأثر"، و"فهرس الفهارس" للكتابي، و"تاج العروس".

فلا تنسَ حظك من هذا.

(38) جرد المطوَّلات

(1)

:

الجرد للمطولات من أهم المهمات؛ لتعدد المعارف، وتوسيع المدارك، واستخراج مكنونها من الفوائد والفرائد والخبرة في مظان الأبحاث والمسائل، ومعرفة طرائق المصنفين في تأليفهم واصطلاحهم فيها.

(1)

هذه من آداب طالب العلم أنه يحرص على قراءة الكتب، خصوصًا المطوّلات على أشياخه، من أجل أن يضبط كيفية نطق الكلمات، وأن يضبط التشكيل والنحو، وكذلك يأمن من الغلط والوهم من إدخال جملة في جملة أخرى، ويسأل عما استشكل لديه من مثل هذا، فكان أهل العلم يفعلون هذا، وكان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك في القرآن، فيقرءون على النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله، وإذا وقع عندهم استشكال جاءوا وقرءوا، وكم من صحابي قد قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وبواسطة قراءة هذه المطولات في المجالس القليلة=

ص: 168

وقد كان السالفون يكتبون عند وقوفهم: "بلغ"، حتى لا يفوته شيء عند المعاودة، لاسيما مع طول الزمن

(1)

.

= والأوقات القليلة يحصل فوائد: منها تحصيل العلوم والمعارف الكثيرة في الزمن القليل، ومنها توسيع مدارك الإنسان، بحيث يعرف أمورًا وأقوالًا مخالفة لما يستقر في نفسه، وبذلك يتمكن من استخراج النوادر والمسائل والفرائد الغربية، وبذلك أيضًا يتكون عند الإنسان قدرة على معرفة مواطن بحث المسائل في كتب أهل العلم، وكذلك تعرف طرائق التأليف وأنواع المؤلفات والمصطلحات التي يستخدمها علماء الشريعة فيها، وينبغي أن تميز ما قرأته وتضع علامة بحيث لا يفوتك شيء من الكتاب المقروء، وهذا هو شأن أهل العلم، والدروس العلمية كانت تجعل على نوعين:

النوع الأول: دروس جرد المطولات يقرءون فيها ولا يتوقفون إلا عند النقطة المشكلة.

والنوع الثاني: قراءة المتون، والمتون للمبتدئين، ويحرص فيها على التفهيم والإفهام.

(1)

قوله: "وقد كان السالفون يكتبون .. "، أي: وللعلماء طرائق متعددة في التفهيم:

أول هذه الطرائق: الطلب من الطلاب أن يبينوا فهمهم من الكتاب، ثم يقوم الشيخ بتصحيحه، مثال هذا: عندنا درس في زاد المستقنع مثلًا، أتينا بجملة أقول: ما معناه يا زيد؟ ما معناه يا عمرو؟ ما معناه يا خالد؟ ثم أصحح وأقول: الصواب في الفهم كذا، وأما فهمك يا فلان بالفهم الفلاني فهو خطأ، وسبب خطئه كذا، فتستقر المعلومات في الأذهان، وكل جملة يسأل عنها أشخاص مختلفون، وهذه أحسن الطرق، وهي التي تستقر في الذهن.

الطريقة الثانية: طريقة المجادلة والمناقشة، بحيث نقسم الطلاب إلى فريقين، وكلما جاءت مسألة نقول: انتخبوا لنا واحدًا مغايرًا لما انتخبتموه في المسائل السابقة، فيشرح، ثم يشرح الثاني، ونقارن بينهما، أو يشرح أحدهما ويصحح له الآخر، ثم يصحح الشيخ =

ص: 169

(39) حسن السؤال

(1)

:

= لهما، هذه أيضًا طريقة جميلة، ويستقر بها الفهم، وهاتان الطريقتان لهما أصل في السنة، كما في حديث ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شجرة صفتها كذا وصفتها كذا)، هذا سؤال، فالشيخ هو الذي يسأل ويطلب من الطلاب أن يجيبوا.

الطريقة الثالثة: أن يقوم طالبان للمناظرة؛ وتسمى طريقة المناظرة، فيتناظران في المسألة، بحيث هذا يناظر هذا، وننظر: هذا يتبنّى قولًا وهذا يتبنى قولًا آخر، وننظر من يكون معه الغلبة، ثم يعقب الشيخ بما يستقيم.

الطريقة الرابعة: طريقة السرد، بأن يلقي الشيخ الدرس، وهي من أضعف الطرق في إبقاء المعلومات، ولكنها جيدة، يحصِّل الناس منها شيئًا، خصوصًا إذا كان هناك كتابة وتسجيل، وتَنَاقَشَ الطلاب فيها فيما بعد، فإنها تبقى تلك المعلومة حينئذ.

(1)

من آداب طالب العلم حسن السؤال، والسؤال من الأمور التي يرغب فيها، إذا استشكل عليك فاسأل حتى تتقن العلم، ولذلك قيل لابن عباس: أين أصبت هذا العلم؟ قال: (بلسان سؤول وقلب عقول)

[1]

.

إذا تقرر هذا فإن السؤال لا بد أن يكون على السنن، بحيث يلتزم فيه الطالب بالأدب، فلا يسأل في غير الفن الذي يتدارسونه، دَرْسُنا هذا في آداب طالب العلم، فلا تنقلونا إلى الفتوى، مثلًا ندرس في باب الصيام، فلا يحق لك أن تنقلنا إلى باب القصاص، أو باب من أبواب الأنكحة.

الثاني: حسن انتقاء الألفاظ، لا تأتي بلفظ نابٍ، ولا لفظ غريب، ولا لفظ غير مرغوب فيه.

[1] الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي 1/ 593.

ص: 170

التزم أدب المباحثة من حسن السؤال، فالاستماع، فَصحَّةُ الفهم للجواب

(1)

،

= الثالث: ألا تسأل في شيء قد تكلم فيه الشيخ، فمسألة طرحها الشيخ وهي واضحة وجلية، وحكم قد قرره الشيخ لا يصح بأن تقول بعد ذلك: ما الحكم في كذا، والشيخ قد قرره.

الأمر الرابع: لا بد أن يكون سؤالك سؤالًا صحيحًا، فبعض الناس يسأل بسؤال مركب بصياغة غير صحيحة.

الأمر الخامس: أن يكون سؤالك سؤالًا واقعيًا، وتدعو الحاجة إليه.

الأمر السادس: ألا يكون من التعنت، تريد أن تختبر الشيخ، وقد جاء في الحديث:(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات)

[1]

.

الأمر السابع: أن لا يكون سؤالك على جهة إبطال قول الشيخ، قد تستفهم، لكن لا تحاول إبطال قول الشيخ؛ لأن هذا سوء أدب، وقد يكون سوء فهم منك، وبالتالي لا يكون كلامك صحيحًا، قد تعترض وتقول: كيف الجمع بين كذا وكذا؟ فهذا لا بأس فيه، لكن أن تقول: كلامك غلط أو فيه ما فيه؛ لأن الله يقول كذا، فهذا سوء أدب، وليس من حسن السؤال في شيء.

(1)

وقول المؤلف: "التزم أدب المباحثة من حسن السؤال، فالاستماع، فصحة الفهم للجواب"، مَرَّات يأخذ بعض الناس جزءًا من الجملة، ولا يلتفت إلى بقيتها، ويفهم فهمًا خاطئًا، وهذا يحصل خصوصًا من عوام الناس، يأخذ ربع جملة، ثم يبدأ ينسب إلى الشيخ ما لم يقله، ولذلك لا يجوز أن ينسب إلى عالم أي مقالة إلا إذا كان الإنسان قد سَمِعَ المقالة كاملة، مرات يأتي العالم، ويتكلم بنقل كلام باطل لا يقول به الشيخ، وإنما أورده ليبطله، ثم يجيب عنه، ويرد عليه، فيأتيك بعض الناس ما سمع إلا المقالة الباطلة؟! فيقول=

[1] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (913).

ص: 171

وإياك إذا حصل الجواب أن تقول: لكن الشيخ فلان قال لي كذا، أو قال كذا، فإن هذا وَهْنٌ في الأدب

(1)

، وضرب لأهل العلم بعضهم ببعض، فاحذر هذا.

وإن كنت لا بد فاعلًا، فكن واضحًا في السؤال، وقل: ما رأيك في الفتوى بكذا، ولا تُسَمِّ أحدًا.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقيل: إذا جلست إلى عالم، فسل تفقهًا لا تعنتًا" ا. هـ

(2)

.

وقال أيضًا: "وللعلم ست مراتب:

أولها: حسن السؤال.

الثانية: حسن الإنصات والاستماع.

= الشيخ فلان يقول كذا، فيكون قد كذب على الشيخ؛ لأن الشيخ نقل هذه الجملة ليرد عليها ويبطلها، وبعض الناس يحضر الشريط، وينقل هذه الجملة، وهذا الجزء، ويقول: اسمع الشيخ يقول كذا، وبالتالي يكون قد كذب عليه، وصدَّ الناس عن سبيل الله؛ لأن إبعاد الناس عن علماء الشريعة، والكلام في أعراضهم، وتشويه سمعتهم، وإنزال مكانتهم يؤدي إلى جعل الناس ينصرفون عن العلم الذي يحملونه.

(1)

قوله: "هذا وهن في الأدب"، كذلك من سوء الأدب، معارضة الأقوال بعضها ببعض، يقول مثلًا: الشيخ الفلاني يقول كذا، فنقول له: لا يصح لك أن تقارن قولي بقوله.

(2)

قوله: "قال ابن القيم"، سل تفقهًا - يعني من أجل تحصيل الفقه - لا تعنتًا - من أجل إنزال المشقة على العالم.

ص: 172

الثالثة: حسن الفهم.

الرابعة: الحفظ.

الخامسة: التعليم.

السادسة: وهي ثمرته العمل به ومراعاة حدوده. ا. هـ

ثم أخذ في بيانها ببحث مهم.

(40) المناظرة بلا مماراة

(1)

:

إياك والمماراة، فإنها نقمة، أما المناظرة في الحق، فإنها نعمة، إذ المناظرة الحقة فيها إظهار الحق على الباطل، والراجح على المرجوح، فهي مبنية على المناصحة، والحلم، ونشر العلم، أما المماراة في المحاورات والمناظرات، فإنها تحجُّجٌ ورياء ولغط وكبرياء ومغالبة ومراء، واختيال وشحناء، ومجاراة للسفهاء، فاحذرها واحذر فاعلها؛ تسلم من المآثم وهتك المحارم، وأعرض تسلم وتكبت المأثم والمغرم.

(1)

قوله: "المناظرة بلا مماراة"، المماراة هي المناقشات العقيمة، والمناقشات التي تكون لإظهار النفس لا لتعرّف الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أنا زعيم ببيتٍ في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)

[1]

.

- أما المناظرة والمناقشة والمجادلة في المسائل العلمية فهذه مطلوبة؛ لأن الإنسان يقصد بها الوصول إلى الحق؛ لأن الكلام فيها يبنى على دليل صحيح، ولأن المرء في المناظرة والمناقشة إذا وصل إلى الدليل سمع له وأذعن: أما الماراة فهو يريد إبطال دليل خصمه =

[1] أخرجه أبو داود (4800).

ص: 173

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ولو كان دليلًا صحيحًا في نظره، فالمجادلة بالتي هي أحسن مطلوبة، وقد قال الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال سبحانه:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46].

من هنا فإن المناقشة محمودة، وهي نوع من أنواع النصح، ونوع من أنواع التعلم، وقد ذكر الله في كتابه عددًا من المناقشات والمناظرات بين الأنبياء وأقوامهم، انظر لمناقشة موسى لفرعون، ومناقشة إبراهيم لقومه، وبعض مناقشات النبي صلى الله عليه وسلم لبعض من في زمانه، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]، {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَ عْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24].

وبالتالي فإن المراء مذموم؛ لأن المقصود فيه الغلبة وليس المقصود فيه الوصول إلى الحق، وبالتالي تجد صاحبه يرفع الصوت ليغلب من أمامه، وتجده يُمَوّه في الكلام ليغلب من أمامه، وتجده يحاول أن يوجد تناقضات في كلام مقابله، ولو لم تكن صحيحة من أجل أن يغلبه ويتمكن منه، وبالتالي فالمراء مؤثر على صحة النية غير موصل إلى حق، ومن هنا فإنه ينهى عنه؛ لأنه سبب من أسباب الإثم، فإذا وجدت هذه المناقشات تحوّلت إلى مراء، ومناقشات عقيمة، والمقصود منها الغلبة والانتصار، فحينئذ أعرض عنها، وأوصل الحق فقط ولا تجادل ولا تناقش إذ المقصود إيصال الحق للخلق.

ص: 174

(41) مذاكرة العلم

(1)

:

تمتع مع البصراء بالمذاكرة، والمطارحة فإنها في مواطن تفوق المطالعة وتشحد الذهن، وتُقَوِّي الذاكرة ملتزمًا الإنصاف والملاطفة مبتعدًا عن الحيف والشغب والمجازفة.

وكن على حذر، فإنها تكشف عوار من لا يصدق.

فإن كنت مع قاصر في العلم، بارد الذهن، فهي داء ومنافرة، وأما مُذاكرتك مع نفسك في تقليبك لمسائل العلم، فهذا ما لا يسوغ أن تنفك عنه.

وقد قيل: إحياء العلم مذاكرته.

(1)

قوله: "مذاكرة العلم"، هذا هو الأدب الحادي والأربعون من آداب طالب العلم، ومذاكرة العلم تعني: مراجعته والمناقشة فيه، فيقول: الباب الفلاني، ماذا يشتمل عليه من المسائل؟ يشتمل على مسائل: المسألة الأولى كذا، والمسألة الثانية كذا، والمسألة الثالثة كذا. الباب الفلاني من أبواب العلم ما هي الأحاديث التي تكون فيه؟ ثم أسرد أنا وجليسي أحاديث الباب، أورد حديثًا ثم أنت تورد حديثًا، أقول مثلًا: باب الاعتكاف ماذا وُجد فيه من الآيات القرآنية والأحاديث، نورد الآيات ثم نورد الأحاديث واحدًا واحدًا، أنت تورد حديثًا وأنا أورد حديثًا آخر، هذا يسمى مذاكرة العلم، ومذاكرة العلم من أكبر الوسائل المؤدية إلى حفظ العلم، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة يتذاكرون العلم إذا جَلَسُوا بدأوا يتذاكرون، وكل يوم يتذاكرون في باب أو نحوه، وبالتالي يحفظون العلم.

وهذا شاهده ودليله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه جبريل في رمضان فيدارسه القرآن في كل عام مرة)

[1]

، فهذا من مذاكرة العلم.

[1] أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).

ص: 175

(42) طالب العلم يعيش بين الكتاب والسنة وعلومها

(1)

:

فهما له كالجناحين للطائر، فاحذر أن تكون مهيض الجناح.

= وكان الصحابة يذاكرون العلم، فأبو هريرة كان في الليل يراجع الأحاديث التي حفظها لتبقى في ذهنه، وهكذا الأئمة لا زالوا على طلب العلم بواسطة المذاكرة، والمذاكرة فوق المطالعة، تجيء بكتاب وتقرأ في باب الاعتكاف في كتب هذه الأحاديث، هذه مطالعة، فإذا جلست مع طالب علم، وبدأت تذاكر: ماذا ورد في باب الاعتكاف من الأحاديث؟ هذا أقوى في رسوخ المعلومة من الأول، وفي نفس الوقت تجعل الذهن متوقدًا حاضرًا في هذا الباب، وتقوي ذاكرة الإنسان، وتجعله منصتًا لكلامه مع غيره؛ لأنه مرة يعطي معلومة، ومرة يأخذ المعلومة من غيره، وبالتالي يكون لطيفًا، بخلاف المناظرات، فإنها قد يكون فيها ما يكون من القوة وما ينافي الملاطفة، لكن ينبغي أن تبتعد في المذاكرة عن ذلك المتعالم، أو ذلك الكاذب، أو من ليس عنده أمانة علمية؛ لأنه قد يوهمك بأن في هذا الباب الحديث الفلاني، ويوهمك أن هذه المسألة توجد في باب كذا، ويوهمك أن هذه المعلومة عند هؤلاء الفقهاء على هذا النحو، ولا يكون الأمر كذلك، أما مراجعة الإنسان لمسائل العلم في نفسه فهذا عظيم الفائدة.

(1)

قوله: "طالب العلم يعيش بين الكتاب والسنة وعلومها"، الأصل في العلم الشرعي الاستمداد من الكتاب والسنة، وحينئذ لا بد أن يكون هما الذي يعول عليهما طالب العلم في علمه، ومن ثم فقراءة أقوال العلماء، والبحث في كتب الفقه إنما هي وسائل يستعين بها الإنسان على ضبط العلم، وعلى القدرة على مراجعة النصوص الشرعية كتابًا وسنة، هذه وسائل، وإلا فإن الأصل هو الكتاب والسنة، ولذلك طالب العلم تجده يعيش بين هذين الأصلين: =

ص: 176

(43) استكمال أدوات كل فن

(1)

:

لن تكون طالب علم متقنًا متفننًا - حتى يلج الجمل في سم الخياط - ما لم تستكمل أدوات ذلك الفن، ففي الفقه بين الفقه وأصوله، وفي الحديث بين علمي الرواية والدارية

وهكذا، وإلا فلا تتعن.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121].

= أولًا: يراجع حفظه للقرآن، ويتأمل فهم القرآن.

ثانيًا: يسرد كتب السنة، ويحاول ضبط ما يستطيع ضبطه منها.

ولا يصح أن تكتفي بأحدهما عن الآخر.

والله - جل وعلا - قد أمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فقال سبحانه:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، آيات الله يعني: القرآن، والحكمة يعني السنة، وقال:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54] يعني: الكتاب والسنة.

(1)

قوله: "استكمال أدوات كل فن"، هذا الأدب اشتمل على أمرين:

الأمر الأول: معرفة أدوات العلم قبل الدخول فيه، لو جاءنا إنسان، وبدأ يدرس النحو، وأخذ المرفوعات والمنصوبات، لكنه أصلًا لا يعرف، ولا يعلم أن النحو يتعلق بأواخر الكلمات، ليس لديه فهم المصطلحات في هذا العلم، ولا يعرف المنشأ الذي نشأ منه هذا العلم، فلن يُنْقِن هذا العلم، وهكذا في بقية الفنون، عندما. يريد الإنسان فهم الكتاب والسنة، واستخراج الأحكام منها، فإنه إذا لم يعرف القواعد الأصولية فلن يتمكن من ذلك، وحينئذ إذا أرد أن يحكم على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا لا بد أن يعرف قواعد المصطلح، ويكون=

ص: 177

فيستفاد منها أن الطالب لا يترك علمًا حتى يُتْقِنَهُ

(1)

.

* * *

= عنده قدرة على معرفة أحوال الرواة، فإذا لم يكن محيطًا بالوسيلة فلن يتمكن من الوصول إلى الغاية، وبالتالي لا بد من معرفة الأدوات قبل الولوج في تعلم العلم.

(1)

قوله: "فيستفاد منها أن الطالب لا يترك علمًا حتى يتقنه"، هذا هو الأمر الثاني مما ذكره المؤلف هنا: ألا يَتْرُك العلم حتى يتقنه، إذا بدأ الطالب في علم ثم مل وانتقل إلى غيره، وأهمل العلم الأول، فحينئذ قد أضاع وقته، ومن أخذ كتابًا وقرأ ربعه أو نصفه، ثم انتقل إلى غيره، فلا يتمكن أن يقول: قرأت الكتاب ولا يتمكن أن يقول: هذه المعلومة ليست في الكتاب؛ لأنه لم يُحِط بالكتاب.

ص: 178

‌الفصل السادس التحلي بالعمل

(44) من علامات العلم النافع

(1)

:

تَسَاءَلُ مع نفسك عَنْ حظِّك من علامات العلم النافع، وهي:

الأول: العمل به.

الثاني: كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق.

الثالث: تكاثر تواضعك كلما ازددت علمًا.

الرابع: الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.

الخمس: هجر دعوى العلم.

السادس: إساءة الظن بالنفس، وإحسانه بالناس، تنزهًا عن الوقوع بهم.

وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:

لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم

ليس الصحيح إذا مشى كالمُقْعَد

(1)

قوله: "من علامات الأدب النافع"، أي: الأدب الرابع والأربعون من آداب طالب العلم، العمل بالعلم، ويترتب على هذا أن تكون عارفًا لمقدار نفسك، فإنه كُلَّما ازداد الإنسان من العلم كلما احتقر نفسه، وتواضع لغيره، وكلما نقص علم الإنسان ظن أنه قد حصل العلم فتكبر، ولذلك يحرص طالب العلم على العمل بما علم.

ص: 179

(45) زكاة العلم

(1)

:

أدِّ (زكاة المال) صادعًا بالحق، أمَّارًا بالمعروف، نهَّاءً عن المنكر، موازنا بين المصالح والمضار، ناشرًا للعلم، وحب النفع وبذل الجاه، والشفاعة الحسنة للمسلمين في نوائب الحق والمعروف.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم وغيره.

قال بعض أهل العلم: هذه الثلاث لا تجتمع إلا للعالم الباذل لعلمه، فبذله صدقة ينتفع بها، والمتلقي لها ابن للعالم في تعلمه عليه.

فاحرص على هذه الحلية فهي رأس ثمرة علمك.

ولشرف العلم، فإنه يزيد بكثرة الإنفاق، وينقص مع الإشفاق وآفته الكتمان.

ولا تحملك دعوى فساد الزمان وغلبة الفُسَّاق، وضعف إفادة النصيحة عن واجب الأداء والبلاغ، فإن فعلت، فهي فعلة يسوق عليها الفساق الذهب الأحمر، ليتم لهم الخروج على الفضيلة، ورفع لواء الرذيلة.

(1)

قوله: "زكاة العلم"، هو الأدب الخامس والأربعون، الحرص على الدعوة بنشر العلم، وبثه في الأمة، سواء إذا وجدت شخصًا تاركًا لما تعلمُه من الخير والصدق، أو بواسطة مجالس العلم، أو بالتأليف أو نحو ذلك، وهكذا أيضًا الحرص على نفع الآخرين، والشفاعة الحسنة لهم.

والعلم يزيد بالنفقة منه، كلما دعوت إليه، وعلمت الناس، بقي العلم في نفسك، وأعطاك الله علمًا لم تكن عالمًا به، وبارك الله في علمك، وكلما تكاسل الإنسان في نشر =

ص: 180

(46) عزة العلماء

(1)

:

التحلي بـ (عزة العلماء): صيانة العلم وتعظيمه، وحماية جَنَاب عِزِّه وشرَفِه، وبقدر ما تبذله في هذا يكون الكسب منه ومن العمل به، وبقدر ما تهدره يكون الفوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم

(2)

.

= العلم فإنه سينساه عن قرب، ولن يبارك له في علمه، وفي عصرنا الحاضر استجدت وسائل جديدة، فيحسن استعمالها جميعًا في نشر العلم والدعوة إلى الله عز وجل، بعض الناس يقولون: الناس قد فسدوا وتجاهلوا العلم، فنقول: هذه تجعلك تحرص على كثرة التعليم، وتبذل الأسباب فيه، فإذا فسد الناس، وكثر الجهل فيهم، فلا بد أن يقوم العلماء وطلبة العلم بالتعليم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما بال أقوام لا يُعلمون جيرانهم ولا يُفقهونهم ولا يُفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطّنون)

[1]

، والفُسَّاق يريدون من العلماء أن يسكتوا ولا ينشروا علمًا، ولا يوجهوا الناس وينصحوهم؛ ليتمكنوا من مرادهم في فسقهم، لكن ينبغي ألا نحقق مطلوبهم، وأن نحتسب للأجر في بث العلم.

(1)

قوله: "عزة العلماء"، هو الأدب السادس والأربعون، بحيث لا يبذل العلماء علمهم فيما لا يناسبه من المواطن والمحال، وبحيث لا يكون العلماء ممن يبذل علمه في تحقيق أهواء الناس وأغراضهم المخالفة للشريعة.

(2)

قوله: "التحلي بعزَّة العلماء"، وفسره بـ "صيانة العلم وتعظيمه وحماية جناب عزه".

[1] أخرجه ابن راهوية والبخاري في الوحدان، وابن السكن وابن منده وإسحاق وأبو نعيم، قال ابن السكن:"إسناده صالح" كما في كنز العمال 18/ 458 و 32/ 290، وانظر: تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري 1/ 70.

ص: 181

وعليه فاحذر أن يتمَنْدل بك الكبراء

(1)

، أو يمتطيك السفهاء

(2)

، فَتُلاين في فتوى، أو قضاء، أو بحث، أو خطاب.

ولا تسعَ به إلى أهل الدنيا، ولا تقف به على أعتابهم، ولا تبذله إلى غير أهله وإن عظم قدره

(3)

.

(1)

قوله: "وعليه فاحذر أن يتمندل بك الكبراء"، أي: أن يجعلوك منديلًا يمسحون به أيديهم؛ لأنك تذل لهم، ومن ثم يتوصلون بك إلى تحقيق أغراضهم.

(2)

قوله: "يمتطيك السفهاء"، يعني: يركبوك ويجعلوك مطية لهم، ومن ثم تُلاين لهم في فتوى أو في قضاء أو في بحث أو في خطاب، ومما يترتب على هذا أن يعز طالب العلم نفسه، فلا يذهب إلى مجالس أهل الدنيا إلا إذا دعوه ليبلغ حقه، وأما أن يذهب إليهم ابتداء فليس هذا مما يحسن فعله من طالب العلم.

(3)

قوله: "ولا تَقِفْ به على اعتابهم"، وكثير من الأئمة يقول بأن مجالس العلم يؤتى إليها، ولا يصح أن تُنقل مجالس العلم إلى مواطن أهل الدنيا، فيقال: إذا أردت التعلم فتَعَال، والإمام أحمد وغيره من الأئمة طلبهم السلاطين في وقتهم إلى أن ينقلوا حديثهم في مواطن السلطان، فأبوا، وقال له الواثق

[1]

: أريد أن تعلم فلانًا وفلانًا من أبنائي. قال: فليحضروا إلينا وليتعلموا كما يتعلّم غيرهم.

وجاء هشام بن عبد الملك فطاف بالبيت، وجاءت له مسألة، فجاء إلى عطاء، وكان يصلي، فما نقص من صلاته شيئًا، ثم بعد ذلك أجاب الناس حتى جاء الدور إلى هشام بن عبد الملك فأجابه عن مسألته، ولا زال العلماء في الزمان الأول يأتيهم الولاة ويأتيهم الأمراء، ويسألونهم في مسائلهم في بيوت العلماء، فالعلم يؤتى إليه.

[1] سير أعلام النبلاء 11/ 276.

ص: 182

ومَتِّع بَصَرَكَ وبصيرتك بقراءة التراجم والسير لأئمة مضوا تَرَ فيها بذل النفس في سبيل هذه الحماية، لاسيما من جمع مثلًا في هذا، مثل كتاب "من أخلاق العلماء" لمحمد سلميان رحمه الله تعالى وكتاب "الإسلام بين العلماء والحكام" لعبد العزيز البدري رحمه الله تعالى، وكتاب "مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لفاروق السامرائي"

(1)

.

وأرجو أن ترى أضعاف ما ذكروه في كتاب "عزة العلماء" يسر الله إتمامه وطبعه.

وقد كان العلماء يلقنون طلابهم حفظ قصيدة الجرجاني علي بن عبد العزيز (م سنة 392 هـ) رحمه الله تعالى، كما نجدها عند عدد من مترجميه، ومطلعها

(2)

:

(1)

قوله: "ومتع بصرك وبصيرتك .. " ذكر المؤلف نماذج من كتب أهل العلم التي ذكرت تراجم وسيرًا لأئمة مضوا حموا أنفسهم من إذلال علمهم بمثل هؤلاء، إلا أن بعض أهل العلم خص من هذا مجلس الإمام الأعظم، فالعلماء يجب عليهم أن يبلغوا ما لديهم من علم إليه، ومثل هذا يختلف باختلاف اجتهاد المجتهدين.

كما أن ما سبق في نقل العلم والتعلم، أما في مجال الدعوة فإنه يحسن الذهاب للناس في مجالسهم من أجل الدعوة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى المجالس في المدينة وفي مكة ومنى من أجلها.

(2)

وذكر المؤلف قصيدة الجرجاني، وفيها شيء من هذا المعنى، وقد جاء في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن)

[1]

، وهذا له أسانيد متعددة يُقوِّي بعضها بعضًا.

[1] أخرجه أحمد في المسند (8836)، والطبراني في المعجم الكبير (11030) والبيهقي في السنن الكبرى (20255).

ص: 183

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلًا عن موضع الذل أحْجَما

أرى الناس من داناهم هان عندهم

ومَنْ أَكْرَمَتْهُ عزة النفس أُكْرِمَا

ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظَّموه في النفوس لَعُظْمَا

(لعظما) بفتح الظاء المعجمة المشالة.

(47) صيانة العلم

(1)

:

إن بلغت منصبًا، فتذكر أن حبل الوصل إليه طلبك للعلم، فبفضل الله ثم بسبب علمك بلغت ما بلغت من ولاية في التعليم، أو الفتيا، أو القضاء .. وهكذا، فأعْطِ العلم قدره وحَظَّهُ من العمم به، وإنزاله منزلته.

واحذر مسلَكَ مَنْ لا يرجون الله وقارًا، الذين يجعلون الأساس (حفظ المنصب)، فيطوون ألسنتهم عن قول الحق، ويحملهم حب الولاية على المجاراة.

(1)

قوله: "صيانة العلم"، هذا أدب آخر من آداب طالب العلم، وهو أن المرء إذا كان في منصب أو ولاية، فلا ينبغي أن ينقطع عن طلب العلم أو إقرائه وتدريسه ليبقى العلم عنده؛ وذلك أنه بالتعليم والتدريس يبقى هذا العلم الذي وصل به الإنسان إلى هذه الولاية، وبذلك يُرْضِي ربه - جل وعلا -، ويتواصل الناس بالعلم وتعليمه وإقرائه، ويأخذ الخلف عن السلف، ويبقى العلم ويستمر في الأمة.

ص: 184

فالزم - رحمك الله - المحافظة على قيمتك بحفظ دينك وعلمك، وشرف نفسك، بحكمة دراية وحسن سياسة:"احفظ الله يحفظك"، "احفظ الله في الرخاء يحفظك في الشدة".

وإن أصبحت عاطلًا من قلادة الولاية - وهذا سبيلك ولو بعد حين - فلا بأس، فإنه عزل محمدة لا عزل مذمَّة ومنقصة.

ومن العجيب أن بعض من حرم قصدًا كبيرًا من التوفيق لا يكون عنده الالتزام والإنابة والرجوع إلى الله إلا بعد (التقاعد)، فهذا وإن كان توبته شرعية، لكن دينه ودين العجائز سواء؛ إذ لا يتعدى نفعه، أما وقت ولايته - حال الحاجة إلى تعدي نفعه - فتجده من أعظم الناس فجورًا وضررًا، أو بارد القلب أخرس اللسان عن الحق. فنعوذ بالله من الخذلان.

= وأما إذا انقطع الإنسان عن التعلُّم والتعليم بسبب انشغاله بالولاية، فهذا يؤدي إلى جعله من أهل الجهالة؛ لأنه سينسي ذلك العلم الذي تعلمه، وكذلك ليعلم أن ترك المنصب لا يعني منقصة في صاحبه، وبالتالي ينبغي أن يتعوّد أصحاب المناصب على الاستمرار في العلم، وأن يوطدوا أنفسهم أنهم سيتركون مناصبهم عما قريب، ولذلك عليهم أن يحرصوا على تقوى الله حال ولايتهم، تقربًا لله - جل وعلا -، وكذلك إذا عُزِل الإنسان من منصبه لا ينبغي بطلبة العلم أن يقاطعوه، بحيث إذا كان في المنصب واصلوه ودرسُوا عليه، وإذا انقطع عن المنصب قاطعوه، هذا ليس من شأن أهل العلم، بل إذا ترك منصبه فإن هذا عزل محمدة، ومن ثمّ ينبغي بطلبة العلم أن يطلبوا عليه العلم؛ لأنه تفرَّغ للإقراء حينئذ، ولا ينقص ابتعاده عن قلادة الولاية من منزلته العلمية.

ص: 185

(48) المداراة لا المداهنة

(1)

:

المداهنة خُلُق منحط، أما المداراة فلا، لكن لا تخلط بينهما، فتحملك المداهنة إلى حَضَار النفاق مُجَاهَرَة، والمداهنة هي التي تمس دينك.

(49) الغرام بالكتب

(2)

:

شرف العلم معلوم؛ لعموم نفعه، وشدة الحاجة إليه، كحاجة البدن إلى الأنفاس، وظهور النقص بقدر نقصه، وحصول اللذة والسرور بقدر تحصيله، ولهذا اشتد غرام الطلاب بالطلب، والغرام بجَمْعِ الكتب مع الانتقاء، ولهم أخبار في هذا تطول، وفيه مقيدات في خبر الكتاب يسر الله إتمامه وطبعه.

(1)

قوله: "المداراة لا المداهنة"، المداهنة ترك بعض الأحكام الشرعية من أجل صاحبك، ومنه قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، كأن تترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وأما المداراة فهي المداراة فتكون بعدم عرض للمسألة التي تكون سببًا لإحراج أو مشكلة، وأقوم بتأجيل الكلام فيها، لكن المداهنة أن أوافقك وأنا لا أرى رأيك، ومن أمثلة المداراة: أن أعلم أن فلانًا يعصي الله بالمعصية الفلانية، لكنه لا يعصي الله عندي، فلا أتعرض لهذا خشية من هروبه من الحق وابتعاده عما أقوله من الخير، فأرشده إلى ما يصلح قلبه وإن لم أتعرض لمعصيته، كأن يكون على معصية سماع الأغاني، لكنه لا يسمعها لدي، فأقوم بالحديث معه في الصلاة وأهميتها، وكيف يستحضر قلبه في الصلاة، وهو يصلي؛ لأنه إذا استحضر القلب في الصلاة أثر ذلك على بقية أمره، لكن المداهنة أن أقول له: لا بأس، أو أن أحضر المسجل فأجعله يستمع للأغاني بحضرتي، أو أحضر ذلك المجلس فهذا مداهنة.

(2)

هذه آداب لطالب العلم متعلِّقة بالكتب، منها:

الأول: الحرص على الكتب جمعًا، بحيث يجمع كل ما يمكن أن يستفيد منه من كتب أهل العلم؛ وذلك أن الكتب فيها علم كثير، وفيها ترتيب للمسائل، وتُعِينُ الإنسان على بحث ما يعرض إليه من مسائل الفقه والشرع. =

ص: 186

وعليه فاحذر الأصول من الكتب، واعلم أنه لا يغني منها كتاب عن كتاب، ولا تحشر مكتبتك وتُشوّش على فكرك بالكتب الغثائية، لاسيما كتب المبتدعة؛ فإنها سمع ناقع. (1).

(50) قوام مكتبتك:

عليك بالكتب المنسوجة على طريقة الاستدلال، والتفقه في علل الأحكام، والغوص على أسرار المسائل، ومِنْ أَجَلِّهَا كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى.

= الثاني: أن المرء حريص على استكمال مكتبته بالكتب في كل فن نافع، ومن ثم يكون لديه أصول المسائل.

الثالث: أن يحذر من الكتب المطوّلة التي فيها كلام كثير وفائدتها قليلة، خصوصًا من كتب المعاصرين، فإن كلامهم كثير وفائدته قليلة، كذلك يحذر من كتب المبتدعة؛ لأنهم يدشون السم في الدسم، وقد يأتون بالكلمة لا يتفطن الإنسان لما فيها، انظر مثلًا في تفسير بعض المعتزلة لما ذكر الجنة وما وضعه الله فيها من خيرات: قال: ودخول الجنة أعلى نعيم يُحصِّله العبد، وهذا منطلق من عقيدة معتزلية في نفي رؤية المؤمنين الله عز وجل التي هي أكمل النعيم، كما ورد في حديث صهيب:(فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل)

[1]

، فإنك لو قرأت الكتاب يمكن أن تمر عليك وترسخ في نفسك، ولا تتبين وجه الحق فيها.

الأمر الرابع: أن يحرص على الكتب التي فيها استدلال بالأدلة، بحيث يتعود على الاستدلال، ويتعود على استنباط الفوائد من الأدلة الشرعية، ومن ثم يصبح ممن ارتبط بالدليل الشرعي، وقد ذكر المؤلف نماذج لمن كتب في ذلك.

[1] أخرجه مسلم (181)، والترمذي (2552).

ص: 187

وعلى الجادة في ذلك من قبل ومن بعد كتب:

1 -

الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى (م سنة 463 هـ) وأجل كتبه "التمهيد".

2 -

الحافظ ابن قدامة رحمه الله تعالى (م سنة 620 هـ)، وأرأس كتبه "المغني".

3 -

الإمام الحافظ النووي رحمه الله تعالى (م سنة 676 هـ).

4 -

الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى (م سنة 748 هـ).

5 -

الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى (م سنة 774 هـ).

6 -

الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (م سنة 795 هـ).

7 -

الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (م سنة 852).

8 -

الحافظ الشوكاني رحمه الله تعالى (م سنة 1250 هـ).

9 -

الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى (م سنة 1206 هـ).

10 -

كتب علماء الدعوة ومن أجمعها "الدرر السنة".

11 -

العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى (م سنة 1182 هـ)، لا سيما كتابه النافع "سبل السلام".

12 -

العلامة صديق حسن خان القنوجي رحمه الله تعالى (م سنة 1307 هـ).

13 -

العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى (م سنة 1393 هـ)، لا سيما كتابه "أضواء البيان".

ص: 188

‌51 - التعامل مع الكتاب:

لا تستفد من كتاب حتى تعرف اصطلاح مؤلفه فيه، وكثيرًا ما تكون المقدمة كاشفة عن ذلك، فابدأ من الكتاب بقراءة مقدمته.

‌52 - ومنه:

إذا حزت كتابًا؛ فلا تدخله في مكتبتك إلا بعد أن تمر عليه جَرْدًا، أو قراءة لمقدمته، وفهرسه،

ومواضع منه، أما إن جعلته مع فنه في المكتبة، فربما مَرَّ زمان وفات العمر دون النظر فيه، وهذا مجرَّب، والله الموفق

(1)

.

(1)

الأمر الخامس: معرفة اصطلاحات أهل العلم في كتبهم، ومعرفة ترتيب كتب أهل العلم، بحيث يكون المرء قادرًا على فهم الكتاب متى قرأه، أما إذا قرأتَ كتابًا، وفسَّرتَ هذا الكتاب بتفسيرات غير مراد صاحب ذلك الكتاب فقد تقع في إشكالات كثيرة، مثال هذا كلمة (شيخ الإسلام)، هذه الكلمة عند كثير من أهل العلم يُراد بها شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن هناك مؤلفات تريد غيره، كما في مؤلفات ابن السبكي إذا قال: شيخ الإسلام فهو يريد والده، فإذا نسبت كلام ابن السبكي إلى ابن تيمية بناءً على أنه قد نُسِبَ إلى شيخ الإسلام فقد وقعت في الخطأ، وهكذا في بقية المصطلحات، ومن هنا لا بد من قراءة مقدمة الكتاب، لتعرف المصطلحات، وأضرب لهذا مثلًا، في كتاب "كنز العمال" هناك رموز، هذه الرموز إذا فسرتها برموز غيره حينئذ وقت في الخطأ فـ (ط، س) تعني: الطبراني في الأوسط، وغيره يريد بها الطيالسي مثلًا، فحينئذ احذر من مثل هذا.

كذلك ينبغي بك قبل أن تُدخل الكتاب في مكتبتك أن تعرف طريقته، وأن تقرأ مقدمته وخاتمته، وأن تمر على شيء من مسائله، وأما إذا وضعت الكتاب في محله بالمكتبة من دون أن تنظر فيه فقد لا تتمكن من قراءته، ولا معرفته في وقت آتٍ.

ص: 189

(53) إعجام الكتاب:

إذا كتبت فأعجم الكتابة بإزالة عُجْمَتِهَا، وذلك بأمور:

1 -

وضوح الخط.

2 -

رسمه على ضوء قواعد الرسم (الإملاء). وفي هذا مؤلفات كثيرة من أهمها:

كتاب "الإملاء" لحسين والي، "قواعد الإملاء" لعبد السلام محمد هارون، "المفرد العلم" للهاشمي رحمهم الله تعالى.

3 -

النقط للمعجم والإهمال للمهمل.

4 -

الشكل لما يُشْكِل.

5 -

تثبيت علامات الترقيم في غير آية أو حديث.

* * * *

= كذلك ينبغي بالإنسان فيما يخص الكتب أن يحرص على إبراز الكتب النافعة؛ لتكون قريبة من متناول يده، بينما الكتب التي تقل فائدتها أو تقل مراجعته له يضعها في مكان أقصى قليلًا، وينبغي به أن يحرص على اختيار كتاب جامع في كل فن، بحيث إذا أشكل عليه شيء راجع ذلك الكتاب، وبذلك يعرف مواطن بحث المسائل في ذلك الكتاب؛ لئلا يقع في زلل فيه.

ومن ذلك أيضًا ما يتعلَّق بتعليقات الإنسان أو بكتابته، ينبغي أن يتأنَّى فيها، لا تكتب تعليقًا حتى تفكر؛ هل هذا التعليق مناسب أو لا؟ كم من مرة كتبت تعليقًا ثم نقدت على نفسك وعرفت خطأك بهذا التعليق بعد مدة قليلة، فلا تكتب التعليق إلا بعد تأمل وتفكُّر، وإذا كتبت فاحرص على وضوح الخط واحرص على أن يكون جليًا، وأن يكون منقوطًا، واحرص على أن يكون واضح الأسلوب يفهمه كل من قرأه.

ص: 190

‌الفصل السابع المحاذير

(1)

(54) حلم اليقظة

(2)

:

إياك و (حلم اليقظة)، ومنه بأن تدعي العلم لما لم تعلم، أو إتقان ما لم تتقن، فإن فعلت، فهو حجاب كثيف عن العلم.

(55) احذر أن تكون "أبا شبر":

فقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الثاني تواضع، ومن دخل في الثالث علم أنه ما يعلم.

(56) التصدّر قبل التأهل

(3)

:

احذر التصدر قبل التأهل، فهو آفة في العلم والعمل.

وقد قيل: من تصدَّر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه.

(1)

لما انتهى المؤلف رحمه الله من آداب طالب العلم، ذكر عددًا من المسائل التي ينبغي بطالب العلم أن يحذرها.

(2)

قوله: "حلم اليقظة" بأن يتمنى على الله الأماني، وهو لم يفعل الأسباب، فحينئذ يوقعه ذلك في المهالك، يجعل نفسه تزهو، وتظن أن لديها شيئًا.

وكذلك أيضًا إذا لم يتقن الإنسان العلم فقد تغره نفسه، وقد يعجب بها.

(3)

قوله: "التصدر قبل التأهل"، كذلك من المحاذير: أن يتصدر الإنسان للتعليم أو الإقراء أو التأليف قبل أن يكون متأهلًا، مما يؤدي به إلى القول على الله بلا علم.

ص: 191

(57) التنمر بالعلم

(1)

:

احذر ما يتسلى به المفلسون من العلم، يراجع مسألة أو مسألتين، فإذا كان في مجلس فيه من يشار إليه، أثار البحث فيهما، ليظهر علمه!.

وكم في هذا من سوءة، أقلها أن يعلم أن الناس يعلمون حقيقته. وقد بينت هذه مع أخوات لها في كتاب "التعالم"، والحمد لله رب العالمين.

(58) تحبير الكاغد

(2)

:

كما يكون الحذر من التأليف الخالي من الإبداع في مقاصد التأليف الثمانية، والذي نهايته "تحبير الكاغد" فالحذر من الاشتغال بالتصنيف قبل استكمال أدواته، واكتمال أهليتك، والنضوج على يد أشياخك، فإنك تسجل به عارًا، وتبدي به شنارًا.

أما الاشتغال بالتأليف النافع لمن قامت أهليته، واستكمل أدواته، وتعددت معارفه، وتمرس به بحثًا، ومراجعة، ومطالعة، وجردًا لمطولاته، وحفظًا لمختصراته، واستذكارًا لمسائله، فهو من أفضل ما يقوم به النبلاء من الفضلاء.

ولا تنس قول الخطيب: "من صَنَّفَ فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس".

(1)

قوله: "التنمر بالعلم"، بأن يحاول الإنسان إبراز نفسه أن عنده علمًا، وهو لم يعرف إلا مسألة أو مسألتين، فإذا وجد عالمًا أراد أن يرد على ذلك العالم في هذه المسألة، وكلما وجد حلقة علمية كتب سؤالًا في تلك المسألة، من أجل أن يُناقش العالم بعد الدرس، ويقول له: أنت لم تفهم المسألة، هذه المسألة قال فيها فلان كذا وكذا، من أجل أن يبرز نفسه!.

(2)

قوله: "تحبير الكاغد"، ومما يتعلق بهذا: المبادرة للتأليف بدون أن يكون هناك هدف صحيح للكتابة والتأليف، أو يكون مع عدم قدرة للكتابة في هذا العلم والإحاطة به، فيكتب حينئذ ولكن لا بد أن يكون لنا هدف في المؤلفات قبل أن نكتب فيها.

ص: 192

(59) موقفك من وَهْمٍ من سبقك

(1)

:

إذا ظفرت بوهم لعالم، فلا تفرح به للحطِّ مِنْهُ، ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام، لاسيما المكثرين منهم.

وما يُشغِّب بهذا ويفرح به للتنقص إلا متعالم "يريد أن يُطِبَّ زكامًا فيحدث به جذامًا"، الزكام معروف، فبعض الناس يريد أن يعالج الزكام فيوقع مرضًا أشد منه كالجذام، ومثله من يفرخ بأخطاء الآخرين فيتكلم فيهم.

نعم، يُنبه على خطأ أو وهم وقع لإمام غُمِرَ في بحر عِلْمِهِ وفَضْلِه، لكن لا يثير الرَّهَجَ عليه بالتنقص منه والحط عليه؛ فيَغْتَرّ به من هو مثله.

(60) دفع الشبهات

(2)

:

لا تجعل قلبك كالسِّفِنْجَة تتلقى ما يرد عليها، فاجتنب إثارة الشبه وإيرادها على نَفْسِكَ أو غيرك، فالشبه خَطَّافَة، والقلوب ضعيفة، وأكثر ما يلقيها حمالة الحطب - المبتدعة - فَتَوَقَّهُم.

(1)

قوله: "موقفك من وهم من سبقك"، إذا وجدنا وهمًا أو خطأً لبعض أهل العلم لا ينبغي أن نبادر فيه وأن نعلنه وأن نشهره، رغبة في إشهار أنفسنا، وإنما نحاول تصحيح الأمر بما نستطيع بما يكون مُظهرًا للعلم ومبينًا للحق، وبما لا يكون منقصًا لمقدار ذلك العالم، فإنه ما من أحد إلا يحتمل أن يقع في خطأ وزلل.

(2)

قوله: "دفع الشبهات"، كذلك من المحاذير من الشبهات، فالشيطان حريص على قلبك، يلقي فيه شبهة بعد شبهة، ودعاة الضلالة يتكلمون عندك يمينًا وشمالًا، فاحذر من ذلك ولا يتعلق قلبك بهذه الشبهات، ولا تكن كالإسفنجة كلما جاءها شبهة التقطتها، وإنما كن كالزجاجة تشاهد الشبهات، ثم بعد ذلك لا تتشبع بها، ثم بعد ذلك اعرف أنه=

ص: 193

(61) احذر اللحن

(1)

:

ابتعد عن اللحن في اللفظ والكتب، فإن عدم اللحن جلالة وصفاء ذوق، ووقوف على ملاح المعاني لسلامة المباني، فعن عمر رضي الله عنه أنه قال:(تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة).

وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن.

وأسند الخطيب عن الرحبي قال: "سمعت بعض أصحابنا يقول إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحان لحان آخر، صار الحديث بالفارسية".

وأنشد المبرد:

النحو يَبْسُطُ من لسان الألكن

والمرءُ تُكْرِمُهُ إذا لم يَلْحَنِ

فإذا أردت من العلوم أجَلْها

فأَجَلُهَا منها مُقِيمُ الألسُن

وعليه، فلا تحفل بقول القاسم بن مخيمرة رحمه الله تعالى:"تَعَلم النحو: أوله شغل، وآخره بغي".

= ما من شبهة إلا وفي كتاب الله جوابها، وفي كلام أهل العلم جوابها، ولا تستعجل إن كان عندك أمر يقيني وألقى عليك إنسان شبهة في ذلك، فقل: انتظر، عندي أمور يقينية، فكيف أتركها من أجل شبهة؟!

(1)

قوله: "احذر اللحن"، كذلك يحذر الإنسان من الخطأ في النحو، ويحاول أن يقرأ الشيء مرة وثنتين وثلاثًا قبل قراءته في الدرس، ليضبط ما يقرأه، وليتعلم منه الناس والحضور الصواب فيما يتكلم به من الكلام، إذا كان طلبة العلم يخطئون في النحو أو يخطئون في طريقة نطق بعض الكلمات، فحينئذ ينتشر مثل هذا، وقد توجد نُفْرَة عند بعض الناس لمن يخطئ في النحو.

ص: 194

ولا بقول بشر الحافي رحمه الله تعالى لما قيل له: تعلم النحو، قال: أضِلّ، قال: قل: ضَرَب زيد عمرًا. قال بشر: يا أخي، لِمَ ضَرَبَه؟ قال: يا أبا نصر، ما ضَرَبَه وإنما هذا أصل وضع. فقال بشر: ها أوله كذب، لا حاجة لي فيه.

رواهما الخطيب في "اقتضاء العلم العمل".

(62) الإجهاض الفكري

(1)

:

احذر (الإجهاض الفكري)؛ بإخراج الفكرة قبل نضوجها.

(63) الإسرائيليات الجديدة:

احذر الإسرائيليات الجديدة في نفثات المستشرقين؛ من يهود ونصارى؛ فهي أشد نكاية وأعظم خطرًا من الإسرائيليات القديمة، فإن هذه قد وضح

(1)

قوله: "الإجهاض الفكري"، أي: لا ينبغي بك أن تتكلم بكلمة إلا إذا تفكرت فيها، وعرفت أدلتها وأقوال أهل العلم فيها، ووزنت فيها ونظرت إلى عواقبها ومآلاتها، وأعيذك من أن تكون إذا جاءت في ذهنك كلمة مباشرة تتكلم بها وأنت لا تعلم هل هي من وساوس الشياطين أو هي من الشبهات، فهذا لا ينبغي بطالب العلم أن يفعله؛ لأنه قد يتكلم الإنسان بكلمة، وسيأتي جوابها بعد قليل وقد نتكلم بالشبهة والجواب عنها في ثنايا الدرس.

هكذا في زماننا وجد من يحاول أن يبث أفكارًا خاطئة، ويبث قصصًا كاذبة، ويبث قناعات باطلة، فينبغي على الإنسان أن لا يستثيره ذلك، فيجعله يقبل بها بدون أن يفكر في حقيقتها؛ لأن مثل هذه المقالات ليس لها إسناد صحيح، وإنما هي شبهات، وبالتالي لا يستعجل الإنسان بتصديقها، ويراجع أهل الشأن فيها.

ص: 195

أمرها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الموقف منها، ونشر العلماء القول فيها، أما الجديدة المتسرِّبة إلى الفكر الإسلامي في أعقاب الثورة الحضارية، واتصال العالم بعضه ببعض، وكبح المد الإسلامي، فهي شر محض، وبلاء متدفق، وقد أخذت بعض المسلمين عنها سنة، وخفض الجناح لها آخرون، فاحذر أن تقع فيها. وفى الله المسلمين شَرَّهَا.

(64) احذر الجدل البيزنطي

(1)

:

أي الجدل العقيم، أو الضئيل، فقد كان البيزنطيون يتحاورون في جنس الملائكة والعدو على أبواب بلدتهم حتى داهمهم.

وهكذا الجدل الضئيل يصد عن السبيل.

وهدي السلف: الكف عن كثرة الخصام والجدال، وأن التوسع فيه من قلةِ الوَرَع، كما قال الحسن إذ سمع قومًا يتجادلون:"هؤلاء مَلّوا العبادة، وخف عليهم القول، وقَلَّ ورعُهم، فتكلموا"، رواه أحمد في "الزهد"، وأبو نعيم في "الحلية".

(1)

قوله: "احذر الجدل البيزنطي"، مما يتعلق بهذا: أن نجتنب الكلام في المسائل التي لا فائدة فيها، وهنا قاعدة، وهي أن المسائل التي لا يترتب عليها عمل، لا تحرص على الترجيح فيها، اعرف الأقوال وشيئًا من الأدلة واكتف بذلك منها، ولا تتعب نفسك فيها، مثلًا: هل جنة آدم هي الجنة المعهودة أو جنة على الأرض؟ ما الثمرة من بحث ذلك وما الفائدة؟ أيهما أرجح وأفضل: الملائكة أو بنو آدم؟ ما ثمرتنا مِنْ هذا المسألة؟ ونحو هذا من المسائل.

ص: 196

(65) لا طائفية ولا حزبية يُعْقَد الولاء والبراء عليها

(1)

:

أهل الإسلام ليس لهم سمة سوى الإسلام والسلام.

فيا طالب العلم، بارك الله فيك وفي علمك؛ اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله تعالى على طريقة السلف.

(1)

قوله: "لا طائفية ولا حزبية يقعد الولاء والبراء عليها"، أي: نحذر كل الحذر من تفريق أهل الإسلام، ونحن أمة واحدة، من جاء يريد أن يفرق كلمتنا فلا يجوز أن نستجيب له، فالواجب إسكاته، من دعا إلى طائفة أو إلى حزب أو إلى جماعة؛ ليكون الولاء والبراء عليها ينبغي إسكاته، وعدم الالتفات إليه، مهما كانت هذه الطائفة، ينبغي أن يكون ولاؤنا الله، ليس من أجل فلان، وإنما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي هذه الجماعات وهذه الحزبيات لا يجوز للإنسان أن ينضم إليها، أو أن يكون واحدًا منها، أو أن يعاهد ويبايع فيها، أو أن يكون مناصرًا لها، وإنما النصرة تكون الله ولرسوله ولأهل الإيمان، وأما من جاءنا ليكون الولاء والبراء على أمور مغايرة لذلك، حينئذ لا يصح منا أن ننضوي تحت لوائها، وكم من صحاب بدعة ومن صاحب تحزبات يُحاوِلُ أن يضم الناس إليه من أجل أن يفاخر بهم، وأن يذكر أن جماعته وحزبه وطريقته هي الأقوى، وأن أتباعه الأكثر، وبالتالي فكل من أرادنا أن نجتمع على غير منهاج شرعي، فلن نقبل منه، وكذلك بعض الناس يظهر جزءًا من أجزاء الشريعة من أجل أن يَضُمَّ الناس إليه يقول: تعالوا نحن أهل الصلاة، فهل معنى هذا أن نترك بقية الأحكام إن كان يريد منا أن نترك بقية أركان الشريعة فلا يجوز أن نقبل ذلك منه، وكذلك إذا جاءنا يريد منا أن يكون العمل والاجتماع على شيء لم تجيء به الشريعة، فلا يجوز بنا أن نستجيب له.

ص: 197

ولا تكن خَرَّاجًا ولاجًا في الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيقة، فالإسلام كله لك جادة ومنهجًا، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإن يد الله مع الجماعة، فلا طائفية ولا حزبية في الإسلام.

وأعيذك بالله أن تتصدع، فتكون نهابًا بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها.

فكن طالب علم على الجادَّة؛ تَقْفُو الأثر، وتتبع السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفًا لأهل الفضل فضلهم وسابقتهم.

وإن الحزبيَّة ذات المسارات والقوالب المستحدثة التي لم يعهدها السلف من أعظم العوائق عن العلم، والتفريق عن الجماعة، فكم أوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغَوَاشِي.

فاحذر - رحمك الله - أحزابًا وطوائف طاف طائفها، ونجم بالشر ناجمها، فما هي إلا كالميازيب؛ تجمع الماء كدرًا، وتُفَرِّقُهُ هَدرًا، إلا من رحمه ربك، فصار على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى عند علامة أهل العبودية: "العلامة الثانية: قوله: (ولم يُنسبوا إلى اسم)؛ أي: لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلامًا لأهل الطريق.

وأيضًا فإنهم لم يتَقيَّدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيُعْرَفُون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة.

وأما العبودية المطلقة؛ فلا يُعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم؛ فلا يتقيد برسم ولا إشارة، ولا اسم ولا بزِيٍّ،

ص: 198

ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سئل عن شيخه؟ قال: الرسول. وعن طريقه: قال: الاتباع. وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى. وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة. وعن مقصده ومطلبه؟ قال: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وعن رباطه وعن خانكاه؟

(1)

قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 36 - 37]، وعن نسبه قال:

أبي الإسلامُ لا أَبَ لي سِوَاهُ

إذا افْتَخَرُوا بقيسٍ أو تميمِ

وعن مأكله ومشربه؟ قال: "ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها".

واحسرتاه تقضى العُمْر وانْصَرَمَت

ساعاته بين ذُلّ العَجْز والكسل

والقوم قد أخذوا دَرْبَ النَّجَاةِ وقد

ساروا إلى المطلب الأعلى على مَهَلِ

ثم قال: قوله: "أولئك ذخائر الله حيث كانوا"؛ ذخائر الملك ما يخبأ عنده ويَذْخره لمهماته، ولا يبذله لكل أحد، وكذلك ذخيرة الرجل: ما يذخره لحوائجه ومهماته. وهؤلاء؛ لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم،

(1)

قوله: "وعن خانكاه و (الرباط) "، هذه مواطن تجعلها بعض الطوائف محالًا للعبادة أو للتقرب لله، وحينئذ نحن لا نلتفت إلى هذا، ونذهب إلى بيوت الله، إلى المساجد.

كذلك لا ينبغي أن يكون ولاؤنا وتحزبنا لزيد من الناس مهما كانت منزلته، إنما نتحزب لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ص: 199

غير مشار إليهم، ولا متميزين برسم دون الناس، ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة.

وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات، فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها، ولزوم الطرق الاصطلاحية، والأوضاع المتداولة الحادثة.

هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله، وهم لا يشعرون.

والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة، والسير إلى الله، زهم - إلا الواحد بعد الواحد - المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود.

وقد سئل بعض الأئمة عن السنة؟ فقال: ما لا اسم له سوي "السنة".

يعني: أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها.

فمن الناس من يتقيَّد بلباس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مشية لا يمشي غيرها، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما، أو عبادة معَيَّنَة لا يتعبد بغيرها وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه.

فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى، مصدودون عنه، قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة، فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل، فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب، ويَعُدُّ العلم قاطعًا له عن الطريق، فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَدَّ ذلك فضولًا وشرًا، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم، وعدّوه غيرًا عليهم، فهولاء أبعد الناس عن الله، وإن كانوا أكثر إشارة والله أعلم" ا. هـ.

* * *

ص: 200

‌نواقض هذه الحلية

(1)

يا أخي - وقانا الله وإياكم العسرات - إن كنت قرأت مُثُلًا من حلية طالب والعلم وآدابه، وعلِمتَ بعضًا من نواقضها، فاعلم أن من أعظم خوارمها المُفسِدة لنظام عِقْدِها:

(1)

إفشاء السر.

(2)

ونقل الكلام من قوم إلى آخرين

(2)

.

(3)

والصَّلَف واللسانة

(3)

.

(4)

وكثرة المزاح

(4)

.

(1)

قوله: "نواقض هذه الحلية"، ذكر المؤلف بعض العثرات: ومنها إفشاء الأسرار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:(المجالس بالأمانة)

[1]

، وإفشاء السر نوع من أنواع الخيانة، والحيانة بئست البطانة.

(2)

قوله: "ونقل الكلام من قوم إلى آخرين"، أي: لا يكون المؤمن طالب العلم من أهل النميمة، ينقل كلام هؤلاء إلى هؤلاء، وكلام هؤلاء إلى هؤلاء، فيفسد بينهم، فهذا من أكبر المحرمات، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يدخُلُ الجنةَ قَتَّاتٌ)

[2]

.

(3)

قوله: "والصلف واللسانة"، أي: من العوارض ومن العثرات: الصلف: بأن يتكلم بالكلام الغليظ غير الرقيق اللين. وكذلك اللسانة والرطانة، اللسانة بأن يتكلم بلسان قوي يتخلَّل بلسانه ليظهر قدرته على الناس، وليس ذلك الكلام مبنيًا على أصول علمية.

(4)

قوله: "كثرة المزاح"، وكذلك كثرة المزاح يجتنبه طالب العلم؛ لأنه يخِفّ من منزلته، ويجعل الناس لا يقبلون ما لديه من العلم.

[1] أخرجه أبو داود (4869)، والبيهقي 10/ 247.

[2] أخرجه البخاري (6056)، ومسلم (105)، والترمذي (2026).

ص: 201

(5)

والدخول في حديث بين اثنين

(1)

.

(6)

والحقد.

(7)

والحسد

(2)

.

(8)

وسوء الظن

(3)

.

(9)

ومجالسة المبتدعة

(4)

.

(10)

ونقل الخطى إلى المحارم

(5)

.

(1)

قوله: "والدخول في حديث بين اثنين"، أي: لأنهما لم ينعزلا إلا لحديث خاص بينهما، فدخول طالب العلم بينهما يُقِلّ من منزلته.

(2)

قوله: "والحقد والحسد"، الحقد والحسد ليست من صفات طالب العلم، سواء كان حسدًا في طلب العلم، أو كان بالحسد على ما أوتيه البعض في أمور الدنيا، ويكون الحسد المذموم بتمني زوال النعمة عن الآخرين.

(3)

قوله: "وسوء الظن"، أي: يجتنب سوء الظن بالآخرين، ويشتغل فيما ينفع، ويترك سوء الظن.

(4)

قوله: "ومجالسة المبتدعة"، أي: يجتنب مجالستهم؛ لأنه سيُظَن أنه منهم، وقد يعلَقُ بقلبه بعض دائهم، من حيث لا يشعر، ثم إنهم يتقوون بذلك، فيقولون: فلان يزورونا وفلان يجالسنا.

(5)

قوله: "ونقل الخطى إلى المحارم"، أي: ويجتنب طالب العلم المعاصي والذنوب، لأنها تطمس العلم طمسًا، وتطمس على القلب، كما قال تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال الأمَّة، وأن يردهم إلى دينه ردًا جميلًا.

هذا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

ص: 202

فاحذر هذه الآثام وأخواتها، واقْصُر خطاك عن جميع المحرَّمات والمحارم، فإن فعلت وإلا فاعلم أنك رقيق الديانة، خفيفٌ لعَّاب، مغتاب، نمَّام، فأنَّى لك أن تكون طالب علم يُشارُ إليك بالبنان، مُنَعَّمًا بالعلم والعمل.

سدَّد الله الخُطَى، ومَنَحَ الجميع التقوى وحُسْنَ العاقبة في الآخرة والأولى.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 203