المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٩

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة فاطر

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 45]

- ‌سورة يس

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 83]

- ‌سورة الصافات

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 98]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182]

- ‌سورة ص

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 15 الى 40]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 88]

- ‌سورة الزمر

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 31]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75]

- ‌سورة غافر

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 85]

- ‌سورة فصلت

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 54]

- ‌سورة الشّورى

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 53]

- ‌سورة الزّخرف

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 89]

- ‌سورة الدّخان

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59]

- ‌سورة الجاثية

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37]

- ‌سورة الأحقاف

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 35]

- ‌سورة محمّد

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 38]

- ‌سورة الفتح

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الحجرات

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة ق

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 45]

- ‌سورة الذّاريات

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 60]

- ‌سورة الطّور

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 49]

الفصل: ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75]

وَلِذَلِكَ جَاءَ تَخْتَصِمُونَ بِالْخِطَابِ، فَتَحْتَجُّ أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَكَذَّبُوا وَاجْتَهَدْتَ فِي الدَّعْوَةِ، وَلَجُّوا فِي الْعِنَادِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، يَخْتَصِمُونَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَظَالِمِهِمْ. وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِصَامَ سَبَبُهُ مَا كَانَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، وَمَا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: يَخْتَصِمُ الْجَمِيعُ، فَالْكُفَّارُ يُخَاصِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ. وَالْمُؤْمِنُونَ يَتَلَقَّوْنَ الْكَافِرِينَ بِالْحُجَجِ، وَأَهْلُ الْقِبْلَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الْخِصَامُ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَعِيسَى، وَالْيَمَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي غَوْثٍ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: إِنَّكَ مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِحُدُوثِ الصِّفَةِ وَالْجُمْهُورُ: مَيِّتٌ وَمَيِّتُونَ، وَهِيَ تُشْعِرُ بِالثُّبُوتِ واللزوم كالحي.

[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71)

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

ص: 199

اشْمَأَزَّ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: زَعِرَ. قَالَ غَيْرُهُ: تَقَبَّضَ كَرَاهَةً وَنُفُورًا. قَالَ الشَّاعِرُ:

إذا عض الثقاف بها اشمأزت

وولته عشوزية زَبُونَا

الْمَقَالِيدُ: الْمَفَاتِيحُ، قِيلَ: لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، قَالَهُ التَّبْرِيزِيُّ. وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِقْلِيدٌ، وَقِيلَ: مِقْلَادٌ، وَيُقَالُ: إِقْلِيدٌ وَأَقَالِيدُ، وَالْكَلِمَةُ أَصْلُهَا فَارِسِيَّةٌ. الزُّمَرُ: جَمْعُ زُمْرَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ: جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ. قَالَ:

حَتَّى احْزَأَلَّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ وَيُقَالُ: تَزَمَّرَ. وَالْحُفُوفُ: الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

تَحُفُّهُ جَانِبٌ ضَيْقٌ وَيَتْبَعُهُ

مِثْلُ الزُّجَاجَةِ لَمْ يُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ

وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَفَافِ، وَهُوَ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ حَفَافِي سَرِيرِهِ

إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ، وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ، لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ: هَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِلَّذِينِ يَكُونُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِصَامَ السَّابِقَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمَعْنَى: لَا أَجِدُ فِي الْمُكَذِّبِينَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ، فَنَسَبَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ وَالصَّاحِبَةَ وَالشَّرِيكَ، وَحَرَّمَ وَحَلَّلَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ: وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءَهُ: أَيْ وَقْتُ

ص: 202

مَجِيئِهِ، فَاجَأَهُ بِالتَّكْذِيبِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا ارْتِيَاءٍ وَلَا نَظَرٍ، بَلْ وَقْتَ مَجِيئِهِ كَذَّبَ بِهِ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ تَوَعُّدًا فِيهِ احْتِقَارُهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ، وَلِلْكَافِرِينَ مِمَّا قَامَ فِيهِ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، أَيْ مَثْوًى لَهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى علة كذبهم وتكذبيهم، وَهُوَ الْكُفْرُ. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ. وَصَدَّقَ بِهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ.

وَالَّذِي جَنْسٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْفَرِيقُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، فَجَمَعَ. كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ، يُرَادُ بِهِ جَمْعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: والذي جاؤوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَالَّذِينَ، فَحُذِفَتْ مِنْهُ النُّونَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِذْ لَوْ أُرِيدَ الَّذِينَ بِلَفْظِ الَّذِي وَحُذِفَتْ مِنْهُ النُّونُ، لَكَانَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا كَقَوْلِهِ:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْحِ دِمَاؤُهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتِ النُّونُ فِي الْمُثَنَّى كَانَ الضَّمِيرُ مُثَنًّى؟ كَقَوْلِهِ:

أَبَنِي كُلَيْبٍ أَنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا

قَتَلَا الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الْأَغْلَالَا

وَقِيلَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقِيلَ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَلِيٌّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْكَلْبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ الرَّسُولُ، وَالَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ.

وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ: الذي صدق به هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جَاءَ بِالصِّدْقِ وَآمَنَ بِهِ، وَأَرَادَ بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَ بِمُوسَى إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ «1» ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي الصِّفَةِ، وَذَلِكَ فِي الِاسْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ: وَالْفَوْجُ وَالْفَرِيقُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَصَحَابَتُهُ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَأَرَادَ بِهِ إِيَّاهُ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَ بِمُوسَى إِيَّاهُ وَقَوْمَهُ. اسْتَعْمَلَ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَّصِلٌ، فَإِصْلَاحُهُ وَأَرَادَهُ بِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، كَمَا أَرَادَهُ بِمُوسَى وَقَوْمِهِ: أَيْ لَعَلَّ قَوْمَهُ يَهْتَدُونَ، إِذْ مُوسَى عليه السلام مُهْتَدٍ. فَالْمُتَرَجَّى هِدَايَةُ قَوْمِهِ، لَا هِدَايَتُهُ، إِذْ لَا يُتَرَجَّى إِلَّا مَا كَانَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا. وَقَوْلُهُ: وَيَجُوزُ إِلَخْ، فيه توزيع

(1) المؤمنون: 23/ 49.

ص: 203

الصِّلَةِ، وَالْفَوْجُ هُوَ الْمَوْصُولُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَاءَ الْفَرِيقُ الَّذِي شَرُفَ وَشَرَّفَ. وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ التَّوْزِيعِ، بَلِ الْمَعْطُوفَ عَلَى الصِّلَةِ، صِلَةٌ لِمَنْ لَهُ الصِّلَةُ الْأُولَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصَدَّقَ مُشَدَّدًا وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جُحَازَةَ: مُخَفَّفًا. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَعَمِلَ بِهِ. وَقِيلَ: اسْتَحَقَّ بِهِ اسْمَ الصِّدْقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى هَذَا إِسْنَادُ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَأَنَّ أُمَّتَهُ فِي ضِمْنِ الْقَوْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. انْتَهَى وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ صَدَقَ بِهِ النَّاسَ، وَلَمْ يَكْذِبْهُمْ بِهِ، يَعْنِي: أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَصَارَ صَادِقًا بِهِ، أَيْ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ، وَالْمُعْجِزَةُ تَصْدِيقٌ مِنَ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ لِمَنْ يُجْرِيهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ إِلَّا الصَّادِقُ، فَيَصِيرُ لِذَلِكَ صادقا بالمعجزة.

وقرىء: وَصَدَّقَ بِهِ. انْتَهَى، يَعْنِي: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْلَوَامِحِ: جَاءَ بِالصِّدْقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَصَدَّقَ بِقَوْلِهِ، أَيْ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِي مَجِيئِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الصِّفَتَانِ مِنَ الصِّدْقِ: مِنْ صِدْقِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَصِدْقِهِ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الْمَدْحِ. انْتَهَى.

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ: عَامٌّ فِي كُلِّ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ وَتَتَعَلَّقُ بِهِ إرادتهم. ولِيُكَفِّرَ:

مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحْسِنِينَ، أَيِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا لِيُكَفِّرَ، أَوْ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ يَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ لِيُكَفِّرَ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ التَّيْسِيرِ للخير. وأَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا: هُوَ كُفْرُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَعَاصِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّكْفِيرُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ الْعِقَابِ عَنْهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْجَزَاءُ بِالْأَحْسَنِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ يَكُونُ إِذَا صَدَّقُوا الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا أَتَوْا بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِي، وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ، يَقُولُونَ: لَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَامَ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فِي الْمُحْسِنِينَ، أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ، فَنَبَّهَ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَسْوَأَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِذَا كَفَّرَ أَسْوَأَ أَعْمَالِهِمْ، فَتَكْفِيرُ مَا هُوَ دُونَهُ أَحْرَى. وَقِيلَ: أَفْعَلُ لَيْسَ لِلتَّفْضِيلِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ:

الْأَشَجُّ أَعْدَلُ بَنِي مَرْوَانَ، أَيْ عَادِلٌ، فكذلك هذا، أي سيء الَّذِينَ عَمِلُوا. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ ابْنِ مِقْسَمٍ، وَحَامِدِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: أَسْوَأَ هُنَا وَفِي حم السَّجْدَةِ بِأَلِفٍ بَيْنَ الْوَاوِ وَالْهَمْزَةِ جَمْعُ سُوءٍ، وَلَا تَفْضِيلَ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِأَحْسَنِ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ فَقِيلَ:

لِيَنْظُرَ إِلَى أَحْسَنِ طَاعَاتِهِ فَيُجْزَى الْبَاقِي فِي الْجَزَاءِ عَلَى قِيَاسِهِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِالتَّقْصِيرِ.

وَقِيلَ: بِأَحْسَنِ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: بِأَحْسَنِ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ

ص: 204

بِأَحْسَنِ الَّذِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا التَّفْضِيلُ فَيُؤْذِنُ بِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَفْرُطُ مِنْهُمْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالزَّلَّاتِ الْمُكَفَّرَاتِ هُوَ عِنْدَهُمُ الْأَسْوَأُ لِاسْتِعْظَامِهِمُ الْمَعْصِيَةَ، وَالْحَسَنُ الَّذِي يَعْمَلُونَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْأَحْسَنُ لِحُسْنِ إِخْلَاصِهِمْ فِيهِ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ سَيِّئَهُمْ بِالْأَسْوَأِ، وَحَسَنَهُمْ بِالْأَحْسَنِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَكُونُ قَدِ اسْتَعْمَلَ أَسْوَأَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ، وَأَحْسَنَ فِي التَّفْضِيلِ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ تَوْزِيعٌ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.

قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ مُحَمَّدٌ عَنْ تَعْيِيبِ آلِهَتِنَا وَتَعْيِيبِنَا، لِنُسَلِّطَهَا عَلَيْهِ فَتُصِيبَهُ بِخَبَلٍ وَتَعْتَرِيَهُ بِسُوءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ: أَيْ شَرَّ مَنْ يُرِيدُهُ بِشَرٍّ، وَالْهَمْزَةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى النَّفْيِ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ هُوَ كَافٍ عَبْدَهُ، وَفِي إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ لِنَبِيِّهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَبْدَهُ، وَهُوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: عِبَادَهُ بِالْجَمْعِ، أَيِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُطِيعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ: وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَلَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إِلَى كَسْرِ الْعُزَّى، قَالَ لَهُ سَادِنُهَا: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهَا، فَلَهَا قُوَّةٌ لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. فَأَخَذَ خَالِدٌ الْفَأْسَ، فَهَشَّمَ بِهِ وَجْهَهَا ثُمَّ انْصَرَفَ. وَفِي قَوْلِهِ: وَيُخَوِّفُونَكَ، تَهَكُّمٌ بِهِمْ لِأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْعٍ وَلَا ضَرَرٍ. وَنَظِيرُ هَذَا التَّخْوِيفِ قَوْلُ قَوْمِ هُودٍ لَهُ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «1» . وقرىء: بِكَافِي عَبْدِهِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيُكَافِي عِبَادَهُ مُضَارِعُ كَفَى، وَنُصِبَ عِبَادَهُ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مُفَاعَلَةً مِنَ الْكِفَايَةِ، كَقَوْلِكَ: يُجَازِي فِي يَجْزِي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كَفَى، لِبِنَائِهِ عَلَى لَفْظِ الْمُبَالِغَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ:

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ «2» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَهْمُوزًا مِنَ الْمُكَافَأَةِ، وَهِيَ الْمُجَازَاةُ، أَيْ يَجْزِيهِمْ أَجْرَهُمْ.

وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى كَافِيَ عَبْدِهِ، كَانَ التَّخْوِيفُ بِغَيْرِهِ عَبَثًا بَاطِلًا. وَلَمَّا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَى مُهْتَدِينَ وَضَالِّينَ، أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ هُوَ فَاعِلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ: أَيْ غَالِبٍ مَنِيعٍ، ذِي انْتِقامٍ: وَفِيهِ وَعِيدٌ لِقُرَيْشٍ، وَوَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلَمَّا أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ، وَهُوَ اللَّهُ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي نَبِيِّهِ بِمَا أَرَادَ. فَإِنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَدَّعُونَهَا آلِهَةً مِنْ دُونِهِ لَا تَكْشِفُ ضُرًّا وَلَا تُمْسِكُ رَحْمَةً، أَيْ صِحَّةً وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَأَرَأَيْتُمْ هُنَا جَارِيَةٌ عَلَى وَضْعِهَا، تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولِهَا الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا يَدْعُونَ. وَجَاءَ الْمَفْعُولُ الثاني جملة

(1) سورة هود: 11/ 54.

(2)

سورة البقرة: 2/ 137.

ص: 205

اسْتِفْهَامِيَّةً، وَفِيهَا الْعَائِدُ عَلَى مَا، وَهُوَ لَفْظُ هُنَّ وأنت تَحْقِيرًا لَهَا وَتَعْجِيزًا وَتَضْعِيفًا. وَكَانَ فِيهَا مَنْ سُمِّي تَسْمِيَةَ الْإِنَاثِ، كَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَاللَّاتَ، وَأَضَافَ إِرَادَةَ اللَّهِ الضُّرَّ إِلَى نَفْسِهِ وَالرَّحْمَةَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ خَوَّفُوهُ مَضَرَّتَهَا، فَاسْتَسْلَفَ مِنْهُمُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ. ثُمَّ اسْتَخْبَرَهُمْ عَنْ أَصْنَامِهِمْ، هَلْ تَدْفَعُ شَرًّا وَتَجْلِبُ خَيْرًا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَاشِفَاتُ وَمُمْسِكَاتُ عَلَى الْإِضَافَةِ وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعِيسَى: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ بِتَنْوِينِهِمَا وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُمَا. وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ تَعَالَى كَافِيهِ، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، أَمْرَهُ تَعَالَى أنه يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ حَسْبُهُ، أَيْ كَافِيهِ. وَالْجَوَابُ فِي هَذَا الِاسْتِخْبَارِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَخْبَرَهُمْ فسكتوا. قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا.

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.

لَمَّا كَانَ عليه السلام يَعْظُمُ عَلَيْهِ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، سَلَّاهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، مَصْحُوبًا بِالْحَقِّ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، لِلنَّاسِ: أَيْ لِأَجْلِهِمْ، إِذْ فِيهِ تَكَالِيفُهُمْ. فَمَنِ اهْتَدى: فَثَوَابُ هِدَايَتِهِ إِنَّمَا هُوَ لَهُ، وَمَنْ ضَلَّ: فَعِقَابُ ضَلَالِهِ إِنَّمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ: أَيْ فتجبرهم على الإيمان. قتال قَتَادَةُ: بِوَكِيلٍ: بِحَفِيظٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِلنَّاسِ: لِأَجْلِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، لِيُبَشَّرُوا وَيُنْذَرُوا. فَتَقْوَى دَوَاعِيهِمْ إِلَى اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَلَا حَاجَةَ لِي إِلَى ذَلِكَ، فَأَنَا الْغَنِيُّ. فَمَنِ اخْتَارَ الْهُدَى، فَقَدْ نَفَعَ نَفْسَهُ وَمَنِ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ،

ص: 206

فَقَدْ ضَرَّهَا، وَمَا وُكِّلْتَ عَلَيْهِمْ لِتُجْبِرَهُمْ عَلَى الْهُدَى. فَإِنَّ التَّكْلِيفَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِيَارِ دُونَ الْإِجْبَارِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْحَقِّ لِلنَّاسِ، نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، لَا يُشْرِكُهُ فِي ذَلِكَ صَنَمٌ ولا غَيْرِهِ، فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالْأَنْفُسُ هِيَ الْأَرْوَاحُ. وَقِيلَ: النَّفْسُ غَيْرُ الرُّوحِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.

فَالرُّوحُ لَهَا تَدْبِيرُ عَالَمِ الْحَيَاةِ، وَالنَّفْسُ لَهَا تَدْبِيرُ عَالَمِ الْإِحْسَاسِ. وَفَرَّقَتْ فِرْقَةٌ بَيْنَ نَفْسِ التَّمْيِيزِ وَنَفْسِ التَّخْيِيلِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاللُّغَةُ أَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ مُتَرَادِفَانِ، وَأَنَّ فِرَاقَ ذَلِكَ مِنَ الْجَسَدِ هُوَ الْمَوْتُ. وَمَعْنَى يَتَوَفَّى النَّفْسَ: يُمِيتُهَا، وَالَّتِي: أَيْ وَالْأَنْفُسُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، أَيْ يَتَوَفَّاهَا حِينَ تَنَامُ، تَشْبِيهًا لِلنُّوَامِ بِالْأَمْوَاتِ. وَمِنْهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «1» . فَبَيْنَ الْمَيِّتِ وَالنَّائِمِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ كَوْنُهُمَا لَا يُمَيِّزَانِ وَلَا يَتَصَرَّفَانِ.

فَيُمْسِكُ مَنْ قَضَى عليه الْمَوْتَ الْحَقِيقِيَّ، وَلَا يَرُدُّهَا فِي وَقْتِهَا حَيَّةً وَيُرْسِلُ النَّائِمَةَ لِجَسَدِهَا إِلَى أَجَلٍ ضَرَبَهُ لِمَوْتِهَا. وَقِيلَ: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ: يَسْتَوْفِيهَا وَيَقْبِضُهَا، وَهِيَ الْأَنْفُسُ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الْحَيَاةَ وَالْحَرَكَةَ. وَيَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، وَهِيَ أَنْفُسُ التَّمْيِيزِ، قَالُوا: فَالَّتِي تُتَوَفَّى فِي النَّوْمِ هِيَ نَفْسُ التَّمْيِيزِ لَا نَفْسُ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ نَفْسَ الْحَيَاةِ إِذَا زَالَتْ زَالَ مَعَهَا النَّفَسُ. وَالنَّائِمُ يَتَنَفَّسُ، وَكَوْنُ النَّفْسِ تُقْبَضُ، وَالرُّوحُ فِي الْجَسَدِ حَالَةَ النَّوْمِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ وَيَتَنَفَّسُ، هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَدَلَّ عَلَى التَّغَايُرِ وَكَوْنِهَا شَيْئًا وَاحِدًا هُوَ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وَأَحَدُ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْخَوْضُ فِي هَذَا، وَطَلَبُ إِدْرَاكِ ذَلِكَ عَلَى جَلِيَّتِهِ عَنَاءٌ وَلَا يُوصَلُ إِلَى ذَلِكَ. إِنَّ فِي ذلِكَ: أَيَ فِي تَوَفِّي الْأَنْفُسِ مَائِتَةً وَنَائِمَةً، وَإِمْسَاكِهَا وَإِرْسَالِهَا إِلَى أَجَلٍ، لَآياتٍ: لَعَلَامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ، لِقَوْمٍ يُجِيلُونَ فِيهِ أَفْكَارَهُمْ وَيَعْتَبِرُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَضى مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، الْمَوْتَ: نَصْبًا وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَعِيسَى، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الْمَوْتُ: رَفْعًا. فَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ تُقَدَّرُ بِبَلْ وَالْهَمْزَةُ، وَهُوَ تَقْرِيرٌ وَتَوْبِيخٌ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَنَا، وَالشَّفَاعَةُ إِنَّمَا هِيَ لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَبِإِذْنِهِ تَعَالَى، وَهَذَا مفقود في آلهتهم. وأولو مَعْنَاهُ:

أَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَهُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، وَذَلِكَ عَامُّ النَّقْصِ، فَكَيْفَ يَشْفَعُ هَؤُلَاءِ؟ وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ فِي أَوَلَوْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

مَتَى دَخَلَتْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ أَوْ فَائِهِ أَحْدَثَتْ مَعْنَى التَّقْرِيرِ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانُوا

(1) سورة الأنعام: 6/ 60.

ص: 207

لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ وَلَوْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا قَطُّ حَتَّى يَمْلِكُوا الشَّفَاعَةَ، وَلَا عَقْلَ لَهُمْ. انْتَهَى. فَأَتَى بِقَوْلِهِ: قَطُّ، بَعْدَ قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ مَاضٍ، وَقَطُّ ظَرْفٌ يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْمَاضِي لَا مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ لِلزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ، وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ عَرَبِيٍّ.

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً: فَهُوَ مَالِكُهَا، يَأْذَنُ فِيهَا لِمَنْ يَشَاءُ ثُمَّ أَتَى بِعَامٍّ وَهُوَ: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فَانْدَرَجَ فِيهِ مِلْكُ الشَّفَاعَةِ. وَلَمَّا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ مِنْ غَيْرِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى إِذْنِهِ، كَانَتِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا لَهُ. وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُونَ، وَيَخِيبُ سَعْيُكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: معناه له ملك السموات وَالْأَرْضِ الْيَوْمَ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا يكون الملك في اليوم ذَلِكَ إِلَّا لَهُ، فَلَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ: أَيْ مُفْرَدًا بِالذِّكْرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَ آلِهَتِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَهِيَ الْأَصْنَامُ. وَالِاشْمِئْزَازُ وَالِاسْتِبْشَارُ مُتَقَابِلَانِ غَايَةً، لِأَنَّ الِاشْمِئْزَازَ: امْتِلَاءُ الْقَلْبِ غَمًّا وَغَيْظًا، فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ، وَهُوَ الِانْقِبَاضُ فِي الْوَجْهِ، وَالِاسْتِبْشَارُ: امْتِلَاؤُهُ سُرُورًا، فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ، وَهُوَ الِانْبِسَاطُ، وَالتَّهَلُّلُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْعَامِلُ فِي وَإِذَا ذُكِرَ؟ قُلْتُ: الْعَامِلُ فِي إِذَا الْفُجَائِيَّةِ تَقْدِيرُهُ:

وَقْتُ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَاجَأُوا الِاسْتِبْشَارَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، إِذَا مُضَافَةٌ إِلَى الِابْتِلَاءِ وَالْخَبَرِ، وَإِذَا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَحُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، فَيَكُونُ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الْعَامِلَ فِي إِذَا، الْمَعْنَى: إِذَا كَانَ ذَلِكَ اسْتَبْشَرُوا. انْتَهَى. أَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَلَا أَعْلَمُهُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَنْتَمِي لِلنَّحْوِ، وَهُوَ أَنَّ الظَّرْفَيْنِ مَعْمُولَانِ لِعَامِلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ إِذَا الْأُولَى يَنْتَصِبُ عَلَى الظَّرْفِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْحَوْفِيِّ فَبَعِيدٌ جِدًّا عَنِ الصَّوَابِ، إِذْ جَعَلَ إِذَا مُضَافَةً إِلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَحُذِفَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ تَكُونُ مُضَافَةً إِلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ الَّذِي هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ؟ وَهَذَا كُلُّهُ يُوجِبُهُ عَدَمُ الْإِتْقَانِ لِعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّحَدُّثِ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي مَوَاضِعِ إِذَا الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ جَوَابًا لِإِذَا الشَّرْطِيَّةِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي عِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي كَتَبْنَاهُ أَنَّ إِذَا الشَّرْطِيَّةَ لَيْسَتْ مُضَافَةً إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبَ الْأَكْثَرِينَ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْمُولَةٍ لِلْجَوَابِ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَلِيهَا، كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَإِذَا الْفُجَائِيَّةُ رَابِطَةً لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، كَالْفَاءِ وَهِيَ

ص: 208

مَعْمُولَةٌ لِمَا بَعْدَهَا. أَنْ قُلْنَا إِنَّهَا ظَرْفٌ، سَوَاءٌ كَانَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا. وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا حَرْفٌ، فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِذَا الْأُولَى مَعْمُولَةٌ لِذِكْرِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ مَعْمُولَةٌ لَيَسْتَبْشِرُونَ. وَلَمَّا أَخْبَرَ عَنْ سَخَافَةِ عُقُولِهِمْ بِاشْمِئْزَازِهِمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِبْشَارِهِمْ بِذِكْرِ الْأَصْنَامِ، أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْعُظْمَى مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَنِسْبَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، إِذْ غَيْرُهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا عِلْمَ تَامَّ وَلَا حُكْمَ، وَفِي ذَلِكَ وَصْفٌ لحالهم السيّء وَوَعِيدٌ لَهُمْ وَتَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ عليه السلام. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي اللَّهُمَّ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَشْبِيهِهِ فِي الْعُقُودِ. وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ: أَيْ كَانَتْ ظُنُونُهُمْ فِي الدُّنْيَا مُتَفَرِّقَةً، حَسَبَ ضَلَالَاتِهِمْ وَتَخَيُّلَاتِهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ. فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظَهَرَ لَهُمْ خِلَافُ مَا كَانُوا يَظُنُّونَ، وَمَا كَانَ فِي حِسَابِهِمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيْلٌ لِأَهْلِ الرِّيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا: أَيْ جَزَاءُ مَا كَانُوا وَمَا فيما كَسَبُوا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي، أَيْ سَيِّئَاتُ أَعْمَالِهِمْ، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ سَيِّئَاتُ كَسْبِهِمْ. وَالسَّيِّئَاتُ: أَنْوَاعُ، الْعَذَابِ سُمِّيَتْ سَيِّئَاتٌ، كَمَا قَالَ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» .

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.

تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَوْنُ الْإِنْسَانِ إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ، مَعَ اعْتِقَادِهِمُ الْأَوْثَانَ وَعِبَادَتَهَا. فَإِذَا أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ، نَبَذُوهَا وَدَعَوْا رب السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَنَاقُضِ آرَائِهِمْ وَشَدَّةِ اضْطِرَابِهَا. وَالْإِنْسَانُ جَنْسٌ وَضُرٌّ مُطْلَقٌ، وَالنِّعْمَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا يَسُرُّ، وَمِنْ ذَلِكَ إِزَالَةُ الضُّرِّ. وَقِيلَ: الْإِنْسَانُ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي إنما

(1) سورة الشورى: 42/ 40.

ص: 209

كَافَّةٌ مُهَيِّئَةٌ لِدُخُولِ إِنْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَذُكِّرَ الضَّمِيرُ فِي أُوتِيتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى النِّعْمَةِ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا مُذَكَّرٌ، وَهُوَ الْأَنْعَامُ أَوِ الْمَالُ، عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَحَ النِّعْمَةَ بِالْمَالِ، أَوِ الْمَعْنَى: شَيْئًا مِنَ النِّعْمَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ، فَغُلِّبَ الْمُذَكَّرُ. وَقِيلَ: مَا مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا، أَيْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي، أَيْ بِوَجْهِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَفِيهِ إِعْجَابٌ بِالنَّفْسِ وَتَعَاظُمٌ مُفْرِطٌ. أو على علم من اللَّهِ فِيَّ وَاسْتِحْقَاقِ جَزَائِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي هَذَا احتراز الله وَعَجْزٌ وَمَنٌّ عَلَى اللَّهِ. أَوْ عَلَى عِلْمٍ مِنِّي بِأَنِّي سَأُعْطَاهُ لِمَا فِيَّ مِنْ فَضْلٍ وَاسْتِحْقَاقٍ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ إِضْرَابٌ عَنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أُوتِيَ عَلَى عِلْمٍ، بَلْ تِلْكَ النِّعْمَةُ فِتْنَةٌ وَابْتِلَاءٌ. ذَكَّرَ أَوَّلًا فِي أُوتِيتُهُ عَلَى الْمَعْنَى، إِذْ كَانَتْ مَا مُهَيِّئَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى اللَّفْظِ فَأَنَّثَ فِي قَوْلِهِ بَلْ هِيَ، أَوْ تَكُونُ هِيَ عَادَتْ عَلَى الْإِتْيَانِ، أَيْ بَلْ إِتْيَانُهُ النِّعْمَةَ فِتْنَةٌ. وَكَانَ الْعَطْفُ هُنَا بالفاء في فإذا، وبالواو فِي أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مُسَبَّبَةً عَنْ قَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ، أَيْ يَشْمَئِزُّونَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِ آلِهَتِهِمْ. فَإِذَا مَسَّ أَحَدُهُمْ ضُرٌّ دَعَا مَنِ اشْمَأَزَّ مِنْ ذِكْرِهِ دُونَ مَنِ اسْتَبْشَرَ بِذِكْرِهِ. وَمُنَاسِبَةُ السَّبَبِيَّةِ أَنَّكَ تَقُولُ: زَيْدٌ مُؤْمِنٌ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ. فَالسَّبَبُ هَنَا ظَاهِرٌ، وَزَيْدٌ كَافِرٌ، فَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، يُقِيمُ كُفْرَهُ مَقَامَ الْإِيمَانِ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا لِلِالْتِجَاءِ، يَحْكِي عَكْسَ مَا فِيهِ الْكَافِرُ. يَقْصِدُ بِذَلِكَ الْإِنْكَارَ وَالتَّعَجُّبَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُتَنَاقِضِ، حَيْثُ كَفَرَ بِاللَّهِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ.

وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَمْ تَقَعْ مُسَبَّبَةً، بَلْ نَاسَبَتْ مَا قَبْلَهَا، فَعُطِفَتْ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَإِذَا كَانَتْ فَإِذَا مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، كَمَا قُلْنَا، فَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْآيِ اعْتِرَاضٌ يُؤَكَّدُ بِهِ مَا بَيْنَ الْمُتَّصِلِينَ. فَدُعَاءُ الرَّسُولِ رَبَّهُ بِأَمْرٍ مِنْهُ وَقَوْلُهُ: أَنْتَ تَحْكُمُ، وَتَعْقِيبُهُ الْوَعِيدَ، تَأْكِيدٌ لِاشْمِئْزَازِهِمْ وَاسْتِبْشَارِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ دُونَ آلِهَتِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يَتَنَاوَلُ لَهُمْ، أَوْ لِكُلِّ ظَالِمٍ، إِنْ جُعِلَ مُطْلَقًا أَوْ إِيَّاهُمْ خَاصَّةً إِنْ عُنُوا بِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مُلْتَقَطٌ أَكْثَرُهُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَهُوَ مُتَكَلِّفٌ فِي رَبْطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَوَاصِلِ. وَإِذَا كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ لَا يُجِيزُ الِاعْتِرَاضَ بِجُمْلَتَيْنِ، فَكَيْفَ يُجِيزُهُ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الْكَثِيرَةِ؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الرَّبْطِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا الْآيَةَ، كَانَ ذَلِكَ إِشْعَارًا بِمَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظُلْمِهِ وَبَغْيِهِ، إِذْ كَانَ إِذَا مَسَّهُ دَعَا رَبَّهُ، فَإِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ، لَمْ يُنْسِبْ ذَلِكَ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدُ وَصَفَ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَنَّهَا ابْتِلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، كَمَا بَدَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَظُنُّهُ

ص: 210

صَالِحًا مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، تَرَتُّبَ الْفِتْنَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ: أَيْ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ وَامْتِحَانٌ.

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: أَيْ قَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِمْ أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ الْمَاضِيَةِ، كَقَارُونَ فِي قَوْلِهِ: قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «1» . وَقِيلَ: الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمْ قَارُونُ وَقَوْمُهُ، إِذْ رَضُوا بِمَقَالَتِهِ، فَنُسِبَ القول إليهم جميعا. وقرىء: قَدْ قَالَهُ، أَيْ قَالَ الْقَوْلَ أَوِ الْكَلَامَ. فَما أَغْنى عَنْهُمْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا نَافِيَةً، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَأَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً، فِيهَا مَعْنَى النَّفْيِ. مَا كانُوا يَكْسِبُونَ: أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ: إِشَارَةٌ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا: جَاءَ بِسِينِ الِاسْتِقْبَالِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ تَنْفِيسًا فِي الزَّمَانِ مِنْ سَوْفَ، وَهُوَ خَبَرُ غَيْبٍ، أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرِهِ. قَتَلَ رُؤَسَاءَهُمْ، وَحَبَسَ عَنْهُمُ الرِّزْقَ، فَلَمْ يُمْطَرُوا سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ بَسَطَ لَهُمْ، فَمُطِرُوا سَبْعَ سِنِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا قَابِضَ وَلَا بَاسِطَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى؟.

قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا: نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ، قَالَهُ عَطَاءٌ أَوْ فِي قَوْمٍ آمَنُوا عَيَّاشِ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مَعَهُمَا، فَفَتَنَتْهُمْ قُرَيْشٌ، فَافْتَتَنُوا وَظَنُّوا أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ، فَكَتَبَ عُمَرُ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالَهُ عُمَرُ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَقِيلَ: فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالُوا: وَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ وَقَدْ زَنَيْنَا وَقَتَلْنَا النَّفْسَ وَأَتَيْنَا كُلَّ كَبِيرَةٍ؟

وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَدَّدَ عَلَى الْكُفَّارِ وَذَكَرَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَى بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَا فِي إِحْسَانِهِ مِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ إِذَا آمَنَ الْعَبْدُ وَرَجَعَ إِلَى اللَّهِ. وَكَثِيرًا تَأْتِي آيَاتُ الرَّحْمَةِ مَعَ آيَاتِ النِّقْمَةِ لِيَرْجُوَ الْعَبْدُ وَيَخَافَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ يَتُوبُ، وَمُؤْمِنٍ عَاصٍ يَتُوبُ، تَمْحُو الذَّنْبَ تَوْبَتُهُ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَامِرٍ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ.

وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي قِرَاءَةِ لَا تَقْنَطُوا فِي الْحِجْرِ.

إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً: عَامٌّ يُرَادُ بِهِ مَا سِوَى الشِّرْكِ، فَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِالْمُؤْمِنِ الْعَاصِي غَيْرِ التَّائِبِ بِالْمَشِيئَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ، بِإِضَافَتِهِمْ إِلَيْهِ وَنِدَائِهِمْ، إقبال وتشريف. وأَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَيْ بِالْمَعَاصِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّ ضَرَرَ تِلْكَ الذنوب إنما

(1) سورة القصص: 28/ 78.

ص: 211

هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالرَّجَاءِ، وَإِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ فِي إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ سِعَةً لِلرَّحْمَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ، لِأَنَّهُ الْعِلْمُ الْمُحْتَوِي عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ أَعَادَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِأَنَّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْدِ بِالْغُفْرَانِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا سَبَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَكَّدَ بِلَفْظٍ هُوَ الْمُقْتَضِي عِنْدَ بَعْضِهِمُ الْحَصْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، شَرْطَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ ذِكْرًا لَهُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّنَاقُضُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ لَا يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا بِشَرْطِ التَّوْبَةِ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فُسْحَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْرِفِ، أَتْبَعَهَا بِأَنَّ الْإِنَابَةَ، وَهِيَ الرُّجُوعُ، مَطْلُوبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَتُبْ بِالْعَذَابِ، حَتَّى لَا يَبْقَى الْمَرْءُ كَالْمُمِلِّ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُتَّكِلِ عَلَى الْغُفْرَانِ دُونَ إِنَابَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَابَةَ عَلَى إِثْرِ الْمَغْفِرَةِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا لَازِمٌ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ.

انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِثْلُ قَوْلِهِ:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ بَعْضًا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كُلُّهُ حَسَنٌ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، أَيْ فَجْأَةً، وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ: أَيْ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ حُلُولِهِ بِكُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ فِي عَذَابِكُمْ.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَالِمٌ تَرَكَ عِلْمَهُ وَفَسَقَ، أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا ثُمَّ تُبْ، فَأَطَاعَهُ وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْفُجُورِ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي أَلَذِّ مَا كَانَ، فَقَالَ:

ص: 212

يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، وَذَهَبَ عُمْرِي فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَأَسْخَطْتُ رَبِّي، فَنَدِمَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ خَبَرَهُ.

أَنْ تَقُولَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ أَنِيبُوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُولَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ، وَالْحَوْفِيُّ:

أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أَنْ تَقُولَ، وَنَكَّرَ نَفْسٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا بَعْضُ الْأَنْفُسِ، وَهِيَ نَفْسُ الْكَافِرِ، أَوْ أُرِيدَ الْكَثِيرُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:

وَرُبَّ نَفِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ لِنَحْوِهِ

أَتَانِي كريم ينقض الرأسى مُغْضَبَا

يُرِيدُ أَفْوَاجًا مِنَ الْكِرَامِ يَنْصُرُونَهُ، لَا كَرِيمًا وَاحِدًا أَوْ أُرِيدَ نَفْسٌ مُتَمَيِّزَةٌ مِنَ الْأَنْفُسِ بِالْفِجَاجِ الشَّدِيدِ فِي الْكُفْرِ، أَوْ بِعَذَابٍ عَظِيمٍ. قَالَ هَذِهِ الْمُحْتَمَلَاتِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَا حَسْرَتَا، بِإِبْدَالِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ أَلِفًا، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يَا حَسْرَتَا، بِيَاءِ الْإِضَافَةِ، وَعَنْهُ: يَا حَسْرَتِي، بِالْأَلِفِ وَالْيَاءِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَالْيَاءُ مفتوحة أو سانة. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي تَصْنِيفِهِ (كِتَابُ اللَّوَامِحِ) : وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَثْنِيَةَ الْحَسْرَةِ مِثْلَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا لَبٌّ بَعْدَ لَبٍّ وَسَعْدٌ بَعْدَ سَعْدٍ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحَسْرَةُ بَعْدَ حَسْرَةٍ، لِكَثْرَةِ حَسَرَاتِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَوْ أَرَادَ حسرتين فقط من فوت الْجَنَّةِ لِدُخُولِ النَّارِ، لَكَانَ مَذْهَبًا، وَلَكَانَ أَلِفُ التَّثْنِيَةِ فِي تَقْدِيرِ الْيَاءِ عَلَى لُغَةِ بَلْحَرِثِ بْنِ كَعْبٍ. انْتَهَى.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْوَقْفِ: يَا حَسْرَتَاهُ، بِهَاءِ السَّكْتِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَمَعْنَى نِدَاءِ الْحَسْرَةِ وَالْوَيْلِ: هَذَا وَقْتُكِ فَاحْضُرِي. وَالْجَنْبُ: الْجَانِبُ، وَمُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ الْجَارِحَةُ، فَإِضَافَةُ الْجَنْبِ إِلَيْهِ مَجَازٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي ذِكْرِهِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ بِهِ. وَقِيلَ: فِي جِهَةِ طَاعَتِهِ، وَالْجَنْبُ: الْجِهَةُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

أَفِي جَنْبٍ تُكَنَّى قَطَعَتْنِي مَلَامَةً

سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلَامَتُهَا ثَنَاءَ

وَقَالَ الرَّاجِزُ:

النَّاسُ جَنْبٌ وَالَأْمِيرُ جَنْبُ وَيُقَالُ: أَنَا فِي جَنْبِ فُلَانٍ وَجَانِبِهِ وَنَاحِيَتِهِ وَفُلَانٌ لَيِّنُ الْجَنْبِ وَالْجَانِبِ. ثُمَّ قَالُوا:

فَرَّطَ فِي جَنْبِهِ، يُرِيدُونَ حَقَّهُ. قَالَ سَابِقٌ الْبَرْبَرِيُّ:

أَمَّا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ

لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطَّعُ

وَهَذَا مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ، لِأَنَّكَ إِذَا أَثْبَتَّ الْأَمْرَ فِي مَكَانِ الرَّجُلِ وَحَيِّزِهِ، فَقَدْ أَثْبَتَّهُ فِيهِ.

أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ:

ص: 213

إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنِّدَّى

فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ

وَمِنْهُ قَوْلُ النَّاسِ: لِمَكَانِكَ فَعَلْتُ كَذَا، يُرِيدُونَ: لِأَجْلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلْتُ هَذَا مِنْ جِهَتِكَ. وَمَا فِي مَا فَرَّطْتُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ عَلَى تَفْرِيطِي فِي طاعة الله. إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى سَخِرَ مِنْ أَهْلِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَحَلُّ وَإِنْ كُنْتَ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَرَّطْتُ وَأَنَا سَاخِرٌ، أَيْ فَرَّطْتُ فِي حَالِ سُخْرِيَتِي. انْتَهَى. وَيَظْهَرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنِ نَفْسِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، لَا حَالٌ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي: أَيْ خَلَقَ فِيَّ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْحِكْمَةِ، أَوْ بِالْإِلْطَافِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فَيُلْطَفُ بِهِ، أَوْ بِالْوَحْيِ، فَقَدْ كَانَ، وَلَكِنَّهُ أَعْرَضَ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ حَتَّى يَهْتَدِيَ. وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا تَحَيُّرًا فِي أَمْرِهِ، وَتَعَلُّلًا بِمَا يُجْدِي عَلَيْهِ. كَمَا حَكَى عَنْهُمُ التَّعَلُّلَ بِإِغْوَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالشَّيَاطِينِ وَنَحْوُهُ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَانْتَصَبَ فَأَكُونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي الدَّالِّ عَلَيْهِ لَوْ، أَوْ عَلَى كَرَّةً، إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ:

فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَحَسْرَةٍ

وَتَسْأَلُ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَاءَ إِذَا كَانَتْ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي، كَانَتْ أَنَّ وَاجِبَةَ الْإِضْمَارِ، وَكَانَ الْكَوْنُ مُتَرَتِّبًا عَلَى حُصُولِ الْمُتَمَنَّى، لَا مُتَمَنًّى. وَإِذَا كَانَتْ لِلْعَطْفِ عَلَى كَرَّةً، جَازَ إِظْهَارُ أَنَّ وَإِضْمَارُهَا، وَكَانَ الْكَوْنُ مُتَمَنًّى. بَلى: هُوَ حَرْفُ جَوَابٍ لِمَنْفِيٍّ، أَوْ لِدَاخِلٍ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّقْرِيرِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي وَجَوَابُهُ مُتَضَمِّنًا نَفْيَ الْهِدَايَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا هَدَانِي اللَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي مُرْشِدَةً لَكَ، فَكَذَّبْتَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَدٌّ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ: بَلَى قَدْ هُدِيتَ بِالْوَحْيِ. انْتَهَى، جَرْيًا عَلَى قَوَاعِدِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَحَقُّ بَلَى أَنْ تَجِيءَ بَعْدَ نَفْيٍ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ، وَقَوْلُهُ: بَلى جَوَابٌ لِنَفْيٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّ النَّفْسَ قَالَتْ: فَعُمْرِي فِي الدُّنْيَا لَمْ يَتَّسِعْ لِلنَّظَرِ، أَوْ قَالَتْ: فَإِنِّي لَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَنَحْوَ هَذَا. انْتَهَى. وَلَيْسَ حَقُّ بَلَى مَا ذُكِرَ، بَلْ حَقُّهَا أَنْ تَكُونَ جَوَابَ نَفْيٍ. ثُمَّ حُمِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعَرَبِ، وَأَجَابَهُ بِنَعَمْ، وَوَقَعَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ نَفْسِهِ أَنْ أَجَابَ التَّقْرِيرَ بِنَعَمْ اتِّبَاعًا لِبَعْضِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا

ص: 214

قَرَنَ الْجَوَابَ بِمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا بِآيَةٍ؟

قُلْتُ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى أُخْرَى الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ تُؤَخَّرَ الْقَرِينَةُ الْوُسْطَى. فَلَمْ يُحْسُنِ الْأَوَّلُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَبْتِيرِ النَّظْمِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَرَائِنِ وَأَمَّا الثَّانِي، فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَقْضِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ التَّحَسُّرُ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي الطَّاعَةِ، ثُمَّ التَّعَلُّلُ بِفَقْدِ الْهِدَايَةِ.

ثُمَّ تَمَنِّي الرَّجْعَةِ، فَكَانَ الصَّوَابُ مَا جَاءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَكَى أَقْوَالَ النَّفْسِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَنَظْمِهَا، ثُمَّ أَجَابَ مِنْ بَيْنِهَا عَمَّا اقْتَضَى الْجَوَابَ. انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَدْ جاءَتْكَ، بِفَتْحِ الْكَافِ وَفَتْحِ تَاءِ مَا بَعْدَهَا، خِطَابًا لِلْكَافِرِ ذِي النَّفْسِ. وَقَرَأَ ابْنُ يَعْمَرَ وَالْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ صَالِحٍ، وَالشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى فِي اخْتِيَارِهِ وَعَنْ نُصَيْرٍ،

وَالْعَبْسِيِّ:

بِكَسْرِ الْكَافِ وَالتَّاءِ، خِطَابٌ لِلنَّفْسِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَابْنَتِهِ عَائِشَةَ، رضي الله عنهما، وَرَوَتْهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.

وَقَرَأَ الْحَسَنُ، والأعرج، والأعمش: جأتك، بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ، بِوَزْنِ بِعْتُكَ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ جَاءَتْكَ، قُدِّمَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ وَأُخِّرَتِ الْعَيْنُ فَسَقَطَتِ الْأَلِفُ، كَمَا سَقَطَتْ فِي رَمَتْ وَعَرَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَقَالَةَ الْكَافِرِ، ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْإِنْذَارِ بِسُوءِ مُنْقَلَبِهِ، وَفِي ضِمْنِهِ وَعِيدٌ لِمُعَاصِرِيهِ، عليه السلام. وَالرُّؤْيَةُ هُنَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَكَذِبُهُمْ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى الْبَنَاتِ وَالصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ، وَشَرْعُهُمْ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْمُكَذِّبِينَ عَلَى اللَّهِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَبِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْكُلِّ مِنَ الْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَكُلِّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا يَجِبُ أَنْ لَا يُضَافَ إِلَيْهِ، فَالْكُلُّ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فَتَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْمُجْبِرَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجُوزُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ: وَصَفُوهُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْهُ، فَأَضَافُوا إِلَيْهِ الْوَلَدَ وَالشَّرِيكَ، وَقَالُوا: شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1» ، وَقَالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ «2» ، وَقَالُوا: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «3» ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ قَوْمٌ يُسَفِّهُونَهُ بِفِعْلِ الْقَبَائِحِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا لَا لِغَرَضٍ، وَقَوْلُهُ: لَا لِغَرَضٍ، وَيَظْلِمُونَهُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، ويجسمونه

(1) سورة يونس: 10/ 18. [.....]

(2)

سورة الزخرف: 43/ 20.

(3)

سورة الأعراف: 7/ 28.

ص: 215

بِكَوْنِهِ مَرْئِيًّا مُدْرَكًا بِالْحَاسَّةِ، وَيُثْبِتُونَ لَهُ يَدًا وَقَدَمًا وَجَنْبًا مُسْتَتِرِينَ بِالْبَلْكَفَةِ، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا بِإِثْبَاتِهِمْ مَعَهُ قَدَمًا. انْتَهَى، وَكَلَامُ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، وَأَنَّ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ، إِذْ زَعَمَ أَنَّ حَذْفَ الْوَاوِ مِنَ الْجُمْلَةِ الاسمية الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ضَمِيرِ ذِي الحال شَاذٌّ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الفراء، وقد أعرب هو هذه الجملة حالا، فكأنه رجع عن مذهبه ذلك، وَأَجَازَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ القلب فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْبَصَرِ بِرُؤْيَةِ الْأَجْسَامِ وَأَلْوَانِهَا أَظْهَرُ مِنْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ. وقرىء: وجوههم مسودّة بنصبهما، فوجوههما بدل بعض من كل. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: أُجُوهُهُمْ، بِإِبْدَالِ الْوَاوِ هَمْزَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْوِدَادَ حَقِيقَةٌ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ «1» . وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أن يكون فِي الْعِبَارَةِ تَجَوُّزٌ، وَعَبَّرَ بِالسَّوَادِ عَنِ ارْتِدَادِ وُجُوهِهِمْ وَغَالِبِ هَمِّهِمْ وَظَاهِرِ كَآبَتِهِمْ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الْكَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ، ذَكَرَ حَالَ الْمُتَّقِينَ، أَيِ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَغَيْرَهُ، مِمَّا يؤول بِصَاحِبِهِ إِلَى اسْوِدَادِ وَجْهِهِ، وَفِي ذَلِكَ التَّرْغِيبُ فِي هَذَا الْوَصْفِ الْجَلِيلِ الَّذِي هُوَ التَّقْوَى. قَالَ السُّدِّيُّ: بِمَفازَتِهِمْ: بِفَلَاحِهِمْ، يُقَالُ: فَازَ بِكَذَا إِذَا أَفْلَحَ بِهِ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ، وَتَفْسِيرُ الْمَفَازَةِ قَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مَفَازَتُهُمْ؟ قِيلَ: لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ، أَيْ يُنْجِيهِمْ بِنَفْيِ السُّوءِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ، أَوْ بِسَبَبِ مُنْجَاتِهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ «2» ، أَيْ بِمَنْجَاةٍ مِنْهُ، لِأَنَّ النَّجَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَلَاحِ، وَسَبَبُ مَنْجَاتِهِمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه الْمَفَازَةَ: بِالْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ وَيَجُوزُ بِسَبَبِ فَلَاحِهِمْ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ سَبَبُ الْفَلَاحِ، وَهُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِنَفْسِهِ مَفَازَةً، لِأَنَّهُ سَبَبُهَا. فَإِنْ قُلْتَ:

لَا يَمَسُّهُمُ، مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِمَفَازَتِهِمْ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالسُّلَمِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ: عَلَى الْجَمْعِ، مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ أَنْوَاعٌ، وَالْأَسْبَابُ مُخْتَلِفَةٌ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْمَصَادِرُ تُجْمَعُ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا كَقَوْلِهِ: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا «3» . وقال

(1) سورة آل عمران: 3/ 106.

(2)

سورة آل عمران: 3/ 188.

(3)

سورة الأحزاب: 33/ 10.

ص: 216

الْفَرَّاءُ: كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَابٌ، تَقُولُ: قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرُ النَّاسِ وَأُمُورُ النَّاسِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، عَادَ إِلَى دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَدَلَّ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ لِانْدِرَاجِهَا فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ الْأَشْيَاءِ قَائِمٌ لِحِفْظِهَا وَتَدْبِيرِهَا.

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَفَاتِيحُ، وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ، كَمَا تَقُولُ: بِيَدِ فُلَانٍ مِفْتَاحُ هَذَا الْأَمْرِ.

وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ الْمَقَالِيدَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير» .

وَتَأْوِيلُهُ عَلَى هَذَا: أَنَّ لِلَّهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، يُوَحَّدُ بِهَا وَيُمَجَّدُ، وَهِيَ مَفَاتِيحُ خير السموات وَالْأَرْضِ، مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا مِنَ الْمُتَّقِينَ أَصَابَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ تَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا؟ قُلْتُ: بِقَوْلِهِ: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ، والَّذِينَ كَفَرُوا، هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ خَالِقَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْهَا وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُقُوعَ الْفَاصِلِ الْكَثِيرِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَعِيدٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا: جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا: جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا وُصِفَ بِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَكَوْنُهُ مَالِكًا لمقاليد السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. انْتَهَى، وَلَيْسَ بِفَاصِلٍ كَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ: وَعَطْفُ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ، كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ لِسَانَ الْعَرَبِ، وَلَا نَظَرَ فِي أَبْوَابِ الِاشْتِغَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَدْ جُعِلَ مُتَّصِلًا بِمَا يَلِيهِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ في السموات وَالْأَرْضِ فَاللَّهُ خَالِقُهُ وَفَاتِحُ بَابِهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.

قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ

ص: 217

شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.

رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلرَّسُولِ عليه السلام الْمُشْرِكُونَ: اسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا ونؤمن بإلهك، وغير منصوب بأعبد. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَأْمُرُونِّي مُلْغَاةٌ، وَعَنْهُ أَيْضًا: أَفَغَيْرَ نُصِبَ بتأمروني لا بأعبد، لِأَنَّ الصِّلَةَ لَا تَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا، إِذِ الْمَوْصُولُ مِنْهُ حُذِفَ فَرُفِعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ:

أَلَا أَيُّهَا ذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى وَالصِّلَةُ مَعَ الْمَوْصُولِ فِي موضع النصب بدلا مِنْهُ، أَيْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي عِبَادَتَهُ؟

وَالْمَعْنَى: أَتَأْمُرُونَنِي بِعِبَادَةِ غَيْرَ اللَّهِ؟ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ يُنْصَبُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ قَوْلِهِ:

تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَعْبُدُونَ وَتَقُولُونَ لِي: اعبده، وأ فغير اللَّهِ تَقُولُونَ لِي أَعْبُدُ، فَكَذَلِكَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَقُولُونَ لي أن اعبده، وأ فغير اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَاتُ مَنْ قَرَأَ أَعْبُدَ بِالنَّصْبِ، يَعْنِي: بِنَصْبِ الدَّالِ بِإِضْمَارِ أَنْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:

تَأْمُرُونِّي، بِإِدْغَامِ النُّونِ فِي نُونِ الْوِقَايَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتَحَهَا ابْنُ كَثِيرٍ. وقرأ ابن عامر:

تأمرونني، بِنُونَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ وَنَافِعٌ: تأمروني، بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَفَتْحِ الْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عَلَى حَذْفِ النُّونِ الْوَاحِدَةِ، وَهِيَ الْمُوَطِئَةُ لِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ النُّونِ الْأُولَى، وَهُوَ لَحْنٌ، لِأَنَّهَا عَلَامَةُ رَفْعِ الْفِعْلِ. انْتَهَى. وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:

الْمَحْذُوفَةُ نُونُ الرَّفْعِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ: نُونُ الْوِقَايَةِ، وَلَيْسَ بِلَحْنٍ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ جَرَى فِي أَيِّهِمَا حُذِفَ، وَنَخْتَارُ أَنَّهَا نُونُ الرَّفْعِ.

وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ غَبِيٍّ جَاهِلٍ، نَادَاهُمْ بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَمَّا كَانَ الْإِشْرَاكُ مُسْتَحِيلًا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَجَبَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ، وَمَضَى الْخِطَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَاجِعِ الخطاب للرسول، إفرادا لخطاب فِي لَئِنْ أَشْرَكْتَ، إِذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبَ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: لَئِنْ أَشْرَكْتُمَا، فَيَشْمَلُ ضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، وَيُغَلَّبُ الْخِطَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الْمُومَى إِلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ عَلَى التَّوْحِيدِ؟ قُلْتُ مَعْنَاهُ: لَئِنْ أُوحِيَ إِلَيْكَ، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مِثْلُهُ، وَأُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَئِنْ أَشْرَكْتَ، كَمَا

ص: 218

تَقُولُ: كَسَانَا حُلَّةً، أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا. فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ رُسُلَهُ لَا يُشْرِكُونَ وَلَا يَحْبَطُ أَعْمَالُهُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالْمُحَالَاتِ يَصِحُّ فَرْضُهَا ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَيُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُبُوطِ عَمَلِ الْمُرْتَدِّ مِنْ صَلَاةٍ وغيرها. وأوحى: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَحْيَ هُوَ هَذِهِ الْجُمَلُ: مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ إِلَى مِنَ الْخاسِرِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ الْجُمَلَ لَا تَكُونُ فَاعِلَةً، فَلَا تَقُومُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَوْحَى إِلَيْكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالتَّوْحِيدُ مَحْذُوفٌ. ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ عليه السلام خَاصَّةً. انْتَهَى.

فَيَكُونُ الَّذِي أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ هُوَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَهُوَ إِلَيْكَ، وَبِالتَّوْحِيدِ فَضْلَةً يَجُوزُ حَذْفُهَا لِدَلَالَةِ ما قبلها عليه. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَيَحْبَطَنَّ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، عَمَلُكَ: رُفِعَ بِهِ. وقرىء بِالنُّونِ أَيْ: لَنُحْبِطَنَّ عَمَلَكَ بِالنَّصْبِ، وَالْجَلَالَةُ مَنْصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاعْبُدْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ فَاضْرِبْ، وَلَهُ تَقْرِيرٌ فِي النَّحْوِ وَكَيْفَ دَخَلَتْ هَذِهِ الْفَاءُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ نَصْبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ يُقَدَّرُ: اعْبُدِ اللَّهَ فَاعْبُدْهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ، ردّ لِمَا أَمَرُوهُ بِهِ مِنَ اسْتِلَامِ بَعْضِ آلِهَتِهِمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَعْبُدْ مَا أَمَرُوكَ بِعِبَادَتِهِ، بَلْ إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا فَاعْبُدِ اللَّهَ، فَحُذِفَ الشَّرْطُ وَجُعِلَ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ عِوَضًا مِنْهُ. انْتَهَى. وَلَا يَكُونُ تَقَدُّمُ الْمَفْعُولِ عِوَضًا مِنَ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَجِيءَ:

زَيْدٌ فَعَمْرًا اضْرِبْ. فَلَوْ كَانَ عِوَضًا، لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لِأَنْعُمِهِ الَّتِي أَعْظَمُهَا الْهِدَايَةُ لِدِينِ اللَّهِ. وَقَرَأَ عِيسَى: بَلِ اللَّهُ بِالرَّفْعِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالنَّصْبِ. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أَيْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَمَا قَدَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ حَقَّ تَقْدِيرِهِ، إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَسَاوَوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فِي الْعِبَادَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: حَقَّ قَدَرِهِ بِفَتْحِ الدَّالِّ وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَأَبُو نَوْفَلٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: وَمَا قَدَرُوا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، حَقَّ قَدَرِهِ: بِفَتْحِ الدَّالِّ، أَيْ مَا عَظَّمُوهُ حَقِيقَةَ تَعْظِيمِهِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَدَرُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ، كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مُحَاوَرَةً لَهُمْ وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ تَكَلَّمُوا فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، فَأَلْحَدُوا وَجَسَّمُوا وَجَاءُوا بِكُلِّ تَخْلِيطٍ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَنْعَامِ وَفِي الْحَجِّ وَهُنَا.

وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، نَبَّهَهُمْ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّصْوِيرِ وَالتَّخْيِيلِ فَقَالَ: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.

ص: 219

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا أَخَذْتَهُ كَمَا هُوَ بِجُمْلَتِهِ وَمَجْمُوعِهِ تَصْوِيرُ عَظَمَتِهِ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى كُنْهِ جَلَالِهِ لَا غَيْرَ، مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضَةِ وَلَا بِالْيَمِينِ إِلَى جِهَةِ حَقِيقَةٍ أَوْ جِهَةِ مَجَازٍ. انْتَهَى. وَيَعْنِي: أَوْ جِهَةِ مَجَازٍ مُعَيَّنٍ، وَالْإِخْبَارُ: التَّصْوِيرُ، وَالتَّخْيِيلُ هُوَ مِنَ الْمَجَازِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَيْهَا، تَعَيَّنَ صَرْفُهُ إِلَى الْمَجَازِ. فَلَفْظُ الْقَبْضَةِ وَالْيَمِينِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَارِحَةِ، وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ قَائِمٌ عَلَى امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ فِي قَبْضَةِ فُلَانٍ، إِذَا كَانَ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وَتَسْخِيرِهِ، وَمِنْهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «1» ، فَالْمُرَادُ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لَهُمْ، وَهَذِهِ الدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ، وَقَبَضَ فُلَانٌ كَذَا، وَصَارَ فِي قَبْضَتِهِ، يُرِيدُونَ خُلُوصَ مِلْكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَجَازٌ مُسْتَفِيضٌ مُسْتَعْمَلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْيَمِينُ هُنَا وَالْقَبْضَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَمَا اخْتَلَجَ فِي الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي، يَعْنِي ابْنُ الطَّيِّبِ، مِنْ أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الذَّاتِ، قَوْلٌ ضعيف، ويحسب مَا يَخْتَلِجُ فِي النُّفُوسِ الَّتِي لَمْ يُحْصِهَا الْعِلْمُ.

قَالَ عز وجل: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ: أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ جَمِيعِ الشُّبَهِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَمَا قَدَّرَنِي حَقَّ قَدْرِي، وَأَنَا الَّذِي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، أَيْ لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ حَالِي وَصِفَتِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ، وجب أن لا تخطىء عَنْ قَدْرِي وَمَنْزِلَتِي، وَنَظِيرُهُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «2» ، أَيْ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَحَالُ مُلْكِهِ؟ فَكَذَا هُنَا، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أَيْ زَعَمُوا أَنَّ لَهُ شُرَكَاءً، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، مع أن الأرض والسموات فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ.

انْتَهَى. وَالْأَرْضُ: أَيْ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعِ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: جَمِيعاً، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَالسَّماواتُ، وَهُوَ جَمْعٌ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ تَفْخِيمٍ، فَهُوَ مُقْتَضِ الْمُبَالَغَةَ. وَالْقَبْضَةُ:

الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْقَبْضِ، وَبِالضَّمِّ: الْمِقْدَارُ الْمَقْبُوضُ بِالْكَفِّ، وَيُقَالُ فِي الْمِقْدَارِ: قَبْضَتَهُ بِالْفَتْحِ، تَسْمِيَةٌ لَهُ بِالْقَدْرِ، فَاحْتَمَلَ هُنَا هَذَا الْمَعْنَى. وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ الْمَصْدَرُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَوَاتُ قَبْضَةٍ، أَيْ يَقْبِضُهُنَّ قَبْضَةً وَاحِدَةً، فَالْأَرْضُونَ مَعَ سِعَتِهَا وَبَسْطَتِهَا لَا يَبْلُغْنَ إِلَّا قَبْضَةَ كَفٍّ، وَانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَبْضَتُهُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ قَبْضَتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَصْدَرًا، أَمْ أُرِيدَ بِهِ الْمِقْدَارُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعَ الْقَصْدِ إِلَى الْجَمْعِ يَعْنِي فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ أريد بها الجمع

(1) سورة النساء: 4/ 3.

(2)

سورة البقرة: 2/ 28.

ص: 220

قَالَ: وَتَأْكِيدُهُ بِالْجَمِيعِ، أَتْبَعَ الْجَمِيعَ مُؤَكِّدَةً قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، لِيُعْلَمَ أَوَّلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي يَرِدُ لَا يَقَعُ عَنْ أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ عَنِ الْأَرَاضِي كُلِّهِنَّ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ، ويوم الْقِيَامَةِ مَعْمُولٌ لِقَبْضَتِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: قَبْضَتُهُ بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: بِتَقْدِيرِ فِي قَبْضَتِهِ، هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَلَا يُجِيزُونَ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقَالُ: زَيْدٌ دَارًا انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَهَا ظَرْفًا مُشَبِّهًا لِلْوَقْتِ بِالْمُبْهَمِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ: مَطْوِيَّاتٌ بِالنَّصْبِ على الحال، وعطف والسموات عَلَى الْأَرْضُ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَيِّزِ وَالْأَرْضُ، فَالْجَمِيعُ قَبَضْتُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأَخْفَشُ عَلَى جَوَازِ: زَيْدٌ قَائِمًا فِي الدَّارِ، إذ أعرب والسموات مبتدأ، وبيمينه الْخَبَرُ، وَتَقَدَّمَتِ الْحَالُ وَالْمَجْرُورُ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذْ يكون والسموات مَعْطُوفًا عَلَى وَالْأَرْضُ، كَمَا قلنا، وبيمينه متعلق بمطويات، ومطويات: مِنَ الطَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «1» ، وَعَادَةُ طَاوِي السِّجِلِّ أَنْ يَطْوِيَهُ بِيَمِينِهِ. وَقِيلَ: قَبَضَتُهُ مِلْكُهُ بِلَا مُدَافِعٍ وَلَا مُنَازِعٍ، وَبِيَمِينِهِ: وَبِقُدْرَتِهِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقِيلَ: مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: مُفْنَيَاتٌ بِقَسَمِهِ، لِأَنَّهُ أَقْسَمَ أَنَّ يُفْنِيَهَا ثُمَّ أَخَذَ يُنَحِّي عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ عَظَمَتَهُ بِمَا سَبَقَ إِرْدَافُهُ أَيْضًا بِمَا يُنَاسِبُ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ حَالَ الْأَرْضِ والسموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، وَهَلِ النَّفْخُ فِي الصُّورِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَوْ نَفْخَتَانِ؟ قَوْلُ الْجُمْهُورِ:

فَنَفْخَةُ الْفَزَعِ هِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالصَّعْقُ هُنَا الْمَوْتُ، أَيْ فَمَاتَ مَنْ فِي السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالصُّورُ هُنَا: الْقَرْنُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ هُنَا غَيْرُ هَذَا. وَمَنْ يَقُولُ: الصُّورُ جَمْعُ صُورَةٍ، فَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ قَوْلُهُ فِي نَفْخَةِ الْبَعْثِ. وَرُوِيَ أَنَّ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعِينَ. انْتَهَى، وَلَمْ يُعَيَّنْ. وَقِرَاءَةُ قَتَادَةَ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ هُنَا: فِي الصُّوَرِ، بِفَتْحِ الْوَاوِ جمع صُورَةٍ، يُعَكِّرُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَرْنُ، بَلْ يَكُونُ هَذَا النَّفْخُ فِي الصُّورِ مَجَازًا عَنْ مُشَارَفَةِ الْمَوْتِ وخروج الروح. وقرىء: فَصَعِقَ بِضَمِّ الصَّادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يُصْعَقْ: أَيْ لَمْ يَمُتْ، والمستثنون: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، أَوْ رَضْوَانُ خَازِنُ الجنة، والحور، ومالك، والزبانية أَوِ الْمُسْتَثْنَى اللَّهُ، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِلْحَسَنِ، وَمَا قَبْلَهُ لِلضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ الصَّعْقَةِ الْأُولَى، أَيْ يَمُوتُ من في السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ سَبَقَ موته، لأنهم

(1) سورة الأنبياء: 21/ 104.

ص: 221

كَانُوا قَدْ مَاتُوا، وَهَذَا نَظِيرُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «1» ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى، وَاحْتَمَلَ أُخْرَى عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ، كَمَا أُقِيمَ فِي الْأَوَّلِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ مَقَامًا مَقَامَ الْفَاعِلِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ «2» .

فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «3» : أَيْ أَحْيَاءٌ قَدْ أُعِيدَتْ لَهُمُ الْأَبْدَانُ وَالْأَرْوَاحُ، يَنْظُرُونَ: أَيْ يَنْتَظِرُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، أَوْ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يُفْعَلُ بِهِمْ، أَوْ يُقَلِّبُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي الْجِهَاتِ نَظَرَ الْمَبْهُوتِ إِذَا فَاجَأَهُ خَطْبٌ عَظِيمٌ. وَالظَّاهِرُ قِيَامُهُمُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ لِأَجْلِ اسْتِيلَاءِ الذِّهْنِ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: قِيَامًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الظَّرْفُ الَّذِي هُوَ إِذَا الْفُجَائِيَّةُ، وَهِيَ حَالٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، إِذْ هِيَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، أَيْ فَإِذَا هُمْ مَبْعُوثُونَ، أَيْ مَوْجُودُونَ قِيَامًا. وَإِنْ نَصَبْتَ قِيَامًا عَلَى الْحَالِ، فَالْعَامِلُ فِيهَا ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ. إِنْ قُلْنَا الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَأَنْ لَا عَامِلَ، فَالْعَامِلُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، فإن كَانَ إِذَا ظَرْفَ مَكَانٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ سِيبَوَيْهِ، فَتَقْدِيرُهُ: فَبِالْحَضْرَةِ هُمْ قِيَامًا وَإِنْ كَانَ ظَرْفَ زَمَانٍ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرِّيَاشَيُّ، فَتَقْدِيرُهُ: فَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي نُفِخَ فِيهِ، هُمْ أَيْ وُجُودُهُمْ، وَاحْتِيجَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمُضَافِ لِأَنَّ ظَرْفَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ وَإِنْ كَانَتْ إِذَا حَرْفًا، كَمَا زَعَمَ الْكُوفِيُّونَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَبَرِ، إِلَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ يَنْظُرُونَ هُوَ الْخَبَرُ، وَيَكُونُ يَنْظُرُونَ عَامِلًا فِي الْحَالِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَشْرَقَتِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيْ أَضَاءَتْ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عمير، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ: مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مِنْ شَرَقَتْ بِالضَّوْءِ تَشْرُقُ، إِذَا امْتَلَأَتْ بِهِ وَاغْتَصَّتْ وَأَشْرَقَهَا اللَّهُ، كَمَا تَقُولُ: مَلَأَ الْأَرْضَ عَدْلًا وَطَبَّقَهَا عَدْلًا، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَهَذَا إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى، فَهَذَا عَلَى أَنْ يُقَالَ: أَشْرَقَ الْبَيْتُ وَأَشْرَقَهُ السِّرَاجُ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُجَاوِزًا وَغَيْرُ مُجَاوِزٍ، كَرَجَعَ وَرَجَعْتُهُ وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ. وَالْأَرْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ:

الْأَرْضُ الْمُبَدَّلَةُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَعْرُوفَةِ، وَمَعْنَى أَشْرَقَتْ: أَضَاءَتْ وَعَظُمَ نُورُهَا. انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِشْرَاقُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مَنْقُولًا مِنْ شرقت الشمس إذا طلعت، فَيَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالْفِعْلِ بِمَعْنَى: أَذْهَبَتْ ظُلْمَةَ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ من أَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ، وَهَذَا قَدْ تَعَدَّى إِلَى الْأَرْضِ لَمَّا لَمْ يُذْكَرِ الْفَاعِلُ، وَأُقِيمَتِ

(1) سورة الدخان: 44/ 56.

(2- 3) سورة الحاقة: 69/ 13.

ص: 222

الْأَرْضُ مَقَامَهُ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا لَازِمًا مَعًا عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ بِهَا عَلَمٌ لِأَحَدٍ بِنُورِ رَبِّهَا» .

قِيلَ: يَخْلُقُ اللَّهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْبِسُهُ وَجْهَ الْأَرْضِ، فَتُشْرِقُ الْأَرْضُ بِهِ،

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّورُ هُنَا لَيْسَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، بَلْ هُوَ نُورٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فَيُضِيءُ الْأَرْضَ.

وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِضَّةِ،

وَالْمَعْنَى: أَشْرَقَتْ بِنُورٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَضَافَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةَ الْمُلْكِ إِلَى الْمَلِكِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتَعَارَ اللَّهُ النُّورَ لِلْحَقِّ، وَالْقُرْآنِ وَالْبُرْهَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّنْزِيلِ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِمَا يُقِيمُهُ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَبَسْطٍ مِنَ الْقِسْطِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَوَزَنِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَيُنَادِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ إِضَافَتُهُ إِلَى اسْمِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْعَدْلُ، وَإِضَافَةُ اسْمِهِ إِلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ يُزَيِّنُهَا حِينَ يَنْشُرُ فِيهَا عَدْلَهُ، وَيَنْصِبُ فِيهَا مَوَازِينَ قِسْطِهِ، وَيَحْكُمُ بِالْحَقِّ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلَا تَرَى أَزْيَنَ لِلْبِقَاعِ مِنَ الْعَدْلِ وَلَا أَعْمَرَ لَهَا مِنْهُ، وَيَقُولُونَ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ: أَشْرَقَتِ الْآفَاقُ بِعَدْلِكَ وَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِقِسْطِكَ، كَمَا يَقُولُونَ: أَظْلَمَتِ الْبِلَادُ بِجَوْرِ فُلَانٍ.

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

، وَكَمَا فَتَحَ الْآيَةَ بِإِثْبَاتِ الْعَدْلِ، خَتَمَهَا بِنَفْيِ الظُّلْمِ.

وَوُضِعَ الْكِتابُ: أَيْ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ وَوُحِّدَ، لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَهُ كِتَابٌ عَلَى حِدَةٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: الْكِتَابُ هُنَا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ ضُعِّفَ بِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ مَقَامَ التَّهْدِيدِ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ لِيَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالشُّهَداءِ، قِيلَ: جَمْعُ شَاهِدٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْحَفَظَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضًا: النَّبِيُّونَ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ عليه السلام، وَالْجَوَارِحُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشُّهَدَاءُ جَمْعُ شَهِيدٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَعُّدٌ، وَهُوَ مَقْصُودُ الْآيَةِ. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ: أَيْ بَيْنَ الْعَالَمِ، وَلِذَلِكَ قُسِّمُوا بَعْدُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، بِالْحَقِّ: أَيْ بِالْعَدْلِ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ: أَيْ جُوزِيَتْ مُكَمَّلًا. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ وَلَا شَاهِدٍ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ وَزِيَادَةُ تَهْدِيدٍ.

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها

ص: 223

أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

وَلَمَّا ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، بَيَّنَ بَعْدُ كَيْفِيَّةَ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ: وَسِيقَ، وَالسَّوْقُ يَقْتَضِي الْحَثَّ عَلَى الْمَسِيرِ بِعُنْفٍ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهِ. وَجَوَابُ إِذَا: فُتِحَتْ أَبْوابُها، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْتَحُ إِلَّا إِذَا جَاءَتْ كَسَائِرِ أَبْوَابِ السُّجُونِ، فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ مُغْلَقَةً حَتَّى يَأْتِيَ أَصْحَابُ الْجَرَائِمِ الَّذِينَ يُسْجَنُونَ فِيهَا فَيُفْتَحُ ثُمَّ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فِي فُتِحِتْ وَأَبْوَابُهَا سَبْعَةٌ، كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ: أَيْ مِنْ جِنْسِكُمْ، تَفْهَمُونَ مَا يُنْبِئُونَكُمْ بِهِ، وَسَهُلَ عَلَيْكُمْ مُرَاجَعَتُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ: تَأْتِكُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَالْجُمْهُورُ: بِالْيَاءِ. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ: أَيِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ لِلتَّبْشِيرِ وَالنِّذَارَةِ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا: وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَا يَلْقَى فِيهِ الْمُسَمَّى مِنَ الْعَذَابِ، قالُوا بَلى: أَيْ قَدْ جَاءَتْنَا، وَتَلَوْا وَأَنْذَرُوا، وَهَذَا اعْتِرَافٌ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى:

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» . عَلَى الْكافِرِينَ: وُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ، أَيْ عَلَيْنَا، صَرَّحُوا بِالْوَصْفِ الْمُوجِبِ لَهُمُ الْعِقَابَ.

وَلَمَّا فَرَغَتْ مُحَاوَرَتُهُمْ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، أُمِرُوا بِدُخُولِ النَّارِ.

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً: عَبَّرَ عَنِ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ مُكَرَّمِينَ بِالسَّوْقِ، وَالْمَسُوقُ دَوَابُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهَا إِلَّا رَاكِبِينَ. وَلِمُقَابَلَةِ قَسِيمِهِمْ سَاغَ لَفْظُ السَّوْقِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَفْظُ وَسِيقَ لَعَبَّرَ بِأَسْرَعَ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا قَالَ الْكُوفِيُّونَ: وَفُتِحَتْ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّهُ فِي صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ، وَحُقُّ مُوَقِّعِهِ ما بعد

(1) سورة الأعراف: 7/ 18.

ص: 224

خَالِدِينَ. انْتَهَى. وَقَدَّرَهُ الْمُبَرِّدُ بَعْدَ خَالِدِينَ سَعِدُوا. وَقِيلَ الْجَوَابُ: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها، عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ، قِيلَ: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها. وَمَنْ جَعَلَ الْجَوَابَ مَحْذُوفًا، أَوْ جَعَلَهُ: وَقالَ لَهُمْ، عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: وَفُتِحَتْ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا لِقَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ «1» . وَنَاسَبَ كَوْنَهَا حَالًا أَنَّ أَبْوَابَ الْأَفْرَاحِ تَكُونُ مُفَتَّحَةً لانتظار من تجيء إِلَيْهَا، بِخِلَافِ أَبْوَابِ السُّجُونِ. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحِيَّةً مِنْهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ، وأن كون خَبَرًا بِمَعْنَى السَّلَامَةِ وَالْأَمْنِ. طِبْتُمْ: أَيْ أَعَمَالًا وَمُعْتَقَدًا وَمُسْتَقَرًّا وَجَزَاءً. فَادْخُلُوها خالِدِينَ: أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ.

وَقالُوا، أَيِ الدَّاخِلُونَ، الْجَنَّةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ:

أَيْ مَلَّكَنَاهَا نَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا نَشَاءُ، تَشْبِيهًا بِحَالِ الْوَارِثِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا يَرِثُهُ. وَقِيلَ: وَرِثُوهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَهِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ، وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ هِيَ أَرْضُ الدُّنْيَا، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ. نَتَبَوَّأُ مِنْهَا، حَيْثُ نَشاءُ: أَيْ نَتَّخِذُ أَمْكِنَةً وَمَسَاكِنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ:

فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ: أَيْ بِطَاعَةِ اللَّهِ هَذَا الْأَجْرُ مِنْ كَلَامِ الدَّاخِلِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ حَافِّينَ. قَالَ الْأَخْفَشُ:

وَاحِدُهُمْ حَافٌّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُفْرَدُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ حَافًّا، إِذِ الْحُفُوفُ:

الْإِحْدَاقُ بِالشَّيْءِ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ حَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَقِيلَ: هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، إِذْ ثَوَابُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مَعْصُومِينَ، يَكُونُ عَلَى حَسَبِ تُفَاضِلِ مَرَاتِبِهِمْ. فَذَلِكَ هُوَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ: ضَمِيرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمْ مِنْ ذَوَاتِ بَيْنَهِمْ الْمُخَاطَبَةُ مِنَ الدَّاخِلِينَ الْجَنَّةَ وَمِنْ خَزَنَتِهَا، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ الْعَرْشِ، إِذْ هُمْ فِي نعم سَرْمَدِيٍّ مَنْجَاةً مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ، إِمَّا جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَإِمَّا الْمَلَائِكَةُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ. وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَلَى إِفْضَالِهِ وَقَضَائِهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، وَأُنْزِلَ كُلٌّ مِنَّا منزلة الَّتِي هِيَ حَقُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خَاتِمَةُ الْمَجَالِسِ الْمُجْتَمِعَاتِ فِي الْعِلْمِ.

(1) سورة ص: 38/ 50.

ص: 225