المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182] - البحر المحيط في التفسير - ط الفكر - جـ ٩

[أبو حيان الأندلسي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة فاطر

- ‌[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 45]

- ‌سورة يس

- ‌[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 83]

- ‌سورة الصافات

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 98]

- ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182]

- ‌سورة ص

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 14]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 15 الى 40]

- ‌[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 88]

- ‌سورة الزمر

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 31]

- ‌[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75]

- ‌سورة غافر

- ‌[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 85]

- ‌سورة فصلت

- ‌[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 54]

- ‌سورة الشّورى

- ‌[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 53]

- ‌سورة الزّخرف

- ‌[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 89]

- ‌سورة الدّخان

- ‌[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59]

- ‌سورة الجاثية

- ‌[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37]

- ‌سورة الأحقاف

- ‌[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 35]

- ‌سورة محمّد

- ‌[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 38]

- ‌سورة الفتح

- ‌[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 29]

- ‌سورة الحجرات

- ‌[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 18]

- ‌سورة ق

- ‌[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 45]

- ‌سورة الذّاريات

- ‌[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 60]

- ‌سورة الطّور

- ‌[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 49]

الفصل: ‌[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182]

الْمَنْجَنِيقُ الَّذِي رُمِيَ عَنْهُ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ مَكْرَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ الْأَخْسَرِينَ الْأَسْفَلِينَ، وَكَذَا عَادَةُ مَنْ غُلِبَ بِالْحُجَّةِ رَجَعَ إِلَى الكيد.

[سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 182]

وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)

وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)

سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)

وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَاّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)

وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)

إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَاّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)

فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَاّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلَاّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)

وَما مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)

لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173)

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)

وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

ص: 113

تَلَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ: صَرَعَهُ عَلَى شِقِّهِ، وَقِيلَ: وَضَعَهُ بِقُوَّةٍ. وَقَالَ سَاعِدَةُ بْنُ حَوْبَةَ:

وَتَلَّ.

تَلِيلًا لِلْجَبِينِ وَلِلْفَمِ وَالْجَبِينَانِ: مَا اكْتَنَفَ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا، وَشَذَّ جَمْعُ الْجَبِينِ عَلَى أَجْبُنٍ، وَقِيَاسُهُ فِي

ص: 114

الْقِلَّةِ أَجْبِنَةٌ، كَكَثِيبٍ وَأَكْثِبَةٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ: جَبَنَاتٌ وَجُبُنٌ، كَكُثُبَاتٌ وَكُثُبٌ. الذَّبْحُ: اسْمُ مَا يُذْبَحُ، كَالرَّعْيِ اسْمُ مَا يُرْعَى. أَبَقَ: هَرَبَ. سَاهَمَ: قَارَعَ. الْمُدْحَضُ: الْمَقْلُوبُ.

الْحُوتُ: مَعْرُوفٌ. أَلَامَ: أَتَى بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَكَمْ مِنْ مُلِيمٍ لَمْ يُصَبْ بِمُلَامَةٍ

وَمُتَّبِعٍ بِالذَّنْبِ لَيْسَ لَهُ ذَنْبُ

الْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الْفَيْحَاءُ لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا يُعْلَمُ، قال الشاعر:

رفعت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا

وَنَبَذْتُ بِالْمِينِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي

الْيَقْطِينُ: يَفْعِيلٌ كَالْيَفْصِيدِ، مِنْ قَطَنَ: أَقَامَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الشَّجَرِ لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، كَشَجَرِ الْبِطِّيخِ وَالْحَنْظَلِ وَالْقِثَّاءِ. السَّاحَةُ: الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهَا سُوحٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:

فَكَانَ سِيَّانِ أَنْ لَا يَسْرَحُوا نَعَمًا

أَوْ يَسْرَحُوهُ بِهَا وَاغْبَرَّتِ السُّوحُ

وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرى قالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.

لَمَّا سَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَمِنَ النَّارِ الَّتِي أَلْقَوْهُ فِيهَا، عَزَمَ عَلَى مُفَارَقَتِهِمْ، وَعَبَّرَ بِالذَّهَابِ إِلَى رَبِّهِ عَنْ هِجْرَتِهِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ. كَمَا قَالَ: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «1» ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَيَتَضَرَّعَ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْقَى مَنْ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ، فَهَاجَرَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، مِنْ مَمْلَكَةِ نُمْرُودٍ، إِلَى الشَّامِ. وَقِيلَ: إِلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَيَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَهَابِهِ الْهِجْرَةَ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ لِقَاءُ اللَّهِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ، ظَانًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي النَّارِ، فَقَالَهَا قَبْلَ أَنْ يطرح في النار. وسَيَهْدِينِ: أَيْ إِلَى الْجَنَّةِ، نَحَا إِلَى هَذَا قَتَادَةُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يَدْفَعُ هَذَا الْقَوْلَ، وَالْمُعْتَقِدُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي النَّارِ لَا يَدْعُو بِأَنْ يَهِبَ اللَّهُ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا.

سَيَهْدِينِ: يُوَفِّقُنِي إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحِي. مِنَ الصَّالِحِينَ: أَيْ وَلَدًا يكون في عداد

(1) سورة العنكبوت: 29/ 26.

ص: 115

الصَّالِحِينَ. وَلَفْظُ الْهِبَةِ غَلَبَ فِي الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَخِ، كَقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «1» . وَاشْتَمَلَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى ذُكُورِيَّةِ الْمَوْلُودِ وَبُلُوغِهِ سِنَّ الْحُلُمِ وَوَصْفِهِ بِالْحِلْمِ، وَأَيُّ حِلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الذَّبْحَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، بَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَوُلِدَ لَهُ وَشَبَّ. فَلَمَّا بَلَغَ: أي بلغ أَنْ يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ فِي أَشْغَالِهِ وَحَوَائِجِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وابن زَيْدٍ: وَالَسَّعْيُ هُنَا: الْعَمَلُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَعُونَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السَّعْيُ عَلَى الْقَدَمِ، يُرِيدُ سَعْيًا مُتَمَكِّنًا، وَفِيهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِبَلَغَ بِهِ بُلُوغُهُمَا مَعًا حَدَّ السَّعْيِ وَلَا بِالسَّعْيِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْمَصْدَرُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ بَيَانًا، كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ:

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، أَيِ الْحَدَّ الَّذِي يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى السَّعْيِ، قِيلَ: مَعَ مَنْ؟ فَقَالَ: مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَعْنَى فِي اخْتِصَاصِ الْأَبِّ أَنَّهُ أَرْفَقُ النَّاسِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَبِمَا عَنَّفَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْكِمْ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ عَوْدَهُ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. انْتَهَى.

قالَ يا بُنَيَّ: نِدَاءُ شَفَقَةٍ وَتَرَحُّمٍ. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ: أَيْ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ. وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ كَالْيَقَظَةِ، وَذِكْرُهُ لَهُ الرُّؤْيَا تَجْسِيرٌ عَلَى احْتِمَالِ تِلْكَ الْبَلِيَّةِ الْعَظِيمَةِ. وَشَاوَرَهُ بِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ مَاذَا تَرى، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا مِنَ اللَّهِ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ مِنْ تَلَقِّي هَذَا الِامْتِحَانِ الْعَظِيمِ، وَيُصَبِّرَهُ إِنْ جَزَعَ، وَيُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى مُلَاقَاةِ هَذَا الْبَلَاءِ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، إِذْ مُفَاجَأَةُ الْبَلَاءِ قَبْلَ الشُّعُورِ بِهِ أَصْعَبُ عَلَى النَّفْسِ، وَكَانَ مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْيَقَظَةِ، كَرُؤْيَا يُوسُفَ عليه السلام، وَرُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُخُولَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ حَالَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَمَنَامًا سَوَاءٌ فِي الصِّدْقِ مُتَظَافِرَتَانِ عَلَيْهِ.

قِيلَ: إِنَّهُ حِينَ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ قَالَ: هُوَ إِذَنْ ذَبِيحُ اللَّهِ.

فَلَمَّا بَلَغَ حَدَّ السَّعْيِ مَعَهُ قِيلَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ. قِيلَ: رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِذَبْحِ ابْنِكَ هَذَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ، رَوَّى فِي ذَلِكَ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ. أَمِنَ اللَّهِ هَذَا الْحُلْمُ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فلما أمسى، رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَهَمَّ بِنَحْرِهِ، فسمي يوم النحر.

(1) سورة مريم: 19/ 53.

ص: 116

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَرى، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَمُجَاهِدٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْضًا بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. فَالْأَوَّلُ مِنَ الرَّأْيِ، وَالثَّانِي مَاذَا تَرَيَنِّيهِ وَمَا تُبْدِيهِ لِأَنْظُرَ فِيهِ؟ وَالثَّالِثُ مَا الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْكَ ويوقع في قلبك؟ وانظر مُعَلَّقَةٌ، وَمَاذَا اسْتِفْهَامٌ. فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي، فما مُبْتَدَأٌ، وَالْفِعْلُ بَعْدَ ذَا صِلَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ ذَا مُرَكَّبَةً، فَفِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ بَعْدَهَا. وَالْجُمْلَةُ، وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لأنظر. وَلَمَّا كَانَ خِطَابُ الْأَبِّ يَا بُنَيَّ، عَلَى سَبِيلِ التَّرَحُّمِ، قَالَ: هُوَ يَا أَبَتِ، عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ: أَيْ مَا تُؤْمَرُهُ، حَذَفَهُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ، وَأَصْلُهُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَحُذِفَ الْحَرْفُ، وَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ مَنْصُوبًا، فَجَازَ حَذْفُهُ لِوُجُودِ شَرَائِطِ الْحَذْفِ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ أَمَرَكَ، عَلَى إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ هَلْ يُعْتَقَدُ فِي الْمَصْدَرِ الْعَامِلِ أَنْ يَجُوزَ أَنْ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ، فَيَكُونَ مَا بَعْدَهُ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَمْ يَكُونَ ذَلِكَ؟ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ: كَلَامُ مَنْ أُوتِيَ الْحِلْمَ وَالصَّبْرَ وَالِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ.

فَلَمَّا أَسْلَما: أَيْ لِأَمْرِ اللَّهِ، ويقال: استسلم وسلم بمعناها. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْلَمَا.

وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعَلَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَالثَّوْرِيُّ: سَلَّمَا

: أَيْ فَوَّضَا إِلَيْهِ في قضائه وقدره. وقرىء: اسْتَسْلَمَا، ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أَسْلَمَا: أَسْلَمَ هَذَا ابْنَهُ، وَأَسْلَمَ هَذَا نَفْسَهُ، فَجَعَلَ أَسْلَمَا مُتَعَدِّيًا، وَغَيْرَهُ جَعَلَهُ لَازِمًا بِمَعْنَى:

انْقَادَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَخَضَعَا لَهُ. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ: أَيْ أَوْقَعَهُ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ فِي الْأَرْضِ مُبَاشِرًا الْأَمْرَ بِصَبْرٍ وَجَلَدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ الَّتِي بِمِنًى وَعَنِ الْحَسَنِ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُشْرِفِ عَلَى مَسْجِدِ مِنًى وَعَنِ الضَّحَّاكِ: فِي الْمَنْحَرِ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ الْيَوْمَ. وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ يُقَدَّرُ بَعْدَ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، أَيْ أَجْزَلْنَا أَجْرَهُمَا، قَالَهُ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَوْ بَعْدَ الرُّؤْيا، أَيْ كَانَ مَا كَانَ مِمَّا تنطبق بِهِ الْحَالُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمَا وَحَمْدِهِمَا اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ إِلَى أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ أَوْ قَبْلَ وَتَلَّهُ تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ.

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الْجَوَابُ مُثْبَتٌ، وَهُوَ: وَنادَيْناهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ

ص: 117

وَتَلَّهُ عَلَى زِيَادَةِ الْوَاوِ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ، وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فُصُولًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، يُوقِفُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ. وأن مُفَسِّرَةٌ، أَيْ قَدْ صَدَّقْتَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَادَيْنَاهُ قَدْ صَدَّقَتْ، بِحَذْفِ أن وقرىء: صَدَقْتَ، بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَقَرَأَ فَيَّاضٌ: الرِّيَّا، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْإِدْغَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّؤْيَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

بَذَلَ وِسْعَهُ وَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الذَّابِحُ مِنْ بَطْحِهِ عَلَى شِقِّهِ وَإِمْرَارِ الشَّفْرَةِ عَلَى حَلْقِهِ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَاءَ بِمَا مَنَعَ الشَّفْرَةَ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي فِعْلِ إِبْرَاهِيمَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا وَلَا مُفَرِّطًا؟ بَلْ يُسَمَّى مُطِيعًا وَمُجْتَهِدًا، كَمَا لَوْ مَضَتْ فِيهِ الشَّفْرَةُ وَفَرَتِ الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَتِ الدَّمَ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ وُرُودِ النَّسْخِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَلَا قَبْلَ أَوَانِ الْفِعْلِ فِي شَيْءٍ، كَمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِالْكَلَامِ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:

قَدْ صَدَّقْتَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَلْبِكَ عَلَى مَعْنَى: كَانَتْ عِنْدَكَ رُؤْيَاكَ صَادِقَةً حَقًّا مِنَ اللَّهِ فَعَمِلْتَ بِحَسَبِهَا حِينَ آمَنْتَ بِهَا، وَاعْتَقَدْتَ صِدْقَهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ: صَدَّقْتَ بِقَلْبِكَ مَا حَصَلَ عَنِ الرُّؤْيَا فِي نَفْسِكَ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَفَّيْتَهَا حَقَّهَا مِنَ الْعَمَلِ. انْتَهَى. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: تَعْلِيلٌ لِتَخْوِيلِ مَا خَوَّلَهُمَا اللَّهُ مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ بَعْدَ الْيَأْسِ.

إِنَّ هَذَا: أَيْ مَا آمُرُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ، لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ: أَيِ الِاخْتِبَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي يَتَمَيَّزُ فِيهِ الْمُخْلِصُونَ وَغَيْرُهُمْ، أَوِ الْمِحْنَةُ الْبَيِّنَةُ الصُّعُوبَةِ الَّتِي لَا مِحْنَةَ أَصْعَبُ مِنْهَا. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ هَابِيلُ فَقُبِلَ مِنْهُ، وَكَانَ يَرْعَى فِي الْجَنَّةِ حَتَّى فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالْحَسَنُ: فُدِيَ بِوَعْلٍ أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِنْ سَرْوٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: كَبْشٌ أَبْيَضُ أَقْرَنُ أَقْنَى، وَوُصِفَ بِالْعِظَمِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ يَقِينًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ: لِأَنَّهُ جَرَتِ السُّنَّةُ بِهِ، وَصَارَ دِينًا بَاقِيًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ، بَلْ عَنِ التَّكْوِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: عَظَمَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ كِبَاشِ الْجَنَّةِ، رُعِيَ فِيهَا أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَفِي قَوْلِهِ: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَذْبَحِ ابْنَهُ، وَقَدْ فُدِيَ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: وَقَعَ الذَّبْحُ وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كَذِبٌ صُرَاحٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:

لَمْ يَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي مَنَامِهِ الْإِمْرَارَ بِالشَّفْرَةِ فَقَطْ، فَظَنَّ أَنَّهُ ذِبْحٌ مُجَهَّزٌ، فَنَفَّذَ لِذَلِكَ. فَلَمَّا وَقَعَ الَّذِي رَآهُ وَقَعَ النَّسْخُ، قَالَ: وَلَا اخْتِلَافَ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ. انْتَهَى. وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أنه تَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَقَطْ، وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيثٍ

ص: 118

صَحِيحٍ أَنَّهُ أَمَرَّ الشَّفْرَةَ عَلَى حَلْقِ ابْنِهِ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إِلَى: الْمُؤْمِنِينَ، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ، قَبْلَ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ هُنَا، وَقَالَ هُنَا كَذَلِكَ دُونَ إِنَّا، اكْتِفَاءً بِذِكْرِ ذَلِكَ قَبْلُ وَبَعْدُ.

وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ غَيْرُ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَأَنَّ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الْمُبَشَّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّهُ هُوَ الذَّبِيحُ لَا إِسْحَاقُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَمَاعَةٌ مَنْ التَّابِعِينَ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ

وَبِقَوْلِهِ عليه السلام: أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ، وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ لَهُ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَتَبَسَّمَ عليه السلام، يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ.

وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ أَخْوَالُهُ وَقَالُوا لَهُ: افْدِ ابْنَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، فَفَدَاهُ بِهَا. وَفِيمَا أَوْحَى اللَّهُ لِمُوسَى فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ جَادَ بِدَمِ نَفْسِهِ. وَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَهُودِيًا أَسْلَمَ عن ذلك فقال: أن يهوديا ليعلم، ولكنهم يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَرْنَا الْكَبْشِ مَنُوطَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ. وَسَأَلَ الْأَصْمَعِيُّ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ عَنِ الذَّبِيحِ فَقَالَ:

يَا أَصْمَعِيُّ، أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ عَقْلُكَ؟ وَمَتَى كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْبَيْتَ مَعَ أَبِيهِ، وَالْمَنْحَرُ بِمَكَّةَ؟ انْتَهَى. وَوَصَفَهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ «1» ، وَهُوَ صَبْرُهُ عَلَى الذَّبْحِ وَبِصِدْقِ الْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «2» ، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى الذَّبْحِ فَوَفَّى بِهِ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلُ، وَيَزْعُمُ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ الْيَهُودُ. وَمِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ، وَوَلَدَ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ. فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إِسْحَاقَ، لَكَانَ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ مُحَالٌ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ، مِنْهُمْ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ

، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَكَعْبٌ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ، وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقِيلَ: بِالْحِجَازِ، جَاءَ مَعَ أَبِيهِ عَلَى الْبُرَاقِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ: وَكَانَ أَمْرَ ذَبْحِهِ بِالشَّامِ، كَانَ بِالْمَقَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ، هِيَ بِشَارَةُ نُبُوَّتِهِ. وَقَالُوا: أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ بِأَنَّهُ اسْتَوْهَبَهُ وَلَدًا، ثُمَّ أَتْبَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ،

(1) سورة الأنبياء: 21/ 85.

(2)

سورة مريم: 19/ 54.

ص: 119

ثُمَّ ذَكَرَ رُؤْيَاهُ بِذَبْحِ ذَلِكَ الْغُلَامِ الْمُبَشَّرِ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ

كِتَابُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ، عليهما السلام: مِنْ يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلَ اللَّهِ ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّهِ ابن إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ.

وَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ، جَعَلَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَةً بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَشِّرَهُ اللَّهُ بِوِلَادَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ مَعًا، لِأَنَّ الِامْتِحَانَ بِذَبْحِهِ لَا يَصِحُّ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ نَبِيًّا.

وَمَنْ جَعَلَهُ إِسْمَاعِيلَ، جَعَلَ الْبِشَارَةَ بِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ. وَانْتَصَبَ نَبِيًّا عَلَى الْحَالِ، وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. فَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ هُوَ الذَّبِيحَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبِشَارَةُ بِوِلَادَةِ إِسْحَاقَ، فَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ مَحَلَّ سُؤَالٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِهِ: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدْخُولَ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ الدُّخُولِ، وَالْخُلُودَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُمَا، فَقَدَّرْتَ مُقَدَّرَيْنِ لِلْخُلُودِ، فَكَانَ مُسْتَقِيمًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُبَشَّرُ بِهِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ، وَعَدَمُ الْمُبَشَّرِ بِهِ أَوْجَبَ عَدَمَ حَالِهِ، لِأَنَّ الْحَالَ حِلْيَةٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْمَحَلِّيِّ. وَهَذَا الْمُبَشَّرُ بِهِ الَّذِي هُوَ إِسْحَاقُ، حِينَ وُجِدَ لَمْ تُوجَدِ النُّبُوَّةُ أَيْضًا بِوُجُودِهِ، بَلْ تَرَاخَتْ عَنْهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَكَيْفَ يُجْعَلُ نَبِيًّا حَالًا مُقَدَّرَةً؟ وَالْحَالُ صِفَةٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَوْ بِهِ. فَالْخُلُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَتَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَتَقْدِيرُهَا صِفَتُهُمْ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً وَقْتَ وُجُودِ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ لِعَدَمِ إِسْحَاقَ.

قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ دَقِيقُ السَّلْكِ ضَيِّقُ الْمَسْلَكِ، وَالَّذِي يَحُلُّ الْإِشْكَالَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَبَشَّرْناهُ بِوُجُودِ إِسْحَاقَ نَبِيًّا، أَيْ بِأَنْ يُوجَدَ مُقَدَّرَةً نُبُوَّتُهُ، فَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ الْوُجُودُ، لَا فِعْلُ الْبِشَارَةِ وَبِذَلِكَ يَرْجِعُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «2» ، مِنَ الصَّالِحِينَ «3» ، حَالٌ ثَانِيَةٌ، وَوُرُودُهَا عَلَى سَبِيلِ الثَّنَاءِ وَالتَّقْرِيظِ، لِأَنَّ كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. انْتَهَى.

وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ: أَفَضْنَا عَلَيْهِمَا بَرَكَاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَبِأَنْ أَخْرَجْنَا أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ صُلْبِهِ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ: فِيهِ وَعِيدٌ لِلْيَهُودِ وَمَنْ كَانَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَرَّ قَدْ يَلِدُ الْفَاجِرَ، وَلَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ عَيْبٌ وَلَا مَنْقَصَةٌ.

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ

(1- 2) سورة الزمر: 39/ 73.

(3)

سورة آل عمران: 3/ 39 وغيرها من السور. [.....]

ص: 120

الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ.

الْكَرْبِ الْعَظِيمِ: تَعَبُّدِ الْقِبْطِ لَهُمْ، ثُمَّ خَوْفِهِمْ مِنْ جَيْشِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ الْبَحْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَنَصَرْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ فَقَطْ، تَعْظِيمًا لَهُمَا بِكِنَايَةِ الجماعة. وهُمُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا وَتَوْكِيدًا أَوْ بَدَلًا. والْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: التَّوْرَاةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «1» . والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ الْإِسْلَامُ وَشَرْعُ الله. وإِلْياسَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِدْرِيسُ عليه السلام. وَنَقَلُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشِ، وَالْمِنْهَالِ بْنِ عُمَرَ، وَالْحَكَمِ بْنِ عتيبة الكوفي أنهم قرأوا: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لِمَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عِنْدِي عَلَى تَفْسِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَفِيضُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَإِنَّ إِلْياسَ، وَأَيْضًا تَفْسِيرُهُ إِلْيَاسَ بِأَنَّهُ إِدْرِيسُ لَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ، لِأَنَّ إِدْرِيسَ فِي التَّارِيخِ الْمَنْقُولِ كَانَ قَبْلَ نُوحٍ. وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ذُكِرَ إِلْيَاسُ، وَأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عَلَى مَا يَحْتَمِلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا «2» ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ «3» ، وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ إِلْيَاسَ، وَقِيلَ: إِلْيَاسُ مِنْ أَوْلَاد هَارُونَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ إلياس بن ياسين ابن فِنْحَاصِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَإِنَّ إِلْياسَ، بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ.

وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:

بِوَصْلِ الْأَلِفِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَصَلَ هَمْزَةَ الْقَطْعِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ يَاسَا، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أَلْ، كَمَا دَخَلَتْ عَلَى الْيَسَعَ. وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ وَمُصْحَفِهِ: وإن إبليس، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، بَعْدَهَا يَاءٌ ساكنة، بعدها لام مكسورة، بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَسِينٌ مفتوحة. وقرىء: وَإِنَّ إِدْرَاسَ، لُغَةً فِي إِدْرِيسَ، كَإِبْرَاهَامَ فِي إِبْرَاهِيمَ.

(1) سورة المائدة: 5/ 44.

(2)

سورة الأنعام: 6/ 84.

(3)

سورة الأنعام: 6/ 84.

ص: 121

أَتَدْعُونَ بَعْلًا: أَيْ أَتَعْبُدُونَ بَعْلًا، وَهُوَ عَلَمٌ لِصَنَمٍ لَهُمْ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ. قِيلَ: وَكَانَ مِنْ ذَهَبٍ، طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، فُتِنُوا بِهِ وَعَظَّمُوهُ حَتَّى أَخَدَمُوهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَادِنٍ وَجَعَلُوهُمْ أَنْبِيَاءَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ بَعْلٍ وَيَتَكَلَّمُ بِشَرِيعَةِ الضَّلَالَةِ، وَالسَّدَنَةُ يَحْفَظُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ، وَهُمْ أَهْلُ بَعْلَبَكَّ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: الْبَعْلُ: الرَّبُّ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَسَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَنَا بَعْلُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟ وَيُقَالُ: مَنْ بَعْلُ هَذِهِ الدَّارِ، أَيْ رَبُّهَا؟ وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَتَعْبُدُونَ بَعْضَ الْبُعُولِ وَتَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ؟ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ بَعْلًا اسْمُ امْرَأَةٍ أَتَتْهُمْ بضلالة فاتبعوها. وقرىء:

أَتَدْعُونَ بَعْلَاءَ، بِالْمَدِّ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ، وَيُؤْنِسُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ اسْمُ امْرَأَةٍ.

وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ، بِالنَّصْبِ فِي الثَّلَاثَةِ بَدَلًا مِنْ أَحْسَنَ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِضَافَةَ التَّفْضِيلِ مَحْضَةٌ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ، أَيْ هُوَ اللَّهُ أَوْ يَكُونُ اسْتِئْنَافًا مُبْتَدَأً وَرَبُّكُمْ خَبَرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ إِذَا وُصِلَ نُصِبَ، وَإِذَا قُطِعَ رُفِعَ. فَكَذَّبُوهُ: أَيْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، إِمَّا فِي قَوْلِهِ: اللَّهَ رَبَّكُمْ هذه النسب، أَوْ فَكَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الصَّنَمِ وَالْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ.

وَمُحْضَرُونَ: مَجْمُوعُونَ لِلْعَذَابِ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ: اسْتِثْنَاءٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مُخَلَصِينَ لَمْ يُكَذِّبُوهُ، فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ ضَمِيرِ فَكَذَّبُوهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكُونُونَ مُنْدَرِجِينَ فِيمَنْ كَذَّبَ، وَيَكُونُونَ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لَكِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ لَا يَحْضُرُونَ لِلْعَذَابِ، وَلَا مَسِيسَ لِهَؤُلَاءِ الْمَمْسُوسِينَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ إِلْيَاسَ هَذِهِ.

وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَنَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ: عَلَى آلِ يَاسِينَ. وَزَعَمُوا أَنَّ آلَ مَفْصُولَةٌ فِي الْمُصْحَفِ، وَيَاسِينَ اسْمٌ لِإِلْيَاسَ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِأَبِي إِلْيَاسَ، لِأَنَّهُ إِلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ، وَآلُ يَاسِينَ هُوَ ابْنُهُ إِلْيَاسُ.

وَقِيلَ: يَاسِينُ هُوَ اسْمُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: عَلى إِلْ ياسِينَ، بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، أَيْ إِلِيَاسِينَ، جَمَعَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى إِلْيَاسَ مَعَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ اتَّبَعَهُ عَلَى الدِّينِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ إِلْيَاسُ، فَلَمَّا جُمِعَتْ، خُفِّفَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ بِحَذْفِ إِحْدَاهُمَا كَرَاهَةَ التَّضْعِيفِ، فَالْتَقَى سَاكِنَانِ:

الْيَاءُ فِيهِ وَحَرْفُ الْعِلَّةِ الَّذِي لِلْجَمْعِ، فَحُذِفَتْ لِالْتِقَائِهِمَا، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ وَالْأَعْجَمُونَ

ص: 122

وَالْخَبِيبُونَ وَالْمُهَلَّبُونَ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو أَنَّ مُنَادِيًا نَادَى يَوْمَ الْكِلَابِ: هَلَكَ الْيَزِيدِيُّونَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَوْ كَانَا جَمْعًا، لَعُرِّفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ: عَلَى الْيَاسِينَ، بِوَصْلِ الْأَلِفِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ يُرَادُ بِهِ إِلْيَاسُ وَقَوْمُهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَحُذِفَتْ يَاءُ النَّسَبِ، كَمَا قَالُوا: الْأَشْعَرُونَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ دَخَلَتْ عَلَى الْجَمْعِ، وَاسْمُهُ عَلَى هَذَا يَاسُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ أَنَّهُ قَرَأَ إِدْرِيسَ: سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ.

وَقَرَأَ: عَلِيٌّ إِدْرَسِينَ.

وَقَرَأَ ابْنُ عليّ: إبليس، كقراءته وإن إبليس لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِلَّا عَجُوزاً: هِيَ امْرَأَةُ لُوطٍ، وَكَانَتْ كَافِرَةً، إِمَّا مُسْتَتِرَةً بِالْكُفْرِ، وَإِمَّا مُعْلِنَةً بِهِ. وَكَانَ نِكَاحُ الْوَثَنِيَّاتِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا. مُصْبِحِينَ

: أَيْ دَاخِلِينَ فِي الْإِصْبَاحِ. وَالْخِطَابُ فِي وَإِنَّكُمْ

لِقُرَيْشٍ، وَكَانَتْ مَتَاجِرُهُمْ إِلَى الشَّامِ عَلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ. أَفَلا تَعْقِلُونَ

، فَتَعْتَبِرُونَ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

يُونُسُ بْنُ مَتَّى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

وَرُوِيَ أنه نبىء وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَدَعَاهُمْ لِلْإِيمَانِ فَخَالَفُوهُ، فَوَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِيَوْمِهِ، فَحَدَّدَهُ يُونُسُ لَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ قَوْمَهُ لَمَّا رَأَوْا مَخَايِلَ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يُبَاشِرَهُمْ تَابُوا وَآمَنُوا، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ.

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ قِصَّتِهِ، وَأَعَدْنَا طَرَفًا مِنْهَا لِيُفِيدَ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ.

قِيلَ: وَلَحِقَ يُونُسَ غَضَبٌ، فَأَبِقَ إِلَى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فِرَارًا مِنْ قَوْمِهِ

، وَعَبَّرَ عَنِ الْهُرُوبِ بِالْإِبَاقِ، إِذْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، خَرَجَ فَارًّا مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمَّا أَبْعَدَتِ السَّفِينَةُ فِي الْبَحْرِ، وَيُونُسُ فِيهَا، رَكَدَتْ. فَقَالَ أَهْلُهَا: إِنَّ فِيهَا لَمَنْ يَحْبِسُ اللَّهُ السَّفِينَةَ بِسَبَبِهِ، فَلْنَقْتَرِعْ. فَأَخَذُوا لِكُلٍّ سَهْمًا، عَلَى أَنَّ مَنْ طَفَا سَهْمُهُ فَهُوَ، وَمَنْ غَرِقَ سَهْمُهُ فَلَيْسَ إِيَّاهُ، فَطَفَا سَهْمُ يُونُسَ. فَعَلُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا، تَقَعُ الْقَرْعَةُ عَلَيْهِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَطْرَحُوهُ. فَجَاءَ إِلَى رُكْنٍ مِنْهَا لِيَقَعَ مِنْهَا، فَإِذَا بِدَابَّةٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ تَرْقُبُهُ وَتَرْصُدُ لَهُ. فَانْتَقَلَ

ص: 123

إِلَى الرُّكْنِ الْآخَرِ، فَوَجَدَهَا حَتَّى اسْتَدَارَ بِالْمَرْكَبِ وَهِيَ لَا تُفَارِقُهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَرَامَى إِلَيْهَا فَالْتَقَمَتْهُ.

فَفِي قِصَّةِ يُونُسَ عليه السلام هُنَا جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ ذِكْرِ فِرَارِهِ إِلَى الْفُلْكِ، كَمَا فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً «1» هُوَ مَا بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ «2» ، جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْضًا. وَبِمَجْمُوعِ الْقَصَصِ يَتَبَيَّنُ مَا حُذِفَ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا.

فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ

: مِنَ الْمَغْلُوبِينَ، وَحَقِيقَتُهُ مِنَ الْمُزْلَقِينَ عَنْ مَقَامِ الظَّفَرِ في الاستفهام. وقرىء: وَهُوَ مُلِيمٌ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقِيَاسُهُ مَلُومٌ، لِأَنَّهُ مِنْ لُمْتُهُ أَلُومُهُ لَوْمًا، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، وَلَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ عَلَى أَلِيمٍ، كَمَا قَالُوا: مَشِيبٌ وَمَدْعِيٍّ فِي مَشُوبٍ، وَمَدْعُوٍّ بِنَاءً عَلَى شَيَبَ وَدَعَى. مِنَ الْمُسَبِّحِينَ: مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ مَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «3» . وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: تَسْبِيحُهُ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ:

صَلَاتُهُ فِي وَقْتِ الرَّخَاءِ تَنْفَعُهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى مِنْبَرِهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَذْكُرْكُمْ فِي الشِّدَّةِ، إِنَّ يُونُسَ كَانَ عَبْدًا ذَاكِرًا، فَلَمَّا أَصَابَتْهُ الشِّدَّةُ نَفَعَهُ ذَلِكَ.

قَالَ اللَّهُ عز وجل: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: تَسْبِيحُهُ: صَلَاتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ لَحْمَ الْحُوتِ بِيَدَيْهِ يَقُولُ: لَأَبْنِيَنَّ لَكَ مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَبْنَهِ أَحَدٌ قَبْلِي.

وَرُوِيَ أَنَّ الْحُوتَ سَافَرَ مَعَ السَّفِينَةِ رَافِعًا رَأْسَهُ لِيَتَنَفَّسَ وَيُونُسُ يُسَبِّحُ، وَلَمْ يُفَارِقْهُمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَرِّ، فَلَفَظَهُ سَالِمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَسْلَمُوا.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وَعَنْ قَتَادَةَ: لَكَانَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذُكِرَ فِي مُدَّةِ لَبْثِهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أَقْوَالًا مُتَكَاذِبَةً، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا. وَهُوَ سَقِيمٌ:

رُوِيَ أَنَّهُ عَادَ بَدَنُهُ كَبَدَنِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: الْيَقْطِينُ: الْقَرْعُ خَاصَّةً، قِيلَ: وَهِيَ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَتَجْمَعُ خِصَالًا، بَرَدُ الظِّلِّ، وَنُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، وَعِظَمُ الْوَرَقِ، وَالذُّبَابُ لَا يَقْرَبُهَا. قِيلَ: وَمَاءُ وَرَقِهِ إِذَا رُشَّ بِهِ مَكَانٌ لَمْ يَقْرَبْهُ ذُبَابٌ، وَقَالَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:

(1) سورة الأنبياء: 21/ 87.

(2)

سورة الأنبياء: 21/ 87.

(3)

سورة الأنبياء: 21/ 87.

ص: 124

فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ

مِنَ اللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أَلْفَى ضِيَاعِيَا

وَفِيمَا

رُوِيَ: إِنَّكَ لَتُحِبُّ الْقَرْعَ، قَالَ: أَجَلْ، هِيَ شَجَرَةُ أَخِي يُونُسَ.

وَقِيلَ: هِيَ شَجَرَةُ الْمَوْزِ، تَغَطَّى بِوَرَقِهَا، وَاسْتَظَلَّ بِأَغْصَانِهَا، وَأَفْطَرَ عَلَى ثِمَارِهَا. ومعنى أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: مَا كَانَ عَلَى سَاقٍ مِنْ عُودٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنْبَتَهَا ذَاتَ سَاقٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَبِوَرَقِهَا، خَرْقًا لِلْعَادَةِ، فَنَبَتَ وَصَحَّ وَحَسُنَ وَجْهُهُ، لِأَنَّ وَرَقَ الْقَرْعِ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِمَنْ يَنْسَلِخُ جِلْدُهُ.

وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، قَالَ الْجُمْهُورُ: رِسَالَتُهُ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى الَّتِي أَبِقَ بَعْدَهَا، ذَكَرَهَا آخِرَ الْقَصَصِ تَنْبِيهًا عَلَى رِسَالَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ، وَتَمْتِيعُ تِلْكَ الْأُمَّةِ هُوَ الَّذِي أَغْضَبَ يُونُسَ عليه السلام حَتَّى أَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ:

هِيَ رِسَالَةٌ أُخْرَى بَعْدَ أَنْ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ، وَهِيَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ نَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُرَادُ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ إِرْسَالِهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ أَهْلُ نِينَوَى. وَقِيلَ: هُوَ إِرْسَالٌ ثَانٍ بَعْدَ مَا جَرَى إِلَيْهِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَسْلَمُوا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَأَبَى، لِأَنَّ النَّبِيَّ إِذَا هَاجَرَ عَنْ قَوْمِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ مُقِيمًا فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ نَبِيًّا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى بَلْ.

وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ وَبِالْوَاوِ، وَقَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ.

وَقِيلَ: لِلْإِبْهَامِ عَلَى الْمُخَاطَبِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: الْمَعْنَى عَلَى نَظَرِ الْبَشَرِ، وَحَزْرِهِمْ أَنَّ مَنْ وَرَاءَهُمْ قَالَ: هُمْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ. قَالَ: أَوْ يَزِيدُونَ فِي مَرْأَى النَّاظِرِ، إِذَا رَآهَا الرَّائِي قَالَ: هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ أَكْثَرُ. وَالْغَرَضُ الْوَصْفُ بِالْكَثْرَةِ، وَالزِّيَادَةُ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوْ سَبْعُونَ أَلْفًا، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ

أَوْ عِشْرُونَ أَلْفًا، رَوَاهُ أُبَيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

، وَإِذَا صَحَّ بَطَلَ مَا سِوَاهُ.

فَآمَنُوا: رُوِيَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِالْأَطْفَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْبَهَائِمِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُمَّهَاتِ، وَنَاحُوا وَضَجُّوا وَأَخْلَصُوا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالتَّمَتُّعُ هُنَا هُوَ بِالْحَيَاةِ، وَالْحِينُ آجَالُهُمُ السَّابِقَةُ فِي الْأَزَلِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَالضَّمِيرُ فِي فَاسْتَفْتِهِمْ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْطُوفٌ عَلَى مِثْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ بَيْنَهُمَا الْمَسَافَةُ. أَمَرَ رَسُولَهُ بِاسْتِفْتَاءِ قُرَيْشٍ عَنْ وَجْهِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ أَوَّلًا، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ مَوْصُولًا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِاسْتِفْتَائِهِمْ عَنْ وَجْهِ الْقِسْمَةِ الضِّيزَى. انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَهُ مِنَ الْعَطْفِ.

وَإِذَا كَانُوا عَدُّوا الْفَصْلَ بِجُمْلَةٍ مِثْلَ قَوْلِكَ: كُلْ لَحْمًا وَاضْرِبْ زَيْدًا وَخُبْزًا، مِنْ أَقْبَحِ

ص: 125

التَّرْكِيبِ، فَكَيْفَ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ وَقِصَصٍ مُتَبَايِنَةٍ؟ فَالْقَوْلُ بِالْعَطْفِ لَا يَجُوزُ، وَالِاسْتِفْتَاءُ هُنَا سُؤَالٌ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِمُ الْبُهْتَانَ عَلَى اللَّهِ، حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ الْإِنَاثَ فِي قَوْلِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، مَعَ كَرَاهَتِهِمْ لَهُنَّ، وَوَأْدِهِمْ إِيَّاهُنَّ، وَاسْتِنْكَافِهِمْ مَنْ ذَكَرَهُنَّ.

وَارْتَكَبُوا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكُفْرِ: التَّجْسِيمُ، لِأَنَّ الْوِلَادَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَجْسَامِ وَتَفْضِيلُ أَنْفُسِهِمْ، حَيْثُ نَسَبُوا أَرْفَعَ الْجِنْسَيْنِ لَهُمْ وَغَيْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتِهَانَتُهُمْ بِمَنْ هُوَ مُكَرَّمٌ عِنْدَ اللَّهِ، حَيْثُ أَنَّثُوهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.

بَدَأَ أَوَّلًا بِتَوْبِيخِهِمْ عَلَى تَفْضِيلِ أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ، وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ:

أَلِرَبِّكُمْ، لِمَا فِي تَرْكِ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ مِنْ تَحْسِينِهِمْ وَشَرَفِ نَبِيِّهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَثَنَّى بِأَنَّ نِسْبَةَ الْأُنُوثَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ يَقْتَضِي الْمُشَاهَدَةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ: أَيْ خَلَقْنَاهُمْ وَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الْأُخْرَى:

أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «1» وَكَمَا قَالَ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ «2» . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ ثَالِثًا بِأَعْظَمِ الْكُفْرِ، وَهُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ وَلَدَ، فَبَلَغَ إِفْكُهُمْ إِلَى نِسْبَةِ الْوَلَدِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا فَاحِشًا قَالَ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَاحْتَمَلَ أَنْ تُخَصَّ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَيَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: مِنْ إِفْكِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَعُمَّ هَذَا الْقَوْلَ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَالَ: وَهُمْ شاهِدُونَ، فَخَصَّ عِلْمَهُمْ بِالْمُشَاهَدَةِ؟ قُلْتُ: مَا هُوَ إِلَّا اسْتِهْزَاءٌ وَتَجْهِيلٌ كَقَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَمَا لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ، لَمْ يَعْلَمُوهُ بِخَلْقِ اللَّهِ عِلْمَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا بِإِخْبَارٍ صَادِقٍ، لَا بِطْرِيقِ اسْتِدْلَالٍ وَلَا نَظَرٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، كَالْقَائِلِ قَوْلًا عَنْ ثَلَجِ صَدْرٍ وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسٍ لِإِفْرَاطِ جَهْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا خَلْقَهُ. وَقُرِأَ: وَلَدَ اللَّهُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ وَلَدُهُ، وَالْوَلَدُ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ. تَقُولُ: هَذِهِ وَلَدِي، وَهَؤُلَاءِ وَلَدِي. انْتَهَى.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَصْطَفَى، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ وَابْنُ جَمَّازٍ وَجَمَاعَةٌ، وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ: بِوَصْلِ الْأَلِفِ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْكُفَّارِ. حَكَى اللَّهُ تَعَالَى شَنِيعَ قَوْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَفَاهُمْ أَنْ قَالُوا وَلَدَ اللَّهُ، حَتَّى جَعَلُوا ذَلِكَ الْوَلَدَ بَنَاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى اخْتَارَهُمْ عَلَى الْبَنِينَ. وَقَالَ

(1) سورة الزخرف: 43/ 19.

(2)

سورة الكهف: 18/ 51.

(3)

سورة الزخرف: 43/ 19.

ص: 126

الزَّمَخْشَرِيُّ: بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا حَمْزَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْمَلَهَا، فَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَالَّذِي أَضْعَفَهَا أَنَّ الْإِنْكَارَ قَدِ اكْتَنَفَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ جَانِبَيْهَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَمَنْ جَعَلَهَا لِلْإِثْبَاتِ فَقَدْ أَوْقَعَهَا دَخِيلَةً بَيْنَ سَبَبَيْنِ، وَلَيْسَتْ دَخِيلَةً بَيْنَ نَسِيبَيْنِ، بَلْ لَهَا مُنَاسَبَةٌ ظَاهِرَةٌ مَعَ قَوْلِهِمْ وَلَدَ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، فَهِيَ جُمْلَةُ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ مَقَالَتَيِّ الْكُفْرِ، جَاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ وَالتَّأْكِيدِ فِي كَوْنِ مَقَالَتِهِمْ تِلْكَ هِيَ مِنْ إِفْكِهِمْ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ: تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ وَاسْتِفْهَامٌ عَنِ الْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: تَذْكُرُونَ، بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ. أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ: أَيْ حُجَّةٌ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَخَبَرٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ

، الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً «1» ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ.

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

الظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّةَ هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَعَنِ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ مَقَالَاتٌ شَنِيعَةٌ. مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، فَوَلَدَ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَشَافَهَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الشَّيَاطِينُ، أَنَّهَا مُحْضَرَةٌ أَمْرَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا فُسِّرَتِ الْجِنَّةُ بِالشَّيَاطِينِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ عَالِمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُحْضِرُهُمُ النَّارَ وَيُعَذِّبُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُنَاسِبِينَ لَهُ، أَوْ شُرَكَاءَ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ، لَمَا عَذَّبَهُمْ.

وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا لِفِرْقَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ، وَالْجِنَّةُ: الْمَلَائِكَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ وَخَفَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ وَضْعًا منهم

(1) سورة الروم: 30/ 35.

ص: 127

وَتَصْغِيرًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُعَظَّمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَنْزِلَةَ الْمُنَاسَبَةِ الَّتِي أَضَافُوهَا إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ صِفَتُهُ الِاجْتِنَانُ وَالِاسْتِتَارُ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْرَامِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُنَاسِبَ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. انْتَهَى.

وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ: أَيِ الْمَلَائِكَةُ، إِنَّهُمْ: أَيِ الْكَفَرَةُ الْمُدَّعِينَ نِسْبَةً بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، مُحْضَرُونَ النَّارَ، يُعَذَّبُونَ بِمَا يَقُولُونَ. وَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِ مَنْ نُسِبُوا لِذَلِكَ، مُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِ النَّاسِبِينَ. ثُمَّ نَزَّهَ تَعَالَى نَفْسَهُ عن الْوَصْفِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ. وَأَمَّا مِنَ الْمُحْضَرُونَ، أَيْ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ نَاجُونَ مُدَّةَ الْعَذَابِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ التَّنْزِيهِ اعْتِرَاضًا عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَما تَعْبُدُونَ لِلْعَطْفِ، عَطَفَتْ مَا تَعْبُدُونَ عَلَى الضَّمِيرِ فِي إِنَّكُمْ، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا، وَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: وَمَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا أَنْتُمْ وَهُمْ، وَغَلَبَ الْخِطَابُ. كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ وَزَيْدٌ تَخْرُجَانِ عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى عِبَادَةِ مَعْبُودِكُمْ. بِفاتِنِينَ: أَيْ بِحَامِلِينَ بِالْفِتْنَةِ عِبَادَهُ، إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، كَمَا قُلْنَا، أَيْ عَلَى عِبَادَتِهِ. وَضُمِّنَ فَاتِنِينَ معنى: حاملين بالفتنة، ومن مفعولة بفاتنين، فُرِّغَ لَهُ الْعَامِلُ إِذْ لم يكن بفاتنين مَفْعُولًا. وَقِيلَ: عَلَيْهِ بِمَعْنَى: أَيْ مَا أَنْتُمْ بِالَّذِي تعبدون بفاتنين، وبه متعلق بفاتنين، الْمَعْنَى: مَا أَنْتُمْ فَاتِنِينَ بِذَلِكَ الَّذِي عَبَدْتُمُوهُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَدَرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَفْتِنُونَهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: يُفْسِدُونَهُمْ عَلَيْهِ بِإِغْوَائِهِمْ وَاسْتِهْوَائِهِمْ مِنْ قَوْلِكَ: فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ، كَمَا تَقُولُ: أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّبَهَا عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي وَما تَعْبُدُونَ بِمَعْنَى مَعَ مِثْلُهَا فِي قَوْلِهِمْ: كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ. فَكَمَا جَازَ السُّكُوتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، جَازَ أَنْ يُسْكَتَ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَعْبُدُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى: فَإِنَّكُمْ مَعَ آلِهَتِكُمْ، أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاؤُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ لَا تَبْرَحُونَ تَعْبُدُونَهُمْ. ثُمَّ قَالَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى مَا تَعْبُدُونَ، بِفاتِنِينَ: بِبَاعِثِينَ أَوْ حَامِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ، إِلَّا مَنْ هُوَ ضَالٌّ مِنْكُمْ.

انْتَهَى. وَكَوْنُ الْوَاوِ فِي وَما تَعْبُدُونَ وَاوَ مَعَ غَيْرُ مُتَبَادِرٍ إِلَى الذِّهْنِ، وَقَطْعُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ عَنْ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ اتِّصَافَهُ بِهِ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.

ص: 128

وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عبلة: صالو الْجَحِيمَ بِالْوَاوِ، وَهَكَذَا فِي كِتَابِ الْكَامِلِ لِلْهُذَلِيِّ. وَفِي كِتَابِ ابْنِ خَالَوَيْهِ عَنْهُمَا: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وَقَرَأَ الحسن: صالو مَكْتُوبًا بِالْوَاوِ وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ وَكِتَابِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ: صَالَ مَكْتُوبًا بِغَيْرِ وَاوٍ. فَمَنْ أَثْبَتَ الْوَاوَ فَهُوَ جَمْعُ سَلَامَةٍ سَقَطَتِ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ. حُمِلَ أَوَّلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ فَأُفْرِدَ، ثُمَّ ثَانِيًا عَلَى مَعْنَاهَا فَجُمِعَ، كَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «1» ، حُمِلَ فِي يَقُولُ عَلَى لَفْظِ مَنْ، وَفِي وَمَا هُمْ عَلَى الْمَعْنَى، وَاجْتَمَعَ الْحَمْلِ عَلَى اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولِ، كَقَوْلِهِ:

إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» . وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا وَمَنْ لَمْ يُثْبِتِ الْوَاوَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَحُذِفَتِ الْوَاوُ خَطَأً، كَمَا حُذِفَتْ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ لَفْظًا لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صَالَ مُفْرَدًا حُذِفَتْ لَامُهُ تَخْفِيفًا، وَجَرَى الْإِعْرَابُ فِي عَيْنِهِ، كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ «3» ، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ «4» ، بِرَفْعِ النُّونِ وَالْجَوَارِ، وَقَالُوا: مَا بَالَيْتُ بِهِ بَالَةً، أَيْ بَالِيَةً مِنْ بَالَى، كَعَافِيَةٍ مِنْ عَافَى، فَحُذِفَتْ لَامُ بَالَيْتُ وَبَالِيَةٍ. وَقَالُوا بَالَةٌ وَبَالٍ، بِحَذْفِ اللَّامِ فِيهِمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدْ وَجَّهَ نَحْوًا مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ وَجَعَلَهُمَا أَوَّلًا وَثَالِثًا فَقَالَ: وَالثَّانِي أَنْ يكون أصله صائل عَلَى الْقَلْبِ، ثُمَّ يُقَالُ: صَالٌ فِي صَائِلٍ، كَقَوْلِهِمْ: شَاكٌّ فِي شَائِكٍ.

انْتَهَى. وَما مِنَّا: أَيْ أَحَدٌ، إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ: أَيْ مَقَامٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ. كَمَا رُوِيَ: فَمِنْهُمْ رَاكِعٌ لَا يُقِيمُ ظَهْرَهُ، وَسَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْجِنَّةَ هم الملائكة تبرؤوا عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْكَفَرَةُ مِنْ كَوْنِهِمْ بَنَاتِ اللَّهِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَعَلَى أَيِّ حَالَةٍ هُمْ فِيهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ السَّمَاءَ مَا فِيهَا مَوْضِعٌ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ وَاقِفٌ يُصَلِّي»

، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ» ، وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ مَعَ مِنْ جَيِّدٌ فَصِيحٌ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ «5» ، أَيْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أحد.

(1) سورة البقرة: 2/ 8.

(2)

سورة البقرة: 2/ 111.

(3)

سورة الرحمن: 55/ 54.

(4)

سورة الرحمن: 55/ 24. [.....]

(5)

سورة النساء: 4/ 159.

ص: 129

وَقَالَ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ، يُرِيدُ: مِنَّا فَرِيقٌ ظَعَنَ وَمِنَّا فَرِيقٌ أَقَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، حَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَأَقَامَ الصِّفَةَ مُقَامَهُ، كَقَوْلِهِ:

أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرِ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصِّفَةِ مُقَامَهُ، لِأَنَّ أَحَدًا الْمَحْذُوفَ مُبْتَدَأٌ.

وَإِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ خَبَرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ كَلَامٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا مِنَّا أَحَدٌ، فَقَوْلُهُ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هُوَ مَحَطُّ الْفَائِدَةِ. وَإِنْ تَخَيَّلَ أَنَّ إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ إِلَّا لَا تَكُونُ صِفَةً إِذَا حُذِفَ مَوْصُوفُهَا، وَأَنَّهَا فَارَقَتْ غَيْرَ إِذَا كَانَتْ صِفَةً فِي ذَلِكَ، لِيَتَمَكَنَّ غَيْرُهُ فِي الْوَصْفِ وَقِلَّةِ تَمَكُّنِ إِلَّا فِيهِ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا، أَيِ ابْنُ رَجُلٍ جَلَا وَبِكَفِّي كَانَ، أَيْ رَجُلٍ كَانَ، وَهَذَا عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ مِنْ أَقْبَحِ الضَّرُورَاتِ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: أَيْ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَجْنِحَتَنَا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ حَوْلَ الْعَرْشِ دَاعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ: قِيلَ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا اصْطَفُّوا فِي الصَّلَاةِ مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا يَصْطَفُّ أَحَدٌ مِنَ الْمِلَلِ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ: أَيِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ الْكَفَرَةُ، أَوِ الْمُنَزِّهُونَ بِلَفْظِ التَّسْبِيحِ، أَوِ الْمُصَلُّونَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَتَطَّرِدُ الْجُمَلُ وَتَنْسَاقُ لِقَائِلٍ وَاحِدٍ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّ نَاسِبِي ذَلِكَ لَمُحْضَرُونَ لِلْعَذَابِ وَقَالُوا:

سُبْحَانَ اللَّهِ، فَنُزِّهُوا عَنْ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَوْا مَنْ أَخْلَصَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَقَالُوا لِلْكَفَرَةِ: فَإِنَّكُمْ وَآلِهَتَكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَكَيْفَ نَكُونُ مُنَاسِبِيهِ، وَنَحْنُ عَبِيدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِكُلٍّ مِنَّا مَقَامٌ مِنَ الطَّاعَةِ؟

إِلَى مَا وَصَفُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ مِنْ رُتْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ. وَقِيلَ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ، هُوَ مِنْ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ وَمَا مِنَ الْمُرْسَلِينَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.

ثُمَّ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الْمُصْطَفُّونَ فِي الصَّلَاةِ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنْ مَا يَقُولُ أَهْلُ الضَّلَالِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَيَقُولُونَ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً: أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَلَمْ نُكَذِّبْ كَمَا كَذَّبُوا.

فَكَفَرُوا بِهِ: أَيْ فَجَاءَهُمُ الذِّكْرُ الَّذِي كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْأَذْكَارِ، لِإِعْجَازِهِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الِانْتِقَامِ. وَأَكَّدُوا قولهم

ص: 130

بأن الْمُخَفَّفَةِ وَبِاللَّامِ كَوْنُهُمْ كَانُوا جَادِّينَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ وَالنُّفُورُ الْبَلِيغُ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» .

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا: قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْإِفْرَادِ لَمَّا انْتَظَمَتْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: بِالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ الْمَوْعِدُ بِعُلُوِّهِمْ عَلَى عَدِوِّهِمْ فِي مَقَامَاتِ الْحِجَاجِ وَمَلَاحِمِ الْقِتَالِ فِي الدُّنْيَا، وَعُلُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا غُلِبَ نَبِيٌّ فِي الْحَرْبِ، وَلَا قُتِلَ فِيهَا. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: أَيْ إِلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَهِيَ مُدَّةُ الْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ: إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى مَوْتِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَبْصِرْهُمْ: أَيِ انْظُرْ إِلَى عَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَهَا وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْأَسْرِ وَالْقَتْلِ، أَوْ سَوْفَ يُبْصِرُونَكَ وَمَا يَتِمُّ لَكَ مِنَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ. وَأَمْرُهُ بِإِبْصَارِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَالَةِ الْمُنْتَظَرَةِ الْكَائِنَةِ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهَا قَرِيبَةٌ كَأَنَّهَا بَيْنَ نَاظِرَيْهِ بِحَيْثُ هُوَ يُبْصِرُهَا، وَفِي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ وَتَنْفِيسٌ عَنْهُ عليه السلام. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ: اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.

فَإِذا نَزَلَ هُوَ، أَيِ الْعَذَابُ، مِثْلُ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ بَعْدَ مَا أَنْذَرَهُ، فَأَنْكَرُوهُ بِحَيْثُ أَنْذَرَ بِهُجُومِهِ قَوْمَهُ وَبَعْضَ صُنَّاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى إنذراه، وَلَا أَخَذُوا أُهْبَتَهُ، وَلَا دَبَّرُوا أَمْرَهُمْ تَدْبِيرًا يُنْجِيهِمْ حَتَّى أَنَاخَ بِفَنَائِهِمْ، فَشَنَّ عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَقَطَعَ دَابِرَهُمْ. وَكَانَتْ عَادَةُ مَغَازِيهِمْ أَنْ يُغِيرُوا صَبَاحًا، فَسُمِّيَتِ الْغَارَةُ صَبَاحًا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَمَا فَصَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا كَانَتْ لَهُ الرَّوْعَةُ الَّتِي يَحْسُنُ بِهَا، وَيَرُونُكَ مَوْرِدُهَا عَلَى نَفْسِكِ وَطَبْعِكَ إِلَّا لِمَجِيئِهَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَابْنُ مَسْعُودٍ:

مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَسَاحَتِهِمْ: هُوَ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ. وَنَزَلَ سَاحَةَ فُلَانٍ، يُسْتَعْمَلُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَسُوءُ الصَّبَاحِ: يُسْتَعْمَلُ فِي حُلُولِ الْغَارَاتِ وَالرَّزَايَاتِ وَمِثْلُ قَوْلِ الصَّارِخِ: يَا صَبَاحَاهُ وَحُكْمُ سَاءَ هَنَا حُكْمُ بِئْسَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبِئْسَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ صَبَاحُهُمْ. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ: كَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّوَلِّي، تَأْنِيسًا لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَتَسْلِيَةً وَتَأْكِيدًا لِوُقُوعِ الْمِيعَادِ وَلَمْ يُقَيِّدْ أَمْرَهُ بِالْإِبْصَارِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي الْأَوَّلِ، إِمَّا لِاكْتِفَائِهِ بِهِ فِي الْأَوَّلِ فَحَذَفَهُ اخْتِصَارًا، وَإِمَّا لِمَا فِي تَرْكِ التَّقْيِيدِ مِنْ جَوَلَانِ الذِّهْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِبْصَارُ مِنْهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَسَرَّاتِ، وَالْإِبْصَارُ مِنْهُمْ من صنوف المساءات. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَوَّلِ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَبِالْآخِرَةِ عَذَابُ الْآخِرَةِ.

(1) سورة البقرة: 2/ 89.

ص: 131

وَخَتَمَ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ تنزيهه عن ما يصفه به الْمُشْرِكُونَ، وَأَضَافَ الرَّبَّ إِلَى نَبِيِّهِ تَشْرِيفًا لَهُ بِإِضَافَتِهِ وَخِطَابِهِ، ثُمَّ إِلَى الْعِزَّةِ، وَهِيَ الْعِزَّةُ الْمَخْلُوقَةُ الْكَائِنَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَرْبُوبَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ وَغَيْرُهُ: مَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ عِزَّتَهُ الَّتِي خُلِقَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: رَبِّ الْعِزَّةِ، فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُضِيفَ الرَّبُّ إِلَى الْعِزَّةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذُو الْعِزَّةِ، كَمَا تَقُولُ: صَاحِبُ صِدْقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِالصِّدْقِ. انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِعِزَّةِ اللَّهِ لِأَنَّهَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ مَا مِنْ عِزَّةٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا وَهُوَ رَبُّهَا وَمَالِكُهَا، لِقَوْلِهِ: وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» .

وَعَنْ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى مِنَ الْأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ، إِلَى آخِرِ السُّورَةُ.

(1) سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/ 26.

ص: 132