المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌7- باب اليقين والتوكل - شرح رياض الصالحين لابن عثيمين - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌7- باب اليقين والتوكل

‌7- باب اليقين والتوكل

قال الله تعالى: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)(الأحزاب: 22)، وقال تعالى:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(آل عمران: 174، 173)، وقال تعالى:(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(الفرقان: من الآية58)، وقال تعالى:) وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم: من الآية11)، وقال تعالى:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران: من الآية159)، والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة. وقال تعالى:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: من الآية3)، أي: كافية. وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (لأنفال: 2) ، والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة. الشرح جمع المؤلف بين اليقين والتوكل، لان التوكل ثمرة من ثمرات اليقين، فاليقين هو قوة الإيمان والثبات، حتى كان الإنسان يري بعينه ما اخبر الله به رسوله من شدة يقينه، فاليقين هو ثبات وإيمان ليس معه شك بوجه من الوجوه، فيري الغائب الذي اخبر الله_ تعالى_ عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم كأنه حاضر بين يديه، وهو اعلي درجات الإيمان!

ص: 538

هذا اليقين يثمر ثمرات جليلة، منها التوكل علي الله عز وجل، والتوكل علي الله اعاتماد الإنسان علي ربه_ عز وجل_ في ظاهره وباطنه، في جلب المنافع ودفع المضار:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: من الآية3) . ففي هاتين المرتبتين_ اليقين والتوكل_ يحصل للإنسان مقصده في الدنيا والآخرة، ويستريح ويعيش مطمئنا سعيدا، لأنه موقن بكل ما اخبر الله به ورسوله ومتوكل علي الله عز وجل. ثم ذكر المؤلف آيات في هذا الباب، منها قوله تعالى: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ

وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) . الأحزاب: طوائف من قبائل متعددة تألبوا علي رسول الله صلي الله عليه وسلم واجتمعوا علي حربه، وتجمع نحو عشرة آلاف مقاتل من قريش وغيرهم، وحاصروا المدينة، ليقضوا علي النبي صلي الله عليه وسلم، وحصل في هذه الغزوة أزمة عظيمة علي أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالي في وصفها:(وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) من شدة الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) الظنون البعيدة) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) فاقسم الناس في هذه الأزمة العصيبة العظيمة إلى قسمين، بينهما الله_ عز وجل_ في هذه الآيات قال:(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) . القسم الأول: قال الله عنهم:) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: 12) المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين وعندهم نقص في يقينهم،

ص: 539

قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، قالوا: كيف يقول

محمد انه سيفتح كسري ويقصر وصنعاء، وهو الآن محاصر من هؤلاء الناس. كيف يمكن هذا؟ فقالوا:) مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: من الآية12) . أما القسم الثاني: المؤمن، قال الله عنهم:) وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (الأحزاب: من الآية22) وانظر إلى الفرق بين الطائفتين، هؤلاء لما رأوا الأحزاب، ورأوا هذه الشدة، علموا انه سيعقبها نصر وفرج، وقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فسيكون النصر وستفتح ممالك قيصر وكسري واليمن، وهكذا كان ولله الحمد.

والشاهد قوله: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)(الأحزاب: من الآية22) وهذا غاية اليقين، إن يكون الإنسان عند الشدائد، وعند الكرب، ثابتا مؤمنا موقنا، عكس من كان توكله ويقينه ضعيفا، فانه عند المصائب والكرب ربما ينقلب على وجهه، كما قال الله:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)(الحج: من الآية11) أي على طرف (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الحج: من الآية11) .

كثير من الناس ما دام على عافية فهو مطمئن، ولكن إذا ابتلي_ والعياذ بالله_ انقلب على وجهه، فربما يصل إلى حد الردة والكفر، ويعترض على الله بالقضاء والقدر، ويكره تقدير الله، وبالتالي يكره الله_ والعياذ بالله، لأنه كان في الأول لم يصبه أذى ولا فتنة، ولكنه في الثاني أصابته الفتنة فانقلب على وجهه.

ص: 540

وفي هذه الآيات وأشباهها دليل على انه ينبغي للإنسان إن يخاف، ويوجل، ويخشى من زيغ القلب، ويسال الله دائما الثبات، فانه ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه والعياذ بالله.

فنسال الله مقلب القلوب إن يثبت قلوبنا على طاعته، وإن يرزقنا الاستقامة على دينه والثبات عليه.

الآية الثانية: قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: 173) .

هذه الآية نزلت في الصحابة_ رضي الله عنهم_ حيث حصل عليهم ما حصل في غزوة أحد، مما أصابهم من القرح والجروح الشهداء، فقيل لهم: إن أبا سفيان كان قد عزم على الكرة عليكم، وجمع لكم الناس، فندبهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى ملاقاته ومقابلته، فاستجابوا الله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ووأصيبوا بهذه النكبة العظيمة، فقتل منهم سبعون رجلا استشهدوا في سبيل الله، وحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من صحابته_ رضي الله عنهم_ ما حصل، ومع هذا استجابوا لله وللرسول.

قال الله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظم (ِ172الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)(آل عمران: من الآية173) ، يعني إن أبا سفيان ومن معه ممن بقي من كبراء قريش جمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم يريدون استئصاله، ولكن يأبى الله إلا إن يتم نوره.

قيل للصحابة: اخشوا هؤلاء، ولكنهم ازدادوا إيمانا لان المؤمن

ص: 541

كلما اشتدت به الأزمات ازداد إيمانا بالله، لأنه يؤمن بان النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسران ولهذا زادهم إيمانا هذا القول وقالوا:(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(حَسْبُنَا) أي كافينا في مهماتنا وملماتنا (وَنِعْمَ الْوَكِيل) انه نعم الكافي جل وعلا فانه نعم المولى ونعم النصير.

ولكنه إنما يكون ناصرا لمن انتصر به واستنصر به، فانه_ عز وجل_ اكرم الاكرمين وأجود الاجودين، فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره، أعانه وساعده وتولاه، ولكن البلاء من بني ادم، حيث يكون الإعراض كثيرا في الإنسان، ويعتمد على الأمور المادية دون الأمور المعنوية.

قال تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) ذهبوا ولكنهم لم يجدوا كيدا، وآبو سفيان ومن معه ولوا على أدبارهم، ولم يكروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فكتبت للصحابة رضي الله عنهم_ غزوة من غير قتال. كتبت هذه الرجعة غزوة من غير قتال، قال الله تعالى:(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(آل عمران: 174) .

ثم قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران: 175) .

(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم انتم أولياءه، أي: يلقي في قلوبكم الخوف من أوليائه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين.

فالشيطان يأتي إلى المؤمن، يقول: أحذر إن تتكلم في فلان، لأنه ربما يسجنكن وربما يفعل كذا وكذا، فيخوفكن ولكن المؤمن لا يمكن

ص: 542

إن يخاف أولياء الشيطان، لان الله قال:(فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)(النساء: من الآية76) بالنسبة للحق.

فعلى الإنسان إن لا يخاف في الله لومة لائم، وإن لا يخاف إلا الله، ولكن يجب إن يكون سيره على هدى من الله عز وجل، فإذا كان سيره على هدى من الله، فلا يخاف أحدا.

الآية الثالثة: قوله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(الفرقان: من الآية58) وهو الله عز وجل، اعتمد عليه في أمورك كلها، دقيقها وجليلها، لان الله_ عز وجل_ إذا لم ييسر لك الأمور لم يتيسر لك، ومن أسباب تيسيره، أن تتوكل عليه، لا سيما إذا داهمتك الأمور، وكثرت الهموم، وازدادت الخطوب، فانه لا ملجأ لك إلا الله عز وجل، فعليك بالتوكل عليه والاعتماد عليه حتى يكفيك.

وفي قوله تعالى: (الَّذِي لا يَمُوتُ) دليل على امتناع الموت على الرب عز وجل، قال الله تعالى:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27) ، فالله عز وجل_ لا يموت لكمال حياته، فانه هو الأول الذي ليس قبله شئ، وهو الآخر الذي ليس بعده شئ، ثم انه سبحانه وتعالى_ لا ينام أيضا، لكمال حياته وقيوميته قال الله تعالى:(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة: من الآية255) أما الإنس والجن فانهم ينامون ويموتون، وأما الرب_ عز وجل_ فانه لا ينام، لأنه غني عن النوم، أما البشر فانهم في حاجة إلى النوم، لان الأبدان تتعب وتسام وتمل، والنوم راحة عما مضى من التعب، وتجديد نشاط عما

ص: 543

يستقبل من العمل، وأما الله سبحانه وتعالى فلا تأخذه سنة ولا نوم.

وقال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: من الآية3) أي: كافيه، فإذا توكلت على الله كفاك كل شئ، وإذا توكلت على غير الله وكلك الله عليه، ولكنك تخذل ولا تتحقق لك أمورك.

وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (: 2)) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) (لأنفال: من الآية4) .

قوله: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ) أي: إذا ذكرت عظمته وجلاله وسلطانه، خافت القلوب، ووجلتن وتأثر الإنسان، حتى إن بعض السلف إذا تليت عليه آيات الخوف يمرض أياما حتى يعوده الناس، أما نحن فقلوبنا قاسية، نسأل الله إن يلينهان فانه تتلى علينا آيات الخوف وتمر وكأنها شراب بارد، فلا نتأثر بذلك، ولا نتعظ إلا من رحم الله، نسأل الله العافية.

لكن المؤمن: هو الذي إذا ذكر الله وجل قلبه وخاف.

كان بعض السلف إذا قيل له: اتق الله ارتعد، حتى يسقط ما في يده. (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً) (لأنفال: من الآية2) إذا سمعوا كلام الله_ عز وجل_ ازدادوا إيمانا من وجهين:

الوجه الأول: التصديق بما اخبر الله به من أمور الغيب الماضية والمستقبلة.

الوجه الثاني: القبول والإذعان لأحكام الله، فيمتثلون ما أمر الله به، فيزداد بذلك إيمانهم وينتهون عما نهى الله عنه، تقربا إليه وخوفا منه،

ص: 544

فيزداد أيمانهم فهم إذا تليت عليهم آياته ازدادوا إيمان من هذين الوجهين.

وهكذا إذا رأيت من نفسك انك كلما تلوت القران ازددت إيمانا، فان هذا من علامات التوفيق.

أما إذا كنت تقرا القران ولا تتأثر به، فعليك بمداواة نفسك، لا أقول إن تذهب إلى المستشفى، لتأخذ جرعة من حبوب أو مياه أو غيرها، ولكن عليك بمداواة القلب، فان القلب إذا لم ينتفع بالقران ولم يتعظ به، فانه قلب قاس مريض، نسأل الله العافية.

فأنت يا أخي طبيب نفسكن لا تذهب إلى الناس، أقرا القران فان رأيت انك تتأثر به إيمان وتصديقا وامتثالا فهنئا لك، فأنت مؤمن، وإلا فعليك بالدواء، داو نفسك من قبل إن يأتيك موت لا حياة بعده، وهو موت القلب، أما موت الجسد فبعده حياة، وبعده بعث وجزاء وحساب.

وقوله عز وجل: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على ربهم فقط يتوكلون! أي: يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة، لا إلى أحد سواه، كما يدل عليه تقديم المعمول على عامله، والجملة معطوفة على الصلة، إشارة إلى الاختصاص والحصر، وانهم لا يتوكلون إلا على الله عز وجلن لان غير الله إذا توكلت عليه، فإنما توكلت على شخص مثلك، ولا يحرص على منفعتك كما تحرص أنت على منفعة نفسك، ولكن اعتمد على الله_عز وجل_ في أمور دينك ودنياك.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) .

ص: 545

يقيمون الصلاة: يأتون بها مستقيمة بواجباتها وشروطها وأركانها، ويكملونها بمكملاتها، ومن ذلك إن يصلوها في أوقاتها، ومن ذلك إن يصلوها مع المسلمين في مساجدهم، لان صلاة الجماعة كان لا يختلف عنها إلا منافق أو معذور، قال ابن مسعود رصي الله عنه:((لقد رايتنا_ يعني مع الرسول عليه الصلاة والسلام_ وما يختلف عنها_ أي عن الصلاة_ إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجلين، يعني مريض ويحمله رجلان اثنان، حتى يقام في الصف)) لا يثنيهم عن الحضور إلى المساجد حتى المرض رضي الله عنهم. أما كثير من الناس اليوم، فانهم علي العكس من ذلك، فتراهم يتكاسلون ويتأخرون عن صلاة الجماعة. ولهذا لو قارنت بين الصلوات النهارية وصلاة الفجر، لرأيت فرقا بينا، لان الناس يلحقهم الكسل في صلاة الفجر من نوم، ولا يهتمون بها كثيرا. (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية3) أي: ينفقون أموالهم في مرضاة الله، وحسب أوامر الله، وفي المحل المناسب. (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً) (لأنفال: من الآية74) حقا: توكيد

للجملة التي قبلها، أي: أحق ذلك حقا. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(الأنفال: من الآية74) نسأل الله إن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه،

ص: 546

انه جواد كريم. وأما الأحاديث: 74_ فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت انهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا_ وذكروا أشياء_ فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال:((ما الذي تخوضون فيه؟)) فاخبروه فقال: ((هم الذين لا يرون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلي ربهم يتوكلون)) فقام عكاشة بن محصن فقال، ادع الله إن يجعلني منهم، فقال:((أنت منهم)

) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله إن يجعلني منهم فقال: ((سبقك بها عكاشة)) متفق عليه.

ص: 547

((الرهيط)) بضم الراء: تصغير رهط، وهم دون عشرة انفس. ((والأفق)) : الناحية والجانب. ((وعكاشة)) بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها والتشديد افصح. الشرح بعدما ساق المؤلف_ رحمه الله تعالى_ الآيات، ذكر هذا الحديث العظيم، الذي اخبر فيه النبي صلي الله عليه وسلم إن الأمم عرضت عليه، أي: أرى الأمم عليه الصلاة والسلام وأنبياءهم. يقول: ((فرأيت النبي ومعه الرهيط)) أي: معه الرهط القليل، ما بين الثلاثة إلى العشرة. ((والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)) أي: إن الأنبياء_ عليهم الصلاة والسلام_ ليسوا كلهم قد أطاعهم قوهم، بل بعضهم لم يطعه أحد من قومهم، وبعضهم أطاعه الرهط، وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان، وانظر إن نوحا عليه الصلاة والسلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يذكرهم بالله، ويدعوهم إلى الله، قال الله تعالى:(وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(هود: من الآية40) ، كل هذه المدة ولم يلق منهم قبولا، بل ولا سلم من شرهم، قال نوح: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا

أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) (نوح: 7)، وكانوا يمرون به ويسخرون منه. يقول:((رفع لي سواد)) أي: بشر كثير فيهم جهمة من كثرتهم فظننت انهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه)) لان موسى من اثر الأنبياء اتباعا،

ص: 548

بعث في بني إسرائيل، وانزل الله عليه التوراة التي هي أم الكتب الإسرائيلية. قال:((ثم قيل لي انظر! فنظرت إلى الأفق فإذا سواد عظيم_ وفي لفظ: قد سد الأفق_ فقيل: انظر الأفق الثاني! فنظرت إليه فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك)) فالرسول صلي الله عليه وسلم اكثر الأنبياء تابعا، لأنه منذ بعث إلى يوم القيامة والناس يتبعونه، صلوات الله وسلامه عليه، فكان اكثر الأنبياء تابعا، قد ملا اتباعه ما بين الأفقين. ((ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)) أي: مع هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة، لا يحاسبون، ولا يعذبون، من الموقف إلى الجنة بدون حساب ولا عذاب! اللهم اجعلنا منهم. وقد ورد إن مع كل واحد من السبعين ألف سبعين ألفا أيضا. ((ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك

قال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله

عليه وسلم_ يعني لعلهم الصحابة رضي الله عنهم_، وقال آخرون:((لعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء)) وكل أتى بما يظن، فخرج عليهم النبي صلي الله عليه وسلم فسألهم عما يخوضون فيه فاخبروه فقال صلي الله عليه وسلم ((هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتبون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون)) هذا لفظ مسلم وفيه:((لا يرقون)) . والمؤلف رحمه الله قال: انه متفق عليه، وكان ينبغي إن يبين إن هذا اللفظ لفظ مسلم فقط دون رواية البخاري، وذلك إن قوله:((لا يرقون))

ص: 549

كلمة غير صحيحة، ولا تصح عن النبي علبه الصلاة والسلام، لان معني ((لا يرقون)) أي لا يقرؤون علي المرضي، وهذا باطل، فان الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي المرضي. وأيضا القراءة علي المرضي إحسان، فكيف يكون انتفاؤها سببا لدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب. فالمهم إن هذه اللفظة لفظة شاذة، وخطا لا يجوز اعتمادها، والصواب:((هم الذين لا يسترقون)) أي: لا يطلبون من أحد إن يقرا عليهم إذا أصابهم شئ، لانهم معتمدون علي الله، ولان الطلب فيه شئ من الذل، لأنه سؤال الغير، فربما تحرجه ولا يريد إن يقرا، وربما إذا قرا عليك لا يبرا

المرض فتتهمه، وما أشبه ذلك، لهذا قال لا يسترقون. قوله:((ولا يكتوون)) يعني: لا يطلبون من أحد إن يكويهم إذا مرضوا، لان الكي عذاب بالنار، لا يلجا إليه إلا عند الحاجة. وقوله:((ولا يتطيرون)) يعني: لا يتشاءمون لا بمرئي، ولا بمسموع، ولا بمشموم، ولا بمذوق، يعني: لا يتطيرون أبدا. وقد كان العرب في الجاهلية يتطيرون، فإذا طار الطير وذهب نحو اليسار تشاءموا، وإذا رجع تشاءموا، وإذا تقدم نحو الإمام صار لهم نظر آخر، وكذلك نحو اليمين وهكذا. والطيرة محرمة، لا يجوز لاحد إن يتطير لا بطيور، ولا بأيام، ولا بشهور، ولا بغيرها، وتطير العرب فيما سبق بشهر شوال إذا تزوج الإنسان فيه، ويقولون: إن الإنسان إذا تزوج في شهر شوال لم يوفق، فكانت

ص: 550

عائشة رضي الله عنها تقول: ((سبحان الله، إن النبي صلي الله عليه وسلم تزوجها في شوال، ودخل بها في شوال، وكانت احب نسائه إليه)) كيف يقال إن الذي يتزوج في شوال لا يوفق. وكانوا يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويوم الأربعاء يوم كأيام الأسبوع ليس فيه تشاؤم. وكان بعضهم يتشاءم بالوجوه، إذا راء وجها ينكره تشاءم، حتى إن بعضهم إذا فتح دكانه، وكان أول من يأتيه رجل اعور أو اعمي، اغلق دكانه،

وقال اليوم لا رزق فيه. والتشاؤم، كما انه شرك اصغر، فهو حسرة علي الإنسان، فيتألم من كل شئ يراه، لكن لو اعتمد علي الله وترك هذه الخرافات، لسلم، ولصار عيشه صافيا سعيدا. أما قوله:(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فمعناه: انهم يعتمدون علي الله وحده في كل شئ، لا يعتقدون علي غيره، لأنه جل وعلا قال في كتابه:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(الطلاق: من الآية3)، ومن كان الله حسبه فقد كفي كل شئ. هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. فهذه أربع صفات: لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلي ربهم يتوكلون. والشاهد للباب قوله (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) . فقام عكاشة بن محصن رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ((ادع الله إن يجعلني منهم)) ، بادر إلى الخير وسبق إليه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم:((أنت منهم))

ص: 551

ولهذا نحن نشهد الآن بان عكاشة بن محصن_ رضي الله عنه_ يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، لان الرسول عليه الصلاة والسلام قال له:((أنت منهم)) . ((فقام رجل آخر فقال: ادع الله إن يجعلني منهم! قال: سبق بها عكاشة)) فرده النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه

رد لطيف، لم يقل لست منهم، بل قال:((سبقك بها عكاشة)) . فقيل: لأنه كان يعلم بان هذا الذي قال ادع الله إن يجعلني منهم منافق، والمنافق لا يدخل الجنة، فضلا عن كونه يدخلها بغير حساب ولا عذاب. وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من اجل إن لا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق إن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادع الله إن يجعلني. وعل كل حال، فنحن لا نعلم علما يقينا بان الرسول صلي الله عليه وسلم لم يدع الله له إلا لسبب معين، فالله اعلم. لكننا نستفيد من هذا فائدة، وهو الرد الجميل من رسول الله صلي الله عليه وسلم، لان قوله:((سبقك بها عكاشة)) لا يجرحه ولا يحزنه، وسبحان الله، صارت هذه مثلا إلى يومنا هذا، كلما طلب الإنسان شيئا قد سبق به قيل: سبقك بها عكاشة. أورد بعض العلماء إشكالا علي هذا الحديث، وقال: إذا اضطر

ص: 552

الإنسان إلى القراءة، أي إلى إن يطلب من أحد إن يقرا عليه، مثل إن يصاب بعين، أو بسحر، أو أصيب بجن واضطر، هل إذا ذهب يطلب من يقرا عليه، يخرج من استحقاق دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ فقال بعض العلماء: نعم هذا ظاهر الحديث، وليعتمد علي الله وليتصبر ويسال الله العافية. وقال بعض العلماء: بل إن هذا

فيمن استرقي قبل إن يصاب، أي: بان قال: أقرا علي إن لا تصيبني العين، أو إن لا يصيبني السحر أو الجن أو الحمي، فيكون هذا من باب طلب الرقية لامر متوقع لا واقع، وكذلك الكي. فإذا قال إنسان: الذين يكوون غيرهم هل يحرمون من هذا؟ الجواب: لا! لان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: ((ولا يكتوون)) أي: لا يطلبون من يكويهم، ولم يقل ولا يكوون، وهو عليه الصلاة والسلام قد كوي اكحل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسعد بن معاذ الاوسي الأنصاري_ رضي الله عنه_ أصيب يوم الخندق في أكحله فانفجر الدم، والأكحل إذا انفجر دمه قضي علي الإنسان، فكواه النبي صلي الله عليه وسلم في العرق حتى وقف الدم، والنبي صلي الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. فالذين يكوون محسنون، والذين يقرؤون علي الناس محسنون، ولكن الكلام علي الذين يسترقون، أي يطلبون من يقرا عليهم، او

ص: 553

يكتوون، أي: من يطلبون من يكويهم، والله الموفق. 76_ الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا

وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) رواه البخاري. وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار: ((حسبي الله ونعم الوكيل)) . الشرح وإبراهيم ومحمد_ علهما الصلاة والسلام_ هما خليلان لله عز وجل. قال الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: من الآية125)، وقال النبي صلي الله عليه وسلم:((إن الله قد اتخذ خليلا كما أتتخذ إبراهيم خليلا)) والخليل: معناه الحبيب الذي بلغت محبته الغاية، ولا نعلم إن أحد وصف بهذا الوصف إلا محمدا صلي الله عليه وسلم وإبراهيم، فهما الخليلان. وانك تسمع أحيانا يقول بعض الناس: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كليم الله.

ص: 554

والذي يقول: إن محمدا حبيب الله في كلامه نظر، لان الخلة ابلغ من المحبة، فإذا قال: محمد حبيب الله، فهذا فيه نوع نقص من حق الرسول عليه الصلاة والسلام، لان أحباب الله كثيرون، فالمؤمنون يحبهم الله، والمحسنون والمقسطون يحبهم الله، والأحباب كثيرون لله. لكن الخلة لا نعلم إنها ثبتت إلا لمحمد وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وعلي هذا فنقول: الصواب إن يقال: إبراهيم خليل

الله، ومحمد خليل الله، ومسي كليم الله عليهم الصلاة والسلام. علي إن محمدا صلي الله عليه وسلم قد كلمه الله_ سبحانه وتعالى_ كلاما بدون واسطة، حيث عرج به إلى السماوات السبع. هذه الكلمة:((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم حينما القي في النار، وذلك إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأبوا، وأصروا علي الكفر والشرك. فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها، وجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم، فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كسرت، فانتقموا_ والعياذ بالله_ لأنفسهم. فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ) (الأنبياء: من الآية68) انتصارا لآلهتهم (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)(الأنبياء: من الآية68) فأوقدوا نار عظيمة جدا، ثم رموا إبراهيم في هذه النار. ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها، وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد، فلما رموه قال:((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟

ص: 555

قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء: 69)، بردا: ضد حر، وسلاما: ضد هلاكا، لان النار حارة ومحرقة

ومهلكة، فأمر الله هذه النار إن تكون بردا وسلاما عليه، فكانت بردا وسلاما. والمفسرون بعضهم ينقل عن بني إسرائيل في هذه القصة، إن الله لما قال (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: من الآية69) صارت جميع نيران الدنيا بردا! وهذا ليس بصحيح، لان الله وجه الخطاب إلى نار معينة (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً) وعلماء النحو يقولون انه إذا جاء التركيب علي هذا الوجه، صار نكرة مقصودة، أي: لا يشمل كل نار، بل هو للنار التي القي غيها إبراهيم فقط، وهذا هو الصحيح، وبقية نيران الدنيا بقيت علي ما هي عليه. وقال العلماء أيضا: ولما قال الله (كُونِي بَرْداً) قرن ذلك بقوله: (وَسَلاماً) لأنه لو اكتفي بقوله: (بَرْداً) لكانت بردا حتى تهلكه، لان كل شئ يمتثل لامر الله عز وجل، انظر إلى قوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(فصلت: من الآية11) فماذا قالتا: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت: من الآية11)، (قَالَتَا أَتَيْنَا) منفادين لامر الله عز وجل. أما الخليل الثاني الذي قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ

الْوَكِيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، حين رجعوا من أحد، قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، يريدون إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا:(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) . قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(آل عمران: 174)

ص: 556

فينبغي لكل إنسان راء من الناس جمعا له، أو عدوانا عليه، إن يقول:((حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم، كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، فجعل هذه الكلمة دائما علي بالك، إذا رأيت من الناس عدوانا عليك فقل:((حسبي الله ونعم الوكيل)) يكفك الله عز وجل شرهم وهمهم. والله الموفق. 79_ السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلي الله عليه وسلم يقول: ((لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا)) رواه الترمذي، وقال:((حديث حسن)) . معناه: تذهب أول النهار خماصا: أي: ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار بطانا: أي: ممتلئة البطون. الشرح يقول النبي عليه الصلاة

والسلام حاثا أمته علي التوكل ((لو إنكم تتوكلون علي الله حق توكله)) أي: توكلا حقيقيا، تعتمدون علي الله _ عز وجل _ اعتمادا تاما في طلب رزقكم وفي غيره ((لرزقكم كما يرزق الطير))

ص: 557

الطير رزقها علي الله عز وجل، لانها طيور ليس لها مالك، فتطير في الجو، وتغدوا إلى أوكارها، وتستجلب رزق الله عز وجل. ((تغدوا خماصا)) تغدوا: أي تذهب أول النهار، لان الغدوة هي أول النهار. وخماصا يعني: جائعة كما قال الله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة: من الآية3)، مخمصة: يعني مجاعة. ((تغدوا خماصا)) يعني جائعة: ليس في بطونها شئ، لكنها متوكلة علي ربها عز وجل. ((وتروح)) أي ترجع في آخر النهار، لان الرواح هو آخر النهار. ((بطانا)) أي ممتلئة البطون، من رزق الله عز وجل. ففي هذا دليل علي مسائل: أولا: انه ينبغي للإنسان إن يعتمد علي الله_ تعالى_ حق الاعتماد. ثانيا: انه ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها، حتى الطير في جو السماء، لا يمسكه في جو السماء إلا الله، ولا يرزقه إلا الله عز وجل. كل دابة في الأرض، من اصغر ما يكون كالذر، أو اكبر ما

يكون، كالفيلة وأشباهها، فان علي الله رزقها، كما قال الله:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)(هود: من الآية6) ، ولقد ضل ضلالا مبينا من أساء الظن بربه، فقال لا تكثروا الأولاد، تضيق عليكم الأرزاق! كذبوا ورب العرش، فإذا اكثروا من الأولاد اكثر الله في رزقهم، لأنه ما من دابة علي الأرض إلا علي الله رزقها، فرزق أولادك وأطفالك علي الله عز وجل، هو الذي يفتح لك أبواب الرزق من اجل إن تنفق عليهم، لكن كثير

ص: 558

من الناس عندهم سوء ظن بالله، ويعتمدون علي الأمور المادية المنظورة، ولا ينظرون إلى المدى البعيد، والي قدرة الله عز وجل، وانه هو الذي يرزق ولو كثر الأولاد. اكثر من الأولاد تكثر لك الأرزاق، هذا هو الصحيح. وفي هذا دليل_ أيضا_ علي إن الإنسان إذا توكل علي الله حق التوكل فليفعل الأسباب. ولقد ضل من قال لا افعل السبب، وأنا متوكل، فهذا غير صحيح، المتوكل: هو الذي يفعل الأسباب متوكلا علي الله عز وجل، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:((كما يرزق الطير تغدوا خماصا)) تذهب لتطلب الرزق، ليست الطيور تبقي في أوكارها، لكنها تغدوا وتطلب

الرزق. فأنت إذا توكلت علي الله حق التوكل، فلا بد إن تفعل الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجه حلال بالزراعة، أو التجارة، بأي شئ من أسباب الرزق، اطلب الرزق معتمدا علي الله، ييسر الله لك الرزق. ومن فوائد هذا الحديث: إن الطيور وغيرها من مخلوقات الله تعرف الله، كما قال الله تعالى:) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء: من الآية44)، يعني: ما من شئ إلا يسبح بحمد الله) (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)(الحج: من الآية18) .

ص: 559

فالطيور تعرف خالقا عز وجل، وتطير تطلب الرزق بما جلبها الله عليه من الفطرة التي تهتدي بها إلى مصالحها، وتغدو إلى أوكارها في آخر النهار بطونها ملا، وهكذا دواليك في كل يوم،

والله عز وجل يرزقها وييسر لها الرزق. وانظر إلى حكمة الله، كيف تغدو هذه الطيور إلى محلات بعيدة، وتهتدي بالرجوع إلى أماكنها، لا تخطئها، لان الله_ عز وجل_ أعطي كل شئ خلقه ثم هدي. والله الموفق. 80_ السابع: عن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((يا فلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، والجات ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فانك إن مت من ليلتك مت علي الفطرة، وان أصبحت أصبت خيرا)) متفق عليه وفي رواية في الصحيحين عن البراء قال: قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضؤك للصلاة، ثم اضطجع علي شقك الأيمن وقل: وذكر نحوه، ثم قال: واجعلهن آخر ما تقول)) .

ص: 560

الشرح ثم ذكر المؤلف_ في باب اليقين والتوكل_ حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما، حيث أوصاه النبي صلي الله عليه وسلم إن يقول عند نومه، إذا أوى إلى فراشه، إن يقول هذا الذكر، الذي يتضمن تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وانه معتمد علي الله في ظاهره وباطنه، مفوض

أمره إليه. وفيه إن النبي صلي الله عليه وسلم أمره إن يضجع إلى الجنب الأيمن، لان ذلك هو الأفضل، وقد ذكر الأطباء إن النوم علي الجني الأيمن افضل للبدن، واصح من النوم علي الجنب الأيسر. وذكر أيضا بعض أرباب السلوك والاستقامة، انه اقرب في استيقاظ الإنسان، لان بالنوم علي الجنب الأيسر ينام القلب، ولا يستيقظ بسرعة، بخلاف النوم علي الجنب الأيمن، فانه يبقي القلب متعلقا، ويكون اقل عمقا في منامه فيستيقظ بسرعة. وفي هذا الحديث: إن النبي صلي الله عليه وسلم أمره إن يجعلهن آخر ما يقول، مع إن هناك ذكرا بل أذكار عند النوم تقال غير هذه، مثلا: التسبيح والتحميد، والتكبير، فانه ينبغي للإنسان إذا نام علي فراشه إن يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله اكبر أربع وثلاثين، هذا من الذكر، لكن حديث البراء_ رضي الله عنه_ يدل علي إن ما أوصاه الرسول صلي الله عليه وسلم به إن يجعلهن آخر ما يقول. وقد اعد البراء بن عازب_ رضي الله عنه_ هذا الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، ليتقنه، فقال:((آمنت بكتابك الذي أنزلت ورسولك الذي أرسلت))

ص: 561

فرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال قل:((ونبيك الذي أرسلت))

ولا تقل: ((ورسولك الذي أرسلت)) . قال أهل العلم: وذلك لان الرسول يكون من البشر ويكون من الملائكة، كما قال الله عن جبريل:) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير: 20، 19)، وأما النبي صلي الله عليه وسلم فلا يكون إلا من البشر. فإذا قال:((ورسولك الذي أرسلت)) فان اللفظ صالح، لان يكون المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، لكن إذا قال:((ونبيك الذي أرسلت)) اختص بمحمد صلي الله عليه وسلم، هذا من وجه، ومن وجه آخر: انه إذا قال: ((ورسولك الذي أرسلت)) فان دلالة هذا اللفظ علي النبوة من باب دلالة الالتزام، وأما إذا قال:((نبيك)) فانه يدل علي النبوة دلالة مطابقة، ومعلوم إن دلالة المطابقة اقوي من دلالة الالتزام. الشاهد من هذا الحديث قوله:((وفوضت أمري إليك)) وقوله: ((لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)) فان التوكل: تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وانه لا يلجا ولا يطلب منجى من الله إلا إلى الله عز وجل، لأنه إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، فإذا أراد الله بالإنسان شيئا فلا مرد له إلا الله عز وجل، يعني: إلا إن يلجا إلى ربك_ سبحانه وتعالى_ بالرجوع

إليه. فينبغي للإنسان إذا أراد النوم إن ينام علي جنبه الأيمن، وان يقول هذا الذكر، وان يجعله آخر ما يقول. والله الموفق.

ص: 562

81_

الثامن: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي رضي الله عنه_ وهو وأبوه وأمه صحابة، رضي الله عنهم_ قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم علي رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو إن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ((ما أظنك يا أبا بكر باثنين علي الله ثالثهما)) متفق عليه. الشرح قوله: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) أي: ما ظنك، هل أحد يقدر عليهما أو ينالهما بسوء؟ وهذه القصة كانت حينما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وذلك إن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما جهر بالدعوة، ودعا الناس، وتبعوه، وخاف المشركون، وقاموا ضد دعوته، وضايقوه، أذوه بالقول وبالفعل، فأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة ولم يصحبه إلا آبو بكر رضي الله عنه، والدليل، والخادم، فهاجر بأمر الله، وصحبه آبو بكر رضي الله عنه. ولما سمع المشركون بخروجه من مكة، جعلوا لمن جاء به مائتي

ص: 563

بعير، ولمن جاء بابي بكر مائة بعير، وصار الناس يطلبون الرجلين في الجبال، وفي الأودية وفي المغارات، وفي كل مكان، حتى وقفوا علي الغار الذي فيه النبي صلي الله عليه وسلم وأبو بكر، وهو غار ثور الذي اختفيا فيه ثلاث ليال، حتى يبرد عهما الطلب، فقال آبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، لأننا في الغار تحته، فقال:((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) وفي كتاب الله انه قال: (ِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: من الآية40) ، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) وقال (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . فقوله: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟ والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن اعز ولا معز لمن أذل:(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران: 26) . وفي هذه القصة: دليل علي كمال توكل

النبي صلي الله عليه وسلم علي ربه، وانه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل. وفيه دليل علي أن قصة نسج العنكبوت غير صحيحة، فما يوجد في بعض التواريخ، أن العنكبوت نسجت علي باب الغار، وانه نبت فيه شجرة، وانه كان علي غصنها حمامة، وان المشركين لما جاءوا إلي الغار

ص: 564

قالوا هذا ليس فيه أحد، فهذه الحمامة علي غصن شجرة علي بابه، وهذه العنكبوت قد عششت علي بابه، كل هذا لا صحة له، لان الذي منع المشركين من رؤية النبي صلي الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر ليست أمورا حسية_ تكون لها ولغيرها_ بل هي أمور معنوية، وآية من آيات الله عز وجل، حجب الله أبصار المشركين عن رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحبه آبي بكر رضي الله عنه، أما لو كان أمور حسية، مثل العنكبوت التي نسجت، والحمامة، والشجرة، فكلها أمور حسية، كل يختفي بها عن غيره، لكن الأمر آية من آيات الله عز وجل، فالحاصل أن ما يذكر في كتب التاريخ في هذا لا صحة له، بل الحق الذي لا شك فيه، أن الله _ تعالى_ اعمي أعين المشركين عن رؤية النبي صلي الله عليه وسلم وصاحبه_ رضي الله عنه_ في الغار. والله الموفق. 82_ التاسع: عن

أم المؤمنين أم سلمة، واسمها هند بنت آبي أمية حديقة المخزومية، رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت علي الله، اللهم إني أعوز بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو اظلم أو اظلم، أو اجهل أو يجهل علي)) حديث صحيح رواه

ص: 565

أبو داود، والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح وهذا لفظ آبي داود. 83_ العاشر: عن انس رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلي الله عليه وسلم: ((من قال_ يعني إذا خرج من بيته_ بسم الله توكلت علي الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت، وتنحي عنه الشيطان)) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم. وقال الترمذي: حديث حسن، زاد أبو داود:((فيقول: _يعني الشيطان _ لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟)) . الشرح الشاهد من هذا الحديث قوله: ((بسم الله توكلت علي الله)) فان في هذا دليلا علي أن الإنسان ينبغي له إذا خرج من بيته، أن يقول هذا الذكر، الذي منه التوكل علي الله والاعتصام به، لان الإنسان إذا خرج من بيته فهو عرضة لان يصيبه شئ، أو يعتدي عليه حيوان، من عقرب أو حية أو ما أشبه ذلك، فيقول: (

(بسم الله توكلت علي الله)) وسبق لنا أن التوكل علي الله، والاعتماد عليه من الثقة به وحسن الظن. وقوله:((اللهم أني أعوذ بك أن أضل)) أي: أضل في نفسي

ص: 566

((أو أضل)) أي: يضلني أحد. ((أو أزل)) من الزلل: وهو الخطأ. ((أو أزل)) أي: أحد يتوصل لفعل الخطأ يصدر مني. ((أو اظلم)) او اظلم غيري. ((أو اظلم)) يظلمني غيري. ((أو اجهل)) اسفه. ((أو يجهل علي)) يسفه علي أحد، ويعتدي علي أحد. فهذا الذكر ينبغي أن يقوله الإنسان إذا خرج من بيته، لما فيه من اللجوء إلي الله سبحانه وتعالى والاعتصام به. والله والموفق.

ص: 567