المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌9- التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌9- التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى

‌9- التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى

وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورها

وتقصير النفس وتهذيبها وحملها على الاستقامة

قال الله تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)(سبأ: من الآية46)، وقال تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(آل عمران: 190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 191) وقال تعالى: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية: 17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (الغاشية: 18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (الغاشية: 19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية: 21) وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا)(محمد: من الآية10) ، والآيات في الباب كثيرة.

ومن الأحاديث الحديث السابق: ((الكيس من دان نفسه)) .

[الشَّرْحُ]

التفكر: هو أن الإنسان يعمل فكره في الأمر، حتى يصل فيه إلى نتيجة، وقد أمر الله تعالى_ به _ أي بالتفكر_ وحث عليه في كتابه، لما يتوصل إليه الإنسان به من المطالب العالية والإيمان واليقين.

قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)(سبأ: من الآية46) قل يا محمد للناس جميعا: ما أعظكم إلا بواحدة: ما اقدم لكم موعظة إلا بواحدة فقط،

ص: 576

إذا قمتم بها أدركتم المطلوب، ونجوتم من المرهوب، وهي:(أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) .

(تَقُومُوا لِلَّهِ) أي: مخلصين له، فتقومون بطاعة الله_ عز وجل_ على الوجه الذي أمرتم به، مخلصين له، ثم بعد ذلك تتفكروا، فإذا فعلتم ذلك فهذه موعظة، وأي موعظة.

وفي هذه الآية إشارة إلى انه ينبغي للإنسان إذا قام لله يعمل، أن يتفكر ماذا فعل في هذا العمل: هل قام به على الوجه المطلوب، وهل قصر، وهل زاد وماذا حصل له من هذا العمل من طهارة القلب، وزكاة النفس، وغير ذلك.

لا يكن كالذي يؤدي أعماله الصالحة وكأنها عادات يفعلها كل يوم، بل تفكر، ماذا حصل لك من هذا العبادة، وماذا أثرت على قلبك وعلى استقامتك.

ولنضرب لهذا مثلا بالصلاة، قال الله تبارك وتعالى:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(البقرة: من الآية45)، وقال:(وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت: من الآية45) ، فلنفكر، هل نحن إذا صلينا زدنا طاقة وقوة ونشاطا على الأعمال الصالحة، حتى تكون الصلاة معينة لنا؟ الواقع أن هذا لا يكون إلا نادرا باعتبار أفراد الناس، فانظر ماذا حدث لك من الصلاة، هل صارت معينة لك على طاعة الله تعالى، وعلى المصائب وعلى غيرها.

كما يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((انه كان إذا حزبه أمر فزع إلى

ص: 577

الصلاة)) أي: إذا أهمه وأغمه فزع إلى الصلاة.

كذلك قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت: من الآية45) فانظر في صلاتك، هل أنت إذا صليت وجدت في نفسك كراهية للفحشاء، وكراهية للمنكر، وكراهية المعاصي، أو أن الصلاة لا تفيدك في هذا؟

إذا عرفت هذه الأمور، عرفت نتائج هذه الأعمال الصالحة، وكنت متعظا بما وعظك به النبي صلى الله عليه وسلم.

ز مثال آخر في الزكاة وهي: المال الواجب في الأموال الزكوية، يصرفه الإنسان في الجهات التي أمر الله بها، وقد بين الله فوائدها، وقد قال الله لرسوله:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)(التوبة: من الآية103) فإذا أديت الزكاة فانظر هل طهرتك هذه الزكاة من الأخلاق الرذيلة، هل طهرتك من الذنوب، وهل زكت مالك؟ هل زكت نفسك؟ !

كثير من الناس يؤدي الزكاة وكأنها غرم، يؤديه وهو كاره _ نسأل الله العافية_ يؤديها وهو لا يشعر بأنها تزكي نفسه، وعلى هذا بقية الأعمال، قم لله ثم تفكر ماذا حصل.

فهذه موعظة عظيمة إذا اتعظ الإنسان بها، نفعته وصلحت أحواله، نسأل الله أن يصلح لنا الأعمال والأحوال.

ثم ذكر المؤلف_ رحمه الله تعالى _ قول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ

ص: 578

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِى الألباب (آل عمران: 190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: من الآية191) .

هذه الآية في أول الآيات العشر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كلما استيقظ من صلاة الليل فينبغي للإنسان إذا استيقظ من صلاة الليل أن يقرا من هذه الآية إلى آخر سورة آل عمران: (العشرة الأخيرة من سورة إلا عمران) .

قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(البقرة: من الآية164) يعني في خلقهما من حيث الحجم والكبر والعظمة، وغير ذلك مما أودع الله فيهما، في هذا الخلق آيات ففي النجوم آية من آيات الله، وفي الشمس آية من آيات الله، وكذا القمر، آيات من آيات الله، وكذا الأشجار والبحار والأنهار، وفي كل ما خلق الله في السماوات والأرض آيات عظيمة، تدل على كمال وحدانيته جل وعلا، وعلى كمال قدرتهن وعلى كمال رحمتهن وعلى كمال حكمته، يقول عز وجل:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)(البقرة: من الآية164) .

وجمع السماوات وافرد الأرض، لان السماوات سبع كما ذكره الله في عدة آيات:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)(الطلاق: من الآية12)(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(المؤمنون: 86) .

أما الأرض، فان الله تعالى لم يذكرها في القران إلا منفردة، لان المراد

ص: 579

بها الجنس الشامل لجميع الأرضيين، وقد أشار الله في سورة الطلاق إلى أن الأرضيين سبع، فقال:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(الطلاق: من الآية12)، أي: مثلهن في العدد، وليس مثلهن في الخلقة والعظم، بل السماوات اعظم من الأرض بكثير لكنهن مثل السماوات في العدد، وقد جاءت السنة صريحة في ذلك، مثل قول النبي عليه الصلاة السلام:((من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع ارضين))

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) يكون من وجوه متعد:

أولا: من جهة أن الليل مظلم والنهار مضي، كما قال الله تعالى:(وجعلنا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)(الإسراء: من الآية12) .

ثانيا: اختلافهما في الطول والقصر، أحيانا يطول الليل، وأحيانا يطول النهار، وأحيانا يتساويان كما قال الله تعالى:(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)(الحج: من الآية61)، أي: يدخل هذا في هذا مرة فيأخذ منه، وهذا في هذا فيأخذ منهن هذا من اختلاف الليل والنهار.

ثالثا: ومن اختلاف الليل والنهار اختلافهما في الحر والبرودة تارة يكون الجو باردا وتارة يكون حارا.

رابعا: ومن اختلافهما أيضا، الخصب والجدب، تارة تكون الدنيا

ص: 580

جدبا وقحطا وسنين، وتارة تكون خصبة وربيعا ورخاء.

خامسا: ومن اختلاف الليل والنهار اختلافهما في الحرب والسلم، تارة تكون حربا وتارة تكون سلما وتارة تكون عزا وتارة تكون ذلة، كما قال الله تعالى:(? وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آل عمران: من الآية140) .

ومن تأمل اختلاف الليل والنهار وجد فيهما من آيات الله_ عز وجل_ ما يبهر العقول.

وقوله تعالى: (لَآياتٍ) أي: علامات واضحات على وحدانية الله، وكمال قدرته وعزته وعلمه ورحمتهن وغير ذلك من آياته.

وقوله: (? لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي: لأصحاب الألباب والألباب جمع لب: وهو العقل، وأولوا الألباب: هم أصحاب العقول وذلك لان العقل لب، والإنسان بلا عقل قشور بلا لب، فالأصل في الإنسان هو العقل، فلهذا نسمي لبا، وأما الإنسان بلا عقل فانه قشور.

ولكن ما المراد بالعقل؟ هل المراد بالعقل الذكاء؟

الجواب: لا، الذكاء شيء والعقل شيء آخر، رب ذكي نابغ في ذكائه لكنه مجنون في تصرفاتهن فالعقل في الحقيقة هو ما يعقل صاحبه عن سوء التصرف، هذا العقل، وأن لم يكن ذكيا فإذا من الله على الإنسان بالذكاء والعقل تمت عليه النعمة، وقد يكون الإنسان ذكيا وليس بعاقل، أو عاقلا وليس بذكي.

جميع الكفار_ وأن كانوا أذكياء_ فانهم ليسوا عقلاء، كما قال الله:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)(الأنفال: 22) .

ص: 581

كل إنسان يتصرف تصرفا سيئا فليس بعاقل، فأولوا الألباب هم أولوا العقول الذين تفكرون في خلق السماوات والأرض وينظرون في الآيات، ويعتبرون بها، ويستدلون بها على على من هي آيات له، هؤلاء هم أصحاب العقول، وهم أصحاب الألباب فاحرص يا أخي على أن تتفكر في خلق السماوات والأرض، وأن تتدبر ما فيهما من الآيات، وكذلك في الأيام والليالي، وكيف تتغير الأحوال، وكيف تنقلب من حال إلى حال وكل ذلك بيد الله عز وجل، وكل ذلك من آياته.

ثم قال تعالى: في وصف أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)(آل عمران: من الآية191)، أي: يذكرون الله في كل حال قياما وقعودا وعلى جنوبهم،

وذكر الله_ عز وجل_ نوعان: نوع مطلق في كل وقت، وهو الذي يشرع للإنسان دائما، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قال له: أن شرائع الإسلام كثرت علي، وأني كبير فأوصيني. فقال:((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله))

وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل احيانه، أي في كل حين، فذكر الله هنا مطلق لا يتقيد بعدد، بل هو إلى

ص: 582

الإنسان على حسب نشاطه.

والنوع الثاني: ذكر مقيد بعدد، أو في حال من الأحوال، وهو كثير، منها أذكار الصلوات في الركوع والسجود وبعد السلام، وأذكار الدخول للمنزل، والخروج منه، وأذكار الدخول للمسجد والخروج منه، وأذكار النوم والاستيقاظ وأذكار الركوب على الدابة وأشياء كثيرة شرعها الله عز وجل، لعباده من اجل أن يكونوا دائما على ذكر الله عز وجل، فالمهم أن الله شرع لعباده من الأذكار ما يجعلهم إذا حافظوا عليها يذكرون الله، قياما وقعودا وعلى جنوبهم.

واعلم أن الذكر أيضا يكون على وجهين: ذكر تام: وهو ما تواطأ عليه القلب واللسان.

وذكر ناقص: وهو ما كان باللسان مع غفلة القلب، واكثر الناس_ نسأل الله أن يعاملنا جميعا بعفوه_ عندهم ذكر الله باللسان مع غفلة القلب، فتجده يذكر الله وقلبه يذهب يمينا وشمالا، في دكانه وسيارته وفي بيعه وشرائه.

لكن هو مأجور على كل حال، ولكن الذكر التام هو الذي يكون ذكرا لله باللسان وبالقلب، يعني انك تذكر الله بلسانكن وتذكر الله بقلبك، فأحيانا يكون الذكر بالقلب انفع للعبد من الذكر المجرد، إذا تفكر الإنسان في نفسه وقلبه، في آيات الله الكونية والشرعية، بقدر ما يستطيع، حصل على خير كثير.

قال: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ويقولون: (رَبَّنَا مَا

ص: 583

خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) يتفكرون في خلق السماوات والأرض لماذا خلقت؟ وكيف خلقت؟ وما أشبه ذلك، ثم يقولون بقلوبهم وألسنتهم (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) أي: لا بد أن يكون لخلق السماوات والأرض غاية محمودة، يحمد الرب عليها عز وجل، ليس لخلق السماوات والأرض باطلا، خلقت ليوجد الناس يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام! لا، بل هي مخلوقة لغرض عظيم.

قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذريات: 56) .

(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) فالذين يظنون خلق السماوات والأرض باطلا، هم أصحاب النار، قال الله تبارك وتعالى:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(صّ: 27) .

فكل من ظن أن الله_ سبحانه تعالى_ خلق هذه الخليقة لتوجد وتفنى فقط، بدون أن يكون هنالك غاية ومرجع، فانه من الذين كفروا (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) .

فالناس لا بد أن يموتوا، ولا بد أن يحاسبوا، ولا بد أن يبعثوا، ولا بد أن يؤولوا إلى دارين لا ثالث لهما، أما الجنة وأما النار، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة وأن يعيذنا من النار.

وقوله: (سُبْحَانَكَ) أي: تنزيها لك أن تخلق هذه السماوات والأرض باطلا.

(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فيتوسلون إلى الله_ عز وجل_ بما يثنون عليه من صفات الكمال، أن يقيهم عذاب النار، والوقاية من عذاب النار تكون بأمرين:

ص: 584

الأمر الأول: أن يعصمك الله من الذنوب، لان الذنوب هي سبب دخول النار.

الأمر الثاني: أن يمن الله عليك إذا عصيت بالتوبة والإقلاع، لان الإنسان بشر لا بد أن يعصي، ولكن باب التوبة مفتوح ولله الحمد، قال الله:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(الزمر: من الآية53)

مهما عملت من المعاصي، إذا رجعت إلى الله، وتبت، تاب الله عليك، ولكن إذا كانت المعصية تتعلق بآدمي، فلا بد من الاستبراء من حقه، إما بوفائه أو باستحلاله منه، لأنه حق ادمي لا يغفر، فحق الله يغفره مهما عظم، وحق الآدمي لا بد أن تستبراء منه أما بإبراء أو أداء، بخلاف حق الله.

ومع هذا، لو فرض انك لم تدرك صاحبك ولم تعرفه، أو لم تتمكن من وفائها، لأنها دراهم كثيرة، وليس عندك وفاء، وعلم الله أن نيتك انك صادق في توبتك، فان الله يتحمل عنك يوم القيامة ويرضي صاحبك.

وقوله تعالى: (LL أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية: 17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (الغاشية: 18)

وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (الغاشية: 19) . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية: 20) .

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) هذا من باب الحث على النظر في هذه الأمور الأربعة: الأول: (إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فتتأمل كيف خلقها الله على هذا الجسم الكبير، المتحمل لحمل الأثقال، كما قال تعالى:(وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)(النحل: من الآية7) .

ص: 585

هذه الإبل الكبيرة الأجسام القوية زللها الله للعبادة، حتى كان الصبي يقودها إلى ما يريد، مع إنها لو عتت ما استطاع الناس أن يدركوها، ولهذا كان من المشروع أن يقول الإنسان إذا استوى على ظهرها راكبا:(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)(الزخرف: من الآية13) أي: مطيقين، لان قرين الإنسان من كان على مثله وعلى شاكلته، فمعنى المقرن يعني المطيق، أي لسنا مطيقين لها لولا أن سخرها الله عز وجل، سخرها الله للعبادة، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، منها يركب ويحمل عليه، ويكون مرنا على ذلك، ومنها ما يؤكل: يأكله الناس وينتفعون به، وكذلك أيضا لهم فيها منافع ومشارب فيتخذون من جلودها بيوتا ومن أصوافها واوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين، إلى غير ذلك من الآيات

العظيمة التي تحملها هذه الإبل.

الثاني: (وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) هذه السماء العظيمة، رفعها الله _ عز وجل_ رفعا عظيما باهرا لا يستطيع أن يناله أحد من الخلق، حتى الجن على قوتهم يقولون:(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً)(الجن: 9) يقول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)(الأنبياء: من الآية32) وفي هذه السماوات العظيمة، كيف رفعها الله تعالى بغير عمد:(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)(الرعد: من الآية2)، أي: ترونها مرفوعة بغير عمد فاعتبروها. وفي هذه السماوات من آيات الله_ عز وجل_الشيء الكثير، فهي

ص: 586

رفعت هذا الرفع العظيم، وفيما بينها وبين الأرض آيات عظيمة من الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحب، وغير ذلك من آيات الله.

الثالث: (وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) هذه الجبال الصم العظيمة الكبيرة، لو أن الخلق اجتمعوا كلهم بقواهم ما كونوا مثلها. الآن تجد المعدات الكبيرة إذا أرادوا أن يردموا شيئا لا يردمون إلا شيئا، يسيرا مع المشقة الشديدة، هذه الجبال الصم يجب أن نتفكر فيها، كيف نصبها الله عز وجل؟ نصبها الله عز وجل على حكمة عظيمة، لان الله سبحانه وتعالى_ يجعل في هذه الجبال التي نصبها مصالح عظيمة وكبيرة، منها إنها رواسي ترسي الأرض وتمسكها عن الاضطراب، كما قال الله تعالى:(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(النحل: من الآية15)، أي: أن تضطرب، فلولا أن الله أرساها بهذه الجبال، لكانت مضطربة كالسفينة على ظهر الماء في شدة الأمواج، ولكن الله جعلها بهذه الجبال ساكنة قارة، لا تضطرب ولا تميد بأهلها. هذه الجبال أيضا تقي من رياح شديدة عاصفة في بعض الأماكن، وتقي أيضا من برودة عظيمة تأتى من ناحية القضب، وتقي أيضا من حرارة شديدة وكذلك من سفوحها آية من آيات الله_ عز وجل_ من النبات، والأودية، والمعادن شيء عظيم كثير، فلهذا قال:(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) .

الرابع: (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فجعلها الله سطحا، وسخرها للعباد، وجعلها ذلولا لا مذللة، بحيث لم تكن تربتها لينة جدا لا يستقرون

ص: 587

عليها، ولا صلبة جدا لا ينتفعون منها، بل جعلها_ سبحانه وتعالى_ رخوة مسطحة مبسوطة، حتى ينتفع الناس على سطحها بما يسر الله_ سبحانه وتعالى_ لهم من الأسباب النافعة.

وهذه الأرض المسطحة هي أيضا كروية، أي إنها شبه الكرة، مستديرة من كل جانب، إلا إنها مفلطحة من الناحية الشمالية الجنوبية، من ناحية القضبين الشمالي والجنوبي.

ولذلك لو أن أحدا من الناس ركب طائرة متجهة إلى المغرب_ على خط مستقيم_ لكان يخرج إلى المكان الذي أقلعت منه الطائرة، وهذا يدل على إنها مستديرة، لان الإنسان يصل طرفها بطرفها.

ويدل على هذا قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (: 1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (: 2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (: 3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الانشقاق: 4) ، وهذا يكون يوم القيامة، فقوله:(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) يدل على إنها الآن ليست ممدودة، لكنها مسطحة، يعني إنها كالسطح، لأنها لكبر حجمها لا يتبين فيها الانحناء الذي يكون في الكرة، فهذه الأشياء الأربعة:(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نصبت وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(الغاشية: 20) يحثنا الله عز وجل بالنظر فيها بعين البصر، وعين البصيرة، بعين البصر الذي هو الإدراك الحسي ويمين البصيرة التي هي الإدراك العقلي، حتى نستدل بها على ما تدل عليه من آيات الله من قدرة وعلم ورحمة وحكمة وغير ذلك.

وقوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) ولم يكمل المؤلف الآية،

ص: 588

لان هذا ورد في عدة آيات من كتاب الله، ففي عدة آيات يحث الله عز وجل عباده إلى أن يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ومنها قوله تعالى في سورة القتال:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)(محمد: 10) فأمر الله بالسير والسير ينقسم إلى قسمين.

سير بالقدم وسير بالقلب.

1_

أما السير بالقدم: بان يسير الإنسان في الأرض على أقدامه، أو على راحلتهن من بعير أو سيارة، أو طائرة، أو غيرها حتى ينظر ماذا حصل للكافرين، وماذا كانت حال الكافرين.

2_

وأما السير بالقلب: فهذا يكون بالتأمل والتفكير فيما نقل عن أخبارهم.

واصح كتاب، واصدق كتاب، وانفع كتاب، نقل أخبار الأولين كتاب الله_عز وجل_، كما قال الله تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)(يوسف: من الآية111) .

والقران مملؤ من أخبار الأولين المكذبين للرسل، والمؤيدين للرسل، وبين الله عاقبة هؤلاء وهؤلاء.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يقرا الآيات التي فيها أخبار من سبق، وأن يسال عن معناها ويستفسر، حتى يكون على بصيرة من الأمر، وكذلك ايضا ما جاءت به السنة من أخبار الماضين، فإنها جاء بالأحاديث الكثيرة النافعة، وهي إذا صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام فإنها

ص: 589

اصدق منقول من الأخبار.

ثم بعد ذلك ما نقله المؤرخون، ولكن يجب أن تكون مما نقله المؤرخون على حذر، لان غالب كتب التاريخ ليس لها اصل وليس لها إسناد، وإنما هي أخبار تتناقل بين الناس، فيجب الحذر كل الحذر منها، وأن يحرص الإنسان على أن يتتبعها برفق، ثم هذه الأخبار الواردة في غير الكتاب والسنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما شهد شرعنا ببطلانه، فهذا يجب رده وبيان خطئه وكذبه حتى يكون الناس منه على بصيرة.

القسم الثاني: ما أيده القران والسنة، فهذا يقبل بشهادة القران والسنة له بالصحة.

القسم الثالث: ما لم يؤيده القران ولا السنة، فهذا يتوقف فيه، لان الأمم السابقة ليس بيننا وبينهم إسناد متصل حتى يمكن أن نعرف صحة ما نقل عنهم، ولكنه ينقل، وتكون أخبار إسرائيلية، ينظر فيها، ولكن يتوقف فيها فلا تقبل ولا ترد هذا هو العدل.

ثم أشار المؤلف_ رحمه الله، إلى الحديث السابق، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:(0 الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني))

الكيس: هو الحازم الفطن المتنبه المنتهز للفرص، هو الذي يدين نفسه، أي يحاسبها، فينظر ماذا أهمل من الواجب وماذا فعل من المحرم،

ص: 590

وماذا أتى به من الواجب، وماذا تجنب من المحرم، حتى يصلح نفسه.

أما العاجز: فهو الذي يتبع نفسه هواها، فما هوت نفسه اخذ به، وما كرهت نفسه لم يأخذ به، سواء وافق شرع الله أم لا.

هذا هو العاجز، وما اكثر العاجزين اليوم، الذين يتبعون أنفسهم هواها، ولا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة، ولا يهتمون بهذا، نسأل الله لنا ولهم الهداية.

وقوله: ((تمنى على الله الأماني)) يعني: يقول سيغفر لي، وسوف استقيم فيما بعد، وسوف أقوم بالواجب فيما بعد، وسوف اترك هذا فيما بعد، أو يقول: الله يهديني، وإذا نصحته قال: اسأل الله لي الهداية، وما أشبه ذلك، هذا عاجز.

والكيس: هو الذي يعمل بحزم وجد، ويحاسب نفسه، ويكون عنده قوة في أمر الله، وفي دين الله، وفي شرع الله، حتى يتمكن من ضبط نفسه، وإلا فان الله يقول في كتابه: عن زوجة العزيز (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)(يوسف: من الآية53) ، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته، ويعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

تم بحمد الله تعالى المجلد الأول ويليه بمشيئة الله عز وجل المجلد الثاني

ص: 591