الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: صلَّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ العَصْرِ ذاتَ يومٍ بِنهارٍ، ثمَّ قام فَخطبنا إلى أنْ غَابَت الشمس، فلم يَدَعْ شَيْئًا مما يَكُون إلى يوم القيامة إلا حدَّثناهُ، حفِظ ذلكَ من حَفِظه، وَنسيَ ذلك من نَسِيه، فكان ممَّا قال:"يا أيها النَّاسُ؛ إنَّ الدُّنْيا خَضِرَة حُلْوة، وإنّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفكمْ فيها فناظرٌ كيفَ تَعْملونَ، فاتَّقوا الدُّنْيا وَاتَّقوا النساءَ. . . "
(1)
. وذكر تمامها إلى أن قال: ثمَّ دَنتِ الشَّمْسُ أن تغرب فقال: "وإنَّ ما بقي من الدُّنيا فيمَا مَضَى [منها] مثلُ ما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". وهذا هو المحفوظ. واللَّه أعلم
(2)
.
فَصْلٌ
قال اللَّه تعالى في كتابه العزيز: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
فكل ما سواه تعالى مخلوق له، مرْبوب مدبَّر مكوَّن بعد أن لم يكن، محدث بعد عدمه فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جمادٍ وناطق الجميعُ خَلْقهُ، وملكهُ وعَبيده، وتحت قَهْره وقُدرته، وتحت تصريفه ومشيئتة
(3)
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
فقد أجمع علماء الإسلام قاطبةً، لا يشُكّ في ذلك مسلم، أنَّ اللَّه تعالى خَلَقَ السماوات والأرضَ، وما بينهما في ستة أيام، كما دل عليه القرآن العظيم
(4)
واختلفوا في هذه الأيام: أهي كأيامنا هذه؟ أو كل يوم كألف سنة مما تعدّون
(5)
؟ على قولين، كما بيّنا ذلك في "التفسير"
(6)
، وسنتعرض لإيراده في
(1)
رواه أحمد مطولًا (3/ 61) وإسناده ضعيف بطوله، ولأوله وآخره شواهد.
(2)
قوله: واللَّه أعلم؛ ليس في ب.
وأدرج بعد هذا الحديث في نسخة (ب) حديث آخر في معناه، وقال الإمام أحمد: حدَّثنا مكي بن إبراهيم، حدَّثنا هاشم -يعني ابن هاشم- عن عمر بن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن المغيرة بن شعبة أنه قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقامًا فأخبر بما يكون في أمته إلى يوم القيامة، وعاه من وعاه، ونسيه من نسيه، وهو في مسنده (4/ 254) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(3)
كذا في ب وفي أ: خشيته.
(4)
في المطبوع: الكريم، وسقط اللفظان من ب.
(5)
قال اللَّه تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47].
(6)
تفسير القرآن العظيم (3/ 220) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. . .} [الأعراف: 54].
موضعه. واختلفوا: هل كان قبل
(1)
السموات والأرض شيء مخلوق قبلهما؟ فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنَّه لم يكن قبلهما شيء وأنهما خلقتا
(2)
من العدم المحض.
وقال آخرون: بل كان قبل السموات والأرض مخلوقات أُخَر، لقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] الآية.
وفي حديث عمران بن حُصَيْنٍ -كما سيأتي-: "كان اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيءٌ قَبْلهُ وكَانَ عَرْشُهُ على الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءً، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأرْضَ"
(3)
.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدثنا بهْزٌ، حدثنا حمَّاد بن سلمة، حدَّثنا يَعْلَى بن عَطَاء، عن وكيع بن حُدُس
(5)
، عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي، أنه قال: يا رَسُولَ اللَّهِ أيْنَ كَانَ رَبُّنا قَبْلَ أنْ يَخْلق السَّموات والأرْض؟ قال: "في عماءٍ ما فوْقَهُ هواءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الماء"
(6)
.
ورواه عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، ولفظه:"أيْنَ كَانَ رَبُّنا قَبْلَ أنْ يَخْلقَ خَلْقَهُ؟ "
(7)
، وباقيه سواء.
وأخرجه الترمذى
(8)
عن أحمد بن منيع، وابن ماجه
(9)
عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، ومحمد بن الصبَّاح، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون، وقال الترمذي: حسنٌ
(10)
.
واختلف هؤلاء في أيها خُلِق أولًا؟ فقال قائلون: خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها، وهذا هو اختيار
(1)
في المطبوع: قبل خلق. . . وكُتب في "أ": خلق، ثمّ شطب عليها، وهي ليست في (ب).
(2)
في ب: خلقهما.
(3)
سيرد تخريجه (ص 30).
(4)
المسند (4/ 11).
(5)
ضبطه ابن حجر في التقريب: عُدُس، بضمتين، وقال: وقد يفتح ثانيه، ويقال:[حُدُس] بالحاء بدل العين، وقال الترمذي: هكذا يقول حماد بن سلمة: وكيع بن حُدُس، ويقول شعبة وأبو عوانة وهُشيم: وكيع بن عُدُس، وهو أصح.
(6)
العماء: السحاب، وقيل: الضباب. قال أبو عبيد: لا يُدرى كيف كان ذلك العماء. النهاية لابن الأثير (3/ 304).
(7)
مسند أحمد (4/ 11) رقم (16132) وإسناده ضعيف، لجهالة وكيع بن عدس.
(8)
الجامع (3109) في التفسير.
(9)
سنن ابن ماجه (182) في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية.
(10)
زاد في نسخة ب هنا: وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب "صفة العرش": حدَّثنا عبد اللَّه بن مروان بن معاوية، سمعت الأصمعي يقول -وذكر هذا الحديث فقال-: العماء في كلام العرب: السحاب الأبيض الممدود، وأما العمى، المقصور، فهو البصر.
ويبدو أنَّ ناسخ (ب) وقف على كتاب "صفة العرش" ثمَّ أدرج منه ما يؤيد الأخبار والأحاديث التي يذكرها ابن كثير وهذا ما سنلاحظه في كثير من الزيادات التي تفردت بها نسخة (ب) في هذا الموضوع.
ابن جرير
(1)
، وابن الجوزي، وغيرهما. قال ابن جرير
(2)
: وبعد القلم السحاب الرقيق، وبعده العرش.
واحتجوا بالحديث الذي رواه [الإمام]
(3)
أحمد، وأبو داود والترمذي
(4)
، عن عُبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّلَ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلَمُ. ثُمَّ قالَ لَهُ اكْتُبْ، فجرى في تلك السَّاعة بما هُوَ كائنٌ إلى يَوْمِ القيَامَةِ" لفظ أحمد.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب
(5)
.
والذي عليه الجمهور، فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهَمَذَاني وغيره: أنَّ العرش مخلوق قبل ذلك، وهذا هو الذي رواه ابن جرير
(6)
من طريق الضحاك عن ابن عباس، كما دلَّ على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" حيث قال: حدّثني أبو الطاهر أحمدُ بْن عمرو بن السَّرْح، حدَّثنا ابن وهب، أخبرني أبو هانئ الخَوْلاني، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي
(7)
، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَاديْرَ الخَلائِقِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ بخَمْسين ألْفَ سَنةٍ، قالَ: وعَرْشُهُ على المَاءِ"
(8)
، قالوا: فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقاديرَ.
وقد دلَّ هذا الحديثُ أنَّ ذلك بعد خلق العرش، فثبتَ تقدُّم العرش على القلم الذي كتبت به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويُحمل حديثُ القلم على أنَّه أوَّلُ المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخارى
(9)
، عن عِمْران بن حصين: قال: قال أهلُ اليمن لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: جِئْنَاكَ
(1)
تاريخ الطبري (1/ 32) وما بعدها.
(2)
تاريخ الطبري (1/ 37) وما بعدها.
(3)
زيادة من ب تجري على نسق أسلوب ابن كثير.
(4)
رواه أحمد في المسند (5/ 317) وأبو داود في السنن (4700) في السنة، والترمذي في الجامع (2155) في القدر، وفي التفسير (3319).
(5)
الذي في الترمذي باب القدر: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقال في التفسير: هذا حديث حسن غريب صحيح، وهو الذي اقتصر عليه المزي في التهذيب والتحفة، وهو حديث صحيح.
(6)
تاريخ الطبري (1/ 39) والصواب أن القلم أول ما خلق اللَّه ولا نص عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صريح بأن العرش خلق أول، وإنما هو استنباط واجتهاد. ومن ذلك يتبين خطأ من يقول: أول خلق اللَّه صلّوا عليه؛ وهو أفضل الخلق، وليس أول الخلق، وسيد ولد آدم.
(7)
في أ: الجبلي، وفي ب: الختلي، وفي ط: الجيلي؛ وكله تصحيف. والحُبُلي، بضم الحاء المهملة والباء المنقوطة بواحدة، منسوب إلى حيٍّ من اليمن. وأبو عبد الرحمن الحبلي هو عبد اللَّه بن يزيد، من تابعي أهل مصر. الأنساب للسمعاني (4/ 50). وقيل: الحُبَلي، بفتح الباء.
(8)
رواه مسلم في صحيحه (2653) في القدر، والزيادة منه. وأخرجه الترمذي كذلك فى السنن (2156) فى القدر.
(9)
رواه البخاري في صحيحه (3190) و (3191) في بدء الخلق، باب: ما جاء في قول اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم: 27]، و (4365)، في المغازي، و (4386)، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، و (7418) في التوحيد، وأخرجه أحمد في مسنده (4/ 426، و 431، 433، 436) والترمذي في =
لنَتَفقَّه في الدِّيْن وَلنَسْألَكَ عَنْ أوَّلِ الأمْرِ. فَقَالَ: "كانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ -وفي رواية: معه، وفي رواية: غيره- وكَان عَرْشُهُ عَلَى الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وخَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ"، وفي لفظ:" ثمَّ خَلقَ السَّمواتِ والأرْضَ"
(1)
. فسألوه عن ابتداء خلق السَّمواتِ والأرض، ولهذا قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فأجابهم عمَّا سألوا فقط. ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رَزين المتقدم
(2)
.
قال ابن جرير
(3)
: وقال آخرون: بل خلقَ اللَّهُ عز وجل الماءَ قَبْلَ العَرْشِ. رواه السُّدّي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا
(4)
: إنَّ اللَّه كان عرشُه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء.
وحكى ابن جرير
(5)
عن محمد بن إسحاق أنَّه قال: "أول ما خلقَ اللَّه عز وجل النور والظلمة، ثمَّ ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلًا أسودَ مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا".
قال ابن جرير: وقد قيل: "إنَّ الذي خلقَ رَبُّنا بعدَ القلم الكرسيُّ، ثمَّ خلق بعد الكرسيّ العرش. ثمَّ بعد ذلك خلق الهواء والظلمة. ثمَّ خلق الماء [فوضع عرشه على الماء] "
(6)
.
[وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة علي بن الحسن
(7)
بن محمد بن أحمد بن جميع الغَسَّاني الصَّيْداوي
(8)
، من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي، عن أبيه
(9)
، عن جده أحمد بن جميع؛ حدَّثنا محمد بن المعافى الصدوق، حدَّثنا محمد بن خلف، حدَّثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن أبي أراكة قال: سأل رجلٌ عبدَ اللَّه بن عمرو: ممَّ خُلق الخلق؟ قال: من النور والظلمة والماء والثرى. وقال: إيت ابن عباس واسأله؛ فأتاه وسأله، فقال له مثل ذلك. فقال ارجع إليه فسلْه ممّ خلق ذلك كله؟ فرجع إليه، فسأله، فتلا قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا
= الجامع (3951) في المناقب، والنسائي في التفسير (11240).
(1)
قوله: وفي لفظ: ثمَّ خلق السماوات والأرض؛ ليس في ب.
(2)
تقدم ص (13).
(3)
تاريخ الطبري (1/ 49).
(4)
في ب: قال.
(5)
تاريخ الطبري (1/ 34).
(6)
زيادة من ب توافق المصدر السابق.
(7)
في ط: "الحُسين"، وهو تحريف، فالحسن هذا هو ابن محمد صاحب "المعجم" المشهور، والحسن يعرف بالسكن، وهو مترجم في تاريخ دمشق (13/ 352) وسير أعلام النبلاء (17/ 156) وغيرهما.
(8)
تاريخ دمشق (41/ 338).
(9)
يعني: الحسن بن محمد بن أحمد بن جميع.
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]. قال: قال ابن معين: لم يرو الفريابي حديثا أغرب من هذا.
قلت: غالب هذه المذكورات من الإسرائيليات الذي لا يصدَّق ولا يكذَّب، إلا ما قام دليل على صدق بعضها أو كذبه. واللَّه أعلم]
(1)
.
* * *
فصل فيما ورد في صفة خلق
(2)
العرش والكرسي
قال اللَّه تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15].
وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
وقال اللَّه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26].
وقال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 14 - 15].
وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5].
وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في غير ما آيةٍ
(3)
منَ القُرْآنِ.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
وقال تَعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].
وفي الدعاء المروي في "الصحيح"
(4)
، في دعاء الكرب: "لا إلَهَ إلا اللَّه العَظيم الحَليم
(5)
لا إلَهَ
(1)
زيادة من ب، وفي تاريخ الطبري: فوضع عرشه عليه.
(2)
في (ب): في العرش.
(3)
في سورة الأعراف: 54، ويونس: 3، والرعد: 2، والفرقان: 59، والسجدة: 4، والحديد:4.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (6345) و (6346) في الدعوات، باب: الدعاء عند الكرب، و (7431) في التوحيد، باب: قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. وأخرجه مسلم في صحيحه (2730)، في الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب، وأحمد في المسند (1/ 228) كلهم من رواية عبد اللَّه بن عباس. رضي الله عنهما. مع خلاف يسير في اللفظ.
(5)
في أ، وب: الحليم العظيم. وأثبت رواية المطبوع، لأنها موافقة لرواية الحديث في صحيح البخاري الذي ينقل منه المصنف.
إلا اللَّه رَبُّ العَرْشِ الكَريم، لا إلَهَ إلا اللَّه رَبّ السَّماواتِ وَرَبُّ الأرْضِ رَبّ العَرْشِ الكَريم".
وقال الإمام أحمد
(1)
: حدَّثنا عبدُ الرزاق، حدَّثنا يحيى بنُ العلاء، عن عمِّه شُعيب بن خالد، حدَّثني سمَاكُ بن حرب، عن عبد اللَّه بن عَميرةَ، عن الأحنفِ بن قَيْسٍ
(2)
، عن عبَّاس بن عبد المطلب قال: كُنَّا جُلُوسًا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فمرَّتْ سحابةٌ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتَدْرُون ما هَذَا؟ " قال: قُلْنا: السَّحابُ. قال: "والمزنُ". قلنا: والمزْن. قال: "والعَنان"، قال: فسكتنا، فقال:"هَلْ تدْرُونَ كمْ بيْن السَّماءِ والأرْضِ"؟ قال
(3)
: قلنا: اللَّهُ وَرَسُولهُ أعلم. قال: "بَيْنهُما مَسِيرَة خَمْسمئة سنةٍ، ومن
(4)
كُلِّ سَماءٍ إلى سماء مَسيرة خمسمئة سَنَةٍ وكثف كُلّ سَماء مَسِيْرة خَمْسمئَةِ سنةٍ، وفوْق السَّماء السَّابعة بحْرٌ بِين أسْفله وأعْلاهُ كما بَيْن السَّماء والأرْضِ [ثُمَّ فَوْق ذلكَ ثَمَانيةُ أوْعَالٍ بيْن رُكبهن وأظلافهنَّ كما بينَ السَّماء والأرْضِ، ثُمَّ عَلى ظُهُورهم
(5)
العَرْضُ بَيْنَ أسْفَلهِ وَأعْلاهُ كمَا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ]
(6)
. واللَّهُ فَوْقَ ذلك، وليْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ منْ أعْمالِ بَني آدَمَ شَيْءٌ". هذا لفظ الإمام أحمد.
ورواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي
(7)
من حديث سماك بإسناده، نحوه. وقال الترمذي
(8)
: هذا حديث حسن. وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك وَوقفَهُ.
ولفظ أبي داود: "وهَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ؟ " قالوا: لا نَدْري. قال: "بُعْدُ ما بَيْنَهُمَا إمَّا واحدةٌ أو اثنتان
(9)
أو ثلاثة وسَبْعُونَ سَنَة"، والباقي نحوه
(10)
.
(1)
مسند أحمد (1/ 206 - 207).
(2)
ليست زيادة (للأحنف بن قيس) في المسند، وقد صرح محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "العرش" أن عبد الرزاق لم يذكر في حديثه الأحنف بن قيس، ولكن روى الحديث بزيادة (الأحنف بن قيس) أبو داود (4723) والترمذي (3320) وغيرهما.
(3)
في ب: والأرض؟ قلنا.
(4)
في ب: وبين.
(5)
في مسند أحمد: "ثم فوق ذلك العرش" وقوله: ثمَّ على ظهورهم. . والأرض. ليس في ب.
(6)
ما بين الحاصرتين سقط من أ، وسقط بعضه من ب كما أشرتُ. وهو في المطبوع، ومسند أحمد الذي نص المؤلف على أنه نقل لفظه.
(7)
أخرجه أبو داود في سننه (4723) في السنة، وابن ماجه في سننه (193) في المقدمة، والترمذي في الجامع (3320) في التفسير. وإسناده ضعيف.
(8)
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى الوليد بن أبي ثور عن سماك نحوه، ورفعه. وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث وأوقفه ولم يرفعه. .
(9)
كذا في ب، وسنن أبي داود. والذي في أ، والمطبوع: أو اثنتين؛ وهو خطأ.
(10)
أدرج ناسخ (ب) هنا القول: قال شهر بن حوشب: حملةُ العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمَّ وبحمدك على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهمَّ وبحمدك على عفوك بعد قدرتك. قال: وكانوا =
وقال أبو داود
(1)
: حدَّثنا عبد الأعلى بن حَماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرِّباطي
(2)
قالوا: حدَّثنا وَهْب بن جرير -قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه- قال: حدَّثنا أبي قال
(3)
: سمعت محمد بن إسحاق يُحدِّث عن يعقوب بن عتبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مُطعم، عن أبيه، عن جده قال: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ اللَّه: جهِدَتِ الأنْفُسُ، وَجَاعت
(4)
العيالُ، وَنُهكتِ الأمْوالُ [وهَلَكتِ الأنْعامُ]، فاسْتَسْق اللَّهَ لَنا، فإنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفعُ باللَّه عَلَيْكَ. فقال
(5)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وَيحكَ؛ أتَدْري ما تَقُولُ"؟! وَسَبَّحَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فما زال يُسَبِّحُ حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه. ثمَّ قال: "وَيْحكَ؛ إنَّهُ لا يُسْتَشْفعُ باللَّهِ على أحدٍ منْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أعْظمُ منْ ذَلكَ. وَيْحكَ، أتَدْري ما اللَّهُ؟ إن عَرْشَهُ على سَمواتِهِ لَهَكذا" -وقال بأصابعه مثل القبة عليه- "وَإنَّهُ لَيَئِطُ بهِ أطِيْطَ الرَّحْل بالرَّاكب". قال ابنُ بشار في حديثه: "إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَعرْشُهُ فَوْقَ سَمواتِهِ"؛ وساق الحديث. وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير، عن أبيه عن جده. والحديث بإسناد أحمد بن سعيد أيضًا، [هو الصحيح، وافقه عليه جماعةٌ، منهم يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضًا]
(6)
وكان سَماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني
(7)
. تفرد بإخراجه أبو داود.
= يرون أنَّهم يرون ذنوب بني آدم. رواه ابن أبي شيبة في (صفة العرش). ورواه أيضًا من طريق الضحاك، عن ابن عباس في قوله:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] قال: الجن، والإنس، والشياطين، والملائكة، والكرُوبيون، ثمانية أجزاء كل جزء منهم بعدّة هؤلاء فذلك قوله سبحانه:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} ".
(1)
أبو داود (4726).
(2)
الرباطي، بكسر الراء المهملة، وفتح الباء المنقوطة بواحدة: نسبة إلى الرباط، وهو اسم لموضع رباط الخيل وملازمة أصحابها الثغر لحفظه من عدو الإسلام. وأحمد بن سعيد هذا ثقة، وإنما قيل له الرباطي لأنه كان على الرباط وعمارته وتولّي الأوقات التي له. وتصحّف في المطبوع من سنن أبي داود إلى: الرياطي بالياء آخر الحروف. أنساب السمعاني (6/ 70).
(3)
في ب: أبي سمعت.
(4)
كذا في الأصول، وفي سنن أبي داود: وضاعت.
(5)
ليست في أ، وهي في ب وسنن أبي داود.
(6)
زيادة من ط، موافقة لنص أبي داود، ليست في أ وب.
(7)
إسناده ضعيف، ولا يصح في أطيط العرش حديث. والنهك: المرض، المراد به هاهنا: التلف. والأطيط: صوت أقتاب الناقة، أي: إنَّه ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلومًا أنَّ أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله. النهاية لابن الأثير (1/ 54). وانظر ما نقله ابن الأثير عن الخطابي، في هذا الحديث، في جامع الأصول (4/ 24).
وقد صنَّف الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر الدمشقي جزءًا في الرد على هذا الحديث. سمَّاه: "بيانُ الوَهْمِ والتخليط الواقع في حديث الأطيط"، واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن يسار راويه. وذكر كلام النَّاسِ فيه.
ولكنْ قد
(1)
رُوي هذا اللفظ من طريقٍ أخرى عن غير محمد بن إسحاق؛ فرواه عَبْد بن حُميد
(2)
، وابن جرير
(3)
في "تَفْسيريْهما"، وابن أبي عاصم والطبراني في كتابي "السُّنَّة" لهما، والبَزَّار في "مُسنده"، والحافظ الضياء المقدسي في "مختاراته" من طريق أبي إسحاق السَّبيعي
(4)
عن عبد اللَّه بن خَليفة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أتَتِ امْرأةٌ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: ادْعُ اللَّهَ أنْ يُدْخلني الجنَّةَ قال: فَعَظَّمَ الرَّبَّ تبارك وتعالى، وقال:"إنَّ كُرْسيَّهُ وَسِعَ السَّماواتِ والأرْضَ، وَإنَّ لَهُ أطيطًا كَأطِيْط الرحل الجديد منْ ثقلِهِ".
عبد اللَّه بن خليفة ليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر. ثمَّ منهم من يرويه موقوفًا ومُرْسلًا، ومنهم من يزيد فيه زيادةً غريبةً. فاللَّه أعلم.
وثبت في "صحيحِ البخاري"
(5)
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: "إذا سَألْتُم اللَّهَ الجَنَّةَ فَسَلُوْهُ الفِرْدَوسَ فَإنَّهُ أعْلى الجنَّةِ
(6)
، وَفوقهُ عَرْشُ الرَّحْمنِ". يُروى:"وفوقَه" بالفتح على الظرفية، وبالضم
(7)
، قال شيخُنا الحافظُ المِزِّي
(8)
: وهو أحسن، أي: وأعلاهما عَرْشُ الرحمنِ.
وقد جاء في بعض الآثار: أنَّ أهْلَ الفِرْدَوْسِ يسمعون أطيطَ العَرْشِ، وهو تَسْبِيْحُهُ وتعظيمه، وما ذاك إلا لقربهم منه.
(1)
في ب: ولكن روي.
(2)
هو أبو محمد عبد الحميد بن حُميد بن نصر الكِسِّي، إمام جليل القدر، يُعرف بعبد بن حميد له "تفسير" و"مسند". توفي سنة (249) هـ. أنساب السمعاني (10/ 429).
(3)
تفسير الطبري (3/ 8) في تفسير قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} من آية الكرسي في سورة البقرة.
(4)
كذا في ب وفي أ: السنبقي؛ وهو خطأ. وأبو إسحاق السبيعي هو: عمرو بن عبد اللَّه بن علي، توفي سنة (127).
(5)
الحديث كاملًا في صحيحه (2790) في الجهاد. و (7423) في التوحيد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الترمذي في الجامع (2530) في صفة الجنة، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(6)
قوله: وأوسط الجنة؛ سقط من ب.
(7)
على الابتداء أو الإخبار.
(8)
الحافظ المزي، هو أبو الحجاج، يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف القضاعي المتوفى سنة (742) هـ. إمام محدّث حافظ، له مجموعة من الكتب على رأسها "تهذيب الكمال في أسماء الرجال". نُشر بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف في مؤسسة الرسالة.
وفي "الصحيح"
(1)
أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحمنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعاذ".
وذكر الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شَيْبة
(2)
في كتاب "صِفَة العرش" عن بَعض السلف أنَّ العَرْشَ مخلوقٌ من ياقوتةٍ حَمْراء بُعْدُ ما بَيْنَ قُطْريه مسيرةُ خَمسين ألف سنةٍ
(3)
.
وذكرنا
(4)
عند قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] أنه بُعْد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرةُ خمسين ألف سنةٍ، واتساعُه
(5)
خمسون ألف سنة
(6)
.
وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنَّ العرش فلكٌ مستدير من جميع جوانبه، محيطٌ بالعالم من كل جهة، ربما سَمَّوهُ: الفلك التاسع والفلك الأطلس والأثير. وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّه قد ثبت في الشرع أنَّ له قوائمَ تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يُحمل، وأيضًا فإنَّهُ فوق الجنَّة، والجنةُ فوق السماوات، وفيها مئةُ درجة، ما بين درجتين كما بين السماء والأرض، فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك. وأيضًا فإنَّ العرش، في اللغة: عبارة عن السرير الَّذي لِلْمَلِكِ، كما قال تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]. وليس هو فلكًا، ولا تَفهم منه العرب ذلك. والقرآن إنَّما نَزل بلغة العرب، فهو سريرٌ ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقُبَّة على العالم، وهو سقفُ المخلوقات
(7)
.
(1)
البخاري (3803)، في مناقب الأنصار. وأخرجه مسلم في صحيحه (2466) في فضائل الصحابة، وابن ماجه في سننه (158) في المقدمة، والترمذي في الجامع (3848) في المناقب، وأحمد في المسند (3/ 296) كلهم من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.
(2)
سيترجم له المؤلف في وفيات سنة (297 هـ).
(3)
أورد المؤلف هذا النقل عن ابن أبي شيبة في تفسير قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ. . .} (4/ 494).
(4)
تفسير القرآن العظيم (4/ 492) وما بعدها. وقد أورد أربعة أقوال لتفسير مقدار اليوم.
(5)
كذا في المطبوع. وفي أ، ب: الساعة. وعبارته في التفسير:. . . . وكذلك اتساع العرش من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة.
(6)
جاء في ب: زيادة مدرجة ليست في باقي الأصول: قال سهل بن أبي خلف: هو من ياقوتة حمراء. وقال وهب بن منبّه: هو مسيرة خمسين ألف سنة. رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إليهما. وقال أيضًا: حدَّثنا قعنب بن محمد التيمي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدثنا داود بن عبد الرحمن المكّي، عن محمد بن زاذان، أنه أخبره عن أم سعد - امرأة من المهاجرات قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العرش على ملك في صورة ديك رجلاه في تخوم السفلى، وعنقه مثبتة تحت العرش، وجناحاه في المشرق والمغرب. فإذا سبّح ذلك الملك لم يبق شيء إلا سبح".
(7)
أُدرجَ في ب. قوله: قال ابن أبي شيبة في صفة العرش: حدّثنا إبراهيم بن أبي معاوية وهنَّاد بن السري قالا: حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي نضرة، عن أبي ذر قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما بين الأرض إلى السماء خمسمئة سنة، وغلظ كل سماء خمسمئة سنة، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمئة سنة، والأرضون مثل ذلك. وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك كله".
قال اللَّه تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. وقد تقدَّم في حديث الأوعال
(1)
أنَّهم ثمانية، وفوق ظهورهنَّ العَرشُ، وقال تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
وقال شهْرُ بْن حوْشب: حملةُ العرْش ثمانيةٌ؛ أربعةٌ منهم يقولون: سُبْحانك اللَّهُمَّ وبحَمْدكَ، لَكَ الحمْدُ على حلْمكَ بَعْدَ عِلْمِكَ
(2)
، وأربعة يقولون: سُبْحانكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدكَ لَكَ الحَمْدُ عَلَى عَفْوكَ بَعْدَ قُدْرَتكَ.
فأما الحديثُ الذي رواه الإمام
(3)
أحمد
(4)
: حدَّثنا عبد اللَّه بن محمد هو أبو بكر [بن أبي شَيْبة]
(5)
، حدَّثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدَّق أمية بن أبي الصَّلْت
(6)
في شيء من شعره فقال: [من الكامل]
رجُلٌ وثَوْرٌ تحْتَ رِجْلِ يَمينهِ
…
والنَّسْرُ للأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصدٌ
(7)
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صدق". فقال: [من الكامل]
والشَّمْسُ تَطْلع كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ
…
حَمْراءَ يُصْبحُ لَوْنُها يَتَورَّدُ
تَأْبَى فما تَطلع لَنا في رِسْلِها
…
إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدٌ
(8)
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ". فإنَّهُ حديثٌ صحيحُ الإسناد، رجالُه ثقات
(9)
. وهو يقتضي أنَّ
(1)
تقدم الحديث ص 15 وإسناده ضعيف.
(2)
في ب: لك الحمد على علمك، وأربعة. . وهو سهو من الناسخ.
(3)
لفظة: الإمام؛ سقطت من ب.
(4)
مسند أحمد (1/ 256) وهو عند الدارمي في سنه (2/ 296) في الاستئذان، باب في الشعر وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس.
(5)
زيادة من ب، وهو في مصنفه (8/ 505).
(6)
شاعر جاهلي معروف، أدرك الإسلام ولم يسلم، وكان ينتظر أن تكون النبوّة له لما علم عن خبرها من رهبان النصارى وأحبار اليهود. انظر دراسة مفصلة عنه في ديوانه، صنعة الأستاذ الدكتور عبد الحفيظ السطلي.
(7)
البيت مع البيتين القادمين، في ديوانه (ص 365) وهو من قصيدة طويلة مطلعها:
اعلم بأنَّ اللَّه ليس كصُنْعِهِ
…
صنْعٌ، ولا يخفى عليه مُلْحد
وهي من شعره المتهم، كما أشار الدكتور السطلي وسيأتي البيتان أيضًا ص (54).
(8)
أثبتُّ رواية ب، وهي الموافقة للمصدر الذي ينقل منه المصنف وهو مسند أحمد.
(9)
أقول: لكن فيه محمد بن إسحاق مدلس، وقد رواه بالعنعنة.
حَملة العرش اليومَ أربعةٌ
(1)
، فيعارضه حديث الأوعال
(2)
؛ اللهمَّ إلا أن يُقال: إن إثبات هؤلاء
(3)
الأربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم، واللَّه أعلم.
ومن شعر أميَّة بن أبي الصَّلْت في العرش قولُه: [من الخفيف]
مجِّدُوْا اللَّهَ فَهْوَ للْمَجْد أهْلُ
…
رَبُّنا في السَّماءِ أمْسَى كَبيرا
(4)
بالبنَاءَ العَالي الَّذي بَهَرَ النَّا
…
س وَسَوَّى فَوْقَ السَّماءِ سَريرًا
(5)
شرْجعًا لا يَنالُهُ بَصَرُ العَيْـ
…
ــنِ تَرَى حَوْلهُ الملائِكَ صُوْرا
(6)
صُور: جمع أصْور، وهو المائل العنق لنظره إلى العلو
(7)
. والشَّرْجعُ: هو العالي المنيف. والسرير: هو العرش، في اللغة.
ومن شعر عبد اللَّه بن رَوَاحة رضي الله عنه الذي عرَّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته
(8)
: [من الوافر]
شهدْتُّ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ
…
وَأنَّ النَّارَ مَثْوى الكَافِرينا
وأنَّ العَرْشَ فوْقَ الماءِ طافٍ
…
وفَوْقَ العَرْشِ رَبُّ العَالمينا
وتحْملُهُ ملائكةٌ كرَامٌ
…
مَلائكةُ الإلهِ مُسَوَّمينا
(9)
ذكره ابن عبد البر
(10)
، وغير واحد من الأئمة.
(1)
في أ: أربع، وهو سهو من الناسخ.
(2)
وحديث الأوعال ضعيف أيضًا، على أن لفظ الثمانية في القرآن الكريم.
(3)
كذا في ب، وط. وفي أ: هذه الأربعة.
(4)
في ديوانه:. . . قديرًا.
(5)
في ديوانه: بالبناء الأعلى الذي سبق. . .
(6)
الأبيات مطلع قصيدة في ديوانه (ص 399) وتخريجها فيه، وهي من شعره المتهم، كما أشار الدكتور السطلي.
(7)
الذي في النهاية لابن الأثير. واللسان: صور، وهو المائل العنق لثقل حمله.
(8)
في أمالي اليزيدي (ص 102): كانت لعبد اللَّه بن رواحة جارية يستسرها عن أهله، فقالت له امرأته: لقد رأيتك دخلت مع جاريتك، وإنك الآن لجنب، فَجَاحَدَ ذلك. فقالت: فإن كنت صادقًا فاتلُ عليَّ القرآن. فقال: شهدت. . . [الأبيات] قالت: آمنت باللَّه وكذبت البصر. فأتى ابن رواحة رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فحدَّثه الحديث، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه. وكانت امرأته لا تحفظ القرآن، ولا تقرؤه، فظنته يقرأ منه. وانظر: سير أعلام النبلاء (1/ 238) والأبيات في ديوان عبد اللَّه بن رواحة (ص 164).
(9)
في أمالي اليزيدي: وتحمله ثمانية شداد. وفي ديوانه، وأمالي اليزيدي، والسير: مقرَّبينا.
(10)
الاستيعاب (6/ 171) على هامش الإصابة (تحقيق. د. طه الزيني - القاهرة).
وقال أبو داود
(1)
: حدَّثنا أحمد بن حفص بن عبد اللَّه، حدَّثني أبي، حدَّثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أذنَ لي أنْ أُحدِّثَ عنْ مَلكٍ منْ مَلائِكةِ اللَّهِ عز وجل منْ حَملةِ العَرْشِ: إنَّ ما بينَ شَحْمةِ أُذُنهِ إلى عاتِقِهِ مَسِيرةُ سبعمئة عامٍ"
(2)
.
ورواه ابن أبي حاتم، ولفظه:"مخفق الطير مسيرة سبعمئة عام".
وأمَّا الكُرْسي
فَرَوى ابن جرير
(3)
من طريق جويبر -وهو ضعيف- عن الحسن البصري أنَّه كان يقول: الكرسي هو العَرش. وهذا لا يصح عن الحَسَن، بل الصحيحُ عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره.
وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنَّهما قالا في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255]؛ أي علمه
(4)
.
(1)
أبو داود في سننه (4727) في السنة، وإسناده حسن. وانظر جامع الأصول (4/ 19).
(2)
زاد في ب: وقال محمد بن أبي شيبة: حدَّثنا يوسف بن يعقوب الصفّار، حدَّثنا ابن أبي فُديك، عن عبد الرحمن بن عبد المجيد، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أنس بن مالك أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من قال حين يُصبح وحين يُمسي: اللهمَّ إني أصبحت؛ أشهدك وأُشهد ملائكتك وحملة عرشك، وجميع خلقك؛ بأنَّك أنت اللَّه لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأنَّ محمدًا عبدك ورسولك. أعتق اللَّه ربعه من النار. فإن قالها أربع مرات أعتقه اللَّه من النار".
طريق أخرى، عن صحابي آخر: قال ابن أبي شيبة أيضًا: حدَّثنا عبيد بن يعيش، حدَّثنا ابن خباب، حدّثنا حميد مولى ابن علقمة المكي، حدّثنا عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، حدَّثني سلمان بن الإسلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قال: اللهمَّ إني أُشهدك وأُشهد ملائكتك وحملة العرش والسماوات ومن فيهنّ والأرضين، وأشهد جميع خلقك؛ بأنَّك أنت اللَّه، وأكفّر من أبى ذاك من الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُك ورسولك. من قالها مرة أعتق اللَّه ثلثه من النار، ومن قالها مرتين أعتق اللَّه ثلثيه، ومن قالها ثلاثًا أعتقه اللَّه من النار".
طريق أخرى، عن صحابي آخر: قال ابن أبي شيبة: حدَّثنا عبد اللَّه ويحيى بن الربيع بن أبي راشد حدَّثنا محمود بن عطية، عن أبيه، عن أبي سعيد، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبد يقول أربع مرات اللهمَّ إني أُشهدك -وكفى بك شهيدًا- وأُشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك، وأنا أشهد أن لا إلَه إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأنَّ محمدًا عبدك ورسولك. إلا كتب اللَّه له فكاكه من النار" وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة.
(3)
في تفسيره، في تفسير قوله تعالى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255](3/ 8).
(4)
المصدر السابق (3/ 7) وفيه كثير من الآراء التي سيذكرها المؤلف هنا.
والمحفوظ عن ابن عباس، كما رواه
(1)
الحاكم في "مستدركه"
(2)
-وقال: إنَّه على شرط الشيخين، ولم يخرجاه- من طريق سفيان الثوري، عن عمار الدُّهْني
(3)
، عن مسلم البَطين
(4)
، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
(5)
أنه قال: الكرسي موضع القدمين
(6)
، والعرش لا يقدر قدره إلا اللَّهُ عز وجل
(7)
. وقد رواه شجاع بن مخلد الفلَّاس
(8)
في "تفسيره" عن أبي عاصم النبيل، عن الثوري، فجعله مرفوعًا، والصواب أنَّه موقوف على ابن عباس. وحكاه ابن جرير
(9)
عن أبي موسى الأشعري، والضحاك بن مزاحم، وإسماعيل بن عبد الرحمن
(10)
السّدِّي: السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش
(11)
.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك، عن ابن عباس أنَّه قال: لو أنَّ السماوات السبع والأرضين السبع بُسطن، ثمَّ وُصِلْن بعضهن إلى بعض، ما كُن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة
(12)
.
وقال ابن جرير
(13)
: حدَّثني يونس، حدَّثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدَّثني أبي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما السماواتُ السَّبْع في الكرسي إلا كَدَراهمَ سَبْعةٍ أُلْقيتْ في تُرسٍ". قال: وقال أبو ذرّ: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكُرْسيُّ في العَرْشِ إلا كَحلْقَةٍ منْ حَديدٍ أُلْقيتْ بَيْنَ
(1)
في ب: كما رواه ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش والحاكم. . .
(2)
المستدرك (2/ 282).
(3)
في أ: المديني. وهو: عمار بن معاوية الدهني البجلي الكوفي. والدُّهني: بضم المهملة وسكون الهاء: نسبة إلى دُهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس. . . بطن من بجيلة. تقريب التهذيب، واللباب.
(4)
هو مسلم بن عمران البطين، ويقال ابن أبي عمران. تقريب التهذيب.
(5)
زاد في ب في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . وقد تقدم هذا قبل قليل.
(6)
تفسير الطبري (3/ 7).
(7)
قال الطبري في تفسيره (3/ 7): لما نزلت {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه؛ هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؛ فأنزل اللَّه تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. .} [الأنعام: 91].
(8)
في أ: لدلاس؛ وهو خطأ.
(9)
تفسير الطبري (3/ 7).
(10)
قوله: وحكاه ابن جرير. . . عبد الرحمن. سقط من ب.
(11)
تتمة الخبر في تفسير الطبري: وهو موضع قدميه. أما قول أبي موسى فهو الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل. وقول الضحاك: كرسيه الذي يوضع تحت العرش الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم.
(12)
في ب: الفلاة. وانظر الدر المنثور (1/ 328) فقد عزى الخبر إلى ابن مردويه، وابن أبي حاتم، ولم أجده في تفسير الطبري.
(13)
تفسير الطبري (3/ 8).
ظَهْري فَلاةٍ منَ الأرْضِ
(1)
".
أول الحديث مرسل، وعن أبي ذر منقطع. وقد رُوي عنه من طريق أخرى موصولًا، فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في "تفسيره": أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني، أنبأنا عبد اللَّه بن وهيب الغَزِّي
(2)
، أنبأنا محمد بن أبي السَّري العَسْقلاني، أنبأنا محمد بن عبد اللَّه التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي ذر الغفاري أنَّه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللَّه
(3)
صلى الله عليه وسلم: "والذي نَفْسي بيدِهِ ما السَّماوات السَّبْعُ والأرَضُون السَّبْعُ عِنْدَ الكُرْسي إلا كَحَلْقةٍ مُلْقاةٍ بأرْضٍ فلاةٍ، وإنَّ فَضْلَ العَرْش على الكُرْسي كفَضْلِ الفَلاةِ عَلَى تِلْكَ الحَلْقَةِ"
(4)
.
وقال ابن جرير في "تاريخه"
(5)
: حدَّثنا ابن وكيع [قال]
(6)
: حدَّثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله عز وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} على أي شيء كانَ الماء؟ قال: على متن الريح.
والسَّماوات
(7)
والأرضون
(8)
وكل ما
(9)
فيهنّ من شيء يحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل ويحيط بالهيكل [-فيما قيل-]
(10)
الكرسي.
وروى
(11)
عن وهب بن منبه نحوه. وفسَّر وهْبٌ الهيكلَ فقال: شيء
(12)
من أطراف السماوات
(1)
الحديث في تفسير الطبري (3/ 8).
(2)
في أ: العربي، وب: الفزي، وفي ط: المغربي، وكله تصحيف، وما أثبتناه من معجم الطبراني الأوسط (4370) فما بعد، والصغير (599).
(3)
الحديث في تفسير الطبري (3/ 8) بنحوه.
(4)
في نسخة ب، زيادة: وروى محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب (صفة العرش) عن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أحمد بن علي الأسدي، عن المختار بن غسان العبدي عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر قال: دخلت المسجد الحرام، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحده، فجلست إليه، فقلت: يا رسول اللَّه، أيّ آية نزلت عليك أفضل؟ قال:"آية الكرسي. ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" وهو حديث حسن بطرقه.
(5)
تاريخ الطبري (1/ 40).
(6)
زيادة في المطبوع: موافقة لنص ابن جرير في تاريخه.
(7)
في المطبوع: قال. والكلام من قول ابن عباس، أورده ابن جرير كذلك (1/ 41).
(8)
في تاريخ الطبري: والأرض.
(9)
في ب، وتاريخ الطبري: من فيهن.
(10)
زيادة من المطبوع. موافقة لرواية الطبري.
(11)
أي: الطبري، وانظر قول وهب في تاريخه (1/ 41).
(12)
في أ: فقال: هو. .، وفي ب: الهيكل الكرسي فقال: هو. وأثبت لفظ المطبوع، وهو موافق لرواية الطبري.
محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط
(1)
.
وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أنَّ الكرسي عبارة عن الفلك الثامن الذي يُسَمُّونه فلك الكواكب الثوابت. وفيما زعموه نظر؛ لأنه قد ثبت أنَّه أعظم من السماوات السبع بشيء كثير كما ورد [في]
(2)
الحديث المتقدم بأنَّ نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة، وهذا ليس نسبة فلك إلى فلك. فإن قال قائلُهم: فنحن نعترف بذلك، ونسمّيه مع ذلك فلكًا، فنقول: الكرسي ليس في اللغة عبارة عن الفلك، وإنَّما هو -كما قال غير واحد من السلف-: بين يدي العرش كالمرقاة إليه. ومثل هذا لا يكون فلكًا. وزعمهم
(3)
أنَّ الكواكب الثوابت مرصَّعة، لا دليل لهم عليه. هذا مع اختلافهم في ذلك أيضًا، كما هو مقرر في كتبهم. واللَّه أعلم.
* * *
ذِكرُ اللَّوْح المحفُوْظ
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني
(4)
: حدَّثنا محمد بن عثمان
(5)
بن أبي شَيبة، حدَّثنا مِنْجاب بن الحارث، حدَّثنا إبراهيم بن يوسف، حدَّثنا زياد بن عبد اللَّه، عن ليث، عن عبد الملك بن سعيد
(6)
بن جبير [عن أبيه]
(7)
، عن ابن عباس أنَّ نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفوظًا منْ دُرَّةٍ بَيْضاءَ صَفحاتُها منْ يَاقُوتةٍ حَمْراءَ، قَلَمُهُ نُوْرٌ، وكِتَابُهُ نُوْرٌ، للَّهِ فِيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ سِتونَ وَثَلاثُ مئة لحظة
(8)
يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُميتُ وَيُحْيي وَيُعزُّ وَيُذلُّ وَيَفْعلُ ما يَشَاءُ"
(9)
.
وقال إسحاق بن بشر: أخبرني مُقاتل وابنُ جُرَيْج عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إنَّ في صَدْر اللَّوْح: لا إلهَ إلا اللَّهُ وحْدَهُ
(10)
، دِيْنُهُ الإسْلام، ومُحمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَمنْ آمَنَ باللَّهِ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ
(1)
"الأطناب": مفردها طُنْبٌ، وهو حبل تشد به الخيمة إلى الأرض، والفُسطاط: بيت من شعر.
(2)
زيادة من ب.
(3)
في ب: وزعم.
(4)
المعجم الكبير (12511).
(5)
في أ: سليمان، خطأ ظاهر.
(6)
في ب: جي.
(7)
زيادة من ب والمطبوع، والمعجم الكبير الذي ينقل منه المصنف.
(8)
في أ، ط:"نظرة"، وما هنا من ب، وهو الموافق للمصدر الذي ينقل منه وهو المعجم الكبير للطبراني.
(9)
إسناده ضعيف، محمد بن عثمان ضعيف، وليث هو ابن أبي سليم ضعيف أيضًا.
(10)
في ب: اللوح المحفوظ. . . وحده لا شريك له. . .
واتَّبَعَ رُسُلَه، أدْخَلَهُ
(1)
الجنَّةَ. قال: وَاللَّوْحُ: لَوْحٌ منْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ. طُولُهُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، وعَرْضُه ما بين المشرِقِ والمغْرب، وحافتاهُ الدرُّ والياقوتُ، ودفتاهُ ياقوتةٌ حَمراءُ، وَقَلمُهُ نُورٌ، وكلامهُ مَعْقُودٌ بالعَرْشِ، وأصْلُه في حجر ملك.
وقال أنس بن مالك، وغيره من السلف: اللَّوْحُ المحفوظ في
(2)
جبهةِ إسْرافيل.
وقال مقاتل: هو عن يمين العرش.
* * *
باب ما ورد في خلق السماوات والأرض وما بينهما
قال اللَّه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وفال تَعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] في غير ما آية من القرآن
(3)
.
وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الأيام على قولين: فالجمهور على أنها كأيامنا هذه
(4)
.
وعن ابن عبَّاس، ومجاهد، والضَّحَّاك، وكعب الأحبار:[أن]
(5)
كلَّ يوم منها كألف سنةٍ مما تَعُدُّون. رواه ابن جرير
(6)
، وابن أبي حاتم. واختار هذا القول الإمام أحمد بن حنبل في كتابه الذي رد
(1)
في ب: أدخله اللَّه الجنة.
(2)
في أ: من.
(3)
و [السجدة: 4].
(4)
قوله: هذه؛ ليس في ب.
أقول: قال الخازن في تفسيره (2/ 95): فتكامل جميع الخلق في ستة أيام، كل يوم مقداره ألف سنة، وهذا قول جمهور العلماء، وقيل: في ستة أيام من أيام الدنيا. وقال ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 211): قوله: في ستة أيام، قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافًا في ذلك، ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيدًا. وانظر القرطبي (7/ 219).
(5)
زيادة من ب.
(6)
تفسير الطبري (8/ 146 - 147 و 17/ 129) وتاريخه (1/ 44) وما بعدها: والقرطبي (7/ 219) وابن كثير (2/ 221).
فيه على الجَهْمية
(1)
وابن جرير وطائفة من المتأخرين واللَّه أعلم
(2)
. وسيأتي ما يدل على هذا القول.
وروى ابن جرير
(3)
عن الضَّحَّاك بن مُزاحم، وغيره أن أسماء الأيام الستة: أبجد، هَوَّز، حطّي، كلمن، سعفص، قُرشت.
وحكى ابن جرير
(4)
في أول الأيام ثلاثة أقوال، فروي عن محمد بن إسحاق أنه قال: يقولُ أهل التوراة: ابتدأ اللَّه الخلق يوم الأحد، ويقول أهل الإنجيل: ابتدأ اللَّه الخلقَ يومَ الإثنين. ونقول نحن المسلمين، فيما انتهى إلينا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ابتدأ اللَّه الخلقَ يَوْمَ السبت.
وهذا القول الذي حكاه ابن إسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من الفقهاء من الشافعية، وغيرهم. وسيأتي
(5)
فيه حديث أبي هريرة "خَلَقَ اللَّهُ التربةَ يومَ السَّبتِ".
والقول بأنَّه الأحد رواه ابن جرير
(6)
عن السُّدّي، عن أبي مالك، وأبي صالح عن ابن عبَّاس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن جماعة من الصَّحابة.
ورواه أيضًا عن عبد اللَّه بن سلام، واختاره ابن جرير
(7)
. وهو نص التوراة، ومال إليه طائفة آخرون
(8)
من الفقهاء، وهو أشبه بلفظ الأحد، ولهذا كمل
(9)
الخلق في ستة أيام، فكان آخرهن الجمعة، فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع -وهو اليوم الذي أضل اللَّهُ عنه أهلَ الكتاب قبلنا- كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه.
(1)
انظر "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد بن حنبل صفحة (11).
(2)
وقيل حديثًا: أما الأيام الستة التي خلق اللَّه فيها السماوات والأرض، فهي غيب لم يشهده أحد من البشر، ولا من خلق اللَّه جميعًا {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51] وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن.
إنها قد تكون ست مراحل، وقد تكون ستة أطوار. وقد تكون ستة أيام من أيام اللَّه التي لا تقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام -إذا لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان-! وقد تكون شيئًا آخر. فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد. وكل حمل لهذا النص ومثله على تخمينات البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن -باسم (العلم!) - وهو محاولة تحكمية منشؤها الهزيمة الروحية أمام (العلم) الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض.
(3)
تاريخ الطبري (1/ 42).
(4)
تاريخ الطبري (1/ 44).
(5)
(ص 31، ت: 7) من هذا الجزء. ويأتي تخريجه والكلام عليه.
(6)
تاريخ الطبري (1/ 47).
(7)
تاريخ الطبري (1/ 43 و 45).
(8)
في ب: وآخرون؛ وهو خطأ.
(9)
في ب: وهو أكمل.
وقال
(1)
تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29].
فهذا يدل على أن الأرض خُلقت قبلَ السماء، لأنها كالأساس للبناء، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. . .} إلى أن قال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 6 - 13].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]، أي: فصلنا ما بينَ السماءِ والأرضِ حتى هَبَّتِ الرِّياحُ ونَزلت الأمطارُ وجرتِ العيونُ والأنهار وانتعش الحيوان. ثم قال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32] أي: عَمَّا خَلَق فيها من الكواكب الثوابت، والسَّياراتِ والنجوم الزاهرات والأجرام النيرات، وما في ذلك من الدلالة
(2)
على حكمة خالق الأرض والسماوات. كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 105 - 106].
فأما قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ
(3)
أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
(4)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 27 - 33] فقد تمسَّك بعضُ الناس بهذه الآية على تقدُّمِ خلقِ السماءِ على خلق الأرض، فخالفوا صريْحَ الآيتين المتقدمتين، ولم يفهموا هذه الآية الكريمة، فإنَّ مقتضى هذه الآية
(5)
أنَّ دَحْي الأرض، وإخراج الماء
(1)
على هامش أ، عبارة: الدليل على خلق الأرض قبل السماء.
(2)
في ب: الدلالات.
(3)
في أ: أهم؛ وهو خطأ.
(4)
في ب: فأخرج ليليها وأغطش ضحاها؛ وهو خطأ.
(5)
في ب: الآية الكريمة أن. . .
والمرعى
(1)
منها بالفعل بعد خلق السماء، وقد كان ذلك فيها
(2)
مقدَّرًا بالقوة؛ كما قال تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]. أي: هَيّأ أماكن الزرع ومواضعَ العيون والأنهار. ثم لما أكْمل خلقَ صورةِ العالم السفلي والعلوي؛ دحَى الأرض فأخرج ما كان مُوْدَعًا فيها، فخرجت العيون، وجرت الأنهار، ونبتت الزروع والثمار، ولهذا فسر الدحي بإخراج الماء والمرعى منها وإرساء الجبال فقال:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} وقوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي: قرَّرها في أماكنها التي وضعها فيها وثبَّتها وأكدها وأطدها
(3)
.
وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 47 - 49]، بأيدٍ، أي: بقوة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}
(4)
، وذلك أن كل ما علا اتَّسعَ، فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها. ولهذا كان المرسل أعلى من السماوات، وهو أوسع منهن كلهن. والعرش أعظم من ذلك كله بكثير
(5)
. وقوله بعد هذا: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} أي: بَسَطناها وجعلناها مهدًا، أي: قارَّةً ساكنة غير مضطربة ولا مائدة بكم. ولهذا قال: {فنَعْمَ الْماهِدُونَ} ، والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع، وإنما تقتضي الإخبار المطلق في اللغة
(6)
. واللَّه أعلم.
وقال البخاري
(7)
: حدَّثنا عُمر بن حفص بن غياث
(8)
، حدَّثنا أبي، حدَّثنا الأعمش، حدَّثنا جامع بن شدَّاد، عن صَفوان بن مُحْرز: أنه حدَّثه عن عِمْران بن حُصَيْن قال: دَخلتُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلْتُ ناقتي بالباب، فأتاهُ ناسٌ من بني تميم، فقال:"اقبَلُوا البُشْرى يا بني تميمٍ"
(9)
، قالوا: قد بَشَّرْتَنَا
(10)
فأعطنا -مَرَّتين- ثم دخل عليه ناسٌ من اليمن فقال: "اقْتلُوا البُشْرَى يا أهلَ اليَمن إِذْ
(11)
لَمْ يَقْبَلها بَنُو تميمٍ"، قالوا
(12)
: قد قبلْنا يا رسولَ اللَّه، قالوا: جئناكَ نسألك عنْ هذا الأمر. قال: "كانَ اللَّهُ ولَمْ يكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وكَانَ عَرْشُهُ على المَاءَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ
(13)
كُلَّ شَيْءٍ وخَلَقَ السَّماواتِ
(1)
كذا في ب، وفي أ: والرعي.
(2)
في ب: ذلك مقدرًا فيها بالقوة.
(3)
قوله: وأطدها، ليس في ب.
(4)
هذا الجزء من الآية سقط من ب.
(5)
قال القرطبي (7/ 219): وخص العرش، لأنه أعظم مخلوقات اللَّه تعالى.
(6)
انظر: مغني اللبيب (ص 463) والجني الداني (153).
(7)
البخاري (3190) في بدء الخلق.
(8)
في ب: حدثنا حفص بن عمر؛ وهو خطأ.
(9)
قوله: فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، ليس في ب.
(10)
كذا في ب وهي موافقة للفظ البخاري، وفي أ: قد قبلنا.
(11)
في ب وهي موافقة لرواية البخاري، وأشار ابن حجر في شرحه إلى رواية المتن.
(12)
قوله قد ليس في ب.
(13)
زاد في ب وخلق.
والأرْضَ"، فنادى منادٍ: ذهبتْ ناقتُك يا ابْنَ الحُصَيْن، فانْطلقتُ فإذا هي يقطع دُونها السراب، فواللَّه لوَدِدْتُ أني كُنْتُ تركتها، هكذا رواه هاهنا. وقد رواه في كتاب المغازي
(1)
، وكتاب التوحيد
(2)
، وفي بعض ألفاظه:"ثمَّ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرْضَ"، وهو لفظُ النَّسائي
(3)
أيضًا.
وقال الإمامُ أحمد
(4)
: حدَّثنا حجاج، حدثني ابن جُريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد اللَّه بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخَذ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبةَ يومَ السَّبْتِ، وخَلقَ الجِبالَ فِيْها يومَ الأحدِ، وخَلَقَ الشَّجَرَ فِيْها يَوْمَ الإثْنين، وخلقَ المَكْرُوه فيها يومَ الثَّلاثاءَ، وخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبعاءِ، وَبثَّ الدَّواب فيها
(5)
يومَ الخَميسِ، وخَلَقَ آدمَ بعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعةِ آخر الخَلْقِ في آخِرِ ساعَةٍ منْ سَاعاتِ الجُمُعةِ فِيْما بينَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ".
وهكذا رواه مسلم
(6)
عن سُرَيْج بن يونس وهرون بن عبد اللَّه، والنَّسائي
(7)
عن هارون ويوسف بن سعيد، ثلاثتهم عن حجاج بن محمد المِصِّيصي
(8)
الأعور، عن ابن جُرَيْج، به مثله سواء.
وقد رواه النَّسائي
(9)
في التفسير عن إبراهيم بن يعقوب الجُوْزجَاني
(10)
، عن محمد بن الصَّباح، عن
(1)
البخاري (4365) عن أبي نعيم، و (4386) عن عمرو بن علي.
(2)
البخاري (7418) عن عبدان.
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (11240).
(4)
زاد في المطبوع: ابن حنبل، والحديث في مسنده (2/ 327).
(5)
كذا في أ، ب وفي مسند أحمد، ومسلم:"وبث فيها الدواب. . ".
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه (2789) في المنافقين: باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام.
ورواه أيضًا أحمد في المسند (2/ 327) والبيهقي في الأسماء والصفات صفحة (383) ونقل تضعيفه عن بعض الأئمة، وقد تقدم أن ابن كثير رحمه الله قال: وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، والحديث في صحيح مسلم سنده صحيح، وقد صحَّحه الشوكاني في "فتح القدير" وإنما تكلم عليه بعض العلماء من جهة متنه، ورأوا أنه معارض للقرآن، والذي صحح الحديث سندًا ومتنًا رأى أنه لا تعارض بينه وبين القرآن، فإن اللَّه تعالى ذكر في القرآن أنه خلق السماوات والأرض جميعًا في ستة أيام، وخلق الأرض وحدها في يومين، وهذا الحديث بين أن اللَّه تعالى خلق ما في الأرض في سبعة أيام، ويحتمل أن تكون هذه الأيام السبعة غير الأيام الستة التي ذكرها اللَّه تعالى في خلق السماوات والأرض، وحينئذ لا تعارض، وإنما فصَّل هذا الحديث كيفية الخلق على الأرض وحدها، واللَّه تعالى أعلم.
(7)
أخرجه النسائي في الكبرى (11010).
(8)
المصيصي، بكسر الميم والصاد المشددة: نسبة إلى المصيصة؛ مدينة على ساحل البحر. اللباب (3/ 221) وضبطها ياقوت بفتح الميم. (معجم البلدان).
(9)
أخرجه النسائي في الكبرى (11392).
(10)
الجُوزَجاني، بضم الجيم الأولى، وسكون الواو، وفتح الزاي: نسبة إلى مدينة بخراسان. الأنساب (3/ 361) ومعجم البلدان (جوزجان).
أبي عُبيدة الحدَّاد، عن الأخضر
(1)
بن عجلان، عن ابن جُريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أخذَ بِيَدِهِ فقال:"يا أبا هُرَيْرةَ إنَّ اللَّهَ خَلقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنهما في ستَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتوى على العَرْشِ يَوْمَ السَّابعِ، وخَلَقَ التُّرْبةَ يومَ السَّبْتِ"، وذكر تمامه بنحوه، فقد اختلف فيه على ابن جريج
(2)
.
وقد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني والبخاري والبيهقي، وغيرهم من الحفاظ
(3)
.
قال البخاري في "التاريخ"
(4)
: وقال بعضُهم: عن كعب، وهو أصح، يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقَّاه من كعب الأحبار، فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يُحدِّثُه عن صحفه، وهذا يحدثه بما يصدّقه عن النبي
(5)
صلى الله عليه وسلم فكان هذا الحديث مما تلقّاه أبو هريرة، عن كعب، عن صحفه، فوهم بعضُ الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأكَّدَ رفعَه بقوله:"أخَذَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدي". ثم في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات
(6)
، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن
(7)
، لأنَّ الأرض خُلقت في أربعة أيام، ثم خُلقت السماواتُ في يومين من دُخان، وهو بُخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من رُبدة
(8)
الأرض بالقدرة العظيمة البالغة، كما قال إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي الكبير في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمْداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]
(1)
في أ: الأحصن؛ وفيه تصحيف وتحريف. والأخضر بن عجلان الشيباني من رجال التهذيب، قال ابن حجر في التقريب:(1/ 50) صدوق.
(2)
زاد في ب: وقد أسنده الحافظ ابن عساكر في ترجمة غنايم بن أحمد: مسلسلًا يقول كل منهم شبك بيدي فلان.
وفي السند غرابة إلى إبراهيم بن أبي يحيى قال: شبك بيدي أيوب بن خالد وقال: شبك بيدي: أبو هريرة وقال: شبك بيدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: "خلق اللَّه آدم يوم الجمعة، والأرض يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الإثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والبحار يوم الخميس". فهذا إسناد غريب، وقد سقط منه عبد اللَّه بن رافع وآخر في المتن، ففيه نكارة شديدة سندًا ومتنًا. واللَّه أعلم.
ورواه الحاكم في علوم الحديث صفحة (33) وأشار الحاكم إلى تضعيفه هكذا مسلسة بالتشبيك، وعلته إبراهيم بن أبي يحيى، فإنه متروك وأصله في صحيح مسلم غير مسلسل.
(3)
راجع الموضوع في جامع الأصول (4/ 25، 26) وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (7/ 243).
(4)
راجع تاريخ البخاري (1/ 413 - 414).
(5)
في ب: عن رسول اللَّه.
(6)
زاد في ب: والأرض.
(7)
وقد تقدم التعليق في الصفحة التي قبلها (31) أنه لا يخالف القرآن، فانظره.
(8)
الرُّبدة: لون إلى الغُبرة.
قال: إن اللَّه كان عرشُه على الماء، ولم يخلق شيئًا مما خلَقَ قبل الماء
(1)
، فلما أراد أن يخلُق الخلقَ أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء، فَسَما عليه، فسمَّاه: سماءً، ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعل سَبْع أرضين في يومين
(2)
: الأحد والإثنين، وخلق الأرض على حُوت، وهو النون الذي قال
(3)
اللَّه تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]. والحوت في الماء، والماء على صفاه
(4)
، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح. وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطرب
(5)
، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فَقَرَّت
(6)
، وخلق اللَّهُ يومَ الثلاثاء الجبالَ وما فيهن من المنافع، وخلقَ يومَ الأربعاء الشجرَ والماءَ والمدائن والعمران والخراب، وفتَقَ السماء وكانت رَتْقًا
(7)
فجعلها سبعَ سمَاوات في يوم الخميس والجمعة وإنما سُمَّى: الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض. {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12]. قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة [والخلق الذي فيها]
(8)
والبحار وجبال البرد وما لا يعلمه غيره
(9)
. ثم زيَّن السماءَ [الدنيا] بالكواكب فجعلها زينةً وحفظًا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش.
هذا الإسناد يَذْكُرُ به السّدّي أشياء كثيرة فيها غرابة، وكأن كثيرًا منها متلقى من الإسرائيليات؛ فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب
(10)
رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيسمع له عمر تأليفًا له، وتعجُّبًا مما عنده مما يوافق كثيرٌ منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثيرٌ من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا، ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل
(11)
، لكن كثيرًا ما يقع فيما يرويه غلط وليس هو منه، ولكنه من الكتب التي ينقل عنها لأنها قد دخلها غلط كبير وخطأ كثير.
(1)
في تفسير الطبري، وابن كثير: ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء.
(2)
في ب: في يوم الأحد والإثنين: وفي تفسير الطبري، وابن كثير: في يومين في الأحد والإثنين.
(3)
في الطبري، وابن كثير: هو الذي ذكره في القرآن.
(4)
"الصفاة": الصخرة الملساء.
(5)
في ب: فاضطربن. ولا توافق لفظ الطبري، وابن كثير.
(6)
أورده الطبري (1/ 152) وابن كثير في تفسيره (1/ 68) في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. . .} [البقرة: 29]، وتتمته فيهما يختلف لفظها عما في المتن.
(7)
"الرتق": الالتئام.
(8)
زيادة من الطبري، وابن كثير في تفسيره.
(9)
في الطبري:. . . وما لا يعلم ثم. . . وفي تفسير ابن كثير: ومما لا يعلم. .
(10)
قول: ابن الخطاب، ليس فى ب.
(11)
تقدم الحديث.
وقد روى البخاري في "صحيحه"
(1)
عن معاوية أنه كان يقول في كعب الأحبار: وإنْ كُنَّا لنَبْلُوَ عليه [الكذب]
(2)
، أي فيما ينقله؛ لا أنه يتعمد ذلك. واللَّه أعلم.
ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الأئمة المتقدمين عنهم، ثم نتبع ذلك من الأحاديث بما يشهد له بالصحة أو يُكذِّبه، ويبقى الباقي مما لا يصدَّق ولا يكذب، وباللَّه المستعان، وعليه التُّكلان.
قال البخاري: حدَّثنا قتيبة، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القُرشي، عن أبي الزناد، عن الأعرجِ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ في كتابِهِ، فهوَ عِنْدهُ فوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمتي غَلَبتْ غَضَبي"
(3)
. وكذا رواه مسلم، والنسائي عن قتيبة به
(4)
.
ثم قال البخارى
(5)
:
* * *
باب
(6)
ما جاء فى سبع أرضين
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ
(1)
رواه البخاري كما في الفتح (13/ 282) في الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، بلفظ: وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
(2)
من ط، وهو موافق لرواية البخاري.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (3194)، في بدء الخلق: باب ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقد أورده البخاري أيضًا من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه (7404)، في التوحيد: باب قول اللَّه تعالى: {وَيُحَذرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، و (7422) باب:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، و (7453) باب: قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} و (7553) باب: قوله اللَّه تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .
(4)
مسلم في صحيحه (2751)، في التوبة: باب في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، وفيه:"إن رحمتي تغلب غضبي" والنسائي في الكبرى (7750). وأخرجه -من طرق- ابن ماجه (189) في المقدمة: فيما أنكرت الجهمية و (4295) في الزهد: باب (35) ما يرجى من رحمة اللَّه يوم القيامة، وأحمد في مسنده (2/ 242، 258، 260، 313، 358، 381، 397، 433، 466) والترمذي (3543) في الدعوات: باب (100) خلق اللَّه مئة رحمة، كلهم من حديث أبي هريرة، بنحوه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(5)
البخاري (3195) في بدء الخلق.
(6)
كلمة باب؛ سقطت من المطبوع.
اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ثم قال: حدَّثنا
(1)
عليُّ بن عبد اللَّه، أخبرنا
(2)
ابن عُلَيَّة، عن عليّ بن المبارك، حدَّثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وكانت بينه وبين ناس خصومة في أرض، فدخل على عائشة فذكرَ لها ذلك. فقالت: يا أبا سلمة! اجتنبِ الأرضَ، فإنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"منْ ظلمَ قِيْدَ شِبْرٍ طُوِّقه منْ سبع أرضينَ"
(3)
. ورواه أيضًا في كتاب المظالم
(4)
، ومسلم من طرقٍ
(5)
، عن يحيى بن أبي كثير به.
ورواه أحمد من حديث محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة به
(6)
. ورواه أيضًا عن يونس، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة بمثله
(7)
.
ثم قال البخاري: حدَّثنا بشر بن محمد، قال: حدَّثنا عبد اللَّه، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: "منْ أخذ شيئًا من الأرض بغير حقِّه خُسِفَ به يومَ القيامةِ إلى سبع أرضين"
(8)
. ورواه في المظالم أيضًا
(9)
: عن مسلم بن إبراهيم، عن عبد اللَّه -هو ابن المبارك- عن موسى بن عُقبة به، وهو من أفراده.
وذكر البخاري هاهنا
(10)
حديث محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئته يوم خلقَ اللَّهُ السماواتِ والأرضَ، السنة اثنا عشرَ شهرًا. . . " الحديث. ومراده -واللَّه أعلم- تقرير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] أي: في العدد كما أن عدة الشهور الآن اثني عشر مطابقةٌ لعدة الشهور عند اللَّه في كتابه الأول، فهذه
(11)
مطابقة في الزمن، كما أن تلك مطابقة في المكان.
(1)
في ب: حدَّثني.
(2)
في أوب: "ثنا"؛ وأثبت ما في البخاري والمطبوع.
(3)
رواه البخاري في صحيحه (3195) في بدء الخلق، و (2453) في المظالم، ومسلم (1612) في المساقاة.
(4)
البخاري (2453) في المظالم.
(5)
مسلم (1612) في المساقاة.
(6)
في المسند (6/ 78) و (6/ 252).
(7)
رواه أحمد في المسند (6/ 64).
(8)
رواه البخاري في صحيحه (3196) في بدء الخلق.
(9)
البخاري (2454) في المظالم.
(10)
أي في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سجع أرضين (3197).
(11)
في أ: فهن.
ثم قال البخاري
(1)
: حدَّثنا عُبيد بن إسماعيل، حدَّثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: أنَّه خاصمته أروى في حقٍّ زعمتْ أنه انتقصَه لها إلى مروان، فقال سعيد رضي الله عنه: أنا أنتقصُ من حقِّها شيئًا؟ أشهدُ لسمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ أخذَ شِبْرًا من الأرض ظُلمًا فإنه يُطوَّقه يومَ القيامة من سبع أرضينَ" ورواه
(2)
.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا حسن، وأبو سعيد -مولى بني هاشم- قالا: حدَّثنا عبُد اللَّه بن لَهيعة، حدَّثنا عُبيد اللَّه بن أبي جعفر، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول اللَّه! أي الظلم أعظم؟ قال: "ذراع من الأرض ينتقصُه المرءُ المسلمُ من حقِّ أخيه، فليست حصاةٌ من الأرض يأخذها أحد إلا طُوِّقها يوم القيامة إلى قعرِ الأرضِ، ولا يعلمُ قعرَها إلا الذي خلقَها". تفرَّد به أحمد، وهذا إسناد لا بأس به.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا عفان، حدَّثنا وُهيب، حدَّثنا سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذَ شِبْرًا من الأرض بغير حقِّه طُوِّقه من سبع أرضين" تفرَّد به من هذا الوجه وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد
(5)
: حدَّثنا يحيى، عن ابن عَجْلان، حدَّثني أبي، عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"منِ اقتطعَ شِبْرًا من الأرض بغير حقِّه طُوِّقه إلى سبع أرضين" تفرَّد به أيضًا، وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد أيضًا
(6)
: حدَّثنا عفان، حدَّثنا أبو عَوانة، عن عمرَ بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"منْ أخذَ من الأرض شِبْرًا بغير حقِّه طُوِّقه من سبع أرضين" تفرَّد به أيضًا،
(1)
البخاري في صحيحه (3198) في بدء الخلق.
(2)
كذا في الأصول. وفي البخاري: قال ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، قال: قال سعيد بن زيد: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فلعله يريد: ورواه البخاري معلقًا أو نحوه.
(3)
في المسند (1/ 396)، فيه ابن لهيعة ضعيف، وأبو عبد الرحمن الحُبُلّي -عبد اللَّه بن يزيد- لم يرو عن ابن مسعود، وإنما روى عن صغار الصحابة. وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 174) وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير (10516) بهاسناد أحمد حسن، وحسنه المنذري في الترغيب (2785) ولعل التحسين بسب الشواهد المتقدمة في الصحيحين.
(4)
في المسند (2/ 388) وهو عند مسلم في صحيحه (1611) في المساقاة.
(5)
في المسند (2/ 432).
(6)
في المسند (2/ 387) وانظره في الترغيب (2782).
وقد رواه الطبرانيُّ
(1)
من حديث مُعاوية بن قُرَّة عن ابن عباس مرفوعًا مثله.
فهذه الأحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين، والمراد بذلك أن كلَّ واحدة فوقَ الأخرى، والتي تحتَها في وسطها عند أهل الهيئة، حتى ينتهيَ الأمر إلى السابعة، وهي صمَّاء لا جوفَ لها، وفي وسطها المركز، وهي نقطة مقدَّرة متوهَّمة. وهو محطُّ الأثقال، إليه ينتهي ما يَهبطُ من كلِّ جانب إذا لم يُعاوقه مانع. واختلفوا هل هنَّ متراكمات بلا تفاصل، أو بين كلِّ واحدة والتي تليها خَلاء
(2)
؟ على قولين. . وهذا الخلاف جارٍ في الأفلاك أيضًا.
والظاهر أن بين كل واحدة منهن وبين الأخرى مسافة، لظاهر قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] الآية.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا سُريج، حدَّثنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ مرَّت سحابة، فقال:"أتدرون ما هذه؟ " قال: قلنا: اللَّه ورسوله أعلمُ. قال: العَنان، ورَوايا
(4)
الأرض يسوقُه إلى من لا يشكرونَه من عباده ولا يَدْعونه، أتدرون ما هذه فوقكم؟ قلنا: اللَّه ورسولُه أعلمُ. قال: الرَّقيع
(5)
، موجٌ مكفوفٌ وسقفٌ محفوظٌ. أتدرون كم بينكم وبينها؟ قلنا: اللَّه ورسولُه أعلم. قال: مسيرة خمسمئة عام. ثم قال: أتدرون ما الذي فوقَها؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: مسيرة خمسمئة عام، حتى عدَّ سبعَ سماوات. ثم قال: أتدرونَ ما فوقَ ذلك؟ قلنا: اللَّه ورسولُه أعلمُ. قال: العرش. أتدرونَ كم بينَه وبين السماء السابعة؟ قلنا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ. قال: مسيرة خمسمئة عام. ثم قال: أتدرون ما هذه تحتكم؟ قلنا: اللَّه ورسولُه أعلم. قال: أرض، أتدرونَ ما تحتها؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: أرض أخرى، أتدرون كم بينهما؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: مسيرة سبعمئة عام، حتى عدَّ سبع أرضين. ثم قال: وايم اللَّه لو دلَّيتم أحدكم إلى الأرض السفلى السابعة لهبطَ. ثم قرأ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
ورواه الترمذي
(6)
: عن عبد بن حميد، وغيرُ واحد عن يونسَ بن محمد المؤدب، عن شيبانَ بن عبد الرحمن، عن قتادةَ، قال: حدَّث الحسنُ، عن أبي هريرة. . وذكرَه، إلا أنه ذكرَ أن بُعدَ ما بين كل
(1)
رواه الطبراني في الكبير (12921) وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 175) وفيه محمد بن الفضل بن عطية، وهو متروك كذاب، ولفظه:"من أخذ شبرًا من مكَّة. . . ".
(2)
في ب والمطبوع: مسافة.
(3)
في المسند (2/ 370).
(4)
الروايا من الإبل: الحوامل للماء، واحدتها راوية، فشبهها بها. انظر النهاية، لابن الأثير (2/ 279).
(5)
الرقيع: السماء، وقيل: هو اسم سماء الدنيا. انظر جامع الأصول (4/ 23).
(6)
الجامع (3298) في التفسير.
أرضين خمسمئة عام، وذكرَ في آخره كلمة ذكرناها
(1)
عند تفسير هذه الآية من سورة الحديد، ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، قال: ويُروى عن أيوب، ويونسَ بن عُبيد، وعلي بن زيد أنهم قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة
(2)
.
ورواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، فذكرَ مثل لفظ الترمذي سواء بدون الزيادة في آخر
(3)
.
ورواه ابن جرير في "تفسيره" عن بشر، عن يزيد، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة مرسلًا
(4)
. وقد يكون هذا أشبه واللَّه أعلم.
ورواه الحافظان أبو بكر البزَّار والبيهقيُّ من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
بنحوه. ولكن لا يصح إسناده واللَّه أعلم.
وقد تقدَّم
(6)
عند صفة العرش من حديث الأوعال ما يُخالف هذا في ارتفاع العرش عن السماء السابعة وما يشهد له. وفيه: وبعدُ ما بين كلِّ سماءين خمسمئة عام، وكثفها، أي: سمكها خمسمئة عام. وأما ما ذهبَ إليه بعض المتكلِّمين على حديث "طُوَّقهُ من سَبْعِ أرْضِيْنَ"
(7)
أنها سبعة أقاليم. فهو قول يُخالف ظاهرَ الآية والحديثَ الصحيح، وصريحَ كثير من ألفاظه مما يعتمد من الحديث الذي أوردناه من طريق الحسن عن أبي هريرة. ثم إنه حَمْلٌ للحديث والآية على خلاف ظاهرهما بلا مستند ولا دليل، واللَّه أعلم.
وهكذا ما يذكره كثير من أهل الكتاب، وتلقَّاه عنهم طائفة من علمائنا، من أن هذه الأرض من تراب، والتي تحتَها من حديد، والأخرى من حجارة من كبريت، والأخرى من كذا، فكل هذا إذا لم يُخْبر به ويصح سندُه إلى معصوم فهو مردود على قائله.
(1)
انظر تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (4/ 359) وقال الترمذيُّ: وفسَّر بعضُ أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم اللَّه وقدرته وسلطانه، وعلم اللَّه وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف في كتابه.
(2)
رواه الترمذي في جامعه (3298) في التفسير، قلت: وإسناده ضعيف.
(3)
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 303) عن الحسن عن أبي هريرة.
(4)
تفسير ابن جرير الطبري (11/ 670).
(5)
تفسير القرآن العظيم (4/ 359) وقال الحافظ ابن كثير: رواه البزار في مسنده، والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات، وفي متنه غرابة ونكارة.
(6)
تقدم الحديث (ص 17).
(7)
تقدم الحديث (ص 35).
وهكذا الأثر المرويُّ عن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الخلق مثل ما في هذه، حتى آدم كآدمكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، فهذا ذكرهُ ابن جرير
(1)
مختصرًا، واستقصاه البيهقي في "الأسماء والصفات"
(2)
وهو محمولٌ -إن صحَّ نقلُه عنه- على أنه أخذَه ابن عباس رضي الله عنه عن الإسرائيليات، واللَّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يزيد، حدَّثنا العوَّام بن حَوْشب، عن سُليمان بن أبي سُليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق اللَّه الأرضَ جعلتْ تميدُ
(3)
، فخلقَ الجبالَ، فألفاها عليها فاستقرَّتْ، فتعجبتِ الملائكةُ من خَلْق الجبالِ، فقالتْ: يا ربّ: هل من خلقكَ شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم الحديدُ. فقالت: يا ربِّ: فهل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الحديد؟ قال: نعم النَّار. قالت: يا ربِّ! فهلُ من خَلقكَ شيءٌ أشدُّ من النَّار؟ (قالَ: الماء. قالت: يا ربِّ! فهل من خلقك شيء أشدُّ من الماء؟)
(4)
؛ قال: نعم الرِّيحُ. قالت: يا ربِّ! فهل من خلقكَ شيءٌ أشدُّ من الريح؟ قال: نعم ابنُ آدمَ يتصدَّق بيمينهِ يُخفيها من شمالِه". تفرَّد به أحمد
(5)
.
وقد ذكرَ أصحابُ الهيئة أعدادَ جبال الأرض في سائر بقاعها شرقًا وغربًا، وذكروا أطوالَها وبُعدَ امتدادها وارتفاعها، وأوسعوا القولَ في ذلك بما يطول شرحه هاهنا. وقد قالَ اللَّه تعالى:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] قال ابن عباس وغير واحد: الجُدَدُ: الطرائقُ. وقال عكرمة وغيره: الغرابيب: الجبال الطّوال السُّود
(6)
. وهذا هو المشاهدُ من الجبال في سائر الأرض، تختلفُ باختلاف بقاعها وألوانها.
وقد ذكرَ اللَّه تعالى في كتابه {الْجُودِيِّ} [هود: 44]
(7)
على التعيين، وهو جبل عظيم
(8)
شرقي جزيرة ابن عمر إلى جانب دجلة، عند الموصل، امتداده من الجنوب إلى الشمال مسيرة ثلاثة أيام، وارتفاعه مسيرة نصف يوم، وهو أخضرُ لأن فيه شجرًا من البلُّوط، وإلى جانبه قرية يُقال لها: قرية "الثمانين"
(9)
(1)
تفسير ابن جرير الطبري (12/ 145).
(2)
الأسماء والصفات، للبيهقي (2/ 131) وقال: إسناد هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما صحيح، وهو شاذ بمرة، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا، واللَّه أعلم.
(3)
تميد: من الميد: وهو اضطراب الشيء العظيم؛ كاضطراب الأرض. قاله الأصفهاني في مفرداته.
(4)
سقطت من أ والمطبوع، وأثبتها من ب والمسند.
(5)
رواه أحمد في المسند (3/ 124) ولم يتفرد به، بل رواه الترمذي في جامعه (3366) في التفسير، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه. أقول: وإسناده ضعيف.
(6)
انظر تفسير الطبري (10/ 409) وتفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (3/ 678).
(7)
قال اللَّه تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44].
(8)
انظر معجم البلدان؛ لياقوت الحموي (2/ 179).
(9)
معجم البلدان (2/ 84).
لسكنى الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام في موضعها، فيما ذكره غيرُ واحد من المفسرين
(1)
، واللَّه أعلم.
وذكر تعالى {طُورِ سَيْنَاءَ} وقد روى
(2)
الحافظُ البهاء ابن عساكر في كتابه (المستقصى في فضائل المسجد الأقصى) في ترجمة الجبال المقدسة من طريق عمرو بن بكر، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي هريرة قال: أقسمَ ربُّنا عز وجل بأربعة أجبل، فقال:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3] فالتين: طور زيتا مسجدُ بيت المقدس، والزيتون: طور تينا، وطور سينين، وهذا البلد الأمين: جبل مكة
(3)
.
وقال قتادة: التين جبل عليه دمشق، والزيتون: جبل عليه بيت المقدس
(4)
.
وروى الحافظ ابن عساكر عن كعب الأحبار أنَّه قال: أربعة أجبل يوم القيامة: جبل الخليل، والتين، والطور، والجودي، يكون كل واحد منها يوم القيامة لؤلؤة بيضاء تضيء ما بين السماء والأرض، يرجعن إلى بيت المقدس حتى تجعل في زواياه، ويضعُ (الجبَّارُ جل جلاله
(5)
عليها كرسيَّه حتى يُقضى بين أهل الجنة والنار {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(6)
[الزمر: 75].
ومن طريق الوليد بن مسلم، حدثنا عمَّار بن أبي العالية، عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: أوحى اللَّه إلى جبل قاسيون أن هَبْ ظلَّكَ وبركتكَ لجبل بيت المقدس، قال: ففعلَ، فأوحى اللَّه إليه: أما إذ فعلتَ فإني سأبني لي في حضنكَ بيتًا؛ يعني مسجدَ دمشق، أُعْبَدُ فيه بعد
(1)
انظر تفسير الطبري (12/ 48) والقرطبي (9/ 44).
(2)
في أ: ذكر.
(3)
ذكره الشمس السيوطي في "إتحاف الأخصَّا بفضائل المسجد الأقصى"(1/ 221) بلفظ: فالتين مسجد دمشق، والزيتون طور زيتا مسجد بيت المقدس، وطور سنين حيث كلَّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام، والبلد الأمين مكة. وانظره في "مختصر تاريخ دمشق" لابن منظور (1/ 255) عن يزيد بن ميسرة بلفظ "أربعة أجبل مقدسة بين يدي اللَّه عز وجل: طور زيتا، وطور سينا، وطور تينا، وطور تيمنانا. قال: فطور زيتا: بيت المقدس، وطور سينا: طور موسى، وطور تينا: مسجد دمشق، وطور تيمنانا: مكة".
وحديث البهاء ابن عساكر عن أبي هريرة فيه عمرو بن بكر: ضعيف، وخالد بن معدان يرسل عن الصحابة الكبار.
(4)
تهذيب تاريخ ابن عساكر: لابن منظور (1/ 255) ولفظه: أقسم اللَّه تعالى بمساجد أربعة: قال: {وَالتِّينِ} وهو مسجد دمشق {وَالْزَّيْتُونِ} وهو مسجد بيت المقدس {وَطُورِ سِينِينَ} وهو حيث كلَّم اللَّه موسى {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} وهو مكة.
(5)
سقط من ب واستدركته من مختصر تاريخ دمشق.
(6)
مختصر تاريخ دمشق (1/ 287).
خراب الدنيا أربعين عامًا، ولا تذهبُ الأيام والليالي حتى أردَّ عليكَ ظلَّك وبركتَك، قال: فهو عند اللَّه بمنزلة المؤمن الضعيف المتضرِّع
(1)
.
وعن خليد بن دَعْلَج: أنَّ صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أتتْ طرفَ بيت المقدس فصلّتْ فيه، وصعِدت إلى طور زيتا فصلَّت فيه، وباتت على طرف الجبل، فقالت:(من هاهنا يتفرَّقُ النَّاسُ يومَ القيامة إلى الجنة وإلى النار)
(2)
(3)
.
* * *
فصل في البحار والأنهار
قال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 14 - 18] وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 53] وقال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] فالمراد بالبحرين: البحر الملح المرُّ، وهو الأجاج، والبحر العَذْبُ، هو هذه الأنهار السارحة بين أقطار الأمصار لمصالح العباد؛ قاله ابن جريج وغير واحد من الأئمة.
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 32 - 34] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 31 - 32] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ
(1)
ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (1/ 255 - 256) وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف. ولم يرفعه.
(2)
ذكره الشمس السيوطي في "إتحاف الأخِصَّا"(1/ 221) وخليد بن دعلج السدوسي: ضعيف. انظر ميزان الاعتدال (1/ 309) والتقريب ص (195).
(3)
ما بين قوسين أثبته من ب، وهو ساقط من أو المطبوع.
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقره: 164].
فامتنَّ تعالى على عباده بما خلقَ لهم من البحار والأنهار، فالبحرُ المحيط بسائر أرجاء الأرض وما ينبثقُ منه في جوانبها، الجميع مالحُ الطعم، مُرٌّ، وفي هذا حكمة عظيمة لصحَّة الهواء، إذ لو كان حلوًا لأنتنَ الجوُّ وفسدَ الهواء بسبب ما يموتُ فيه من الحيوانات، فكان يُؤَدِّي إلى تفاني بني آدم، ولكن اقتضت الحكمةُ البالغةُ أن يكونَ على هذه الصفة لهذه المصلحة. ولهذا لما سُئلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن البحر قال:"هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتهُ"
(1)
.
وأما الأنهار، فماؤُها حلوٌ عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُها لمن أراد ذلك. وجعلَها جارية سارحة يُنْبِعُها تعالى في أرضٍ ويسوقُها إلى أخرى رزقًا للعباد. ومنها كبارٌ ومنها صغارٌ بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلَّم أصحابُ علم الهيئة والتسبير
(2)
على تعداد البحار والأنهار الكبار، وأصول منابعها، وإلى أن ينتهي سيرُها بكلام فيه حكمٌ ودلالاتٌ على قدرةِ الخالق تعالى، وأنَّه فاعلٌ بالاختيار والحكمة وقوله تعالى:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] فيه قولان: أحدُهما أنَّ المرادَ به البحر الذي تحتَ العرش المذكور في حديث الأوعال
(3)
. وأنه فوقَ السماوات السبع بين أسفله وأعلاه كما بين سماءٍ إلى سماء، وهو الذي ينزلُ منه المطرُ قبلَ البعث فتحيا منه الأجسادُ من قبورها. وهذا القولُ هو اختيار الربيع بن أنس
(4)
. والثاني أنَّ البحرَ اسمُ جنس يعمُّ سائرَ البحار التي في الأرض، وهو قول الجمهور.
واختلفوا في معنى {المسجور} فقيل: المملوء، وقيل: الذي يصيرُ يومَ القيامة نارًا تأجَّجُ، فيُحيط بأهل الموقف كما ذكرناه في "التفسير"
(5)
عن عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جُبير، وابن مجاهد، وغيرهم. وقيل: المراد به الممنوع المكفوفُ المحروسُ عن أن يطغى فيغمرَ الأرضَ ومنْ عليها
(1)
رواه أحمد في المسند (2/ 277 و 361 و 378 و 393) وأبو داود في سننه (83) في الطهارة، والترمذي في جامعه (69) في الطهارة، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (386) في الطهارة، و (3246) في الصيد والنسائي في المجتبى (1/ 50 و 176) و (7/ 207). كلهم من حديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
ورواه أحمد في المسند (3/ 373) وابن ماجه (388) في الطهارة. من حديث جابر بن عبد اللَّه. ورواه ابن ماجه (387) من حديث الفراسي. ورواه أحمد في المسند (5/ 365) من حديث عبد اللَّه بن المغيرة بن أبي بردة.
(2)
كذا في الأصول: من السبر، وهو امتحان غور الجرح وغيره، فالمراد منه: العلم الذي يكشف عن أعماق الأنهار والبحار وأغوارها في الأرض، وفي المطبوع: التفسير.
(3)
تقدم تخريج حديث الأوعال ص 17 وهو ضعيف.
(4)
انظره في تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 282).
(5)
المصدر السابق (4/ 283).
فيغرقوا
(1)
. رواه الوالبي
(2)
عن ابن عباس، وهو قول السُّدِّي وغيره، ويُؤيِّده الحديثُ الذي رواه الإمام أحمد: حدَّثنا يزيدُ، حدَّثنا العوَّام، حدَّثني شيخٌ كان مرابطًا بالساحل، قال: لقيتُ أبا صالحٍ مولى عمرَ بن الخطاب، فقال: حدَّثنا عمرُ بن الخطَّاب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ من ليلةٍ إلا والبحرُ يُشرفُ فيها ثلاثَ مراتٍ يستأذنُ اللَّه عز وجل أن ينفضح
(3)
عليهم، فيكُفَّه اللَّه عز وجل"
(4)
.
ورواه إسحاق بن راهويه: عن يزيد بن هارون، عن العوَّام بن حَوْشب، حدَّثني شيخ مرابط، قال: خرجتُ ليلة لمحرسٍ لم يخرجْ أحدٌ من الحرس غيري، فأتيتُ الميناءَ فصَعِدتُ، فجعل، يخيَّلُ إليَّ أن البحرَ يشرفُ يُحاذي برؤوس الجبال، فعلَ ذلك مرارًا وأنا مستيقظٌ، فلقيتُ أبا صالح، فقال: حدَّثنا عمرُ بن الخطَّاب أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما منْ ليلةٍ إلا والبحرُ يُشرفُ ثلاثَ مَرَّاتٍ يستأذنُ اللَّهَ أن يَنْفَضِحَ عليهم فيكُفَّه اللَّه عز وجل"
(5)
في إسناده رجل مبهم، واللَّه أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كفَّ شرَّ البحر عن أن يطغى عليهم، وسخَّره لهم يحمل مراكبَهم ليبلغوا عليها إلى الأقاليم النائيه
(6)
بالتجارات وغيرها، وهداهم فيه بما خلقَه في السماء والأرض من النجوم والجبال التي جعلَها لهم علاماتٍ يهتدون بها في سيرهم، وبما خلقَ لهم فيه من اللآلئ الحسنة الثمينة والجواهر النفيسة العزيزة التي لا تُوجد إلا فيه وبما خلقَ فيه من الدوابِّ الغريبة، وأحلَّها لهم حتى مَيْتَتِها، كما قال تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتُه"
(7)
وفي الحديث الآخر "أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ: السَّمكُ والجَرادُ، والكَبِدُ، والطُّحَالُ" رواه أحمد
(8)
وابن ماجه
(9)
، وفي إسناده نظر
(10)
.
(1)
في التفسير (4/ 283) عن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وعلي هذا قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب (ص 402): مولى ابن العباس، سكن حمص، أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق قد يخطئ، مات سنة 43 هـ.
(2)
الوالبي: هو علي بن سالم بن مخارق الوالبي، مولى العباس بن عبد المطلب، له تفسير القرآن، توفي سنة (123 هـ).
(3)
ينفضح: ينفتح ويسيل.
(4)
رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 43) وإسناده ضعيف لجهالة الشيخ الذي روى عنه العوَّام بن حوشب، ولجهالة أبي صالح أيضًا.
(5)
ذكره المؤلف في التفسير (4/ 283): وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثنا الحسن بن سفيان، عن إسحاق بن راهويه والحافظ ابن حجر في المطالب العالية (2/ 176) في قصة طويلة عن إسحاق بن راهويه.
(6)
في ب: المباينة. وفي أ: البائنة.
(7)
سلف تخريجه قبل قليل.
(8)
في المسند (2/ 97).
(9)
في سننه (3218) و (3314).
(10)
في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.
وقد قال الحافظُ أبو بكر البَزَّارُ في "مسنده"
(1)
: وجدتُ في كتابي، عن محمد بن معاوية البغداديِّ، حدَّثنا عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رفعه، قال:"كلَّم اللَّه هذا البحر الغربيَّ، وكلَّم البحرَ الشرقيَّ، فقالَ للغربيِّ: إنِّي حاملٌ فيكَ عِبادًا من عبادي، فكيفَ أنت صانعٌ بهم؟ قال: أُغْرقُهم. قال: بأسُكَ في نواحيكَ، فحَرمهُ الحِلْيَةَ والصَّيْدَ، وكلَّم هذا البحرَ الشَّرْقيَّ، فقال: إني حاملٌ فيكَ عبادًا من عبادي فما أنتَ صانعٌ بهم؟ قال: أحملُهم على يدي، وأكونُ لهم كالوالدةِ لولدِه، فأثابَه الحِلْيَة والصَّيْد". ثم قال
(2)
: لا نعلمُ أحدًا رواه عن سُهَيْل إلا عبدُ الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر، وهو منكر الحديث. قال: وقد رواه سُهيل، عن النعمان بن أبي عيَّاش، عن عبد اللَّه بن عمرو، موقوفًا.
قلتُ: الموقوفُ على عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أشبهُ، فإنه قد كان وجدَ يومَ اليرموك زاملتين
(3)
مملوءتين كتبًا من علوم أهل الكتاب، فكانَ يُحدِّث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات، منها المعروفُ والمشهورُ والمنكورُ والمردود. فأما المرفوع فتفرَّد به عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطَّاب، أبو القاسم المدنيّ، قاضيها؛ قال فيه الإمام أحمد
(4)
: ليس بشيء، وقد سمعتُ منه، ثم مزقتُ حديثه، كان كذابًا، وأحاديثه مناكير. وكذا ضعَّفه ابن معين
(5)
، وأبو زُرعة
(6)
، وأبو حاتم
(7)
، والجوزجاني
(8)
، والبخاري
(9)
، وأبو داود
(10)
، والنَّسائي
(11)
، وقال ابن عديّ
(12)
: عامَّة أحاديثه مناكير، وأفظعها حديث البحر.
قال علماء التفسير المتكلِّمون على العُروض والأطوال والبحار والأنهار والجبال والمساحات، وما في الأرض من المدن والخراب والعمارات والأقاليم السبعة الحقيقية في اصطلاحهم، والأقاليم
(1)
كما في كشف الأستار (1669).
(2)
أي: البزار.
(3)
زاملتين: الزاملة: الدابَّة التي يُحمل عليها.
(4)
العلل (1/ 266)، وتاريخ الخطيب (11/ 501)، وتهذيب الكمال (17/ 235).
(5)
تاريخ يحيى برواية الدوري (2/ 351) وسؤالات ابن طهمان (18) و (290)، وتهذيب الكمال (17/ 236).
(6)
الجرح والتعديل 5/ الترجمة (1202).
(7)
المصدر نفسه.
(8)
أحوال الرجال (1202).
(9)
تاريخه الصغير (2/ 240).
(10)
سؤالات الآجري لأبي داود (3/ 108).
(11)
الضعفاء والمتروكون الترجمة (356).
(12)
الكامل في الضعفاء (14/ 588، 1590).
المتعدِّدة العرفية، وما في البلدان والأقاليم من الخواصِّ والنباتات، وما يُوجد في كل قطر من أصناف
(1)
المعادن والتجارات، قالوا: الأرض مغمورة بالماء العظيم إلا مقدار الربع منها، وهو تسعون درجة، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء على هذا القدر منها لتعيشَ الحيوانات عليها، وتنبت الزرع والثمار منها، كما قال تعالى:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 10 - 13].
قالوا: والمغمور من هذا البادي منها قريبُ الثلثين منه أو أكثر قليلًا. وهو خمس وتسعون
(2)
درجة.
قالوا: فالبحر المحيط الغربيّ، ويُقال له: أوقيانوس، وهو الذي يُتاخمُ بلادَ المغرب، وفيه الجزائرُ الخالدات، وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر تقريبًا، وهو بحر لا يُمكن سلوكه ولا ركوبه؛ لكثرة هيجه واغتلامه
(3)
، واختلاف ما فيه من الرياح والأمواج، وليس فيه صيد
(4)
، ولا يُستخرجُ منه شيء، ولا يُسافَر فيه لمتجر ولا لغيره، وهو آخذٌ في ناحية الجنوب حتى يُسامتَ الجبال القُمْر، ويُقال: جبال القمر التي منها منبع أصل نيل مصر، ويتجاوز خطَّ الاستواء. ثم يمتد مُشَرِّقًا، ويصير جنوبي الأرض. وفيه هناك جزائر الزنج
(5)
، وعلى سواحله خراب كثير. ثم يمتدُّ شرقًا وشمالًا حتى يتصلَ ببحر الصين والهند. ثم يمتدُّ شرقًا حتى يُسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة، وهناك بلاد الصين. ثم ينعطفُ في شرقي الصين إلى جهة الشمال حتى يُجاوزَ بلاد الصين، ويُسامتَ سد
(6)
يأجوج ومأجوج. ثم ينعطفُ ويستديرُ على أرضٍ غير معلومة الأحوال. ثم يمتدُّ مُغَرِّبًا في شمالي الأرض ويُسامتُ بلادَ الروس ويتجاوزها، ويعطف مُغَرِّبًا وجنوبًا، ويستديرُ على الأرض ويعودُ إلى جهة الغرب وينبثق من الغربي العربى
(7)
إلى متن الأرض الزقاق، الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب. ثم يأخذُ في بلاد الروم حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحارٌ أُخر، فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن في بحر الهند ألفا جزيرة وسبعمئة جزيرة، فيها مدن وعمارات سوى المدن العاطلة، ويقال لهذا البحر: الأخضر، فشرقيُّه بحرُ الصين، وغربيُّه بحر اليمن، وشماليه بحر الهند، وجنوبيه غير معلوم.
(1)
في ب: "صنوف"، وهو جمع صحيح أيضًا.
(2)
في ب: خمس وستون.
(3)
الهيج والاهتياج والهيجان بمعنًى، واغتلام البحر: هيجانه واضطراب أمواجه.
(4)
في ب: وليس يُصاد منه.
(5)
في المطبوع: الزايج، وفي معجم البلدان (المقدمة ص 21): وفي هذا البحر من النواحي المشرق جزائر الزانج، ثم جزائر الديبجات، وقُمير: ثم جزائر الزايج. .
(6)
انظر التعريف بهذا السد وما قيل عنه في معجم البلدان، لياقوت (3/ 197).
(7)
أثبتها من أ.
وذكروا أن بين بحر الهند وبحر الصين جبالًا فاصلة بينهما، وفيها فجاج تسلك المراكب بينها، يسَّرها لهم الذي خلقَها، كما جعل مثلها في البر أيضًا، قال اللَّه تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31]. وقد ذكرَ بطليموس
(1)
في كتابه المسمَّى "بالمجسطي" الذي عُرِّبَ
(2)
في زمان المأمون، وهو أصلُ هذه العلوم: أن البحار المتفخرة من المحيط الغربي والشرقي والجنوبي والشمالي كثيرة جدًا. ومنها ما هو واحد، ولكن يُسمى بحسب البلاد المتاخمة له. فمن ذلك بحر القُلْزُم. والقُلْزُم
(3)
: قريةٌ على ساحله قريب من أيلة. وبحر فارس وبحر الخزر، وبحر وَرَنْك، وبحر الروم، وبحر بُنْطش، وبحر الأزرق، مدينة على ساحله، وهو بحر القَرْم أيضًا، ويتضايق حتى يصبَّ في بحر الروم عند جنوبي القسطنطينية، وهو الخليج القسطنطيني
(4)
، ولهذا تُسرعُ المراكبُ في سيرها من القَرْم إلى بحر الروم، وتُبطئ إذا جاءت من الإسكندرية إلى القَرْم، لاستقبالها جريان الماء. وهذا من العجائب في الدنيا، فإنَّ كلَّ ماءٍ جارٍ فهو حلوٌ إلا هذا، وكلُّ بحر راكد فهو ملحٌ أجاجٌ، إلا ما يُذكر عن بحر الخزر، وهو بحر جرجان وبحر طبرستان، أنَّ فيه قطعةً كبيرة ماءً حلوًا فُراتًا، على ما أخبر به المسافرون عنه.
قال أهل الهيئة: وهو بحرٌ مستديرُ الشكل إلى الطول ما هو. وقيل: إنَّه مثلث كالقِلَعْ
(5)
، وليس هو متصلًا بشيء من البحر المحيط، بل منفردٌ وحده، وطوله ثمانمئة ميل وعرضه ستمئة، وقيل: أكثر من ذلك، واللَّه أعلم.
ومن ذلك البحرُ الذي يخرجُ منه المدُّ والجَزْرُ عند البصرة، وفي بلاد المغرب نظيرُه أيضًا، يتزايدُ الماء من أوَّل الشهر، ولا يزالُ في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشرة منه [وهو المدُّ]
(6)
. ثم يشرعُ في النقص وهو الجَزْرُ إلى آخر الشهر
(7)
. وقد ذكروا تحديدَ هذه البحار ومسراها
(8)
ومنتهاها، وذكروا ما في
(1)
في الأصل: أحد ملوك الهند، وهي جملة مقحمة، وبطليموس يوناني، كان واحدًا من أكبر علماء الفلك والجغرافيا في العصور القديمة، والمجسطي: اصطلاح مزيج من اليونانية والعربية، بمعنى المجيد. انظر الموسوعة العربية العالمية (4/ 466). .
(2)
في الفهرست (ص 327): أول من عني بتفسيره وإخراجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك (ت 190 هـ) ففسَّره جماعة فلم يتقنوه، فندب لتفسيره غير واحد من أصحاب بيت الحكمة.
(3)
انظر التعريف بها في معجم البلدان (4/ 388).
(4)
معجم البلدان؛ لياقوت (المقدمة ص 21) ومادة البحار فيه.
(5)
القِلَع: جمع قِلْع وقلاعة؛ شراع السفينة.
(6)
أثبتها من ب.
(7)
المد والجزر: ارتفاع وانخفاض مسطحات مائية واسعة على فترات زمنية محدودة، وتتم مرتين خلال الفترة الزمنية الواقعة بين طلوعين متتاليين للقمر، وهي تعادل 24 ساعة و 25 دقيقة. انظر الموسوعة العربية العالمية (22/ 462).
(8)
في المطبوع: ومبتداها.
الأرض من البُحيرات المجتمعة من الأنهار وغيرها من السيول، وهي البطائح
(1)
.
وذكروا ما في الأرض من الأنهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءَها وانتهاءَها، ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه، وإنما نتكلَّم على ما يتعلَّق بالأنهار الوارد ذكرها في الحديث. وقد قال اللَّه تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34].
وفي الصحيحين
(2)
: من طريق قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صَعْصَعة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما ذكرَ سِدْرة المنتهى، قال:"فإذا يخرجُ من أصلها نهرانِ باطنان، ونهرانِ ظاهران. فأمَّا الباطنان ففي الجنَّة، وأما الظاهران فالنيلُ والفراتُ".
وفي لفظ في البخاري
(3)
: "عنصرُهما" أي: مادَّتُهما، أو شكلُهما، وعلى صفتهما ونعتهما، وليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
وفي صحيح مسلم
(4)
: من حديث عُبيد اللَّه بن عمر، عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حَفْص بن عاصم، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "سَيْحانُ وجَيْحان والفرات والنيل كلٌّ من أنهار الجنة".
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا ابن نُميرٍ ويزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فُجِّرَتْ أربعةُ أنهارٍ من الجنة: الفراتُ، والنيلُ، وسَيْحان وجَيْحان". وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكأن المراد واللَّه أعلم من هذا أن هذه الأنهار تُشبه أنهارَ الجنَّة في صَفائها وعُذوبتها وجَريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها، كما قال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي وصحَّحه
(6)
: من طريق سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "العَجْوةُ من الجَنَّة، وفيها شِفَاءٌ من السُّمِّ
(7)
" أي: تُشبه ثَمرَ الجنَّة. فإن الحسنَ يشهدُ بخلاف ذلك، فتعيَّن أن المرادَ غيره.
(1)
البطائح: جمع بَطيحة والبَطيح: مسيل واسع فيه رمل ودُقاق الحصى.
(2)
البخاري في صحيحه (3207) في بدء الخلق، ومسلم في صحيحه (164) في الإيمان. وهو بعض حديث الإسراء.
(3)
في ب: ولفظ البخاري. وهذا اللفظ الذي أشار إليه المصنف ليس من الطريق الذي ذكره قبل قليل، بل هو من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس وهو في التوحيد من صحيح البخاري (7517).
(4)
(2839) في الجنة.
(5)
في المسند (2/ 301 و 305).
(6)
في جامعه (2066)، ووقع في بعض الطبعات "حسن غريب".
(7)
في ب: الحر، ولا يستقيم مع سائر ألفاظ الحديث.
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمَّى من فَيْحِ جهنَّم فأبردُوها بالماء
(1)
"
(2)
وكذا قوله: "إذا اشتدَّ الحَرُّ فأبردُوا بالصَّلاة، فإن شدة الحرِّ من فيْحِ جهنَّم"
(3)
. وهكذا هذه الأنهار أصلُ منابعها مُشاهدٌ من الأرض.
أما النيل، وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته ولطافته وبُعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه، فمبتداه من الجبال القُمْر، أي: البيض، ومنهم من يقول: جبال القَمَر
(4)
، بالإضافة إلى الكوكب، وهي في غربيّ الأرض وراءَ خط الاستواء إلى الجانب الجنوبي. ويُقال: إنَّها حُمْر يَنبعُ من بينها عيون، ثم يجتمعُ من عشر مَسِيلاتٍ متباعدة، ثم يجتمعُ كلُّ خمسة منها في بحرةٍ، ثم يخرجُ منها أنهارٌ ستة، ثم تجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد هو النيل، فيمرُّ على بلاد السُّودان بالحبشة، ثم على النوبة ومدينتها العُظمى دُمْقُلة، ثم على أسوان، ثم يفد على ديار مصر. وقد يحمل إليها من بلاد الحبشة زياداتِ أمطارها، وما اجترفَ
(5)
من ترابها وهي محتاجة إليهما معًا، إن مطرَها قليلٌ لا يكفي زروعَها وأشجارَها، وتربتُها رمالٌ لا تُنبتُ شيئًا حتى يجيءَ النيل بزيادته وطينه، فينبتُ فيه ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأراضي بدخولها في قوله سبحانه وتعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ثم يجاوزُ النيلُ مصرَ قليلًا، فيفترقُ شطرين عند قرية على شاطئه، يقال لها: شَطَّنُوف
(6)
، فيمرُّ الغربيّ منه على رشيد ويصبُّ في البحر المالح. وأما الشرقيُّ فيفترقُ أيضًا عند جَوْجرَ فرقتين، تمرُّ الغربيّةُ منهما على دِمياط من غربيِّها، ويصبُّ في البحر، والشرقية منهما تمرُّ على أشْمُون
(7)
طَنَّاح، فيصبُّ هناك في بحيرة شرقي دِمْياط، يُقال لها: بحيرة تِنِّيْس، وبحيرة دمياط. وهذا بُعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه، ولهذا كان ألطف المياه. قال ابن سينا: له خصوصيات دون سائر مياه الأرض، فمنها: أنه أبعدها مسافة من مجراه
(1)
وقع في بعض الأصول: "بالماء البارد"، وليست في المطبوع ولا في روايات الحديث كلمة (البارد).
(2)
رواه البخاري في صحيحه (3262) في بدء الخلق وفي الطب (5726)، ومسلم (2212) في الطب، والترمذي في جامعه (2073) في الطب، وابن ماجه في سننه (3472) في الطب، كلُّهم عن رافع بن خديج بلفظ "فأبردوها بالماء". وهو في الصحيحين أيضًا من حديث ابن عمر (البخاري 3264 ومسلم 2209)، وهو في البخاري (3261) من حديث ابن عباس، و (3263) من حديث عائشة رضي الله عنهم.
(3)
رواه أحمد في المسند (2/ 238 و 266) والبخاري في صحيحه (533 و 534) في مواقيت الصلاة، ومسلم في صحيحه (615)(182 و 183) في المساجد.
(4)
انظر ما قيل في تسمية جبال القمر حسن المحاضرة (2/ 349)؛ للسيوطي.
(5)
في ب: واجتراف من.
(6)
انظر ما قاله ياقوت عن هذه القرية في معجم البلدان (3/ 344).
(7)
في معجم البلدان (1/ 200): أُشْموم.
إلى أقصاه. ومنها أنه يجري على صخور ورمال ليس فيه خز ولا طحلب ولا أوحال، ومنها أنه لا يخضرُّ فيه حجر ولا حصاة، وما ذاك إلا لصحة مزاجه وحلاوته ولطافته، ومنها أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار، ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها، وأما ما يذكره بعضُهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع اطَّلع عليه بعضُ الناس فرأى هناك هولًا عظيمًا وجواريَ حِسانًا وأشياءَ غريبةً، وأن الذي اطَّلعَ على ذلك
(1)
لم يمكنْه الكلامُ بعد هذا، فهو من خرافاتِ المؤرِّخين وهذيانات الأفَّاكين
(2)
.
وقد قال عبدُ اللَّه بن لَهِيْعة
(3)
: عن قيس بن الحجَّاج، عمَّن حدثه قال: لمّا فُتحتْ مصر، أتى أهلها عمرَو بن العاص حين دخلَ بؤنة -من أَشْهُرِ العجم- فقالوا: أيُّها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّةً لا يجري إلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لِثنتي عشرة ليلةً خلتْ من هذا الشهر عَمَدْنا إلى جاريةٍ بكْرٍ بين أبويها، فارْضَيْنا أبويْها وجعلنا عليها من الحليِّ والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام. إنَّ الإسلامَ يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤنةَ، والنِّيلُ لا يجري قليلًا ولا كثيرًا. وفي رواية: فأقاموا بؤنةَ وأبيب ومِسْرى
(4)
وهو لا يجري، حتَّى همُّوا بالجلاء. فكتبَ عمرو إلى عمرَ بن الخطَّاب بذلك. فكتب إليه إنَّك قد أصبتَ بالذي فعلتَ، وإني قد بعثتُ إليكَ ببطاقةٍ داخلَ كتابي هذا فألقِها في النيل. فلما قدمَ كتابُه، أخذَ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد: فإن كنتَ لا تجري إلا من قِبَلكَ فلا تَجْرِ، وإن كان اللَّه الواحدُ القهَّارُ هو الذي يُجريك فنسألُ اللَّهَ أنْ يُجريَكَ. قال: فألقى البطاقةَ في النيل، فأصبحَ يومَ السبت قد زادَ ستةَ عشرَ ذراعًا في ليلة واحدة، وقطعَ اللَّه سبحانه وتعالى
(5)
تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم
(6)
.
وأما الفرات: فأصلُها من شمال أَرْزَن الروم، فتمرُّ إلى قرب مَلطية ثم تمر على سُمَيْساط، ثم على إلبيرة
(7)
قِبْليِّها، ثم تُشَرِّقُ إلى بالس
(8)
وقلعة جعبرَ
(9)
، ثم الرَّقّة، ثم إلى الرحبة شماليِّها، ثم إلى
(1)
في ب: وأن الذي اطَّلعَ عليها لم يمكنه.
(2)
انظر حسن المحاضرة؛ للسيوطي (2/ 350).
(3)
عبد اللَّه بن لهيعة بن عقبة، أبو عبد الرحمن الحضرمي المصري، قاضي مصر، توفي سنة 174 هـ كان شيخًا صالحًا، ولكن خلط بعد احتراق كتبه. واحترقت كتبه قبل موته بأربع سنين. انظر المجروحين؛ لابن حبان (2/ 11).
(4)
أسماء أشهر قبطية.
(5)
زيادة من ب.
(6)
كانت هذه الحادثة سنة (23 هـ) كما في بدائع الزهور (1/ 111). وانظر حسن المحاضرة (2/ 353 - 354). وإسناد هذه الحكاية ضعيف، لضعف ابن لهيعة عند التفرد وجهالة من روى عنه شيخ قيس بن الحجاج.
(7)
إلبيرة: من نواحي حلب.
(8)
بالس: بلدة بالشام بين حلب والرقة. معجم البلدان (1/ 328).
(9)
قلعة على الفرات، بين بالس والرقة، قرب صِفِّين. معجم البلدان (2/ 142).
عانة، ثم إلى هيت، ثم إلى الكوفة، ثم تخرجُ إلى فضاء العراق، وتصبُّ في مصالح كبار، أي بحيرات وترد إليها، ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سَيحان: ويُقال له: سَيْحون أيضًا، فأوَّلُه من بلاد الروم، ويجري من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق، وهو غربيّ مجرى جيحان، ودونَه في القدْر، وهو ببلاد الأرمن التي تُعرف اليوم ببلاد سِيس، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية، فلما تغلَّب الفاطميون
(1)
على الديار المصرية، وملكوا الشام وأعمالَها عجزوا عن صَوْنها عن الأعداء، فتغلب أليقفور الأرمني على هذه البلاد، أعني بلادَ سيس في حدود الثلاثمئة، وإلى يومنا هذا -واللَّه المسؤول عودُها إلينا بحوله وقوته- ثم يجتمعُ سَيحان وجَيحان عند أذنةَ، فيصيران نهرًا واحدًا، ثم يَصُبَّان في بحر الروم بين إياسَ وطرَسوس.
وأما جيحان: ويُقال له: جيحون أيضًا، وتسمية العامة جاهان. وأصلُه في بلاد الروم، ويسير في بلاد سِيس من الشمال إلى الجنوب، وهو يُقارب الفرات في القدر، ثم يجتمعُ هو وسيحان عند أذنَة فيصيران نهرًا واحدًا. ثم يَصُبَّان في البحر عند إياسَ وطرَسوس، واللَّه أعلم.
* * *
فصل
(1)
في أ: تعدت القاطنون.
يذكر
(1)
تعالى ما خلقَ في الأرض من الجبال والأشجار والثِّمار والسهول والأوعار، وما خلق من صنوف المخلوقات من الجمادات والحيوانات في البراري، والقِفار والبر والبحار مما يدلُّ على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه، وما سهَّل لكلِّ دابَّة من الرزق الذي هي محتاجة إليها في ليلها ونهارها، وصيفها وشتائها، وصباحها ومسائها، كما قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
وقد روى الحافظُ أبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عُبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى بن كَيْسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن عمر بن الخطَّاب، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خلقَ اللَّه ألفَ أُمَّة: منها ستمئة في البحر، وأربعمئة في البرِّ، وأوَّلُ شيءٍ يهلكُ من هذه الأمم الجرادُ، فإذا هلكَ تتابعتْ مِثْل النِّظام إذا قُطِعَ سِلْكُه"
(2)
.
عبيد بن واقد: أبو عبَّاد البَصْري، ضعَّفهُ أبو حاتم
(3)
، وقال ابن عديّ
(4)
: عامَّة ما يرويه لا يُتابع عليه، وشيخه أضعف منه
(5)
. قال الفَلَّاس
(6)
والبخارىِّ
(7)
: منكر الحديث. وقال أبو زُرْعة
(8)
: لا ينبغي أن يُحدَّث عنه. وضعَّفه ابنُ حِبَّان
(9)
والدارقطني
(10)
، وأنكر عليه ابن عديّ هذا الحديث بعينه وغيره
(11)
، واللَّه أعلم.
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
* * *
(1)
في ب: وذكرَ.
(2)
رواه أبو يعلى (2399 - المطالب العالية، النسخة المسندة) وحكم عليه ابن حبان بالوضع في ترجمته لابن كيسان.
(3)
الجرح والتعديل (6/ الترجمة 18).
(4)
الكامل (5/ 1990).
(5)
يعني: محمد بن عيسى بن كيسان.
(6)
ساقه ابن عدي في الكامل عن الفلاس (6/ 2249).
(7)
تاريخه الكبير (1/ الترجمة 635)، والصغير (2/ 271).
(8)
سؤالات البرذعي (2/ 517).
(9)
المجروحين (2/ 265 - 266) بتحقيق السلفي.
(10)
الضعفاء والمتروكون (494).
(11)
الكامل (6/ 2250).
باب ذكر ما يتعلَّق بخلق السماوات وما فيهن من الآيات
قد قدَّمنا أنَّ خلقَ الأرض قبل خلق السماء، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29].
وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30]. وقد أجبنا عن قوله جل ذكره: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} . بأنَّ الدحي
(1)
غير
(2)
الخلق، وهو بعد خلق السماء.
وقال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 12 - 13].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15 - 16].
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61 - 62].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18].
(1)
الدَّحي: والدَّحْو: البسط والتوسع.
(2)
في ب: هو غير.
وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبباء: 32 - 33].
وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 96 - 97].
والآيات في هذا كثيرة جدًا، وقد تكلَّمنا على كل منها في "التفسير".
والمقصود أنه تعالى يُخبر عن خلق السماوات وعظمة اتساعها وارتفاعها، وأنها في غاية الحسن والبهاء، والكمال والسناء، كما قال تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7] أي: الخلق الحسن، وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] أي: خاسئًا عن أن يرى فيها نقصًا أو خللًا، وهو حسير، أي: كليل ضعيف، ولو نظر حتى يعيا ويكلَّ ويضعف لما اطلع على نقص فيها ولا عيب، لأنه تعالى قد أحكم خلقها وزيَّن بالكواكب أُفقها، كما قال:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] أي: النجوم. وقيل: محالّ الحرس التي يُرمَى منها بالشهب لمسترقي السمع، ولا منافاة بين القولين، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
(1)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر: 16 - 17]. فذكرَ أنَّه زين منظرها بالكواكب الثوابت والسَّيَّارات: الشمس، والقمر، والنجوم الزاهرات. وأنه صانَ حوزتَها
(2)
عن حلول الشياطين بها، وهذا زينة معناها، فقال:{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} كما قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 6 - 8].
قال البخاري في كتاب بدء الخلق
(3)
: وقال قتادة: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدَى بها. فمن تأول
(1)
في أ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ. . .} [الملك: 5] وهو سهو من الناسخ.
(2)
حوزتها: حوزة الشيء: حدوده ونواحيه.
(3)
انظر فتح الباري (6/ 295) باب في النجوم.
فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاعَ نصيبَه، وتكلَّفَ ما لا علم له به.
وهذا الذي قاله قتادة مصرَّح به في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]. فمن تكلَّف غير هذه الثلاث، أي: من عِلْم أحكامِ ما تدلُّ عليه حركاتها ومقارناتها
(1)
في سيرها، وأن ذلك يدلُّ على حوادث أرضية فقد أخطأ؛ وذلك أَن أكثر كلامهم في هذا الباب ليس فيه إلا حَدْسٌ وظنون كاذبة ودَعاوى باطلة.
وذكرَ تعالى أنَّه خلقَ سبع سموات طباقًا، أي: واحدة فوق واحدة. واختلف أصحابُ الهيئة هل هُنَّ متراكمات
(2)
، أو متفاصلات بينهن خلاء؛ على قولين: والصحيح الثاني، لما قدَّمنا من حديث عبد اللَّه بن عَميرة، عن الأحنف، عن العباس في حديث الأوعال؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: اللَّه ورسولُه أعلم. قال: بينها مسيرة خمسمئة عام. ومن كل سماء إلى سماء خمسمئة سنة. وَكُثُف
(3)
كل سماء خمسمئة سنة. . " الحديث
(4)
بتمامه. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسَّنه.
وفي الصحيحين: من حديث أنسٍ في حديث الإسراء، قال فيه: ووجدَ في السماء الدنيا آدمَ، فقال له جبريل: "هذا أبوكَ آدمُ فسَلِّم عليه، فسلَّمَ عليه
(5)
، فردَّ عليه السلام، وقال: مرحبًا وأهلًا بابني، نعم الابنُ أنت .. إلى أنْ قالَ: ثم عرجَ إلى السماء الثانية، وكذا ذكرَ في الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة".
فدلَّ على التَّفاصل بينها، لقوله:"ثُمَّ عُرِجَ بنا حتى أتينا السَّماءَ الثانية، فاستفتحَ، فقيل: منْ هذا" الحديث
(6)
. وهذا يدلُّ على ما قلناه، واللَّه أعلم.
وقد حكى ابنُ حزم، وابنُ المُنَيّر، وأبو الفرج بن الجوزي، وغيرُ واحد من العلماء: الإجماعَ على أنَّ السماواتِ كُرَيَّةٌ
(7)
مستديرة. واستُدلّ على ذلك بقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]. قال
(1)
في ب: ومقارباتها.
(2)
فى ب: متراكبات.
(3)
"وَكُثُفُ": سماكة.
(4)
تقدم الحديث وتخريجه ص 17.
(5)
سقطت من المطبوع.
(6)
رواه البخاري في صحيحه (349) في الصلاة، ومسلم في صحيحه (163) في الإيمان.
(7)
في المطبوع: كرة.
(الحسن)
(1)
: يدورون، وقال ابن عباس: في فلكةٍ مثل فَلْكةِ المِغزل
(2)
. قالوا: ويدلُّ على ذلك أن الشَّمسَ تغربُ كلَّ ليلة من المغرب، ثم تطلعُ في آخرها منَ المشرق، كما قال أميَّةُ بن أبي الصلت:[من الكامل]
والشمس تبدو كلَّ آخِر ليلةٍ
…
حمراءَ تصبحُ لونها يتوَرَّدُ
تَأبى فما تبدُو لنا في رسلها
…
إلَّا مُعَذَّبةً وإلَّا تُجْلَدُ
فأما الحديث الذي رواه البخاريُّ، حيث قال
(3)
: حدَّثنا محمد بن يوسف، حدَّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيمي، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍّ حينَ غربتِ الشَمسُ: "تدري أينَ تذهبُ؟ قلت: اللَّه ورسولُه أعلمُ. قال: فإنَّها تذهبُ حتى تسجدَ تحتَ العرش فتستأذنُ، فيُؤذنُ لها، ويُوشكُ أنْ تسجدَ فلا يُقبل منها، وتستأذنُ فلا يُؤذنُ لها. ويُقالُ لها: ارجعي من حيثُ جئتِ، فتطلعُ منْ مَغْربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] "
(4)
.
هذا لفظه في بدء الخلق، ورواه في التفسير
(5)
، وفي التوحيد
(6)
: من حديث الأعمش أيضًا. ورواه مسلمٌ في الإيمان: من طريق الأعمش
(7)
، ومن طريق يُونس
(8)
بن عبيد
(9)
، وأبو داود
(10)
: من طريقِ الحَكمِ بن عُتَيْبة، كلُّه من [حديث] إبراهيم بن يزيد بن شَريك، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ به، نحوه. وقال الترمذي
(11)
: حسن صحيح.
إذا عُلمَ هذا فإنه حديث لا يُعارِضُ ما ذكرناه من استدارة الأفلاك التي هي السماوات على أشهر القولين، ولا يدلُّ على كرية العرش، كما زعمه زاعمون. قد أبطلنا قولهم فيما سلفَ، ولا يدلُّ على أنه تصعدُ إلى فوق السماوات من جهتنا حتى تسجدَ تحتَ العرش، بل هي تغربُ عن أعيننا، وهي مستمرَّة في فلكها الذي هي فيه، وهو الرابع فيما قاله غيرُ واحد من علماء التفسير
(12)
. وليس في الشرع ما ينفيه، بل في الحسِّ،
(1)
أثبتها من ب.
(2)
"فلكة المغزل": قطعة مستديرة من الخشب ونحوه تُجعل في أعلاه، وتثبت السِّنَّارة من فوقها وعود المِغْزل من تحتها.
(3)
ديوانه (ص 365) وتقدم (ص 21).
(4)
صحيح البخاري (3199).
(5)
نفسه (4802) و (4803).
(6)
نفسه (7424) و (7433).
(7)
صحيح مسلم (159)(251).
(8)
في أ: "ابن يونس"، وهو سهو.
(9)
صحيح مسلم (159)(250).
(10)
أبو داود (4002) في الحروف والقراءات.
(11)
الترمذي (2186) في الفتن، و (3227) في التفسير.
(12)
في بعض النسخ: التسبير.
وهو الكسوفات ما يدلُّ عليه ويقتضيه، فإذا ذهبتْ فيه حتى تتوسَّطه، وهو وقتُ نصف الليل مثلًا في اعتدال الزمان، بحيث يكونُ بينَ القُطْبين الجنوبي والشمالي، فإنها تكونُ أبعدَ ما يكونُ من العرش، لأنه مُقَبَّبٌ من جهة وجه العالم، وهذا محلُّ سجودها كما يُناسبها، كما أنها أقربُ ما تكونُ من العرشِ وقتَ الزوالِ من جهتنا، فإذا كانت في محلِّ سجودِها استأذنتِ الرَّبَّ جل جلاله في طلوعها من الشرق
(1)
فيؤذَنُ لها، فتبدو من جهة الشرق، وهي مع ذلك كارهة لِعُصاةِ بني آدمَ أنْ تطلعَ عليهم، ولهذا قال أمية
(2)
بن أبي الصَّلْتِ: [من الكامل]
تأبى فما تبدو لنا في رِسْلها
…
إلَّا مُعذّبة وإلَّا تُجْلدُ
فإذا كانَ الوِقتُ الذي يُريدُ اللَّه طلوعَها من جهة مغربها، تسجدُ على عادتها، وتستأذنُ في الطُّلوع من عادتِها، فلا يُؤذنُ لها، فجاء أنها تسجدُ أيضًا، ثم تستأذن فلا يُؤذن لها، وتطولُ تلك الليلة - كما ذكرنا في "التفسير"
(3)
فتقول: يا ربِّ! إن الفجرَ قد اقتربَ، وإنَّ المدى بعيد. فيُقال لها: ارجعي منْ حيثُ جئتِ، فتطلعُ من مَغْرِبها، فإذا رآها النَّاسُ آمنوا جميعًا. وذلك قوله تعالى: حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. وفسَّروا بذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قيل: لوقتها الذي تُؤمَر فيه أنْ تطلعَ من مغربها. وقيل: مستقرُّها: موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش. وقيل: منتهى سيرها، وهو آخر الدنيا.
وعن ابن عباس أنه قرأ
(4)
: (والشمس تجري لا مستقرَّ لها) أي: ليست تستقرُّ، فعلى هذا تسجدُ وهي سائرة. ولهذا قال تعالى:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] أي: لا تُدرك الشمسُ القمرَ فتطلعُ في سلطانه ودولته، ولا هو أيضًا {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي: ليس يسبقُه بمسافة يتأخَّرُ ذاك عنه فيها، بل إذا ذهبَ الليلُ جاءَ النهار في إثره متعقبًا له، وإذا ذهب النهار جاءَ الليل في إثره متعقِّبًا له، كما قال في الآية الأخرى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. أي: يخلفُ هذا لهذا، وهذا لهذا، كما قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلَ اللَّيلُ من هاهنا وغربت الشَّمْسُ
(1)
في ب: المشرق.
(2)
في ب: قال أميَّةُ، دون نسب.
(3)
انظر تفسير القرآن العظيم (3/ 701).
(4)
شواذ القرآن؛ لابن خالويه (ص 126) وتفسير القرطبي (15/ 28 - 29) وهي قراءة ابن مسعود أيضًا، ونقل القرطبي عن أبي بكر بن الأنباري أنه قال: وهذا باطل مردود على من نقله؛ لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عباس، وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} فهذان السندان عن ابن عباس -اللذان يشهد بصحتهما الإجماع- يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة وما اتفقت عليه الأمة.
فقد أفطرَ الصائمُ"
(1)
والزمانُ المحقّق ينقسمُ إلى ليل ونهار، ليس
(2)
بينهما غيرهما. ولهذا قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ
(3)
مُسَمًّى} [لقمان: 29] فيُولج من هذا في هذا، أي: يأخذ من طول هذا في قِصَر هذا فيعتدلان، كما في أول فصل الربيع يكونُ الليل قبل ذلك طويلًا والنَّهارُ قصيرًا، فلا يزالُ اللَّيْلُ ينقصُ، والنَّهارُ يتزايدُ حتى يعتدلا، وهو أول الربيع. ثم يشرعُ النَّهارُ يطول ويتزايد والليل يتناقصُ [إلى آخر فصل الربيع، ثم يتراجعُ الأمر، وينعكس الحالُ، فيشرع النهار يتناقصُ والليل في ازدياد]
(4)
حتى يعتدلا أيضًا في أول فصل الخريف. ثم يشرعُ الليلُ يطولُ ويقصرُ النهار إلى آخر فصل الخريف. ثم يترجَّح النَّهار قليلًا قليلًا، ويتناقصُ الليل شيئًا فشيئًا حتى يعتدلا في أول فصل الربيع -كما قدَّمنا- وهكذا في كل عام. ولهذا قال تعالى:{وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون: 80] أي: هو المتصرفُ في ذلك كلِّه، الحاكمُ الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولهذا يقول في ثلاث آيات عند ذكر السماوات والنجوم والليل والنهار {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيز} [الأنعام: 96]
(5)
أي: العزيز الذي قد قهرَ كلَّ شيء، ودانَ له كل شيء، ولا
(6)
يُمانَع ولا يُغالَبُ، العليمُ بكلِّ شيءٍ، فقدَّر تقديرًا على نظام لا يختلف ولا يضطرب.
وقد ثبتَ في الصحيحين: من حديث سفيان بن عُيَيْنةَ، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه عز وجل
(7)
: يؤذيني ابنُ آدمَ يسبُّ الدهرَ وأنا الدهرُ، بيدي الأمر أقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ"
(8)
وفي رواية: "وأنا الدهرُ أُقَلِّبُ ليلَه ونهاره"
(9)
.
قال العلماء: كالشافعي، وأبي عُبيد القاسم بن سلام، وغيرهما: يسبُّ الدهرَ؛ أي: يقولُ: فعلَ بنا الدَّهرُ كذا، يا خيبةَ الدَّهر! أيتمَ الأولادَ، أرْمَلَ النساءَ. قال اللَّه تعالى:"وأنا الدهر" أي: أنا الدهرُ الذي يعنيه، فإنَّه فاعلٌ ذلك الذي أُسْنِدُه إلى الدهرِ، والدَّهرُ مخلوقٌ، وإنما فعلَ هذا هو اللَّه، فهو
(1)
رواه البخاري في صحيحه (1954) في الصوم، ومسلم في صحيحه (1100) في الصيام، وأبو داود (2351) في الصوم، والترمذي (698) في الصوم. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
في ب: وليس.
(3)
في الأصول: لأجل؛ ولا وجه لها هنا، ولعلها التبست بآية أخرى، كالآية رقم (2) من سورة الرعد، أو الآية (13) من سورة فاطر.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(5)
و [يس: 38] و [فصلت: 12].
(6)
في ب: فلا.
(7)
زيادة من ب.
(8)
رواه البخاري في صحيحه (4826) في التفسير، و (7491) في التوحيد، ومسلم في صحيحه (2246)(2) في الألفاظ.
(9)
رواها مسلم في صحيحه (2246)(3) في الألفاظ.
يسبُّ فاعلَ ذلك ويعتقدُه الدهر. واللَّه هو الفاعلُ لذلك، الخالقُ لكلِّ شيءٍ، المتصرِّفُ في كل شيءٍ، كما قال:"وأنا الدَّهرُ بيدي الأمرُ أُقلِّبُ ليله ونهارَه" وكما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 - 27] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 5 - 6] أي: فاوتَ
(1)
بين الشمس والقمر في نورهما، وفي شكلهما، وفي وقتهما، وفي سيرهما، فجعلَ هذا ضياءً، وهو شعاعُ الشمس برهانٌ ساطعٌ وضوءٌ باهرٌ ظاهرٌ {وَالْقَمَرَ نُورًا} أي: أضعف من برهان الشمس، وجعله مستفادًا من ضوئها، وقدَّرها منازلَ، أي: يطلعُ أوَّل ليلةٍ من الشهر صغيرًا ضئيلًا، قليلَ النور لقربهِ من الشمس، وقلَّةِ مقابلته لها، فبقدر مقابلتهِ لها يكونُ نورُه، ولهذا في الليلة الثانية يكونُ أبعدَ منها بضعفِ ما كان في الليلة الأولى، فيكون نورُه بضعفِ النُّور أوَّل ليلةٍ، ثمَّ كلما بَعُدَ ازدادَ نورُه، حتى يتكاملَ إبدارُه ليلةَ مقابلتهِ إيَّاها من المشرقِ، وذلك ليلةَ أربعَ عشرةَ من الشهر. ثم يشرعُ في النقص لاقترابه إليها من الجهة الأخرى إلى آخر الشهر فيَسْتَسِرُّ
(2)
حتى يعودَ كما بدأ في أول الشهر الثاني. فبه
(3)
تُعرف الشهورُ، وبالشمس تُعرف الليالي والأيام، وبذلك تعرفُ السنينُ والأعوامُ، ولهذا قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وقد بسطنا القول على هذا كله في "التفسير"
(4)
. فالكواكبُ التي في السماء منها سيَّارات، وهي المتحيزه
(5)
في اصطلاح علماء التفسير، وهو علم غالبُه صحيح، بخلاف علم الأحكام فإن غالبه باطل، ودعوى ما لا دليل عليه، وهي سبعة: القمر في سماء الدنيا، وعُطارد في الثانية، والزَّهرة في الثالثة، والشَّمس في الرابعة، والمرِّيخ في الخامسة، والمُشْتري في السادسة، وزُحَل في السابعة. وبقية الكواكب يُسمونها الثوابت، وهي عندهم في الفلك الثامن، وهو الكرسيُّ في اصطلاح كثير من المتأخرين.
وقال آخرون: بل الكواكبُ كلُّها في السماء الدنيا، ولا مانعَ من كون بعضها فوقَ بعضٍ، وقد
(1)
في ب: قارب.
(2)
في المطبوع: فيستتر، واستسرَّ الشيءُ: اختفى ولم يظهر.
(3)
في ب: به.
(4)
تفسير القرآن العظيم (2/ 502).
(5)
في ب: المتحيِّرة. وفي المطبوع: المتخيرة.
يُستدلُّ على هذا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]. وبقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12] فخصَّ سماءَ الدنيا من بينهنَّ بزينةِ الكواكب، فإنْ دلَّ هذا على كونها مرصَّعةً فيها فذاك، وإلا فلا مانعَ مما قاله الآخرون، واللَّه أعلم.
وعندهم أنَّ الأفلاك السبعةَ، بل الثمانية، تدورُ بما فيها من الكواكب الثوابت والسيَّارات [في اليوم والليلة دورة كليَّة من الشرق إلى الغرب، وعندهم أن كل واحد من الكواكب السيَّارات]
(1)
يدورُ على خلاف فلكهِ من الغرب إلى الشرق، فالقمرُ يقطع فلكه في شهر، والشمس تقطع فلكها -وهو الرابع- في سنة. فإذا كان السيران ليس بينهما تفاوتٌ، وحركاتُهما متقاربةٌ، كان قدرُ السماء الرابعة بقدر السماء الدُّنيا ثنتيْ عشرة مرةً، وزُحلُ يقطعُ فلكه -وهو السابع- في ثلاثين سنةً، فعلى هذا يكون بقدر السماء الدنيا ثلئمئة وستين مرة.
وقد تكلَّموا على مقادير أجرام هذه الكواكب وسيرها وحركاتها، وتوسَّعوا في ذلك
(2)
حتَّى تعدَّوا إلى علم الأحكام، وما يترتَّبُ على ذلك من الحوادث الأرضيَّة، بما لا علمَ لكثيرٍ منهم به. وقد كان اليونانيون الذين كانوا يسكنونَ الشام قبل زمنِ المسيح عليه السلام بدهور لهم في هذا كلامٌ كثير يطولُ بَسْطُه، وهم الذين بنوا مدينةَ دمشق، وجعلوا لها أبوابًا سبعةً، وجعلوا على رأسِ كلِّ بابٍ هيكلًا على صفة الكواكب السَّبْعة، يعبدونَ كلَّ واحدٍ في هيكلِه، ويدعونه بدعاءٍ يأثره عنهم غيرُ واحد من أهلِ التواريخ
(3)
وغيرهم.
وذكره صاحبُ كتاب "السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم"
(4)
وغيره من علماء الحرنانيين
(5)
-فلاسفة حرَّان في قديم الزمان- وقد كانوا مشركين يعبدونَ الكواكبَ السبعة، وهم طائفة من الصابئين، ولهذا قال الّه تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقال تعالى إخبارًا عن الهُدْهُدِ أنَّه قال لسليمان عليه السلام، مخبرًا عن بلقيسَ وجنودِها، ملكة سبأ في اليمن وما والاها: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
(1)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(2)
في ب: في هذه الأشياء.
(3)
انظر مختصر تاريخ دمشق؛ لابن منظور (1/ 46).
(4)
نُسب الكتاب إلى الفخر الرازي، وقيل: ليس له، وعليه ردود. انظر كشف الظنون (2/ 989).
(5)
الحرنانيون: جمع حرنانيّ؛ نسبة إلى حرَّان -على غير القياس- وهي مدينة في الجزيرة الفراتية، بينها وبين الرقة يومان. قال ياقوت: وكانت منازل الصابئة، وهم الحرَّانيون الذين يكرههم أصحاب كتب الملل والنحل. انظر معجم البلدان (2/ 235 - 236) والفهرست؛ لابن النديم (ص 383).
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 23 - 26].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} [النحل: 48 - 50] وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44][والآيات في هذا كثيرة جدًا]
(1)
.
ولما كان أشرفُ الأجرام المشاهدة في السماوات والأرض هي الكواكبُ، وأشرفهن منظرًا، وأشرفهن معتبرًا الشمس والقمر، استدلَّ الخليلُ على بطلان إلهية شيءٍ منهنَّ، وذلك في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76] أي: الغائبين: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 77 - 79] فبيَّنَ بطريق البرهان القطعيّ أن هذه الأجرامَ المشاهدة من الكواكب والشمس والقمر لا يصلحُ شيءٌ منها للإلهية، لأنها كلها مخلوقة مربوبةٌ، مدبَّرة مسخَّرة في سيرها لا تحيد
(2)
عما خُلقتْ له، ولا تزيع
(3)
عنه إلا بتقدير مبيَّن
(4)
محرَّرٍ لا يضطرب ولا يختلف. وذلك دليلٌ على كونها مربوبة مصنوعة، مسخَّرة مقهورة، ولهذا قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وثبتَ في الصحيحين في صلاة الكسوف: من حديث ابن عمر
(5)
، وابن عباس
(6)
، وعائشة
(7)
، وغيرهم من الصحابة
(8)
: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ اللَّه عز وجل، وإنَّهما لا ينكسفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتهِ".
(1)
ما بين حاصرتين سقط من "ب".
(2)
في أ: لا محيد.
(3)
لا تزيغ: لا تميل.
(4)
في المطبوع: متقن.
(5)
البخاري (1042)، ومسلم (914).
(6)
البخاري (1046) و (1052) و (1059)، ومسلم (902).
(7)
البخاري (1046) و (1047) و (1058)، ومسلم (901).
(8)
ينظر جامع الأصول (6/ 166 - 190).
وقال البخاري في بدء الخلق
(1)
: حدَّثنا مُسَدَّد، حدَّثنا عبدُ العزيز بن المختار، حدَّثنا عبدُ اللَّه الدَّاناج، حدَّثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الشمسُ والقمرُ مُكوَّرانِ يومَ القيامة" انفرد به البخاري.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزَّار بأبسطَ من هذا السياق، فقال: حدَّثنا إبراهيمُ بن زياد البغدادي، حدَّثنا يونسُ بن محمد، حدَّثنا عبدُ العزيز بن المختار، عن عبد اللَّه الدَّاناج، سمعتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن زمنَ خالد بن عبد اللَّه القَسْري في هذا المسجد مسجدِ الكوفةِ، وجاء الحسنُ فجلسَ إليه، يُحدِّث
(2)
، قال: حدَّثنا أبو هريرة؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشمسَ والقمرَ ثورانِ في النَّارِ يومَ القيامة"
(3)
فقال الحسن: وما ذنبُهما؟ فقال: أُحدِّثُكَ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتقولُ: وما ذنبُهما؟ ثم قال البزار: لا يُروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ولم يروِ عبدُ اللَّه الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
وروى الحافظ أبو يعلى المَوْصليّ: من طريق زيد الرقاشي -وهو ضعيف- عن أنس، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الشَّمسُ والقمرُ ثوران عقيران في النار"
(4)
.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبو سعيد الأشج وعمر بن عبد اللَّه الأوديّ، قالا: حدَّثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن شيخ من بجيلَةَ، عن ابن عباس {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قال: يُكوِّرُ اللَّه الشمسَ والقمرَ والنجومَ يوم القيامة في البحر، ويبعثُ اللَّه ريحًا دبورًا، فتضرمها نارًا
(5)
.
فدلَّتْ هذه الآثارُ أنَّ الشمسَ والقمرَ من مخلوقاتِ اللَّه خلقَها
(6)
لما أراد، ثم يفعلُ فيها ما يشاء، وله الحجَّةُ الدامغة والحكمة البالغة، فلا يُسألُ عما يفعل لعلمه وحكمته، وقدرته ومشيئته النافذة، وحكمه الذي لا يُرد ولا يُمانَع ولا يُغالَب.
وما أحسنَ ما أورده الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في أول كتاب "السيرة"
(7)
من الشعر لزيد بن عمرو بن نفيل، في خلق السماء والأرض والشمس والقمر، وغير ذلك. قال ابن هشام هي لأمية بن أبي الصلت:[من الطويل]
(1)
صحيح البخاري (3200).
(2)
في ب: فحدَّث.
(3)
ذكره الطحاوي في مشكل الآثار (1/ 66 - 67) وإسناده صحيح.
(4)
رواه أبو يعلى في المسند (4116) وإسناده ضعيف جدًا، فيه: يزيد الرقاشي ضعيف، ودُرُست بن زياد: منكر الحديث.
(5)
ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 221) طبعة دار الأندلس بيروت.
(6)
في ب: خلقها اللَّهُ.
(7)
السيرة النبوية؛ لابن هشام (1/ 227 - 229).
إلى اللَّهِ أُهدي مدحتي وثَنائيا
…
وقوْلًا رَصِيْنًا
(1)
لا يني الدَّهرَ باقيا
إلى الملكِ الأعلى الذي ليسَ فوقَه
…
إلَهٌ ولا ربٌّ يكونُ مُدَانيا
ألا أيُّها الإنسانُ إيّاك والرَّدى
…
فإنَّك لا تُخفي من اللَّه خَافيا
وإياكَ لا تجعلْ معَ اللَّهِ غيره
…
فإنّ سبيلَ الرُّشْدِ أصبح بادِيا
حنَانيْكَ إنَّ الجِن
(2)
كانت
(3)
رجاءَهم
…
وأنتَ إلَهي ربُّنا ورَجائيا
رضيتُ بك اللّهم ربًّا فلن أرَى
…
أدينُ إلَهًا غيرك اللَّه ثانيا
وأنتَ الذي من فضلِ مَنٍّ ورحمةٍ
…
بعثتَ إلى موسى رَسُولًا مُناديًا
فقلت له: يا اذهب
(4)
وهرون فادعُوَا
…
إلى اللَّهِ فرعونَ الذي كانَ طاغيا
وقُولا له أأنت سوَّيتَ هذه
(5)
…
بلا وتدٍ حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له أأنتَ رفّعْتَ هَذِهِ
…
بلا عَمدٍ أرْفِقْ إذًا بكَ بَانيا
وقولا له أأنتَ سوّيتَ وَسْطها
…
مُنيرًا إذا ما جنَّه اللَّيْلُ هَادِيا
وقُولا له: منْ يرسلُ الشَّمْسَ غُدْوةً
…
فيُصبح ما مسَّتْ منَ الأرضِ ضَاحِيا
وقولا له: منْ يُنبتُ الحبَّ في الثَّرى
…
فيُصبح منه البَقْلُ يهتزُّ رَابيا
ويُخرجُ منه حبَّهُ في رؤوسِه
…
وفي ذاكَ آياتٌ لمنْ كانَ واعِيا
وأنتَ بفضل منكَ نَجيّتَ يُونُسًا
…
وقد باتَ في أضْعافِ حُوْتِ لياليا
(6)
وإني وإنْ
(7)
سبّحتُ باسمك ربَّنا
…
لأُكْثِرَ إلا ما غفرتَ خَطائيا
فربَّ العِبَادِ ألقِ سَيْبًا ورحمةً
…
عليَّ وباركْ في بَنيَّ ومَالِيا
(8)
فإذا عُلم هذا، فالكواكبُ التي في السماء من الثوابت والسيَّارات الجميع مخلوقةٌ منذ خلقها اللَّه تعالى، كما قال:{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12].
(1)
في ب: رضيًّا.
(2)
في السيرة: الحنّ؛ بالحاء. وفي اللسان: الحنُّ: بالكسر، حيٌّ من الجن، يُقال: منهم الكلاب السود البهم، وقيل: ضرب من الجن.
(3)
في الديوان: كنت رجاءهم.
(4)
يا اذهبْ: على تقدير: يا هذا اذهبْ. وفي المطبوع: اذهبْ.
(5)
المراد بـ هذه: الأرض.
(6)
أضعاف حوت: جوف الحوت.
(7)
في الديوان والمطبوع: ولو.
(8)
سَيْبًا: عطاء.
وأما ما يذكره كثيرٌ من المفسرين
(1)
في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراودَاها على نفسها، فأبتْ إلا أن يعلِّماها الاسم الأعظم، فعلَّماها، فقالتْه، فرُفعتْ
(2)
كوكبًا إلى السماء، فهذا أظنُّه من وضع الإسرائيليِّين، وإن كان قد أخرجَه كعبُ الأحبار، وتلقَّاه عنه طائفةٌ من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية والتَّحديث عن بني إسرائيل.
وفد روى الإمام أحمد
(3)
، وابن حبَّان في "صحيحه"
(4)
: في ذلك حديثًا، رواه أحمد عن يحيى بن أبي بُكير، عن زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرَ القِصَّةَ بطولها. وفيه:"فمثِّلَتْ لهما الزهرةُ امرأةً من أحسن البشر، فجاءَتْهما، فسألاها نفسها. . " وذكرَ القصة
(5)
.
وقد رواه عبد الرزاق في "تفسيره"
(6)
عن الثوري، عن موسى بن عُقْبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار، به. وهذا أصحُّ وأثبتُ.
وقد روى الحاكم في "مستدركه"، وابن أبي حاتم في "تفسيره": عن ابن عباس. . فذكرَه، وقال فيه: وفي ذلك الزمان امرأة حسنُها في النساء كحُسْن الزهرة في سائر الكواكب. . وذكرَ تمامه
(7)
. وهذا أحسنُ لفظٍ روي في هذه القصة، واللَّه أعلم.
وهكذا الحديثُ الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار: حدَّثنا محمد بن عبد الملك الواسطي، حدَّثنا يزيد ابن هارون، حدَّثنا مبشر بن عُبيد، عن يزيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدَّثنا عمرو ابن عيسى حدَّثنا عبد الأعلى، حدثنا إبراهيمُ بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكرَ سُهيلًا فقال: "كان عشَارًا ظلوما، فمسَخه اللَّه شهابًا"
(8)
ثم قال: لم يروه عن يزيد بن أسلم إلا
(1)
انظر تفسير الطبري (1/ 362 - 364).
(2)
في ب: فرجعتْ كوكبًا في السماء.
(3)
في المسند (2/ 134).
(4)
ابن حبان (6186).
(5)
إسناده ضعيف ومتنه باطل، وهو من قصص كعب الأحبار المنقولة عن كتب يهود.
(6)
تفسير عبد الرزاق (1/ 53) ورواه الطبري (1/ 501 - 502) وابن كثير في التفسير (1/ 174) وقال: فهذا أصح وأثبت إلى عبد اللَّه بن عمر، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل.
(7)
المستدرك (4/ 607 - 608) وصححه، وتعقبه الذهبي فقال: وتركُ حديث يحيى من المحالات التي يردُّها العقل، قال النسائي: متروك. وقال أبو حاتم: منكر الحديث.
(8)
كما في كشف الأستار (903) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 88): رواه البزار وضعَّفه، لأن في روايته إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو متروك، وفي الأخرى مُبَشِّر بن عُبيد، وهو متروك أيضًا.
مبشر بن عبيد، وهو ضعيف الحديث، ولا عن عمرو بن دينار إلا إبراهيم بن يزيد وهو لَيِّن الحديث.
وإنما ذكرناه على ما فيه من عِلَّة، لأنا لم نحفظْه إلا من هذين الوجهين.
قلت: أما مُبَشِّرُ بن عُبيد القرشي، أبو حفص الحمصي، وأصلُه من الكوفة، فقد ضعَّفه الجميع
(1)
، وقال فيه الإمام أحمد
(2)
والدارقطني
(3)
: كان يضعُ الحديثَ ويكذبُ.
وأما إبراهيم بن يزيد هذا فهو الخوزيّ، وهو ضعيفٌ باتفاقهم، قال فيه أحمد
(4)
والنسائي
(5)
: متروك. وقال ابن مَعين
(6)
: ليس بثقة وليس بشيء، وقال البخاريُّ
(7)
: سكتوا عنه. وقال أبو حاتم وأبو زُرْعة
(8)
: منكرُ الحديث ضعيف.
ومثلُ هذا الإسناد لا يثبتُ به شيء بالكُلِّية: وإذا حسَّنا
(9)
الظنَّ قلنا: هذا من أخبار بني إسرائيل، كما تقدَّم من رواية ابن عمر عن كعبِ الأحبار. ويكونُ من خرافاتهم التي لا يُعوَّلُ عليها، واللَّه أعلم.
* * *
الكلام على المَجَرَّة وقَوْس قُزَح
قال أبو القاسم الطبراني
(10)
: حدَّثنا عليُّ بن عبد العزيز، حدَّثنا عارمُ أبو النعمان، حدَّثنا أبو عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: أنَّ هرقلَ كتبَ إلى معاويةَ، وقال: إنْ كان قد بقيَ فيهم شيء من النبوة فسَيُخْبرُني عما أسألُهم عنه. قال: فكتب إليه يسألُه عن المجرَّة، وعن القوس، وعن البقعة التي لم تُصبها الشَّمْسُ إلا ساعة واحدةً. قال: فلما أتى معاويةَ الكتابُ والرسولُ، قال: إنَّ هذا لشيءٌ ما كنتُ آبَهُ له أن أسألَ عنه إلى يومي هذا؟ منْ لهذا؟ قيل: ابن عباس، فطوى معاويةُ كتابَ هرقل، فبعثَ به إلى ابن عباس، فكتبَ إليه: إنَّ القوسَ أمانٌ لأهل الأرض من الغَرَق، والمجرَّة بابُ السماء الذي تنشقُّ
(11)
منه. وأما البقعةُ التي لم تُصِبْها الشَّمْسُ إلا ساعةً من النهار فالبحرُ الذي أُفرجَ عن بني إسرائيل. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه.
(1)
ينظر تهذيب الكمال (27/ 195 - 196).
(2)
العلل ومعرفة الرجال (1/ 382).
(3)
الضعفاء والمتروكون، الترجمة (500).
(4)
الجرح والتعديل 1/ الترجمة (480) وتهذيب الكمال (2/ 243).
(5)
الضعفاء والمتروكون، الترجمة (14).
(6)
تاريخ الدوري عن ابن معين (2/ 18).
(7)
تاريخه الكبير 1/ الترجمة (1058).
(8)
الجرح والتعديل 1/ الترجم (480).
(9)
في ب: أحسنا.
(10)
المعجم الكبير (10591).
(11)
وكذا في المعجم الكبير، وفي أ: ينشق، وفي ب: ينبثق.
فأما الحديث الذي رواه الطبراني
(1)
: حدَّثنا أبو الزِّنْباع -روح بن الفَرَج- حدَّثنا إبراهيم بن مَخْلد، حدَّثنا الفضلُ بن المختار، عن محمد بن مسلم الطَّائفي، عن ابن أبي نجيح، عن مُجاهد، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ!! إنِّي مُرْسلكَ إلى قوم أهل كتاب، فإذا سُئلتَ عن المجرَّة التي في السماء، فقل: هي لُعابُ حَيَّة، تحتَ العرشِ"، فإنه حديث منكر جدًا، بل الأشبهُ أنه موضوع
(2)
، وراويه الفضلُ بن المختار هذا أبو سهل البصري، ثم انتقلَ إلى مصر، قال فيه أبو حاتم الرازي
(3)
: هو مجهول حدَّث بالأباطيل. وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي
(4)
: منكر الحديث جدًا. وقال ابن عديّ
(5)
: لا يُتايع على أحاديثه لا متنًا ولا إسنادًا.
وقال اللَّه تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12 - 13] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وروى الإمام أحمد
(6)
: عن يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن شيخ من بني غِفَار، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ اللَّه يُنشئ السَّحابَ، فينطقُ أحسنَ النُّطقِ، ويضحكُ أحسنَ الضَّحكِ".
وروى موسى بن عُبيدة: عن سعد بن إبراهيم؛ أنه قال: إنَّ نُطْقَه الرَّعْدُ وضَحِكَهُ البرقْ
(7)
.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا هشامُ بن عُبيد اللَّه الرازي، عن محمد بن مسلم، قال: بلغنا أنَّ البرقَ مَلكٌ، له أربعةُ وجوه: وجهُ إنسانٍ، ووجهُ ثوْرٍ، ووجهُ نَسْرٍ، ووجهُ أسدٍ، فإذا مَصَعَ
(8)
بذنبهِ فذاك
(9)
البرق
(10)
.
(1)
المعجم الكبير (1754).
(2)
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 210) رقم (296).
(3)
العلل لابنه (2349)، وميزان الاعتدال (3/ 358).
(4)
ميزان الاعتدال (3/ 358).
(5)
الكامل (6/ 2024).
(6)
في المسند (5/ 435) وإسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر.
(7)
موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، لكن رواه أبو الشيخ في العظمة (723) من طريق سليمان بن داود الهاشمي -وهو ثقة- قال: سألنا إبراهيم بن سعد، فذكره.
(8)
مصع: مَصَعت الدَّابَّة بذنبها: حرَّكته وضربت به. ومصعَ البرقُ: لمع.
(9)
في ب: فذاك.
(10)
ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 622).
وقد روى الإمام أحمد
(1)
والترمذي
(2)
والنسائي
(3)
والبخاري في كتاب الأدب
(4)
والحاكم في "مستدركه"
(5)
من حديث الحجَّاج بن أرطاة، حدَّثني ابن مطر، عن سالم، عن أبيه، قال: كان رسولُ اللَّه إذا سمعَ الرعدَ والصَّواعقَ قال: "اللَّهُمَّ لا تقتلْنا بغضبكَ، ولا تُهْلكنا بعذابك، وعافِنا قبلَ ذلكَ"
(6)
.
وروى ابنُ جرير: من حديث ليث، عن رجل، عن أبي هريرة رفعَه، كان إذا سمعَ الرعدَ قال:"سبحانَ منْ يُسَبِّحُ الرّعدُ بحمدِه"(7).
وعن عليّ أنه كان يقول: سبحانَ منْ سَبَّحْتَ له. وكذا عن ابن عباس، والأسود بن يزيد، وطاووس، وغيرهم
(7)
.
وروى مالك
(8)
: عن عامرِ بن عبد اللَّه بن الزبير: أنه كانَ إذا سمعَ الرعدَ تركَ الحديثَ، وقال: سبحانَ منْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحمدِه والملائكةُ من خيفته، ويقول: إنَّ هذا وعيدٌ شديدٌ لأهلِ الأرض.
وروى الإمام أحمد
(9)
: عن أبي هريرة؛ أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربُّكم: لو أنَّ عبيدي أطاعُوني لأسقيتُهم المطرَ باللَّيل، وأطلعتُ عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتُهم صوتَ الرَّعْدِ. [وروى الطبراني عن ابن عبَّاس مرفوعًا: إذا سمعتُم الرعدَ] فاذكروا اللَّه، فإنه لا يُصيب ذاكرًا
(10)
. وكلُّ هذا مبسوطٌ في "التفسير"
(11)
وللَّه الحمدُ والمنَّة.
* * *
(1)
في مسنده (2/ 100).
(2)
في جامعه (3450).
(3)
في عمل اليوم والليلة (927) و (928).
(4)
الأدب المفرد (721).
(5)
المستدرك (4/ 286).
(6)
في إسناده أبو مطر، شيخ الحجاج بن أرطاة، وهو مجهول، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(7)
تفسير الطبري (7/ 360) وحديث أبي هريرة في إسناده رجل مبهم.
(8)
رواه مالك في الموطأ (2/ 992) وفيه: ثم يقول: إن هذا لوعيدٌ لأهل الأرض شديدٌ. وهو موقوف، من كلام عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنه.
(9)
في المسند (2/ 359) ورواه الحاكم في المستدرك (4/ 256) وصححه، وتعقبه الذهبي فقال: صدقة بن موسى الدقيقي؛ ضعفوه.
(10)
رواه الطبراني في الدعاء (982) وفي المعجم الكبير (11/ 164) وإسناده ضعيف، فيه يحيى بن كثير، وعبد الكريم أبو أمية؛ ضعيفان. وانظره في المجمع (10/ 136).
وما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(11)
انظر تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ ابن كثير (2/ 622 - 623).
باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم عليهم السلام
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5].
وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206].
وفال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]، وقال تعالى:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 164 - 166]. وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] وقال تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 42]، وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1] وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 25 - 26].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21 - 22].
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
والآيات في ذكر الملائكة كثيرة جدًا، يصفُهم تعالى بالقوة في العبادة، وفي الخَلْق وحسن المنظر، وعظمة الأشكال، وقوة التشكُّل
(1)
في الصور المتعدِّدة، كما قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 77 - 78] الآيات، فذكرنا في "التفسير"
(2)
ما ذكرَه غيرُ واحد من العلماء، من أن الملائكة تَبَدَّوْا لهم في صورة شبابٍ حِسَانٍ امتحانًا واختبارًا، حتى قامت على قوم لوط الحجَّة، وأخذَهم اللَّه أخذَ عزيز مقتدر.
وكذلك كان جبريلُ يأتي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في صفاتٍ متعدِّدة، فتارةً يأتي في صورة دِحْيةَ بن خليفة الكلْبيِّ، وتارةً في صورة أعرابيٍّ، وتارةً في صورتِه التي خُلِقَ عليها، له ستمئة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما رآه على هذه الصفة مرتين، مرَّة منهبطًا من السماء إلى الأرض، وتارة عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وهو قوله تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 5 - 8] أي: جبريل كما ذكرنَاه عن غير واحد من الصحابة، منهم: ابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو ذر، وعائشة {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9 - 10] أي: إلى عبد اللَّه محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 13 - 17].
وقد ذكرنا في أحاديث
(3)
الإسراء في سورة "سبحان" أنَّ سدرةَ المنتهى في السماء السابعة. وفي رواية: في السادسة، أي: أصلُها وفروعها في السابعة. "فلما غشيها من أمر اللَّه ما غشيَها" قيل: غشيَها نورُ الرب جل جلاله وقيل: غشيها فراش من ذهب. وقيل: غشيَها ألوانٌ متعدِّدة كثيرة غير منحصرة. وقيل: غشيَها الملائكة مثل الغربان. وقيل: غشيها من اللَّه
(4)
أمرٌ فلا يستطيعُ أحدٌ أن ينعتَها. أي: من حسنها وبهائها.
(1)
في المطبوع: الشكل.
(2)
تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ ابن كثير (2/ 558).
(3)
المصدر السابق (3/ 6 - 31).
(4)
في المطبوع: من نور اللَّه تعالى.
ولا منافاة بين هذه الأقوال، إذ الجميع ممكنٌ حصوله في حال واحدة.
وذكرنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ثم رُفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نَبْقُها كالقلال". وفي رواية: "كقِلال هَجَرَ، وإذا ورقُها كآذان الفيلة، وإذا يخرجُ من أصلِها نهران باطنان، ونهران ظاهران؛ فأما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات".
وتقدَّم الكلامُ على هذا في ذكر خلق الأرض
(1)
وما فيها من البحار والأنهار. وفيه: "ثم رُفعَ لي البيتُ المعمورُ، وإذا هو يدخلُه في كلِّ يومٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ ثم لا يعودون إليه آخرَ ما عليهم"
(2)
.
وذكر أنه وجد إبراهيمَ الخليل عليه السلام مُسْنِدًا
(3)
ظهرَه إلى البيت المعمور.
وذكرنا
(4)
وجهَ المناسبة في هذا: أن البيت المعمور هو في السماء السابعة بمنزلة الكعبة في الأرض. وقد روى سفيانُ الثوريُّ، وشعبةُ، وأبو الأحوص: عن سماك بن حرب، عن خالد بن عَرْعرةَ، أن ابن الكَوَّاء سألَ عليَّ بن أبي طالب عن البيت المعمور، فقال: هو مسجد في السماء، يُقالُ له "الضُّراح" وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمتُه في السماء كحرمةِ البيت في الأرض، يُصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألفًا من الملائكة، لا يعودون فيه أبدًا
(5)
.
وهكذا روى عليُّ بن ربيعة وأبو الطفيل، عن عليِّ، مثله
(6)
.
وقال الطبراني
(7)
: حدثنا الحسنُ بن علويه القطَّان، حدَّثنا إسماعيلُ بن عيسى العطَّار، حدَّثنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة، حدَّثنا ابن جُرَيْج، عن صفوان بن سليم، عن كريب، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "البيتُ المعمورُ في السماء يُقال له: الضُّرَاحُ، وهو على مثل البيت الحرام بحياله، لو سقط لسقط عليه، يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك، ثم لا يرونه قطُّ، فإن له في السماء حرمة على قدر حرمة مكة". يعني في الأرض.
(1)
تقدم الحديث وتخريجه (ص 46).
(2)
حديث الإسراء بعد مجاوزته صلى الله عليه وسلم السماء السابعة، وبلوغه سدرة المنتهى. . . أخرجه (3) البخاري في الصلاة (349) ومسلم في الإيمان (162).
(3)
في المطبوع: مستندًا.
(4)
انظر تفسيره (4/ 282).
(5)
ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 282).
(6)
المصدر السابق (4/ 282).
(7)
في المعجم الكبير (12185)، وفي ألفاظه خلاف يسير، وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 114) وفيه إسحاق بن بشر -أبو حذيفة- وهو متروك. وفيه عنعنة ابن جريج.
وهكذا قال العُوفيُّ: عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والربيع بن أنس، والسُّدي، وغير واحد
(1)
.
وقال قتادةُ: ذُكِرَ لنا أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: "هل تدرون ما البيتُ المعمورُ؟ قالوا: اللَّه ورسولُه أعلم. قال: فإنه مسجدٌ في السماء بحيال الكعبة، لو خرَّ لخرَّ عليها، يُصلِّي فيه كلَّ يومٍ سبعون ألف مَلكٍ، إذا خرجوا منه لم يعودوا آخرَ ما عليهم"
(2)
.
وزعمَ الضَّحاكُ أنه تعمره طائفةٌ من الملائكة يُقال لهم الجِنُّ، من قبيلة إبليس
(3)
-لعنه اللَّه- كأنه يقول: سدنته وخدَّامه منهم. واللَّه أعلم.
وقال آخرون: في كل سماء بيت يعمره ملائكتُه بالعبادة فيه، ويفدون إليه بالنَّوبة والبدل، كما يعمرُ أهلُ الأرض البيتَ العتيقَ بالحجِّ في كل عام، والاعتمار في كل وقت، والطواف والصلاة في كل آن.
قال سعيدُ بن يحيى الأموي في أوائل كتابه "المغازي": حدَّثنا أبو عبيد في حديث مجاهد "أن الحَرَمَ حرام، مناه -يعني قدره- من السماوات السبع والأرضين السبع، وأنه رابع أربعة عشر بيتًا، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت، لوسقطت سقطَ بعضُها على بعض".
ثم روى عن مجاهد أنه قال: مناه؛ أي: مقابله، وهو حرف مقصور.
ثم قال: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن أبي سليمان -مؤذِّن الحجَّاج- سمعتُ عبدَ اللَّه بن عمرو يقول: إنَّ الحرمَ لمُحرَّمٌ في السماوات السبع، مقدارُه من الأرض، وإنَّ بيت المقدسِ يُقَدَّسُ في السماواتِ السبع، مقدارُه من الأرض. قال بعض الشعراء:[من الكامل]
إنّ الذي سَمكَ السّماء بَنى لنا
…
بَيْتًا دَعائمهُ أشدُّ وأطْولُ
واسمُ البيت الذي في السماء الدنيا بيتُ العزة، واسم الملك الذي هو مُقدَّم الملائكة فيها إسماعيل. فعلى هذا يكون السبعون ألفًا من الملائكة الذين يدخلون في كل يوم إلى البيت المعمور ثم لا يعودون إليه آخرَ ما عليهم، أي: لا يحصلُ لهم نوبة فيه إلى آخر الدهر، يكونون من سكان السماء السابعة وحدها، ولهذا قال تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أسودُ بن عامر، حدَّثنا إسرائيلُ، عن إبراهيمَ بن مُهَاجر، عن مُجاهد، عن مُورِّق، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون،
(1)
تفسير القرآن العظيم (4/ 282).
(2)
المصدر السابق (4/ 282).
(3)
المصدر السابق (4/ 282)،
أطّتِ السَّماءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ ما فيها موضعُ أربع أصابعَ إلا عليه مَلَكٌ ساجدٌ، لو علمتُم ما أعلمُ لضحكتُم قليلًا ولَبَكيْتُم كثيرًا، ولما تلذَّذْتُم بالنساء على الفُرُشات، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرونَ إلى اللَّه عز وجل"
(1)
. فقال أبو ذر: واللَّهِ لوددتُ أني شجرةٌ تُعْضدُ
(2)
.
ورواه الترمذي وابنُ ماجهَ من حديث إسرائيل، فقال الترمذي: حسن غريب ويُروى عن أبي ذر موقوفًا (2).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدَّثنا حُسين بن عرفةَ المصري، حدَّثنا عُروةُ بن مروان العِرْقي، حدَّثنا عبيد اللَّه بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما في السماواتِ السبع موضعُ قَدَمٍ ولا شِبْرٍ ولا كفٍّ إلا وفيه مَلَكٌ قائم، أو مَلكٌ ساجدٌ
(3)
، أو ملَكٌ راكعٌ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعًا: ما عبدناك حقَّ عبادتِكَ إلا أنّا لا نُشرِكُ
(4)
بكَ شيئًا"
(5)
.
فدلَّ هذان الحديثان على أنَّه ما من موضع في السماواتِ السبع إلا وهو مشغول بالملائكة، وهم في صنوف العبادات، منهم من هو قائم أبدًا، ومنهم من هو راكعٌ أبدًا، ومنهم من هو ساجدٌ أبدًا، ومنهم من هو في صنوفٍ أُخر. اللَّهُ أعلمُ بها. وهم دائبونَ في عبادتهم وتسبيحِهم وأذكارِهم وأعمالِهم التي أمرَهم اللَّه بها، وهم منازلُ عندَ ربِّهم، كما قال تعالى:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 164 - 166]. وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا تصُفُّونَ كما تصفُّ الملائكةُ عندَ ربّهم". قالوا: وكيفَ يصفُّون [عند ربِّهم]
(6)
قال: "يُكمِّلونَ الصفوفَ الأُوَل، ويتراصُّون في الصف"
(7)
. وقال: "فُضِّلنا على الناس بثلاث. جُعِلتْ لنا الأرضُ مَسْجدًا، وتُرْبَتُها لنا طَهورًا، وجُعلتْ صفوفُنا كصفوفِ المَلائكة"
(8)
.
(1)
رواه أحمد في المسند (5/ 173) والترمذي في الجامع (2312) في الزهد، وابن ماجه في سننه (4190) وهو حديث حسن، دون قوله: واللَّه لوددت أني شجرة تعضد، فهي مدرجة من قول أبي ذر في الزهد، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 52) والحاكم في المستدرك (4/ 544) وصححه، ووافقه الذهبي.
وتجأرون: ترفعون أصواتكم بالدعاء. تُعضد: تُقطع.
(2)
هذه الجملة مدرجة من كلام أبي ذر.
(3)
في المعجم الكبير (2/ 184): أو ملكٌ راكعٌ، أو مَلكٌ ساجدٌ.
(4)
في المعجم الكبير: إلا أنَّا لم نُشرك.
(5)
أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 184) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 52) وقال: فيه عروة بن مروان. قال الدارقطني: كان أميا وليس بالقوي في الحديث. ميزان الاعتدال (3/ 64).
(6)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(7)
أخرجه مسلم في صحيحه (430) في الصلاة، وأبو داود في سننه (661) في الصلاة، والنسائي في سننه (2/ 92) في الإمامة.
(8)
أخرجه مسلم في صحيحه (522)(4) في المساجد، عن حذيفة رضي الله عنه.
وكذلك يأتونَ يومَ القيامةِ بين يدي الربِّ جل جلاله صفوفًا كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] ويقفونَ صفوفًا بين يديْ ربِّهم عز وجل يوم القيامة، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]. والمرادُ بالروح هاهنا: بنو آدم، قاله ابن عباس والحسنُ وقتادة
(1)
. وقيل: ضربٌ من الملائكة يُشبهون بني آدم في الشكل، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمش. وقيل: جبريل، قاله الشعبيُّ، وسعيد بن جُبَيْر، والضحَّاك. وقيل: مَلَكٌ يُقال له: الروح، بِقَدْرِ جميع المخلوقات. قال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38] قال: هو مَلكٌ من أعظم الملائكة خَلْقًا
(2)
.
وقال ابنُ جرير
(3)
: حدَّثني محمد بن خلف العسقلاني، حدَّثنا روَّاد بن الجرَّاح، عن أبي حمزةَ، عن الشعبيِّ، عن علقمةَ، عن ابن مسعود، قال: الرُّوح في السماء الرابعة، هو أعظم من السماواتِ ومن الجبالِ، ومن الملائكةِ، يُسبِّح كلَّ يومٍ اثنيْ عشرَ ألف تسبيحةٍ، يخلقُ اللَّه من كُلِّ تسبيحةٍ مَلَكًا من الملائكة، يجيءُ يومَ القيامة صفًّا وحدَه. وهذا غريب جدًا.
وقال الطبراني
(4)
: حدَّثنا محمد بن عبد اللَّه بن عرس المصريّ، حدَّثنا وَهْبُ اللَّه بن رزق أبو هُبيرة، حدَّثنا بِشْرُ بن بكْر، حدَّثنا الأوزاعيُّ، حدَّثني عطاء، عن عبد اللَّه بن عباس، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ للَّه مَلكًا لو قيلَ له التقمِ السماواتِ والأرضينَ بلقمةٍ واحدةٍ لفَعلَ، تسبيحُه: سبحانَكَ حيثُ كنتَ" وهذا أيضًا حديث غريب جدًا، وقد يكون موقوفًا.
وذكرنا في صفةِ حمَلَة العرش: عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُذِنَ لي أنْ أُحدِّثَ عن مَلَكِ من ملائكةِ اللَّه من حملةِ العَرْش، إنَّ ما بينَ شحمة أذنهِ إلى عاتقهِ مسيرةُ سبعمئة عام". رواه أبو داود
(5)
، وابن أبي حاتم، ولفظه:"مَخْفقُ الطَّيْرِ سبعمئة عام"
(6)
.
وقد وردَ في صفة جبريلَ عليه السلام أمرٌ عظيمٌ، قال اللَّه تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]. قالوا: كان من شدة قوَّتهِ أنه رفعَ مدائنَ قوم لوط، وكُنَّ سبعًا، بمن فيها من الأمم، وكانوا قريبًا من
(1)
تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (4/ 549).
(2)
المصدر السابق (4/ 549).
(3)
في تفسيره (12/ 415).
(4)
في المعجم الكبير (11/ 195) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 80) وقال: تفرَّد به وَهْبُ اللَّه بن رزق، وهو مجهول.
(5)
في سننه (4727) في السنة، وأخرجه أبو يعلى في المسند (6619) وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 135) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
(6)
تفسير ابن كثير (4/ 489) وقال: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات.
أربعمئة ألف، وما معهم من الدوابِّ والحيوانات، وما لتلكَ المدنِ من الأراضي والمعتملات والعمارات، وغير ذلك. رفعَ ذلكَ كلَّه على طرفِ جناحه حتى بلغَ بهنَّ عَنانَ السماءِ، حتى سمعتِ الملائكةُ نُباح كلابهم، وصياح ديكتهم، ثم قلبَها، فجعلَ عاليَها سافلَها، فهذا هو شديدُ القوى.
وقوله {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] أي: ذو خُلُقٍ حسن وبَهاءٍ وسَناءٍ، كما قال في الآية الأخرى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] أي: جبريل، رسولٌ من اللَّه، كريمٌ: أي: حسن المنظر، ذي قُوَّة: أي: له قوَّةٌ وبأسٌ شديد {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] أي: له مكانةٌ ومنزلةٌ عالية رفيعة عند اللَّه ذي العرش المجيد. {مُطَاعٍ ثَمَّ} [التكوير: 21] أي: مُطاعٍ في الملأ الأعلى {أَمِينٍ} [التكوير: 21] أي: ذي أمانةٍ عظيمةٍ، ولهذا كان هو السفير بين اللَّه وبين أنبيائه عليهم السلام، الذي ينزلُ عليهم بالوحي، فيه الأخبارُ الصَّادقةُ، والشرائعُ العادلة. وقد كان يأتي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وينزلُ عليه في صفاتٍ متعدِّدة كما قدَّمنا. وقد رآه على صفته التي خلقَه اللَّه عليها مرتين، له ستمئة جناح، كما روى البخاري
(1)
: عن طَلْقِ بن غَنَّام عن زائدةَ، عن الشَّيْبانيّ، قال: سألتُ زِرًّا عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 9 - 10]. فقال: حدَّثنا عبدُ اللَّه -يعني ابنَ مسعود- أنَّ محمّدًا
(2)
صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ له ستمئة جناح.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن آدم، حدَّثنا شريك، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريلَ في صورته وله ستمئة جناح، كلُّ جناحٍ منها قد سدَّ الأفقَ، يسقط من جناحه من التهاويل، من الدرِّ والياقوت ما اللَّه به عليم
(3)
.
وقال أحمد أيضًا
(4)
: حدَّثنا حسن بن موسى، حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة، عن عاصِم بن بَهْدلةَ، عن زِرِّ بن حُبَيْش، عن ابن مسعود في هذه الآية:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13 - 14] قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ جبريلَ وله ستمئة جناح، يَنْتَثِرُ من ريشِه التَّهاويلُ، الدُّرُّ والياقُوت".
وقال أحمد
(5)
: حدَّثنا زيدُ بن الحباب، حدَّثنا الحسينُ، حدَّثني عاصمُ بن بَهْدلة، سمعتُ شقيقَ بن سَلَمة، يقولُ: سمعتُ ابن مسعود يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ جبريلَ على سِدْرة المُنْتهى، وله
(1)
في صحيحه (4857) في التفسير.
(2)
في البخاري (أنه محمد صلى الله عليه وسلم).
(3)
لم أجده في المسند بهذا الإسناد، وإنما أخرجه (1/ 395) رقم (3748) عن حجَّاج، عن شريك، عن عاصم، به. وأخرجه (1/ 407) رقم (3862) عن زيد بن حباب، عن حسين، عن عاصم، عنه، نحوه.
وانظر أطراف المسند، للحافظ ابن حجر (4/ 158) رقم (5550) طبعة دار ابن كثير ودار الكلم الطيب (1414 هـ). والتهاويل: الأشياء المختلفة الألوان.
(4)
في المسند (1/ 460) وأخرجه النسائي في الكبرى (11542).
(5)
في المسند (1/ 407).
سِتُّمئةِ جَناح" قال: فسألتُ عاصمًا عن الأجنحة؟ فأبى أن يُخبرني، قال: فأخبرني بعضُ أصحابه: أنَّ الجناحَ ما بينَ المَشْرقِ والمغربِ.
وهذه أسانيد جيدة قوية انفرد بها أحمد.
وقال أحمد
(1)
: حدَّثنا زيدُ بن الحباب، حدَّثني حسين، حدَّثني حُصَيْن، حدَّثني شقيق، سمعتُ ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريلُ في خُضرٍ
(2)
مُعلَّقٍ به الدُّرُّ". إسناده صحيح.
وقال ابن جرير
(3)
: حدَّثنا ابن بزيع البغدادي، قال: حدَّثنا إسحاق بن منصور، قال: حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قال: رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه حلَّتا رفرف قد ملأ ما بينَ السماء والأرض. إسناد جيد قوي.
وفي الصحيحين
(4)
: من حديث عامر الشعبيّ، عن مسروق، قال: كنتُ عند عائشةَ فقلتُ: أليسَ اللَّه يقولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فقالت: أنا أوَّلُ هذه الأمة سألَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عنها، فقال:"إنما ذاك جبريلُ" لم يره في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مرتين، رآه منهبطًا من السماء إلى الأرض، سادًّا عظمُ خلقه ما بينَ السماء والأرض.
وقال البخاريُّ
(5)
: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا عمرُ بن ذرّ (ح) وحدَّثني يحيى بن جعفر، حدَّثنا وكيعٌ، عن عمرَ بن ذرٍّ، عن أبيه، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ألا تزورنا أكثرَ مما تزورُنا؟ قال: فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآية".
وروى البخاريُّ
(6)
: من حديث الزهريّ، عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن ابن عباس، قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان، فيدارسُه القرآنَ، فلرسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الرِّيح المرسلة.
وقال البخاري
(7)
: حدَّثنا قُتَيْبة، حدَّثنا اللَّيْثُ، عن ابن شهاب، أن عمرَ بن عبد العزيز أخَّر العصرَ شيئًا، فقال له عروةُ: أما إنَّ جبريلَ قد نزلَ فصلَّى أمامَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالَ عمر: أعلمُ ما تقولُ يا عروةُ: قال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقولُ: سمعتُ أبا مسعود يقولُ: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
في المسند (1/ 407).
(2)
معنى: في خُضْرٍ: في ثياب خضر.
(3)
في تفسيره (11/ 510).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (4855) في التفسير، ومسلم (177) في الإيمان.
(5)
في صحيحه (3218) في بدء الخلق.
(6)
في صحيحه (6) في بدء الوحي.
(7)
في صحيحه (3221) في بدء الخلق.
يقول: "نزلَ جبريلُ فأمَّني، فصلَّيْتُ معه، ثمَّ صلَّيتُ معه، ثم صلَّيتُ معه، ثم صلَّيتُ معه، يحسبُ بأصابعه خمسَ صلواتٍ".
ومن صفة إسرافيل عليه السلام، وهو أحدُ حملةِ العرش، وهو الذي ينفخُ في الصُّور بأمر ربِّه نفخاتٍ ثلاثة: أولاهنَّ نَفْخةُ الفَزع، والثانية نَفخةُ الصَّعْق، والثالثة نَفْخةُ البَعْث، كما سيأتي بيانه في موضعه من كتابنا هذا بحول اللَّه وقوته وحسن توفيقه.
والصُّور: قَرْنٌ ينفخُ فيه، كلُّ دارة منه كما بين السماء والأرض، وفيه موضعُ أرواح العباد حينَ يأمرُه اللَّه بالنفخ للبعث، فإذا نفخَ تخرجُ الأرواحُ تتوهجُ فيقولُ الربُّ جل جلاله: وعِزَّتي وجَلالي لترجعنَّ كلُّ روحٍ إلى البَدنِ الذي كانت تعمُره في الدنيا، فتدخلُ على الأجساد في قبورها، فتدبُّ فيها كما يدبُّ السُّمُّ في اللَّديْغ، فتحيا الأجسادُ وتنشقُّ عنهم الأجداث، فيخرجونَ منها سِراعًا إلى مقام المحشر، كما سيأتي تفصيله في موضعه
(1)
.
ولهذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعمُ وصاحبُ القَرْنِ قد التقمَ القَرْنَ وحنَى جبهتَهُ وانتظرَ أن يُؤذَنَ له". قالوا: كيف نقولُ يا رسول اللَّه؟ قال: "قولوا حسْبُنا اللَّهُ ونعمَ الوكيل، على اللَّه توكَّلْنا". رواه أحمد والترمذي من حديث عطيَّة العوفيِّ، عن أبي سعيد الخدري
(2)
.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمشُ، عن سعد الطَّائيِّ، عن عطيَّةَ العوفيِّ، عن أبي سعيد، قال: ذكرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صاحبَ الصُّور فقال: عن يمينه جبريلُ، وعن يساره ميكائيلُ عليهم السلام.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني
(4)
: حدَّثنا محمد بن عبد اللَّه الحضرمي، حدَّثنا محمد بن عمر بن أبي ليلى، حدَّثني أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن. عباس، قال: بينا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه جبريلُ بناحيةٍ إذ انشقَّ أفقُ السَّماء، فأقبلَ إسرافيلُ
(5)
يدنو من الأرضِ ويتمايلُ، فإذا مَلَكٌ قد مَثُلَ بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إن اللَّه يأمرُكَ أن تختارَ بين نبيٍّ عَبْدٍ أو ملكٍ نبيٍّ. قال: فأشارَ جبريلُ إليَّ بيده: أنْ تواضعْ. فعرفتُ أنه لي ناصحٌ. فقلتُ: عبدٌ نبيٌّ. فعرجَ ذلكَ الملكُ إلى السماء. فقلتُ: يا جبريلُ: قد كنتُ أردْتُ أنْ أسألَكَ عن هذا، فرأيتُ منْ حَالِكَ ما شغلَني عن
(1)
النهاية للحافظ ابن كثير (1/ 273).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 7) والترمذي في الجامع (2433) وإسناده ضعيف، وله شواهد يتقوَّى بها، ذكرها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(11/ 317).
(3)
في المسند (3/ 10).
(4)
المعجم الكبير (11/ 379 - 380).
(5)
في المعجم: "فأخذ جبريل يدنو".
المسألةِ، فمَنْ هذا يا جبريلُ؟ فقال: هذا إسرافيل عليه السلام خلقَه اللَّه يومَ خلقَه بين يديْه صَافًّا قدميْه لا يرفعُ طَرْفهُ، بينه وبين الربِّ سبعون نورًا، ما منها من نورٍ يكادُ يدنو منه إلا احترقَ، بين يديه لوحٌ، فإذا أذنَ اللَّه في شيء من السماء أو في الأرض ارتفعَ ذلك اللَّوْحُ فضرب جبهتَه، فينظر، فإنْ كان من عملي أمرني به، وإنْ كان من عمل ميكائيلَ أمرَه به، وإن كان من عمل مَلَكِ الموت أمره به. فقلت: يا جبريل وعلى أيِّ شيءٍ أنت؟ قال: على الريح والجنود. قلت: وعلى أيِّ شيءٍ ميكائيلُ؟ قال: على النبات والقَطْر. قلتُ: وعلى أيِّ شيءٍ مَلَكُ الموت؟ قال: على قَبْضِ الأنْفُسِ، وما ظننتُ أنه نزل إلا لقيام السَّاعةِ، وما الذي رأيتَ منِّي إلا خوفًا من قيامِ السَّاعة. هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وفي صحيح مسلم
(1)
: عن عائشة؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: كان إذا قامَ من اللَّيل يُصلِّي يقول: "اللَّهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرض، عالمَ الغيبِ والشَّهادة، أنتَ تحكمُ بين عبادِكَ فيما كانوا فيه يختلفونَ، اهدني لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنكَ، إنَّكَ تهدي منْ تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ".
وفي حديث الصُّور: أن إسرافيلَ أول من يبعثه اللَّه بعد الصعق لينفخ في الصُّور
(2)
.
وذكر محمد بن الحسن النقَّاش: أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة فجُوزي بولاية اللوح المحفوظ. حكاه أبو القاسم السهيلي في كتابه "التعريف والإعلام بما أُبهم في القرآن من الأعلام"
(3)
.
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] عطفَها على الملائكة لشرفهما، فجبريلُ مَلَكٌ عظيم قد تقدَّم ذِكرُه. وأما ميكائيلُ، فموكَّل بالقَطْر والنبات، وهو ذو مَكانةٍ من ربّه عز وجل، ومن أشراف الملائكة المقرَّبين.
وقد قال الإمامُ أحمد
(4)
: حدَّثنا أبو اليمان، حدَّثنا ابنُ عيَّاش، عن عُمارة بن غَزيَّة الأنصاري؛ أنه سمع حُميد بن عُبيد مولى بني المُعلَّى يقولُ: سمعتُ ثابتًا البُناني يُحدِّثُ عن أنس بن مالك، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه قال لجبريلَ: "ما لي لم أرَ ميكائيلَ ضاحكًا قطُّ؟ فقال: ما ضحكَ ميكائيلُ منذ خُلقتِ النَّارُ"
(5)
.
(1)
(770) في صلاة المسافرين، وفيه قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته.
(2)
حديث الصُّور أخرجه البيهقي (668) في "البعث والنشور" والسيوطي في الدر المنثور (5/ 325) والطبراني (36) في المطولات، عن أبي هريرة. قال الحافظ ابن كثير: وهذا حديث مشهور، وهو غريب جدًا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة.
(3)
التعريف والأعلام؛ للسهيلي (ص 18) طبعة دار الكتب العلمية -بيروت-.
(4)
في المسند (3/ 224) وهو حسن بطرقه وشواهده.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 224)، وإسناده ضعيف.
فهؤلاء الملائكةُ المصرَّح بذكرهم في القرآن.
وفي الصِّحاح هم المذكورون في الدعاء النبويِّ "اللهم رب جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيل". فجبريلُ؛ ينزلُ بالهدى على الرسل لتبليغ الأمم. وميكائيلُ: موكَّل بالقَطْر والنبات اللَّذين يُخلق منهما الأرزاق في هذه الدار، وله أعوانٌ يفعلون ما يأمرهم به بأمرِ ربِّه، يصرفونَ الرِّياحَ والشَحابَ كما يشاءُ الربُّ جل جلاله، وقد روينا أنه ما من قطرةٍ تنزلُ من السماء إلا ومعها مَلَكٌ يُقَرِّرُها في موضعها من الأرض. وإسرافيلُ: مُوكَّل بالنفخ في الصُّور، للقيام من القبور، والحضور يوم البعث والنشور، ليفوزَ الشَّكُور، ويُجازى الكفور، فذاك ذنبه مغفور، وسعيه مشكور، وهذا قد صار عمله كالهباء المنثور، وهو يدعو بالويل والثبور. فجبريلُ عليه السلام يحصلُ مما هو
(1)
موكَّلٌ به الهدى، وميكائيلُ يحصلُ مما
(2)
هو موكّل به الرزق، وإسرافيلُ يحصلُ مما هو موكَّلٌ به النصر والجزاء.
وأما مَلَكُ الموت، فليس بمصرَّح باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصِّحاح، وقد جاء تسميتُه في بعض الآثار بعزرائيل واللَّه أعلم.
وقد قال اللَّه تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وله أعوانٌ يستخرجون روحَ العبد من جثَّته حتى تبلغَ الحلقومَ، فيتناولُها مَلَكُ الموت بيده، فإذا أخذَها لم يدَعُوها في يده طَرْفَةَ عَيْنٍ حتَّى يأخذوها منه فيلقوها في أكفان تليق بها، كما قد بُسط عند قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. ثم يصعدونَ بها، فإن كانت صالحةً فُتحتْ لها أبوابُ السماء وإلا غُلِّقَتْ دونَها، وأُلقيَ بها إلى الأرض، قال اللَّه تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61 - 62].
وعن ابن عبَّاس ومجاهد وغير واحد؛ أنهم قالوا: إنَّ الأرضَ بين يديْ مَلَكِ الموت مثل الطّسْتِ يتناولُ منها حيث يشاء، وقد ذكرنا أن ملائكة الموت يأتونَ الإنسانَ على حَسَبِ عملهِ، إنْ كان مؤمنًا أتاه ملائكةٌ بيضُ الوجوه، بيضُ الثياب، طَيبةُ الأرواح. وإن كان كافرًا فبالضدِّ من ذلك؛ عياذًا باللَّه العظيم من ذلك.
وقد قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا يحيى بن أبي يحيى المُقرئ، حدَّثنا عَمْرو بن شمر
(3)
، قال: سمعتُ جعفرَ بن محمّد، قال: سمعتُ أبي يقولُ: نظرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مَلَكِ الموتِ عندَ رأسِ
(1)
كذا في الأصول، وفي المطبوع: بما ينزل.
(2)
في المطبوع: بما.
(3)
في الأصول: سمر؛ والتصحيح من "المعجم الكبير"(4/ 220) و"تفسير القرآن العظيم"(3/ 565).
رجلٍ من الأنصار، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا مَلَكَ الموتِ ارفُقْ بصاحبي فإنه مؤمن، فقال مَلَكُ الموت: يا محمَّدُ! طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا فإنِّي بكلِّ مؤمنٍ رفيق، واعلم أنَّ ما في الأرض بَيْتَ مَدرٍ ولا شَعرٍ في برٍّ ولا بحرٍ، إلا وأنا أتصَفَّحُهم
(1)
في كلِّ يوم خمسَ مرَّاتٍ، حتى إني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، واللَّه يا محمَّد؛ لو أني أردتُ أن أقبضَ روحَ بعوضةٍ ما قدرتُ على ذلك حتى يكونَ اللَّه هو الآمر بقبضها. قال جعفرُ بن محمد: أي: هو الصادق. بلغني: يتصفَّحُهم عندَ مواقيتِ الصلاة، فإذا حضرَ عند الموتِ فإذا كان ممن يحافظُ على الصَّلاة دنا منه الملَكُ ودفعَ عنه الشيطانَ، ولقَّنه الملَكُ: لا إله إلا اللَّه محمَّد رسولُ اللَّه. في تلك الحال العظيمة
(2)
.
هذا حديث مرسلٌ وفيه نظر.
وذكرنا في حديث الصور من طريق إسماعيل بن رافع المدني القاصِّ، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد
(3)
، عن محمد بن كعب القُرَظيّ، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . الحديث بطوله. وفيه: ويأمرُ اللَّه إسرافيل بنفْخةِ الصَّعْقِ، فينفخُ نفخةَ الصَّعْق، فيَصْعقُ أهلُ السماوات وأهلُ الأرض إلا منْ شاء اللَّه، فإذا هم خَمدُوا، جاء مَلَكُ الموت إلى الجبَّار عز وجل، فيقول: يا ربّ قد ماتَ أهلُ السماواتِ والأرض إلا من شئتَ. فيقول اللَّه -وهو أعلم بمن بقي-: فمن بقيَ؟ فيقولُ: بقيتَ أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، ويقيتْ حملة عرشك، وبقيَ جبريلُ وميكائيلُ. فيقول: ليمتْ
(4)
جبريلُ وميكائيلُ. فيُنطِقُ اللَّهُ العرشَ، فيقولُ: يا رب! يموت جبريل وميكائيل؟! فيقول: اسكتْ فإني كتبتُ الموتَ على كلِّ منْ كان تحتَ عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملَكُ الموتِ إلى الجَبَّارِ عز وجل، فيقولُ: يا ربّ قد ماتَ جبريلُ وميكائيل. فيقول اللَّه -وهو أعلم بمن بقي- فمنْ بقيَ؟ فيقولُ: بقيتَ أنتَ الحيَّ الذي لا يموتُ، وبقيت حملةُ عرشك، وبقيتُ أنا، فيقول اللَّه: لتمت حملة عرشي، فثموتُ. ويأمرُ اللَّه العرشَ فيقبضُ الصُّورَ من إسرافيل، ثم يأتي مَلَكُ الموت فيقولُ: يا ربِّ قد مات حملة عرشكَ، فيقول اللَّه: -وهو أعلم بمن بقي-: فمن بقي؟ فيقولُ: بقيتَ أنتَ الحيَّ الذي لا يموتُ، وبقيتُ أنا، فيقول اللَّه: أنتَ خلْقٌ من خَلْقي، خلقتُك لما أردتُ، فمتْ، فيموت. فماذا لم يبق إلا اللَّه الواحد القهَّار الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد، فكان آخرًا كما كان أوَّلًا. . وذكر تمام الحديث بطوله. رواه الطبراني
(1)
في المطبوع: أتفحصهم. وفي المعجم الكبير: أتصفحهم في كل يوم خمس مرات.
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 220) وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 326) وقال: وفيه عمرو بن شمر الجعفي، ضعيف جدًا، والحارث بن الخزرج مجهول.
وبيت المَدّر: مبني من الطين.
(3)
في المطبوع: محمد بن زياد.
(4)
في أ: فيمت.
وابن جرير والبيهقي
(1)
، ورواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب "الطوالات"
(2)
وعنده زيادة غريبة، وهي قوله: فيقول اللَّه له: "أنت خَلْقٌ من خَلْقي خلقتُك لما أردتُ، فمتْ موتًا لا تحيا بعده أبدًا".
ومن الملائكة المنصوص على أسمائهم في القرآن: هاروت وماروت في قول جماعة كثيرة من السَّلف. وقد ورد في قصتهما وما كان من أمرهما آثار كثيرة غالبُها إسرائيليات.
وروى الإمام أحمد حديثًا مرفوعًا عن ابن عمر وصحَّحه ابن حبان في "تقاسيمه"
(3)
. وفي صحَّته عندي نظر، والأشبه أنه موقوف على عبد اللَّه بن عمر، ويكون مما تلقَّاه عن كعب الأحبار، كما سيأتي بيانه، واللَّه أعلم. وفيه: أنه تمثلت لهما الزهرة امرأةً من أحسن البشر.
وعن عليٍّ وابن عبَّاس وابن عمر أيضًا: أن الزهرة كانت امرأة، وأنهما لما طلبا منها ما ذُكِر أبت إلا أن يُعلِّماها الاسمَ الأعظمَ، فعلَّماها، فقالته، فارتفعت إلى السماء، فصارتْ كوكبًا
(4)
.
وروى الحاكم في "مستدركه": عن ابن عباس، قال: وفي ذلك الزمان امرأة حسنُها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب
(5)
. وهذا اللفظ أحسنُ ما ورد في شأن الزهرة.
ثم قيل: كان أمرهما وقصَّتهما في زمان إدريس. وقيل: في زمان سليمان بن داود كما حرَّرنا ذلك في التفسير
(6)
.
وبالجملة فهو خبرٌ إسرائيلي مرجعه إلى كعب الأحبار، كما رواه عبدُ الرزاق في تفسيره، عن الثوريِّ، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار بالقِصَّة
(7)
. وهذا أصح إسنادًا وأثبت رجالًا واللَّه أعلم.
ثم قد قيل: إن المراد بقوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] قبيلان من الجَانِّ، قاله ابن حزم، وهذا غريب وبعيد من اللفظ.
(1)
رواه الطبراني في المطولات (36) وابن جرير في التفسير (30/ 186) والبيهقي (668) في البعث والنشور.
(2)
قال في كشف الظنون: الطوالات؛ للحافظ الكبير أبي موسى محمد بن أبي بكر عمر المديني المتوفى سنة (581 هـ) وهي في مجلدين.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 134) وابن حبان في صحيحه، الإحسان (6186) والبزار (2938) كما في كشف الأستار، والبيهقي في المسند (10/ 4 - 5). وفي إسناده موسى بن جبير: يخطئ ويخالف، وزهير بن محمد التيميُّ؛ في حفظه شيء وله أغاليط.
(4)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 175 - 176).
(5)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 266) وصححه، ووافقه الذهبي.
(6)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 172).
(7)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (97).
ومن الناس من قرأ (وما أُنزل على الملِكين) بالكسر، ويجعلهما علجين من أهل فارس، قاله الضحَّاك
(1)
. ومن الناس من يقول: هما مَلَكان من السماء، ولكن سبقَ في قدر اللَّه ما ذكره من أمرهما إن صحَّ به الخير، ويكون حكمهما كحكم إبليس إن قيل: إنه من الملائكة، لكن الصحيح أنه من الجنِّ كما سيأتي تقريره.
ومن الملائكة المسمَّيْن في الحديث: منكر ونكير عليهما السلام. وقد استفاضَ في الأحاديث ذِكْرُهُما في سؤال القبر. وقد أوردناها
(2)
عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] وهما فتَّانا القبر، موكَّلان بسؤال الميت في قبره عن ربِّه ودينه ونبيه، ويمتحنان البرَّ والفاجرَ، وهما أزرقان أفرقان، لهما أنيابٌ وأشكالٌ مزعجة، وأصواتٌ مفزعة، أجارنا اللَّه من عذاب القبر، وثبَّتنا بالقول الثابت آمين.
وقال البخاري
(3)
: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن يُوسف، حدَّثنا ابنُ وَهْب، حدَّثني يونسُ، عن ابن شهاب، حدَّثني عروةُ؛ أنَّ عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حدَّثته أنَّها قالتْ للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليكَ يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك ما لقتُ
(4)
، وكان أشدَّ ما لقيتُ منهم يومَ العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبدِ كُلال فلم يُجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفقْ إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللَّه قد سمعَ قولَ قومِكَ لكَ وما ردُّوا به عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ إليكَ
(5)
ملَكَ الجبال لتأمرَه بما شئتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجبال فسَلَّم عليّ، ثم قال: يا محمَّد! فقال ذلك، فما شئتَ، إنْ شئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بلْ أرجو أنْ يُخْرِجَ اللَّه من أصلابهم منْ يَعْبُدُ اللَّهَ وحدَه ولا يُشركُ به شيئًا". ورواه مسلم
(6)
من حديث ابن وهب به.
فصل: ثم الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيَّأهم اللَّه له أقسام:
فمنهم حَمَلةُ العرشِ، كما تقدَّم ذكرهم، ومنهم الكروبيون الذين هم حولَ العرش، وهم أشرف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقرَّبون، كما قال تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. ومنهم جبريل وميكائيل عليهما السلام، وقد ذكر اللَّه عنهم
(1)
انظر تفسير القرطبي (1/ 52) والعلج: الرجل من كفار العجم.
(2)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 655 - 663) وفي أ: وقد أوردنا.
(3)
في صحيحه (3231).
(4)
سقطت من الأصول، وأثبتها من صحيح البخاري.
(5)
في ب: والمطبوع: بعث لك.
(6)
في صحيحه (1795) في الجهاد.
أنهم يستغفرون للمؤمنين بظهر الغيب، كما قال تعالى:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7 - 9]. ولما كانت سجاياهم
(1)
هذه السجية الطاهرة كانوا يُحِبُّونَ من اتَّصفَ بهذه الصفة، فثبت في الحديث عن الصادق المصدوق أنه قال:"إذا دعا العبد لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثل"
(2)
.
ومنهم: سكَّان السماوات السبع، يعمرونها عبادة دائبة، ليلًا ونهارًا، صباحًا ومساءً، كما قال [تعالى]:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. فمنهم الراكعُ دائمًا، و [ومنهم]
(3)
القائمُ دائمًا، والساجدُ دائمًا. ومنهم الذين يتعاقبون زمرة بعدَ زمرةٍ إلى البيت المعمور كل يوم سبعون ألفًا، لا يعودون إليه آخر ما عليهم. ومنهم الموكَّلون بالجنان، وإعداد الكرامة لأهلها، وتهيئة الضيافة لساكنيها من ملابس ومصاغ ومساكن ومآكل ومشارب وغير ذلك مما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر.
وخازنُ الجنَّة مَلكٌ يقالُ له: رضوان، جاء مصرَّحًا به في بعض الأحاديث.
ومنهم الموكَّلون بالنَّار وهم الزبانية، ومقدَّموهم تسعة عشر، وخازنُها مالكٌ، وهو مُقدَّم على جميع الخزنة، وهم المذكورون في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49] الآية.
وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78] وقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وقال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 30 - 31].
ومنهم
(4)
: الموكَّلون بحفظ بني آدم، كما قال تعالى:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 10 - 11].
(1)
سجاياهم: طباعهم.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (2732) في الذكر والدعاء، وأبو داود في سننه (1534) في الصلاة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.
(3)
ما بين حاصرتين أثبته من أ.
(4)
في المطبوع: وهم، وهو خطأ.
قال الوالبي
(1)
؛ عن ابن عباس: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11][والمعقبات من أمر اللَّه]
(2)
هي الملائكة. وقال عكرمة عن ابن عباس؛ يحفظونه من أمر اللَّه: قال: ملائكة يحفظونه من بين يديْه ومن خلفه، فإذا جاء قدر اللَّه خَلَّوا عنه
(3)
. وقال مجاهد: ما من عبد إلا ومَلَكٌ موكَّلٌ بحفظِه في نومِه ويقظتِه من الجِنِّ والإنسِ والهوامّ، وليس شيء يأتيه يُريده إلا قال: وراءَك، إلا شيء يأذنُ اللَّه فيه فيصيبه
(4)
. وقال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلِّمه للذي قدِّر له
(5)
. وقال أبو مجلز: جاء رجلٌ إلى علي فقال: إن نفرًا من مراد يُريدون قتلكَ، فقال: إن مع كلِّ رجلٍ مَلَكين يحفظانِه مما لم يُقدَّر، فإذا جاءَ القدَرُ خلَّيا بينَه وبينه، إنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة
(6)
.
ومنهم: الموكَّلون بحفظ أعمال العباد، كما قال تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18] وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]. قال الحافظُ أبو محمد عبدُ الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ في تفسيره: حدَّثنا أبي، حدَّثنا علي بن محمد الطَّنافسيّ، حدَّثنا وكيعٌ، حدَّثنا سفيان ومِسْعر، عن علقمةَ بن مَرْثد، عن مجاهد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الكرامَ الكاتبينَ الذين لا يُفارقونَكُم إلا عندَ إحدى حالتين؛ الجنَابة والغَائط، فإذا اغتسلَ أحدُكم فليستترْ بجِذْمِ حائطٍ، أو ببعيره، أو ليستُرْه أخوه"
(7)
.
هذا مرسلٌ من هذا الوجه، وقد وصلَه البزَّارُ في "مسنده": من طريق حفص
(8)
بن سليمان القارئ، وفيه كلام عن علقمة، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ينهاكم عن التَّعرِّي، فاستحيوا من ملائكة اللَّه الذينَ معكم الكرام الكاتبين، الذين لا يفارقُونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل. فاذا اغتسلَ أحدُكم بالعَراء فَلْيَسْتَترْ بثوبهِ، أو بجِذْمِ حائطٍ، أو ببعيره"
(9)
. ومعنى إكرامهم أن يُستحيا منهم فلا يُمْلى عليهم الأعمال القبيحة التي يكتبونها، فإن اللَّه خلقَهم كرامًا في خَلْقهم وأخلاقِهم.
(1)
الوالبي: هو أبو خالد الوالبي المفسر، يروي عن عبد اللَّه بن عباس، وجابر بن سمرة، وعنه فِطْرُ بن خليفة، وعطية العوفي، وغيرهما. انظر تاريخ الطبري (1/ 12).
(2)
ما بين حاصرتين أثبته من ب.
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (7/ 351).
(4)
المصدر السابق (7/ 352) والهوامّ: السِّباع.
(5)
المصدر السابق (7/ 355). ويذود: يُدافع.
(6)
المصدر السابق (7/ 354). وجُنَّة: درع.
(7)
تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ ابن كثير (4/ 569) وجِذْمُ الحائط: أصله، أو قطعة منه.
(8)
في المطبوع: جعفر، وهو خطأ.
(9)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار (317) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 268) وقال البزار: لا نعلمه يُروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وحفصٌ: ليِّنُ الحديث. والعراء: الفضاء من الأرض.
ومن كرمهم أنه قد ثبتَ في الحديث المرويّ في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه صورةٌ ولا كَلْبٌ ولا جُنُبٌ"
(1)
وفي رواية: عن عاصم بن ضَمْرة، عن عليّ:"ولا بَوْلٌ"
(2)
. وفي رواية رافع، عن أبي سعيد، مرفوعًا:"لا تدخلُ الملائكة بيتًا فيه صورةٌ ولا تِمْثالٌ"
(3)
وفي رواية مجاهد: عن أبي هريرة، مرفوعًا "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه كَلْبٌ أو تمثالٌ"
(4)
. وفي رواية ذكوان أبي صالح السَّمَّان: عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تصحبُ الملائكةُ رُفقةً معهم كَلْبٌ أو جَرَسٌ"
(5)
. ورواه زُرَارة بن أوفى عنه "لا تصحب الملائكةُ رُفقةً معهم جَرَسٌ"
(6)
.
وقال البزار
(7)
: حدَّثنا إسحاق بن سليمان البغدادي، الصر وف بالفلوسيّ. حدَّثنا بيانُ بن حمران، حدَّثنا سَلَّام، عن منصور بن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن ملائكةَ اللَّه يعرفون بني آدم -وأحسبه قال:- ويعرفون أعمالَهم، فإذا نظروا إلى عبدٍ يعملُ بطاعة اللَّه ذكروه بينهم، وسمَّوه، وقالوا: أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصيةِ اللَّه ذكرُوه بينَهم وسمَّوْهُ، وقالوا: هلكَ فلانٌ الليلةَ". ثم قال: سلَّام -أحسبه- سَلَّام المدائني، وهو لَيِّنُ الحديث.
وقد قال البخاري
(8)
: حدَّثنا أبو اليمان، حدَّثنا شُعَيْبٌ، حدَّثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الملائكةُ يتعاقبون، ملائكةٌ باللَّيل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعونَ في صلاة الفجر وفي صلاة العصر، ثم يعرجُ إليه الذين باتوا
(9)
فيكم فيسألهم -وهو أعلم- فيقول: كيف
(1)
أخرجه أبو داود في سننه (227) في الطهارة، و (4152) في اللباس والنسائي في المجتبى (1/ 141) في الطهارة، عن عليٍّ رضي الله عنه وفي إسناده ضعف وقد صح دون الجنب، فهو في الصحيحين من حديث عائشة وأبي طلحة.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 146) وإسناده ضعيف جدًا، فيه الحسن بن ذكوان: ليس بالقوي، وعمرو بن خالد القرشي؛ متروك.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 965) والترمذي في الجامع (2805) في الأدب وقال: حسن صحيح، وهو كما قال.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (4158) في اللباس، والترمذي في الجامع (2806) في الأدب.
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه (2113) في اللباس وأبو داود في سننه (2555) في الجهاد، والترمذي في الجامع (1703) في الجهاد.
(6)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 385 و 414) من حديث زرارة بن أوفى عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
(7)
كما في كشف الأستار (3214) وذكره الهيثمي في المجمع (10/ 226) وقال: رواه البزار وفيه من لم أعرفهم.
(8)
في صحيحه (3223) في بدء الخلق.
(9)
في البخاري: كانوا، وفي أ: يأتون.
تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصَلُّون، وأتيناهم وهُم يُصَلُّون". هذا لفظه في كتاب بدء الخلق بهذا السياق، وهذا اللفظ تفرَّد به دون مسلم من هذا الوجه.
وقد أخرجاه في الصحيحين
(1)
: من حديث مالك عن أبي الزناد به.
وقال البَزَّارُ
(2)
: حدَّثنا زيادُ بن أيوب، حدَّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، حدَّثنا تمام بن نَجِيْح، عن الحسن -يعني البَصْري- عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من حافظين، يرفعانِ إلى اللَّه عز وجل ما حفظا في يوم، فيرى اللَّه تبارك وتعالى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارًا، إلا قال اللَّه: فد غفرتُ لعبدي ما بينَ طرفي الصحيفة". ثم قال: تفرَّد به تمَّام بن نَجيح، وهو صالح الحديث.
قلت: وقد وثَّقه ابنُ مَعين
(3)
، وضعَّفه البخاري
(4)
وأبو حاتم
(5)
وأبو زُرْعة
(6)
والنَّسائي
(7)
وابن عديّ
(8)
، ورماه ابن حبان بالوضع
(9)
. وقال الإمام أحمد
(10)
: لا أعرف حقيقة أمره.
والمقصودُ أنَّ كلَّ إنسانٍ له حافظان مَلَكان اثنان، واحدٌ من بين يديه، وآخرُ من خلفه، يحفظانِه من أمر اللَّه بأمر اللَّه عز وجل. ومَلَكان كاتبانِ عن يمينهِ وعن شمالِه، وكاتبُ اليمين أميرٌ على كاتبِ الشمال، كما ذكرْنا
(11)
ذلك عند قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18].
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد
(12)
: حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا منصور، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن أبيه، عن عبد اللَّه هو -ابن مسعود- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكةِ" قالوا: وإيَّاكَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "وإياي، ولكنَّ اللَّه أعانني عليه فلا يأمُرني إلا بخيرٍ".
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (555) في الصلاة. ومسلم في صحيحه (632) في المساجد ومواضع الصلاة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كما في كشف الأستار (3252).
(3)
تاريخ الدوري عن ابن معين (2/ 66).
(4)
تاريخه الكبير 2/ الترجمة (2046).
(5)
الجرح والتعديل 2/ الترجمة (1788).
(6)
سؤالات البرذعي (2/ 548) والجرح والتعديل 2/ الترجمة (1788).
(7)
الضعفاء والمتروكون (92).
(8)
الكامل (2/ 514).
(9)
المجروحين (1/ 204).
(10)
تهذيب الكمال (4/ 324 - 325).
(11)
تفسير ابن كثير (4/ 263).
(12)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 385).
انفردَ بإخراجه مسلم
(1)
: من حديث منصور به.
فيحتملُ أنَّ هذا القرينَ من الملائكة غير القرين لحفظِ الإنسان، وإنما هو موكَّل به ليرشده ويهديَه بإذن ربِّه إلى سبيلِ الخير وطريق الرشاد، كما أنه قد وُكِّل به القرينُ من الشياطين لا يألوه جهدًا في الخَبال
(2)
والإضلال، والمعصومُ من عصم اللَّه عز وجل، وباللَّه المستعان.
وقال البخاري
(3)
: حدَّثنا أحمد بن يونس، حدَّثنا إبراهيمُ بن سعدٍ، حدَّثنا ابنُ شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والأغرِّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ الجمعةِ، كانَ على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجدِ ملائكةٌ يكتبونَ الأوَّلَ فالأوَّلَ، فإذا جلسَ الإمامُ طَوَوُا الصُّحفَ، وجَاؤُوا يستمعونَ الذِّكْرَ".
وهكذا رواه منفردًا به من هذا الوجه، وهو في الصحيحين
(4)
من وجه آخر.
وقد قال اللَّه تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا أسباط، حدَّثنا الأعمشُ، عن إبراهيمَ، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدَّثنا الأعمشُ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} "[الإسراء: 78]. قال: "تشهدُه ملائكةُ اللَّيلِ وملائكةُ النَّهار". ورواه الترمذيُّ
(6)
، والنَّسائيُّ
(7)
، وابن ماجه، من حديث أسباط. وقال الترمذي: حسن صحيح. قلت: وهو منقطع
(8)
.
وقال البخاري
(9)
: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن محمّد، حدَّثنا عبدُ الرَّزاق، أنبأنا مَعْمر، عن الزهري، عن أبي سلمةَ وسعيدِ بن المُسَيِّب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "فضلُ صلاة الجَمْعِ على صلاة الواحد خمسٌ وعشرون درجة، ويجتمعُ ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر". يقول أبو هريرة: اقرؤُوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
وقال البخاري
(10)
: حدَّثنا مُسَدَّد، قال أبو عَوانة، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (2814)(69) في المنافقين.
(2)
"الخبال": الفساد.
(3)
في صحيحه (3211) في بدء الخلق.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (929) في الجمعة، ومسلم في صحيحه (850) في الجمعة.
(5)
في المسند (2/ 474) أقول: لكنه حديث صحيح، تشهد له الروايات التي ذكرها المصنف بعدها.
(6)
في جامعه (3135) في التفسير.
(7)
في التفسير (313).
(8)
في سننه (670) في الصلاة.
(9)
في صحيحه (4717) في التفسير وفيه: في صلاة الصبح.
(10)
في صحيحه (3237) في بدء الخلق و (5193) في النكاح.
قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجلُ امرأته إلى فراشه فأبتْ فباتَ غضبانَ عليها، لعَنَتْها الملائكةُ حتَّى تُصْبحَ". تابعه شعبةُ، وأبو حمزة، وأبو داود، وأبو معاوية، عن الأعمش.
وثبت في الصحيحين: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمَّنَ الإمامُ فأمِّنُوا، فإن منْ وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"
(1)
.
وفي لفظٍ: "إذا قالَ الإمامُ: آمين
(2)
، فإنَّ الملائكةَ تقولُ في السماء: آمين، فمنْ وافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"
(3)
.
وفي صحيح البخاري
(4)
: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثني مالك، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قال الإمام سمعَ اللَّه لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنَّ من وافقَ قولُه قولَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه". ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث مالك
(5)
.
وقال الإمام أحمد
(6)
: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمشُ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -أو عن أبي سعيد- هو شكَّ -يعني الأعمش- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن للَّه ملائكةً سيَّاحينَ في الأرض فُضُلًا عن كتّاب النَّاس، فإذا وجدُوا أقوامًا يذكرونَ اللَّهَ تَنادوا هَلُمُّوا إلى بُغيتكم فيجيئون [فيحفُّون]
(7)
بهم إلى السماء الدنيا، فيقول اللَّه: أيُّ شيءٍ تركتُم عبادي يصنعونَ؟ فَيَقُولون: تركنَاهُم يحمدونك ويمَجّدُونك ويذكرونَكَ. فيقول: وهل رأوني؟ فيقولونَ: لا، فيقول: كيفَ لو رأوْني؟! فيقولون: لو رأوكَ لكانُوا أشدَّ تحميدًا وتمجيدًا وذكرًا. قال: فيقول: فأيُّ شيءٍ يطلبونَ؟ فيقولون: يطلبونَ الجنَّةَ، فيقول: وهل رأوْها؟ فيقولونَ: لا، فيقول: فكيفَ لو رأَوْها؟! فيقولون: لو رأوها لكانوا أشدَّ عليها حِرْصأ وأشدَّ لها طلبًا. قال: فيقول: من أيِّ شيءٍ يتعوَّذون؟ فيقولون: منَ النَّارِ؟ فيقول: وهلْ رَأوْها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيفَ لو رأوها. فيقولون: لو رأوْها كانوا أشدَّ منها هربًا وأشدَّ منها خوفًا. قال: فيقول: أشهدُكم أنِّي قد غفرتُ لهم. قال: فيقولون: إن فيهم فلانًا الخطَّاء لم يُرِدْهُم، إنما جاءَ لحاجةٍ. فيقول: هُمُ القومُ لا يشقى بهم جليسُهم".
وهكذا رواه البخاري
(8)
عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن الأعمش به. وقال: رواه شعبة
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (780) في صفة الصلاة، ومسلم في صحيحه (410) في الصلاة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
لفظ البخاري: "إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين".
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (782) في صفة الصلاة و (4475) فى التفسير.
(4)
(3228) في بدء الخلق.
(5)
مسلم (409)، وأبو داود (848)، والترمذي (267)، والنسائي (2/ 196) وفي الكبرى (650) كلهم في الصلاة.
(6)
في المسند (2/ 251 - 252) وهو حديث صحيح.
(7)
أثبتها من المسند (2/ 251).
(8)
أخرجه البخاري في صحيحه (6408) في الدعوات.
عن الأعمش ولم يرفعه، ورفعه سهيل عن أبيه.
وقد رواه أحمد
(1)
: عن عفَّان، عن وُهيب، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، كما ذكره البخاري معلَّقا عن سهيل
(2)
. ورواه مسلم
(3)
: عن محمّد بن حاتِم، عن بَهْز بن أسد، عن وُهَيْبٍ به.
وقد رواه الإمام أحمد
(4)
أيضًا: عن غُنْدَر، عن شُعبة، عن سليمانَ -هو الأعمش- عن أبي صالحٍ، عن أبي هُريرة [لم يرفعه نحوه]
(5)
، كما أشارَ إليه البخاريُّ رحمه الله
(6)
.
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، وابنُ نمير، أخبرنا الأعمشُ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نَفَّسَ عن مُؤمن كُرْبَةً من كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّس اللَّه عنه كُرْبة من كُرَبِ يومِ القيامة، ومنْ سترَ مسلمًا ستره اللَّه في الدُّنيا والآخرة، [ومن يسَّر عن مُعْسرٍ يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة]
(8)
واللَّهُ في عونِ العَبْدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيه، ومن سلكَ طريقًا يلتمسُ به علمًا سهَّلَ اللَّه له به طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّه يتلونَ كتابَ اللَّهِ ويتدارسونَه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكةُ، وذكرَهم اللَّه فيمن عنده، ومنْ بَطَّأ به عملُه لم يُسرعْ به نسبُه".
وكذا رواه مسلم
(9)
من حديث أبي معاوية.
وقال الإمام أحمد
(10)
حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمر، عن أبي إسحاق، عن الأغَرّ -أبي مسلم- عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "ما اجتمعَ قومٌ يذكرونَ اللَّهَ إلا حفَّتهم الملائكةُ، وغشيتهم
(11)
الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السَّكينةُ، وذكرَهم اللَّه فيمن عندَه".
وكذا رواه
(12)
أيضًا: من حديث إسرائيل وسفيان الثوري وشعبة، عن أبي إسحاق به، نحوه.
(1)
في المسند (2/ 258 - 259).
(2)
أخرجه عقيب الحديث (6408).
(3)
في صحيحه (2689) في الذكر والدعاء.
(4)
في المسند (2/ 252).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(6)
عقيب الحديث (6408) من صحيحه.
(7)
في المسند (2/ 252).
(8)
ما بين حاصرتين أثبته من المسند.
(9)
في صحيحه (2699) في الذكر والدعاء.
(10)
في المسند (3/ 94).
(11)
في المسند: وتغشتهم.
(12)
في المسند (3/ 94).
ورواه مسلم: من حديث شعبة
(1)
، والترمذي من حديث الثوري
(2)
وقال: حسن صحيح.
ورواه ابن ماجه
(3)
عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، عن عمَّار بن زريق، عن أبي إسحاق، بإسناده نحوه.
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وفي مسند الإمام أحمد والسنن عن أبي الدرداء، مرفوعًا:"وإن الملائكة لتضعُ أجنحتها لطالبِ العلم رضًا بما يصنعُ"
(4)
أي: تتواضع له، كما قال تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215].
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، عن سُفيان، عن عبد اللَّه بن السَّائب، عن زاذان، عن عبد اللَّه بن مسعود، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن للَّه ملائكة سيَّاحينَ في الأرضِ، لِيُبلِّغوني عن أمتي السَّلام"
(5)
.
وهكذا رواه النسائي
(6)
من حديث سفيان الثوريّ وسُليمان الأعمش، كلاهما عن عبد اللَّه بن السَّائب به.
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمر، عن الزهريّ، عن عروةَ، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خُلِقتِ الملائكةُ من نورِ، وخُلِقَ الجَانُّ من مَارجٍ من نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مما وُصفَ لكم".
وهكذا رواه مسلم
(8)
: عن محمد بن رافع، وعَبْدِ بن حُمَيْد، كلاهما عن عبد الرزاق به.
والأحاديث في ذكر الملائكة كثيرة جدًا، وقد ذكرنا ما يسَّره اللَّه تعالى، وله الحمد.
فصل: وقد اختلفَ الناس في مسألة تفضيل الملائكة على البشر على أقوال؛ فأكثرُ ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلّمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومَنْ وافقهم، وأقدمُ كلامٍ رأيتُه في هذه المسألة ما ذكرَه الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"
(9)
في ترجمة أميَّة بن عمرو بن سعيد بن العاص؛ أنَّه حضرَ
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (2700) فى الذكر والدعاء.
(2)
في جامعه (3378) في الدعوات.
(3)
أخرجه ابن ماجه في سننه (3791) في الأدب.
(4)
أخرجه أحمد في المسند (4/ 239 و 241) وأبو داود في سننه (3641) في العلم، والترمذي (2682) في العلم، وابن ماجه (223) في المقدمة.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 452).
(6)
أخرجه النسائي في المجتبى (3/ 43) وفى السنن الكبرى (1205).
(7)
في المسند (6/ 153 و 168).
(8)
في صحيحه (2996) في الزهد والرقائق.
(9)
تاريخ دمشق (9/ 303 - 304).
مجلسًا لعمرَ بن عبد العزيز، وعندَه جماعةٌ، فقال عمرُ: ما أحدٌ أكرمُ على اللَّه من كريم بني آدم، واستدلَّ بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] ووافقَه على ذلك أميَّةُ بن عمرو بن سعيد، فقال عِرَاكُ بن مالك: ما أحدٌ أكرمُ على اللَّه من ملائكته، هم خزنة داره، ورسلُه إلى أنبيائه. واستدلَّ بقوله تعالى:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القُرظي: ما تقولُ أنتَ يا أبا حمزة! فقال: قد أكرمَ اللَّه آدمَ، فخلقَه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجدَ له ملائكته، وجعلَ من ذريَّتِه الأنبياء والرسل، ومن يزورُه الملائكةُ
(1)
. فوافقَ عمرَ بن عبد العزيز في الحكم، واستدلَّ بغير دليله. وأضعفُ دلالةٍ ما نزعَ به من الآية، وهو قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البينة: 7] بما مضمونُه أنَّها ليست بخاصَّة بالبشر، فإنَّ اللَّه قد وصفَ الملائكةَ بالإيمان في قوله:{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] وكذلك الجانّ {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} [الجن: 13]{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14].
قلت: وأحسنُ ما يُستدلُّ به في هذه المسألة ما رواه عثمان بن سعيد الدَّارميّ: عن عبد اللَّه بن عمرو، مرفوعًا، وموقوفًا، وهو أصحُّ، قال:"لمَّا خلقَ اللَّه الجنَّة قالتِ الملائكةُ: يا ربَّنا اجعلْ لنا هذه نأكلُ منها ونشربُ، فإنَّك خلقتَ الدنيا لبني آدم، فقالَ اللَّه: لنْ أجعلَ صالحَ ذرِّيةِ منْ خلقتُ بيدي كمَنْ قلتُ له: كنْ فكان"
(2)
.
* * *
باب خلق الجان وقصّة الشيطان
قال اللَّه تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 16]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26 - 27] وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والحسن وغير واحد {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] قالوا: من طَرَفِ اللَّهَب، وفي رواية: من خالصِه وأحسنِه.
وقد ذكرنا آنفًا: من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ الملائكةُ منْ نُورٍ، وخُلِقت الجَانُّ من مَارج من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصفَ لكم" رواه مسلم
(3)
.
(1)
في المصدر السابق "وجعل من ذريته من تزوره الملائكة".
(2)
عثمان بن سعيد الدارمي السجستاني، محدث، حافظ، له كتاب المسند الكبير، مخطوط، ولم أجد الحديث في المصادر الحديثية المطبوعة.
(3)
في صحيحه (2996) في الزهد، وتقدم (ص 65).
قال كثير من علماء التفسير
(1)
: خُلِقتِ الجِنُّ قبلَ آدمَ عليه السلام، وكان قبلَهم في الأرض الجن والبِنُّ، فسلط اللَّه الجن عليهم فقتلوهم وأخلوهم عنها، وأبادوهم منها، وسكنوها بعدهم.
وذكر السُّدِّي
(2)
في تفسيره: عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرَّة، عن ابن مسعود. وعن أناس من أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لما فرغَ اللَّه من خلق ما أحبَّ استوى على العرش فجعلَ إبليسَ على مُلْك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خُزَّان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنًا فوقعَ في صدره: إنما أعطاني اللَّه هذا لمزية لي على الملائكة.
وذكر الضحَّاك
(3)
: عن ابن عباس: أن الجن لما أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء بعثَ اللَّه إليهم إبليس ومعه جند من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم عن الأرض إلى جزائر البحور.
وقال محمد بن إسحاق
(4)
: عن خلاد، عن عطاء، عن طاووس، عن ابن عباس: كان اسم إبليس قبل أن يرتكبَ المعصية عزَازيل. وكان من سكَّان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا، وأكثرهم علمًا، وكان من حيٍّ يقال لهم: الجن.
وروى ابن أبي
(5)
حاتم: عن سعيد بن جُبير، عنه: كان اسمه عزازيل، وكان من أشرف الملائكة من أولي الأجنحة الأربعة.
وقال سُنَيْدٌ
(6)
: عن حجَّاج، عن ابن جُريج، قال ابن عباس: كان إبليسُ من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلةٌ، وكان خازنًا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض.
وقال صالحٌ مولى التوأمة: عن ابن عباس، كان يسوسُ ما بينَ السَّماء والأرض. رواه ابن جرير
(7)
. وقال قتادة
(8)
: عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال الحسن البصري
(9)
: لم يكنْ من الملائكةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وإنَّه لأصلُ الجنِّ، كما أن آدم أصل البشر.
(1)
انظر تفسير الطبري (1/ 240 - 241) وتفسير القرطبي (1/ 307).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (1/ 241).
(3)
المصدر السابق (1/ 239) وتاريخ الطبري (1/ 85).
(4)
أخرجه الطبري في التاريخ (1/ 86) وفيه: فذلك الذي دعاهُ إلى الكبر، وكان من حيٍّ يُسمَّون جنًا.
(5)
ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 114) مختصرًا.
(6)
المصدر السابق (3/ 114) وأخرجه الطبري في تفسيره (8/ 235) وفي المطبوع: وقد أسند.
(7)
تفسير الطبري (8/ 236)، وفي هامش أ: والجن قبيلة من الملائكة، وربما سموا الجن؛ لأنهم خزَّان الجنة.
(8)
المصدر السابق (8/ 235).
(9)
المصدر السابق (8/ 236).
وقال شهر بن حوشب، وغيره: كان إبليس من الجنِّ الذينَ طردتهم
(1)
الملائكة فأسرَه بعضهم فذهبَ به إلى السماء. رواه ابن جرير.
قالوا: فلما أراد اللَّه خلقَ آدمَ ليكونَ في الأرض هو وذريَّته من بعده، وصوَّر جثته منها، جعلَ إبليسُ -وهو رئيسُ الجَانِّ وأكثرُهم عبادة إذ ذاك، وكانَ اسمُه عزازيل- يطيفُ به، فلما رآه أجوفَ علم
(2)
أنه خَلْقٌ لا يتمالك، وقال: أما لئن سُلِّطْتُ عليكَ لأهلكنَّكَ، ولئن
(3)
سُلِّطْتَ عليَّ لأعصينَّك، فلما أنْ نفخَ اللَّه في آدم من روحه، كما سيأتي
(4)
، وأمر الملائكة بالسجود له دخلَ إبليسَ منه حسد عظيم وامتنع من السجود له وقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فخالفَ الأمرَ، واعترضَ على الربِّ عز وجل، وأخطأ في قوله، وابتعد من رحمة ربِّه، وأُنزلَ من مرتبتهِ التي كان قد نالَها بعبادتِه، وكان قد تشبَّه بالملائكة، ولم يكنْ من جنسهم، لأنه مخلوقٌ من نار، وهم من نور، فخانَه طبعُه في أحوج ما كان إليه، ورجعَ إلى أصله الناريِّ {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 73 - 74] وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
فأُهْبِطَ إبليسُ من الملأ الأعلى وحُرِّمَ عليه قدَرًا أن يسكنه، فنزلَ إلى الأرض ذليلًا حقيرًا
(5)
مذؤومًا مدحورًا
(6)
، متوعَّدًا بالنار هو ومن اتَّبعه من الجن والإنس، إلا أنه مع ذلك جاهدَ كلَّ الجهد على إضلال بني آدم بكل طريق وبكلّ مَرْصدٍ
(7)
وسنذكر القصة مستقصاة
(8)
عند ذكر خلق آدم عليه السلام. والمقصود أنَّ الجانَ خُلقوا من النَّار، وهم كبني آدمَ، يأكلونَ ويشربونَ ويتناسلونَ، ومنهم المؤمنون، ومنهم الكافرون، كما أخبرَ تعالى عنهم
(1)
في الأصول: طردوهم، والتصحيح من تفسير الطبري (8/ 236).
(2)
في المطبوع: عرف.
(3)
في أ: وإن.
(4)
سيأتي في باب خلق آدم عليه السلام (ص 109).
(5)
في المطبوع: حقيرًا ذليلًا.
(6)
مدحورًا: مطرودًا.
(7)
مرصد: الطريق والمكان يُرصد منه العدوُّ.
(8)
في المطبوع: مستفاضة. وانظر القصة في باب خلق آدم (ص 109) وما بعدها.
وقد ذكرنا تفسيرَ هذه السورة
(1)
، وتمامَ القِصَّة في آخر سورة الأحقاف، وذكرنا الأحاديثَ المتعلِّقة بذلك هنالك، وأنَّ هؤلاء النَّفرَ كانوا من جن "نصيبين" وفي بعض الآثار من جن "بصرى"، وأنَّهم مرُّوا برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو قائمٌ يُصلِّي بأصحابه ببطنِ نخلةَ منْ أرضِ مكَّة، فوقفُوا فاستمعُوا لقراءته
(2)
.
ثم اجتمعَ بهم النبيُّ ليلةً كاملةً، فسألوه عن أشياءَ أمرهم بها ونهاهم عنها، وسألوه الزاد، فقال لهم:"كلُّ عظمٍ ذُكِرَ اسمُ اللَّه عليه، تجدونَه أوفرَ ما يكون لحمًا، وكلُّ روثةٍ علفٌ لدوابِّكم" ونهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أن يستنجوا بهما، وقال:"إنَّهما زادُ إخوانكم الجِنّ"
(3)
.
ونهى عن البول في الأسواق
(4)
، لأنَّها مساكنُ الجنِّ.
وقرأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهم سورةَ الرحمن، فما جعلَ يمرُّ بآية فيها {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]. إلا قالوا: ولا بشيءٍ من آلائكِ ربَّنا نُكَذِّبُ، فلكَ الحمدُ.
وقد أثنى عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قرأ هذه السورة على الناس فسكتُوا. فقال: "الجنُّ كانوا
(1)
انظر تفسير القرآن العظيم؛ للمؤلف الحافظ ابن كثير (4/ 192 - 202).
(2)
المصدر السابق (4/ 193).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه (450) في الصلاة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
(4)
في المطبوع: السرب.
أحسنَ منكم ردًّا، ما قرأت عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: ولا بشيءٍ من آلائك ربَّنا نُكَذِّبُ ولكَ الحمدُ". رواه الترمذيُّ: عن جابر، وابنُ جرير والبزَّار عن ابن عمر
(1)
.
وقد اختلفَ العلماءُ في مؤمني الجنِّ هل يدخلو
(2)
الجنة، أو يكونُ جزاء طائعهم أن لا يعذَّبَ في النار فقط. على قولين: الصحيحُ أنهم يدخلون الجنَّة لعمومات
(3)
القرآن، ولخصوص قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 46 - 47] فامتنَّ تعالى عليهم بذلك، فلولا أنهم ينالونه لما ذكرَه وعدَّه عليهم من النِّعمِ، وهذا وحدَه دليلٌ مستقلٌّ كافٍ في المسألة، واللَّه أعلم.
وقال البخاري
(4)
: حدَّثنا قُتَيْبة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، أن أبا سعيدٍ الخدريَّ قال له: إني أراك تُحبُّ الغنمَ والباديةَ، فإذا كنتَ في غنمكَ وباديتك فأذَّنتَ بالصَّلاة، فارفعْ صوتك بالنِّداء، فإنَّه لا يسمعُ مدَى صوتِ المؤذِّن جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهدَ له يوم القيامة. قال أبو سعيد: سمعتُه من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. انفردَ به البخاري دون مسلم.
وأما كافرو الجِنِّ فمنهم الشياطين، ومقدَّمهُم الأكبرُ إبليسُ عدوُّ آدم أبي البشر، وقد سُلِّطَ
(5)
هو وذريَّته على آدمَ وذريَّتِه، وتكفَّل اللَّه عز وجل بعصمةِ من آمنَ به، وصدَّق رسلَه، واتَّبع شرعه منهم، كما قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65] وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 20 - 21] وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
(1)
أخرجه الترمذي في الجامع (3291) في التفسير عن جابر وقال: "هذا حديث غريب"، وابن جرير في التفسير (11/ 582) عن ابن عمر، أقول: وهو حديث حسن.
(2)
في هامش أ: بيان هل يدخل الجنة أم لا؟.
(3)
في المطبوع: لعموم القرآن، ولعموم قوله تعالى.
(4)
في صحيحه (3296) في بدء الخلق.
(5)
كذا في الأصول، وفي المطبوع: سلَّطه.
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 38 - 44].
وقد ذكرَ تعالى هذه القصَّةَ في سورة البقرة، وفي الأعراف، وهاهنا
(1)
، وفي سورة سبحانَ، وفي سورة طه، وفي سورة ص. وقد تكلَّمنا على ذلك كله في مواضعه في كتابنا التفسير وللَّه الحمد. وسنوردها في قصة آدمَ إن شاء اللَّه تعالى
(2)
.
والمقصودُ أنَّ إبليسَ أنظرهَ اللَّه إلى يوم القيامة محنةً لعباده، واختبارًا منه لهم، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [إبراهيم: 22 - 23].
فإبليسُ لعنه اللَّه حيٌّ الآن، منظَرٌ إلى يوم القيامة بنصِّ القرآن، وله عرشٌ على وجه البحر، وهو جالسٌ عليه، ويبعثُ سراياه يُلقون بينَ النَّاس الشَّرَّ والفتنَ. وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] وكان اسمُه قبلَ معصيته العظيمة عزازيل، قال النَّقَّاشُ: وكنيته: أبو كردوس، ولهذا لما قال النبيُّ لابن صيَّاد:"ما ترى؟ "
(3)
قال: أرى عرشًا على الماء. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اخسأْ فلنْ تعدو قَدْرَكَ"(4) فعرفَ أن مادَّة مكاشفته التي كاشفَه بها شيطانيَّة، مستمدَّة من إبليس الذي هو يُشاهد عرشَه على البحر، ولهذا قال له:"اخسأ فلنْ تعدو قَدْركَ"
(4)
أي: لن تُجاوزَ قيمتك الدنية الخسيسة الحقيرة.
والدليلُ على أنَّ عرشَ إبليسَ على البحر الحديثُ الذي رواه الإمام أحمد: حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا صفوان، حدَّثني ماعز التميمي، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "عرشُ إبليس [على] البحر، يبعثُ سراياه في كلِّ يوم يفتنون النَّاسَ، فأعظمُهم عندَه منزلةً أعظمُهم فتنةً للناس"
(5)
.
وقال أحمد
(6)
: حدَّثنا روح، حدَّثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنَّه سمعَ جابرَ بن عبد اللَّه
(1)
أي: في سورة الحجر.
(2)
انظر باب خلق آدم عليه السلام (ص 109).
(3)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 66 و 97) عن أبي سعيد الخدري و (3/ 388) عن جابر.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (2930) في الفتن وأشراط الساعة.
(5)
في المسند (3/ 354).
(6)
في المسند (3/ 384).
يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "عرشُ إبليسَ على البحر، يبعثُ سراياه، فيفتنون النَّاس، فأعظمُهم عنده أعظمهم فتنةً" تفرَّد به من هذا الوجه.
وقال أحمد
(1)
: حدَّثنا مُؤمَّل، حدَّثنا حمَّاد، حدَّثنا علي بن زَيْد، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لابن صائد: "ما ترى؟ قال: أرى عرشًا على الماء -أو على البحر- حولَه حيَّات" قال صلى الله عليه وسلم: ذاك عرش إبليس. هكذا رواه في مسند جابر.
وقال في مسند أبي سعيد
(2)
: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة، أنبأنا عليُّ بن زَيْد، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لابن صيَّاد:"ما ترى؟ " قال: أرى عرشًا على البحر حوله الحيَّات. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صَدقَ، ذاك عرشُ إبليس".
وروى الإمام أحمد
(3)
: من طريق ماعز التَّميميّ وأبي الزُّبير، عن جابر بن عبد اللَّه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشيطانَ قد يئسَ أن يعبدَه المُصلُّونَ، ولكن في التحريش بينهم".
وروى الإمام مسلم
(4)
: من حديث الأعمش، عن أبي سفيان -طلحة بن نافع- عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الشيطان يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعثُ سَراياه في النَّاسِ، فأقربُهم عندَه منزلةً أعظمهم عنده فتنة، يجيءُ أحدُهم فيقول: ما زلتُ بفلانٍ حتى تركته وهو يقول: كذا وكذا، فيقول إبليس: لا واللَّه ما صنعتَ شيئًا. ويجيءُ أحدُهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين أهله، قال: فيُقرِّبه ويُدنيه. ويلتزمه. ويقول: نِعْم أنتَ".
يُروى بفتح النون بمعنى نَعَمْ أنت ذاك الذي تستحقُّ الإكرامَ، وبكسرها، أي: نِعْمَ منْكَ. وقد استدلَّ به بعضُ النحاة على جواز كون فاعل نعم مضمرًا، وهو قليل. واختارَ شيخُنا الحافظ أبو الحجَّاج الأوَّلَ، ورجَّحه، ووجَّهه بما ذكرْناه، واللَّه أعلم.
وقد أوردنا هذا الحديث
(5)
عند قوله تعالى: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] يعني: أنَّ السحرَ المتلقَّى عن الشياطين من الإنس والجنِّ، يُتوصَّل به إلى التفرقة بين المتآلفين غاية التآلف، المتوادَّين المتحابَّين، لهذا يشكرُ إبليسُ سعيَ من كان السبب في ذلك. فالذي ذمَّه اللَّه يمدحُه، والذي يُغْضِبُ اللَّه يُرْضيه، عليه لعنة اللَّه.
وقد أنزل اللَّه عز وجل سورتي المعوِّذتين مطردةً لأنواع الشر وأسبابه وغاياته، ولا سيما سورة
(1)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 66 و 388).
(2)
من المسند (3/ 96).
(3)
في المسند (3/ 354) عن ماعز التميميّ وهو في صحيح مسلم (2812) في صفات المنافقين.
(4)
في صحيحه (2813)(67) في صفات المنافقين وقد ذكره المؤلف بالمعنى.
(5)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 180).
وثبتَ في الصحيحين
(1)
عن أنس، وفي صحيح البخاري
(2)
عن صفيَّة بنت حيي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشيطان يجري من ابنِ آدم مجرى الدم".
وقال الحافظ أبو يعلى المَوْصلي
(3)
: حدَّثنا محمد بن بحر، حدَّثنا عديّ بن أبي عمارة، حدَّثنا زياد النُّمَيْري، عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشيطانَ واضع خَطْمه على قَلْب ابن آدم، فإن ذكرَ اللَّه خَنَسَ، وإن نسيَ التقمَ قلبه، فذلك الوسواسُ الخنَّاسُ".
ولما كانَ ذكرُ اللَّه مطردةً للشيطان عن القلب، كان فيه تذكار للنَّاس، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وقال صاحب موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وقال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] يعني الساقي لما قال له يوسف: اذكرني عند ربِّكَ، نسيَ الساقي أن يذكرَه لربِّه، يعني مولاه الملك، وكان هذا النسيانُ من الشيطان، فلبثَ يوسفُ في السجن بضع سنين، ولهذا قال بعد هذا {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: مدة. وقُرئ {بعد أُمَّة} أي: نسيان. وهذا الذي قلنا من أن الناسي هو الساقي هو الصواب من القولين، كما قرَّرناه في التفسير
(4)
، واللَّه أعلم.
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن عاصم، سمعتُ أبا تميمة يُحدِّث عن رديف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: عثرَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حمارُه، فقلت: تَعِسَ الشَّيطانُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا تقلْ: تَعِسَ الشيطانُ، فإنَّك إذا قلتَ: تَعِسَ الشيطانُ تعاظَمَ، وقال: بقوَّتي صرعتُه. وإذا قلتَ: بسم اللَّه، تصاغرَ حتى يصيرَ مثلَ الذباب".
انفرد به أحمد، وهو إسناد جيد.
وقال أحمد
(6)
: حدَّثنا أبو بكر الحنفي، حدَّثنا الضحَّاك بن عثمان، عن سعيد المَقْبُريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أحدَكم إذا كان في المسجد جاءه الشيطانُ فأبَسَ به كما يَأْبِسُ
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (2174) في السلام ولم يخرجه البخاري عن أنس، لكن أخرجه في كتاب الأدب المفرد (1288).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (6219) في الأدب ومسلم (2175) في السلام.
(3)
في المسند (430) وفي إسناده زياد النميري، ضعيف.
(4)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 591).
(5)
في المسند (5/ 59).
(6)
في المسند (2/ 330).
الرجلُ بدابَّتهِ، فإذا سكنَ له زَنَقه أو ألجَمَه"
(1)
. قال أبو هريرة وأنتم ترون ذلك. أما المَزنوقُ: فتراه مائلًا كذا لا يذكر اللَّه، وأما المُلْجم: ففاتحٌ فاه لا يذكر اللَّه عز وجل. تفرَّد به أحمد.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا ابنُ نُمَيْر، حدَّثنا ثَوْر -يعني ابن يزيد- عن مكحول، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "العينُ حقٌّ، ويحضرُ بها الشيطان وحسدُ ابن آدم"
(3)
.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا وكيع، عن سفيانَ، عن منصور، عن ذرِّ بن عبد اللَّه الهَمْدانيّ، عن عبدِ اللَّه بن شَدَّاد، عن ابن عبَّاس قال: جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه! إنِّي أُحدِّثُ نفسي بالشيء، لأَنْ أخِرَّ من السَّماء أحبُّ إليَّ من أن أتكلَّمَ به [قال:]
(5)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّه أكبرُ
(6)
، الحمدُ اللَّه الذي ردَّ كيدَه إلى الوَسْوسة".
ورواه أبو داود والنسائي
(7)
من حديث منصور، زاد النسائي: والأعمش، كلاهما عن أبي ذر به.
وقال البخاري
(8)
: حدَّثنا يحيى بن بُكَيْر، حدَّثنا اللَّيْثُ، عن عقيل، عن ابن شِهاب، قال: أخبرني عُرْوةُ، قال: قال أبو هريرة: قالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ من خلقَ كذا؟ من خلقَ كذا؟ حتى يقولَ: من خلقَ ربَّك، فإذا بلغَ فليستعذْ باللَّه وَلْيَنْتَهِ".
وهكذا رواه مسلم
(9)
من حديث اللَّيث ومن حديث الزهري وهشام بن عروة وكلاهما عن عروة به.
وقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].
(1)
"أبَسَه": زَجَره. "وزَنقه": أماله. "وأَلْجمَ": يقال: ألجمت فلانًا عن حاجته: كففته ومنعته.
(2)
في المسند (2/ 439).
(3)
إسناده ضعيف لانقطاعه فإن مكحولًا لم يسمع من أبي هريرة، وقوله "العين حق" صحيح.
(4)
في المسند (1/ 235) وهو حديث صحيح.
(5)
زيادة من المسند.
(6)
في المسند: "اللَّهُ أكبرُ، اللَّهُ أكبرُ، اللَّهُ أكبرُ".
(7)
أخرجه أبو داود في سننه (5112) في الأدب، والنسائي في عمل اليوم والليلة (668).
(8)
في صحيحه (3276) في بدء الخلق.
(9)
في صحيحه (132).
وروى الإمام أحمد
(1)
وأهل السنن
(2)
: من حديث أبي المتوكل، عن أبي سعيد، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزهِ ونَفْخِهِ ونَفْثِهِ"
(3)
. وجاء مثلُه من رواية جبير بن مطعم وعبد اللَّه بن مسعود وأبي أمامة الباهلي.
وتفسيرُه في الحديث: فهمزه الموتة، وهو الخَنْقُ الذي هو الصَّرْع. ونفخُه: الكِبَرُ. ونَفْثُه: الشِّعْرُ.
وثبتَ في الصحيحين
(4)
: عن أنس، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخَلاء قال:"أعوذُ باللَّه من الخُبْثِ والخَبائِثِ" قال كثيرٌ من العلماء: استعاذ من ذُكرانِ الشياطينِ وإناثهم.
وروى الإمام أحمد
(5)
: عن سُرَيْج، عن عيسى بن يُونس، عن ثَوْر، عن الحُصَيْن، عن أبي سعدٍ الخير -وكان من أصحاب عمرَ- عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ومنْ أتى الغائطَ فليستتر، فإن لم يجدْ إلا أن يجمعَ كثيبًا من رملٍ فليستدبرْه، فإنَّ الشيطان يلعبُ بمقاعدِ بني آدمَ، منْ فعلَ فقد أحسنَ، ومنْ لا فلا حَرَج".
ورواه أبو داود وابن ماجه
(6)
من حديث ثور بن يزيد به.
وقال البخاري
(7)
: حدَّثنا عثمانُ بن أبي شيبةَ، حدَّثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن عديِّ بن ثابت، قال: قال سليمانُ بن صُرَد: استبِّ رجلان عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحنُ عندَه جلوسٌ، فأحدُهما يسبُّ صاحبَه مُغضَبًا قد احمرَّ وجهُه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنِّي لأعلمُ كلمةً لو قالَها لذهبَ عنه ما يجدُ، لو قالَ: أعوذُ باللَّه من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمعُ ما يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إني لستُ بمجنون.
ورواه أيضًا مسلم وأبو داود والنَّسائي من طرقٍ عن الأعمش
(8)
.
وقال الإمام أحمد
(9)
: حدَّثنا محمد بن عُبيد، حدَّثنا عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكلْ أحدُكم بشمالِه ولا يشربْ بشمالِه، فإنَّ الشيطانَ يأكلُ بشمالِه، ويشربُ
(1)
في مسنده (3/ 50 و 69).
(2)
أخرجه أبو داود (775)، والترمذي (242)، وابن ماجه (804)، والنسائي (2/ 132).
(3)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 38) وأبو داود في سننه (775) في الصلاة، والترمذي (242) في الصلاة.
أقول: وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (142) في الوضوء، ومسلم في صحيحه (375) في الحيض.
(5)
في المسند (2/ 371) رقم (8824)، وإسناده ضعيف.
(6)
أخرجه أبو داود في سننه (35) في الطهارة، وابن ماجه في الطهارة (337) وفى (3498) فى الطب مختصرًا، وإسناده ضعيف.
(7)
في صحيحه (3282) في بدء الخلق.
(8)
أخرجه مسلم في صحيحه (2610) في البر، وأبو داود (4781) في الأدب، والنسائي (10224) في السنن الكبرى.
(9)
في المسند (2/ 80).
بشماله". وهذا على شرط الصحيحين بهذا الإسناد، وهو في الصحيح من غير هذا الوجه
(1)
.
وروى الإمام أحمد من حديث إسماعيل بن أبي حكيم، عن عروة، عن عائشة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"منْ أكلَ بشمالِه أكلَ معه الشيطانُ، ومنْ شَرِبَ بشمالِهِ شربَ معه الشيطانُ"
(2)
.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا محمد بن جعفر، أخبرنا شعبةُ، عن أبي زياد الطحَّان، قال: سمعتُ أبا هريرة يقولُ: عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه رأى رجلًا يشربُ قائمًا، فقال له:"قِهْ" قال: لمَ؟ قال: "أيسُرك أنْ يشربَ معكَ الهِرُّ؟." قال: لا. قال: "فإنَّه قد شربَ معكَ من هو شرٌّ منه، الشَّيطانُ". تفرَّد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أيضًا
(4)
: حدَّثنا عبد الرزَّاق، قال معْمَرٌ، عن الزهريِّ، عن رجلٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمُ الذي يشربُ وهو قائمٌ ما في بطنهِ لاستقاءَه". قال: وحدَّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهريّ
(5)
.
وقال الإمام أحمد
(6)
: حدَّثنا موسى، حدَّثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، أنه سألَ جابرًا: أسمعتَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ
(7)
: "إذا دخلَ الرجل بيتَه فذكرَ اسمَ اللَّه حين يدخلُ وحين يَطْعمُ، قال الشيطان: لا مبيتَ لكم ولا عشاء هاهنا، وإن دخلَ ولم يذكرِ اسمَ اللَّه عند دخولِه، قال: أدركتمُ المبيتَ، وإن لم يذكر اسمَ اللَّه عند طعامه، قال: أدركتم المبيتَ والعَشَاء؟ ". قال: نعم.
وقال البخاري
(8)
: حدَّثنا محمد، أخبرنا عَبْدةُ، عن هشام بن عُرْوةَ، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا طلعَ حاجبُ الشمس فدَعُوا الصَّلاةَ حتى تبرُزَ، وإذا غابَ حَاجِبُ الشَّمس فدعُوا الصلاةَ حتى تغيبَ، ولا تحيَّنوا بصلاتِكم طلوعَ الشمس ولا غُروبها، فإنها تطلعُ بين قَرْني شيطان" أو "الشيطان" لا أدري أيَّ ذلك قال هشام؟.
(1)
هو في صحيح مسلم (2020)(105) في الأشربة، من طريق سالم عن ابن عمر وغيره.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (6/ 77).
(3)
في المسند (2/ 301).
(4)
في المسند (2/ 283) وفي الإسناد الأول انقطاع.
(5)
في هامش أ: شربُ الماء قائمًا مكروه.
(6)
في المسند (3/ 346)، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه (2018) في الأشربة، وأبو داود (3765) في الأدب، وابن ماجه (3887) والنسائي (178) في عمل اليوم والليلة.
(7)
في المسند: أسمعتَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول؟
(8)
في صحيحه (583) في مواقيت الصلاة، و (3272) في بدء الخلق، وفي المطبوع:"تطلع بين قرني الشيطان" أو "الشياطين".
ورواه مسلم والنسائي
(1)
من حديث هشام به.
وقال البخاري
(2)
: حدَّثنا عبد اللَّه بن سلَمة، عن مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمرَ، قال: رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُشيرُ إلى المشرف، فقال:"ها إنَّ الفتنةَ هاهنا، إن الفتنة هاهنا، من حيثُ يطلعُ قرنُ الشيطان". هكذا رواه البخاري منفردًا به من هذا الوجه.
وفي السنن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلسَ بين الشمس والظِلِّ، وقال:"إنَّهُ مجلسُ الشيطان"
(3)
. وقد ذكروا في هذا معاني، من أحسنها أنه لما كان الجلوس في مثل هذا الموضع فيه تشويه بالخلقة فيما يُرى، كان يُحبُّه الشيطان، لأن خِلْقته في نفسه مشوَّهة، وهذا مستقرٌّ في الأذهان، ولهذا قال تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] الصحيح أنَّهم الشياطينُ لا ضَرْبٌ من الحيَّات، كما زعمه من زعمه من المفسرين. واللَّه أعلم. فإن النفوس مغروزٌ فيها قبحُ الشياطين، وحُسْنُ خَلْقِ الملائكة، وإن لمِ يُشاهدوا، ولهذا قال تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] وقال النسوة لمَّا شاهدْن جمالَ يوسفَ {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31].
وقال البخاريُّ
(4)
: حدَّثنا يحيى بنُ جعفرٍ، قال محمّد بن عبد اللَّه الأنصاريُّ، قال ابنُ جريج، أخبرني عطاءٌ، عن جابرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا استجنحَ [اللَّيْلُ]
(5)
أو كان جُنْحُ اللَّيْلِ -فكفُّوا صبيانَكم، فإنَّ الشياطينَ تنتشرُ حينئذ-، فإذا ذهبَ ساعةٌ من العشاء فخلُّوهم، وأغلقْ بابَكَ، واذكر اسمَ اللَّه، وأطفئْ مصباحَكَ، واذكرِ اسمَ اللَّه، وأوكِ سِقَاءكَ واذكرِ اسمَ اللَّه، وخمِّرْ إناءكَ واذكرِ اسمَ اللَّهِ، ولو تَعْرُضُ عليه عُودًا".
ورواه أحمد
(6)
: عن يحيى، عن ابن جُريج، وعندَه:"فإنَّ الشيطانَ لا يفتحُ مُغْلقًا".
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا وكيع، عن مطر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أغلقُوا أبوابَكم، وخمِّروا آنيتَكم، وأوْكُوا أسقيتَكم، وأطفِئُوا سُرُجكم، فإن الشيطان لا يفتحُ بابًا مُغلقًا، ولا يكشفُ غِطاءً، ولا يحلُّ وِكَاءً
(8)
، وإن الفويسقةَ تضْرمُ البيتَ على أهله" يعني: الفأرة.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (828) في صلاة المسافرين، والنسائي (1/ 277) في المواقيت.
(2)
في صحيحه (3279) في بدء الخلق.
(3)
رواه أحمد في المسند (3/ 413) بتمامه. وروى منه أبو داود رقم (4821) وغيره النهي فقط.
(4)
في صحيحه (3280) في بدء الخلق.
(5)
زيادة من البخاري.
(6)
في المسند (3/ 301).
(7)
في المسند (3/ 301).
(8)
في ب: وعاءً، وأثبت ما في أ والمسند، والمطبوع.
وقال البخاري
(1)
: حدَّثنا آدمُ، حدَّثنا شعبةُ، عن منصور، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن كُرَيْب، عن ابن عبَّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ أحدكم إذا أراد أنْ يأتيَ أهلَه قال: اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشيطانَ وجَنِّبِ الشيطانَ ما رزقتني، فإن كان بينهما ولدٌ لم يضرَّه الشيطان ولم يُسلَّطْ عليه". قال: وحدَّثنا الأعمشُ، عن سالم، عن كُرَيْب، عن ابن عبَّاس، مثله.
ورواه أيضًا
(2)
: عن موسى بن إسماعيل، عن همَّام، عن منصورٍ، عن سالم، عن كُرَيب، عن ابن عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أما لو أنَّ أحدَكم إذا أتى أهله قال: بسم اللَّه، اللَّهُمَّ جَنِّبنا الشيطانَ، وجَنِّب الشيطانَ ما رزقتنا، فرُزقا ولدًا لم يضرَّه الشيطانُ".
وقال البخاري
(3)
: حدَّثنا إسماعيلُ، قال أخي، عن سليمانَ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يعقدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقدٍ، يضربُ على كلِّ عُقْدةٍ مكانَها: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقدْ. فإن استيقظَ فذكرَ اللَّه انحلَّت عُقْدةٌ، فإنْ توضَّأ انحلَّت عُقْدةٌ، فإن صلَّى انحلَّتْ عُقَدُهُ كلُّها، فأصبحَ نشيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلا أصبحَ خبيثَ النَّفْس كسلانَ" هكذا رواه منفردًا به من هذا الوجه.
وقال البخاري
(4)
: حدَّثنا إبراهيم بن حمزة، حدَّثني ابن أبي حازم، عن يزيدَ -يعني ابن الهاد- عن محمد بن إبراهيمَ، عن عيسى بن طلحةَ، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظَ أحدُكم من منامِه فتوضَّأَ فليستنثرْ ثلاثًا، فإن الشيطانَ يبيتُ على خَيْشُومهِ".
ورواه مسلم
(5)
: عن بشر بن الحكم، عن الدراوردي، والنسائي
(6)
عن محمد بن زنبور، عن عبد العزيز بن أبي حازم، كلاهما عن يزيد بن الهاد به.
وقال البخاريُّ
(7)
: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبةَ، قال جريرٌ، عن منصورٍ، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، قال: ذُكرَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ نامَ ليلة حتى أصبحَ، قال:"ذاكَ رجلٌ بالَ الشيطانُ في أذنيْه" أو قال: "في أُذنهِ".
ورواه مسلم
(8)
: عن عثمان وإسحاق، كلاهما عن جرير، به.
(1)
في صحيحه (3283) في بدء الخلق.
(2)
في صحيحه (3271) في بدء الخلق.
(3)
في صحيحه (3269) في بدء الخلق.
(4)
في صحيحه (3295) في بدء الخلق.
(5)
في صحيحه (238) في الطهارة.
(6)
في المجتبى (1/ 67) في الطهارة.
(7)
في صحيحه (3270) في بدء الخلق.
(8)
في صحيحه (774) في صلاة المسافرين.
وأخرجه البخاريُّ أيضًا، والنَّسائيُّ، وابن ماجه
(1)
، من حديث منصور بن المعتمر به.
وقال البخاري
(2)
: حدَّثنا محمد بن يُوسف، أخبرنا الأوزاعيُّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرة، قالَ: قالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا نُودي بالصَّلاة أدبرَ الشيطانُ وله ضُراطٌ، فإذا قُضِيَ أقبلَ، فإذا ثُوِّبَ بها أدبرَ، فإذا فُضِيَ أقبلَ حتَّى يخْطِرَ بين الإنسان وقلبهِ، فيقولُ: اذكرْ كذا وكذا، حتى لا يَدري أثلاثًا صلَّى أم أربعًا، فإذا لم يدرِ أثلاثًا صلَّى أم أربعًا سجدَ سجدتَي السَّهْو" هكذا رواه منفردًا به من هذا الوجه.
وقال أحمد
(3)
: حدَّثنا أسودُ بن عامر، حدَّثنا جعفر -يعني الأحمر- عن عطاء بن السائب، عن أنس، قالَ: قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "راصُّوا الصفوفَ فإن الشيطانَ يقومُ في الخلل".
وقال أحمد
(4)
: حدَّثنا أبان، حدَّثنا قتادة، عن أنس بن مالك، أنَّ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ:"راصُّوا صُفوفكم وقاربُوا بينها، وحاذُوا بين الأعناق، فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيده إني لأرى الشيطان يدخل بين خلل الصف كأنَّهُ الحَذَف".
وقال البخاري
(5)
: حدَّثنا أبو مَعْمر، حدَّثنا عبدُ الوارث، حدَّثنا يونسُ، عن حُميدٍ بن هلالٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا مرَّ بين يديْ أحدكُم شيء [وهو يُصلِّي] فليمنعْه، فإن أبى فليمنعْه، فإن أبى فليقاتلْه، فإنما هو شيطان".
ورواه أيضًا مسلم وأبو داود
(6)
من حديث سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال به.
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا أبو أحمد، حدَّثنا مسرَّةُ بن مَعْبد، حدَّثنا أبو عُبيد حاجب سُليمان، قال: رأيتُ عطاءَ بن يزيد الليثي قائمًا يُصلّي، فذهبتُ أمرُّ بين يديْه فردَّني، ثم قال: حدَّثني أبو سعيد الخُدْريّ؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قام يُصلِّي صلاةَ الصُّبْح وهو خلفه، فقرأ، فالتبستْ عليه القراءةُ، فلما فرغَ من صلاتِه قال: "لو رأيتموني وإبليس، فأهويتُ بيدي، فما زلتُ أخْنقه حتى وجدتُ بردَ لُعابهِ بين إصبعيَّ هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوةُ أخي سُليمان لأصبحَ مربوطًا بساريةٍ من سَواري
(1)
أخرجه البخاري (1144) في التهجد، والنسائي (3/ 204) في قيام الليل، وابن ماجه (1330) في إقامة الصلاة.
(2)
في صحيحه (3285) في بدء الخلق.
(3)
في المسند (3/ 154) وفيه: فإن الشياطين.
(4)
في المسند (3/ 260) وفيه: فإن الشياطين تدخل. والحَذَفُ: هي الغنم الصِّغار الحجازية، واحدتها حَذَفة.
(5)
في صحيحه (3274) في بدء الخلق.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه (510 و 265) في الصلاة، وأبو داود (702) في الصلاة.
(7)
في المسند (3/ 82).
المسجد، يتلاعبُ به صِبْيانُ المدينة، فمنِ استطاعَ منكم ألَّا يحولَ بينه وبينَ القِبْلة أحدٌ فليفعلْ"
(1)
.
وروى أبو داود
(2)
: "فمن استطاعَ. . . " إلى آخره، عن أحمد بن سريج، عن أبي أحمد محمد بن عبد اللَّه بن الزبير به.
وقال البخاري
(3)
: حدَّثنا محمود، حدَّثنا شبَابة، حدَّثنا شعبة، عن محمّدِ بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلَّى صلاةً، فقال:"إنَّ الشيطانَ عرضَ لي، فشدَّ عليّ يقطعُ الصَّلاة عليّ، فأمكنني اللَّه منه"، فذكر الحديث.
وقد رواه مسلم والنسائي
(4)
من حديثِ شعبةَ به مطوَّلًا.
ولفظ البخاري: عند تفسير قوله تعالى إخبارًا عن سليمان عليه السلام؛ أنه قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] من حديثِ روحٍ، وغُنْدَر عن شُعبةَ، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن عفريتًا من الجنِّ تفلَّت عليَّ البارحة -أو كلمةً نحوها- ليقطعَ عليَّ الصَّلاة، فأمكنني اللَّه منه، فأردتُ أن أربطه إلى ساريةٍ من سواري المسجد، حتَّى تُصبحوا وتَنظروا إليه كُلُّكم، فذكرتُ قولَ أخي سليمانَ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] "
(5)
قال رَوْحٌ: فردَّه خَاسِئًا.
وروى مسلم
(6)
: من حديث أبي إدريس، عن أبي الدرداء، قال: قامَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلِّي فسمعناه يقولُ: "أعوذُ باللَّه منكَ" ثم قال: "ألعنُكَ بلعنةِ اللَّه" ثلاثًا، وبسطَ يدَه كأنَّه يتناولُ شيئًا، فلمَّا فرغَ من الصَّلاة، قلنا: يا رسولَ اللَّه قد سمعناكَ تقولُ في الصَّلاة شيئًا لم نَسمعْكَ تقولُه قبلَ ذلكَ، ورأيناك بسطتَ يدكَ، فقال:"إنَّ عدوَّ اللَّه إبليسَ، جاءَ بشهابٍ من نار، ليجعلَه في وَجْهي، فقلتُ: أعوذ باللَّه منك، ثلاث مراتٍ، ثم قلتُ: ألعنُكَ بلعنةِ اللَّه التَّامَّة، فلم يستأخر، ثم أردتُ أخذه، واللَّه لولا دعوةُ أخينا سليمانَ لأصبحَ مُوثَقًا يلعبُ به وِلْدانُ أهلِ المدينة".
وقال اللَّهُ تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] يعني الشيطان، وقال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] فالشيطانُ لا يألو الإنسانَ خبالًا جهده وطاقته، في جميع أحواله وحركاته وسكناته، كما صنَّف الحافظ
(1)
إسناده حسن.
(2)
في سننه (699) في الصلاة.
(3)
في صحيحه (3284) في بدء الخلق.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (541) في المساجد، والنسائي في سننه الكبرى (11440) في التفسير.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (4808) في التفسير.
(6)
في صحيحه (542) في المساجد ومواضع الصلاة.
أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله كتابًا في ذلك سمَّاه "مكائد الشيطان"
(1)
وفيه فوائد جمَّة.
وفي سنن أبي داود
(2)
: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقولُ في دعائه: "وأعوذُ بكَ أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت" وروينا في بعض الأخبار أنه قال: يا رب! وعزَّتك وجلالكَ لا أزالُ أُغويهم ما دامتْ أرواحُهم في أجسادِهم، فقال اللَّه تعالى: وعزتي وجلالي ولا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفروني
(3)
. وقال اللَّه تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] فوعدُ اللَّه هو الحقُّ الصِّدْقُ، ووعدُ الشيطان هو الباطل.
وقد روى الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حبَّان في "صحيحه"
(4)
، وابن أبي حاتم في تفسيره: من حديث عطاءِ بن السَّائبِ، عن مُرَّة الهَمْداني، عن ابن مسعود، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن للشيطانِ لَمَّة بابن آدمَ، وللملك لمَّة، فأما لمَّةُ الشيطان فإيعاد بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ، وأما لمَّةُ المَلَكِ فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحقِّ، فمن وجدَ ذلك فليعلمْ أنَّه من اللَّه فليحمدِ اللَّه، ومن وجدَ الأخرى فليتعوّذ من الشيطان ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] ".
وقد ذكرنا في فضل سورة البقرة
(5)
؛ أنَّ الشيطانَ يفرُّ من البيت الذي تُقرأ فيه، وذكرنا في فضل آية الكرسي
(6)
؛ أنَّ من قرأها في ليلةٍ لا يقربُه الشيطان حتَّى يُصبحَ.
وقال البخاري
(7)
: حدَّثنا عبد اللَّه بن يوسف، أخبرنا مالك، عن سُمَيٍّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"منْ قالَ لا إله إلا اللَّه وحدَه لا شريكَ له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير مئةَ مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك، حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاءَ به إلا رجل عملَ أكثر من ذلك".
(1)
في المطبوع: "مصائد الشيطان"، والكتاب مطبوع بالقاهرة سنة 1410 هـ بتحقيق مجدي السيد إبراهيم 192 ص، واسمه "مكائد الشيطان" كما أثبتناه.
(2)
سنن أبي داود (1552) في الصلاة.
(3)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان" ص 43.
(4)
أخرجه الترمذي في سننه (2988) في التفسير، والنسائي (11051) في الكبرى، والطبري في التفسير (3/ 88) وابن حبان في صحيحه (997) الإحسان. وقال الترمذي: حسن غريب. أقول: وإسناده ضعيف.
واللَّمَّة من الشيطان، مسٌّ، واللَّمة: الشدة.
(5)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 46 - 47).
(6)
المصدر السابق (1/ 378 - 379).
(7)
في صحيحه (3293) في بدء الخلق.
وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه
(1)
من حديث مالك، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال البخاريُّ
(2)
: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ ابن آدمَ يطعُنُ الشيطانُ في جَنْبيهِ بإصبَعِهِ، حينَ يُولَدُ، غيرَ عيسى بن مريم، ذهبَ يطعنُ، فطعنَ في الحجاب". تفرَّد به من هذا الوجه.
وقال البخاريُّ
(3)
: حدَّثنا عاصمُ بن عليّ، حدَّثنا ابنُ أبي ذئب، عن سعيد المَقْبريِّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"التثاؤبُ منَ الشيطان، فإذا تثاءبَ أحدُكم فليردَّه ما استطاعَ، فإن أحدَكم إذا قال: ها، ضحكَ الشيطانُ".
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، والنسائي
(4)
من حديث ابن أبي ذئب به، وفي لفظ:"إذا تثاءب أحدُكم فليكظم ما استطاع، فإن الشيطانَ يدخلُ".
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا عبدُ الرزاق، أنبأنا سفيان، عن محمّد بن عجلان، عن سعيدِ المَقْبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّهَ يُحبُّ العُطاسَ، ويبغضُ أو يكرهُ التثاؤبَ، فإذا قال أحدُكم: ها، ها، فإن ذلك الشيطان يضحكُ من جوفه". ورواه الترمذي والنسائي
(6)
، من حديث محمد بن عجلان، به.
وقال البخاريُّ
(7)
: حدَّثنا الحسنُ بن الربيع، حدَّثنا أبو الأحوص، عن أشعث، عن أبيه، عن مسروق، قال: قالت عائشةُ: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصَّلاة؟ فقال: "هو اختلاسٌ يختلسُه الشيطانُ من صلاة أحدكُم". وكذا رواه أبو داود والنسائي
(8)
من رواية أشعث بن أبي الشعثاء، سليم بن أسود المحاربي، عن أبيه، عن مسروق، به.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (2691) في الذكر، والترمذي في جامعه (3464) في الدعوات، وابن ماجه (3798) في ثواب التسبيح.
(2)
في صحيحه (3286) في بدء الخلق.
(3)
في صحيحه (3289) في بدء الخلق.
(4)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 397 و 517) وأبو داود (5028) في الأدب، والترمذي في جامعه (2746) في الأدب، والنسائي في عمل اليوم والليلة (216).
(5)
في المسند (2/ 265).
(6)
في جامعه (2746) في الاستئذان، والنسائي في اليوم والليلة (217).
(7)
في صحيحه (751) في صفة الصلاة، و (3291) في بدء الخلق.
(8)
أخرجه أبو داود في سننه (910) في الصلاة، والنسائي (3/ 8) في السهو.
وروى البخاريُّ
(1)
: من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، حدَّثني عبدُ اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصَّالحةُ من اللَّه، والحُلمُ من الشيطان، فإذا حَلَمَ أحدُكم حُلُمًا يخافُه فليبصقْ عن يساره، وليتعوَّذ باللَّه من شرِّها فإنها لا تضرُّه".
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا مَعْمرٌ، عن همَّام، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يُشيرنَّ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدُكم لعلَّ الشيطان أن ينزعَ في يده، فيقع في حفرةٍ من النَّار".
أخرجاه
(3)
من حديث عبد الرزاق.
وقال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] وقال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ} [الصافات: 6 - 10] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18] وقال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212] وقال تعالى إخبارًا عن الجان: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9].
وقال البخاري
(4)
: وقال الليث: حدَّثني خالدُ بن يزيد، عن سعيدِ بن أبي هلال: أنَّ أبا الأسود أخبرَه، عن عروةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الملائكةُ تتحدَّثُ في العنَان -والعَنانُ: الغمام- بالأمر يكونُ في الأرضِ فتستمعُ الشياطينُ الكلمةَ، فتقرُّها في أذنِ الكاهن، كما تُقرُّ القارورة، فيزيدونَ معها مئة كذبةٍ". هكذا رواه في صفة إبليس معلَّقًا، عن الليث به. ورواه في صفة الملائكة
(5)
: عن سعيد بن أبي مريم، عن الليث، عن عُبيد اللَّه بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، بنحوه. تفرَّد بهذين الطريقين دون مسلم.
وروى البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث الزهري، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: قالت عائشة: سأل أناسٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الكُهَّان، فقال:"إنهم ليسوا بشيء" فقالوا:
(1)
في صحيحه (3292) في بدء الخلق، وأخرجه (6986) في التعبير من حديث عبد اللَّه بن يحيى بن أبي كثير، عن أبيه.
(2)
في المسند (2/ 217).
(3)
أخرجه البخاري (7072) في الفتن، ومسلم (2617) في البر والصلة.
(4)
في صحيحه (3288).
(5)
من صحيحه (3210).
يا رسول اللَّه! إنَّهم يُحدِّثوننا أحيانًا بشيءٍ فيكون حقًّا، فقال صلى الله عليه وسلم:"تلكَ الكلمةُ من الحقِّ يخطَفُها من الجنِّيِّ فيُقرْقِرُها في أذن وليِّه كقَرْقرةِ الدَّجاجة، فيخلطونَ معها [أكثر من] مئة كذبةٍ"
(1)
. هذا لفظ البخاري.
وقال البخاري
(2)
: حدَّثنا الحميديُّ، حدَّثنا سفيانُ، حدَّثنا عمرو، قال: سمعتُ عكرمةَ، يقول: سمعتُ أبا هريرةَ يقولُ: إن نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى اللَّه الأمرَ في السَّماء ضربتِ الملائكةُ بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلةٌ على صَفْوان، حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا: ماذا قالَ ربُّكمِ؟ قالوا: للذي قال الحقّ، وهو العليُّ الكبيرُ. فيسمعُها مسترقُ السمع، ومسترقُ السَّمعِ هكذا بعضُه فوق بعضٍ -ووصفَ سفيانُ بكفِّه فحرَّفها وبدَّد بين أصابعه- فيسمعُ الكلمةَ فيُلقيها إلى مَن تحته، ثم يُلقيها الآخرُ إلى منْ تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحرِ أو الكاهنِ، فربما أدركَ الشِّهابُ قبلَ أنْ يُلقيها، وربما ألقاهَا قبلَ أنْ يُدركه، فيكذبُ معها مئة كذبةٍ، فيقال: أليس قد قال لنا يومَ كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدَّق بتلكَ الكلمة التي سُمعتْ من السماء" انفرد به البخاري.
وروى مسلم
(3)
: من حديث الزهري، عن عليِّ بن الحسين زين العابدين، عن ابن عبَّاس، عن رجال من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا. وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (26) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 36 - 38] وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] الآية. وقال تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 27 - 29] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113].
وقد قدَّمنا في صفة الملائكة، ما رواه أحمد ومسلم
(4)
: من طريق منصور، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن أبيه، -واسمهُ رافع- عن ابن مسعود، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُه من الجنِّ وقرينُه من الملائكة، قالوا: وإيَّاك يا رسولَ اللَّه؟ قال: وإيَّاي، ولكنَّ اللَّه أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير".
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه -واسمه حُصَيْنُ بن جُنْدب، وهو أبو ظَبْيان الجَنبيُّ- عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليس منكم من
(1)
أخرجه البخاري (7561) في التوحيد، ومسلم (2228) في السلام.
(2)
في صحيحه (4800) في التفسير. وأخرجه (4701) في التفسير، و (7481) في التوحيد عن علي ابن المديني عن سفيان.
(3)
في صحيحه (2229 و 124) في السلام.
(4)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 385 و 397 و 401) ومسلم (2814) في صفات المنافقين.
أحد إلا وقد وُكِّلَ به قرينُه من الشياطين، قالوا: وأنتَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: نعم، ولكنَّ اللَّه أعانني عليه فأسلم"
(1)
. تفرَّد به أحمد، وهو على شرط الصحيح.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا هارون، حدَّثنا عبد اللَّه بن وَهْب، أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن عبد اللَّه بن قُسَيْط، حدَّثه أن عروة بن الزبير حدَّثه، أنَّ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدَّثته؛ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرجَ من عندها ليلًا، قالتْ: فغرتُ عليه، قالت: فجاءَ فرأى ما أصنعُ، فقال:"مالكِ يا عائشةُ أغرْت؟ قالت: فقلت: ومالي ألَّا يغار مِثْلي على مِثْلِك؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أفأخذك شيطانُكِ؟ " قالت: يا رسول اللَّه أو معي شيطان. قال: "نعم". قلت: ومع كلِّ إنسان. قال: نعم. قلتُ: ومعكَ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "نعم، ولكنَّ ربِّي أعانني عليه حتَّى أسلمَ"
(2)
.
وهكذا رواه مسلم
(3)
عن هارون -وهو ابن سعيد الأيلي- بإسناده نحوه.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا ابنُ لهيعة، عن مُوسى بن وَرْدان، عن أبي هريرة؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن المؤمنَ ليُنْصي شيطانه كما يُنْصي أحدُكم بعيرَه في السفر" تفرَّد به أحمد من هذا الوجه.
ومعنى لينصي شيطانه: ليأخذ بناصيته، فيغلبَه ويقهرَه، كما يُفْعلُ بالبعير إذا شردَ، ثم غلبَه. وقوله تعالى: إخبارًا عن إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17].
قال الإمام أحمد: حدَّثنا هاشم بن قاسم، حدَّثنا أبو عقيل -هو عبد اللَّه بن عقيل الثقفي- حدَّثنا موسى بن المسيَّب، عن سالم بن أبي الجعد، عن سبرةَ بن أبي فاكه، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: قال: "إنَّ الشيطانَ قعدَ لابن آدمَ بأطرقه، فقعدَ له بطريق الإسلام، ففال له: أتُسلمُ وتذرُ دينكَ ودينَ آبائك؟ قال: فعصاه وأسلم، قال: وقعد له بطريق الهجرة، فقالَ: أتهاجر وتذر أرضكَ وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجرَ، قال: ثم قعدَ له بطريق الجهاد، فقال له: هو جهاد النفس والمال، فقال: أتقاتل فتقتل، فتُنكحُ المرأةُ ويُقسمُ المالُ؟ قال: فعصاه وجاهدَ" قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "فمنْ يفعلْ ذلك منهم كان حقًا على اللَّه أن يدخله الجنَّة، وإن كان غرقَ كان حقًّا
(1)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 257) وهو حديث حسن.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (6/ 115). وفيه: عن ابن قسيط (في المطبوع من سند أحمد: أبي قسيط، خطأ)، وهو يزيد بن عبد اللَّه بن قُسَيْط، يكنى أبا عبد اللَّه وانظر التقريب ترجمة (7741) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.
(3)
في صحيحه (2815)(70) في صفات المنافقين.
(4)
في المسند (2/ 380).
على اللَّه أنْ يُدْخله الجنَّة، وإن وقصتْه دابَّتُه كان حقًّا على اللَّه أن يُدْخله الجنَّة"
(1)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدَّثني جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، سمعتُ عبد اللَّه بن عمر، يقول: لم يكن رسول اللَّه يدعُ هذه الدعوات حين يُصبحُ وحينَ يُمسي: "اللهم إني أسألُك العافية في الدنيا والآخرة، اللَّهمَّ إني أسألكَ العفوَ والعافيةَ في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللَّهُمَّ استرْ عَوْراتي وآمنْ رَوْعاتي، اللَّهُمَّ احفظْني من بين يديَّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شِمالي ومنْ فَوْقي، وأعوذُ بعظمتك أنْ أُغتالَ منْ تحتي"
(2)
. قال وكيع: يعني الخسف.
ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم
(3)
: من حديث عبادة بن مسلم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
* * *
باب ما وردَ في خلق آدمَ عليه السلام
وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
(1)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 483).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 25).
(3)
أخرجه أبو داود (5074) في الأدب، وابن ماجه (3871) في الدعاء، والنسائي (8/ 282) في الاستعاذة، و (566) في عمل اليوم والليلة، وابن حبان في صحيحه (961) الإحسان، والحاكم في المستدرك (1/ 517 و 518) وصححه وهو كما قال.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. كما قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. وقال تعالى: {(188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ} [الأعراف: 189] الآية وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 11 - 25]. كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)} [الحجر: 26 - 44].
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)[مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ]
(1)
} [الكهف: 50 - 51].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 115 - 126]. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 67 - 88].
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن، وقد تكلَّمنا على ذلك كلِّه في التفسير، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلَّت عليه هذه الآيات الكريمات، وما يتعلَّق بها من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وباللَّه المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطبَ الملائكة قائلًا لهم {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] أعلمَ بما يُريد أن يخلقَ من آدمَ وذريَّته الذين يخلفُ بعضُهم بعضًا، كما قال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]. [وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ. .} [النمل: 162]]
(2)
. فأخبرَهم بذلك على سبيل التنويه بخَلْق آدمَ وذريَّته، كما يُخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلامِ عن وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض والتنقُّص لبني آدم والحسد لهم، كما قد يتوَّهمُه بعضُ جهلة المفسرين، قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]
(1)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(2)
سقط من المطبوع.
قيل: علموا أن ذلك كائنٌ بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن
(1)
، قاله قتادة.
وقال عبد اللَّه بن عمر، وكانت الجنُّ قبلَ آدمَ بألفيْ عامٍ، فسفكُوا الدِّماءَ، فبعثَ اللَّه إليهم جندًا من الملائكة فطردُوهم إلى جزائر البحور.
وعن ابن عباس نحوه. وعن الحسن: أُلهموا ذلك.
[وقيل: لما اطَّلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل: أطلعَهم عليه هاروتُ وماروتُ، عن مَلَكٍ فوقَهما يُقال له السِّجلُّ. رواه ابن أبي حاتم عن أبي جعفر الباقر]
(2)
.
وقيل: لأنهم علموا أن الأرضَ لا يُخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبًا.
{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] أي: نعبدُك دائمًا لا يعصيك منا أحد، فإن كان المرادُ بخلق هؤلاء أنْ يعبدُوك فها نحنُ لا نفترُ ليلًا ولا نهارًا.
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أي: أعلمُ من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون، أي: سيُوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصِّدِّيقون والشهداء والصالحون.
ثم بيَّن لهم شرفَ آدمَ عليهم في العلم، فقال {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] قال ابن عباس: هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابَّة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وفي رواية: علَّمه اسم: الصَّحْفة، والقدر، حتى الفَسْوة والفُسيَّة. وقال مجاهد: علَّمه اسم كلِّ دابَّةٍ وكلِّ طير، وكل شيء. وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد. وقال الربيع: علَّمه أسماء الملائكة.
وقال عبد الرحمن بن زيد: علَّمه أسماءَ ذريَّته.
والصحيح: أنه علَّمه أسماءَ الذوات وأفعالها، مُكبَّرها ومُصغَّرها، كما أشار إليه ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما.
وذكر البخاريُّ هاهنا ما رواه هو ومسلم: من طريق سعيد وهشام، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمعُ المؤمنون يومَ القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربِّنا حتى يُريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدمَ فيقولون: أنت أبو البشر، خلقكَ اللَّه بيده، وأسجدَ لكَ
(1)
انظر تفسير عبد الرزاق (1/ 42) ومرآة الزمان (1/ 25).
(2)
ما بين حاصرتين أثبته من المطبوع.
ملائكته، وعلَّمك أسماءَ كلِّ شيء. . . . "
(1)
وذكرَ تمام الحديث.
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31] قال الحسن البصري: لما أراد اللَّه خلقَ آدمَ قالتِ الملائكةُ: لا يخلقُ ربُّنا خَلْقًا إلا كنَّا أعلم منه، فابتلوا بهذه. وذلك قوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31].
وقيل: غير ذلك، كما بسطناه في "التفسير"
(2)
.
قالوا {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] أي: سبحانك أن يُحيطَ أحدٌ بشيء من علمك من غير تعليمكَ، كما قال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
{قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] أي: أعلم السر كما أعلم العلانية.
وقيل: إن المراد بقوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} ما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} وبقوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} المراد بهذا الكلام إبليس، حين أسرَّ الكِبْرَ
(3)
على آدم عليه السلام، قاله سعيدُ بن جُبير ومجاهد والسُّدِّي والضَّحَّاك والثوري، واختاره ابنُ جرير
(4)
.
وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قولهم: لن يخلقَ ربُّنا خلقًا إلا كنا أعلم منه، وأكرم عليه منه.
وقوله {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34] هذا إكرامٌ عظيم من اللَّه تعالى لآدمَ، حين خلقَه بيده، ونفخَ فيه من روحه، كما قال:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] فهذه أربع تشريفات: خَلْقهُ له بيده الكريمة، ونَفْخُه فيه من روحه، وأمْرُهُ ملائكتَه بالسجود له، وتعليمُه أسماءَ الأشياء.
ولهذا قال له موسى الكليمُ حين اجتمعَ هو وإيَّاه في الملأ الأعلى وتناظرا، كما سيأتي: أنت آدم أبو البشر، الذي خلقكَ اللَّه بيده، ونفخَ فيك من رُوحه، وأسجدَ لكَ ملائكتَه، وعلَّمكَ أسماءَ كل شيء. وهكذا يقولُ أهلُ المحشر يومَ القيامة كما تقدَّم وكما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
وقال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (7410) في التوحيد، ومسلم (193) في الإيمان.
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 95).
(3)
في تفسير الطبري (1/ 259) وعند ابن كثير (1/ 96) والاغترار.
(4)
تفسير الطبري (5/ 441).
يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 11 - 12].
قال الحسن البصري: قاسَ إبليسُ وهو أول من قاس.
وقال محمد بن سيرين: أوَّلُ منْ قاسَ إبليسُ، وما عُبدت الشمسُ ولا القمرُ إلا بالمقاييس. رواهما ابن جرير
(1)
.
ومعنى هذا أنه نظرَ نفسَه بطريق المقايسة بينه وبين آدمَ، فرأى نفسه أشرفَ من آدمَ، فامتنعَ من السجود له، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود. والقياسُ إذا كان مقابلًا للنَّص كان فاسدَ الاعتبار، ثم هو فاسدٌ في نفسه، فإنَّ الطينَ أنفعُ وخيرٌ من النَّار، فإنَّ الطينَ فيه الرَّزانةُ والحِلْمُ والأناةُ والنموُّ، والنَّارُ فيها الطَّيْشُ والخِفَّةُ والسُّرعةُ والإحراقُ.
ثم آدمُ شرَّفه اللَّه بخَلْقِه له بيده، ونَفْخه فيه من روحِه، ولهذا أمرَ الملائكةَ بالسجود له، كما قال:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 28 - 35]. استحقَّ هذا من اللَّه تعالى، لأنه استلزمَ تنقَّصه لآدمَ وازدراؤهُ به، وترفُّعه عليه مخالفةَ الأمر الإلَهي، ومعاندةَ الحقِّ في النَّص على آدمَ على التَّعيين، وشرعَ في الاعتذار بما لا يُجدي شيئًا، وكان اعتذارُه أشدَّ من ذنبه، كما قال تعالى في سورة سبحان:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 61 - 65] وقال في سورة الكهف: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي: خرجَ عن طاعة اللَّه عَمْدًا وعِنادًا، واستكبارًا عن امتثال أمره، وما ذاكَ إلا لأنه خانه طَبْعه، ومادَّتُه الخبيثة أحوج ما كان إليها فإنَّه مخلوقٌ من نارٍ كما قال، وكما قدَّمنا في صحيح مسلم
(2)
: عن عائشةَ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"خُلِقت الملائكةُ من نورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ من مارجٍ من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصِفَ لكم".
قال الحسن البصري: لم يكن إبليسُ من الملائكة طَرْفة عين قط.
وقال شهر بن حوشب: كان من الجنِّ، فلما أفسدوا في الأرض بعثَ اللَّه إليهم جندًا من الملائكة
(1)
المصدر نفسه.
(2)
في صحيحه (2996) في الزهد والرقائق، وأخرجه أحمد (6/ 168).
فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار، وكان إبليسُ ممن أُسِرَ، فأخذوه معهم إلى السماء فكانَ هناك، فلما أُمِرَتِ الملائكةُ بالسجود امتنعَ إبليسُ منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيدُ بن المسيَّب وآخرون: كان إبليسُ رئيسَ الملائكة بالسماء الدنيا
(1)
.
قال ابنُ عبَّاس
(2)
: وكان اسمه عزازيل. وفي رواية: الحارث، قال النقَّاش: وكنيتُه "أبو كردوس" قال ابن عباس: وكان من حيٍّ من الملائكة يُقال له الجنُّ، وكانوا خُزَّان الجِنانِ، وكان من أشرفهم، ومن أكثرهم علمًا وعبادة، وكان من أولي الأجنحة الأربعة فمسخَه اللَّه شيطانًا رجيمًا.
وقال في سورة الأعراف: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] أي: بسبب إغوائك إيَّاي لأقعدنَّ لهم كل مَرْصد ولآتينَّهم من كلِّ جهة منهم، فالسعيدُ من خالفَه والشقيُّ من اتَّبعه.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا هاشم بن القاسم، حدَّثنا أبو عقيل -هو عبدُ اللَّه بن عقيل الثقفيِّ- حدَّثنا موسى بن المسيَّب
(4)
، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن سَبْرة بن أبي الفاكه، قال: سمعت رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الشيطانَ يقعدُ لابن آدمَ بأطرقهِ. . " وذكرَ الحديث كما قدَّمنا
(5)
في صفة إبليس.
وقد اختلفَ المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدمَ، أهم جميع الملائكة، كما دلَّ عليه عموم الآيات وهو قول الجمهور، أو المرادُ بهم ملائكةُ الأرض، كما رواه ابنُ جرير
(6)
: من طريقِ الضَّحاك،
(1)
ولا دليل على ذلك.
(2)
تفسير الطبري (1/ 2).
(3)
في المسند (3/ 483).
(4)
في المسند: موسى بن المثنى، والصحيح ما أثبته، وهو موسى بن المسيَّب الثقفي البزار. وانظر الكاشف؛ للذهبي (2/ 308). وأطراف المسند للحافظ ابن حجر، تحقيق د. زهير الناصر (2/ 425).
(5)
تقدم ذلك ص (108).
(6)
في تفسيره (1/ 261 - 262).
عن ابن عبَّاس؟ وفيه انقطاعٌ، وفي السياق نكارةٌ، وإن كان بعضُ المتأخرين قد رجَّحه، ولكن الأظهر من السياقات الأولى، ويدل عليه الحديث: وأسجد له ملائكته، وهذا عموم أيضًا واللَّه أعلم.
وقوله تعالى لإبليس {فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف: 13] و {أَخْرَجَ مِنْهَا} [الأعراف: 18] دليلٌ على أنَّه كان في السماء، فأُمر بالهبوط منها، والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته، وتشبُّهه بالملائكة في الطاعة والعبادة، ثم سُلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه، فأُهبط إلى الأرض مذؤُوما
(1)
مدحورًا
(2)
.
وأمرَ اللَّه آدمَ عليه السلام أن يسكن هو وزوجه الجنَّة، فقال:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]. وقال في الأعراف: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 18 - 19] وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 116 - 119] وسياق هذه الآيات يقتضي أن خلقَ حواء كان قبلَ دخول آدم إلى الجنَّة [لقوله: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
(3)
[البقرة: 35]].
وهذا قد صرَّح به إسحاقُ بن يَسار، وهو ظاهرُ هذه الآيات.
ولكن حكى السُّدِّي: عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عبَّاس، وعن مُرَّة عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة؛ أنهم قالوا: أُخرجَ إبليس من الجنَّة، وأسكنَ آدمُ الجنَّة، فكان يمشي فيها وحشيًّا ليس له فيها زوج يسكن إليها، فنامَ نومةً فاستيقظَ، وعند رأسه امرأةٌ قاعدةٌ، خلقَها اللَّه من ضِلْعه، فسألَها: منْ أنتِ؟ قالت: امرأةٌ. قال: ولمَ خُلقتِ؟ قالت: لتسكنَ إليَّ. فقالت له الملائكةُ ينظرونَ ما بلغَ من علمه: ما اسمُها يا آدمُ؟ قال: حوَّاء. قالوا: ولمَ كانتْ حوَّاء؟ قال: لأنها خُلِقتْ من شيءٍ حيّ
(4)
.
وذكر محمد بن إسحاق: عن ابن عبَّاسِ: إنَّها خُلقتْ من ضِلْعه الأقصرِ الأيسرِ وهو نائمٌ، ولأمَ
(5)
مكانَه لحمًا، ومصداق هذا في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] الآية. وفي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا
(1)
مذؤومًا: مذمومًا بأبلغ الذم.
(2)
مدحورًا: مقصيًّا، مُبعدًا.
(3)
ما بين الحاصرتين سقط من "ب".
(4)
تفسير الطبري (3/ 578).
(5)
لأمَ: أصلح.
زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189] الآية. وسنتكلَّم عليها فيما بعد إن شاء اللَّه تعالى.
وفي الصحيحين
(1)
: من حديث زائدةَ، عن مَيْسرة الأشجعيِّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"استوصُوا بالنساء خيرًا، فإنَّ المرأةَ خُلِقتْ من ضِلَعٍ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا" لفظ البخاري.
وقد اختلف المفسرون
(2)
في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فقيل: هي الكَرْمُ، ورُوي عن ابن عبَّاس، وسعيد بن جُبَيْر، والشعبي، وجَعْدةَ بن هُبيرة، ومحمد بن قَيْس، والسُّدِّي، ورواه عن ابن عبَّاس، وابن مسعود، وناس من الصحابة، قال: وتزعمُ يهودُ أنَّها الحنطةُ، وهذا مرويٌّ عن ابن عبَّاس، والحسن البصري، ووهب بن منبِّه، وعطية العوفي، وأبي مالك، ومحارب بن دِثار، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
قال وهب: والحبَّةُ
(3)
منه ألينُ من الزبد وأحلى من العسل.
وقال الثوريُّ: عن حُصَيْن، عن أبي مالك:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هي النَّخْلةُ
(4)
.
وقال ابن جريج، عن مجاهد: هي التِّيْنةُ، وبه قال قتادةُ (2).
وقال أبو العالية: كانت شجرةً منْ أكلَ منها أحدثَ، ولا ينبغي في الجنَّة حدَثٌ
(5)
.
وهذا الخلاف قريبٌ، وقد أبهمَ اللَّهُ ذِكرَها وتعيينَها، ولو كان في ذكرها مصلحةٌ تعودُ إلينا لعيَّنَها لنا، كما في غيرها من المَحالِّ التي تُبْهمُ في القرآن.
وإنما الخلافُ الذي ذكروه في أنَّ هذه الجنَّة التي أُدْخِلها آدمُ؛ هل هي في السماء
(6)
أو في الأرض؟ هو الخلاف الذي ينبغي فَصْلُه والخروج منه، والجمهورُ على أنها هي التي في السماء، وهي جنَّة المأوى؛ لظاهر الآيات والأحاديث، كقوله تعالى:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] والألف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي، وإنما تعود على معهود ذِهْني، وهو المستقر شرعًا من جنَّة المأوى، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام "علامَ أخرجْتنا ونفسكَ من
(1)
أخرجه البخاري في صحيحه (3331) في الأنبياء، ومسلم (1468)(60) في الرضاع.
(2)
انظر تفسير الطبري (1/ 268 - 270) وتفسير ابن كثير (1/ 102 - 103).
(3)
في ب: والخبز، وما أثبتناه من أ، والمطبوع، والتفسير (1/ 102).
(4)
تفسير الطبري (1/ 270).
(5)
تفسير ابن كثير (1/ 102).
(6)
في ب: السماوات.
الجنة. . . . "
(1)
الحديث، كما سيأتي الكلام عليه.
ورواه مسلم في صحيحه
(2)
: من حديث أبي مالك الأشجعيّ، -واسمه: سعدُ بن طارق- عن أبي حازم سلمةَ بن دينار، عن أبي هريرة. وأبو مالك، عن ربعي، عن حذيفة، قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يجمعُ اللَّه النَّاسَ، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة، فيأتون آدمَ فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنَّة، فيقول: وهل أخرجَكم من الجنة إلَّا خطيئة أبيكم. . " وذكر الحديث بطوله.
وهذا فيه قوة جيِّدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنَّةَ المأوى، وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون: بل الجنة التي أُسكنها آدمُ لم تكنْ جنَّةَ الخلد، لأنه كُلِّفَ فيها ألا يأكلَ من تلك الشجرة، ولأنه نامَ فيها وأُخرجَ منها، ودخلَ عليه إبليسُ فيها، وهذا مما يُنافي أن تكونَ جنَّة المأوى. وهذا القول محكيٌّ عن أُبيِّ بن كعب، وعبد اللَّه بن عبَّاس، ووهْبِ بن مُنَبِّه، وسفيان بن عُيَيْنة، واختارَه ابنُ قُتيبة في "المعارف"
(3)
والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في "تفسيره" وأفرد له مصنفًا على حدة، وحكاه عن أبي حنيفة
(4)
الإمام وأصحابِه، رحمهم الله.
ونقله أبو عبد اللَّه محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الريّ في "تفسيره"
(5)
عن أبي القاسم البَلْخي وأبي مُسلم الأصبهاني.
ونقله القرطبيُّ في "تفسيره"
(6)
عن المعتزلة والقدرية، وهذا القول هو نصُّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في "الملل والنحل"
(7)
وأبو محمد بن عطيَّة في "تفسيره"
(8)
وأبو عيسى الرُّمَّاني في "تفسيره". وحكى عن الجمهور الأوَّل، وأبو القاسم الراغب، والقاضي الماوردي في "تفسيره" فقال: واختُلف في الجنة التي أسكناها، يعني آدم وحواء على قولين. أحدُهما: أنَّه
(9)
جنَّةُ الخلد. الثاني: أنَّه جنَّة أعدها اللَّه لهما وجعلَها دار ابتلاءٍ، وليست جنَّة الخلد التى جعلَها دار جزاء.
(1)
انظر الحديث وتخريجه (ص 131).
(2)
صحيح مسلم (195) في الإيمان. وتزلف: تقترب.
(3)
المعارف لابن قتيبة (69).
(4)
في هامش "أ": روى عن أبي حنيفة أن الجنة التي أدخل فيها آدم ليست جنة الخلد.
(5)
التفسير الكبير للفخر الرازي (3/ 4).
(6)
تفسير القرطبي (1/ 315).
(7)
الملل والنحل لابن حزم الأندلسي (1/ 18).
(8)
المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز لابن عطية (1/ 249).
(9)
في المطبوع: أنها.
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين:
أحدُهما: أنها في السماء، لأنه أهبطهما منها، وهذا قول الحسن. والثاني: أنها في الأرض، لأنه امتحنَهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نُهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهذا قول ابن يحيى، وكان ذلك بعد أن أُمر إبليسُ بالسجود لآدم، واللَّه أعلم بصواب
(1)
ذلك.
هذا كلامه. فقد تضمَّن كلامُه حكايةَ ثلاثةِ أقوالٍ، وأشعرَ كلامُه أنَّه متوقف في المسألة. ولهذا حكى أبو عبد اللَّه الرازي في "تفسيره"
(2)
في هذه المسألة أربعةَ أقوال، هذه الثلاثة التي أوردَها الماوردي. ورابعُها: الوقف. وحكى القولَ بأنها في السماء، وليست جنَّة المأوى عن أبي علي الجُبَّائي.
وقد أوردَ أصحابُ القول الثاني سؤالًا يحتاج مثلُه إلى جواب، فقالوا: لا شكَّ أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى طردَ إبليسَ حين امتنع من السجود عن
(3)
الحضرة الإلهية، وأمره بالخروج عنها، والهبوط منها، وهذا الأمرُ ليس من الأوامر الشرعية بحيثُ يُمكن مخالفتُه، وإنما هو أمر قدَريٌّ لا يُخالفُ ولا يُمانَعُ، ولهذا قال:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] وقال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] وقال: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص: 77] والضميرُ عائدٌ إلى الجنة أو السماء أو المنزلة، وأيًّا ما كان فمعلومٌ أنه ليس له الكونُ قدرًا في المكان الذي طُرد عنه وأُبعد منه، لا على سبيل الاستقرار ولا على سبيل المرور والاجتياز. قالوا: ومعلومٌ من ظاهر سياقاتِ القرآن أنَّه وسوسَ لآدمَ وخاطبَه بقوله له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] وبقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 20 - 23] الآية. وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنَّتهما. وقد أُجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمعَ بهما في الجنَّة على سبيل المرور فيها، لا على سبيل الاستقرار بها، أو أنَّه وسوسَ لهما وهو على باب الجنة أو من تحت السماء.
وفي الثلاثة نظر، واللَّه أعلم.
ومما احتجَّ به أصحابُ هذه المقالة: ما رواه عبدُ اللَّه بن الإمام أحمد في الزيادات، عن هُدبة بن خالد، عن حمَّاد بن سلمةَ، عن حُميد، عن الحسن البصريّ، عن عُتَيّ بن ضَمْرة السعديّ، عن أُبيّ بن كعب، قال: إنَّ آدمَ لما احتُضرَ اشتهى قِطْفًا من عِنَب الجنَّة، فانطلقَ بنوه ليطلبوه له، فلقيتْهم الملائكةُ، فقالوا: أينَ تُريدونَ يا بني آدمَ؟! فقالوا: إنَّ أبانا اشتهى قِطْفًا من عِنَبِ الجنَّة. فقالوا لهم: ارجعوا فقد
(1)
في المطبوع: واللَّه أعلم بالصواب من ذلك.
(2)
انظر التفسير الكبير؛ للفخر الرازي (3/ 3 - 4).
(3)
في أ: وعن.
كُفيتمُوه. فانتهوا إليه فقَبضُوا روحَه، وغسَّلوه وحنَّطوه وكفَّنوه،، وصلَّى عليه جبريلُ ومنْ خلفَه من الملائكة، ودفنوه. وقالوا: هذه سُنَّتكم في موتاكم. وسيأتي الحديث بسنده، وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام.
قالوا: فلولا أنَّه كان الوصولُ إلى الجنَّة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القِطْفَ ممكنًا لما ذهبوا يطلبونَ ذلك، فدلَّ على أنها في الأرض لا في السماء، واللَّه تعالى أعلم.
قالوا: والاحتجاجُ بأنَّ الألفَ واللام في قوله: {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] لم يتقدَّم عهد يعود عليه، فهو المعهود الذهني مُسلَّم، ولكن هو ما دلَّ عليه سياق الكلام، فإن آدمَ خُلِقَ من الأرض، ولم يُنقل أنه رُفِعَ إلى السماء، وخُلقَ ليكونَ في الأرض، وبهذا أعلمَ الربُّ، حيث قال:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
قالوا: وهذا كقوله تعالى: {بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] فالألفُ واللام ليس للعموم ولم يتقدَّم معهودٌ لفظيٌّ، وإنما هي للمعهود الذهني الذي دلَّ عليه السياق، وهو البستان.
قالوا: وذِكرُ الهبوط لا يدلُّ على النزول من السماء، قال اللَّه تعالى:{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] الآية. وإنما كانَ في السفينة
(1)
حين استقرت على الجوديِّ، ونضبَ الماءُ عن وجه الأرضِ، أُمرَ أن يهبطَ إليها هو ومن معه، مباركًا عليه وعليهم، وقال اللَّه تعالى:{اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] الآية وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 174] الآية. وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانعَ -بل هو الواقع- أن الجنَّة التي أُسكنها آدمُ كانت مرتفعةً على سائر بقاع الأرض، ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونُضْرة وسرور، كما قال تعالى:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] أي: لا يذلُّ باطنُكَ بالجوع، ولا ظاهرُك بالعُرْي:{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] أي: لا يمسُّ باطنُكَ حرُّ الظمأ ولا ظاهرك حرُّ الشمس. ولهذا قرنَ بين هذا وهذا، وبين هذا وهذا؛ لما بينهما من المقابلة
(2)
.
فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نُهي عنها؛ أُهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنَّصب والكدُ
(3)
والسعي والنَّكد والابتلاء والاختبار والامتحان، واختلاف السكان دِينًا وأخلاقًا وأعمالًا
(1)
في نسخة: السفين.
(2)
في المطبوع: الملائمة.
(3)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: والكَدَر.
وقصودًا
(1)
وإراداتٍ وأقوالًا وأفعالًا، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36] ولا يلزمُ من هذا أنهم كانوا في السماء، كما قال تعالى:{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104] ومعلومٌ أنهم كانوا فيها ولم يكونوا في السماء.
قالوا: وليس هذا القولُ مُفرَّعًا على قول من يُنكر وجود الجنَّة والنَّار اليوم، ولا تلازم بينهما، فكلَّ منْ حُكي عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف، ممن يُثبتُ وجودَ الجنَّة والنَّار اليومَ، كما دلَّتْ عليه الآياتُ والأحاديثُ الصِّحاحُ، كما سيأتي إيرادُها في موضعها، واللَّه سبحانه وتعالى أعلمُ بالصواب.
وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36] أي: عن الجنة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] أي: من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والتنكد، وذلك بما وسوس لهما وزيَّنه في صدورهما، كما قال تعالى:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] يقول: ما نهاكُما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين، أي: لو أكلتُما منها لصرتُما كذلك.
{وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف: 21] أي: حلف لهما على ذلك {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] كما قال في الآية الأخرى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] أي: هل أدلُّك على الشجرة التي إذا أكلتَ منها حصلَ لك الخلدُ فيما أنت فيه من النعيم، واستمرَّ
(2)
لك مُلْكٌ لا يبيدُ ولا يَنقضي، وهذا من التغرير والتزوير، والإخبار بخلاف الواقع.
والمقصودُ أنَّ قوله شجرة الخلد التي إذا أكلتَ منها خُلِّدْتَ، وقد تكونُ هي الشجرةُ التي قالَ الإمامُ أحمد
(3)
: حدَّثنا عبدُ الرحمن بن مَهْدي، حدَّثنا شُعبةُ، عن أبي الضَّحَّاك، سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة شجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلِّها مئةَ عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد".
وكذا رواه
(4)
أيضًا: عن غندر وحجَّاج، عن شعبة.
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"
(5)
عن شعبة أيضًا به.
قال غُنْدر
(6)
: قلت لشعبةَ: هي شجرةُ الخلد؟ رواه
(7)
: ليس فيها "هي". تفرَّد
(1)
في أ والمطبوع: وتصوُّرًا.
(2)
في المطبوع: واستمررت في مُلكٍ.
(3)
في المسند (2/ 455).
(4)
في المسند (2/ 462).
(5)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 332).
(6)
في المسند: قال حجاج.
(7)
في المسند: قال.
به الإمامُ أحمد. وقوله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] كما قالَ في "طه": {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 121] وكانت حواء أكلتْ من الشجرة قبل آدمَ، وهي التي حدَتْه
(1)
على أكلها، واللَّه أعلم.
وعليه يُحمل الحديث الذي رواه البخاري: حدَّثنا بشر بن محمد، حدَّثنا عبدُ اللَّه، أنبأنا مَعْمر، عن همَّامِ بن مُنبّه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَه:"لولا بنو إسرائيل لم يَخْنزِ اللَّحمُ، ولولا حَوَّاءُ لم تخُنْ أنثى زوجَها"
(2)
. تفرد به من هذا الوجه.
وأخرجاه في الصحيحين
(3)
: من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة به.
ورواه أحمد ومسلم
(4)
: عن هارون بن معروف، عن أبي وهب، عن عمرو بن حارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة به.
وفي كتاب التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب أن الذي دلَّ حوَّاءَ على الأكل من الشجرة هي الحيَّةُ، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلتْ حوَّاءُ عن قولها، وأطعمتْ آدمَ عليه السلام، وليس فيها ذكر لإبليس، فعند ذلك انفتحتْ أعينُهما، وعلما أنَّهما عُريانان، فوصلا من ورق التين، وعملا مآزرَ، وفيها أنَّهما كانا عُرْيانين.
وكذا قال وَهْبُ بن منبِّهْ: كان لباسُهما نورًا على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلطٌ منهم وتحريفٌ، وخطأ في التعريب، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكادُ يتيسَّر لكلِّ أحد، ولا سيما ممن لا يعرفُ كلامَ العرب جيدًا، ولا يُحيط علمًا بفهم كتابه أيضًا، فلهذا وقعَ في تعريبهم لها
(5)
خطأ كثير لفظًا ومعنى، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27] فهذا لا يُردُّ لغيره من الكلام، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدَّثنا عليّ بن عاصم، عن سعيد بن
(1)
حدَتْه: حثَّته وحرَّضَتْه.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3330) في أحاديث الأنبياء. وقوله صلى الله عليه وسلم "يخنز": ينتن ويتغير، و"لولا حواء لم تخن أنثى زوجها". قال الحافظ ابن حجر: ليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلَّا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحسَّنت ذلك لآدم، عُدَّ ذلك خيانة له. وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها. وانظر الفتح (6/ 368).
(3)
أخرجه البخاري (3399) في أحاديث الأنبياء. ومسلم (1470)(63) في الرضاع.
(4)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 304 و 315) ومسلم (1470)(62) في الرضاع.
(5)
أي: للتوراة.
أبي عَرُوبة، عن قتادةَ، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه خلقَ آدمَ رجلًا طوالًا، كثيرَ شعر الرأس، كأنَّه نخلةٌ سحُوق، فلما ذاقَ الشجرةَ سقطَ عنه لباسه، فأوَّلُ ما بدا منه عورته، فلما نظرَ إلى عورتِه جعلَ يشتدُّ في الجنة، فأخذتْ شعرَه شجرةٌ فنازعَها، فناداه الرحمنُ عز وجل: يا آدم! منيِّ تفرُّ. فلما سمعَ كلامَ الرحمن، قال: يا ربِّ لا! ولكن استحياءً"
(1)
.
وقال الثوري: عن ابن أبي ليلى، عن المِنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] قال: ورق التين
(2)
. وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنَّه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضي أعمَّ من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضرُّ، واللَّه تعالى أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر: من طريق محمَّد بن إسحاق، عن الحَسن بن ذَكْوان، عن الحسن البَصْريِّ، عن أُبيِّ بن كعب، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أباكم آدمَ كان كالنخلة السَّحوق ستين ذراعًا، كثيرَ الشعر، مُوارى العورة، فلما أصابَ الخطيئةَ في الجنَّة بدتْ له سوآتُه، فخرجَ من الجنَّة، فلقيتهُ شجرةٌ فأخذتْ بناصيتهِ، فناداه ربُّه: أفرارًا مني يا آدمُ؟ قال: بل حياءً منكَ واللَّه يا ربِّ مما جئتُ به"
(3)
.
ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عُتيِّ بن ضَمْرة، عن أُبيِّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه وهذا أصحُّ، فإن الحسنَ لم يُدرك أبيًّا.
ثم أوردَه أيضًا: من طريق خيثمةَ بن سُليمان الإطرابلسي، عن محمد بن عبد الوهاب أبي قِرْصافةَ العسقلاني، عن آدمَ بن أبي إياس، عن شيبانَ، عن قتادةَ، عن أنس مرفوعًا بنحوه
(4)
.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22 - 23] وهذا اعترافٌ ورجوعٌ إلى الإنابة، وتدْلُّلٌ وخضوعٌ واستكانةٌ، وافتقارٌ إليه تعالى في الساعة الراهنة، وهذا السِّرُّ ما سرَى في أحد من ذريَّته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه.
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف: 24] وهذا خطابٌ لآدمَ وحوَّاءَ وإبليسَ، قيل: والحيَّة معهم، أُمروا أن يَهبطوا من الجنَّة في حال كونهم متعادينَ متحاربينَ.
وقد يُستشهد لذكر الحيَّة معهما، بما ثبت في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بقتل الحيَّات،
(1)
ذكرَه ابن كثير في تفسيره (2/ 262) وقال: وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن، عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف أصح إسنادًا. والحسن لم يدركْ أبيًا، وانظره في الدر المنثور (1/ 132).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 262).
(3)
تهذيب تاريخ دمشق؛ لابن منظور (4/ 222).
(4)
المصدر السابق (4/ 222 - 223).
وقال: "ما سالَمْناهُنَّ منذُ حارَبْناهنَّ"
(1)
.
وقوله في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] هو أمرٌ لآدم وإبليس، واستتبع آدمُ حوَّاءَ، وإبليسُ الحيَّة، وقيل: هو أمرٌ لهم بصيغة التثنية، كما في قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
والصحيح أن هذا لما كان الحاكمُ لا يحكم إلا بينَ اثنين مُدَّعٍ ومُدَّعى عليه، وقال:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78].
وأما تكريرُه الإهباط في سورة البقرة في قوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 36 - 39] فقال بعض المفسرين: المرادُ بالإهباط الأوَّل الهبوطُ من الجنَّة إلى السماء الدنيا، وبالثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. وهذا ضعيفٌ، لقوله في الأول {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36] فدلَّ على أنهم أهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأوَّل، واللَّه أعلم.
والصحيحُ أنه كرَّره لفظًا وإن كان واحدًا، وناط مع كل مرة حُكمًا، فناطَ بالأوَّل عداوتهم فيما بينهم، وبالثاني الاشتراط عليهم: أنَّ منْ تبعَ هُداه الذي يُنزِّله عليهم بعد ذلك فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقيّ، وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ ابن عساكر: عن مجاهد، قال: أمرَ اللَّه مَلَكين أن يُخرجا آدمَ وحوَّاءَ من جِواره، فنزعَ جبريلُ التَّاجَ عن رأسهِ، وحلَّ ميكائيلُ الإكليلَ عن جبينه، وتعلَّق به غصنٌ، فظنَّ آدمُ أنه قد عُوجلَ بالعقوبة، فنكَّسَ رأسَه يقولُ: العفوَ العفوَ، فقال اللَّه: أفرارًا مني؟ قال: بل حياءً منك يا سيدي
(2)
!
وقال الأوزاعي: عن حسان -هو ابن عطيَّة- مكثَ آدمُ في الجنَّة مئةَ عام، وفي روايةٍ ستين عامًا، وبكى على الجنَّة سبعينَ عامًا، وعلى خطيئته سبعينَ عامًا، وعلى ولده حينَ قُتِلَ أربعين عامًا
(3)
. رواه ابن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبو زُرْعَةَ، حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا جرير، عن سعيد، عن ابن عبَّاس قال: أُهبطَ آدمُ عليه السلام إلى أرض يُقالُ له دَحْنا بين مكَّة والطائف
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 247) وأبو داود (5248) في الأدب.
(2)
لم أجده فيما طبع من تاريخ دمشق لابن عساكر.
(3)
لم أجده فيما طبع من تاريخ دمشق لابن عساكر.
(4)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 135).
وعن الحسن قال: أهبط آدمُ بالهند، وحوَّاء بجدة، وإبليس بدست مَيْسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحيَّة بأصبهان
(1)
. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال السدي: نزلَ آدمُ بالهند، ونزل معه بالحجر الأسود، وبقبضةٍ من ورق الجنة، فبثَّه في الهند، فنبتتْ شجرةُ الطِّيب هناك
(2)
.
وعن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري، قال: إن اللَّه حينَ أهبط آدمَ من الجنَّة إلى الأرض علَّمه صنعةَ كلِّ شيءٍ، وزوَّدهَ من ثمار الجنَّة، فثمارُكم هذه من ثمار الجنَّة، غير أن هذه تتغيرُ وتلك لا تتغير
(3)
.
وقال الحاكم في "مستدركه"
(4)
: أنبأنا أبو بكر بن بالويه، عن محمد بن أحمد بن النضر، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عمَّار بن أبي معاوية البَجليّ، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: ما أُسكنَ آدمُ الجنَّة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه.
وفي صحيح مسلم
(5)
: من حديث الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيرُ يومٍ طلعتْ فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلقَ آدمُ، وفيه أُدخلَ الجنَّة، وفيه أخرج منها".
وفي الصحيح من وجه آخر "وفيه تقوم الساعة"
(6)
.
وقال أحمد
(7)
: حدَّثنا محمد بن مصعب، حدَّثنا الأوزاعي، عن أبي عمَّار، عن عبد اللَّه بن فَرُّوخ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"خيرُ يومٍ طلعتْ فيه الشمسُ يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أدخلَ الجنَّة، وفيه أخرجَ منها، وفيه تقومُ السَّاعةُ" على شرط مسلم.
فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر: من طريق أبي القاسم البَغَوي، حدَّثنا محمد بن جعفر الوركاني، حدَّثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس؛ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هبطَ آدم وحواء عُريانين جميعًا، عليهما ورق الجنَّة، فأصابه الحرُّ حتى قعد يبكي ويقولُ لها: يا حوَّاء! قد آذاني الحرُّ، قال:
(1)
الدر المنثور (1/ 137) وقال: أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الحسن.
(2)
الدر المنثور (1/ 139) وقال: أخرجه ابن أبي حاتم عن السدِّيِّ.
(3)
الدر المنثور (1/ 137) وقال: أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني وأخرجه الحاكم (4) في المستدرك (2/ 543) وصححه.
(4)
المستدرك (2/ 542).
(5)
أخرجه مسلم (854)(17) في الجمعة.
(6)
أخرجه مسلم (854)(18).
(7)
في المسند (2/ 540).
فجاءه جبريلُ بقُطنٍ، وأمرَها أنْ تغزلَ، وعلَّمها، وأمرَ آدمَ بالحياكة، وعلَّمه أن ينسجَ. قال: وكان آدمُ لم يُجامع امرأتَه في الجنَّة حتى هبطَ منها، للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة. قال: وكان كلُّ واحد منهما ينامُ على حدَةٍ، ينامُ أحدُهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى، حتى أتاه جبريلُ فأمرَه أن يأتيَ أهله. قال: وعلَّمه كيف يأتيها، فكلما أتاها جاءه جبريلُ، فقال؛ كيف وجدتَ امرأتكَ؟ قال: صالحة"
(1)
فإنه حديث غريبٌ، ورفعُه منكرٌ جدًا، وقد يكون من كلام بعض السلف، وسعيدُ بن مَيْسَرة هذا، هو أبو عمران البَكْري البَصْري، قال فيه البخاري
(2)
: منكر الحديث، وقال ابن حِبَّان
(3)
: يروي الموضوعات. وقال ابن عديّ
(4)
: مظلم الأمر.
وقوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] قيل: هي قوله {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. رُوي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب، وخالد بن مَعْدان، وعطاء الخُراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
(5)
.
وقال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا عليُّ بن الحسين بن إشكاب، حدَّثنا عليُّ بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أُبيِّ بن كعب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "قالَ آدمُ عليه السلام: أرأيتَ يا ربِّ إن تبتُ وراجعتُ، أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم"
(6)
فذلك قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
وهذا غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع.
وقال ابن أبي نَجيح: عن مجاهد، قال: الكلمات "اللهم لا إله إلا أنت سبحانَكَ وبحمدكَ، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنك خير الغافرين. اللَّهُمَّ لا إله إلا أنت سبحانكَ وبحمدك، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنك خيرُ الراحمين. اللَّهُمَّ لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ وبحمدكَ، ربِّ إني ظلمتُ نفسي فتبْ عليّ إنَّك أنت التَّواب الرحيم"
(7)
.
(1)
تهذيب ابن عساكر (2/ 353) وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 138) وقال: وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس.
(2)
تاريخه الكبير 3/ الترجمة (1723).
(3)
المجروحين (1/ 316).
(4)
الكامل (3/ 1224).
(5)
انظر الدر المنثور، للسيوطي (1/ 144 - 145).
(6)
أخرجه ابن جرير في التفسير (1/ 281) وذكره السيوطي فى الدر المنثور (1/ 142).
(7)
أخرجه ابن جرير في التفسير (1/ 282) وذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 145) وقال: أخرجه البيهقي في الشعب، وابن عساكر عن أنس.
وروى الحاكم في "مستدركه"
(1)
: من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] قال: قال آدم: يا ربِّ! ألم تَخْلُقني بيدكَ؟ قيل له: بلى. ونفختَ فيَّ من روحكَ؟ قيل له: بلى. وعطستَ، فقلتَ: يرحمُك اللَّه، وسبقتْ رحمتك غضبَكَ؟ قيل له: بلى. وكتبتَ عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيتَ إن تبتُ، أفراجعي إلى الجنة؟. قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه.
وروى الحاكم أيضًا، والبيهقيُّ، وابن عساكر، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدِّه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما اقترفَ آدمُ الخطيئةَ قال: يا ربِّ أسألُكَ بحق محمَّد أن غفرتَ لي. فقال اللَّه: فكيفَ عرفتَ محمَّدًا ولم أخْلُقْه بعدُ؟ فقال: يا ربِّ لأنك لما خلقتني بيدكَ، ونفختَ فيَّ من روحكَ، رفعتُ رأسي فرأيتُ على قوائمِ العرش مكتوبًا لا إله إلا اللَّه محمَّدٌ رسولُ اللَّه. فعلمت أنَّك لم تُضِفْ إلى اسمكَ إلا أحبَّ الخلق إليكَ. فقال اللَّه: صدقتَ يا آدمُ! إنَّه لأحبُّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقِّه فقد غفرتُ لكَ، ولولا محمَّدٌ ما خلقتُك"
(2)
. قال البيهقي: تفرَّد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف، واللَّه أعلم.
وهذه الآية كقوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121 - 122].
* * *
ذكرُ احتجاج آدمَ وموسى عليهما السلام
قال البخاري
(3)
: حدثنا قتيبة، حدَّثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حاجَّ موسى آدمَ عليهما السلام، فقال له: أنتَ الذي أخرجتَ النَّاس بذنبكَ من الجنَّة وأشقيتهم. قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاكَ اللَّه برسالاته وبكلامِه، أتلُومني على أمر قد كتبَه اللَّه عليّ قبل أن يَخْلُقني أو قدَّره عليّ قبل أن يخلقَني؟ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى".
(1)
المستدرك (2/ 545).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 615) وصححه، وتعقبه الذهبي فقال: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، ورواه عبد اللَّه بن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا؟ وانظره في تهذيب ابن عساكر (2/ 259).
(3)
في صحيحه (4738) في التفسير.
وقد رواه مسلم
(1)
: عن عمرو الناقد، والنسائي
(2)
عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد، عن أيوب بن النجار، به. قال أبو مسعود الدمشقي
(3)
: ولم يُخرِّجا عنه في الصحيحين سواه. وقد رواه أحمد
(4)
عن عبد الرزاق، عن معمر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة. وقد رواه مسلم
(5)
عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، به.
وقال الإمام أحمد
(6)
: حدَّثنا أبو كامل، حدَّثنا إبراهيمُ، حدَّثنا ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: أنتَ آدمُ الذي أخرجتْكَ خطيئتُكَ من الجنَّة؟ فقال له آدم: وأنتَ موسى الذي اصطفاكَ اللَّه برسالاتِه وبكلامِه، تلومُني على أمر قُدِّر عليَّ قبل أن أخلقَ؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى". مرتين.
قلت: وقد روى هذا الحديثَ البخاريُّ ومسلم
(7)
من حديث الزهري، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد
(8)
: حدَّثنا معاويةُ بن عمرو، حدَّثنا زائدةُ، عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احتجَّ آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدم! أنت الذي خلقكَ اللَّه بيده ونفخَ فيك من رُوحه، أغويتَ النَّاس وأخرجتهم من الجنَّة. قال: فقالَ آدمُ: وأنت موسى الذي اصطفاكَ اللَّه بكلامِه تلومُني على عملٍ أعملُه، كَتبهُ اللَّهُ عليّ قبل أنْ يخلقَ السَّموات والأرض. قال: فحجَّ آدمُ موسى".
وقد رواه الترمذي
(9)
والنسائي جميعًا: عن يحيى بن حبيب بن عربيّ، عن مَعْمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش به. قال الترمذي: وهو غريبٌ
(10)
من حديث سُليمان التَّيميِّ، عن الأعمش، قال: وقد رواه بعضُهم عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
قلت: هكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار في "مسنده"
(11)
: عن محمد بن مثنى، عن معاذ بن أسد،
(1)
أخرجه مسلم (2652) في القدر.
(2)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (11329)، في التفسير.
(3)
انظر قول أبي مسعود في تحفة الأشراف؛ للمزيّ (10/ 467) عقيب حديث (15361).
(4)
في المسند (2/ 268).
(5)
في صحيحه (2652) في القدر.
(6)
في المسند (2/ 264).
(7)
أخرجه البخاري (3409) في الأنبياء و (7515) في التوحيد، ومسلم (2652) في القدر.
(8)
في المسند (2/ 398).
(9)
أخرجه الترمذي (2134) في القدر، والنسائي في التفسير (463) في الكبرى.
(10)
في بعض النسخ: حسن غريب.
(11)
كما في كشف الأستار (2147)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 191): رواه أبو يعلى والبزار مرفوعًا، ورجالهما رجال الصحيح.
عن الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
ورواه البزار
(1)
أيضًا: حدَّثنا عمرو بن عليّ الفلاس، حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -أو أبي سعيد- عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال أحمد
(2)
: حدَّثنا سفيان، عن عمرو، سمعَ طاووسًا، سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى، فقالَ موسى: يا آدمُ أنت أبونا خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة. فقال له آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاكَ اللَّه بكلامهِ - وقال مرة: حجَّ آدمُ موسى، حجَّ آدمُ موسى".
وهكذا رواه البخاريُّ
(3)
: عن عليِّ بن المديني، حدَّثنا سفيان، قال: حفظناهُ من عمرٍو، عن طاووس، قال: سمعتُ أبا هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"احتجَّ آدمُ وموسى، فقال موسى: يا آدمُ: أنت أبونا، خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة. فقال له آدمُ: يا موسى! اصطفاكَ اللَّه بكلامِه، وخطَّ لكَ بيدِه، أتلومني على أمرٍ قدَّرَه اللَّه عليَّ قبلَ أن يخلقَني بأربعينَ سنةً؟ فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى" هكذا ثلاثًا. قال سفيان: حدَّثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثله.
وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه
(4)
من عشر طرق عن سفيان بن عُيَيْنة
(5)
، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن طاووس، عن أبيه
(6)
، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد
(7)
: حدَّثنا عبد الرحمن، حدَّثنا حمَّاد، عن عمَّار، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لقيَ آدمُ موسى فقالَ: أنتَ آدمُ الذي خلقَكَ اللَّه بيده، وأسجدَ لكَ ملائكتَه، وأسكنَكَ الجنَّة، ثم فعلتَ؟ فقال: أنتَ موسى الذي كلَّمك اللَّه، واصطفاكَ برسالتِه، وأنزلَ عليكَ التوراةَ، ثم أنا أقدمُ أم الذِّكر؟ قال: لا، بل الذِّكر، فحجَّ آدمُ موسى"
(8)
.
(1)
أخرجه البزار (2148) كما في كشف الأستار، وقال الهيثمي: حديث أبي هريرة في الصحيح، وأما حديث أبي سعيد فقد تقدم إسناده برقم (2147) من غير شك.
(2)
في المسند (2/ 248).
(3)
في صحيحه (6614) في القدر.
(4)
أخرجه البخاري (6614) في القدر، ومسلم (2652) في القدر. والموطأ (2/ 898) في القدر، وأبو داود (4701) في السنة، والنسائي في التفسير (207) أقول: ورواه ابن ماجه رقم (80) ولم أقف عليه عند الترمذي.
(5)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 506): وقع لنا من طرق عشرة عن أبي هريرة.
(6)
عمرو بن دينار إنما رواه عن طاووس عن أبي هريرة، وعبد اللَّه بن طاووس لم يرو هذا الحديث عن أبيه في أي من الكتب الستة.
(7)
في المسند (2/ 464).
(8)
في المسند: "فحجَّ آدمُ موسى، فحج آدمُ موسى" مكررة، وهو حديث صحيح.
قال أحمد: وحدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حَمَّاد، عن عمَّار بن أبي عمَّار، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحُمَيْد، عن الحسن، عن رجلٍ -قال حمَّاد: أظنُّه جُنْدُبَ بن عبد اللَّه البجلي- عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لقيَ آدمُ موسى. . . " فذكرَ معناه
(1)
. تفرَّد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدَّثنا حُسين، حدَّثنا جرير -هو ابن حازم- عن محمد -هو ابن سيرين- عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقيَ آدمُ موسى، فقالَ: أنت آدمُ الذي خلقكَ اللَّه بيده، وأسكنكَ جنَّته، وأسجد لك ملائكتَه، ثمَّ صنعتَ ما صنعتَ؟ قال آدمُ: يا موسى
(2)
أنتَ الذي كلَّمه اللَّه، وأنزلَ عليه التوراةَ؟ قال: نعم. قال: فهل تجده مكتوبًا عليّ قبل أن أخلقَ؟ قال: نعم. قال: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى"
(3)
.
وكذا رواه حمَّاد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، رفعه. وكذا رواه عليُّ بن عاصم، عن خالد وهشام، عن محمد بن سيرين. وهذا على شرطهما من هذه الوجوه.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا يونسُ بن عبد الأعلى، أنبأنا ابنُ وَهْبٍ، أخبرني أنس بن عياض، عن الحارث بن أبي ذُباب، عن يزيدَ بن هُرْمزٍ، سمعتُ أبا هريرةَ يقولُ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "احتجَّ آدمُ وموسى عند ربِّهما، فحجَّ آدمُ موسى. قال موسى: أنتَ الذي خلقكَ اللَّه بيده، ونفخَ فيكَ من روحِه، وأسجدَ لك ملائكتَه، وأسكنكَ جنَّته، ثم أهْبَطْتَ النَّاسَ إلى الأرض بخطيئتكَ؟ قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاكَ اللَّه برسالتِه وكلامِه، وأعطاكَ الألواحَ فيها تبيانُ كلِّ شيءٍ، وقرَّبك نجيًّا، فبكم وجدتَ اللَّهَ كتبَ التوراةَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدتَ فيها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كتبَ اللَّه على أن أعمَله قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة؟ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى"
(4)
.
قال الحارثُ: وحدَّثني عبدُ الرحمن بن هُرْمزَ بذلكَ، عن أبي هريرةَ، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه مسلم
(5)
: عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن أنس بن عِياض، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن يزيد بن هُرْمز والأعرج، كلاهما عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال أحمد: حدَّثنا عبدُ الرزاق، أنبأنا مَعْمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة،
(1)
في المسند (2/ 464)، وهو حديث بطرقه.
(2)
في المسند: فقال آدم لموسى.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 392)، وهو حديث صحيح.
(4)
انظر تهذيب تاريخ ابن عساكر (2/ 346) وتفسير ابن كثير (3/ 212).
(5)
في صحيحه (2652)(15) في القدر.
قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "احتج آدمُ وموسى، فقال موسى لآدم: يا آدم! أنتَ الذي أدخلتَ ذرِّيتَكَ النَّارَ. فقال آدمُ: يا موسى! اصطفاكَ اللَّه برسالاتِه وبكلامِه، وأنزلَ عليكَ التوراةَ، فهل وجدتَ أني أهبطُ؟ قال: نعم. قال: فحجَّه آدمُ"
(1)
وهذا على شرطهما، ولم يُخرِّجاه من هذا الوجه. وفي قوله: أدخلتَ ذرِّيتك النَّار، نكارة.
فهذه طرقُ هذا الحديث عن أبي هريرة، رواه عنه حُمَيْد بن عبد الرحمن، وذَكْوان أبو صالح السَّمَّان، وطاووس بن كَيْسان، وعبدُ الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، وعمَّار بن أبي عمَّار، ومحمّدُ بن سيرين، وهمَّام بن مُنبّه، ويزيدُ بن هُرْمز، وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن.
وقد رواه الحافظ أبو يَعلى المَوْصلي في "مسنده"
(2)
: من حديث أمير المؤمنين عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه فقال: حدَّثنا الحارثُ بن مسكين المصري، حدَّثنا عبدُ اللَّه بن وَهْب، أخبرني هشامُ بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمرَ بن الخطَّاب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"قال موسى عليه السلام: يا ربِّ أرنا آدمَ الذي أخرجنَا ونفسَه من الجنَّة. فأراه آدمَ عليه السلام. فقال: أنت آدمُ؟ فقال: نعم. قال: أنتَ الذي نفخَ اللَّه فيك من روحه، وأسجد لك ملائكتَه، وعلَّمك الأسماء كلّها؟ قال: نعم. قال: فما حملكَ على أنْ أخرجتَنا ونفسَك من الجنَّة؟ فقال له آدم: منْ أنتَ؟ قال: أنا موسى. قال: أنت موسى نبيُّ بني إسرائيل؟ أنتَ الذي كلَّمكَ اللَّه من وراء الحجاب، فلم يجعلْ بينك وبينَه رسولًا من خَلْقِه؟ قال: نعم. قال: تلومُني على أمرٍ قد سبقَ من اللَّه عز وجل القضاءُ به قبلُ؟! قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى".
ورواه أبو داود
(3)
: عن أحمد بن صالح المِصْري، عن ابن وَهْب، به
(4)
.
قال أبو يعلى: وحدَّثنا محمد بن المثنَّى، حدَّثنا عبدُ الملك بن الصباح المِسْمعيّ، حدَّثنا عِمْران، عن الرُّدَيْنيِّ بن أبي مِجْلزٍ، عن يحيى بن يعمَر، عن ابن عمرَ، عن عمرَ -قال أبو محمد: أكبرُ ظنِّي أنَّه رفعه- قال: "التقى آدمُ وموسى، فقالَ موسى لآدمَ: أنتَ أبو البشر، أسكنكَ اللَّه جنَته، وأسجدَ لكَ ملائكتَه؟ قال آدمُ: يا موسى! أما تجدُه عليَّ مكتوبًا؟ قال: فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى"
(5)
.
وهذا الإسناد أيضًا لا بأسَ به، واللَّه أعلم.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 268)، وهو حديث صحيح دون قوله:"أدخلتَ ذريتك الجنة".
(2)
(243) وهو حديث حسن.
(3)
أخرجه أبو داود (4702) في القدر.
(4)
في إسناده ضعف، ولكن له شواهد يقوى بها.
(5)
أخرجه أبو يعلى في المسند (244) وهو حديث حسن.
وقد تقدَّم
(1)
روايةُ الفضل بن موسى لهذا الحديث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد. وروايةُ الإمام
(2)
أحمد له عن عفَّان، عن حمَّاد بن سلمة، عن حُمَيْد، عن الحسن، عن رجلٍ. قال حمَّاد: أظنُّه جُنْدُب بن عبد اللَّه البَجَليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لقيَ آدمُ موسى. . . " فذكرَ معناه.
وقد اختلفتْ مسالكُ النَّاس في هذا الحديث؛ فردَّه قومٌ من القدريَّة، لما تضمَّن من إثبات القدر السابق.
واحتجَّ به قومٌ من الجبرية، وهو ظاهر لهم بادئَ الرأي، حيث قال: فحجَّ آدمُ موسى، لمَّا احتجَّ عليه بتقديم كتابه، وسيأتي الجوابُ عن هذا.
وقال آخرون
(3)
: إنما حجَّه لأنه لامَه على ذَنْبٍ قد تابَ منه، والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذَنْبَ له. وقيل: إنما حجَّه لأنه أكبر منه وأقدم. وقيل: لأنه أبوه. وقيل: لأنهما في شريعتين متغايرتين. وقيل: لأنهما في دار البرزخ، وقد انقطعَ التكليف فيما يزعمونه.
والتحقيقُ أنَّ هذا الحديث رُوي بألفاظٍ كثيرةٍ بعضُها مرويٌّ بالمعنى، وفيه نظر. ومدارُ معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنَّه لامَه على إخراجه نفسَه وذريَّته من الجنَّةِ، فقال له آدم: أنا لم أخرجْكم، وإنما أخرجَكم الذي رتَّب الإخراج على أكلي من الشجرة، والذي رتَّب ذلك وقدَّره وكتبَه قبلَ أنْ أُخلقَ هو اللَّه عز وجل، فأنتَ تلومُني على أمر ليس له نسبة إليّ أكثر ما أنِّي نُهيتُ عن الأكل من الشجرة، فأكلتُ منها، وكون الإخراج مترتبًا على ذلك ليس من فعلي، فأنا لم أخرجْكم ولا نفسي من الجنَّة، وإنما كان هذا من قدرة اللَّه وصُنْعه، وله الحكمةُ في ذلك، فلهذا حجَّ آدمُ موسى.
ومن كذَّب بهذا الحديث فمعاندٌ، لأنه متواترٌ عن أبي هريرة رضي الله عنه، وناهيك به عدالةً وحفظًا وإتقانًا. ثم هو مرويٌّ عن غيره من الصحابة كما ذكرنا.
ومن تأوَّله بتلك التأويلات المذكورة آنفًا فهو بعيدٌ من اللفظ والمعنى. وما فيهم منْ هو أقوى مَسْلكًا من الجبريَّة، وفيما قالوه نظر من وجوه:
أحدها: أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تابَ منه فاعلهُ.
الثاني: أنه قد قتلَ نفسًا لم يُؤمر بقتلها، وقد سأل اللَّهَ في ذلك بقوله:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] الآية.
الثالث: أنه لو كان الجواب عن اللَّوْم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد، لانفتحَ هذا لكل
(1)
تقدم الحديث وتخريجه ص (128).
(2)
تقدم الحديث وتخريجه ص (130).
(3)
في هامش "أ": كلام في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام.
من لِيْمَ على أمر قد فعلَه، فيحتج بالقدر السابق، فينسدُّ باب القصاص والحدود. ولو كان القَدَر حجَّةً، لاحتجَّ به كلُّ أحد على الأمر الذي ارتكبه في الأمور الكبار والصغار، وهذا يُفضي إلى لوازم فظيعة، فلهذا قال من قال من العلماء: بأن جواب آدم إنما كان احتجاجًا بالقَدَر على المصيبة لا المعصية، واللَّه أعلم.
* * *
ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم
قال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى ومحمد بن جعفر، حدَّثنا عَوْف، حدَّثني قَسَامة بن زُهير، عن أبي موسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ اللَّهَ خلقَ آدمَ من قَبْضةٍ قبضَها من جميعِ الأرض، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ، جاءَ منهم الأبيضُ والأحمرُ والأسودُ وبين ذلك. والخبيثُ والطَّيِّبُ والسَّهْلُ والحَزنُ وبين ذلك"
(1)
.
ورواه أيضًا
(2)
: عن هوذةَ، عن عَوْف، عن قَسَامة بن زُهير، قال: سمعتُ الأشعريَّ قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ خلقَ آدمَ من قَبْضَةٍ قبضَها من جميع الأرضِ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ، فجاءَ منهم الأبيضُ والأحمرُ والأسودُ وبينَ ذلك. والسَّهْلُ والحَزْنُ، وبين ذلك، والخبيثُ والطَّيِّبُ، وبينَ ذلكَ".
وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن حِبَّان في "صحيحه"
(3)
: من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي، عن قَسَامة بن زُهير المازني البَصْري، عن أبي موسى عبد اللَّه بن قيس الأشْعري، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد ذكر السُّدِّي: عن أبي مالك، وأبي صالح، عن ابن عباش، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحابِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فبعثَ اللَّه عز وجل جبريلَ في الأرض، ليأتيَه بطينٍ منها، فقالت الأرضُ: أعوذُ باللَّه منكَ أن تنقص مني أو تشينني، فرجعَ ولم يأخذ، وقال: ربِّ إنها عاذتْ بكَ فأعذتُها، فبعث ميكائيلَ فعاذتْ منه فأعاذَها، فرجعَ فقال كما قالَ جبريلُ، فبعَثَ مَلَك الموتِ فعاذتْ منه، فقال: وأنا أعوذ باللَّه أن أرجعَ ولم أُنَفِّذْ أمرَه، فأخذَ من وجه الأرض وخلَطه، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذَ من تربةٍ بيضاءَ وحمراء وسوداءَ، فلذلكَ خرجَ بنوآدم مختلفينَ، فصَعِدَ به فَبَلَّ الترابَ حتى
(1)
في المسند (4/ 400).
(2)
في المسند (406).
(3)
أخرجه أبو داود (4693) في السنة، والترمذي (2955) في التفسير، وابن حبَّان في صحيحه (6160) الإحسان.
عاد طينًا لازبًا -واللازب؛ هو الذي يلزق بعضه ببعض- ثم قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 - 72] ".
فخلقَه اللَّه بيده لئلا يتكبَّرَ إبليس عنه، فخلقَه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرَّت به الملائكةُ، ففَزِعُوا منه لمَّا رأَوْه، وكان أشدَّهم منه فزعًا إبليسُ، فكان يمرُّ به فيضربه، فيُصَوِّتُ الجسدُ كما يُصوِّتُ الفُخَّارُ، يكون له صلصلة، فذلك حين يقول:{مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] ويقول: لأمرٍ ما خُلِقْتَ، ودخلَ من فيه وخرجَ من دُبُره، وقال للملائكة: لا تَرْهَبُوا من هذا فإن ربَّكم صمَدٌ وهذا أجوفُ، لئن سُلِّطْتُ عليه لأهلكنَّه.
فلما بلغ الحين الذي يُريد اللَّه عز وجل أنْ ينفخَ فيه الرُّوحَ، قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخَ فيه الروحَ، فدخلَ الرُّوحُ في رأسِه عطسَ، فقالت الملائكة: قل الحمد اللَّه، فقال: الحمد اللَّه، فقال له اللَّه: رحمكَ ربُّكَ. فلما دخلتِ الرُّوح في عينيْه نظرَ إلى ثمار الجنَّة، فلما دخلتِ الرَّوح في جوفه، اشتهى الطعام، فوثبَ قبل أن تبلغَ الرَّوح إلى رجليْه، عجلانَ إلى ثمار الجنَّة، وذلك حين يقولُ اللَّه تعالى:{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 30 - 31] وذكرَ تمامَ القِصَّة
(1)
.
ولبعض هذا السِّياق شاهدٌ من الأحاديث، وإن كانَ كثير منه مُتلقَّى من الإسرائيليات.
فقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا عبدُ الصمد، حدَّثنا حمَّاد، عن ثابت، عن أنس، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لما خلق اللَّه آدمَ تركَه ما شاء أن يدَعَه، فجعل إبليسُ يطيفُ به، فلما رآه أجوفَ عرفَ أنَّه خَلْقٌ لا يتمالكُ".
وقال ابن حبَّان في "صحيحه"
(3)
: حدَّثنا الحسنُ بن سفيان، حدَّثنا هُدْبة بن خالد، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لما نُفِخَ في آدمَ، فبلغَ الروحُ رأسَه عطسَ، فقال: الحمد اللَّه رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك اللَّه".
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدَّثنا يحيى بن محمد بن السَّكَن، حَدَّثنا حَبَّان بن هِلال، حدَّثنا مبارك ابنِ فَضَالة، عن عُبيد اللَّه، عن خُبيب، عن حَفْص -هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب- عن أبي هُريرة، رفعه، قال:"لمّا خلقَ اللَّه آدمَ عطسَ، فقال: الحمدُ للَّه، فقال له ربُّه: رحمكَ ربُّك يا آدم"
(4)
. وهذا الإسناد لا بأس به، ولم يُخرِّجوه.
(1)
أخرجه الطبري في تاريخه (1/ 90).
(2)
في المسند (2/ 152).
(3)
الإحسان (6165) وإسناده صحيح، رجاله رجال مسلم.
(4)
أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي عروبة الحراني، عن يحيى بن محمد، به (6164) الإحسان، وهو حديث حسن.
وقال عمر بن عبد العزيز: لما أُمرتِ الملائكةُ بالسجود، كان أوَّلُ من سجدَ منهم إسرافيل، فآتاه اللَّه أن كتبَ القرآن في جبهته. رواه ابن عساكر
(1)
.
وقال الحافظ أبو يعلى
(2)
: حدَّثنا عقبةُ بن مُكْرَم، حدَّثنا عمرو بن محمد، عن إسماعيل بن رافع، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:"إن اللَّه خلقَ آدمَ من ترابٍ، ثم جعلَه طينًا، ثم تركَه حتى إذا كان حمأً مسنونًا، خلقَه وصوَّره، ثم تركَه، حتَّى إذا كان صَلْصَالًا كالفَخار". قال: فكان إبليسُ يمرُّ به، فيقولُ له: لقد خُلِقتَ لأمرٍ عظيم. ثم نفخَ اللَّه فيه من رُوحه، فكان أوَّل ما جرى فيه الرُّوح بصرَه وخياشيمَه، فعطسَ فلقَاه اللَّه
(3)
رحمةَ ربِّه، فقال اللَّه: يرحمك ربك. ثم قال اللَّه: يا آدم! اذهبْ إلى هؤلاءَ النَّفَر فانظرْ ماذا يقولونَ؟ فجاءَ فسلَّمَ عليهم، فقالوا: وعليكَ السَّلامُ ورحمةُ اللَّه وبركاتُه. فقال: يا آدمُ! هذا تحيَّتُك وتحيَّةُ ذريَّتِك. قال: يا ربِّ وما ذريَّتي؟ قال: اخترْ يدي يا آدمُ! قال: أختارُ يمينَ ربِّي وكلتا يَدَيْ ربِّي يمين، وبسط [اللَّه]
(4)
كفَّه، فإذا منْ هو كائنٌ من ذريَّته في كفِّ الرحمن، فإذا رجالٌ منهم أفواهُهم النُّور، فإذا رجلٌ يَعْجبُ آدمُ من نوره. قال: يا ربِّ! من هذا؟ قال: ابنك داود. قال: يا ربِّ! فكم جعلتَ له من العمر. قال: جعلتُ له ستين. قال: يا ربِّ فأتِمَّ له من عُمري حتى يكونَ له من العمر مئة سنة، ففعلَ اللَّه ذلك وأشهد على ذلك.
فلما نَفِدَ عمرُ آدم بعثَ اللَّه [إلَيْه](4) مَلَكَ الموتِ، فقال آدمُ: أو لم يبقَ من عُمُري أربعون سنة؟ قال له المَلَك: أو لم تُعْطها ابنكَ داودَ؟ فجحدَ ذلك، فجحدتْ ذريَّته، ونسي فنسيتْ ذريَّتُه
(5)
.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، والترمذي
(6)
، والنَّسائي، في "اليوم والليلة" من حديث صفوان ابن عيسى، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن سعيد المَقْبري، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقال النسائيُّ
(7)
: هذا حديث منكر، وقد رواه محمد بن عَجْلان، عن سعيد المَقْبُري، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن سلام قوله
(8)
.
(1)
في تاريخه؛ كما في الدر المنثور (1/ 123).
(2)
في مسنده 14/ حديث (6579).
(3)
في المسند: حمدَ ربِّه.
(4)
ما بين الحاصرتين أثبته من المسند.
(5)
في إسناده: إسماعيل بن رافع، ضعيف الحفظ.
(6)
أخرجه الترمذي (3368) في التفسير، والنسائي في عمل اليوم والليلة (218).
(7)
انظر عمل اليوم والليلة (ص 238).
(8)
المقصود: من قول عبد اللَّه بن سلام، فهو موقوف، وقد سقطت كلمة:"قوله" من المطبوع.
وقد رواه أبو حاتم بن حِبّان في "صحيحه"، فقال
(1)
: حدَّثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدَّثنا محمَّد بن بشَّار، حدَّثنا صَفْوانُ بن عيسى، حدَّثنا الحارثُ بن عبد الرحمن بن أبي ذُباب، عن سَعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما خلقَ اللَّه آدمَ ونفخَ فيه الرُّوح عطسَ، فقال: الحمدُ اللَّه، فحمدَ اللَّه بإذن اللَّه. فقال له ربَّه: يرحمُك ربُّك يا آدم، اذهبْ إلى أولئكَ الملائكة، إلى ملأٍ منهم جلوسٌ، فسلِّم عليهم، فقال: السَّلام عليكم. فقالوا: وعليكم السَّلام ورحمة اللَّه. ثم رجعَ إلى ربِّه، فقال: هذه تحيَّتُك وتحيَّةُ بنيكَ بينهم. وقال اللَّه -ويداهُ مقبوضتان- اخترْ أيهما شئتَ. فقال: اخترتُ يمينَ ربِّي، وكلتا يديْ ربِّي يمينٌ مباركة. ثمَّ بسطَهما فإذا فيهما آدمُ وذريَّتُه. فقال: أي ربِّ: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريَّتُك، وإذا كلُّ إنسان منهم مكتوبٌ عمرُه بين عينيْه، وإذا فيهم رجل أضْوَؤُهم -أو منْ أضْوَئِهم- لم يُكتبْ له إلا أربعونَ سنة. قال: يا ربِّ! ما هذا؟ قال: هذا ابنُك داود، وقد كتبَ اللَّه داود، وقد كتبَ اللَّه عمرَه أربعين سنة. قال: أي ربِّ: زدْ في عُمُره. فقال: ذاكَ الذي كُتِبَ له. قال: فإنِّي قد جعلتُ له من عُمُري ستينَ سنة. قال: أنتَ وذاك، اسكن الجنَّة، فسكنَ الجنَّة ما شاءَ اللَّه، ثم أُهبطَ منها.
وكان آدمُ يعدُّ لنفسه، فأتاه مَلَكُ الموتِ، فَقالَ له آدمُ: قد عجلتَ قد كتبَ لي ألفَ سنةٍ. قال: بلى، ولكنَّك جعلتَ لابنكَ داودَ منها ستينَ سنةً، فجَحَدَ آدمُ فجَحَدَتْ ذرِّيتُه، ونسيَ فنسيتْ ذريَّته، فيومئذ أمر بالكتابِ والشُّهود" هذا لفظه.
وقال الترمذي
(2)
: حدَّثنا عبدُ بن حُميد، حدَّثنا أبو نُعَيْم، حدَّثنا هشام بن سَعْد، عن زيد بن أسلمَ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لما خلقَ اللَّه آدمَ مسحَ ظهرَه، فسقطَ من ظهره كل نَسَمةٍ هو خالقُها من ذريَّته إلى يوم القيامة، وجعلَ بينَ عينيْ كلِّ إنسانٍ منهم وَبِيْصًا
(3)
من نور، ثم عرضَهم على آدمَ، فقال: أيْ ربِّ! منْ هَؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريَّتُك. فرأى رجلًا منهم فأعجبَه وبيصُ ما بينَ عينيْه، فقال: أي ربّ! منْ هذا؟ قال: هذا رجلٌ من آخر الأمم من ذريَّتِكَ، يقال له: داود. قال: ربِّ وكم جعلتَ عمرَه. قال: ستينَ سنة. قال: أي ربّ زِدْه من عُمري أربعين سنةً. فلما انقضى عمرُ آدمَ جاءَه مَلَكُ الموت. قال: أو لم يبقَ من عُمُري أربعونَ سنة. قال: أو لم تُعْطِها ابنَك داود. قال: فجحدَ فجَحَدتْ ذريَّته، ونسي آدمُ، فنسيتْ ذريَّتُه، وخَطِئَ آدمُ فَخطئتْ ذريَّتهُ" ثم قال الترمذي: حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
الإحسان (6167).
(2)
في جامعه (3076) في التفسير.
(3)
الوبيص: البريق.
ورواه الحاكم في "مستدركه"
(1)
: من حديث أبي نُعيم الفَضْل بن دُكَيْن، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يُخرِّجاه.
وروى ابن أبي حاتم: من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يَسار، عن أبي هريرة مرفوعًا. . . فذكرَه، وفيه:"ثم عرضهم على آدمَ، فقال: يا آدم هؤلاء ذريَّتُك، وإذا فيهم الأجْذم والأبْرص والأعمى، وأنواع الأسقام. فقال آدم: يا ربِّ! لمَ فعلتَ هذا بذريَّتي؟ قالَ: كيْ تشكرَ نعمتي"
(2)
.
ثم ذكرَ قصة داود، وستأتي من رواية ابن عباس أيضًا.
وقال الإمام أحمد في "مسنده"
(3)
: حدَّثنا الهيثمُ بن خارجة، حدَّثنا أبو الربيع، عن يونسَ بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "خلقَ اللَّه آدمَ حين خلقَه، فضربَ كتفَه اليُمْنى، فأخرجَ ذريَّةً بيضاءَ كأنَّهم الذرُّ، وضربَ كتفَه اليُسْرى فأخرجَ ذريَّةً سوداءً كأنَّهم الحُمَم
(4)
. فقالَ للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أُبالي، وقال للذي في كَفِّه اليُسْرى: إلى النَّار ولا أُبالي".
وقال ابن أبي الدنيا
(5)
: حدَّثنا خَلفُ بن هشام، حدَّثنا الحَكم بن سِنَان، عن حَوْشب، عن الحسن، قال: خلقَ اللَّه آدمَ حين خلقَه، فأخرجَ أهلَ الجنَّة من صَفْحته اليُمنى، وأخرجَ أهلَ النَّار من صَفْحَته اليُسْرى، فأُلقُوا على وجه الأرض، منهم الأعمى والأصمُّ والمبتلى. فقال آدم: يا ربِّ! ألا سوَّيتَ بينَ ولدي؟! قال: يا آدم إني أردتُ أنْ أُشكَر.
وهكذا روى عبدُ الرَّزاق: عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، بنحوه.
وقد قال البخاري
(6)
: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن محمد، حدَّثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا مَعْمر، عن هَمَّام بن مُنبِّه، عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"خلقَ اللَّه آدمَ وطولُه ستونَ ذراعًا، ثم قال: اذهبْ فسلِّم على أولئكَ من الملائكة، واستمعْ ما يجيبونكَ، فإنها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذريَّتِك. فقال: السَّلام عليكمُ. فقالوا: السلام عليكَ ورحمةُ اللَّه. فزادوه: ورحمةُ اللَّه. فكل منْ يدخلُ الجنَّةَ على صُورة آدمَ، فلم يزلِ الخلقُ ينقصُ حتَّى الآن".
(1)
المستدرك (2/ 325).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في علل الحديث (2/ 88).
(3)
المسند (6/ 441). وإسناده ضعيف.
(4)
الحُمَم: جمع الحُمَمة، وهي الفحم.
(5)
أخرجه ابن أبي الدنيا (162) في كتاب الشكر، وفي إسناده: الحكم بن سنان الباهلي، أبو عون البصري. ضعيف. انظر ميزان الاعتدال (1/ 571).
(6)
في صحيحه (3326) في الأنبياء.
وهكذا رواه البخاريُّ في كتاب الاستئذان
(1)
: عن يحيى بن جعفر، ومسلم: عن محمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا رَوْح، حدَّثنا حمَّاد بن سلمةَ، عن عليِّ بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة؛ أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كانَ طولُ آدمَ ستينَ ذِراعًا في سبع
(3)
أذرعٍ عرضًا". انفردَ به أحمد.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد بن سلمةَ، عن عليِّ بن زيد، عن يُوسف بن مِهْران، عن ابن عبَّاس، قال: لما نزلتْ آيةُ الدين قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّلَ من جحدَ آدمُ، إنَّ أوَّلَ من جحدَ آدمُ، إنَّ أوَّلَ من جحدَ آدم
(5)
، إنَّ اللَّهَ لما خلقَ آدمَ، مسحَ ظهرَه، فأخرجَ منه ما هو ذارئ
(6)
إلى يوم القيامة، فجعلَ يعرضُ ذُريَّتَه عليه، فرأى فيهم رجلًا يَزْهرُ
(7)
. قال: أي ربِّ! منْ هذا؟ قال: هذا ابنُك داود. قال: أي ربِّ! كم عمرُه؟ قال: ستون عامًا. قال: أي رب زدْ في عُمُره. قال: لا، إلا أن أزيده من عُمُركَ. وكان عمرُ آدمَ ألفَ عامٍ، فزادهَ أربعين عامًا. فكتبَ اللَّه عليه بذلك كتابًا، وأشهدَ عليه الملائكة، فلما احْتُضِرَ آدمُ أتته الملائكة لقَبْضِه. قال: إنه قد بقيَ من عُمْري أربعونَ عامًا. فقيل له: إنك قد وهبتَها لابنكَ داود. قال: ما فعلتُ. وأبرزَ اللَّه عليه الكتابَ، وشهدتْ عليه الملائكة"
(8)
.
وقال أحمد
(9)
: حدَّثنا أسودُ بن عامر، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيد، عن يوسفَ بن مِهْران، عن ابن عبَّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أوَّلَ منْ جحدَ آدمُ -قالها ثلاث مرَّات- إن اللَّه عز وجل لما خلقَه مسحَ ظهرَه، فأخرجَ ذريَّتَه، فعرضَهم عليه، فرأى فيهم رجلًا يَزْهرُ، فقال: أي ربِّ! زدْ في عُمُره. لا، إلا أن تزيدَه أنت من عمرك. فزادَه أربعينَ سنةً من عُمُره، فكتبَ
(1)
في صحيحه (6227)، ومسلم (2841) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(2)
اْخرجه أحمد في المسند (2/ 535) وفي إسناده: علي بن زيد بن جدعان، ضعيف، وفي حديثه نكارة.
(3)
في المسند: سبعة.
(4)
في المسند (1/ 252).
(5)
كذا في الأصل، كررها ثلاثًا وفي المسند:"إن أوَّل من جحدَ آدم عليه السلام أو أول من جحد آدم. . . إلخ"، فالتكرار ثلاث مرات ليس في حديث عفان، وإنما في حديث أسود بن عامر الآتي بعده.
(6)
ذارئٌ: خالق، من صفات اللَّه عز وجل.
(7)
يَزْهَرُ: يتلألأ، ويُضيء حسنًا.
(8)
وفي إسناده: علي بن زيد بن جدعان، ويوسف بن مهران، ضعيفان. وحديث ابن حبان (6167) المتقدم شاهد قوي يعضده ويُقوِّيه.
(9)
في المسند (1/ 299).
اللَّه تعالى عليه كتابًا، وأشهدَ عليه الملائكةَ، فلما أراد أن يقبضَ روحَه، قال: إنَّه بقيَ من أجلي أربعونَ سنةً، فقيل له: إنَّك قد جعلتَها لابنكَ داود. قال: فجحدَ. قال: فأخرجَ اللَّه الكتابَ وأقامَ عليه البيِّنة، فأتمَّها لداودَ مئة سنةٍ، وأتم لآدمَ عمرَه ألفَ سنةٍ". تفرد به أحمد وعلي بن زيد في حديثه نكارة
(1)
.
ورواه الطبراني
(2)
: عن علي بن عبد العزيز، عن حجَّاج بن مِنْهال، عن حمَّاد بن سلمةَ، عن عليِّ بن زيد، عن يوسفَ بن مِهْران، عن ابن عبَّاس. وغير واحد: عن الحسن، قال: لما نزلتْ آيةُ الدَّيْن قالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّلَ من جحدَ آدم" ثلاثًا. وذكرَه.
وقال الإمام مالك بن أنس في "موطئه": عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، أن
(3)
عبدَ الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطَّاب أخبرَه، عن مسلم بن يَسار الجهني: أن عمرَ بن الخطَّاب سُئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. الآية. فقال عمرُ بن الخطَّاب: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل عنها، فقال:"إنَّ اللَّهَ خلقَ آدمَ عليه السلام، ثمَّ مسحَ ظهرَه بيمينه، فاستخرجَ منه ذريَّةً. قال: خلقتُ هؤلاء للجنَّة، وبعملِ أهلِ الجنَّةِ يعملونَ، ثم مسحَ ظهرَه فاستخرجَ منه ذريَّةً. قال: خلقتُ هؤلاء للنَّار وبعملِ أهل النَّار يعملون". فقال رجلٌ: يا رسول اللَّه! ففيمَ العملُ؟ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خلقَ اللَّه العبدَ للجنَّة استعمَله بعمل أهل الجنَّة، حتى يموتَ على عملٍ من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنَّة. وإذا خلقَ اللَّه العبدَ للنَّار استعملَه بعملِ أهلِ النَّار حتَّى يموتَ على عملٍ من أعمال أهل النَّار فيدخل به النَّار"
(4)
.
وهكذا رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيُّ، والنَّسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه، من طرف عن الإمام مالك
(5)
، به. وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع عمر. وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم: وبينهما نعيم بن ربيعة.
وقد رواه أبو داود
(6)
عن محمَّد بن مُصفَّى، عن بقية، عن عمر بن جُعْثُم، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يَسار، عن نعيم بن ربيعة، قال:
(1)
وهو ضعيف، ويوسف بن مهران؛ ليِّن. وبهامش المسند: حسن لغيره، دون قوله:"فأتمها لداود مئة سنة، وأتمَّ لآدم عمره ألف سنة".
(2)
في الكبير (12928) وذكره البيهقي في سننه الكبرى (10/ 146) والطيالسي في المسند (ص 350) والسيوطي في الدر المنثور (2/ 117) وفي إسناده عدة من الضعفاء.
(3)
في الموطأ: (2/ 898) عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب؛ أنه أخبره عن مسلم بن يسار.
(4)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 898 - 899).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 44 - 45) وأبو داود (4703) في السنة، والترمذي (3075) في التفسير، والنسائي في تفسيره (210)، والطبري في تفسيره (9/ 113) وفي تاريخه (1/ 135) وابن حبان في صحيحه (6166) في الإحسان.
(6)
أخرجه أبو داود (4704) في السنة.
كنتُ عند عمر بن الخطاب وقد سُئل عن هذه الآية. . فذكر الحديث.
قال الحافظ الدارقطني
(1)
: وقد تابعَ عمر بن جُعْثُم أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي، عن زيد بن أبي أُنيسة، قال: وقولُهما أولى بالصواب من قول مالك رحمه الله
(2)
.
وهذه الأحاديث كلُّها دالَّة على استخراجه تعالى ذريَّة آدمَ من ظهره كالذَّرِّ، وقسمتهم قسمين: أهل اليمين وأهل الشمال، وقال: هؤلاء للجنَّة ولا أُبالي، وهؤلاء للنَّار ولا أُبالي.
فأما الإشهادُ عليهم واستنطاقُهم بالإقرار بالوحدانية، فلم يجئ في الأحاديث الثابتة. وتفسير الآية التي في سورة الأعراف وحملُها على هذا فيه نظرٌ كما بيَّناه
(3)
هناك. وذكرنا الأحاديثَ والآثار مستقصاة بأسانيدها وألفاظ متونها. فمن أراد تحريره فليراجعه ثمَّ، واللَّه أعلم.
فأما الحديثُ الذي رواه أحمد
(4)
: حدَّثنا حُسَيْنُ بن محمَّد، حدَّثنا جريرٌ -يعني ابن حازم- عن كُلثوم بن جَبْر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه أخذ الميثاقَ من ظهرِ آدمَ عليه السلام بنُعْمان يوم عرفة، فأخرجَ من صُلْبه كل ذريَّةٍ ذرأها، فنثرَها بين يديْه، ثم كَلّمَهُم قُبُلًا، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (17) أَوْ تَقُولُوا} إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173] " فهو بإسناد جيد قويّ على شرط مسلم.
رواه النَّسائي، وابن جرير، والحاكم في "مستدركه"
(5)
من حديث حُسين بن محمد المروزي، به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يُخرِّجاه، إلا أنه اختلف فيه على كُلثوم بن جَبْر، فروي عنه مرفوعًا وموقوفًا. وهكذا رُوي عن سعيد بن جُبير عن ابن عبَّاس موقوفًا
(6)
. وهكذا رواه العوفي والوالبي والضحَّاك وأبو جمرة عن ابن عباس قوله. وهذا أكثرُ وأثبتُ، واللَّه أعلم. وهكذا رُوي عن عبد اللَّه بن عمر
(7)
موقوفًا ومرفوعًا والموقوف أصحُّ
(8)
.
(1)
انظر العلل؛ للدارقطني (2/ 222).
(2)
قال ابن عبد البر في التمهيد بعد أن ساق حديث مسلم بن يسار عن عمر المنقطع، وبيّن أن بينهما دحيم بن ربيعة:"وهو أيضًا مع هذا الإسناد لا تقوم به حجة، ومسلم بن يسار هذا مجهول، وقيل: إنه مدني، وليس بمسلم بن يسار البصري" ثم قال: "زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة، لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن"(التمهيد 6/ 3 - 6).
(3)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 329 - 331).
(4)
خرجه أحمد في المسند (1/ 272) مرفوعًا، ورجَّح الحافظ ابن كثير بعد قليل وقفه.
(5)
أخرجه النسائي (11191) في الكبرى، والطبري في تفسيره (9/ 110 - 111) والحاكم في المستدرك (2/ 544).
(6)
في أ: مرفوعًا.
(7)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 330 - 331).
(8)
قال النسائي عن الحديث المرفوع: ليس بالمحفوظ.
واستأنسَ القائلون بهذا القول، وهو أخذُ الميثاق على الذريَّة، وهم الجمهور، بما قال الإمام أحمد
(1)
: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثني شعبةُ، عن أبي عمران الجَوْني، عن أنس بن مالك، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُقالُ للرجل من أهل النَّار يومَ القيامة: لو كان لك ما على الأرضِ من شيءٍ أكنتَ مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم. فيقولُ: قد أردتُ منكَ ما هو أهونُ من ذلك، قد أخذتُ عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيتَ إلا أن تُشركَ بي".
أخرجاه من حديث شعبة
(2)
، به.
وقال أبو جعفر الرازيّ: عن الربيع
(3)
بن أنس، عن أبي
(4)
العالية، عن أُبيِّ بن كَعْب، في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية والتي بعدها. قال: فجمَعهم له يومئذٍ جميعًا ما هو كائنٌ منه إلى يوم القيامة، فخلقهم ثم صوَّرَهم، ثم استنطقَهم، فتكلَّمُوا، وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهد عليهم أنفسهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] الآية. قال: فإنِّي أشهدُ عليكم السماواتِ السبع والأرضين السبع، وأُشهد عليكم أباكم ألا تقولوا يومَ القيامة: لم نعلمْ بهذا، اعلموا أنه لا إلهَ غيري، ولا ربَّ غيري، ولا تشركوا بي شيئًا، وإنِّي سأرسلُ إليكم رسلًا يُنذرونَكم عَهْدي وميثاقي، وأُنزلُ عليكم كتابي. قالوا: نشهدُ أنَّكَ ربُّنا وإلهنا، لا ربَّ لنا غيركَ، ولا إلَه لنا غيرك، فأقروا له يومئذٍ بالطَّاعة. ورفعَ أباهم آدم فنظرَ إليهم، فرأى فيهم: الغنيَّ والفقيرَ، وحَسَنَ الصورة ودون ذلك. فقال: يا ربِّ لو سوَّيتَ بين عبادكَ؟ فقال: إنِّي أحببتُ أن أشكرَ. ورأى فيهم الأنبياء مثل السُّرُج، عليهم النُّور، وخُضُّوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول اللَّه تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. وهو الذي يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وفي ذلك قال: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56] وفي ذلك قال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] ". رواه الأئمة: عبد اللَّه بن أحمد، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، في تفاسيرهم، من طريق أبي جعفر
(5)
.
ورُوي: عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، والحسن البَصْري، وقتادة، والسُّدِّي، وغير
(1)
في مسنده (3/ 127، 129).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3334) في الأنبياء، ومسلم (2805) في صفات المنافقين.
(3)
في "ب" والمطبوع: عن أبي الربيع عن أنس.
(4)
في "ب" والمطبوع: العالية.
(5)
أي من طريق الرازي، وقد أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 115) وذكره ابن كثير في التفسير (2/ 331). والسيوطي في الدر المنثور (3/ 600).
واحد من علماء السلف، بسياقات تُوافق هذه الأحاديث، وتقدَّم أنه تعالى لما أمرَ الملائكةَ بالسجود لآدمَ امتثلوا كلُّهم الأمرَ الإلهي، وامتنعَ إبليس من السجود
(1)
حسدًا وعداوة له، فطردَه اللَّه وأبعدَه وأخرجَه من الحضرة الإلهية، ونفاه عنها، وأهبطَه إلى الأرض طريدًا ملعونًا شيطانًا رجيمًا.
وقد قال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا وكيع ويعلى ومحمد ابنا عُبيد، قالوا: حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابنُ آدمَ السجدة فسجدَ، اعتزلَ الشيطانُ يبكي، يقول: يا ويله، أُمرَ ابنُ آدمَ بالسجود فسجدَ، فله الجنَّة، وأُمرتُ بالسجود، فعصيت، فلي النَّار". ورواه مسلم
(3)
: من حديث وكيع وأبي معاوية، عن الأعمش، به.
ثم لما أُسكن آدم الجنة التي أُسكنها، سواء كانت في السماء أو في الأرض على ما تقدَّم من الخلاف فيه، أقام بها هو وزوجتُه حوَّاء عليهما السلام يأكلان منها رغدًا
(4)
حيث شاءا، فلما أكلا من الشجرة التي نُهيا عنها، سُلبا ما كانا فيه من اللِّباس، وأُهبطا إلى الأرض، وقد ذكرنا الاختلافَ في مواضع هبوطه منها.
واختلفوا في مقدار مقامه في الجنَّة، فقيل: بعضُ يوم من أيام الدنيا، وقد قدَّمنا ما رواه مسلم: عن أبي هريرة مرفوعًا "وخُلِقَ آدمُ في آخر ساعةٍ من ساعاتِ يوم الجمعة"
(5)
وتقدَّم أيضًا حديثه عنه وفيه -يعني
(6)
: يوم الجمعة- خلق آدم، وفيه أُخرج منها
(7)
. فإن كان اليومُ الذي خُلِقَ فيه أُخرجَ، وقلنا إنَّ الأيام الستة كهذه الأيام، فقد لبثَ بعضَ يوم من هذه، وفي هذا نظر. وإن كان إخراجُه في غير اليوم الذي خُلِقَ فيه، أو قلنا بأنَّ تلك الأيام مقدارُها ستة آلاف سنة، كما تقدَّم عن ابن عباس ومجاهد والضحَّاك، واختاره ابن جرير، فقد لبثَ هناك مدة طويلة.
قال ابن جرير
(8)
: ومعلومٌ أنه خُلِقَ في آخر ساعة من يوم الجمعة، والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فمكث مصوَّرًا طينًا قبل أن يُنفخ فيه الروح أربعين سنة، وأقام في الجنَّة قبلَ أن يهبطَ ثلاثًا وأربعينَ سنة وأربعة أشهر. واللَّه تعالى أعلم.
(1)
في المطبوع: من السجود له.
(2)
في المسند (2/ 443).
(3)
في صحيحه (81) في الإيمان.
(4)
رغدًا: طيِّبًا.
(5)
تقدم الحديث وتخريجه (ص 125).
(6)
في الأصل: معين.
(7)
تقدم الحديث وتخريجه (ص 125).
(8)
في تاريخه (1/ 123).
وقد روى عبد الرزاق: عن هشام بن حسَّان، عن سوَّار، خَبر عطاءَ بن أبي رباح: أنه كان لما أُهبط رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، فحطَّه اللَّه إلى ستين ذراعًا. وقد رُوي عن ابن عباس نحوه
(1)
.
وفي هذا نظر لما تقدَّم من الحديث المتفق على صحته: عن أبي هريرة؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّه خلقَ آدمَ وطولُه ستونَ ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقصُ حتى الآن". وهذا يقتضي أنه خُلِقَ كذلك لا أطول من ستين ذراعًا، وأن ذرِّيته لم يزالوا يتناقصُ خلقهم حتى الآن.
وذكر ابن جرير
(2)
: عن ابن عبَّاس: إن اللَّه قال: يا آدم! إنَّ لي حَرَمًا بحيال عرشي، فانطلقْ فابن لي فيه بيتًا، فطُفْ به كما تطوفُ ملائكتي بعرشي. وأرسلَ اللَّه له مَلَكًا فعرَّفه وعلَّمه المناسك. وذكرَ أنَّ موضعَ كلِّ خطوة خطاها آدم صارت قريةً بعد ذلك.
وعنه
(3)
: أنَّ أوَّل طعام أكلَه آدمُ في الأرض، أنْ جاءَه جبريلُ بسبع حبَّات من حِنْطةٍ، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الشجرة التي نُهيتَ عنها فأكلتَ منها. فقال: وما أصنعُ بهذا؟ قال: ابذرْه في الأرض، فبذرَه، وكان كلُّ حبَّةٍ، منها زِنتُها أزيدُ من مئة ألف، فنبتتْ، فحصدَه، ثم درسَه، ثم ذرَّاه، ثم طحنَه، ثم عجنَه، ثم خبزَه فأكلَه بعد جَهْد عظيم وتَعَبٍ ونَكَد، فذلك قوله تعالى:{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117].
وكان أول كسوتهما من شعر الضأن، جزَّاه ثم غزلاه فنسج آدم له جبة، وَلِحَوَّاءَ درعًا وخمارًا.
واختلفوا: هل وُلد لهما بالجنَّة شيءٌ من الأولاد، فقيل: لم يُولد لهما إلا في الأرض. وقيل: بل وُلد لهما فيها، فكان قابيلُ وأختُه ممن وُلد بها، فاللَّه أعلم.
وذكروا أنه كان يُولد له في كلِّ بطنٍ ذكرٌ وأنثى، وأُمِرَ أنْ يُزوِّجَ كلَّ ابنٍ أختَ أخيه التي وُلدت معه والآخر بالأخرى وهلمَّ جرًّا، ولم يكن تحلُّ أختٌ لأخيها الذي وُلدت معه.
* * *
ذكر قصَّةِ ابنيْ آدم قابيل وهَابيل
قال اللَّه تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ
(1)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (1/ 136).
(2)
في التفسير (17/ 142).
(3)
في تاريخه (1/ 128).
رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 27 - 31]. قد تكلَّمنا على هذه القصَّة في سورة المائدة في التفسير
(1)
بما فيه كفاية، وللَّه الحمد.
ولنذكر هاهنا ملخص ما ذكرَه أئمةُ السَّلف في ذلك.
فذكرَ السُّدِّي: عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عبَّاس. وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من الصحابة: أنَّ آدم كان يُزوِّجُ ذكرَ كلِّ بطنِ بأنثى الآخر، وأنَّ هابيلَ أراد أن يتزوَّجَ بأخت قابيل، وكان أكبرَ من هابيل، وأختُ هابيل أحسنُ، فأراد هابيلُ أنْ يستأثرَ بها على أخيه، وأمرَه آدمُ عليه السلام أن يزوِّجه إيَّاها فأبَى، فأمرَهما أن يُقرِّبا قربانًا، وذهبَ آدمُ ليحجَّ إلى مكَّة، واستحفظ السماوات على بنيه فأبينَ، والأرضين والجبال فأبينَ، فتقبَّل قابيلُ بحفظ ذلك. فلما ذهبَ قرَّبا قربانَهما، فقرَّبَ هابيلُ جَذْعةً سمينة، وكان صاحبَ غَنم، وقرَّبَ قابيلُ حزمةً من زَرْعٍ، من رديء زَرْعه، فنزلت نارٌ فأكلتْ قربانَ هابيل، وتركتْ قربانَ قابيل، فغضبَ وقالَ: لأقتلنَّكَ حتى لا تنكحَ أختي. فقال: إنما يتقبَّلُ اللَّه من المتقين
(2)
.
ورُوي عن ابن عباس من وجوه أُخر، وعن عبد اللَّه بن عمرو، وقال عبد اللَّه بن عمرو: وايم اللَّه إن كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعَه التحرُّج أن يبسطَ إليه يدَه
(3)
.
وذكر أبو جعفر الباقر: أنَّ آدمَ كان مباشرًا لتقرُّبهما القربانَ والتَّقبُّل من هابيل دون قابيل، فقال قابيل لآدم: إنما تَقبَّلَ منه لأنَّكَ دعوتَ له ولم تدعُ لي، وتوعَّد أخاه فيما بينَه وبينَه، فلما كان ذات ليلةٍ أبطأ هابيلُ في الرعي، فبعثَ آدمُ أخاه قابيلَ لينظرَ ما أبطأ به، فلما ذهبَ إذا هو به، فقال له: تقبَّل منكَ ولم يتقبلْ منِّي. فقال: إنما يتقبل اللَّه من المتقين، فغضبَ قابيلُ عندَها وضربَهْ بحديدةٍ كانت معه، فقتلَه. وقيل: إنه إنما قتلَه بصخرة رماها على رأسِه وهو نائمٌ فشدخته
(4)
. وقيل: بل خنقَه خنقًا شديدًا وعضًّا كما تفعلُ السِّباعُ فمات
(5)
. واللَّه أعلم.
وقوله له لما توعَّده بالقتل: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] دلَّ على خُلُقٍ حَسَن، وخَوْفٍ من اللَّه تعالى وخشية منه، وتورُّعٍ أن يُقابلَ أخاه
(1)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 55 - 60).
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (4/ 525) وابن كثير في التفسير (2/ 55).
(3)
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (4/ 532) وابن كثير في التفسير (2/ 56).
(4)
"فشدخته": كسرته وشقَّتْه.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم؛ كما في تفسير ابن كثير (2/ 56).
بالسوء الذي أراد منه أخوه مثلَه، ولهذا ثبتَ في الصحيحين
(1)
: عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّار". قالوا: يا رسول اللَّه! هذا القاتلُ فما بالُ المقتول؟ قال: "إنَّه كانَ حريصًا على قتلِ صاحبه".
وقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] أي: إني أُريدُ تركَ مقاتلتكَ، وإنْ كنتُ أشدَّ منكَ وأقوى، وإذ قد عزمتَ على ما عزمتَ عليه أن تبوءَ بإثمي وإثمكَ، أي: تتحمَّلُ إثمَ قتلي مع مالكَ من الآثام المتقدِّمة قبل ذلك. قاله مجاهد، والسُّدِّي، وابن جرير، وغيرُ واحد.
وليس المرادُ أنَّ آثام المقتول تتحوَّل بمجرد قتلهِ إلى القاتل، كما قد توهَّمه بعضُ الناس، فإنَّ ابنَ جرير حكى الإجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذي يُورده بعضُ من لا يعلم، عن النبيِّ أنه قال:"ما تركَ القاتلُ على المقتول من ذنبٍ" فلا أصلَ له ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف أيضًا
(2)
. ولكن فد يتفق في بعض الأشخاص يومَ القيامة أن
(3)
يُطالب المقتولُ القاتلَ، فتكونُ حسناتُ القاتل لا تفي بهذه المظلمة، فتُحوَّلُ من سيِّئات المقتول إلى القاتل، كما ثبتَ به الحديث الصحيح في سائر المظالم، والقتل من أعظمها، واللَّه أعلم. وقد حرَّرنا هذا كله في التفسير
(4)
وللَّه الحمد.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي
(5)
: عن سعد بن أبي وقاص، أنه قال عند فتنة عثمان بن عفان: أشهدُ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون فتنة القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي" قال: أفرأيتَ إن دخل عليّ بيتي فبسطَ يدَه إليَّ ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم.
ورواه ابن مردويه: عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا، وقال:"كن كخير ابني آدم"
(6)
.
(1)
البخاري (6875) في الديات، ومسلم (2888) في الفتن.
(2)
وانظره في كشف الخفاء (2/ 258) والمقاصد الحسنة (950) والأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة (779).
(3)
سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
(4)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 58).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 169 و 185) وأبو داود (4257) في الفتن والملاحم، والترمذي (2194) في الفتن.
(6)
أخرجه ابن مردويه كما في الدر المثور (3/ 59) وانظره بتمامه في تفسير ابن كثير (2/ 58).
وروى مسلم وأهل السنن إلا النسائي: عن أبي ذرٍّ نحو هذا
(1)
.
وأما الآخر، فقد قال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا أبو معاوية ووكيع، قالا: حدَّثنا الأعمشُ، عن عبد اللَّه بن مرّة، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تُقتلُ نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلُ
(3)
من دمها، لأنه كان أول منْ سنَّ القتلَ".
ورواه الجماعة سوى أبي داود
(4)
: من حديث الأعمش به.
وهكذا روي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وإبراهيم النخعي، أنهما قالا مثل هذا سواء.
[وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارةٌ يقال لها: مغارة الدم، مشهورة بأنها المكان الذي قَتَلَ قابيلُ أخاه هابيلَ عندها، وذلك مما تَلَقَّوه من أهل الكتاب، فاللَّه أعلمُ بصحة ذلك.
وقد ذكر الحافظُ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير -وقال: إنه كان من الصالحين- أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمرَ وهابيلَ، وأنَّه استحلفَ هابيلَ أنَّ هذا دمه، فحلفَ له، وذكرَ أنَّه سألَ اللَّه تعالى أن يجعلَ هذا المكان يُستجابُ عنده الدعاء، فأجابَه إلى ذلك، وصدَّقه في ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس
(5)
. وهذا منامٌ لو صحَّ عن أحمد بن كثير هذا لم يترتبْ عليه حكمٌ شرعيٌّ، واللَّه أعلم]
(6)
.
وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] ذكرَ بعضُهم أنه لما قتلَه حملَه على ظهره سنةً. وقال آخرون: حملَه مئة سنة، ولم يزل كذلك حتى بعثَ اللَّه غرابين -قال السُّدِّي
(7)
بإسناده عن الصحابة- أخوين، فتقاتلا، فقتلَ أحدهُما الآخرَ، فلما قتلَه عَمدَ إلى الأرض يحفرُ له فيها،
(1)
أخرجه أبو داود (4261 و 4409) في الفتن والملاحم، وابن ماجه (3958) وفي تحفة الأشراف (9/ 173): لم يعزه المزي إلا إلى أبي داود وابن ماجه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 157) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 383 و 430 و 433) وبهامش الحديث رقم (3630): إسناده صحيح على شرط الشيخين [طبعة مؤسسة الرسالة].
(3)
كِفْلٌ: نصيب.
(4)
أخرجه البخاري (3335) في الأنبياء، ومسلم (1677)(27) في القسامة، والترمذي (2673) في العلم، والنسائي في الكبرى (11142) وابن ماجه (2616) فى الديات.
(5)
انظر مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (3/ 218).
(6)
ما بين حاصرتين زيادة من ب.
(7)
أخرجه ابن جرير في التفسير (4/ 538) وذكره ابن كثير في التفسير (2/ 60).
ثم ألقاه ودفنَه وواراه، فلما رآه يصنعُ ذلك، قال:{يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31]. ففعلَ مثلَ ما فعلَ الغرابُ، فواراه ودفنَه.
وذكر أهلُ التواريخ والسِّير؛ أنَّ آدمَ حَزِنَ على ابنه هابيل حزنًا شديدًا، وأنَّه قال في ذلك شعرًا، وهو قوله فيما ذكره ابن جرير
(1)
، عن ابن حميد:[من الوافر]
تَغيَّرتِ البلادُ ومَنْ عليها
…
فوجهُ الأرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ
تغيَّرَ كلُّ ذي لَوْنٍ وطَعْمٍ
…
وقلَّ بشاشةُ الوَجهِ المليحِ
فأُجيب آدم: [من الوافر]
أبا هابيلَ قدْ قُتلا جميعًا
…
وصارَ الحيُّ كالميْتِ الذَّبيحِ
وجاءَ بشرَّةٍ قدْ كان منْها
…
على خَوْفٍ، فجاءَ بها يصيحُ
وهذا الشعرُ فيه نظر، وقد يكونُ آدمُ عليه السلام قال كلامًا يتحزَّن به بلغتِه، فألَّفه بعضُهم إلى هذا، وفيه أقوال، واللَّه أعلم.
وقد ذكر مجاهدٌ: أنَّ قابيلَ عُوجل بالعقوبة يومَ قتلَ أخاه، فعلقتْ ساقُه إلى فخذه، وجُعِلَ وجهُه إلى الشمس كيفما دارتْ تنكيلًا به، وتعجيلًا لذنبه وبغيهِ وحسده لأخيه لأبويه
(2)
.
وقد جاء في الحديث: عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منْ ذَنْبٍ أجدر أن يُعجِّلَ اللَّه عقوبتَه في الدنيا مع ما يدَّخرُ لصاحبه في الآخرة من البَغْي وقطيعةِ الرحم"
(3)
.
والذي رأيتُه في الكتابِ الذي بأيدي أهلِ الكتاب، الذين يزعمونَ أنه التوراة، أنَّ اللَّه عز وجل أجَّله وأنظرَه، وأنَّه سكنَ في أرض "نَوْد" في شرق عَدن، وهم يُسمُّونه "قنين" وأنه ولد له "خنوخ" ولخنوخ "عندر" ولعندر "محوايل" ولمحوايل "متوشيل" ولمتوشيل "لامك" وتزوَّجَ هذا امرأتين "عذا""وصلا" فولدت عذا ولدًا اسمه "إبل" وهو أوَّلُ من سكنَ القِباب واقتنى المالَ، وولدت أيضًا "نويل" وهو أوَّل من أخذَ في ضرْبِ الوَنج والصَّنَج
(4)
. وولدت صلا ولدًا اسمه "شوبلتين" وهو أوَّلُ من صنعَ النحاس والحديد، وبنتًا اسمها "نعمى".
(1)
في التفسير (4/ 530 - 531) وفي التاريخ (1/ 145). وفي التفسير: فلونُ الأرض.
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير (4/ 528).
(3)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 36 و 38) وأبو داود (4902) في الأدب، والترمذي (2511) في صفة القيامة، وابن ماجه (4211) في الزهد، والحاكم في المستدرك (2/ 162) وابن حبان في صحيحه (455) الإحسان، كلهم عن أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: صحيح.
(4)
الوَنْج: ضرب من الأوتار أو العود أو المعزف. والصَّنجُ: شيء يتخذ من صُفْر (نحاس) يُضرب أحدهما على الآخر.
وفيها
(1)
أيضًا أن آدم طافَ على امرأته فولدتْ غلامًا، ودعت اسمه "شيث" وقالت: من أجل أنه قد وهبَ لي خَلْفًا من هابيل الذي قتلَه قابيل، ووُلد لشيث "أنوش".
قالوا: وكان عمرُ آدم يوم وُلد له شيث مئة وثلاثين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة، وكان عمرُ شيث يومَ ولد له أنوش مئة وخمسًا وستين وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وسبع سنين، ووُلد له بنون وبنات غير أنوش.
فولد لأنوش "قَيْنان" وله من العمر تسعون سنة، وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وخمس عشرة سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان عمر قَيْنان سبعين سنة ولد له "مهلاييل" وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة وأربعين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وسبعون
(2)
سنة ولد له "يرد" وعاشَ بعد ذلك ثمانمئة وثلاثين سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان ليرد مئة سنة واثنتان وستون سنة ولد له "خنوخ" وعاش بعد ذلك ثمانمئة سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان لخنوخ خمس وسبعون
(3)
سنة ولد له "متوشلح" وعاش بعد ذلك ثلاثمئة
(4)
سنة، ووُلد له بنون وبنات.
فلما كان لِمُتَوَشْلِخ مئة وسبع وثمانون سنة ولد له "لامك" وعاش بعد ذلك سبعمئة واثنتين وثمانين سنة، وولد له بنون وبنات.
فلما كان للامك من العمر مئة واثنتان وثمانون سنة ولد له "نوح" وعاش بعد ذلك خمسمئة وخمسًا وتسعين سنة، وولد له بنونَ وبنات، فلما كان لنوحٍ خمسمئة سنة، وُلد له بنوه "سام" و"حام" و"يافث".
هذا مضمون ما في كتابهم صريحًا
(5)
.
(1)
أي: في التوراة.
(2)
في المطبوع خمس وستون.
(3)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: خمس وستون.
(4)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: ثمانمئة.
(5)
انظر قريبًا من هذا النص المنقول من التوراة في سفر التكوين -الإصحاح الخامس-.
وفي كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزلَ من السماء نظرٌ كما ذكرَه غيرُ واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك، والظاهر أنها مقحمة فيها، ذكرَها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير، وفيها غلط كثير كما سنذكره في مواضعه إن شاء اللَّه تعالى.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" عن بعضهم
(1)
: أنَّ حواءَ ولدت لآدم أربعينَ ولدًا في عشرين بطنًا، قاله ابن إسحاق، وسمَّاهم، واللَّه تعالى أعلم. وقيل: مئة وعشرين بطنًا، في كلِّ واحدٍ ذكرٌ وأنثى. أولهم "قابيل" وأخته "قليما" وآخرهم "عبد المغيث" وأخته "أم المغيث". ثم انتشرَ النَاسُ بعد ذلك وكثروا، وامتدُّوا في الأرض ونموا، كما قال اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] الآية.
وقد ذكرَ أهلُ التاريخ أنَّ آدمَ عليه السلام لم يمتْ حتَّى رأى من ذرِّيتهِ من أولاده وأولاد أولاده أربعمئة ألف نسمة، واللَّه أعلم.
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 189 - 190]. الآيات فهذا تنبيه أولًا بذكر آدم، ثم استطرد إلى الجنس، وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء، بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12 - 13] وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] ومعلوم أن رجومَ الشياطين ليست هي أعيانُ مصابيح السماء، وإنما استطردَ من شخصها إلى جنسها.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا عمر بن إبراهيم، حدَّثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لما ولدت حوَّاءُ طافَ بها إبليسُ، وكان لا يعيشُ لها ولد، فقال: سمِّيه عبدَ الحارث فإنَّه يعيشُ، فسمَّته عبدَ الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره". وهكذا رواه الترمذي
(3)
، وابن جرير
(4)
، وابن أبي حاتم، وابن مردويه
(5)
في تفاسيرهم عند هذه الآية. وأخرجه الحاكم
(6)
في مستدركه، كلُّهم من حديث
(1)
تاريخ الطبري (1/ 140).
(2)
في المسند (5/ 11).
(3)
في جامعه (3077) في التفسير.
(4)
في تفسيره (6/ 143).
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، كما في الدر المنثور (3/ 623).
(6)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 545).
عبد الصمد بن عبد الوارث، به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه
(1)
.
فهذه علة قادحة في الحديث أنه روي موقوفًا على الصحابي وهذا أشبه
(2)
، والظاهر أنه تلقاه من الإسرائيليات، وهكذا رُوي موقوفًا على ابن عباس. والظاهر أن هذا مُتلقَّى عن كعب الأحبار ودوّنه، واللَّه أعلم. وقد فسَّر الحسنُ البصريُّ هذه الآيات بخلاف هذا، فلو كان عنده عن سَمُرة مرفوعًا لما عدلَ عنه إلى غيره، واللَّه أعلم. وأيضًا فاللَّه تعالى إنما خلقَ آدم و حوَّاء ليكونا أصلَ البشر، وليبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، فكيف كانت حوَّاء لا يعيشُ لها ولد كما ذُكرَ في هذا الحديث إن كان محفوظًا؟! والمظنون بل المقطوع به أن رفعَه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ، والصوابُ وقفه، واللَّه أعلم. وقد حرَّرنا هذا في كتابنا التفسير
(3)
وللَّه الحمد.
ثم قد كان آدم وحواء أتقى للَّه مما ذكر عنهما في هذا، فإنَّ آدمَ أبو البشر الذي خلقَه اللَّه بيده ونفخَ فيه من روحه، وأسجدَ له ملائكته، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيءٍ، وأسكنَه جنَّته.
وقد روى ابنُ حبَّان في صحيحه: عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول اللَّه! كم الأنبياء؟ قال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا". قلت: يا رسول اللَّه! كم الرسل منهم؟ قال: "ثلاثمئة وثلاثة عشر جمٌّ غفير". قلت: يا رسول اللَّه! من كان أوَّلهم؟ قال: آدم. قلت: يا رسول اللَّه! نبي مرسل؟ قال: "نعم، خلقه اللَّه بيده، ثم نفخَ فيه من رُوحه، ثم سوَّاه قُبُلًا"
(4)
.
وقال الطبراني
(5)
: حدَّثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدَّثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدَّثنا نافع أبو هرمز، عن عطاء بن أبي رَباح، عن ابن عبَّاس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضلِ الملائكةِ جبريل، وأفضل النبييّن آدم، وأفضل الأيام يوم الجمعة، وأفضل الشهور شهر رمضان، وأفضل اللَّيالي ليلة القدر، وأفضلُ النِّساء مريمُ بنت عمران"
(6)
. وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، فإنَّ نافعًا أبا هرمز
(1)
انظر جامع الترمذي (5/ 268).
(2)
وهذا هو الصواب، فالموقوف علة للمرفوع، وليس كما شاع عند المتأخرين، واقتصار الترمذي على تحسينه يعني أنه عنده معلول، وهو معلول هنا بالوقف، وهذا من عمر بن إبراهيم فإنه ضعيف في قتادة خاصة مع صدقه عمومًا. ثم إن الحسن لم يسمع كل ما رواه عن سمرة كما قرره الإمام الذهبي.
(3)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 345).
(4)
رواه ابن حبان (361) وأحمد في المسند (5/ 178) من حديث أبي ذر، وأحمد في المسند (5/ 266) من حديث أبي أمامة، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(5)
في الكبير (11361).
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير (11361) وقال الهيثمي في المجمع (3/ 140) فيه نافع أبو هرمز، وهو ضعيف وقال أيضًا (8/ 198): فيه نافع أبو هرمز؟؛ وهو متروك.
هذا كذَّبه ابن مَعين، وضعَّفه أحمد، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم، وابن حبان وغيرهم
(1)
، واللَّه أعلم.
وقال كعب الأحبار: ليس أحدٌ في الجنَّة له لحيةٌ إلا آدم، لحيتُه سوداء إلى سُرَّته، وليس أحدٌ يكتني في الجنَّة إلا آدم، كنيتُه في الدنيا أبو البشر وفي الجنَّة أبو محمد.
وقد روى ابنُ عديّ: من طريق شيخ
(2)
بن أبي خالد، عن حمَّاد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد اللَّه، مرفوعًا "أهلُ الجنَّةِ يُدعونَ بأسمائهم إلا آدم، فإنه يُكنَّى أبا محمد"
(3)
. ورواه ابن عديّ
(4)
أيضًا: من حديث علي بن أبي طالب، وهو ضعيفٌ من كلِّ وجهٍ، واللَّه أعلم.
وفيه حديث الإسراء الذي في الصحيحين: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما مرَّ بآدمَ وهو في السماء الدنيا، قال له:"مرحبًا بالابن الصالح، قال: وإذا عن يمينه أسْودةٌ وعن يساره أسودة، فإذا نظرَ عن يمينه ضحكَ، وإذا نظرَ عن شمالِه بكى، فقك: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا آدمُ وهؤلاء نسم بنيه، فإذا نظرَ قِبَلَ أهل اليمين وهم أهلُ الجنَّة ضحكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ أهلِ الشمالِ وهم أهل النار بكى"
(5)
هذا معنى الحديث.
وقال أبو بكر البزار: حدَّثنا محمد بن المثنى، حدَّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن الحسن، قال: كانَ عقلُ آدمَ مثلَ عَقْل جميعِ ولدِه
(6)
.
وقال بعض العلماء: في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمررتُ بيوسفَ، وإذا هو قد أُعطي شَطْرَ الحُسْنِ". قالوا: معناه أنه كان على النِّصْفِ من حُسْن آدمَ عليه السلام. وهذا مناسب، فإنَّ اللَّهَ خلقَ آدمَ وصوَّره بيده الكريمة ونفخَ فيه من رُوحه، فما كان ليخلُقَ إلا أحسنَ الأشباه.
وقد روينا: عن عبد اللَّه بن عمرو، وابن عمر أيضًا، موقوفًا ومرفوعًا:"إنَّ اللَّه تعالى لما خلقَ الجنَّة، قالت الملائكة: يا ربَّنا اجعلْ لنا هذه فإنَّكَ خلقتَ لبني آدمَ الدنيا يأكلون فيها ويشربونَ. فقالَ اللَّه تعالى: وعزَّتي وجَلالي لا أجعلُ صالحَ ذريَّةِ منْ خلقتُ بيدي كمن قلتُ له كن فكان"
(7)
.
وقد وردَ الحديثُ المرويُّ في الصحيحين وغيرهما من طرق أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللَّه خلقَ آدمَ
(1)
ينظر ميزان الاعتدال (4/ 243).
(2)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: سبح.
(3)
أخرجه ابن عديّ في الكامل (4/ 1368).
(4)
أخرجه ابن عديّ في الكامل (6/ 2303).
(5)
أخرجه البخاري (3342) في الأنبياء، ومسلم (163) في الإيمان. وأسودة: جمع سواد، وهو الشخص: أي جمع من الأشخاص. ونسم بنيه: جمع نسمة، وهي نفس الإنسان، أي: أرواح بني آدم.
(6)
ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 318) وقال: في رواية هشام بن حسان عن الحسن مقال.
(7)
ذكره ابن كثير في البداية (1/ 49) وقال: رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، وهو أصحُّ.
على صُورته"
(1)
وقد تكلَّم العلماء على هذا الحديث، فذكروا فيه مسالكَ كثيرة، ليس هذا موضع بسطها.
[وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد ربه بن صالح القرشي الدمشقي
(2)
، يروي عن مكحول وغيره، وعبد الحكيم، ومروان الطاطري، وسليمان بن عبد الرحمن، وهشام بن عمار، وهشام بن خالد، روى من طريق هشام بن عمَّار، أنه سمعَ عروةَ بن رويم، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لما خلق اللَّه آدم وذريَّته، قالت الملائكة: يا ربنا خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال اللَّه عز وجل: لا أجعلُ منْ خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له كن فكان"]
(3)
.
* * *
ذكرُ وَفَاة آدم وَوَصيّته إلى ابنه شيث عليه السلام
ومعنى شيث: هبة اللَّه، وسمَّياه بذلك لأنهما رُزقاه بعد أن قُتِلَ هابيل.
قال أبو ذرّ في حديثه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه أنزلَ مئة صحيفةٍ وأربع صحف، على شيث خمسين صحيفة"
(4)
.
قال محمد بن إسحاق: ولما حضرتْ آدمَ الوفاةُ عَهِدَ إلى ابنه شيث، وعلَّمه ساعاتِ الليل والنهار، وعلَّمه عباداتِ تلك الساعات، وأعلمَه بوقوع الطُّوفان بعدَ ذلك. قال: ويُقال: إنَّ أنسابَ بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث، وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادُواد
(5)
، واللَّه أعلم.
ولما تُوفي آدمُ عليه السلام -وكان ذلك يوم الجمعة- جاءته الملائكة بحَنُوط وكَفَن من عند اللَّه عز وجل من الجنة، وعزَّوا فيه ابنَه ووصيَّهُ شيثًا، عليه السلام.
قال ابن إسحاق
(6)
: وكُسِفت الشمسُ والقمر سبعة أيَّام بلياليهن.
(1)
أخرجه البخاري في العتق (2420) ومسلم في البر والصلة (2612).
(2)
تاريخ دمشق (34/ 110).
(3)
زيادة من ب.
(4)
تقدم الحديث وتخريجه (ص 150).
(5)
تاريخ الطبري (1/ 152).
(6)
المصدر السابق (1/ 159).
وقد قال عبد اللَّه ابن الإمام أحمد
(1)
: حدَّثنا هدبة بن خالد، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن حُميد، عن الحسن، عن عُتَي -هو ابن ضمرة السعدي- قال: رأيتُ شيخًا بالمدينة يتكلَّمُ فسألتُ عنه: فقالوا: هذا أُبيُّ بن كعب، فقال: إن آدمَ لما حضرَه الموتُ قالَ لبنيه: أيْ بنيّ إني أشتهي من ثمارِ الجنَّة. قال: فذهبوا يطلبونَ له فاستقبلتْهم الملائكة ومعهم أكفانُه وحنُوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمَكاتل، فقالوا لهم: يا بني آدم ما تُريدون وما تطلبون؟ -أو ما تُريدون وأين تطلبون- قالوا: أبونا مريضٌ واشتهى من ثمار الجنة. فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضى
(2)
أبوكم. فجاؤوا، فلما رأتهم حوَّاء عَرَفتهم، فلاذت بآدمَ، فقال: إليكِ عنِّي فإني إنما أُتيت من قبلك، فخلّي بيني وبين ملائكة ربِّي عز وجل، فقبضُوه وغسَّلوه وكفَّنوه وحنَّطوه، وحفروا له ولحدوه، وصلّوا عليه، ثم أدخلوه قبرَه فوضعوه في قبره، ثم حثوا عليه، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم. إسناد صحيح إليه.
وروى ابن عساكر: من طريق شيبان بن فَرُّوخ، عن محمّد بن زياد، عن ميمونَ بن مِهْران، عن ابن عبَّاس أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"كبَّرتِ الملائكةُ على آدمَ أربعًا، وكبَّر أبو بكرٍ على فاطمةَ أربعًا، وكبَّر عمرُ على أبي بكرٍ أربعًا، وكبَّر صُهَيْبٌ على عمرَ أربعًا"
(3)
. قال ابنُ عساكر: ورواه غيره، عن ميمون، فقال: عن ابن عمر.
واختلفوا في موضع دفنه: فالمشهور أنه دُفنَ عند الجبل الذي أُهبط منه في الهند. وقيل: بجبل أبي قُبَيْس بمكة.
ويقال: إن نوحًا عليه السلام لما كانَ زمن الطّوفان حملَه هو وحوَّاء في تابوت، فدفنَهما ببيت المقدس. حكى ذلك ابن جرير
(4)
.
وروى ابنُ عساكر: عن بعضهم: أنه قال: رأسُه عند مسجد إبراهيم، ورجلاه عند صَخْرة بيتِ المقدس. وقد ماتت بعده حوَّاء بسنة واحدة.
واختُلف في مقدار عُمُره عليه السلام، فقدَّمنا في الحديث عن ابن عبَّاس، وأبي هريرة، مرفوعًا: أنَّ عُمُره اكْتُتبَ في اللَّوحِ المحفوظِ ألفَ سنةٍ
(5)
. وهذا لا يُعارضه ما في التوراة من أنه عاش تسعمئة وثلاثين سنة؛ لأن قولهم هذا مطعون فيه، مردود إذا خالفَ الحقَّ الذي بأيدينا، مما هو المحفوظ عن
(1)
في زياداته على مسند أبيه (5/ 136).
(2)
في "أ" فقد قضي قضاء أبيكم.
(3)
وإسناده ضعيف جدًا.
(4)
في تاريخه (1/ 161).
(5)
تقدم الحديث.
المعصوم. وأيضًا فإنَّ قولهم هذا يمكن الجمع بينه وبين ما في الحديث، فإن ما في التوراة إن كان محفوظًا محمولٌ على مدَّة مُقامه في الأرض بعد الإهباط، وذلك تسعمئة وثلاثون سنة شمسية، وهي بالقمرية تسعمئة وسبع وخمسون سنة، ويُضاف إلى ذلك ثلاث وأربعون سنة مُدَّة مقامه في الجنَّة قبلَ الإهباط على ما ذكرَه ابنُ جرير وغيره، فيكون الجميع ألف سنة.
وقال عطاء الخراساني: لما مات آدمُ بكتِ الخلائقُ عليه سبعةَ أيَّام. رواه ابن عساكر
(1)
.
فلما ماتَ آدمُ عليه السلام قامَ بأعباء الأمر بعدَه ولدُه شيث عليه السلام، وكان نبيًّا بنصِّ الحديث الذي رواه ابن حِبَّان في صحيحه
(2)
: عن أبي ذر، مرفوعًا: أنه أُنزلَ عليه خمسون صحيفة.
فلما حانتْ وفاتُه أوصى إلى ابنه "أنوش" فقامَ بالأمر بعدَه، ثم بعده ولده "قينن". ثم من بعده ابنه "مهلاييل" وهو الذي يزعمُ الأعاجم من الفرس أنه ملَكَ الأقاليمَ السبعة، وأنَّه أوَّلُ من قطعَ الأشجار، وبنى المدائن والحصون الكبار، وأنَّه هو الذي بنى مدينةَ بابل، ومدينة السوس الأقصى، وأنه قهرَ إبليسَ وجنودَه وشرَّدهم عن الأرض إلى أطرافها وشعاب جبالها، وأنه قتلَ خَلْقًا من مرَدة الجنِّ والغيلان، وكان له تاج عظيم، وكان يخطبُ النَّاس، ودامت دولتُه أربعينَ سنة.
فلما ماتَ قامَ بالأمر بعدَه ولدُه "يرد" فلما حضرتْه الوفاة أوصى إلى ولده "خنوخ" وهو إدريسُ عليه السلام، على المشهور.
* * *
ذِكرُ إدريس عليه السلام
قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 56 - 57.] فإدريس عليه السلام قد أثنى اللَّه عليه ووصفَه بالنبوة والصِّدِّيقيَّة، وهو "خنوخ" هذا، وهو في عمود نسب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما ذكرَه غير واحد من علماء النسب.
وكان أوَّل بني آدم أُعطي النبوة بعد آدمَ وشيث عليهما السلام. وذكر ابن إسحاق: أنَّه أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمئة سنة وثماني سنين.
وقد قال طائفة من الناس: إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي، لما سألَ رسولَ اللَّه
(1)
أخرجه ابن عساكر، كما في مختصر تاريخ دمشق؛ لابن منظور (14/ 226).
(2)
تقدم الحديث وتخريجه.
صلى الله عليه وسلم عن الخطِّ بالرمل، فقال:"إنَّه كان نبيٌّ يخطُّ به، فمن وافقَ خطَّه فذاك"
(1)
.
ويزعمُ كثيرٌ من علماء التفسير والأحكام: أنَّه أوَّل من تكلَّم في ذلك، ويُسمُّونه هرمس
(2)
الهرامسة، ويكذبون عليه أشياءَ كثيرةً، كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء.
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] هو كما ثبتَ في الصحيحين في حديث الإسراء: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير
(3)
: عن يونس، عن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سألَ ابنُ عبَّاس كَعْبًا وأنا حاضر، فقال له: ما قول اللَّه تعالى لإدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] فقال كعبٌ: أما إدريس فإن اللَّه أوحى إليه أنِّي أرفعُ لك كلَّ يوم مثل جميع عمل بني آدم -لعله من أهل زمانه- فأحب أن يزدادَ عملًا، فأتاه خليلٌ له من الملائكة، فقال: إنَّ اللَّه أوحى إلي كذا وكذا فكلِّم فيَّ ملَكُ الموت حتى أزداد عملًا، فحملَه بين جناحيْه حتى صَعِد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه مَلَكُ الموتِ منحدرًا، فكلَّم مَلَك الموتِ في الذي كلَّمه فيه إدريس، فقال: وأينَ إدريسُ؟ قال: هو ذا على ظهري. فقال مَلكُ الموتِ: فالعجبُ بُعثتُ وقيل لي: اقبضْ روحَ إدريس في السماء الرابعة، فجعلتُ أقولُ كيف أقبضُ روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبضَ روحَه هناك، فذلك قول اللَّه عز وجل {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]
ورواه ابن أبي حاتم
(4)
عند تفسيرها، وعنده، فقالَ لذلك الملك: سلْ لي ملَك الموت: كم بقيَ من عُمُري؟ فسألَه وهو معه: كم بقيَ من عُمره؟ فقال: لا أدري، حتى أنظرَ، فقال: إنَّك لتسألُني عن رجل ما بقيَ من عُمُره إلا طَرْفَة عَيْن فنظرَ الملك إلى تحت جناحِه إلى إدريس، فإذا هو قد قُبِضَ وهُو لا يشعرُ.
وهذا من الإسرائيليات، وفي بعضه نكارةٌ.
وقولُ ابن أبي نجيْح، عن مجاهد
(5)
، في قوله {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قال: إدريسُ رُفعَ ولم يمتْ، كما رُفعَ عيسى؛ إنْ أرادَ أنه لم يمت إلى الآنَ ففي هذا نظرٌ، وإنْ أرادَ أنَّه رُفعَ حيًّا إلى السماء، ثم قُبضَ هناكَ، فلا يُنافي ما تقدَّم عن كعب الأحبار، واللَّه أعلم.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (537) في المساجد.
(2)
"هرمس": الأسد القوي الشديد.
(3)
في تفسيره (8/ 352).
(4)
كما في الدر المنثور (5/ 518).
(5)
أخرجه مجاهد في تفسيره (1/ 387).
وقال العَوْفي
(1)
: عن ابن عباس، في قوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] رُفع إلى السماء السادسة فمات بها. وهكذا قال الضَّحَّاك.
والحديثُ المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصحُّ، وهو قول مجاهد، وغير واحد.
وقال الحسن البصري {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] قال: إلى الجنة. وقال قائلون: رُفعَ في حياة أبيه يَرد بن مَهلاييل، واللَّه أعلم.
وقد زعمَ بعضُهم أنَّ إدريس لم يكنْ قبلَ نوح، بل في زمان بني إسرائيل.
قال البخاري
(2)
: ويُذكر عن ابن مسعود، وابن عباس؛ أنَّ إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري، عن أنس في الإسراء؛ أنه لما مرَّ به عليه السلام قال له:"مرحبًا بالأخ الصَّالح والنَّبيِّ الصالح، ولم يقل كما قال آدمُ وإبراهيم: مرحبًا بالنَّبيِّ الصَّالح والابن الصَّالح "قالوا: فلو كانَ في عمود نسبه لقال له كما قال له.
وهذا لا يدلُّ ولا بُدَّ، لأنه قد لا يكون الراوي حفظه جيِّدًا، أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصبْ له في مقام الأبُوَّة كما انتصبَ لآدمَ أبي البشر وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن وأكبر أولي العزم بعد محمَّدٍ، صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
* * *
(1)
انظر الدر المنثور؛ للسيوطي (5/ 519).
(2)
في صحيحه (3342) في الأنبياء.
قصَّةُ نوح عليه السلام
هو نوح بن لامك، بن متوشلخ، بن خنوخ -وهو إدريس- بن يَرد، بن مهلاييل، بن قَيْنن، بن أنوش، بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام.
وكان مولدُه بعد وفاة آدم بمئة سنة وست وعشرين سنة فيما ذكره ابن جرير
(1)
وغيره.
وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مئة وست وأربعون سنة.
وكان بينهما عشرة قرون، كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في صحيحه
(2)
: حدَّثنا محمد بن عمر بن يوسف، حدَّثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه، حدَّثنا أبو توبة، حدَّثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، سمعتُ أبا سلام، سمعتُ أبا أمامة: أنَّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه! أنبيُّ كانَ آدمُ؟ قال: "نعم، مُكلَّم". قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة قرون". قلت: وهذا على شرط مسلم، ولم يخرِّجوه.
وفي صحيح البخاري
(3)
: عن ابن عبَّاس؛ أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلُّهم على الإسلام.
فإن كان المراد بالقرن مئة سنة كما هو المتبادر عند كثير من الناس، فبينهما ألف سنة لا محالة، لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قيد به ابن عبَّاس بالإسلام، إذ قد يكون بينهما قرون أُخر متأخرة لم يكونوا على الإسلام، لكن حديث أبي أمامة يدلُّ على الحصر في عشرة قرون، وزادَنا ابنُ عبَّاس أنهم كلهم كانوا على الإسلام. وهذا يردُّ قولَ من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهلِ الكتاب: أنَّ قابيلَ وبنيه عَبدُوا النَّار، واللَّه أعلم.
وإن كانَ المرادُ بالقَرْن الجيلَ من الناس، كما في قوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمون: 31] وقال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38] وقال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] وكقوله عليه السلام: "خيرُ القرونِ قرني"
(4)
الحديث. فقد كان الجيل قبلَ نوح يُعمَّرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين، واللَّه أعلم.
(1)
تاريخ ابن جرير الطبري (1/ 178).
(2)
الإحسان (6190)، وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الطبري في تاريخه (1/ 178) عن ابن عباس وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 42) عن عكرمة، والحاكم في المستدرك (2/ 546) عن ابن عباس، ولم أجده في صحيح البخاري، وأظنه سبق قلم.
(4)
أخرجه البخاري (6429) في الرقاق، ومسلم (2533)(212) في فضائل الصحابة، بلفظ "خير الناس قرني".
وبالجملة: فنوحٌ عليه السلام إنما بعثَه اللَّه تعالى لمَّا عُبِدتِ الأصنامُ والطواغيتُ، وشرعَ النَّاسُ في الضلالة، والكفر، فبعثَه اللَّه رحمةً للعباد، فكان أوَّلَ رسول بُعِثَ إلى أهل الأرض؛ كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة. وكان قومُه يُقال لهم: بنو راسب، فيما ذكرَه ابن جُبير وغيره.
واختلفوا في مقدار سِنِّه يومَ بُعِثَ فقيل: كان ابن خمسين سنة. وقيل: ابن ثلاثمئة وخمسين سنة، وقيل: ابن أربعمئة وثمانين سنة. حكاها ابن جرير
(1)
، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.
وقد ذكر اللَّه قصته وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان
(2)
، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة في غير ما موضع من كتابه العزيز.
ففي الأعراف، ويُونس، وهود، والأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، واقتربت، وأنزلَ فيه سورة كاملة.
وقال تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ
(1)
في تاريخه (1/ 179).
(2)
سقطت من ب.
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 25 - 49]
وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 76 - 77].
وقال تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 105 - 122].
وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 14 - 15].
وقال تعالى في سورة الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الصافات: 75 - 82].
وقال تعالى في سورة اقتربت: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 9 - 17] وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 1 - 28].
وقد تكلَّمنا على كل موضع من هذه في التفسير، وسنذكرُ مضمون القصَّة مجموعًا من الأماكن المتفرِّقة، ومما دلَّت عليه الأحاديث والآثار، وقد جرى ذكره أيضًا في مواضع متفرَّقة من القرآن فيها مَدْحه وذمُّ منْ خالفَه، فقال تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163 - 165].
وتقدَّمت قصَّته في الأعراف، وقال في سورة إبراهيم:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70].
وتقدَّمت قصَّته في سورة هود، وقال في سورة إبراهيم:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9].
وقال في سورة سبحان: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] وقال فيها أيضًا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17].
وتقدمت قصته في الأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت. وقال في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] وقال في سورة ص: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 12 - 14].
وقال في سورة غافر: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 5 - 6].
وقال في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. وقال تعالى في سورة ق: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِوَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 12 - 14] وقال في الذاريات: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46] وقال في النجم: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم: 52] وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة. وقال تعالى في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] وقال تعالى في سورة التحريم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
وأما مضمونُ ما جرى له مع قومه مأخوذًا من الكتاب والسُّنَّة والآثار، فقد قدَّمنا عن ابن عباس؛ أنه كان بين آدمَ ونوح عشرةُ قرون، كلُّهم على الإسلام. رواه البخاري
(1)
.
وذكَرْنا أنَّ المرادَ بالقرن: الجيل، أو المدة على ما سلف.
ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمورٌ اقتضت أنْ آلَ الحالُ باهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام، وكان سببُ ذلك ما رواه البخاري
(2)
: من حديث ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس، عند تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال: هذه أسماءُ رجالٍ صالحينَ من قومِ
(3)
نوح، فلما هَلكُوا أوحى الشيطانُ إلى قومِهم أن انصبُوا إلى مجالسِهم التي كانوا يجلسونَ فيها أنصابًا، وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعلُوا، فلم تُعْبدْ حتَّى إذا هلكَ أولئكَ، وتَنسَّخَ
(4)
العلمُ عُبِدتْ.
قال ابن عباس: وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ. وهكذا قال عكرمة والضَّحَّاك، وقتادة، ومحمد بن إسحاق
(5)
.
وقال ابن جرير
(6)
في تفسيره: حدَّثنا ابن حُميد، حدَّثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس، قال: كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابُهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلما ماتوا وجاءَ آخرون، دبَّ إليهم إبليسُ فقال: إنما كانوا يَعبدونهم وبهم يُسقون المطرَ، فعبدوهم.
وروى ابن أبي حاتم
(7)
: عن عروة بن الزبير؛ أنَّه قالَ: ود، ويغوث، ويَعُوق، وسُواع، ونَسْر، أولاد آدم، وكان وَدٌّ أكبرَهم وأبرَّهم به.
(1)
لم أجده في البخاري كما سبق ص 110.
(2)
أخرجه البخاري (4920) في التفسير موقوفًا على ابن عباس. وقال الحافظ ابن حجر: قيل: هذا منقطع؛ لأن عطاءَ المذكور هو الخراساني، ولم يلق ابن عباس. . . ثم قال: لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصية عند ابن جريج، عن عطاء الخراساني، وعن عطاء بن أبي رباح جميعًا. . وانظر فتح الباري (8/ 667 - 668).
(3)
في أ: رفقة.
(4)
في ب: ونسخ.
(5)
تفسير الطبري (2/ 254).
(6)
المصدر السابق (2/ 254).
(7)
كما في الدر المنثور (8/ 293).
وقال ابن أبي حاتم
(1)
: حدَّثنا أحمد بن منصور، حدَّثنا الحسن بن موسى، حدَّثنا يعقوب، عن أبي المُطهَّر، قال: ذكروا عند أبي جعفر -هو الباقر- وهو قائمٌ يُصلِّي يزيدَ بن المُهلَّب، قال: فلما انفتل
(2)
من صلاته، قال: ذكرتُم يزيدَ بن المُهلَّب، أما إنه قُتِلَ في أوَّل أرضٍ عُبدَ فيها غيرُ اللَّه. قال: ذكر ودًّا رجلًا صالحًا، وكان محئببًا في قومِه، فلما ماتَ عكفُوا
(3)
حولَ قبره في أرضِ بابلَ وجَزِعُوا عليه، فلما رأى إبليسُ جزعَهم عليه، تشبَّه في صورة إنسان، ثم قال: إنِّي أرى جزعَكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصوِّر لكم مثلَه، فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم. فصوَّرَ لهم مثلَه. قال: ووضعوه في ناديهم، وجعلوا يذكرونَه. فلما رأى ما بهم من ذكرِه. قال: هل لكم أن أجعلَ في منزل كلِّ واحدٍ منكم تمثالًا مثلَه، ليكونَ له في بيتهِ فتذكرونه؟ قالوا: نعم. قال: فمثَّل لكلِّ أهلِ بيتٍ تمثالًا مثلَه، فأقبلوا فجعلُوا يذكرونَه به. قال: وأدرك أبناؤُهم، فجعلُوا يرون ما يصنعونَ به، قال: وتناسلوا، ودرسَ
(4)
أثرُ ذكرهم إيَّاه حتَّى اتَّخذوه إلهًا يعبدونَه من دون اللَّه أولاد أولادِهم، فكانَ أوَّلَ ما عُبد غير اللَّهِ "ودُّ" الصنمُ، الذي سمَّوه وَدًّا.
ومقتضى هذا السياق: أنَّ كلَّ صنمٍ من هذه عبدَه طائفةٌ من الناس، وقد ذُكرَ أنَّه لما تطاولتِ العهودُ والأزمانُ جعلوا تلك الصُّورَ تماثيلَ مجسَّدةً، ليكونَ أثبتَ لها، ثم عُبِدتْ بعد ذلك من دون اللَّه عز وجل، ولهم في عبادتِها مسالكُ كثيرةٌ جدًا قد ذكرناها في مواضِعها من كتابنا التفسير
(5)
، وللَّه الحمد والمنة.
وقد ثبتَ في الصحيحين
(6)
: عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه لما ذَكرت عندَه أمُّ سلمةَ وأُمُّ حبيبةَ تلك الكنيسةَ التي رأينَها بأرضِ الحبشة، يُقالُ لها: مارية، فذكرتَا من حُسْنِها وتصاويرَ فيها، قال:"أولئكَ إذا ماتَ فيهم الرجلُ الصَّالحُ بنوْا على قبره مسجدًا، ثم صوَّرُوا فيه تلك الصُّورة، أولئك شِرارُ الخلق عند اللَّه عز وجل".
والمقصودُ أن الفسادَ لما انتشرَ في الأرض وعمَّ البلاءُ بعبادة الأصنام فيها، بعثَ اللَّه عبدَه ورسولَه نوحًا عليه السلام، يدعو إلى عبادةِ اللَّه وحده لا شريكَ له، وينهى عن عبادةِ ما سواه.
فكان أوَّلَ رسول بعثه اللَّه إلى أهل الأرض، كما ثبتَ في الصحيحين
(7)
: من حديث أبي حيَّان، عن
(1)
المصدر السابق (8/ 294) وعزاه لعبد بن حميد أيضًا.
(2)
انفتل: انصرف من صلاته.
(3)
في أ: عسكروا.
(4)
درسَ: انمحى.
(5)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 503).
(6)
أخرجه البخاري (427) و (434) في الصلاة، ومسلم (528) في المساجد.
(7)
أخرجه البخاري (4712) في التفسير، ومسلم (194) في الإيمان.
أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، قال:"فيأتون آدمَ فيقولون: يا آدمُ أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخَ فيكَ من روحه، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لكَ، وأسكنكَ الجنَّة، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك؟ ألا ترى ما نحنُ فيه وما بَلَغَنا؟ فيقول: ربِّي قد غضبَ غَضَبًا شديدًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولا يغضبُ بعدَه مثلَه، ونهاني عن الشجرة، فعصيتُ، نفسي نفسي، اذهبُوا إلى غيري، اذهبُوا إلى نوح. فيأتونَ نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك اللَّه عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بَلَغَنا، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك عز وجل؟ فيقولُ: ربِّي قد غضبَ اليومَ غَضَبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه ولا يغضبُ بعدَه مِثْله، نفسي نفسي". وذكر تمامَ الحديث بطوله، كما أورده البخاريُّ
(1)
في قصة نوح.
فلما بعثَ اللَّه نوحًا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة للَّه وحدَه لا شريكَ له، ألَّا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالًا ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنَّه لا إلهَ غيره ولا ربَّ سواه، كما أمر اللَّه تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلُّهم من ذريَّته، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وقال فيه وفي إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26] أي: كل نبيّ من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم، قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
ولهذا قال نوح
(2)
لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] وقال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] وقال: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] وقال: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} الآيات الكريمات [نوح: 2 - 14].
فذكرَ أنَّه دعاهم إلى اللَّه بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسِّرِّ والإجهار بالترغيب تارةً والترهيب
(1)
أخرجه البخاري (3340) في الأنبياء.
(2)
في ب: ولهذا قال نوح عليه السلام: {اعْبُدُوا. . .} .
أخرى، وكلُّ هذا، فلم ينجحْ فيهم، بل استمرَّ أكثرُهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، ونَصَبُوا له العداوةَ في كلِّ وقتٍ وأوان، وتَنقَّصُوه وتنقَّصُوا منْ آمنَ به، وتوعَّدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم:{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: السادة الكبراء منهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 60 - 61] أي: لست كما تزعمونُ من أني ضالٌّ، بل على الهدي المستقيم رسولٌ من رب العالمين، أي: الذي يقول للشيء كن فيكون {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62]. وهذا شأنُ الرسول أن يكونَ بليغًا، أي: فصيحًا ناصحًا، أعلم الناس باللَّه عز وجل.
وقالوا له فيما
(1)
قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] تعجَّبُوا أن يكونَ بشرًا رسولًا، وتنقَّصُوا بمن اتَّبعه، ورأوْهم أراذلَهم. وقد قيل: إنهم كانوا من أفناد
(2)
النَّاس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: وهم أتباعُ الرسل. وما ذاك إلا لأنه لا مانعَ لهم من اتباع الحقِّ.
وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] أي: بمجرد ما دعوتُهم استجابوا لكَ من غير نظر ولا رويَّة، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يُمدحون بسببه رضي الله عنهم، فإن الحقَّ الظاهرَ لا يحتاجُ إلى رويَّةٍ ولا فكر ولا نظر، بل يجبُ اتِّباعه والانقياد له متى ظهرَ.
ولهذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مادحًا للصدِّيق: "ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت كبوة
(3)
، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثمْ"
(4)
ولهذا كانت بيعتُه يوم السقيفة أيضًا سريعةً، من غير نظرٍ ولا رويَّة، لأن أفضليتَه على من عداه ظاهرةٌ جليَّةٌ عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتبَ الكتابَ الذي أراد أن ينصَّ فيه على خلافته، فتركَه وقال:"يأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر رضي الله عنه"
(5)
.
وقول كَفَرةِ قوم نوحٍ له ولمن آمنَ به: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] أي: لم يظهرْ لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزيَّة علينا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 27 - 28].
(1)
في ب: مما قالوا.
(2)
أفناد: ضعفاء الرأي من الناس.
(3)
"كبوة": وقفة وتردُّد.
(4)
أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (6286) عن ابن مسعود، وذكره رزين كما في جامع الأصول (8/ 585) والشوكاني (ص 142) في درِّ السحابة، والمتقي الهندي (11/ 555) في كنز العمال.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (6/ 106) ومسلم في صحيحه (2387) في فضائل الصحابة.
وهذا تلطُّفٌ في الخطاب معهم، وترفُّق بهم في الدعوة إلى الحقِّ، كما قال تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وهذا منه، يقول لهم:{أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] أي: النبوة والرسالة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي: أنغصبكِم بها، ونجبركم عليها {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه {وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29] أي: لستُ أريد منكم أجرةً على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، إن أطلبُ ذلك إلا من اللَّه الذي ثوابُه خيرٌ لي وأبقى مما تُعطوني أنتم.
وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29] كأنهم طلبوا منه أن يُبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك، وقال:{إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى اللَّه عز وجل، ولهذا قال:{وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 30] ولهذا لما سأل كفَّارُ قريش رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن يطردَ عنه ضعفاءَ المؤمنين، كعمَّار، وصُهيب، وبلال، وخَبَّاب، وأشباههم، نهاه اللَّه عن ذلك كما بيَّناه في سورتي الأنعام والكهف.
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] أي: بل أنا عبدٌ رسولٌ، لا أعلم من علم اللَّه إلا ما أعلمني به، ولا أقدرُ إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملكُ لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء اللَّه.
{وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} يعني من أتباعه {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند اللَّه يوم القيامة، اللَّه أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، كما قالوا في المواضع الأخر {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 111 - 115].
وقد تطاولَ الزمانُ والمجادلة بينه وبينهم، كما قال تعالى:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14] أي: ومع هذه المدة الطويلة فما آمنَ له إلا القليل منهم، وكان كلُّ ما انقرضَ جيلٌ وصَّوا منْ بعدَهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغَ ولدُه وعقلَ عنه كلامه وصَّاه فيما بينَه وبينه ألا يؤمن بنوح أبدًا ما عاش، ودائمًا ما بقي.
وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحقِّ، ولهذا قال {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]
ولهذا قالوا: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 32 - 33] أي: إنما يقدر على ذلك اللَّه عز وجل، فإنه الذي لا يُعجزه شيءٌ ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقولُ للشيء كن فيكون. {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34] أي: من يُرد اللَّه فتنتَه فلن يملكَ أحدٌ هدايتَه، هو الذي يَهدي منْ يشاءُ ويُضلُّ من يشاء، وهو الفعَّال لما يُريد، وهو العزيز الحكيم، العليمُ بمن يستحقُّ الهداية ومنْ يستحقُّ الغواية، وله الحكمة البالغة والحجَّة الدامغة.
(1)
[هود: 36] وهذه تعزيةٌ لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمنَ منهم إلا منْ قد آمنَ، وتسليةٌ له عما كان منهم إليه {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي: لا يسوأنَّكَ ما جرى فإنَّ النصرَ قريبٌ، والنبأ عجيب {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]، وذلك أن نوحًا عليه السلام لما يئسَ من صَلاحهم وفَلاحِهم، ورأى أنَّهم لا خيرَ فيهم، وتوصلوا إلى أذيَّته ومخالفتِه وتكذيبه بكلِّ طريق من فعال ومقال، دعا عليهم دعوةَ غضبٍ
(2)
، فلبَّى اللَّه دعوتَه، وأجابَ طلبتَه، قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 75 - 76].
وقال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76]. وقال تعالى: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117 - 118] وقال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26] وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 25 - 27].
فاجتمعَ عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورِهم ودعوة نبيِّهم عليهم، فعند ذلك أمره اللَّه تعالى أن يصنعَ الفلكَ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظيرٌ قبلَها، ولا يكون بعدَها مثلها.
وقدَّم اللَّه تعالى إليه أنه إذا جاء أمرُه، وحلَّ بهم بأسُه الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، أنه لا يُعاوده فيهم ولا يُراجعه، فإنَّه لعلّه قد تُدركُه رقَّة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنَّه ليس الخبرُ كالمعاينة، ولهذا قال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ
(1)
في تفسير هذه الآية تقديم وتأخير وقع في أ والمطبوع، وأثبت ما ورد في ب؛ لأنه أقوم.
(2)
في ب: دعوة غضبٍ للَّه عليهم.
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 37 - 38] أي: يستهزئون به استبعادًا
(1)
لوقوع ما توعَّدهم به، {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] أي: نحن الذين نسخرُ منكم، ونتعجَّبُ منكم في استمراركُم على كُفركم وعنادِكم الذي يقتضي وقوعَ العذاب بكم وحلوله عليكم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 39].
وقد كانت سجاياهم الكفرَ الغليظ، والعنادَ البالغَ في الدنيا، وهكذا في الآخرة، فإنَّهم يَجْحدون
(2)
أيضًا أن يكونَ جاءَهم
(3)
رسولٌ.
كما قال البخاري
(4)
: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبدُ الواحد بن زياد، حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يجيءُ نوح عليه السلام وأمَّتُه، فيقولُ اللَّه عز وجل: هل بلَّغتَ؟ فيقولُ: نعم أي ربّ، فيقولُ لأمَّته: هل بلَّغكُم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبيٍّ. فيقولُ لنوحٍ: منْ يشهدُ لكَ؟ فيقول: محمَّدٌ وأمَّتُه. فنشهدُ أنه قد بلَّغَ". وهو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. والوسط: العدل.
(5)
فهذه الأمة تشهدُ على شهادة نبيِّها الصَّادق المصدوق، بأنَّ اللَّه قد بعثَ نوحًا بالحقِّ، وأنزلَ عليه الحقَّ، وأمره به، وأنه بلَّغه إلى أمَّته على أكمل الوجوه وأتمِّها، ولم يدعْ شيئًا مما ينفعُهم في دينهم إلا وقد أمرَهم به، ولا شيئًى مما قد يضرُّهم إلا وقد نهاهم عنه، وحذَّرهم منه.
وهكذا
(6)
شأنُ جميع الرسل، حتَّى أنه حذَّر قومه المسيحَ الدَّجَّال، وإن كان لا يتوقَّعُ خروجَه في زمانهم، حذرًا عليهم وشفقةً ورحمةً بهم.
كما قالَ البخاريُّ: حدَّثنا عَبْدان، حدَّثنا عبدُ اللَّه، عن يُونس، عن الزُّهريِّ، قال سالم: قال ابنُ عمر: قامَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في النَّاسِ فأثنى على اللَّه بما هو أهلُه، ثم ذكرَ الدَّجَّال، فقال:"إنِّي لأنذركُموهُ، وما من نبيٍّ إلا وقد أنذرَه قومَهُ، لقد أنذرَ نوحٌ قومَهُ، ولكني أقولُ لكم فيه قولًا لم يَقُلْه نبيٌّ لقومِه، تعلمونَ أنَّه أعورُ، وأنَّ اللَّه ليسَ بأعور"
(7)
.
(1)
في المطبوع: استعبادًا؛ وهو تصحيف ظاهر.
(2)
"يجحدون": يُنكرون.
(3)
في أ: من رسول.
(4)
في صحيحه (3339) في الأنبياء.
(5)
في أ: وهكذا رواه.
(6)
في ب: وهذا.
(7)
أخرجه البخاري (3337) في الأنبياء.
وهذا الحديث في الصحيحين أيضًا: من حديث شَيْبان بن عبد الرحمن، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أحَدِّثكم عن الدَّجَّال حديثًا ما حدَّث به نبيٌّ قومه، إنَّه أعورُ، وإنَّه يجيءُ معه بمثالِ الجنَّة والنَّار، فالتي يقولُ إنها
(1)
الجنَّة هي النَّار، وإني أنذركُم كما أنذرَ به نوحٌ قومَه"
(2)
لفظ البخاري.
وقد قال بعضُ علماءِ
(3)
السَّلف: لما استجابَ اللَّه له أمرَه أن يغرسَ شجرًا ليعملَ منه السفينة، فغرسَه وانتظره مئة سنة، ثم نجره في مئة أخرى، وقيل: في أربعينَ سنةً، فاللَّه أعلم.
قال محمد بن إسحاق: عن الثوري، وكانت من خشب السَّاج. وقيل: من الصنوبر، وهو نصُّ التوراة. قال الثوري: وأمره أن يجعلَ طولها ثمانينَ ذراعًا وعرضَها خمسينَ ذراعًا، وأن يطليَ ظاهرَها وباطنَها بالقار، وأن يجعلَ لها جؤجؤًا أزور
(4)
يشقُّ الماء، وقال قتادة: كان طولُها ثلثمئة ذراع في عرض خمسين ذراعًا، وهذا الذي في التوراة على ما رأيته. وقال الحسن البصري: ستمئة في عرض ثلاثمئة ذراع. وعن ابن عباس: ألف ومئتا ذراع في عرض ستمئة ذراع. وقيل: كان طولها ألفيْ ذراع وعرضُها مئة ذراع. قالوا كلُّهم: وكان ارتفاعُها ثلاثين ذراعًا، وكانت ثلاث طبقات، كل واحدة عشرة أذرع، فالسُّفلى للدَّوابِّ والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعُليا للطيور، وكان بابُها في عرضها، ولها غِطاءٌ من فوقها مُطبقٌ عليها.
قال اللَّه تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون: 26 - 27] أي: بأمرنا لكَ، وبمرأى منَّا لصَنْعَتكَ لها، ومُشاهدتِنا لذلك، ولنرشدكَ إلى الصَّواب فىِ صنعتِها {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] فتقدَّم إليه بأمره العظيم العالي أنَّه إذا جاء أمرُه وحلَّ بأسُه أن يحملَ في هذه السفينة من كلٍّ زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روحٌ، ومن المأكولات وغيرها، لبقاءِ نَسْلِها، وأن يحملَ معه أهلَه، أي: أهل بيته، إلا منْ سبقَ عليه القولُ منهم، أي: إلا من كانَ كافرًا، فإنَه قد نفذتْ فيه الدعوة التي لا تُردُّ، ووجبَ عليه حلولُ البأسِ الذي لا يُردُّ، وأمر أنَّه لا يُراجعه فيهم إذا حلَّ بهم ما يُعاينه من العذاب العظيم، الذي قد حتَّمه عليهم الفعَّالُ لما يُريد، كما قدَّمنا بيانه قبل.
(1)
في أ والمطبوع: عليها.
(2)
أخرجه البخاري (3338) في الأنبياء، والبخاري (2936) في الفتن وأشراط الساعة.
(3)
في أ: بعض السَّلف.
(4)
"جُؤجؤًا أزور": الجؤجؤ: صدر السفينة. والأزور: المنحرف المائل. وانظر هذه الأقوال عن طول السفينة وعرضها في تفسير الطبري (7/ 35 - 36) والدر المنثور (4/ 419).
والمرادُ بالتَّنُّور عند الجمهور: وجهُ الأرض، أي: نبعتِ الأرضُ من سائر أرجائِها، حتَّى نبعتِ التنانيرُ التي هي محالُّ النَّار. وعن ابن عباس: التَّنُّور: عينٌ في الهند. وعن الشعبي: بالكوفة، وعن قتادة: بالجزيرة. وقال عليُّ بن أبي طالب: المرادُ بالتَّنُّور: فَلقُ الصُّبْحِ وتنويرُ الفجر، أي: إشراقه وضِيَاؤُه. أي: عندَ ذلك فاحملْ فيها من كلٍّ زوجين اثنين. وهذا قولٌ غريب.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] هذا أمرٌ بأنَّه عندَ حلول النقمة بهم؛ أن يحملَ فيها من كلِّ زوجين اثنين. وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، ومما لا يؤكل زوجين: ذكرًا وأنثى. وهذا مغايرٌ لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: {اثْنَيْنِ} إن جعلنا ذلك مفعولًا به، وأما إنْ جعلناه توكيدًا لزوجين، والمفعول به محذوف، فلا ينافي واللَّه أعلم.
وذكر بعضُهم، ويُروى عن ابن عباس: أنَّ أوَّل ما دخلَ من الطُّيور الدُّرَّة
(1)
، وآخر ما دخلَ من الحيوانات الحِمار. ودخلَ إبليسُ متعلِّقًا بذنبِ الحمار.
وقال ابنُ أبي حاتم
(2)
: حدَّثنا أبي، حدَّثنا عبد اللَّه بن صالح، حدَّثني الليث، حدَّثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قالَ: "لما حملَ نوحٌ في السفينة منْ كلٍّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن -أو كيف تطمئن المواشي- ومعنا الأسد؟ فسلّط اللَّه عليه الحُمّى، فكانت أوَّل حمَّى نزلتْ في الأرض. ثم شَكوا الفأرةَ، فقالوا: الفُويسقة تُفْسدُ علينا طعامنا ومتاعَنا. فأوحى اللَّه إلى الأسد فعطسَ، فخرجتِ الهِرَّة منه، فتخبَّات الفأرةُ منها". هذا مرسل.
وقوله {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] أي: من استُجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه يام الذي غَرِق كما سيأتي بيانه {وَمَنْ آمَنَ} أي: واحمل فيها منْ آمنَ بكَ من أُمَّتكَ، قال اللَّه تعالى:{وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] هذا مع طول المُدَّةِ والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلًا نهارًا بضروبِ المَقال وفُنون التلطُّفاتِ، والتهديد والوعيد تارةً، والترغيب والوعد أخرى.
وقد اختلفَ العلماءُ في عِدَّة منْ كان معه في السفينة: فعن ابن عباس كانوا ثمانينَ نَفْسًا، معهم نساؤهم. وعن كعبِ الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نَفْسًا. وقيل: كانوا عشرة. وقيل: إنما كانوا نوحًا وبنيه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة يام، الذي انخزل
(3)
وانعزلَ، وسلكَ عن طريق النجاة، فما عدلَ إذ عدل. وهذا القولُ فيه مخالفةٌ لظاهر الآية، بل هي نصٌّ في أنه قد ركبَ معه غير أهله طائفةٌ
(1)
"الدُّرَّة": نوع من الببغاوات، جميل الشكل حسن الصوت.
(2)
كما في الدر المنثور (4/ 427 - 428) وهو خبر مرسل، كما قال المصنف.
(3)
"انخزل": ارتدَّ عن الإيمان والركوب.
ممن آمنَ به، كما قال {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118] وقيل: كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح، وهي أمُّ أولادِه كلِّهم، وهم: حَام، وسَام، ويافث، ويَام؛ وتُسمِّيه أهلُ الكتاب كنعان
(1)
، وهو الذي قد غَرِقَ، وعابر؛ وقد ماتتْ قبلَ الطُّوفان، قيل: إنها غرقتْ مع منْ غَرِقَ، وكانت ممن سَبَقَ عليه القولُ لكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيُحتمل أنها كفرتْ بعد ذلك، أو أنَّها أنظرت ليومِ القيامة، والظاهرُ الأوَّلُ، لقوله {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 28 - 29] أمره أن يحمد ربَّه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجَّاه بها، وفتحَ بينه وبينَ قومه، وأقرَّ عينَه ممن خالفَه، وكذَّبه، كما قال تعالى:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14].
وهكذا يُؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور أن يكون على الخير والبركة، وأن تكونَ عاقبتُها محمودةً، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80].
وقد امتثلَ نوحٌ عليه السلام هذه الوصيَّةَ {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] أي: على اسم اللَّه ابتداءُ سيرها وانتهاؤه {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: وذو عقاب أليم، مع كونه غفورًا رحيمًا، لا يُردُّ بأسه عن القوم المجرمين، كما أحلَّ بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
قال اللَّه تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42]. وذلك أنَّ اللَّه تعالى أرسلَ من السماء مطرًا لم تعهدْه الأرض قبلَه
(2)
ولا تمطره بعده
(3)
، كان كأفواه القِرَبِ، وأمرَ الأرضَ فنبعتْ من جميع فِجاجها وسائر أرجائِها، كما قال تعالى:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 10 - 13]. والدُّسُر: السابر
(4)
. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بحفظنا وكلاءَتنا
(5)
وحراستنا ومُشاهدتنا لها {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14].
(1)
في المطبوع: كعنان؛ وهو تصحيف.
(2)
في أ: قبلها.
(3)
في أ: بعدها.
(4)
كذا في الأصول، وفي المطبوع: المسامير.
(5)
"وكَلاءَتنا": حفظنا.
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أنَّ الطُّوفانَ كان في ثالث عشر شهر آبٍ في حمارَّه
(1)
القيظ. وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] أي: السفينة. {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12].
قال جماعة من المفسرين: ارتفعَ الماءُ على أعلى جبل بالأرض خمسةَ عشرَ ذراعًا، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعًا. وعمَّ جميعَ الأرض طولَها والعرضَ، سهلَها وحَزْنَها
(2)
وجبالَها وقِفارها ورِمالها. ولم يبقَ على وجَه الأرض ممن كان بها من الأحياء عينٌ تَطْرُفُ، ولا صغيرٌ ولا كبير.
قال الإمام مالك: عن زيد بن أسلم؛ كان أهلُ ذلك الزمان قد مَلؤوا السَّهلَ والجبلَ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكنْ بقعةٌ في الأرض إلا ولها مالكٌ وحائز؛ رواهما ابن أبي حاتم
(3)
.
وهذا الابن هو يام، أخو سام وحام ويافث. وقيل: اسمه كنعان. وكان كافرًا عَمِلَ
(4)
عملًا غير صالح، فخالفَ أباه في دينه ومذهبهِ فهلكَ مع من هَلَك. هذا وقد نجا مع أبيه الأجانبُ في النسب لما كانوا موافقينَ في الدِّين والمذهب.
{وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]. أي: لما فرغَ من أهل الأرض ولم يبق منها أحدٌ ممن عبد غيرَ اللَّه عز وجل، أمرَ اللَّه الأرضَ أن تبلعَ ماءَها، وأمرَ السَّماءَ أنْ تُقْلعَ، أي: تُمْسكَ عن المطر {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي: نقصَ عمَّا كان {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: وقعَ بهم الذي كان قد سبقَ في عِلْمه وقَدره، من إحلاله بهم ما حلَّ بهم {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: نُودي عليهم بلِسان القُدْرة
(5)
: بعدًا لهمل من الرحمة والمغفرة، كما قال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64] وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73]. وقال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77] وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
(1)
في المطبوع: في حساب القبط. وحمَارَّة القيظ: شدَّة حره، وقد تُخفَّف الراء.
(2)
"حَزْنها": ما خشن من الأرض وغلظ.
(3)
كما في الدر المنثور (4/ 427).
(4)
في أ: وكان كافرًا عملًا غير صالح.
(5)
في أ: القَدَر.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 119 - 122] وقال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 14 - 15] وقال تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 66] وقال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15 - 17] وقال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 25 - 27] وقد استجابَ اللَّه تعالى -وله الحمد والمنَّة- دعوته، فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الإمامان أبو جعفر بن جرير
(1)
، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما: من طريق يعقوب بن محمد الزُّهري، عن فائد مولى عُبيد اللَّه بن أبي رافع: أن إبراهيمَ بن عبد الرحمن بن أبي رَبيعة أخبره، أن عائشةَ أم المؤمنين أخبرتْه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فلو رحمَ اللَّه من قومِ نوحٍ أحدًا لرحمَ أمَّ الصبيِّ". قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مكث نوحٌ عليه السلام في قومه ألفَ سنةٍ -يعني إلا خمسينَ عامًا- وغرسَ مئة سنةٍ الشجرَ، فَعظُمَتْ، وذهبتْ كلَّ مذهبٍ، ثم قطعَها، ثم جعلَها سفينةً، ويمرُّون عليه، ويَسْخرون منه، ويقولون: تعملُ سفينةً في البرِّ كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون. فلما فرغَ، ونبعَ الماءُ وصارَ في السِّككِ، خشيتْ أمُّ الصَبيِّ عليه، وكانتْ تُحبُّه حُبًّا شديدًا، خرجت به إلىِ الجبل حتَّى بلغت ثلثَه، فلما بلغَها الماءُ خرجتْ به حتَّى استوتْ على الجَبَلِ، فلمَّا بلغَ الماءُ رقبتَها رَفَعتْه بيديْها، فغرقا، فلو رحمَ اللَّه منهم أحدًا لرحمَ أُمَّ الصَّبيِّ". وهذا حديث غريب.
وقد رُوي عن كعب الأحبار، ومُجاهد
(2)
، وغير واحد، شبيهٌ لهذه القصة، وأحرى بهذا الحديث أن يكونَ موقوفًا مُتلقَّى عن مثل كعب الأحبار، واللَّه أعلم.
والمقصودُ أنَّ اللَّه لم يُبقِ من الكافرين ديّارًا فكيف يزعمُ بعضُ المُفسِّرين أنَّ عَوجَ بن عَنَق
(3)
-ويقال ابن عَناق- كان موجودًا من قبل نوح إلى زمان موسى؟ ويقولون: كان كافرًا مُتمرِّدًا جبَّارًا عنيدًا، ويقولون: كان لغير رشدة، بل ولدتُه أُمُّه عَنَقَ بنت آدم، من زنى، وإنه كان يأخذُ من طوله السَّمَك من قَرار البحار، ويشويه في عَيْن الشمس، وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القُصَيْعة التي لكَ؟ ويستهزئُ به، ويذكرون أنه كان طولُه ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مئة وثلاثة وثلاثين ذراعًا وثلثًا، إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مُسَطَّرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيَّام النَّاس،
(1)
تفسير ابن جرير الطبري (7/ 35) وتاريخ الطبري (1/ 180).
(2)
انظر الدر المنثور؛ للسيوطي (4/ 429 - 430).
(3)
انظر خبر عَوَجَ بن عَنق هذا في التاريخ للطبري (1/ 181 و 431). والكامل لابن الأثير (1/ 72) وبهامشه: عَوج بن أعنق.
لما تعرَّضنا لحكايتها؛ لسُقاطَتِها
(1)
ورَكاكَتها، ثم إنَّها مخالفةٌ للمعقول والمنقول.
أما المعقولُ: فكيف يسوغُ فيه أن يُهْلكَ اللَّه ولدَ نوحٍ لكفره وأبوه نبيُّ الأمة وزعيمُ أهل الإيمان، ولا يُهْلكَ عَوجَ بن عَنق -ويقال عناق- وهو أظلمُ وأطغى على ما ذكروا؟! وكيف لا يرحم اللَّه منهم أحدًا ولا أُمَّ الصَّبيِّ ولا الصَّبيَّ، ويترك هذا الدَّعيَّ الجبَّار العنيدَ الفاجرَ الثديدَ الكافرَ الشيطانَ المريدَ، على ما ذكروا؟!
وأما المنقولُ: فقد قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 66]{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالفٌ لما ثبت في الصحيحين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللَّه خلقَ آدمَ وطولُه ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلقُ ينقصُ حتى الآن"
(2)
.
فهذا نصُّ الصَّادقِ المصدوقِ المعصومِ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى؛ أنَّه لم يزلِ الخلقُ ينقصُ حتَّى الآن، أي: لم يزل النَّاس في نقصان طُولهم من آدمَ إلى يوم إخباره بذلك، وهلُمَّ جرًا إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضي أنه لم يُوجد من ذريَّة آدم من كان أطول منه، فكيف يُتركُ هذا ويُذْهلُ عنه، ويُصار إلى أقوال الكَذَبة الكَفَرةِ من أهل الكتاب، الذين بدَّلوا كُتُب اللَّه المنزلة وحرَّفوها وأوَّلوها، ووضعُوها على غير مواضِعها، فما ظنُك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه، [وهم الخونة والكذَبة -عليهم لعائنُ اللَّه المتتابعة إلى يوم القيامة-]
(3)
وما أظنُّ أن هذا الخبر عن عَوج بن عَناق إلا اختلاقًا من بعض زنادقتهم وفُجَّارهم الذين كانوا أعداءَ الأنبياء، واللَّه أعلم.
ثم ذكرَ اللَّه تعالى مناشدةَ نوح ربَّه في ولده، وسؤاله له عن غرقِه، على وجه الاستعلام والاستكشاف، ووجه السؤال: أنَّك وعدَتني بجاة أهلي معي، وهو منهمِ وقد غرقَ، فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي: الذين وعدتُ بنجاتهم، أي: أما قُلنا لكَ {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] فكانَ هذا ممن سبقَ عليه القولُ منهم بأنه سيغرق بكفره، ولهذا ساقتْه الأقدارُ إلى أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغَرِقَ مع حزبه أهل الكفر والطغيان، ثم قال تعالى:{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] هذا أمرٌ لنوحٍ عليه السلام لمَّا نضبَ الماءُ عن وجهِ الأرض، وأمكنَ السَّعي فيها والاستقرار عليها، أنْ يهبطَ من السفينة التي
(1)
كذا في ب والمطبوع. والسُّقاطة: ما سقط من الشيء. وفي أ وسطالتها: والساطل من الغبار المرتفع، والسَّاطلُ: المُلْبسُ.
(2)
أخرجه البخاري (3326) في الأنبياء، ومسلم (2841) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع، وأثبته من أ وب.
كانت قد استقرَّتْ بعد سيرها العظيم على ظهر جَبَلِ
(1)
الجوديِّ. وهو جبلٌ بأرضِ الجزيرة مشهورٌ، وقد قدَّمنا ذكرَه عند خَلْقِ الجبال {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} أي: اهبطْ سالمًا مباركًا عليك وعلى أمم ممن سيولد بعد أيٍّ من أولادك، فإن اللَّه لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلًا ولا عَقِبًا سوى نوح عليه السلام، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] فكلُّ منْ على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينتسبون
(2)
إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث.
قال الإمام [أحمد]
(3)
: حدَّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"سَامٌ أبو العرب، وحَامٌ أبو الحبش، ويافثُ أبو الروم".
ورواه الترمذيُّ
(4)
: عن بشر بن مُعاذ العَقَديّ، عن يزيدَ بن زُرَيْع، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قَتادة، عن الحسن، عن سَمُرة مرفوعًا، نحوه.
وقال الشيخ أبو عمر
(5)
بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حُصَيْن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. قال: والمرادُ بالروم هنا الرومُ الأوَلُ، وهم: اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطي بن يُونان بن يافث بن نوح عليه السلام. ثم رَوَى من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولدَ نوحٌ ثلاثةً: سام، ويافث، وحام. وولدَ كلُّ واحدٍ من هذه الثلاثة ثلاثةً، فولدَ سامُ العربَ، وفارسَ والرُّومَ. وولدَ يافثُ التُّركَ والسَّقالبةَ ويأجوجَ ومأجوجَ. وولدَ حامُ القِبْطَ والسُّودان والبَرْبر.
قلت: وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده
(6)
: حدَّثنا إبراهيم بن هانئ وأحمدُ بن الحُسين بن عبَّاد -أبو العبَّاس- قالا: حدَّثنا محمَّد بن يزيد بن سنان الرَّهاوي، حدَّثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسيِّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وُلدَ لنوحٍ: سام، وحام، ويافث. فوُلد لسامٍ: العربُ وفارسُ، والرومُ، والخيرُ فيهم. ووُلد ليافث: يأجوجُ ومأجوجُ، والتُّركُ والسَّقَالبة، ولا خير فيهم. وَوُلد لحام: القِبْطُ، والبَرْبرُ والسُّودان" ثم قال: لا نعلم يُروى مرفوعًا إلا من هذا الوجه، تفرَّد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدَّث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه. ورواه غيرُه عن يحيى بن سعيد مرسلًا، ولم يُسنده وإنما جعلَه من قول سعيد.
(1)
في أ: على ظهر الجوديّ.
(2)
في المطبوع: ينسبون.
(3)
في أ: قال الإمام، وهو في المسند (5/ 9 - 11).
(4)
في الجامع (3231) في التفسير، و (3931) في المناقب، وقال: هذا حديث حسن.
(5)
في أ: عمرو؛ وهو خطأ.
(6)
كما في كشف الأستار (218).
قلت: وهذا الذي ذكرَه أبو عمر هو المحفوظ عن سعيد قوله
(1)
، وهكذا رُوي عن وهب بن منبه مثله، واللَّه أعلم. ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيفٌ بمرَّة، لا يُعتمد عليه.
وقد قيل: إنَّ نُوحًا عليه السلام لم يُولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطُّوفان، وإنما وُلد له قبل السفينة كنعان الذي غَرِقَ، وعابر مات قبل الطُّوفان. والصحيحُ أن الأولادَ الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم، وهو نصُّ التوراة. وقد ذُكرَ أنَّ حامًا واقعَ امرأتَه في السفينة، فدعا عليه نوحٌ أنْ تُشوَّهَ خِلْقَةُ نطفتِه، فوُلد له ولدٌ أسود، وهو كنعان بن حام جدُّ السودان. وقيل: بل رأى أباه نائمًا وقد بدتْ عورتُه فلم يسترْها، وسترَها أخواه، فلهذا دعا عليه أن تُغَيَّر نُطْفته، وأن يكونَ أولادُه عبيدًا لإخوته.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير: من طريق عليّ بن زيد بن جُدعان، عن يوسفَ بن مِهْران، عن ابن عبَّاس، أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثتَ لنا رجلًا شهدَ السفينة فحدَّثنا عنها! فانطلقَ بهم حتى أتى إلى كثيبٍ
(2)
من تُرابٍ، فأخذَ كفًّا من ذلك التراب بكفِّه، قال: أتدرون من هذا؟ قالوا اللَّه ورسوله أعلم. قال: هذا كعب
(3)
حام بن نوح. قال: وضربَ الكثيبَ بعصاه، وقال: قمْ بإذن اللَّه، فإذا هو قائمٌ ينفضُ الترابَ عن رأسِه قد شابَ. فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكتَ؟ قال: لا ولكنِّي متُّ وأنا شابٌّ، ولكني ظننتُ أنَّها السَّاعة، فمن ثَمَّ شِبْتُ. قال: حدَّثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولُها ألفَ ذراع ومائتي ذراع، وعرضُها ستمئة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ، فطبقةٌ فيها الدوابُّ والوحشُ، وطبقةٌ فيها الإنس وطبقةٌ فيها الطير. فلما كثرَ أرواثُ الدوابِّ أوحى اللَّه عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز
(4)
ذنبَ الفيل، فغمزَه فوقعَ منه خنزيرٌ وخنزيرةٌ، فأقبلا على الرَّوْث، ولما وقعَ الفأرُ بخرز السفينة يقرضُه، أوحى اللَّه عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اضربْ بينَ عيني الأسدِ، فخرجَ من منخره سنُّور وسنُّورة، فاقبلا على الفأر. فقال له عيسى: كيف عرفَ نوحٌ عليه السلام أن البلاد قد غَرِقتْ؟ قال: بعثَ الغراب يأتيه بالخبر، فوجدَ جيفةً فوقعَ عليها، فدعا عليه بالخوف، فذلك لا يألفُ البيوتَ. قال: ثم بعثَ الحمامةَ فجاءت بورقِ زيتونٍ بمنقارِها وطيْنٍ برجلِها، فعلمَ أنَّ البلادَ قد غَرِقَتْ، فطوَّقها الخضرةَ التي في عُنُقِها، ودعا لها أن تكونَ في أُنسٍ وأمانٍ، فمن ثمَّ تألفُ البيوتَ. قال: فقالوا: يا رسول اللَّه: ألا ننطلقُ به إلى أهلينا، فيجلسُ معنا ويُحدِّثنا؟ قال: كيف يتبعُكم منْ لا رزقَ له. قال: فقال له: عُدْ بإذن اللَّه، فعادَ ترابًا
(5)
. وهذا أثر غريب جدًا.
(1)
أي من قول سعيد بن المسيب.
(2)
"كثيب": تل من رمل.
(3)
كذا في الأصول، وفي تاريخ الطبري: هذا قبر.
(4)
"اغمز": انخسْ.
(5)
أخرجه الطبري في تاريخه (1/ 181 - 182).
وروى علباءُ بن
(1)
أحمر: عن عكرمة، عن ابن عبَّاس، قال: كان مع نوحٍ في السفينة ثمانونَ رجلًا معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مئة وخمسين يومًا، وإن اللَّه وجَّهَ السفينةَ إلى مكَّة، فدارت بالبيتِ أربعينَ يومًا، ثم وجَّهها إلى الجُودِيِّ
(2)
فاستقرَّتْ عليه، فبعثَ نوحٌ عليه السلام الغراب ليأتيَه بخبر الأرض، فذهبَ فوقعَ على الجِيفَ فأبطأ عليه، فبعثَ الحمامةَ فأتته بورقِ الزيتونِ ولطختْ رِجْلَيْها بالطِّين، فعرفَ نوحٌ أنَّ الماءَ قد نضبَ، فهبط إلى أسفلِ الجُوديِّ، فابتنى قريةً وسمَّاها ثمانينَ، فأصبحوا ذاتَ يومٍ وقد تبلبلتْ ألسنتُهم على ثمانينَ لغةً، إحداها العربيُّ، وكان بعضُهم لا يَفْقهُ كلامَ بعضٍ، فكانَ نوحٌ عليه السلام يُعبِّرُ عنهم
(3)
.
وقال قتادةُ وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فسارُوا مئة وخمسين يومًا، واستقرَّت بهم على الجوديّ شهرًا، وكان خروجُهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم
(4)
.
وقد روى ابن جرير
(5)
خبرًا مرفوعًا يُوافق هذا وأنهم صامُوا يومَهم ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو جعفر، أخبرنا عبدُ الصمد بن حَبيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد اللَّه، عن شُبَيْل، عن أبي هريرة، قال: مرَّ النبيُّ بأناس من اليهود وقد صامُوا يومَ عاشُوراء، فقال:"ما هذا من الصوم؟ " فقالوا: هذا اليوم الذي نجَّا اللَّه موسى وبني إسرائيلَ من الغَرَقِ، وغَرَّقَ فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينةُ على الجُوديِّ، فصامَ نوحٌ وموسى عليهما السلام شكرًا للَّه عز وجل، فقال النبيُّ:"أنا أحقُّ بموسى وأحقُّ بصومِ هذا اليوم"
(6)
.
وقال لأصحابه: "مَنْ كانَ منكم أصبحَ صائمًا فليتمَّ صومَه، ومَنْ كان منكم قد اصابَ من غداءِ أهلِه فليتمَّ بقيَّةَ يومِه"
(7)
.
وهذا الحديث له شاهدٌ في الصحيح
(8)
من وجه آخر، والمستغرب ذكرُ نوحٍ أيضًا، واللَّه أعلم.
وأما ما يذكرُه كثيرٌ من الجهلة أنهم أكلوا من فُضولِ أزوادِهم ومِنْ حُبوبٍ كانت معَهم قد
(1)
علباء بن أحمر: اليشكري روى عن عمرو بن أخطب، وعكرمة، وثقه ابن معين وأبو زرعة الرازي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أحمد: لا بأس به لا أعلم إلا خيرًا، وهو من رجال مسلم (تهذيب الكمال 20/ 293 - 294).
(2)
"الجوديّ": اسم جبل بالجزيرة، استوت عليه سفينة نوح.
(3)
ذكره ابن كثير في التفسير أيضًا (2/ 550 - 551) ولم يعزه لكتاب.
(4)
ذكره ابن كثير في التفسير (2/ 551).
(5)
في التاريخ (1/ 190) عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه.
(6)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 359 - 360)، وإسناده ضعيف، ولكن لقصة موسى دون نوح شواهد يقوى بها.
(7)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 359)، وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد يقوى بها.
(8)
أخرجه البخاري (4680) في التفسير، ومسلم (1130) في الصيام.
استصحبُوها، واطَّحنُوا الحبوبَ يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لمَّا انهارتْ من الضِّياء بعد ما كانوا في ظُلْمة السفينة، فكلُّ هذا لا يصحُّ فيه شيء، وإنما يُذكر فيه آثارٌ منقطعة عن بني إسرائيل، لا يُعتمدُ عليها ولا يُقتدى بها، واللَّه أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أرادَ اللَّه أن يكفَّ ذلك الطُّوفان أرسلَ ريحًا على وجه الأرض، فسكنَ الماءُ وانسدَّتْ ينابيعُ الأرض، فجعلَ الماء ينقصُ ويغيض ويُدْبرُ، وكان استواءُ الفُلْكِ فيما يزعمُ أهلُ التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رُئيَتْ رُؤوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلكَ أربعونَ يومًا فتحَ نوحٌ كُوَّةَ الفُلْكِ التي صنعَ فيها، ثم أرسلَ الغُرابَ لينظرَ له ما فعلَ الماء، فلم يرجع إليه، فأرسلَ الحمامةَ فرجعتْ إليه لم يجد لرجلِها موضعًا، فبسط يدَه للحمامة فأخذَها فأدخلَها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعلَ الماءُ فلم ترجع، فرجعتْ حينَ أمستْ وفي فيها ورقُ زيتونةٍ، فعلمَ نوحٌ أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض، ثم مكثَ سبعة ايام، ثم أرسلَها، فلم ترجع إليه، فعلم نوحٌ أن الأرض قد برزتْ، فلما كملت السنة -فيما بين أنْ أرسلَ اللَّه الطُّوفان إلى أن أرسلَ نوحٌ الحمامةَ- ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين، برزَ وجهُ الأرضِ، وظهرَ البرُّ، وكشفَ نوحٌ غطاءَ الفلك.
وهذا الذي ذكرَه ابنُ إسحاق هو بعينه مضمونُ سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
قال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48].
وفيما ذكر أهل الكتاب أن اللَّه كلَّم نوحًا قائلًا له: اخرجْ من الفُلْك أنتَ وامرأتك وبنوكَ ونساءُ بنيكَ معكَ، وجميع الدواب التي معك، ولينموا وليكثروا في الأرض، فخرجوا، وابتنى نوحٌ مذبحًا للَّه عز وجل، وأخذ من جميع الدوابِّ الحلال والطير الحَلال فذبحها قربانًا إلى اللَّه عز وجل، وعَهدَ اللَّه إليه ألا يعيدَ الطوفان على أهل الأرض، وجعلَ تذكارًا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي قدمنا
(1)
عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم: فيه إشارة إلى أنه قوسٌ بلا وتر، أي: أن هذا الغمام لا يُوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابرًا عن كابرٍ من لدن كنوفرت
(2)
-يعني آدم- إلى زماننا هذا. وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عبَّاد النيران وأتباع الشيطان.
(1)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: روى.
(2)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: كيومرث.
وهذا سفسطة، وكفرٌ فظيع، وجهل بليغ، ومكابرةٌ للمحسوسات، وتكذيبٌ لربِّ الأرض والسماوات، وقد أجمعَ أهلُ الأديان الناقلون عن رسلِ الرحمن مع ما تواتر عندَ الناس في سائر الأزمان على وقوع الطوفان، وأنَّه عمَّ جميعَ البلاد ولم يُبْقِ اللَّهُ أحدًا من كفرة العباد، استجابةً لدعوة نبيِّه المؤيد المعصوم، وتنفيذًا لما سبق في القدر المحتوم.
* * *
ذكرُ شيء من أخبار نوح نفسه عليه السلام
قال اللَّه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] قيل: إنه كان يحمد اللَّه على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله
(1)
.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه ليَرضى عن العبد أنْ يأكلَ الأكْلة فيحمدَه عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
وكذا رواه مسلم والترمذي والنَّسائي
(3)
من حديث أبي أسامة: والظاهر أن الشكور هو الذي يعملُ بجميع الطَّاعات القلبية والقولية والعملية، فإن الشكرَ يكون بهذا وبهذا وبهذا، كما قال الشاعر:[من الطويل]
أفادتكُمُ النعماءُ منّي ثلاثةً
…
يدي ولِساني والضميرَ المُحجَّبا
(4)
* * *
ذِكرُ صومه
(5)
عليه السلام
وقال ابن ماجه
(6)
-باب صيام نوح عليه السلام: حدَّثنا سهلُ بن أبي سَهْل، حدَّثنا سعيد بن
(1)
انظر تفسير ابن كثير (3/ 34).
(2)
في المسند (3/ 117).
(3)
أخرجه مسلم (2734) في الذكر والدعاء، والترمذي (1816) في الأطعمة، والنسائي (6899) في السنن الكبرى.
(4)
ذكره الزمخشري في الكشاف (1/ 8) وابن القيم في كتابه طريق الهجرتين (ص 621) فقال: فاليد: للطاعة، واللسان للثناء، والضمير: للحب والتعظيم.
(5)
في أ: صيامه.
(6)
في سننه (1714) في الصيام، وفي مصباح الزجاجة: في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف وقد ثبت النهي عن صيام الدهر في غير ما حديث.
أبي مَرْيم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعةَ، عن أبي فراس، أنَّه سمعَ عبدَ اللَّه بن عمرو يقول: سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "صامَ نوحٌ الدَّهرَ إلا يوم عيد الفطر ويوم الأضحى" هكذا رواه ابن ماجه من طريق عبد اللَّه بن لهيعة، بإسناده ولفظه.
وقد قال الطبراني: حدَّثنا أبو الزِّنباع روح بن الفَرَج، حدَّثنا عمرو بن خالد الحرَّاني، حدَّثنا ابن لهيعة، عن أبي قنان، عن يزيد بن رباح أبي فراس؛ أنَّه سمعَ عبدَ اللَّه بن عمرو يقول: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "صامَ نوحٌ الدَّهْرَ إلا يوم الفطر ويوم الأضحى، وصامَ داودُ نصفَ الدهر، وصامَ إبراهيمُ ثلاثةَ أيَّامٍ منْ كُلِّ شهر، صامَ الدَّهرَ وأفطرَ الدَّهْرَ"
(1)
.
* * *
ذِكرُ حَجِّه عليه السلام
وقال الحافظ أبو يعلى: حدَّثنا سفيان بن وكيع، حدَّثنا أبي، عن زمعة، هو ابن أبي صالح -عن سلمةَ بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: حجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما أتى وادي عسفانَ، قال:"يا أبا بكر! أي وادٍ هذا؟ " قال: هذا وادي عسفان، قال: "لقدْ مرَّ بهذا الوادي نوحٌ وهودٌ وإبراهيمُ على بكرات
(2)
لهم حمر، خُطُمهم الليف، أُزرهم العباء، وأرديتهم النِّمار، يحجُّون البيتَ العتيق". فيه غرابة.
* * *
ذِكْرُ وصيَّتِه لولده عليه السلام
قال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حمَّاد بن زيد، عن الصَّقْعب بن زُهير، عن زيد بن أسلم، قال حمَّاد -أظنُّه عن عطاء بن يسار- عن عبد اللَّه بن عمرو، قال: كنَّا عند رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجاءَ رجلٌ من أهل البادية عليه جُبَّة سيجان
(4)
مزرورةٌ بالديباج، فقال: ألا إنَّ صاحبَكم هذا قد وضعَ كلَّ
(1)
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 195) وقال: رواه الطبراني في الكبير، وفيه: أبو قنان، ولم أعرفه.
(2)
بكرات: جمع بكرة، وهي الفتية من الإبل. والخطم: كل ما وضع في أنف البعير ليُقتاد منه.
(3)
في المسند (2/ 169 - 170) رقم (6583).
(4)
وسيجان: جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر. وسفه الحق: جهله، والاستخفاف به وغَمْص النَّاس: الاستهانة =
فارس ابنَ فارس، قال: يُريدُ أن يضعَ كل فارس ابن فارس، ويرفعَ كلَّ راع ابن راع. قال: فأخذَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمجامع جُبَّتِه، وقال:"ألا أرى عليكَ لباسَ منْ لا يعقل؟ ". ثم قال: "إنّ نبيَّ اللَّه نوحًا عليه السلام لما حضرته الوفاةُ قال لابنه: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوصيةَ: آمُرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين؛ آمرك بلا إله إلا اللَّه، فإنَّ السماوات السبع والأرضينَ السبع لو وُضِعتْ في كفَّةٍ، ووُضعتْ لا إله إلا اللَّه في كفةٍ رجحتْ بهنَّ لا إلَه إلا اللَّه، ولو أنَّ السماواتِ السبع والأرضينَ السبع كنَّ حلقةً مبهمةً فضمَّتهنَّ لا إله إلا اللَّه وسبحان اللَّه وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يُرزق الخلق. وأنهاك عن الشرك والكبر". قال: قلت -أو قيل- يا رسولَ اللَّه هذا الشركُّ قد عرفناه، فما الكبر؟ أن يكونَ لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال:"لا". قال: هو أن يكون لأحدنا حلَّة يلبسها؟ قال: "لا". قال: هو أن يكون لأحدنا دابَّه يركبها؟ قال: "لا". قال: هو أن يكون لأحدنا أصحابٌ يجلسون إليه؟ قال: "لا" قلت -أو قيل- يا رسول اللَّه! فما الكبر؟ قال: "سَفهُ الحَقِّ وغَمْصُ النَّاس" وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
ورواه أبو القاسم الطبراني: من حديث عبد الرحيم بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"كان في وصية نوح لابنه: أُوصيكَ بخصلتين، وأنهاكَ عن خصلتين"
(1)
فذكرَ نحوَه.
وقد رواه أبو بكر البزار: عن إبراهيم بن سعيد، عن أبي معاوية الضرير، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
. والظاهر أنه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص كما رواه أحمد والطبراني، واللَّه أعلم.
ويزعمُ أهلُ الكتاب أن نوحًا عليه السلام لما ركبَ في السفينة كان عمره ستمئة سنة. وقدَّمنا عن ابن عبَّاس مثله، وزاد: وعاش بعد ذلك ثلثمئة وخمسين سنة، وفي هذا القول نظر، ثم إن لم يمكن الجمعُ بينه وبينَ دلالة القرآن فهو خطاٌ محضٌ، فإنَّ القرآن يقتضي أن نوحًا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطُّوفان ألف سنة إلا خمسين عامًا، كما قال اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14] ثمَّ اللَّه أعلمُ كم عاشَ بعد ذلك، فإن كان ما ذكر محفوظًا عن ابن عباس، من أنه بعث وله أربعمئة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان
= بهم واحتقارهم وازدراؤهم.
(1)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1714) وفيه إسحاق بن إبراهيم الحنيني، وهو ضعيف، وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه.
(2)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3069) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 84): فيه محمد بن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن عساكر، كما في مختصر تاريخ دمشق؛ لابن منظور (26/ 217).
ثلاثمئة وخمسين سنة، فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمئة وثمانين سنة.
وأما قبرُه عليه السلام، فروى ابنُ جرير والأزرقي: عن عبد الرحمن بن سابط -أو غيره من التابعين مرسلًا- أنَّ قبرَ نوح عليه السلام بالمسجد الحرام
(1)
.
وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين من أنه ببلدة بالبقاع تُعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامعٌ قد بُني بسبب ذلك فيما ذكر، واللَّه أعلم.
* * *
(1)
لم أجده فيهما، وانظره في مختصر تاريخ دمشق؛ لابن منظور (26/ 218).
قصّة هود عليه السلام
وهو هودُ بن شالخ بن أرفَخْشَذ بن سام بن نوح عليه السلام.
ويُقال: إن هودًا هو عابر بن شالخ بن أرفَخْشَذ بن سام بن نوح. ويُقال: هود بن عبد اللَّه بن رَباح بن الجارود بن عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. ذكرَه ابن جرير
(1)
.
وكان من قبيلة يُقال لهم: عاد بن عوص بن سام بن نوح، كانوا عربًا يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل، وكانت باليمن بين عُمان وحضرموت بأرضٍ مُطلّةٍ على البحر، يقال لها: الشحر، واسم واديهم مغيث.
وكانوا كثيرًا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضِّخام، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6 - 7] أي: عاد إرم، وهم عاد الأولى. وأما عادٌ الثانية فمتأخرة، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.
وأما عاد الأولى، فهم عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8] أي: مثل القبيلة. وقيل: مثل العمد. والصحيح الأول، كما بيَّناه في التفسير.
ومن زعمَ أنَّ إرمَ مدينةٌ تدور في الأرض، فتارةً في الشام، وتارةً في اليمن، وتارةً في الحجاز، وتارةً في غيرها، فقد أبعدَ النُّجْعةَ، وقال ما لا دليلَ عليه، ولا برهانَ يُعوَّلُ عليه، ولا مستندَ يُركنُ إليه.
وفي صحيح ابن حبَّان: عن أبي ذرٍّ، في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين، قال فيه:"منهم أربعةٌ من العرب، هُودٌ، وصالحٌ، وشُعيب، ونَبيُّكَ يا أبا ذر"
(2)
.
ويُقال: إن هُودًا عليه السلام أوَّلُ من تكلَّم بالعربية، وزعمَ وهبُ بن مُنبِّه أنَّ أباه أوَّلُ من تكلَّم بها. وقال غيره: أوَّلُ من تكلَّم بها نوح. وقيل: آدمُ، وهو الأشبه. وقيل: غير ذلك، واللَّه أعلم.
ويُقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام: العربُ العاربةُ، وهم قبائلُ كثيرةٌ منهم: عاد، وثمود، وجُرْهم، وطَسْم، وجَديس، وأميم، ومَدْين، وعِمْلاق، وعَبيل، وجَاسم، وقَحْطان، وبنو يقطن، وغيرهم.
(1)
ذكره ابن جرير في التاريخ (1/ 216).
(2)
أخرجه ابن حبان (94) موارد، وفي المجروحين (3/ 129 - 130) والطبراني في الكبير (2/ 1651). . وإسناده ضعيف جدًا، فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، كذاب، وقال الذهبي: أحد المتروكين.
وأما العرب المستعربة: فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وكان إسماعيلُ بن إبراهيم عليهما السلام أوَّلَ من تكلَّم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد أخذَ كلامَ العرب من جُرْهم الذين نزلوا عند أُمِّه هاجرَ بالحرم، كما سيأتي بيانُه في موضعه إن شاء اللَّه تعالى، ولكنْ أنطقَه اللَّه بها في غاية الفَصاحة والبيان، وكذلك كان يتلفَّظُ بها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.
والمقصودُ أنَّ عادًا وهم عادٌ الأولى كانوا أوَّل من عبدَ الأصنام بعد الطُّوفان، وكانت أصنامُهم ثلاثة: صدًا، وصمودًا، وهرًا
(1)
. فبعثَ اللَّه فيهم أخاهم هودًا عليه السلام، فدعاهم إلى اللَّه، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 65 - 72].
وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} [هود: 50 - 60]. وقال تعالى في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بعد قصة قوم نوح: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا
(1)
في تاريخ الطبري (1/ 216): صدَّاء، وصمود، والهباء. وفي إحدى النسخ المخطوطة: الهناء.
مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 31 - 41]. وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة نوح أيضًا: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 123 - 140].
وقال تعالى في سورة حَم السجدة {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16] وقال تعالى في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 21 - 25] وقال تعالى في الذاريات: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42] وقال تعالى في النجم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 50 - 53] وقال تعالى في سورة اقتربت: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 18 - 22] وقال في الحاقة: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 8] وقال في سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 6 - 14]. وقد تكلَّمنا على كلٍّ من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير، وللَّه الحمد والمنة.
وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة، وإبراهيم، والفرقان، والعنكبوت، وفي سورة (ص)، وفي سورة (ق)، ولنذكر مضمون القِصَّة مجموعًا من هذه السياقات، مع ما يُضاف إلى ذلك من الأخبار.
وقد قدَّمنا أنهم أوَّل الأمم عبدوا الأصنامَ بعد الطُّوفان، وذلك بيِّنٌ في قوله لهم:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69]. أي: جعلهم أشدَّ أهل زمانهم في الخلقة والشِّدَّة والبطش. وقال في المؤمنون: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] وهم قوم هود على الصحيح.
وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} [المؤمنون: 41] قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصَّيْحة {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] وهذا الذي قالوه لا يمنعُ من اجتماع الصَّيْحة والرِّيح العاتية عليهم، كما سيأتي في قصَّة أهل مَدْين أصحاب الأيكة، فإنَّه اجتمعَ عليهم أنواعٌ من العقوبات، ثم لا خلافَ أن عادًا قبلَ ثمود.
والمقصودُ أنَّ عادًا كانوا عَربًا جُفاةً كافرين، عُتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسلَ اللَّه فيهم رجلًا منهم يدعوهم إلى اللَّه، وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذَّبوه وخالفوه وتنقَّصوه، فأخذهم اللَّهُ أخذَ عزيز مقتدر، فلما أمرهم بعبادة اللَّه ورغَّبهم في طاعته واستغفاره، ووعدَهم على ذلك خيرَ الدنيا والآخرة وتوعَّدهم على مخالفة ذلك عقوبةَ الدنيا والآخرة:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] أي: هذا الأمرُ الذي تدعونا إليه سَفهٌ بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يُرتجى منها النصرُ والرزقُ، ومع هذا نظنُّ أنَّكَ تكذبُ في دعواكَ أنَّ اللَّه أرسلكَ:{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67] أي: ليس الأمرُ كما تظنون ولا ما تعتقدون {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68] والبلاغُ يستلزمُ عدمَ الكذب في أصل المُبلِّغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزمُ إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعةٍ مانعة، لا لَبْسَ فيها ولا اختلافَ ولا اضطرابَ، وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النُّصْح لقومه والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجْرًا ولا يطلب منهم جُعْلًا، بل هو مخلصٌ للَّه عز وجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلبُ أجرَه إلا من الذي أرسلَه، فإنَّ خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه، ولهذا قال:{يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51] أي: ألكم عقل تُميِّزونَ به وتفهمونَ أني أدعوكم إلى الحقِّ المبين الذي تشهد به فِطَرُكم التي خُلقتم عليها وهو دينُ الحقِّ الذي بعثَ اللَّه به نوحًا، وأهلكَ من خالفَه من الخلق، وها أنا أدعوكُم إليه، ولا أسألُكم أجرًا عليه، بل أبتغي ذلك عند اللَّه مالكِ الضُّرِّ والنَّفْعِ، ولهذا قال مؤمنُ يس {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 21 - 22] وقال قوم هود له فيما قالوا: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54] يقولون: ما جئتنا بخارقٍ يشهدُ لك بصدقِ ما جئت به وما نحن بالذين نتركُ عبادةَ أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمتَه ولا برهان نصبتَه، وما نظنُّ إلا أنَّكَ مجنون فيما تزعمُه،
وعندنا إنما أصابَك هذا أنَّ بعضَ آلهتنا غضبَ عليك فأصابك في عَقْلك فاعتراكَ جنونٌ بسبب ذلك، وهو قولهم:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54 - 55] وهذا تحدّ منه لهم وتبرّؤ من آلهتم وتنقُّص منه لها، وبيان أنها لا تنفعُ شيئًا ولا تضرُّ، وإنها جمادٌ حكمُها حكمُه وفعلُها فعله، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضرُّ، فها أنا بريء منها لا عنٌ لها فكيدوني ثم لا تنظرون. أنتم وهي جميعًا بجميع ما يُمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تُؤخِّروني ساعةً واحدةً ولا طَرْفة عين، فإني لا أُبالي بكم ولا أُفكِّرُ فيكم ولا أنظر إليكم {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] أي: أنا متوكِّلٌ على اللَّه ومتأيِّدٌ به، وواثق بجنابه الذي لا يضيعُ من لاذَ به واستندَ إليه، فلستُ أبالي مخلوقًا سواه، ولستُ أتوكَّل إلَّا عليه، ولا أعبدُ إلَّا إياه.
وهذا وحدهُ برهانٌ قاطعٌ على أن هودًا عبدَ اللَّه ورسولَه، وأنهم على جهل وضلال في عبادتِهم غير اللَّه، لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروهًا، فدلَّ على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدلَّ به نوحٌ عليه السلام قبله في قوله: {يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33 - 34] استبعدوا أن يبعثَ اللَّه رسولًا بشريًا، وهذه الشبهةُ أدلى بها كثيرٌ من جهلة الكفرة قديمًا وحديثًا، كما قال تعالى:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2] وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95] ولهذا قال لهم هود عليه السلام: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} [الأعراف: 163] أي: ليس هذا بعجيب فإن اللَّه أعلمُ حيث يجعلُ رسالاته
(1)
،
(1)
كذا في الأصل، وفي المطبوع رسالته.
وقوله {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي} [المؤمنون: 35 - 39]. استبعدوا المعاد وأنكروا قيامَ الأجساد بعد صيرورتها ترابًا وعظامًا، وقالوا: هيهات هيهات: أي: بعيدٌ بعيدٌ هذا الوعد، {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] أي: يموت قومٌ ويحيى آخرون، وهذا هو اعتقاد الدهرية كما يقول بعضُ الجهلة من الزنادقة: أرحامٌ تدفعُ وأرضٌ تبلعُ.
وأما الدَّورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودونَ إلى هذه الدار بعد كلِّ ستة وثلاثين ألف سنة، وهذا كلُّه كذب وكفر وجَهْل وضلال، وأقوال باطلة، وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم، الذين لا يعقلون ولا يهتدون، كما قال تعالى:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] وقال لهم فيما وعظهم به: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129] يقول لهم: أتبنون بكلِّ مكان مرتفع بناءً عظيمًا هائلًا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها، لأنه لا حاجةَ لكم فيه، وما ذاكَ إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيامَ، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8] فعادُ إرم هم
(1)
عادٌ الأولى، الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحملُ الخيام.
ومَنْ زعم أن إرم مدينة من ذهب وفِضَّة، وهي تنتقل في البلاد، فقد غلطَ وأخطأ، وقال ما لا دليلَ عليه، وقوله:{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء: 129] قيل: هي القصور. وقيل: بروج الحمام. وقيل: مآخذ الحمام {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] أي: رجاءً منكم أن تُعمَّروا في هذه الدار أعمارًا طويلة {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 130 - 135] وقالوا له مما قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] أي: أجِئْتنا لنعبدَ اللَّه وحدَه ونخالفَ آباءَنا وأسلافنا وما كانوا عليه، فإن كنتَ صادقًا فيما جئتَ به فأتنا بما تَعدُنا من العذاب والنَّكال، فإنَّا لا نُؤمنُ بك ولا نتبعكَ ولا نُصدِّقك، كما قالوا {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 136 - 138] إمَّا على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الأولين، أي: إن هذا الذي جئتَ به إلا اختلاقٌ منك وأخذتَه من كتب الأوَّلين. هكذا فسَّره غير واحد من الصحابة والتابعين. وإمَّا على قراءة الخاء واللام، فالمراد به الدِّين، أي: إن هذا الدِّين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا، ولن نتحوَّلَ عنه، ولا نتغيَّرَ، ولا نزالُ مُتمسِّكين به. ويُناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم:{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138] قال: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
(1)
في أ: هو.
رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] أي: قد استحققتم
(1)
بهذه المقالة الرجسَ والغضبَ من اللَّه، أتعارضون عبادةَ اللَّه وحدَه لا شريكَ له بعبادة أصنام أنتم نحتُموها وسمَّيتمُوها آلهة من تلقاء أنفسكم، اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم، ما نزَّل اللَّه بها من سلطان، أي: لم يُنْزلْ على ما ذهبتم إليه دليلًا ولا بُرهانًا، وإذا أبيتم قَبُولَ الحقِّ وتمادَيتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا فانتظروا الآن عذابَ اللَّه الواقع بكم، وبأسه الذي لا يُرِدُّ، ونَكَاله الذي لا يُصدّ، وقال تعالى:{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 39 - 41] وقال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 22 - 25] وقد ذكرَ اللَّه تعالى خبرَ إهلاكهم في غيو ما آية، كما تقدَّم مجملًا ومفصَّلًا، كقوله:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72] وكقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُود} [هود: 58 - 60]. وكقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41] وقال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 139 - 140].
وأما تفصيل إهلاكهم، فكما قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين
(2)
، فطلبوا السُّقيا، فرأوا عارضًا
(3)
في السماء وظنُّوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب، ولهذا قال تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24] أي: من وقوع العذاب، وهو قولهم:{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] ومثلها في الأعراف.
وقد ذكرَ المفسرون وغيرُهم هاهنا الخبرَ الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار، قال: فلما أبوا إلا الكفرَ باللَّه عز وجل أمسكَ عنهم القَطْر
(4)
ثلاثَ سنين، حتى جَهدَهم ذلك، قال: وكانَ النَّاسُ إذا
(1)
في أ: استحقيتم.
(2)
ممحلين مسنتين: أصابهم الجدب والقحط.
(3)
عارضًا: سحابًا.
(4)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: المطر.
جَهَدهم أمرٌ في ذلك الزمان، فطلبوا من اللَّه الفرجَ منه، إنما يطلبونَه بحرمِهِ ومكانِ بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكانَ سيدهم إذ ذاك رجلًا يُقال له معاوية بن بَكْر، وكانت أمُّه من قوم عاد، واسمها جلهدة ابنة الخيبري. قال: فبعثَ عادٌ وفدًا قريبًا من سبعينَ رجلًا ليستسقوا لهم عند الحرم، فمَرُّوا بمعاوية بن بكر بظاهر مكَّة، فنزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمرَ، وتُغنيهم الجرَادَتان -قَيْنتان لمعاوية- وكانوا قد وصلوا إليه في شهر. فلمَّا طالَ مقامُهم عندَه وأخذته شفقةٌ على قومِه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمِلَ شعرًا، فعرَّض
(1)
لهم بالانصراف، وأمرَ القينتين أن تغنِّيهم به، فقال:[من الوافر]
ألا يا قيلُ ويحك قمْ فهَيْنمْ
…
لعلّ اللَّه يُصبحنا غَمامًا
(2)
فيسقي أرضَ عادٍ إنَّ عَادا
…
قد امسوا لا يُبْينُونَ الكَلاما
مِن العَطَشِ الشديدِ فليسَ نرجو
…
به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما
وقد كانتْ نساؤُهمُ بخيرٍ
…
فقد أمستْ نساؤهمُ عَيامَى
(3)
وإنَّ الوحشَ تأتيهم جهارًا
…
ولا يخشى لعاديٍّ سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
…
نهارَكُمُ وليلَكُمُ التماما
فقُبِّحَ وفدُكم من وَفْدِ قومٍ
…
ولا لقُّوا التَّحيّةَ والسَّلاما
قال: فعندَ ذلكَ تنبِّه القومُ لما جاؤوا له، فنَهضوا إلى الحرَم ودَعَوا لقومِهم، فدعا داعيهم، وهو قيْل بن عتر، فأنشأ اللَّه سحاباتٍ ثلاثًا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مُنادٍ من السماء: اخترْ لنفسك ولقومِك من هذا السحاب. فقال: اخترتُ السَّحابة السَّوْداءَ، فإنها أكثرُ السَّحاب ماءً، فناداه: اخترتَ رمادًا رِمْددًا لا تُبقي من عاد أحدًا، لا والدًا تتركُ ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، إلا بني اللُّوذية المُهْدَى
(4)
. قال: وهو بطنٌ من عاب كانوا مقيمينَ بمكَّة، فلم يُصبهم ما أصابَ قومَهم. قال: ومَنْ بقي من أنسالهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.
قال: وساق اللَّه السَّحابة السَّوداءَ التي اختارَها قَيْلُ بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرجَ عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوْها استبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24 - 25] أي: كل شيءٍ أمرت به.
(1)
في المطبوع: فيعرض.
(2)
فهينم: من الهينمة، وهي الكلام الخفي. وفي تاريخ الطبري: يسقينا غمامًا، وفي المطبوع: يمنحنا.
(3)
كذا في الأصل وتاريخ الطبري، وفي المطبوع: أياما. وعَيَامى: جمع عيمى، وهي المرأة التي مات عنها زوجها ولا مال لها.
(4)
في المطبوع: الهمدا.
فكان أوَّل من أبصر ما فيها وعرفَ أنها ريحٌ -فيما يذكرون- امرأةٌ من عاد يُقال لها "قهد"
(1)
فلما تبيَّنت ما فيها صاحتْ ثم صعِقَتْ، فلمَّا أفاقت، قالوا: ما رأيت يا قهد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُبِ النَّار أمامَها رجال يَقُودونها، فسخَّرها اللَّه عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام حسومًا، والحسوم: الدائمة. فلم تدعْ من عاد أحدًا إلا هلكَ.
قال: واعتزلَ هودٌ عليه السلام فيما ذُكر لي في حظيرةٍ هو ومن معه من المؤمنينَ، ما يُصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود وتلتذ الأنفسُ، وإنها لتمرُّ على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض، وتدمغُهم بالحجارة، وذكر تمامَ القصة
(2)
.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا في مسنده يُشبه هذه القِصَّة، فقال
(3)
: حدَّثنا زيدُ بن الحُبَاب، حدَّثني أبو المنذر سَلَّامُ بن سُليمان النَّحْوي، حدَّثنا عاصمُ بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث -وهو ابن حسَّان، ويقال: ابن يزيد البَكْري- قال: خرجتُ أشكو العلاءَ بن الحضرمي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمررتُ بالرَّبَذة، فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطَعٌ بها، فقالت لي: يا عبد اللَّه! إن لي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مُبْلغي إليه؟ قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجدُ غاصٌّ بأَهلِه، وإذا رايةٌ سوداءُ تَخْفقُ، وإذا بلالٌ مُتقلِّدٌ السيفَ بينَ يديْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ما شأنُ الناس؟ قالوا: يُريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهًا. قال: فجلست.
قال: فدخلَ منزله -أو قال: رَحْله- فاستأذنتُ عليه، فأُذنَ لي، فدخلتُ، فسلَّمتُ، فقال:"هل كانَ بينكم وبينَ بني تميم شيٌ؟ " فقلت: نعم، وكانت لنا الدائرة عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطَع بها، فسألتني أن أحملَها إليكَ، وها هي بالباب، فأذنَ لها فدخلتْ، فقلت: يا رسول اللَّه! إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء، فإنَّها كانت لنا. قال: فحميتِ العجوزُ واستوفزتْ، وقالت: يا رسول اللَّه! فإلى أين تضطر مضرك؟ قال: فقلتُ: إن مثلي ما قال الأول: مِعْزى حملتْ حتفَها، حملتُ هذه الأمَة ولا أشعرُ أنها كانت لي خصمًا، أعوذُ باللَّه ورسوله أن أكونَ كوافد عادٍ. قال:"هيه، وما وافدُ عاد؟ " وهو أعلم بالحديث مني، ولكن يستطعمه.
قلت: إن عادًا قُحطوا فبعثوا وفدًا لهم يُقال له: قَيْل، فمرَّ بمعاوية بن بكر، فأقام عندَه شهرًا يَسقيه الخمرَ، وتُغنِّيه جاريتان يُقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهرُ خرجَ إلى جبال تِهامةَ
(4)
، فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلمُ أنِّي لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسقِ عادًا ما كنتَ تسقيه،
(1)
في تاريخ الطبري: مَهْدد.
(2)
انظر القصة في تاريخ الطبري كاملة (1/ 219 - 222).
(3)
في المسند (3/ 482).
(4)
في الأصل: إلى جبال مهرة، وأثبت ما في المسند.
فمرَّتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنُودي منها: اخترْ. فأومأ إلى سحابةٍ منها سوداءَ، فنُودي منها: خذها رمادًا رَمْددًا، لا تُبقي من عادٍ أحدًا. قال: فما بلغني أنه بُعث عليهم من الرِّيح إلا كَقَدْر ما يَجري في خَاتمي هذا من الرِّيح حتَّى هلكُوا. قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: لا تكن كوافد
(1)
عاد.
وهكذا رواه الترمذي
(2)
: عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحُباب به. ورواه النسائي
(3)
: من حديث سلَّام أبي المنذر، عن عاصم بن بَهْدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجه.
وهكذا أوردَ هذا الحديثَ وهذه القِصَّة عند تفسير هذه القصة غيرُ واحد من المُفسِّرين: كابن جرير
(4)
وغيره.
وقد يكونُ هذا السِّياق لإهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكرَه ابنُ إسحاف وغيرُه ذكرًا لمكَّةَ، ولم تُبنَ إلا بعد إبراهيم الخليل حينَ أسكنَ فيها هاجرَ وابنَه إسماعيل، ونزلت جرهُم عندَهم كما سيأتي، وعادٌ الأولى قبلَ الخليل، وفيه: ذِكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخِّر عن زمان عادٍ الأولى، لا يُشبه كلامَ المتقدِّمين، وفيه: أن في تلك السحابة شررَ نارٍ، وعادٌ الأولى إنما أُهلكوا بريح صرصر
(5)
.
وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردةُ والعاتية الشديدة الهبوب: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] أي: كوامل متتابعات. قيل: كان أولها الجمعة، وقيل: الأربعاء {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] شبَّههم بأعجاز النخل التي لا رؤوس لها، وذلك لأن الريحَ كانت تجيءُ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه، فيبقى جثَّةً بلا رأس، كما قال {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] أي: في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم {تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] ومن قال: إن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به فهذا إليهم
(6)
، فقد أخطأ وخالفَ القرآن فإنه قال في الآية الأخرى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة في الثمانية مشؤومة، وهذا
(1)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 482) رقم (15896) وهو حديث حسن.
(2)
أخرجه الترمذي (3274) في التفسير وهو حديث حسن.
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى (8607) وابن ماجه (2816) في الجهاد وهو حديث حسن.
(4)
انظر تفسير ابن جرير الطبري (7/ 67) والدر المنثور (4/ 442) وتفسير ابن كثير (2/ 559).
(5)
الريح الصرصر: هي الريح الباردة الشديدة.
(6)
كذا في الأصل، وفي المطبوع: لهذا الفهم، وما يذكر عن التشاؤم بيوم الأربعاء، فهو غير صحيح.
لا يقولُه أحدٌ، وإنما المراد في أيام نحسات، أي: عليهم. وقال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] أي: التي لا تنتج خيرًا، فإن الريحَ المفردة لا تثير سحابًا ولا تلقح شجرًا، بل هي عقيم لا نتيجةَ خيرٍ لها، ولهذا قال:{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] أي: كالشيء البالي الفاني، الذي لا يُنتفع به بالكلية.
وقد ثبتَ في الصحيحين: من حديث شعبة، عن الحكم، عن مجاهد عن ابن عباس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهلكتْ عادٌ بالدَّبُور"
(1)
.
وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] فالظاهرُ أن عادًا هذه هي عادٌ الأولى، فإن سياقَها شبيهٌ بسياق قوم هود وهم الأولى، ويحتمل أن يكونَ المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية، ويدلُّ عليه ما ذكرنا، وما سيأتي من الحديث
(2)
عن عائشة رضي الله عنها. وأما قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فإن عادًا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجوِّ كالسحاب ظنُّوه سحابَ مطرٍ، فإذا هو سحابُ عذابٍ اعتقدوه رحمةً، فإذا هو نقمةٌ، رجوا فيه الخير، فنالوا منه غايةَ الشر، قال اللَّه تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الاحقاف: 24]. أي: من العذاب، ثم فسَّره بقوله:{رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية، فلم تُبْق منهم أحدًا، بل تتبَّعتهم حتى كانت تدخلُ عليهم كهوفَ الجبال والغيران
(3)
، فتلفُّهم وتخرجهم وتهلكهم، وتُدمِّر عليهم البيوتَ المحكمة والقصورَ المشيَّدة، فكما مُنوا بقوتهم وشدتهم، قالوا: من أشدُّ منا قوة؟ سلَّط اللَّه عليهم الذي هو أشد منهم قوَّةً وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.
ويحتمل أن هذه الريح أثارتْ في آخر الأمر سحابةً ظنَّ منْ بقيَ منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم، وغياث لمن بقيَ منهم، فأرسلَها اللَّه عليهم شررًا ونارًا، كما ذكره غير واحد، ويكون هذا كما أصابَ أصحابَ الظُّلَّة من أهل مدينَ، وجمع لهم بين الرياح الباردة وعذاب النار، وهو أشدُّ ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادَّة، مع الصيحة التي ذكرَها في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} واللَّه أعلم.
وقد قال ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدَّثنا ابن فضيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما فتحَ اللَّه على عادٍ من الريح التي
(1)
أخرجه البخاري (1035) في الاستسقاء، ومسلم (900) في صلاة الاستسقاء.
(2)
انظر حديث عائشة رضي الله عنها في ص 194.
(3)
الغيران: المغاور، جمع مغارة.
أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرَّتْ بأهل البادية فحملتْهم ومواشيَهم وأموالَهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهلُ الحاضرة من عاد الريحَ وما فيها {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فألقتْ أهل الباديةِ ومواشيَهم على أهل الحاضرة".
وقد رواه الطبراني
(1)
: عن عبدان بن أحمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما فتحَ اللَّه على عادٍ من الريح إلا مثل موضعِ الخاتم، ثم أرسلتْ عليهم البدوَ إلى الحضَر، فلما رآها أهلُ الحَضَر، قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} مستقبل أوديتنا، وكان أهل البوادي فيها، فألقي أهلُ البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا". قال: عَتتْ على خُزَّانها حتى خرجتْ من خِلال الأبواب
(2)
. قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.
والمقصودُ أن هذا الحديث في رفعه نظرٌ. ثم قد اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب، واللَّه أعلم.
وظاهرُ الآية أنهم رأوا عارضًا، والمفهوم منه لمعة السحاب، كما دلَّ عليه حديث الحارث بن حسَّان البكري إن جعلناه مفسرًا لهذه القصة.
وأصرحُ منه في ذلك ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدَّثنا أبو الطاهر، حدَّثنا ابنُ وهب، سمعتُ ابنَ جريج، يُحدِّثنا، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا عصفتِ الريحُ قال: "اللهمَّ إني أسألُك خيرها وخير ما فيها وخيرَ ما أُرسلَتْ به، وأعوذُ بكَ من شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلتْ به"؟ قالت: وإذا عَبَبت
(3)
السَّماءُ تَغيَّرَ لونُه وخرجَ ودخلَ، وأقبلَ وأدبرَ، فإذا أمطرتْ سُرِّي عنه، فعرفتْ ذلكَ عائشةُ فسألتْه، فقال:"لعلَّه يا عائشةُ كما قال قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] "
(4)
.
ورواه التِّرْمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه
(5)
، من حديث ابن جريج.
(1)
وأخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (7/ 113) عن ابن عمر وفيه مسلم الملائي؛ ضعيف، وفيه: ابن فضيل، بعضهم لا يحتج به. انظر المغني في الضعفاء (2/ 624).
(2)
أخرجه الطبراني (12416) في الكبير، وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 113) وقال: فيه مسلم الملائي، وهو ضعيف.
(3)
في صحيح مسلم (تخيَّلت) أي يخيل إليه أنها ماطرة.
(4)
أخرجه مسلم (899) في صلاة الاستسقاء.
(5)
أخرجه الترمذي (3449) في الدعوات. وقال: حديث حسن، والنسائي (940) في عمل اليوم والليلة، والبيهقي (3/ 360) في السنن الكبرى.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدَّثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد اللَّه بن وهب، أنبأنا عمرو -هو ابن الحارث- أن أبا النضر حدَّثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة؛ أنها قالت: ما رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مستجمعًا ضاحكًا قطُّ حتى أرى منه لهواتِه، إنما كان يَتَبَسَّمُ. وقالت: كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرفَ ذلك في وجهه. قالت: يا رسولَ اللَّه! الناسُ إذا رأوا الغيمَ فَرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأراكَ إذا رأيتَه عُرفَ في وجهكَ الكراهية؟ فقال:"يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّبَ قومُ نوحٍ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ" فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}
(1)
.
فهذا الحديثُ كالصريح في تغاير القِصَّتين كما أشرنا إليه أولًا، فعلى هذا تكون القِصَّة المذكورة في سورة الأحقاف خبرًا عن قوم عاد الثانية، وتكون بقيَّةُ السياقات في القرآن خبرًا عن عادٍ الأولى، واللَّه أعلم بالصواب.
وهكذا رواه مسلم
(2)
عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري وأبو داود
(3)
من حديث ابن وهب.
وقد قدمنا حجَّ هودٍ عليه السلام عند ذكر حجِّ نوح عليه السلام.
ورُوي عن أميرِ المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنه ذكرَ صفةَ قبر هُودٍ عليه السلام في بلاد اليمن.
وذكرَ آخرون أنه بدمشقَ، وبجامِعها مكانٌ في حائطِه القِبْليّ يزعمُ بعضُ النَّاس أنَّه قبرُ هودٍ عليه السلام، واللَّه أعلم.
* * *
(1)
أخرجه أحمد في المسند (6/ 66) رقم (24250).
(2)
أخرجه مسلم (899)(16) في صلاة الاستسقاء.
(3)
أخرجه البخإري (4828 و 4829) في التفسير، وأبو داود (5098) في الأدب.
قصّة صالح نبي ثمود عليه السلام
وهم قبيلة مشهورة يقال [لهم]
(1)
: ثمود، باسم جدِّهم ثمود أخي جَديس، وهما ابنا عاثر بن إرم بن سام بن نوح.
وكانوا عَربًا من العاربة يسكنونَ الحِجْرَ الذي بينَ الحجاز وتبوك. وقد مرَّ به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ذاهبٌ إلى تبوك بمن معه من المسلمين كما سيأتي بيانُه، وكانوا بعدَ قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنامَ كأولئك.
فبعثَ اللَّه فيهم رجلصا منهم، وهو عبدُ اللَّه ورسولُه صالحُ بن عُبدٍ بن مَاشِخ بن عُبيد بن حاجِر بن ثمود بن عاثر بن إرمَ بن سام بن نوح، فدعاهُم إلى عبادة اللَّه وحدَه لا شريكَ له، وأن يخلعُوا الأصنامَ والأندادَ ولا يُشركوا به شيئًا، فآمنتْ به طائفةٌ منهم، وكفرَ جمهورُهم، ونالوا منه بالمقال والفِعال، وهَمُّوا بقتله، وقَتَلُوا النَّاقة التي جعلَها اللَّهُ حجَّةً عليهم، فأخذَهم اللَّه أخذَ عزيزٍ مُقتدر، كما قال تعالى في سورة الأعراف:
وقال تعالى في سورة هود: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
(1)
سقطت من أ.
مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود: 61 - 68] وقال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 80 - 84] وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وقال تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 141 - 159] وقال تعالى في سورة النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 45 - 53] وقال تعالى في سورة حم السجدة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 17 - 18] وقال تعالى في سورة اقتربت: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 23 - 32] وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 11 - 15]. وكثيرًا ما يقرد اللَّه في كتابه بينَ ذكرِ عادٍ وثمود، كما في سورة براءة، وإبراهيم، والفُرقان، وسورة (ص) وسورة (ق) والنجم، والفجر.
ويُقال: إن هاتين الأمتين لا يعرفُ خبرَهما أهلُ الكتاب، وليس لهما ذِكر في كتابهم التوراة، ولكن
في القرآنِ ما يدلُّ على أن موسى أخبرَ عنهما، كما قال تعالى في سورة إبراهيم:{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [إبراهيم: 8 - 9] الآية. الظاهرُ أنَّ هذا من تمام كلام موسى مع قومه، ولكن لما كانت هاتان الأمتان من العرب لم يضبطوا خبرَهما جيدًا، ولا اعتنوا بحفظه، وإن كان خبرُهما كان مشهورًا في زمان موسى عليه السلام، وقد تكلَّمنا على هذا كلِّه في التفسير متقصَّيًا، وللَّه الحمد والمنَّة.
والمقصود الآن ذكرُ قِصَّتهم وما كان من أمرهم، وكيف نجَّى اللَّه نبيَّه صالحًا عليه السلام ومن آمن به، وكيف قطع دابرَ القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوِّهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام.
قد قدمنا أنهم كانوا عَربًا، وكانوا بعد عاد، ولم يعتبروا بما كان من أمرهم. ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 73 - 74] أي: إنما جعلَكم خلفاءَ من بعدهم لتعتبروا بما كان أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم، وأباحَ لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] أي: حاذقين في صَنْعَتها وإتقانِها وإحكامِها، فقابِلُوا نعمةَ اللَّه بالشكر والعمل الصَّالح والعبادة له وحدَه لا شريكَ له، وإيَّاكم ومخالفته والعدول عن طاعته، فإنَّ عاقبةَ ذلك وخيمةٌ، ولهذا وَعَظهم بقوله:{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 146 - 148] أي: متراكم كثير، حسنٌ بهيٌّ ناضج {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 149 - 152].
وقال لهم أيضًا: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] أي: هو الذي خلقَكم فأنشأكُم من الأرض وجعلكم عمَّارها، أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار فهو الخالق الرازق فهو الذي يستحق العبادة وحدَه لا سواه. {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61] أي: أقلعوا عما أنتم فيه، وأقبلوا على عبادتِه فإنَّه يقبلُ منكم ويتجاوزُ عنكم {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
{قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62] أي: قد كنا نرجو أن يكونَ عقلكَ كاملًا قبل هذه المقالة، وهي دعاؤُك إيَّانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنَّا نعبدُه من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد، ولهذا قالوا:{أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 62 - 63].
وهذا تلطُّف منه لهم في العبارة، ولين الجانب، وحُسن تأتٍّ في الدعوة لهم إلى الخير، أي: فما
ظنُّكم إن كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه، ماذا عذركم عند اللَّه؟ وماذا يُخلِّصكُم بين يديْه؟ وأنتم تطلبونَ منِّي أن أتركَ دعاءَكم إلى طاعته، وأنا لا يُمكنني هذا لأنَّه واجبٌ عليَّ، ولو تركته لما قدر أحدٌ منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني، فأنا لا أزالُ أدعوكم إلى اللَّه وحدَه لا شريكَ له، حتى يحكمَ اللَّه بيني وبينكم.
وقالوا له أيضًا: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] أي: من المسحورين، يعنون مسحورًا لا تدري ما تقولُ في دعائِك إيَّانا إلى إفراد العبادة للَّه وحده، وخلع ما سواه من الأنداد، وهذا القولُ عليه الجمهور، وهو أنَّ المراد بالمُسْحُرين المَسْحُورين. وقيل: من المُسَحَّرين، أي: ممن له سحر، وهي الرئة، كأنهم يقولون: إنما أنت بشر له سحر، والأول أظهر لقولهم بعد هذا:{مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 154] وقولهم: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154] سألوا منه أنْ يأتيَهم بخارقٍ يدلُّ على صدق ما جاءَهم {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 155 - 156] وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وقال تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59].
وقد ذكر المفسرون
(1)
أن ثمودًا اجتمعوا يومًا في ناديهم، فجاءَهم رسولُ اللَّه صالحٌ فدعاهم إلى اللَّه وذكَّرهم وحذَّرهم، ووعظهم وأمرَهم. فقالوا له: إنْ أنتَ أخرجتَ لنا من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صَخْرَةٍ هناكَ- ناقةً من صِفَتها كَيْتَ وكَيْتَ، وذكروا أوصافًا سمَّوها ونعتوها، وتعنَّتوا
(2)
فيها، وأن تكون عُشَرَاء
(3)
طويلةً، من صفتها كذا وكذا.
فقال لهم النبيُّ صالحٌ عليه السلام: أرأيتم إنْ أجبتُكم إلى ما سألتُم، على الوجه الذي طلبتُم أتؤُمنونَ بما جئتكُم به وتصدقوني فيما أُرسلتُ به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودَهم ومواثيقَهم على ذلك، ثمَّ قامَ إلى مُصلَّاه، فصلَّى للَّه عز وجل ما قُدِّرَ له، ثم دعا ربَّه عز وجل أن يُجيبَهم إلى ما طلبُوا، فأمرَ اللَّه عز وجل تلكَ الصَّخرة أن تنفطرَ عن ناقةٍ عظيمةٍ عُشَراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا، أو على الصِّفة التي نَعَتُوا.
فلما عاينُوها كذلك رأوا أمرًا عظيمًا، ومَنْظرًا هائلًا، وقدرةً باهرةً، ودليلًا قاطعًا، وبُرهانًا ساطعًا، فآمنَ كثيرٌ منهم، واستمَّر أكثرُهم على كفرهم وضلالهم وعِنادهم، ولهذا قال:{فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] أي: جَحدوا بها ولم يتَّبعوا الحقَّ بسببها، أي: أكثرهم.
(1)
تفسير الطبري (5/ 532).
(2)
"تعنتوا": تشدَّدوا.
(3)
"عشراء": الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر.
وكانَ رئيسَ الذين آمنوا جندعُ بن عمرو بن محلاة بن لَبيد بن جواس، وكان من رؤسائِهم، وهم بقيَّةُ الأشراف بالإسلام، فصدَّهم ذؤابُ بن عمرُو بن لَبيد والخُباب، صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلمس، ودعا جندعُ بْن عمِّه شهاب بن خليفة، وكان من أشرافهم، فهمَّ بالإسلام، فنهاه أولئك، فمال إليهم، فقال في ذلك رجل من المسلمين -يُقالُ له: مهرش بن غنمة بن الذميل- رحمه الله: [من الوافر]
وكانتْ عصبةٌ من آل عمرٍو
…
إلى دينِ النبيِّ دَعَوْا شِهابا
عزيز ثمودَ كُلهمُ جميعًا
…
فهمَّ بأنْ يُجيب ولو أجابا
لأصبحَ صالحٌ فينا عزيزًا .... وما عَدَلوا بصاحِبهمْ ذؤابا
(1)
ولكنّ الغُواة من آلِ حجْرٍ
…
تولّوا بعدَ رُشدِهمُ ذئابا
(2)
ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [هود: 64] أضافها اللَّه سبحانه وتعالى إضافةَ تشريف وتعظيم، كقوله: بيتُ اللَّه، وعبدَ اللَّه {لَكُمْ آيَةً} أي: دليلًا على صدق ما جئتُكم به {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64].
فاتفقَ الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيثُ شاءتْ من أرضِهم، وتردُ الماء يومًا بعد يوم، وكان إذا وردتِ الماءَ تشربُ ماءَ البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعونَ حاجَتهم من الماء في يَومهم لغدِهم، ويُقال: إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتَهم، ولهذا قال:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
ولهذا قال تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} [القمر: 27] أي اختبارًا لهم، أيؤمنون بها أم يكفرون؟ واللَّه أعلم بما يفعلون:{فَارْتَقِبْهُمْ} أي: انتظر ما يكونُ من أمرهم {وَاصْطَبِرْ} على أذاهم فسيأتيكَ الخبرُ على جَليَّة. {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28].
فلمَّا طالَ عليهم الحالُ هذا، اجتمعَ مَلؤُهم، واتَّفقَ رأيُهم على أن يَعْقِرُوا هذه النَّاقة ليستريحوا منها، ويتوفَّر عليهم ماؤُهم، وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم، قال اللَّه تعالى:{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
وكان الذي تولَّى قتلَها منهم رئيسُهم قُدَارُ بن سالف بن جندع، وكان أحمرَ أزرقَ أصهبَ، وكان يُقالُ: إنه ولد زانيةٍ، وُلد على فراش سالف، وهو من رجلٍ يُقال له: صبيان. وكان فعلُه ذلك باتِّفاقِ جميعهم، فلهذا نُسِبَ الفعلُ إليهم كلِّهم.
(1)
"ذؤابا": الذؤاب: أعلى كل شيء وذروته.
(2)
كذا في الأصل، وفي المطبوع ذآبا، وفي بعض النسخ: ذبابًا.
وذكر ابنُ جرير
(1)
وغيرُه من علماء المفسرين: أنَّ امرأتين من ثمودَ اسمُ إحداهما: صدوق ابنة الحيا بن زهير بن المختار، وكانت ذاتَ حَسَبٍ ومال، وكانت تحتَ رجلٍ ممن أسلمَ، ففارقته، فدعت ابنَ عمٍّ لها يُقال له: مصرع بن مهرج بن المحيا، وعرضتْ عليه نفسَها إن هو عقرَ النَّاقةَ. واسم الأخرى عُنيزة بنت غنيم بن مجلز، وتُكنَّى أمَّ عثمان، وكانت عجوزًا كافرةً لها بناتٌ من زوجها ذؤاب بن عمرو، أحد الرؤساء، فعرضتْ بناتِها الأربع على قُدَار بن سالف إن هو عقرَ النَّاقةَ، فله أيُّ بناتها شاءَ، فانتُدبَ هذان الشَّابَّان لعَقْرِها، وسَعَوْا في قومِهم بذلك، فاستجابَ لهم سبعةٌ آخرونَ، فصَاروا تسعةً، وهم المذكورون في قوله تعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48].
وسَعَوْا في بقيَّة القبيلةِ، وحسَّنوا لهم عقرَها، فأجابوهم إلى ذلك، وطاوعُوهم في ذلك، فانطلقوا يرصُدُون النَّاقةَ، فلما صدرتْ من وِرْدها
(2)
كمَنَ لها مصرعٌ، فرماها بسهم، فانتظمَ عظمَ ساقِها، وجاء النساء يزمرن
(3)
القبيلة في قتلها وحسرنَ
(4)
عن وجُوهِهنَّ، ترغيبًا لهم في ذلك، فابتدرَهم قُدارُ بن سالف، فشدَّ عليها بالسيف فكشفَ عن عرقوبها
(5)
، فخرَّت ساقطةً إلى الأرض، ورغت
(6)
رغاةً واحدةً عظيمة تُحذِّرُ ولدَها، ثم طعن في لبَّتِها
(7)
، فنحرَها، وانطلقَ سَقْبُها -وهو فصيلُها
(8)
- فصَعِدَ جبلًا منيعًا، ورغا ثلاثًا.
وروى عبد الرزاق
(9)
: عن معمر، عمَّن سمع الحسنَ؛ أنه قال: يا ربِّ أينَ أُمِّي؟ ثم دخلَ في صَخْرةٍ، فغابَ فيها. ويُقال: بل اتَّبَعُوه، فعقروه أيضًا. قال اللَّه تعالى:{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 29 - 30]. وقال تعالى: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 12 - 13] أي: احدْرُوها فكذَّبُوه فعقروها {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14 - 15].
قال الإمام أحمد: حدَّثنا عبدُ اللَّه بن نُمَيْر، حدَّثنا هشام -هو ابن عُروة- عن أبيه، عن عبد اللَّه بن
(1)
انظر تفسير الطبري (5/ 532).
(2)
صدرت من وردها: ارتوت ورجعت.
(3)
في الأصل: يذمون - ويذمرن: يحضُّنَّ ويُشجعنَّ على القتال.
(4)
وحَسَرْنَ: كشفن الغطاء عن وجوههنَّ.
(5)
عُرْقوبها: ما يكون في رجل الدابة بمنزلة الركبة في يدها.
(6)
رغتْ: صوتت وضجَّت، والرُّغاء: صوت الإبل.
(7)
لَبَّتُهَا: اللبَّة: موضع القلادة من العنق.
(8)
فصيلُها: الفصيل: ابن الناقة.
(9)
تفسير الطبري (5/ 535).
زمعة، قال: خطبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر النَّاقة، وذكر الذي عقرَها، فقال:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] انبعثَ لها رجلٌ عَارمٌ عزيزٌ منيع في رهطه، مثل ابن زمعة
(1)
.
أخرجاه
(2)
من حديث هشام به. عارم: أي: شهمٌ عزيز، أي: رئيس منع، أي: مطاع في قومه.
وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني يزيدُ بن محمد بن خثيم
(3)
، عن محمد بن كعب، عن محمد بن خُثيم، عن يزيد، عن عمَّار بن ياسر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلي: "ألا أُحدثّك بأشقى الناس؟ " قال: بلى. قال: رجلان أحدُهما أُحيمرُ ثمود الذي عقرَ النَّاقة، والذي يضربُكَ يا عليٌّ على هذا -يعني: قَرْنه- حتى تَبْتلَّ منه هذه -يعني لحيته-" رواه ابن أبي حاتم
(4)
.
وقال تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77]، فجمَعُوا في كلامِهم هذا بين كفرٍ بليغٍ من وجوه:
منها أنهم خالفوا اللَّه ورسولَه في ارتكابهم النهي الأكيد في عَقْر الناقة التي جعلها اللَّه لهم آية.
ومنها أنهم استعجلوا وقوعَ العذاب بهم، فاستحقُّوه من وجهين: أحدهما: الشرط عليهم في قوله: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] وفي آية {عَظِيمٌ} [الشعراء: 159] وفي الأخرى {أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] والكلُّ حقٌّ. والثاني: استعجالهم على ذلك.
ومنها أنهم كذَّبوا الرسولَ الذي قد قامَ الدليلُ القاطعُ على نبوَّته وصِدْقه، وهم يعلمون ذلك علمًا جازمًا، ولكن حملَهم الكفرُ والضَلالُ والعِنادُ على استبعاد الحق، ووقوع العذاب بهم. قال اللَّه تعالى:{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 63].
وذكروا أنَّهم لما عَقَروا النَّاقَة كان أوَّل من سطا
(5)
عليها قُدارُ بن سالف -لعنه اللَّه- فعرقَبها، فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدرُوها بأسيافهم يُقَطِّعُونها، فلما عاينَ ذلك سَقْبُها -وهو ولدها- شَرَدَ عنهم، فعلا أعلى جبلٍ هناك، ورغا ثلاثَ مرارٍ
(6)
.
فلهذا قال لهم صالح: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] أي: غير يومهم ذلك، فلم
(1)
أخرجه أحمد في المسند (4/ 17)، وهو حديث صحيح.
(2)
أخرجه البخاري (4942) في التفسير، ومسلم (2855) في الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(3)
كذا في ب وهو الصحيح، وفي المطبوع وأ: خيثم، مصحف.
(4)
ورواه أيضًا أحمد في المسند (4/ 263) وهو حديث حسن.
(5)
سطا: بطش بشدَّة.
(6)
في المطبوع: مرات.
يُصدِّقوه أيضًا في هذا الوعد الأكيد، بل لما أمسوا همُّوا بقتله، وأرادوا فيما يزعمون أن يُلحقوه بالناقة {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] أي: لنكبسنَّه في داره مع أهله فلنقتلنه، ثم لنجحدنَّ قتله، ولننكرنّ ذلك، إنْ طالبنا أولياؤُه بدمه، ولهذا قالوا:{ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49].
قال اللَّه تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 50 - 53].
وذلك أنَّ اللَّه تعالى أرسلَ على أولئك النفر الذين قصدوا قتلَ صالح حجارةً رضختْهم سلفًا وتعجيلًا قبلَ قومهم، وأصبحتْ ثمودُ يومَ الخميس -وهو اليوم الأول من أيام النَّظْرة- ووجوهُهم مُصْفَرَّةٌ، كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلمَّا أمسَوا نادَوْا بأجمعِهم: ألا قد مضَى يوم من الأجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوهُهُم مُحمَرَّة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى يومان من الأجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع، وهو يوم السبت، ووجوهُهم مُسودَّة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضَى الأجل.
فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنَّطوا وتأهَّبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحُلُّ بهم من العذاب والنَّكال والنقمة، لا يدرون كيف يفعل بهم! ولا من أي جهة يأتيهم العذاب! فلما أشرقت الشمسُ جاءَتْهم صَيْحة من السماء مِن فوقهم، ورجفةٌ شديدةٌ من أسفل منهم، ففاضتِ الأرواحُ، وزهقتِ
(1)
النفوس، وسكنتِ الحركاتُ، وخَشَعتِ الأصواتُ، وحقَّتِ الحقائقُ، فأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثًا لا أرواحَ فيها، ولا حَرَاك بها. قالوا: ولم يبق منهم أحدٌ إلَّا أن جاريةً كانت مُقْعَدَةً، واسمها كلية ابنة السلق، ويُقال لها: الذريعة، وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأتِ العذاب أُطْلِقَتْ رجلاها، فقامتْ تسعى كأسرع شيءٍ، فأتتْ حيًّا من العرب فأخبرتْهم بما رأتْ، وما حلَّ بقومها، واستسقتهم ماءً، فلما شربتْ ماتتْ.
قال اللَّه تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 68] أي: لم يُقيموا فيها في سَعة وررْق وغَنَاء {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود: 68] أي: نادى عليهم لسانُ القَدَر بهذا.
قال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا عبدُ الرزاق، حدَّثنا معمر، حدَّثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن
(1)
زهقت النفوس: خرجت.
(2)
في المسند (3/ 296) رقم (14092).
أبي الزبير، عن جابر، قال: لما مرَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحِجْر، قال:"لا تسالوا الآياتِ، فقد سألها قومُ صالح، فكانتْ -يعني الناقة- تَرِدُ من هذا الفَجِّ، وتصدرُ من هذا الفجِّ {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 77] فكانت تشربُ ماءَهم يومًا ويشربون لبنَها يومًا، فعقروها، فأخذتْهم صيحةٌ أهمد اللَّه عز وجل من تحت أديم السماء منهم إلا رجلًا واحدًا كان في حرم اللَّه عز وجل. فقالوا: منْ هُو يا رسول اللَّه؟ قال: هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابَه ما أصابَ قومَه"
(1)
. وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة، واللَّه أعلم.
وقد قال عبد الرزاق أيضًا
(2)
: قالَ مَعْمر: أخبرني إسماعيل بن أُميَّة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: اللَّه ورسولُه أعلم. قال: هذا قبر أبي رِغال، رجلٌ من ثمودَ كان فيِ حَرَمِ اللَّه فمنعَه حَرَمُ اللَّه عذابَ اللَّه. فلما خرجَ أصابَه ما أصابَ قومَه، فدُفن هاهنا ودُفن معه غُصْنٌ من ذهب، فنزلَ القومُ فابتدرُوه بأسيافهم، فبحثُوا عنه، فاستخرجوا الغصنَ. قال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهري: أبو رغال: أبو ثقيف.
هذا مرسل من هذا الوجه.
وقد جاءَ من وجهٍ آخر متصلًا، كما ذكرَه محمَّد بن إسحاق في السيرة: عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمعتُ عبدَ اللَّه بن عمرو، سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبرٍ، فقال:"إن هذا قبرُ أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمودَ، وكان بهذا الحرم، يدفعُ عنه، فلمَّا خرجَ منه، أصابتْه النقمة التي أصابتْ قومَه بهذا المكان، فدُفن فيه، وآية ذلك أنه دُفن معه غصنٌ من ذهب، إنْ أنتم نبشتُم عنه أصبتموه معه". فابتدرَه النَّاسُ فاستخرجوا منه الغصن
(3)
.
وهكذا رواه أبو داود
(4)
: من طريق محمد بن إسحاق.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجَّاج المزِّي رحمه الله
(5)
-: هذا حديث حسن عزيز.
قلت: تفرَّد به بُجَيْر بن أبي بُجَيْر هذا، ولا يُعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن
(1)
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6197) الإحسان، والبزار (1844) كما في كشف الأستار، والحاكم في المستدرك (2/ 340 - 341).
والفجُّ: الشَّقُّ، والطريق الواضح بين جبلين.
(2)
في مصنفه (2099).
(3)
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 297).
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (3088) في الخراج والإمارة والفيء.
(5)
تهذيب الكمال (4/ 11).
أمية. قال شيخنا: فيحتمل أنه وَهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد اللَّه بن عمرو عن زاملتيه
(1)
، واللَّه أعلم.
قلتُ: لكن في المرسل الذي قبلَه، وفي حديثِ جابر أيضًا شاهدٌ له
(2)
، واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعرافْ 79] إخبارٌ عن صالح عليه السلام أنَّه خاطبَ قومه بعد هَلاكهم، وقد أخذ في الذَّهَاب عن محلَّتهم إلى غيرها، قائلًا لهم:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79]: أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي {وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] أي: لم تكن سجاياكُم تَقْبَلُ الحق ولا تُريده، فلهذا صرتُم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم المستمرّ بكم، المتصل إلى الأبد، وليس لي فيكم حيلة، ولا لي بالدفع عنكم يدان، والذي وجبَ عليّ من أداء الرسالة والنُّصْح لكم قد فعلتُه وبذلتُه لكم، ولكنَّ اللَّه يفعلُ ما يريد.
وهكذا خاطبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهل قَلِيْبِ بَدْرٍ بعد ثلاث ليالٍ، وقف عليهم، وقد ركبَ راحلتَه، وأمر بالرحيل من آخر الليل، فقال:"يا أهلَ القَليب! هل وجدتُم ما وعدَكم ربُّكم حَقًّا، فإني قد وجدتُ ما وَعدني ربِّي حقًا" وقال لهم فيما قال: "بئسَ عشيرةُ النبيِّ كُنتم لنبيِّكم، كذَّبتمُوني وصدَّقني النَّاسُ، وأخرجتموني وآواني النَّاسُ، وقاتلتمُوني ونَصرني النَّاسُ، فبئس عشيرةُ النبيِّ كنتُم لنبيِّكم" فقال له عمر: يا رسول اللَّه! تخاطبُ أقوامًا قد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يُجيبون"
(3)
. وسيأتي بيانُه في موضعه إن شاء اللَّه.
ويُقال: إنَّ صالحًا عليه السلام انتقلَ إلى حَرَمِ اللَّه فأقامَ به حتَّى ماتَ.
قال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حينَ حجَّ، قال:"يا أبا بكر! أيّ وادٍ هذا؟ قال: وادي عُسْفان. قال: "لقد مرَّ به هودٌ وصالحٌ عليهما السلام على بكرات خُطُمُها اللِّيف، أُزُرُهم العباء، وأرديتهم النِّمار، يُلَبُّون، يَحُجُّونَ البيتَ العتيق". إسناد حسن
(5)
.
(1)
زاملتيْه: الزاملة: ما يُحمل عليه من الإبل وغيرها.
(2)
قول ابن كثير هذا سقط من أ، وأثبته من ب.
(3)
ذكره الهيثمي في المجمع (6/ 91) من حديث عبد اللَّه بن مسعود وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(4)
في المسند (1/ 232).
(5)
أقول: فيه زمعة بن صالح ضعيف، كما قال الحافظ في "التقريب".
وقد تقدَّم في قصَّة
(1)
نوحٍ عليه السلام من رواية الطبراني، وفيه: نوح وهود وإبراهيم.
مرور النبيِّ بوادي الحِجْر من أرض ثمودَ عام تبوك
قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عبدُ الصمد، حَدَّثَنَا صَخْرُ بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال لما نزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوكَ، نزل بهم الحِجْرَ عند بيوت ثمود، فاستقى النَّاسُ من الآبار التي كانت تشربُ منها ثمود، فعجنُوا منها، ونصبُوا القُدور [باللحم]، فأمرَهم رسولُ اللّه فأهراقوا القدورَ، وعلفُوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحلَ بهم حتَّى نزل بهم على البئر التي كانت تشربُ منها النَّاقةُ، ونهاهُم أن يدخلوا على القوم الذين عُذِّبوا فقال:"إني أخشى أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم"
(2)
.
وقال أحمد أيضًا: حَدَّثَنَا عفَّان، حَدَّثَنَا عبدُ العزيز بن مسلم، حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن دينار، عن عبد اللّه بن عمر، قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وهو بالحِجْر: "لا تدخلوا على هؤلاء المُعذبين إلا أنْ تكونوا باكينَ، فإن لم تكونوا باكينَ فلا تدخلوا عليهم، أن يُصيبكُم مثل ما أصابهم"
(3)
.
أخرجاه في الصحيحين
(4)
من غير وجه.
وفي بعض الروايات: أنه عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بمنازلهم قنَّع رأسه وأسرع راحلته، ونهى عن دخولِ منازلهم إلا أن يكونوا باكين. وفي رواية:"فإنْ لم تبكوا فتباكوا، خشيةَ أن يُصيبَكم مثلُ ما أصابَهم". صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أخبرنا المَسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كبشة الأنماري، عن أبيه - واسمه عمرو بن سعد، ويُقال: عامر بن سعد رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارعَ النَّاسُ إلى أهل الحجْر يدخلون عليهم، فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في النَّاس: الصَّلاةُ جامعة. قال: فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يمسك بعيرَه، وهو يقول:"ما تدخلون على قومٍ غضبَ اللّه عليهم، فناداه رجلٌ نعجبُ يا رسول الله! قال: أفلا أُنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجلٌ من أنفسكم يُنبئكم بما كان قبلكم، وما هو كائنٌ بعدَكم، فاستقيمُوا وسدَّدوا، فإنَّ اللّهَ لا يعبأُ بعذابِكم شيئًا، وسيأتي قومٌ لا يدفعونَ عن أنفسهم شيئًا"
(5)
. إسنادٌ حسنٌ ولم يُخرِّجوه.
(1)
تقدم ص 180.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 117) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 74) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4)
أخرجه البخاري (4702) في التفسير، ومسلم (2980) في الزهد والرقائق.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (4/ 231). قلت: فيه محمد بن أبي كبشة الأنماري، وهو مجهول.
وقد ذُكرَ أنَّ قومَ صالح كانت أعمارُهم طويلةً، فكانوا يبنون البيوتَ من المدر
(1)
، فتخربُ قبلَ موتِ الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتًا في الجبال.
وذكروا أنَّ صالحًا عليه السلام لما سألوه آيةً، فأخرجَ اللّه لهم النَّاقةَ من الصَّخرة، أمرهم بها وبالولد الذي كان في جَوْفها، وحذَّرَهم بأسَ اللّه إن هم نالوها بسوء، وأخبرَهم أنهم سيعقرونها، ويكونُ سببُ هلاكهم ذلك، وذكرَ لهم صفةَ عاقرها، وأنَّه أحمرُ أزرقُ أصْهبُ، فبعثوا القوابلَ في البلد، متى وجدوا مولودًا بهذه الصِّفة يقتلنَّه، فكانوا على ذلك دهرًا طويلًا، وانقرضَ جيلٌ وأتى جيلٌ آخر.
فلمَّا كان في بعضِ الأعصارِ، خطبَ رئيسٌ من رُؤسائهم على ابنه بنتَ آخرَ مثله في الرياسة، فزوَّجه، فولدَ بينهما عاقرُ النَّاقة، وهو قُدَار بن سَالف، فلم تتمكَّن القوابلُ من قتله، لشرفِ أبويْه وجدَّيْه فيهم، فنشأ نشأةً سريعةً، فكان يشبُّ في الجمعة كما يشبُّ غيرُه في شَهْرٍ، حتى كان منْ أمره أن خرجَ مُطاعًا فيهم رئيسًا بينهم، فسوَّلت له نفسُه عَقْرَ النَّاقةِ، واتَّبعه على ذلك ثمانية من أشرافِهم، وهم التسعة الذين أرادوا قتلَ صالح عليه السلام.
فلمَّا وقع من أمرِهم ما وقعَ من عَقْرِ النَّاقة، وبلغَ ذلك صالحًا عليه السلام، جاءهم باكيًا عليها، فتلقَوه يعتذرون إليه، ويقولون: إن هذا لم يقعْ عن ملأٍ منا، دمانما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا، فيُقال: إنه أمرَهم باستدراكِ سَقْبها
(2)
حتى يُحسنوا إليه عوضًا عنها، فذهبوا وراءَه، فصعدَ جبلًا، فلما تصاعدوا فيه وراءَه، تعالى الجبلُ حتى ارتفعَ فلا ينالُه الطَّيْرُ، وبكى الفصيلُ، حتى سالت دموعه.
ثم استقبلَ صالحًا عليه السلام، ودعا ثلاثًا، فعندها قالَ صالح:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] وأخبرَهم أنَّهم يُصبحون من غَدِهم صُفْرًا، ثم تَحْمَرُّ وجوههم في الثاني، وفي اليوم الثالث تَسْوَدُّ وجوههم، فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صَيْحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ، فأخذتْهم فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وفي بعض هذا السياق نظرٌ ومخالفةٌ لظاهر ما يُفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم، كما قدَّمنا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
* * *
(1)
المدر: الطين.
(2)
سَقبها: السَّقْب: ولد الناقة.
قصة إبراهيم الخليل عليه السلام
هو إبراهيم بن تارخ (250)، بن ناحور
(1)
(148)، بن ساروغ (230)، بن أرغو
(2)
(239)، ابن فالغ
(3)
(439)، بن عابر
(4)
(464)، بن شالخ
(5)
(433)، بن أرفخشد
(6)
(438)، بن سام (600)، بن نوح عليه السلام.
هذا نصُّ أهل الكتاب في كتابهم، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي، كما ذكروه من المُددِ، وقدَّمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته.
وحكى الحافظُ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من تاريخه: عن إسحاق بن بشر الكاهلي صاحب كتاب "المبتدأ": أن اسمَ أم إبراهيم "أميلة". ثم أورد عنه في خبر ولادتها
(7)
له حكايةً طويلةً
(8)
، وقال الكلبيُّ: اسمها: "بونا" بنت كربنا بن كرلي، من بني أرفخشذ بن سام بن نوح.
وروى ابن عساكر من غير وجه: عن عكرمة؛ أنه قال: كان إبراهيمُ عليه السلام يُكنَّى أبا الضّيفان
(9)
.
قالوا: ولما كان عمر تارخ خمسًا وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام، وناحور وهاران، ووُلد لهاران لوط.
وعندهم: أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط، وأن هاران ماتَ في حياة أبيه في أرضه التي وُلد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرضَ بابل.
وهذا هو الصحيحُ المشهورُ عند أهل السير والتواريخ والأخبار، وصحَّحَ ذلك الحافظ ابن عساكر
(10)
(1)
في أ: باحور.
(2)
في أ وب: راغو؛ وأثبت ما في هامش أ. وما يتفق مع تاريخ الطبري ومختصر تاريخ دمشق.
(3)
في نسخة: فالاغ.
(4)
في نسخة: غيبر، وفي نسخة: عابار.
(5)
في نسخة سالاخ.
(6)
في نسخة: أرفخشاذ.
(7)
في أ: ولادها.
(8)
أخرجه ابن عساكر، كما في التهذيب (2/ 141).
(9)
المصدر السابق (2/ 140).
(10)
المصدر السابق (2/ 137).
بعدما روى من طريق هشام بن عمَّار، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن ابن عباس، قال: وُلد إبراهيم بغوطةِ دمشقَ في قريةٍ يُقال لها: برزة. في جبل يُقال له: قاسيون. ثم قال: والصحيحُ أنه وُلد ببابل. وإنما نسب إليه هذا المقام لأنَه صلَّى فيه إذ جاءَ مُعينا للوط عليه السلام.
قالوا: فتزوَّج إبراهيمُ سارَة، وناحور ملكا ابنة هاران، يعنون بابنة أخيه.
قالوا: وكانت سارَةُ عاقرًا لا تلد. قالوا: وانطلقَ تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارَة وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حرَّان، فمات فيها تارخ وله مئتان وخمسون سنة، وهذا يدلُّ على أنه لم يُولد بحرَّان، وإنما مولده بأرض الكلدانيين، وهي أرضُ بابلَ وما والاها.
ثم ارتحلوا قاصدينَ أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فاقاموا بحرَّان، وهي أرضُ الكلدانيين
(1)
في ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضًا، وكانوا يعبدون الكواكبَ السبعة.
والذين عمروا مدينةَ دمشق كانوا على هذا الدِّين، يستقبلونَ القطبَ الشمالي، ويعبدون الكواكبَ السبعةَ بأنواع من الفِعال والمقال، ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشقَ السبعة هيكلٌ لكوكبٍ منها، ويعملونَ لها أعيادًا وقرابينَ.
وهكذا كانَ أهلُ حرَّان يعبدونَ الكواكبَ والأصنامَ، وكلُّ من
(2)
على وجه الأرض كانوا كفَّارًا، سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام.
وكان الخليلُ عليه السلام هو الذي أزالَ اللّه به تلك الشرور، وأبطلَ به ذاك الضلال، فإن اللّه سبحانه وتعالى آتاه رشدَه في صِغَره، وابتعئه رسولًا، واتَّخذه خليلًا في كِبَره، قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] أي: كان أهلًا لذلك. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
(1)
كذا في أ وب، وفي المطبوع: الكشدانيين.
(2)
كذا في أ وب: وفي المطبوع: وكلُّ من كان.
يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 24 - 27] ثم ذكرَ اللّه تعالى مناظرته لأبيه وقومِه، كما سنذكرُه إن شاء اللّه تعالى.
وكان أوَّل دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنامَ، لأنه أحقُّ النَّاس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 41 - 48]. فذكرَ تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحقِّ بألطفِ عبارةٍ وأحسنِ إشارةٍ وبيَّنَ له بطلانَ ما هو عليه
(1)
من عبادةِ الأوثان، التي لا تسمعٌ
(2)
دعاءَ عابدِها، ولا تُبصر مكانَه، فكيف تُغني عنه شيئًا أو تفعلُ له خيرًا من رِزقٍ أو نصر؟ ثم قال مُنبِّهًا
(3)
على ما أعطاه اللّه من الهدى والعلم النافع، وإن كان أصغرَ سِنًا من أبيه:{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] أي: مستقيمًا واضحًا سَهْلًا حنيفًا
(4)
، يُفْضي بكَ إلى الخير في دنياكَ وأُخراكَ، فلما عرضَ هذا الرشدَ عليه، وأهدى هذه النصيحةَ إليه، لم يقبلْها منه ولا أخذَها عنه، بل تهذَده وتوعَّدَه، قال:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] قيل: بالمقال، وقيل: بالفعال. {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46] أي: واقطعني، وأطل هجراني، فعندها قال له إبراهيم {سَلَامٌ عَلَيْكَ} أي: لا يَصِلُكَ مني مكروهٌ، ولا ينالُكَ مني أذىً، بل أنت سالمٌ من ناحيتي، وزادَه خيرًا فقال:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] قال ابن عباس وغيره: أي لطيفًا، يعني في أن هداني لعبادتِه والإخلاص له، ولهذا قال:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] وقد استغفرَ إبراهيم عليه السلام، كما وعده في أدعيته، فلما تبيَّن له أنه عدوٌّ للّه، تَبَرَّأ منه، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].
(1)
في أ: إليه.
(2)
كذا في ب، وهي في أ غير مقروءة.
(3)
كذا في ب، وهي في أ غير مقروءة.
(4)
حنيفًا: مستقيمًا على الحق، مائلًا عن المعتقدات الباطلة.
وقال البخاري
(1)
: حدَّثنا إسماعيل بن عبد اللّه، حدَّثني أخي عبدُ الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يلقى إبراهيمُ أباه آزرَ يوم القيامة، وعلى وجهِ آزرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةً، فيقول له إبراهيم: ألم أقلْ لكَ: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقولُ إبراهيم: يا ربِّ! إنَّكَ وعَدْتني أن لا تُخزني يومَ يُبعثون، وأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعد؟ فيقولُ اللّه: إنِّي حرَّمتُ الجنَّة على الكافرين. ثم يُقال: يا إبراهيمُ ما تحتَ رِجْلَيْكَ؟ فينظرُ فإذا هو بذيخٍ مُلْتَطِخٍ، فيُؤخذُ بقوائمِه فيُلقى في النَّار" هكذا رواه في قصة إبراهيم منفردًا.
وقال في التفسير
(2)
وقال إبراهيمُ بن طَهْمان، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المَقْبُري، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وهكذا رواه النسائي
(3)
: عن أحمد بن حَفْص
(4)
بن عبد اللّه، عن أبيه، عن إبراهيمَ بن طَهْمان، به.
وقد رواه البزار
(5)
: من حديث حمَّاد بن سلمةَ، عن أيُّوب، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. وفي سياقه غرابةٌ. ورواه أيضًا
(6)
: من حديث قتادة، عن عُقْبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: بنحوه.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] هذا يدلُّ على أنَّ اسمَ أبي إبراهيم آزر، وجمهور أهل النسب - منهم ابن عباس - على أن اسم أبيه تارح، وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة، فقيل: إنه لُقِّبَ بصنم كان يعبدُه اسمه آزر.
وقال ابن جرير
(7)
: والصواب أن اسمَه آزر، ولعلَّ له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم.
وهذا الذي قاله محتمل، واللّه أعلم.
(1)
في صحيحه (3350) في الأنبياء.
وقترَة: غبرة شديدة، بحيث يسوَّد الوجه. وغَبَرة: ما يعلو الوجه من الغبار. بذيخ: الذِّيْخ: ذكرُ الضِّباع.
(2)
من صحيحه (4768).
(3)
في السنن الكبرى (11375).
(4)
في أ: أحمد بن عبد اللّه بن حفص، وهو خطأ.
(5)
كما في كشف الأستار (97).
(6)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار (94) وقال البزار: لا نعلم رواه إلا التيمي، ولا عنه إلا ابنه، وهو حديث غريب.
(7)
في تفسيره (5/ 239 - 240).
ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 75 - 83] وهذا المقامُ مقام مناظرةٍ لقومه، وبيان لهم أن هذه الأجرام المُشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلحُ للألوهية، ولا أن تُعبد مع الله عز وجل، لأنها مخلوقةٌ مربوبةٌ مصنوعةٌ، مُدبَّرةٌ مُسخَرة، تطلعُ تارة، وتأفُل
(1)
أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والربُّ تعالى لا يغيبُ عنه شيءٌ، ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائمُ الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه.
فبيَّن لهم أولًا عدمَ صلاحيةِ الكواكب
(2)
لذلك، قيل: هو الزهرة، ثم ترقَّى منها إلى القَمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقَّى إلى الشمس التي هي أشدُّ الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبيَّن أنها مُسخَّرة مُقدَّرة مربوبة، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] ولهذا قال: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي: طالعة {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 78 - 80]. أي: لستُ أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون اللّه، فإنها لا تنفع شيئًا، ولا تسمع، ولا تعقل، بل هي مربوبة مُسخَّرة كالكواكب ونحوها، أو مصنوعةٌ منحوتة منجورة.
والظاهر أنَّ موعظتَه هذه في الكواكب لأهل حرَّان، فإنهم كانوا يعبدُونها، وهذا يردُّ قولَ منْ زعمَ أنَّه قال هذا حين خرجَ من السرب لما كانَ صغيرًا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وهو مستندٌ إلى أخبار إسرائيلية لا يُوثَق بها، ولا سيما إذا خالفتِ الحقَّ.
(1)
تأفل: تغيب.
(2)
في الأصل: عدم صلاحية الكوكب، قيل هو الزهرة لذلك. وأثبت ما في المطبوع.
وأما أهلُ بابلَ فكانوا يعبدونَ الأصنامَ، وهم الذين ناظرَهم في عبادتِها وكسَّرها عليهم، وأهانَها وبيَّنَ بطلانها، كما قال تعالى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].
يخبرُ اللّه تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام، أنَّه أنكرَ على قومه عبادةَ الأوثان، وحقَّرها عندَهم، وصغَّرها وتنقَّصَها، فقال:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] أي: مُعتكفون عندَها، وخاضعون لها، قالوا:{وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] ما كانَ حجَّتهم إلا صنيع الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54] كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85 - 87]
قال قتادة: فما ظنُّكم به أنَّه فاعلٌ بكم إذا لقيتُموه وقد عبدتُم غيره
(1)
؟
وقال لهم {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74] سلَّموا له أنها لا تسمعُ داعيًا ولا تنفعُ، ولا تضرُّ شيئًا، وإنما الحاملُ لهم على عبادتِها الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهَّال، ولهذا قال لهم {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] وهذا برهانٌ قاطعٌ على بطلان إلهية ما ادَّعَوه من الأصنام، لأنه تبرَّأ منها وتنقَّصَ بها، فلو كانت تضرُّ لضرَّته، أو تُؤَثِّرُ لأثَّرتْ فيه.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55]. يقولون: هذا الكلام الذي تقوله لنا وتتنفصُ به آلهتنا، وتطعنُ بسببه في آبائنا، تقولُه مُحقَّقًا جادًّا فيه أم لاعبًا؟ {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56]، يعني بل أقول لكم ذلك جادًّا مُحقًّا، وإنما إلهكم الله الذي لا إلَه إلا هو، هو ربُّكم وربُّ كلِّ شيءٍ فاطر السموات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحقُّ للعبادة وحدَه لا شريكَ له، وأنا على ذلكم من الشاهدين.
وقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57] أقسمَ ليكيدنَ هذه الأصنامَ التي يَعبدونها بعدَ أن يوثُوا مدبرينَ إلى عيدهم. قيل: إنه قال هذا خفيةً في نفسه. وقال ابن مسعود: سمعَه بعضُهم وكان لهم عيدٌ يذهبون إليه في كلّ عام مرَّةً إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضرَه، فقال: إني سقيم، كما قال تعالى:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89]، عرَّض لهم في الكلام حتى توصَّل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم، ونُصرة دين الله الحقِّ في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي تستحقُّ أن تُكسرَ، وأن تُهانَ غايةَ الإهانة.
فلمَّا خرجوا إلى
(2)
عيدهم، واستقرَّ هو في بلدهم:{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] أي: ذهبَ إليها مُسرعًا مُستخفيًا، فوجدَها في بهوٍ عظيمٍ، وفد وَضعُوا بين أيديها أنواعًا من الأطعمة قربانًا إليها {فَقَالَ} على سبيل التَّهكُّم والازدراء:{أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 91 - 93] لأنها أقوى وأبطشُ وأسرعُ وأقهرُ، فكسَّرها بقَدُوم في يده كما قال تعالى:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58]، أي: حُطامًا، كسَّرها كلَّها {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58] قيل: إنه وضعَ القَدُوم في يد الكبير، إشارة إلى أنَّه غارَ أن تُعبدَ معه هذه الصغار، فلما رجعُوا من عيدهم ووجدوا ما حلَّ بمعبودهم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59].
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (7/ 78).
(2)
كذا في ب، وفي أ: من عيدهم.
وهذا فيه دليلٌ ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حلَّ بآلهتهم التي كانوا يعبدُونها، فلو كانت آلهةً لدفعتْ عن أنفسها منْ أرادَها بسوء، لكنَّهم قالوا من جهلهم وقلَّة عقلهم، وكثرةِ ضلالهم وخَبَالهم {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59، 60] أي: يذكرها بالعيب والتَّنقُّص لها والازدراء بها، فهو المقيم عليها والكاسرُ لها. وعلى قول ابن مسعود، أي: يذكرُهم بقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]، أي: في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلَّهم يشهدونَ مقالتَه، ويسمعونَ كلامَه، ويُعاينون ما يحلُّ به من الاقتصاص منه.
وكان هذا أكثرَ مقاصدِ الخليل عليه السلام أن يجتمعَ النَّاسُ كلُّهم، فيقيمَ على جميع عُبَّاد الأصنام الحجَّةَ على بُطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59].
فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62، 63] قيل: معناه هو الحامل لي على تكسيرها، وإنما عرَّضَ لهم في القول {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وإنما أرادَ بقوله هذا أن يُبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطقُ، فيعترفوا بأنَّها جمادٌ كسائرِ الجمادات {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64] أي: فعادوا على أنفسهم بالملامة، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، أي: في تركها لا حافظَ لها، ولا حارسَ عندها {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} قال السُّدي: أي: ثم رجعوا إلى الفتنة فعلى هذا يكون قولهم {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي: في عبادتها. وقال قتادة: أدركتِ القومَ حيرةُ سوء، أي: فأطرقوا ثم قالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65] أي: لقد علمت يا إبراهيمُ أن هذه لا تنطقُ، فكيف تأمرُنا بسؤالها؛ فعندَ ذلك قال لهم الخليل عليه السلام:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67] كما قال: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] قال مجاهد: يُسرعون. قال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] أي: كيف تعبدون أصنامًا أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة، وتصوِّرونها وتُشكِّلونها كما تُريدون {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وسواءٌ كانت ما مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنَكم مخلوقون، وهذه الأصنامُ مخلوقةٌ، فكيف يعبدُ مخلوقٌ لمخلوقٍ مثله؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتِها لكم. وهذا باطل، فالآخر باطل للتحكُّم، إذ ليست العبادة تصلحُ ولا تجبُ إلا للخالق وحده لا شريكَ له.
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97، 98] عَدلُوا عن الجِدال والمناظرة لمَّا انقطعوا وغُلبوا، ولم تبقَ لهم حجَّة ولا شُبهة إلا استعمال قوَّتهم وسلطانهم،
لينصروا ما هم عليه من سَفَههم وطُغيانهم، فكادَهم الربُّ جل جلاله، وأعلى كلمته ودينه وبرهانَه، كما قال تعالى:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 - 70].
وذلك أنَّهم شرعوا يجمعون حَطبًا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثُوا مدَّة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كان إذا مرضت تنذرُ لئن عُوفيت لتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم. ثم عمدوا إلى جَوْبةً
(1)
عظيمةً، فوضعوا فيها ذلك الحطبَ، وأطلقوا فيه النَّار، فاضْطَرمتْ وتأجَّجتْ والتهبتْ، وعلا لها شَرَرٌ لم يُرَ مثله قط.
ثم وضعوا إبراهيمَ عليه السلام في كِفَّة مَنْجنيق
(2)
، صنعَه لهم رجلٌ من الأكراد
(3)
، ويُقال له:"هيزن"، وكان أَوَّلَ من صنعَ المجانيقَ، فخسفَ الله به الأرضَ فهو يتجلجلُ
(4)
فيها إلى يوم القيامة.
ثم أخذوا يُقيِّدونه ويُكَتِّفُونهُ، وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد، ولك الملك، لا شريكَ لك. فلما وُضعَ الخليلُ عليه السلام في كِفَّة المَنْجنيق مُقيَّدًا مكتوفًا، ثم ألقَوه منه إلى النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. كما روى البخاريُّ
(5)
: عن ابن عباس: أنه قال: حسبُنا اللّه ونعمَ الوكيل، قالها إبراهيمُ حين أُلقيَ في النَّار، وقالها محمَّد حين قيل له {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 173، 174] الآية.
وقال أبو يعلى: حَدَّثَنَا أبو هشام الرفاعي، حَدَّثَنَا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لما ألقي إبراهيمُ في النَّار قال: اللَّهُمَّ إنك في السماء واحدٌ، وأنا في الأرض واحدٌ، أعبدُك"
(6)
.
وذكر بعضُ السَّلف: أنَّ جبريل عرضَ له في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليكَ فلا
(7)
.
(1)
جَوْبة: الجَوْبة: هي الحفرة المستديرة الواسعة، وكلُّ مُنْفتق بلا بناءٍ جَوْبة. وبهامش ب: قال الجلال السيوطي في مختصر النهاية: وصارت المدينة مثل الجوبة، هي الحفرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة.
(2)
مَنْجنيق: بفتح الميم وكسرها: آلة قديمة من آلات الحصار، تُرمى بها حجارة ثقيلة على الأسوار فتهدمها.
(3)
انظر تفسير الطبري (9/ 42).
(4)
يتجلجلُ: يغوص في الأرض حين يُخسف به، والجلجلة: حركة مع صوت.
(5)
أخرجه البخاري (4563) في التفسير.
(6)
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 19)، والبزار كما في كشف الأستار (2349) وفي سنده عاصم بن أبي النجود، وهو عاصم بن بهدلة، وهو صدوق له أوهام. حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون.
(7)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 20) من قول مقاتل وسعيد، وهذا من الإسرائيليات، من رواية كعب الأحبار، وهو غير صحيح، ومخالف لما رواه البخاري كما تقدم قبل قليل.
ويُروى عن ابن عبَّاس وسعيد بن جُبَيْر: أنَّه قال: جعل ملَكُ المَطر يقولُ: متى أُومرُ فأُرسِلُ المَطَرَ؟ فكانَ أمرُ اللّه أسرع
(1)
.
{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] قال عليُّ بن أبي طالب: أي: لا تضرّيه
(2)
.
وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن اللّه قال {وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لأذى إبراهيم بردُها.
وقال كعبُ الأحبار: لم ينتفعْ أهلُ الأرض يومئذٍ بنارٍ، ولم يُحْرقْ منه سوى وَثَاقه
(3)
.
وقال الضحاك: يروى أنَّ جبريل عليه السلام كان معه يمسحُ العرقَ عن وجههِ لم يصبْه منها شيءٌ غيره
(4)
.
وقال السُّدّي: كان معه أيضًا مَلَكُ الظِّل
(5)
.
وصارَ إبراهيمُ عليه السلام في مثل الجُوبة حولَه النار، وهو في روضةٍ خضراءَ، والنَّاسُ ينظرون إليه لا يَقْدرونَ إلى الوصول إليه، ولا هو يخرجُ إليهم، فعن أبي هريرة أنه قال: أحسنُ كلمةٍ قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعمَ الربُّ ربُّك يا إبراهيمَ
(6)
.
وروى ابن عساكر عن عكرمة، أنَّ أمَّ إبراهيم نظرتْ إلى ابنها عليه السلام، فنادته: يا بُنيَّ إنِّي أُريد أن أجيءَ إليكَ، فادعُ اللّهَ أنْ يُنجيَني من حرِّ النَّارِ حولك. فقال: نعم، فأقبلتْ إليه لا يمسُّها شيءٌ من حرِّ النَّار، فلما وصلتْ إليه اعتنقتْه وقبَّلته، ثم عادت
(7)
.
وعن المِنْهال بن عمرو أنَّه قال: أخبرتُ أنَّ إبراهيم مكثَ هناكَ إمَّا أربعين وإما خمسينَ يومًا، وأنَّه قال: ما كنتُ أيامًا ولياليَ أطيبَ عيشًا، إذ كنتُ فيها، وددتُ أنَّ عيشي وحياتي كلَّها مثل إذ كنت فيها
(8)
، صلوات اللّه وسلامه عليه.
فأرادوا أن ينتصروا فخذلُوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتَّضعُوا، وأرادوا أن يَغْلبُوا فغُلبوا. قال اللّه تعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70] وفي الآية الأخرى {الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98]
(1)
تفسير الطبري (9/ 43).
(2)
المصدر السابق (9/ 43).
(3)
المصدر السابق (9/ 43).
(4)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/ 640).
(5)
المصدر السابق (5/ 640).
(6)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 43).
(7)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه (2/ 145) تهذيب.
(8)
أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (9/ 43).
ففازوا بالخسارة والسفال هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردًا ولا سلامًا، ولا يلقون فيها تحية ولا سلامًا بل هي كما قال تعالى:{إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66].
قال البخاري
(1)
: حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن موسى - أو ابنُ سلام عنه - أنبأنا ابنُ جريج، عن عبدِ الحميدِ بن جُبَيْر، عن سعيدِ بن المُسَيِّب، عن أُمِّ شُرَيْك؛ أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أمرَ بقتل الوَزَغِ، وقال:"كانَ ينفخُ على إبراهيم عليه السلام".
ورواه مسلم
(2)
: من حديث ابن جُرَيْج.
وأخرجاه، والنسائي، وابن ماجة
(3)
: من حديث سُفيان بن عُيَيْنة، كلاهما عن عبد الحميد بن جُبَيْر بن شَيْبَة به.
وقال أحمد
(4)
: حَدَّثَنَا محمَّدُ بن بَكْر، حَدَّثَنَا ابن جُرَيْج، أخبرني عبدُ الله بن عبد الرحمن بن أبي أُميَّة، أن نافعًا مولى ابن عمر أخبرَه، أنَّ عائشةَ أخبرته، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اقتلُوا الوَزغَ، فإنَّه كانَ ينفخُ النَّارَ على إبراهيم". قال: فكانتْ عائشةُ تقتلُهنَّ.
وقال أحمد
(5)
: حَدَّثَنَا إسماعيلُ، حَدَّثَنَا أيُّوب، عن نافع؛ أنَّ امرأةً دخلتْ على عائشةَ، فإذا رمحٌ منصوبٌ، فقالت: ما هذا الرُّمحُ؟ فقالت: نقتلُ به الأوزاغ. ثمَّ حدَّثتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيمَ لما أُلقي في النَّار، جعلتِ الدوابُّ كُلّها تُطفئ عنه إلا الوَزَغ، فإنَّه جعلَ ينفخُها عليه.
تفرَّد به أحمدُ من هذين الوجهين.
وقال أحمد
(6)
: حَدَّثَنَا عفان، حَدَّثَنَا جريرُ، حَدَّثَنَا نافعُ، حدَّثتني سائبة
(7)
- مولاة الفاكِه بن المغيرة - قالت: دخلتُ على عائشةَ فرأيتُ في بيتها رُمحًا موضوعًا، فقلت: يا أُمَّ المؤمنينَ ما تصنعينَ بهذا الرُّمْحِ؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغِ نقتلُهن به، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا أنَّ إبراهيمَ حين أُلقيَ في النَّار، لم يكنْ في الأرض دَابَّةٌ إلا تُطفئُ عنه النَّار، غيرَ الوَزغ كانَ ينفخُ عليه، فأمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
(1)
أخرجه البخاري (3359) في الأنبياء، والوزغ: سامٌّ أبرص.
(2)
أخرجه مسلم (2237)(143) في السلام.
(3)
أخرجه البخاري (3359) في أحاديث الأنبياء، ومسلم (2237)(143) في السلام، والنسائي (5/ 209) في مناسك الحج، وابن ماجة (3228) في الصيد.
(4)
في المسند (6/ 200).
(5)
في المسند (6/ 217).
(6)
في المسند (6/ 83)، وهو حديث حسن.
(7)
في أ: سمامة، وفي ب: شماسة، والتصحيح من المسند (6/ 83).
ورواه ابن ماجة
(1)
: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يونس بن محمد، عن جرير بن حازم، به.
* * *
ذكرُ مناظرة إبراهيم الخليل مع مَنْ أَرادَ أَنْ يُنازعَ العظيمَ الجليلَ في إزار العظمة ورداء الكبرياء، فادَّعى الربوبيَّة، وهو أحدُ العبيد الضعفاء
يذكرُ تعالى مناظرةَ خليله مع هذا المَلكِ الجبَّار المتمرِّد، الذي ادَّعى لنفسه الربوبيةَ، فأبطلَ الخليلُ عليه السلام دليلَه، وبيَّن كثرةَ جَهْلِه، وقِلَّةَ عَقْلِه، وألجمَه الحُجَّة، وأوضحَ له طريقَ المحجَّة.
قال المفسرون وغيرُهم من علماء النسب والأخبار: وهذا المَلكُ هو مَلِكُ بابلَ، واسمُه النمرود بن كنعانَ بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد
(2)
. وقال غيرُه
(3)
: نمرود بن فالح بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
قال مجاهد
(4)
وغيره: وكان أحدَ ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة، مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: ذو القَرْنين وسُليمان. والكافران: النمرود وبختنصر. وذكروا أن نمرودَ هذا استمرَّ في ملكه أربعمئة سنة، وكان قد طغى وبغى، وتجبَّر وعتى وآثر الحياةَ الدنيا.
ولما دعاه إبراهيمُ الخليلُ إلى عبادة اللّه وحدَه لا شريكَ له، حملَه الجهلُ والضَّلالُ وطولُ الآمالِ على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيمَ الخليلَ في ذلك، وادَّعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258].
قال قتادة والسُّدِّي ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا أُتي بالرجلين قد تحتَّم قَتْلُهما، فإذا أمرَ بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنَّه قد أحيا هذا وأمات الآخر
(5)
.
وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجيٌّ عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل
(1)
أخرجه ابن ماجة (3231) في الصيد، وهو حديث حسن.
(2)
تفسير الطبري (3/ 25) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 25).
(3)
تفسير الطبري (3/ 25).
(4)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 27) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 25).
(5)
تفسير الطبري (3/ 27) والدر المنثور (2/ 25).
هو تشغيب
(1)
محض، وهو انقطاعٌ في الحقيقة، فإن الخليلَ استدلَّ على وجود الصانع بحدوثِ هذه المشاهداتِ، من إحياء الحيواناتِ وموتها على وجود فاعل ذلك الذي لا بُدَّ من استنادِها إلى وجوده ضرورةً عدم قيامها بنفسها، ولا بدَّ من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خَلْقِها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب والرِّياح والسَّحاب والمطر، وخلق هذه الحيوانات التي تُوجد مشاهدةً، ثم إماتتُها، ولهذا {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فقول هذا الملك الجاهل: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] إنْ عنى أنَّه الفاعلُ لهذه المشاهدة، فقد كابرَ وعاندَ، وإن عنى ما ذكرَه قتادةُ والسُّدِّي ومحمد بن إسحاق، فلم يقلْ شيئًا يتعلَّقُ بكلام الخليل؛ إذ لم يمنع مُقدِّمةً، ولا عارضَ الدليلَ.
ولما كانَ انقطاعُ مناظرة هذا المَلِكِ قد تخفَى على كثيرٍ من النَّاس ممن حضرَه وغيرهم، ذكرَ دليلًا آخرَ بيَّنَ وجودَ الصَّانع، وبُطلان ما ادَّعاه النمرودُ، وانقطاعَه جهرة {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] أي: هذه الشمس مُسخَّرةٌ كلَّ يوم تطلعُ من المشرقِ كما سخَّرها خالقُها ومُسَيرُها وقاهِرُها، وهو اللّه الذي لا إلهَ إلا هو خالقُ كل شيء، فإن كنتَ كما زعمتَ من أنَّكَ الذي تُحيي وتُميت فأتِ بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يُحيي ويُميت هو الذي يفعلُ ما يشاءُ، ولا يُمانَعُ ولا يُغالبُ، بل قد قهرَ كل شيء، ودانَ له كل شيءٍ، فإنْ كنتَ كما تزعمُ فافعلْ هذا، فإن لم تفعله فلستَ كما زَعمْتَ، وأنت تعلمُ وكلُّ أحد أنَّك لا تقدرُ على شيءً من هذا، بل أنت أعجزُ وأقلُّ من أنْ تخلقَ بعوضةً أو تنتصرَ منها. فبيَّن ضلالَه وجهلَه وكذبَه فيما ادَّعاه، وبطلان ما سلكه وتبجَّح به عند جَهلة قومه، ولم يبق له كلامٌ يُجيب الخليلَ به، بل امتنعَ وسكتَ، ولهذا قال:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
وقد ذكرَ السُّدِّي
(2)
: أنَّ هذه المناظرة كانت بين إبراهيمَ وبينَ النمرود يومَ خرجَ من النَّارِ، ولم يكن اجتمعَ به يومئذٍ، فكانت بينهما هذه المناظرة.
وقد روى عبدُ الرزاق: عن معمر، عن زيد بن أسلم؛ أن النمرودَ كان عندَه طعامٌ، وكان النَّاسُ يَفِدُون إليه للميرة، فوفدَ إبراهيمُ في جملة منْ وفدَ للمِيرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يُعْطَ إبراهيمُ من الطعام كما أُعطي النَّاسُ بل خرجَ وليس معه شيءٌ من الطعام، فلما قربَ من أهله عمدَ إلى كثيبب من التراب فملأ منه عدليْه
(3)
، وقال: أشغل أهلي إذا قدمتُ عليهم، فلما قدمَ وضعَ رحالَه وجاء فاتَّكأ فنامَ، فقامتْ امرأتُه سارَةُ إلى العِدْلين، فوجدتهما ملآنين طعامًا طيِّبًا، فعملت منه طعامًا. فلما استيقظَ إبراهيمُ
(1)
تشغيب: تهييج للشر، وتشويه للحقيقة.
(2)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 25 - 26).
(3)
عدليْه: العِدْل: الكيس والحِمْل يكونُ على أحد جنبي البعير.
وجدَ الذي قد أصلحُوه، فقال: أنَّى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئتَ به، فعرفَ أنَّه رزقٌ رزَقَهموه اللّه عز وجل.
فال زيدُ بن أسلم: وبعثَ اللّه إلى ذلك المَلِك الجبَّار ملَكا فأمره بالإيمان باللّه، فأبى عليه، ثم دعاه الثانية، فأبى عليه، ثم الثالثة، فأبى. وقال: اجمعْ جموعَك وأجمعُ جموعي، فجمعَ النمرودُ جيشَه وجنودَه وقتَ طُلوع الشمس، فأرسلَ اللّه عليه ذبابًا من البَعوض، بحيثُ لم يرَوا عينَ الشمسَ، وسلَّطها الله عليهم، فأكلتْ لحومَهم ودماءَهم، وتركتْهم عظامًا باديةً، ودخلتْ واحدةٌ منها في مِنْخر المَلكِ، فمكثتْ في منخريه أربعمئة سنة، عذَّبه اللّه تعالى بها، فكان يضربُ رأسه بالمرازب
(1)
في هذه المدة كلها حتى أهلكَه اللّه عز وجل بها
(2)
.
* * *
ذكرُ هجرة الخليل عليه السلام إلى بلاد الشام ودخوله الديار المصرية، واستقرارِه بالأرض المقدَّسة
قال اللّه تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 26، 27] وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 71 - 73] لما هجرَ قومَه في اللّه، وهاجرَ من بينِ أظهرهم، وكانت امرأتُه عاقرًا لا يُولد لها، ولم يكنْ له من الولد أحدٌ، بل معه ابنُ أخيه لوطُ بن هاران بن آزر، هبَه اللّه تعالى بعد ذلك الأولادَ الصالحينَ، وجعلَ في ذُريَّتهِ النبوة والكتاب، فكل نبيٍّ بُعِثَ بعدَه من ذُريَّته، وكلُّ كتابٍ نزلَ من السماء على نبيٍّ من الأنبياء منْ بعدِه، فعلى أحد نسلِه وعَقبه خِلعة
(3)
من اللّه وكرامةً له حين تركَ بلادَه وأهلَه وأقرباءَه وهاجرَ إلى بلد يتمكَّن فيها من عبادة ربِّه عز وجل، ودعوةِ الخلق إليه، والأرضُ التي قصدَها بالهجرة أرضُ الشام، وهي التي قال اللّه عز وجل:{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] قاله أُبيُّ بن كعب
(4)
، وأبو العالية، وقتادة وغيرهم. وروى
(5)
العوفي عن ابن عباس قوله:
(1)
"المرازب": جمع مِرْزبة: وهي المطرقة الكبيرة، ويقال له: الإرزبَّة: بالهمز والتشديد.
(2)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/ 27) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 24 - 25).
(3)
"خِلْعةً": عطيَّة.
(4)
انظر الدر المنثور؛ للسيوطي (5/ 642 - 643).
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (9/ 46).
{إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71] مكة، ألم تسمع إلى قوله:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]. وزعم
(1)
كعبُ الأحبار أنها حرَّان.
وقد قدَّمنا عن نقل أهل الكتاب: أنَّه خرجَ من أرض بابلَ، هو وأبوه وابن أخيه لوط، وأخوه ناحور، وامرأة إبراهيم سارَة، وامرأة أخيه ملكا، فنزلوا حرَّان، فمات تارخُ أبو إبراهيمَ بها.
وقال السُّدِّي
(2)
: انطلقَ إبراهيم ولوط قِبَلَ الشَّام فلقِيَ إبراهيمُ سارَةَ - وهي ابنة مَلِكِ حرَّان - وقد طعنت على قومِها في دينهم
(3)
، فتزوَّجها على ألَّا يُغَيِّرَها
(4)
. رواه ابن جرير وهو غريب.
والمشهورُ أنها ابنة عمِّه هاران، الذي تُنسب إليه حرَّان، ومنْ زعمَ أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط، كما حكاه السُّهيلي عن القُتَيبيِّ وَالنَّقَّاش، فقد أبعدَ النُّجْعَة، وقال بلا علم؛ وادَّعى أن تزويجَ بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعًا، فليس له على ذلك دليل. ولو فُرِضَ أن هذا كان مشروعًا في وقتٍ كما هو منقولٌ عن الربَّانييِّن من اليهود، فإن الأنبياءَ لا تتعاطاه، واللّه أعلم.
ثم المشهورُ أنَّ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا هاجرَ من بابلَ خرجَ بسارَةَ مهاجرًا من بلاده كما تقدَّم، واللّه أعلم.
وذكرَ أهلُ الكتاب أنَّه لما قدمَ الشام أوحى الله إليه: إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيمُ مذبحًا للّه، شكرًا على هذه النعمة، وضربَ قبَّته شرقي بيت المقدس، ثم انطلقَ مُرتحلًا إلى التيمُّن، وأنه كان جوعٌ، أي: قَحْطٌ وشِدَّةٌ وغَلاء، فارتحلَ إلى مصرَ، وذكروا قصَّة سارَة مع ملكها، وأن إبراهيمَ قال لها قولي: أنا أُختُه، وذكروا إخدامَ الملك إياها هاجرَ، ثم أخرجهم منها، فرجعوا إلى بلاد التَّيمن - يعني أرض بيت المقدس وما والاها - ومعه دوابُّ وعبيدٌ وأموال.
وقد قال البخاري: حَدَّثَنَا محمد بن محبوب، حَدَّثَنَا حمَّاد بن زيدٍ، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرةَ قال: لم يكذبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كَذبات: ثنتان منهنَّ في ذاتِ اللّه، قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقال: بينا هو ذات يومٍ وسارَةُ إذ أتى على جبَّار من الجبَابرة، فقيل له: هاهنا رجلٌ معه امرأةٌ من أحسن الناس، فأرسلَ إليه وسألَه عنها، فقال: منْ هذه؟ قال: أختي، فأتى سارَة، فقال: يا سارَةُ ليس على وجهِ الأرضِ مؤمنٌ غيري
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 643).
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 45 - 46).
(3)
كذا في ب. وفي أ: على قومها دينهم.
(4)
كذا في أ و ب وتفسير الطبري (9/ 46) وبهامشه: كذا في الأصل، وفي ابن كثير على أن يفرَّ بها. ومعنى: ألا يُغيِّرها: ألا يُطلِّقها، ولا يتزوج عليها غيرها إلا بإذنها.
وغيركِ، وإنَّ هذا سألني فأخبرتُه أنَّك أُختي فلا تُكذِّبيني، فأرسلَ إليها، فلما دَخَلَتْ عليه ذهبَ يتناولُها بيده، فأخذ. فقال: ادعي اللّهَ لي ولا أضرُّك، فدعت اللّهَ فأُطلقَ، ثمَّ تناولَها الثانيةَ فأُخذَ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي اللّه لي ولا أضرُّكِ فدعتْ فأطلق، فدعا بعضَ حَجَبَتِه، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسانٍ وإنما أتيتموني بشيطان، فأخدمَها هاجرَ، فأتته وهو قائمٌ يُصلِّي، فأومأ بيده: مَهْيم. فقالت: ردَّ اللّه كيدَ الكافر - أو الفاجر - في نَحْرِه، وأخدمَ هاجرَ. قال أبو هريرة: فتلكَ أمُّكم يا بني ما
(1)
السما
(2)
. تفرَّد به من هذا الوجه موقوفًا.
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزَّار: عن عمرو بن علي الفَلّاس، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسَّان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ إبراهيمَ لم يكذبْ قطُّ إلا ثلاثَ كذبات، كلُّ ذلك في ذات اللّه، قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وبينما هو يسيرُ في أرضِ جبَّار من الجَبابرة، إذ نزلَ منزلًا، فأتي الجبَّارُ فقيل له: إنَّه قد نزلَ هاهنا رجلٌ معه امرأةٌ من أحسنِ النَّاس. فأرسلَ إليه، فسأله عنها، فقال: إنَّها أُختي. فلما رجعَ إليها، قال: إنَّ هذا سألني عنكِ، فقلتُ: إنَّك أختي، وإنه ليس اليومَ مسلمٌ غيري وغيرك، وإنك أختي فلا تُكذِّبيني عندَه، فانطلقَ بها، فلما ذهبَ يتناولها أُخذ، فقال: ادعي اللّه لي ولا أضرُّك فدعتْ له فأُرسل، فذهبَ يتناولُها فأُخذ مثلَها أو أشدَّ منها، فقال: ادعي اللّه لي ولا أضرُّك، فدعتْ فأُرسل، ثلاث مرات. فدعا أدنى حَشَمِه، فقال: إنك لم تأتني بإنسان ولكنْ أتيتني بشيطان، أخرجْها وأعطِها هاجرَ. فجاءتْ وإبراهيمُ قائمٌ يُصلِّي، فلمّا أحسنَ بها انصرفَ، فقال: مَهْيَم؟ فقالت: كفى اللّه كَيْدَ الظَّالمِ، وأخْدمني هاجرَ
(3)
.
(1)
في هامش ب: قال الجلال السيوطي في "مختصر النهاية" يا بني ماء السماء: يُريد العربَ، لأنهم كانوا يتبعون قطرَ الماء، فينزلون حيث كان.
(2)
أخرجه البخاري (3358) في الأنبياء. وقوله: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" قال ابن عقيل: دلالة بالعقل تصرف ظاهر إطلاق الكذب على إبراهيم. وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقًا به ليعلم صدق ما جاء به عن اللّه، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، وإنما أطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام يعني إطلاق الكذب على ذلك - إلا في حال شدة الخوف لعلو مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعًا لأعظمهما، وأما تسمية إياها كذبات، فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب وإن قبيحًا مخلًا، لكنه قد يحسن في مواضع، وهذا منها. فتح الباري (6/ 392).
(3)
أخرجه ابن حبان في صحيحه وإسناده عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (5737) الإحسان وهو في مصنف عبد الرزاق (20195) ومن طريقه أخرجه أحمد (6/ 152) وأبو داود (2212) في الطلاق، والنسائي في فضائل الصحابة (296)، والبيهقي (10/ 196) في السنن الكبرى.
وأخرجا
(1)
من [غير] حديث هشام.
ثم قال البزار: لا نعلمُ أسندَه عن محمد، عن أبي هريرة، إلا هشام، ورواه غيره موقوفًا
(2)
.
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عليُّ بن حَفْص، عن ورقاء - هو ابن عمر اليشكري
(3)
- عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لم يكذبْ إبراهيمُ إلا ثلاثَ كذبات: قوله حين دُعي إلى آلهتهم، فقال:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وقوله لسارة: إنها أختي. قال: ودخلَ إبراهيمُ قريةً فيها مَلِكٌ من الملوك - أو جبَّار من الجبابرة - فقيل: دخلَ إبراهيمُ الليلةَ بامرأة من أحسنِ النَّاس. قال: فأرسل إليه المَلكُ - أو الجبَّارُ - مَنْ هذه معكَ؟ قال: أختي. قال: فأرسلْ بها. قال: فأرسلَ بها إليه، وقال: لا تُكذِّبي قَوْلي فإني قد أخبرتُه أنَّك أختي، إنْ على الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك. فلما دخلتْ عليه قامَ إليها، فأقبلتْ توضأ وتُصلِّي، وتقول: اللهم إن كنتَ تعلمُ أني آمنتُ بك وبرسولكَ، وأحصنتُ فرجي إلا على زَوْجي، فلا تُسلِّط عليَّ الكافر. قال: فغطَّ
(4)
حتَّى ركضَ برجله". قال أبو الزناد: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: إنها قالت: اللَّهُمَّ إن يمتْ يُقَل: هي قتلته. قال: فأُرسل. قال: ثم قامِ إليها. قال: فقامتْ توضَّأ وتُصلِّي وتقول: اللهم إن كنتَ تعلمُ أني آمنتُ بكَ وبرسولكَ، وأحصنتُ فرْجي إلا على زَوْجي فلا تُسلِّطْ عليَّ الكافرَ. قال: فغطَّ حتى ركضَ برجلهِ. قال أبو الزناد: وقال أبو سلمة: عن أبي هريرة: إنها قالت: "اللهم إن يمتْ يقل هي قتلته". قال: فأُرسل، قال: فقال في الثالثة - أو الرابعة - ما أرسلتُم إليّ إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيمَ، وأعطوها هاجرَ. فالَ: فرجعتْ، فقالت لإبراهيم: أشَعَرْتَ أن اللّه ردَّ كيدَ الكافرين، وأخدم وليدةً
(5)
. تفرَّد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح.
وقد رواه البخاري
(6)
عن أبي اليمان، عن شُعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصرًا.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا سفيان، عن عليِّ بن زيد بن جدعان، عن أبي نَضْرة، عن
(1)
أخرجه البخاري (5084) في النكاح، ومسلم (2371) في الفضائل.
(2)
أقول: رواه مرفوعًا أيضًا جرير بن حازم عن أيوب، عن ابن سيرين، وروايته في الصحيحين كما في الذي قبله.
(3)
كذا في ب، وفي أ: هو ابن عمر التسكيك، وهو خطأ.
(4)
"فغطَّ": أي نام حتى سُمعَ غطيطه، والغطيط: الصوت الذي يخرجُ مع نَفَس النائم، وهو ترديده حيث لا يجدُ مساغًا. وركض برجله: ضرب بها، وهو دليل الاستغراق بالنوم.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 403 - 404)، وهو حديث صحيح.
(6)
أخرجه البخاري (3166) في التفسير.
أبي سعيد، قال: قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في كلماتِ إبراهيمَ الثلاث التي قال: "ما منها كلمةٌ إلا ما حلَ
(1)
بها عن دين اللّه، فقال:(إني سقيم) وقال: (بل فعلَه كبيرهم هذا) وقال للمَلك حين أراد امرأته: هي أختي"
(2)
.
فقوله في الحديث: "هي أُختي" أي: في دين اللّه، وقوله لها:"إنه ليس على وجهِ الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك" يعني: زوجين مؤمنين غيري وغيرك، ويتعيَّنُ حملُه على هذا، لأنَّ لوطًا كانَ معهم، وهو نبيٌّ عليه السلام.
وقوله لها لما رجعتْ إليه: مَهْيَم، معناه: ما الخبرُ؟ فقالت: إن اللّه رد كيد الكافرين. وفي رواية: الفاجر، وهو الملك، وأخدمَ جاريةً.
وكان إبراهيمُ عليه السلام من وقتِ ذهبَ بها إلى الملك قامَ يُصلِّي للّه عز وجل، ويسألُه أن يدفعَ عن أهله، وأن يردَّ بأسَ هذا الذي أراد أهله بسوءً. وهكذا فعلتْ هي أيضًا، فلما أرادَ عدوُّ اللّه أن ينالَ منها أمرًا، قامت إلى وضوئها وصَلاتها، ودعتِ اللّه عز وجل بما تقدَّم من الدعاء العظيم. ولهذا قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فعصمها اللّه وصانَها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهبَ بعضُ العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة: سارَة، وأمُّ موسى، ومريم عليهنَّ السلام. والذي عليه الجمهور أنهنَّ صِدِّيقَات رضي الله عنهن وأرضاهن.
ورأيتُ في بعض الآثار: أنَّ اللّه عر وجل كشف الحجابَ فيما بين إبراهيمَ عليه السلام وبينَها، فلم يزلْ يراها منذ خرجتْ من عنده إلى أن رجعتْ إليه، وكان مُشاهدًا لها وهي عند المَلِكِ، وكيف عصمَها اللّه منه، ليكون ذلك أطيبَ لقلبه وأقرَّ لِعَيْنه، وأشدَّ لطمأنينته، فإنه كان يُحبُّها حبًّا شديدًا لدينها، وقرابتها منه، وحُسْنها الباهر، فإنَّه قد قيل: إنه لم تكن امرأةٌ بعد حوَّاء إلى زمانها أحسنَ منها رضي الله عنها، وللّه الحمدُ والمنَّةُ.
وذكر بعضُ أهل التواريخ: أن فرعونَ مصرَ هذا كان أخًا للضحَّاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملًا لأخيه على مصر.
ويُقال: كان اسمُه سنان بن عُلوان بن عُبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح.
وذكرَ ابن هشام في "التيجان": أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ، وكان على مصر، نقله السهيلي، فاللّه أعلم.
(1)
في هامش ب قال السيوطي في "مختصر النهاية": ما حلَّ: أي دافعَ وجادلَ.
(2)
ذكره السهيلي في الروض الأنف (1/ 94).
ثم إن الخليل عليه السلام رجعَ من بلاد مصر إلى أرض التَّيمُّن، وهي الأرض المقدسة، التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجرُ القبطية المصرية.
ثمَّ إنَّ لوطًا عليه السلام نزحَ بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور، المعروف بغور زغر
(1)
، فنزل بمدينة سدوم
(2)
، وهي تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشرارًا كفَّارًا فخارًا، وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمدَّ بصرَه وينظرَ شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وبشَّره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذُريَّتكَ حتَّى يَصيروا بعدد تُراب الأرض.
وهذه البشارة اتَّصلتْ بهذه الأمة، بل ما كملتْ ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمَّدية، يُؤِّيد ذلك قولُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللّه زوى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وسيبلغُ ملكُ أُمَّتي ما زوي لي منها"
(3)
.
قالوا: ثمَّ إنَّ طائفة من الجبَّارين تسلَّطوا على لوط عليه السلام فأسروه، وأخذوا أموالَه، واستاقوا أنعامه، فلما بلغَ الخبرُ إبراهيمَ الخليل، سارَ إليهم في ثلاثمئة وثمانية عشر رجلًا، فاستنقذ لوطًا عليه السلام، واسترجعَ أموالَه، وقتل من أعداء اللّه ورسوله خلقًا كثيرًا، وهزمَهم، وساقَ في آثارِهم حتى وصلَ إلى شرقيّ دمشق، وعسكرَ بظاهرها عند برزه
(4)
، وأظنُّ مقام إبراهيم إنما سُمِّي، لأنه كان موقفَ جيش الخليل، والله أعلم.
ثم رجعَ مؤيَّدًا منصورًا إلى بلاده، وتلفاه ملوكُ بلاد بيت المقدس مُعظِّمين له، مُكرِّمين، خاضعين، واستقرَّ
(5)
ببلاده، صلوات اللّه وسلامه عليه.
* * *
(1)
في هامش أ: صغر.
(2)
"سدوم": مدينة من مدائن قوم لوط.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 278 و 284) ومسلم (2889) في الفتن وأشراط الساعة، والترمذي (2176) في الفتن، وابن ماجة (3952) في الفتن، من حديث ثوبان، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(4)
"برزة": قرية من غوطة دمشق، تقع في الشمال الشرقي من المدينة، وقد اتصل بناء المدينة بها.
(5)
كذا في ب، وفي أ: استر، وهو تصحيف.
ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر
قال أهلُ الكتاب: إنَّ إبراهيمَ عليه السلام سألَ اللّه ذريَّةً طيِّبةً، وإنَّ اللّهَ بشرَّه بذلك، وإنه لما كان لإبراهيم ببلاد بيت المقدس عشر سنين، قالتْ سارَة لإبراهيم عليه السلام: إنَّ الربَّ قد أحرمني الولدَ، فادخلْ على أَمَتِي هذه لعلَّ اللّه يرزقنا منها ولدًا، فلمَّا وهَبَتْهَا له دخلَ بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخلَ بها حملتْ منه. قالوا: فلما حمَلَتْ ارتفعتْ نفسُها، وتعاظمتْ على سيِّدتها، فغارتْ منها سارَةُ، فشكتْ ذلك إلى إبراهيم، فقال لها: افعلي بها ما شئتِ، فخافتْ هاجرُ فهربتْ فنزلتْ عند عَيْنٍ هناكَ، فقال لها ملَكٌ من الملائكة: لا تخافي فإنَّ اللّه جاعلٌ من هذا الغلام الذي حمَلْتِ خيرًا، وأمرَها بالرجوع، وبشَّرها أنها ستلدُ ابنًا وتُسمِّيه إسماعيل، ويكونُ وحشَ النَّاس، يدهُ على الكُلِّ، ويدُ الكُلِّ به، ويملكُ جميعَ بلاد إخوته. فشكرتِ اللّه عز وجل على ذلك.
وهذه البشارةُ إنما انطبقتْ على ولدِه محمَّد صلواتُ اللّه وسلامه عليه، فإنه الذي سادتْ به العربُ، وملكت جميعَ البلاد غربًا وشرقًا، وآتاها اللّه من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تُؤْتَ أُمَّة من الأمم قبلَهم، وما ذاكَ إلا بشرفِ رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالتِه، ويُمْن بشارتِه، وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض.
ولما رجعتْ هاجَرُ وضعتْ إسماعيلَ عليه السلام. قالوا: وولدثْه ولإبراهيمَ من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
ولما ولد إسماعيل أوحى اللّه إلى إبراهيم يُبَشِّرُه بإسحاق من سارَة، فخرَّ للّه ساجدًا، وقال له: قد استجبتُ لك في إسماعيل، وباركتُ عليه وكثَّرتُه ونمَّيتُه جدًّا كثيرًا، ويُولد له اثنا عشر عظيمًا، وأجعله رئيسًا لشعب عظيم.
وهذه أيضًا بشارةٌ بهذه الأُمَّة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيمًا هم الخلفاء الراشدون، الاثنا عشرَ المُبشَّر بهم في حديث عبد الملك بن عُمير، عن جابر بن سَمُرة، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"يكونُ اثنا عشرَ أميرًا" ثم قالَ كلمةً لم أفهمْها، فسألتُ أبي: ما قال؟ قال: "كلهم من قريشٍ" أخرجاه في الصحيحين
(1)
.
وفي رواية: "لا يزالُ هذا الأمرُ قائمًا - وفي رواية: عزيزًا - حتى يكونَ اثنا عشر خليفة، كلُّهم من قريش"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (7222 و 7223) في الأحكام، ومسلم (1821) في الإمارة عن جابر بن سَمُرة.
(2)
أخرجه مسلم (1821)(6) في الإمارة.
فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة: أبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، وعلي!. ومنهم: عمر بن عبد العزيز أيضًا. ومنهم بعضُ بني العبَّاس، وليس المرادُ أنهم يكونون اثني عشر نسقًا، بل لا بُدَّ من وجودِهم.
وليس المرادُ الأئمة الاثني عشر الذين يعتقدُ فيهم الرافضةُ، الذين أوَّلُهم على بن أبي طالب، وآخرُهم المنتظَرُ بسِرْدابِ سامراء
(1)
، وهو محمَّدُ بن الحسن العسكري فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من عليّ، وابنه الحسن بن عليٍّ حين تركَ القِتالَ وسلَّمَ الأمر لمعاوية، وأخمدَ نار الفتنة، وسَكَنَ رحى الحروب بين المسلمين، والباقون من جُملة الرعايا، لم يكن لهم حكمٌ على الأمة في أمر من الأمور. وأما ما يعتقدونَه بسرداب سامراء، فذاكَ هَوَسٌ في الرؤوس، وهَذَيانٌ في النفوس، لا حقيقةَ له ولا عين ولا أثر.
والمقصودُ أنَّ هاجرَ عليها السلام لما وُلدَ لها إسماعيلُ، اشتدَّتْ غيرةُ سارَةَ منها، وطلبتْ من الخليل أن يُغيبَ وجهَها عنها، فذهبَ بها وبولدِها، فسارَ بهما حتى وضعَهما حيث مكَّة اليوم. ويُقال: إنَّ ولدَها كان إذ ذاكَ رضيعًا.
فلمَّا تركَهما هناكَ وولَّى ظهرَه، قامت إليه هاجرُ، وتعلَّقتْ بثيابه، وقالت: يا إبراهيم! أين تذهبُ وتدَعُنا هاهنا؛ وليس معنا ما يكفينا، فلم يُجبْها، فلمَّا ألَّحتْ عليه وهو لا يُجيبها، قالت له: آللّه أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فإذًا لا يُضيعُنا.
وقد ذكرَ الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب "النوادر" أنَّ سارَةَ تغضَّبتْ على هاجرَ، فحلفتْ لتقطعنَّ ثلاثةَ أعضاء منها، فأمرَها الخليلُ أن تَثقب أُذنيْها، وأن تخفضَها
(2)
، فتبرَّ قَسَمها.
قال السهيلي: فكانت أوَّلَ من اختتن من النساء، وأَوَّلَ من ثُقبت أُذُنُها منهن، وأوَّل من طَوَّلت ذَيْلها.
* * *
ذكر مُهاجرة إبراهيمَ بابنه إسماعيل وأمّه هاجر إلى جبال فاران، وهي أرضُ مكّة وبنائه البيتَ العتيق
قال البخاري
(3)
: قال عبدُ اللّه بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حَدَّثَنَا عبد الرزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمرُ، عن أيُّوبَ السِّختيانيِّ وكثيرٍ بن كَثير بن المُطَّلب بن أبي وَداعة - يزيدُ أحدُهما على الآخر - عن سعيدِ بن
(1)
"سامراء": وهي مدينة سُرَّ من رأى، وتقع شرقي دجلة، بناها المعتصم، وفيها السرداب المعروف في جامعها، الذي تزعم الشيعة أنَّ مهديَّهم يخرج منه.
(2)
"تخفضها": من الخَفْض وهو الختان للنساء، يُقال: خفض الصبيَّة، ختنها.
(3)
في صحيحه (3364) في الأنبياء.
جُبَيْرِ، عن ابن عبَّاس، قال: أوَّلُ ما اتَّخذَ النِّساءُ المِنْطَق
(1)
من قِبَلِ أُمِّ إسماعيلَ، اتَّخذتْ مِنْطقًا، لتُعفِّيَ أثرَها على سارَة، ثمَّ جاءَ بها إبراهيمُ وبابنها إسماعيلَ، وفي ترضِعُه، حتَّى وضعَهما عندَ البيت، عند دَوْحةٍ
(2)
فوق زمزمَ في أعلى المسجد، وليس بمكَّةَ يومئذٍ أحد، وليس بها ماءٌ، فوضعَهما هنالك، ووضعَ عندَهما جرابًا فيه تمرٌ، وسِقاء
(3)
فيه ماءٌ، ثم قفَّى
(4)
إبراهيمُ مُنْطلقًا، فتبعتْه أمُّ إسماعيلَ، فقالتْ: يا إبراهيمُ أين تذهبُ وتترُكنا بهذا الوادي الذي ليس به إنسٌ ولا شيء؛ فقالت له لك مرارًا، وجعل لا يلتفتُ إليها، فقالتْ له آللّهُ أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يُضيِّعُنا، ثم رجعتْ.
فانطلقَ إبراهيمُ حتَّى إذا كان عند الثنيَّة حيث لا يَرَونه، استقبلَ بوجههِ البيتَ، ثم دعا بهؤلاء الدَّعواتِ، ورفع يَدَيْه، فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وجعلتْ أمُّ إسماعيل تُرْضعُ إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السِّقاء عَطِشتْ، وعَطِشَ ابنُها، وجعلتْ تنظرُ إليه يتلوَّى - أو قال يتلبَّط
(5)
- فانطلقتْ كراهيةَ أنْ تنظرَ إليه، فوجدت الصَّفا أقربَ جَبَل في الأرض يليها، فقامتْ عليه ثمَّ استقبلتِ الوادي تنظرُ هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطتْ من الصَّفا حتى إذا بلغتِ الوادي رفعتْ طرفَ دِرْعها، ثم سعتْ سعيَ الإنسانِ المجهودِ، حتى إذا جاوزتِ الوادي، ثم أتتِ المروةَ فقامتْ عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم ترَ أحدًا، ففعلتْ ذلك سبعَ مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "فلذلك سعى الناس بينهما"
(6)
.
فلما أشرفتْ على المروة سمعتْ صوتًا، فقالت: صهٍ - تريد نفسها - ثم تسمَّعتْ فسمعتْ أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ، فإذا هي بالملك عند مَوْضعِ زمزمَ، فبحثَ بعَقبِه - أو قال بجناحه - حتَّى ظهرَ الماءُ، فجعلتْ تحوِّضه
(7)
، وتقول بيدها هكذا، وجعلتْ تغرفُ من الماء في سِقائها، وهي تفورُ بعدما تَغْرِفُ.
(1)
"المِنْطَق": ما يُشدُّ به الوسط.
(2)
"دوحة": شجرة كبيرة.
(3)
"سقاء": قربة صغيرة.
(4)
"قفَّى": ولَّى راجعًا.
(5)
"يتلبَّط": يتمرَّغ، ويضرب بنفسه الأرض.
(6)
في أ: عليهما.
(7)
"تحوِّضُه": تجعله مثل الحوض.
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحمُ اللّه أمَّ إسماعيل لو تركت زمزم" أو قال: "لو لم تغرفْ من الماء، لكانت زمزمُ عينًا معينًا"
(1)
.
فشربتْ وأرضعتْ ولدَها، فقال لها الملَكُ: لا تخافي الضَّيْعة
(2)
، فإن هاهنا بيتَ اللّه، يبني هذا الغلامُ وأبوه، وإنَّ اللّه لا يُضيْعُ أهله. وكانَ البيتُ مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السُّيولُ، فتأخذُ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مَرَّتْ بهم رُفْقةٌ من جُرْهم - أو أهل بيتِ من جرهم - مقبلينَ من طريق كَداء، فنزلوا في أسفل مكَّة، فرأوا طائرًا عائفًا
(3)
، فقالوا: إن هذا الطَّائرَ ليدورُ على الماء، لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًّا
(4)
، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا. قال: وأُمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: تأذنينَ لنا أن ننزلَ عندك؛ قالت: نعم، ولكنْ لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم.
قال عبد الله بن عبَّاس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أُمَّ إسماعيلَ وهي تُحبُّ الأُنْسَ".
فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان لها أهلُ أبياتٍ منهم، وشبَّ الغُلامُ، وتعلَّمَ العربيةَ منهم، وأنفسهم وأعجبَهم حينَ شبَّ فلما أدركَ زوَّجُوهُ امرأةً منهم.
وماتتْ أُمُّ إسماعيل، فجاء إبراهيمُ بعدما تزوَّجَ إسماعيل يُطالعُ تَرِكته، فلم يجدْ إسماعيلَ، فسألَ امرأته عنه، فقالتْ: خرجَ يبتغي لنا. ثمَّ سألَها عن عَيْشهم وهَيْئَتهم، فقالت: نحن بشَرٍّ، نحن في ضيقٍ وشدَّةٍ، وشَكَتْ إليه. قال: فإذا جاء زوجُكِ فاقرئي عليه السلام وقولي له يُغَيِّرْ عَتَبة بابه. فلما جاء إسماعيلُ كأنَّهُ آنسَ شيئًا، فقال: هل جاءَكُمْ من أحدٍ؟ فقالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنكَ فأخبرتُه، وسألني كيف عَيْشُنا، فأخبرتُه أنَّا في جَهْدٍ وشدَّةٍ. قال: فهل أوصاك بشيءٍ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأَ عليكَ السَّلام ويقولُ لك: غَيِّر عتبةَ بابكَ. قال: ذاكَ أبي، وأمرني أن أُفارقَكِ، فألحقي بأهلِكِ. فطلَّقها، وتزوَّج منهم أخرى ولبثَ عنهم إبراهيم ما شاء اللّه.
ثم أتاهم بعدُ فلم يجدْه، فدخلَ على امرأتِه، فسألَها عنه، فقالت: خرجَ يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألَها عن عَيْشهم وهَيْئَتهم، فقالت: نحنُ بخيرٍ وسَعَةٍ، وأثنتْ على اللّه، فقال: ما طعامُكم؟ قالت: اللَّحْمُ. قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللَّهُمَّ باركْ لهم في اللَّحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذٍ حَبٌّ، ولو كان لهم حَبٌّ لدعا لهم فيه، فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكَّةَ إلا لم يوافقاه".
(1)
"معينًا": ظاهرًا جاريًا على وجه الأرض.
(2)
"الضيعة": الهلاك.
(3)
"عائفًا": الطائر الذي يحوم على الماء، ويتردد فوقه، ولا يمضي عنه.
(4)
"جريًّا": رسولًا.
قال: فإذا جاء زوجُكِ فاقرئي عليه السلام، ومُريه يُثبِّتْ عَتَبَة بابه. فلمَّا جاءَ إسماعيلُ قال: هل أتاكُم من أحدٍ؟ قالت: نعم، أتانا شيخٌ حَسَنُ الهيئةِ، وأثنتْ عليه، فسألني عنكَ فأخبرته، فسألني كيف عَيْشُنا، فأخبرتُه أنَّا بخيرٍ قال: فأوصاكِ بشيءَ؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليكَ السَّلام، ويأمُركَ أنْ تُثَبِّتَ عَتَبَة بابكَ. قالَ: ذاك أبي، وأمرني أن أُمْسككِ.
ثم لبثَ عنهم ما شاءَ اللّه، ثم جاءَ بعد ذلك وإسماعيلُ يبري نَبْلًا له تحت دوحةٍ قريبًا من زمزمَ، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنعُ الولدُ بالوالد والوالدُ بالولد. ثم قال: يا إسماعيلُ! إنَّ اللّه أمرني بأمرٍ. قال: فاصنعْ ما أمركَ به ربُّك. قال: وتُعينني؟ قال: وأُعينك. قال: فإنَّ اللّهَ أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمةً
(1)
مرتفعةٍ على ما حَوْلها. قال: فعند ذلك رفعا القواعدَ من البيتِ، فجعلَ إسماعيلُ يأتي بالحجارةِ وإبراهيمُ يبني، حتَّى إذا ارتفعَ البناءُ جاء بهذا الحَجَر فوضعَه له، فقامَ عليه وهو يبني، وإسماعيلُ يُناوله الحجارةَ، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] قال: وجعلا يَبنيان حتى يدورا حولَ البيت، وهما يقولان:{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] ".
ثم قال
(2)
: حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن محمّد، حَدَّثَنَا أبو عامر عبدُ الملك بن عمرو، حَدَّثَنَا إبراهيمُ بن نافع، عن كثيرِ بن كثيرِ، عن سعيدِ بن جُبَيْرٍ، عن ابن عبَّاس قالَ: لما كان من إبراهيم وأهله ما كان، خرجَ بإسماعيل وأمِّ إسماعيل ومعهم شَنَّةٌ
(3)
فيها ماء .. وذكرَ تمامه بنحو ما تقدَّم.
وهذا الحديثُ من كلام ابن عباس، وموشَّحٌ برفع بعضِه، وفي بعضه غَرَابةٌ، وكأنَّه مما تلقَّاه ابنُ عبَّاس عن الإسرائيليات، وفيه: أن إسماعيلَ كان رضيعًا إذ ذاك.
وعند أهل التوراة أنَّ إبراهيمَ أمره بأن يختنَ ولدَه إسماعيل، وكلَّ منْ عنده من العبيد وغيرهم، فختنَهم، وذلك بعد مُضيِّ تسع وتسعينَ سنةً من عُمره، فيكون عمرُ إسماعيلَ يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنة، وهذا امتثالٌ لأمر اللّه عز وجل في أهله، فيدلُّ على أنَّه فعله على وجْهِ الوجوب، ولهذا كانَ الصحيحُ من أقوالِ العلماء أنَّه واجبٌ على الرجال، ما هو مقرَّر في موضعه.
وقد ثبتَ في الحديث الذي رواه البخاريُّ
(4)
: حَدَّثَنَا قُتيبة بن سعيد، حَدَّثَنَا مغيرةُ بنُ عبد الرحمن القُرشيُّ، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "اختتنَ إبراهيمُ النبيُّ
(1)
"أكمة": المرتفع من الأرض.
(2)
أخرجه البخاري (3365) في الأنبياء.
(3)
"شنة": قربة عتيقة.
(4)
في صحيحه (3356).
عليه السلام وهو ابنُ ثمانين سنة بالقَدُوم". تابعَه عبدُ الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزِّناد، وتابعَه عَجْلان عن أبي هريرة، ورواه محمَّدُ بن عمرٍو عن أبي سلمةَ عن أبي هريرة.
وهكذا رواه مسلم
(1)
: عن قُتَيْبة به.
وفي بعض الألفاظ: "اختتن إبراهيمُ بعدما أتتْ عليه ثمانونَ سنةً، واختتنَ بالقَدُوم"
(2)
والقَدُوم هو الآلة، وقيل: موضع.
وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين، والله أعلم، لما سيأتي من الحديث عند ذِكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اختتن إبراهيمُ وهو ابنُ مئةٍ وعشرينَ سنةً، وعاشَ بعد ذلك ثمانينَ سنة" رواه ابن حبَّان في "صحيحه"
(3)
.
وليس في هذا السِّياق ذِكْرُ قصَّة الذبيح، ولم يذكره في قدماتِ إبراهيمَ عليه السلام إلا ثلاثَ مرات، أُولاهنَّ بعد أن تزوَّج إسماعيلُ بعدَ موت هاجرَ، وكيف تركهم من حيث صِغَر الولد على ما ذكرَ إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم. وقد ذُكرَ أن الأرض كانت تُطوى له، وقيل: إنه كان يركبُ البراقَ إذا سارَ إليهم، فكيف يتخلَّفُ عن مُطالعة حالهم وهم في حال الضَّرورة الشديدة والحاجة الأكيدة. وكأنَّ بعضَ هذا السِّياق مُتلقَّى من الإسرائيلياتِ، ومُطرَّز بشيءٍ من المرفوعاتِ، ولم يذكرْ فيه قصَّة الذبيح، وقد دلَّلنا على أن الذبيحَ هو إسماعيلُ على الصحيح في سورة
(4)
الصافات.
* * *
قصة الذبيح
قال الله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
(1)
أخرجه مسلم (2370) في الفضائل.
(2)
أخرجه مسدد في مسنده، كما في فتح الباري (6/ 390).
(3)
الإحسان (6204).
(4)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 23 - 24).
مُبِينٌ} [الصافات: 99 - 113]. يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لمَّا هاجرَ من بلاد قومِه سألَ ربَّه أن يهبَ له ولدًا صالحًا، فبشَره اللّه تعالى بغلامٍ حليمٍ، وهو إسماعيلُ عليه السلام، لأنَّه أَوَّلُ منْ وُلد له على رأسِ ستٍّ وثمانين سنةً من عُمُرِ الخليل، وهذا ما لا خلافَ فيه بين أهل المِلَلِ، لأنَّه أَوَّلُ ولدِه وبكِرُه.
وقوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] أي شبَّ وصار يَسعى في مَصَالحه كأبيه، قال مجاهد
(1)
: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] أي: شبَّ وارتحلَ، وأطاقَ ما يفعلُه أبوه من السعي والعمل.
فلما كان هذا أُري إبراهيمُ عليه السلام في المنام أنَّه يُؤمر بذبح ولده هذا، وفي الحديث عن ابن عبَّاس مرفوعًا "رؤيا الأنبياء وحي"
(2)
قاله عُبيد بن عُمَيْر
(3)
أيضًا.
وهذا اختبارٌ من اللّه عز وجل لخليله في أنْ يذبحَ هذا الولد العزيز، الذي جاءه على كِبَبر وقد طَعَن في السِّنِّ، بعدما أُمر بأن يُسْكنه هو وأمَّه في بلادٍ قَفْرٍ، ووادٍ ليس به حسيسٌ ولا أنيسِ، ولا زَرْعٌ ولا ضَرْعٌ. فامتثلَ أمرَ اللّه في ذلك، وتركَهما هناكَ ثقةً باللّه وتوكُّلا عليه، فجعلَ اللّه لهما فَرجًا ومَخرجًا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أُمرَ بعد هذا كلِّه بذبح ولدِه هذا الذي قد أفردَه عن أمر ربه، وهو بِكْرُه ووحيدُه الذي ليس له غيره، أجابَ ربَّه وامتثلَ أمرَه، وسارعَ إلى طاعتِه، ثم عرضَ ذلك على ولدِه ليكونَ أطيبَ لقلبه وأهونَ عليه يأخذه قَسْرًا ويذبَحه قَهْرًا {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] فبادرَ الغلامُ الحليمُ سرُّ والدِه الخليل إبراهيم فقال: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] وهذا الجواب في غاية السَّداد والطاعة للوالدِ ولربِّ العباد.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، قيل: أسلما، أي: استسلما لأمر اللّه وعزَما على ذلك، وقيل: هذا من المقدَّم والمؤخَّر، والمعنى: تلَّه للجبين: أي ألقاه على وجهه. قيل: أراد أن يذبحَه من قفاه لئلا يُشاهده في حال ذَبْحِه، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضَّحَّاك. وقيل: بل أضجعه كما تُضْجَعُ الذبائحُ، وبقي طرفُ جبينه لاصقًا بالأرض. وأسلما: أي سمَّى إبراهيم وكبَّر، وتشهَّد الولدُ للموت. قال السُّدِّي وغيره: أمرَّ السكينَ على حَلْقِه فلم تقطعْ شيئًا. ويُقال: جعلَ بينها وبين حلقه صفيحةً منْ نُحاسٍ، فاللّه أعلم.
(1)
تفسير مجاهد (2/ 544).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (7/ 104).
(3)
أخرجه البخاري (138) في الوضوء. قال عمرو: سمعتُ عبيدَ بن عمرو يقول: رؤيا الأنبياء وحيٌ. ثم قرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102].
فعند ذلك نُودي من اللّه عز وجل {أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104، 105] أي: قد حصلَ المقصودُ من اختباركَ وطاعتكَ ومبادرتكَ إلى أمر ربِّكَ، وبَذْلكَ ولدَك للقربان، كما سمحتَ ببدنِكَ للنيران، وكما مَالُكَ مبدْولٌ للضِّيفان، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] أي: الاختبار الظاهر البيِّن. وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] أي: وجعلنا فداءَ ذبح ولدِه ما يسَّره الله تعالى له من العِوَضِ عنه. والمشهورُ عن الجمهور أنه كَبْشٌ أبْيضُ أعْيَنٌ
(1)
أقْرَنٌ
(2)
، رآه مربوطًا بسمُرةٍ
(3)
في ثبير
(4)
.
قال الثوري: عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كَبْشٌ قد رعى في الجنَّة سبعين خريفًا
(5)
.
وقال سعيد بن جبير: كان يرتعُ
(6)
في الجنَّة حتى تشقَّقَ عنه ثبير، وكان عليه عِهْنٌ
(7)
أحمر.
وعن ابن عباس: هبطَ عليه من ثبير كَبْشٌ أعينُ أقرنُ له ثُغاءٌ فذبحَه، وهو الكبشُ الذي قرَّبه ابنُ آدم، فَتُقُبِّلَ منه. رواه ابن أبي حاتم
(8)
.
قال مجاهد
(9)
: فذبحَه بمنى. وقال عبيد بن عُمير
(10)
: ذبح بالمقام.
فأما ما رُوي عن ابن عبَّاس: أنَّه كان وعلًا، وعن الحسن: أنَّه كان تَيْسًا من الأروى، واسمه جرير، فلا يكاد يَصِحُّ عنهما، ثم غالب ما هاهنا من الآثار مأخوذٌ من الإسرائيليات، وفي القرآن كفايةٌ عما جرى من الأمر العظيم، والاختبار الباهر، وأنه فُدِيَ بذبحٍ عظيمٍ، وقد وردَ في الحديث أنَّه كان كبشًا.
قال الإمام أحمد
(11)
: حَدَّثَنَا سفيان، حَدَّثَنَا منصور، عن خاله نافع، عن صفيَّة بنت شيبةَ، قالت: أخبرتني امرأة من بني سُليم وَلَّدَتْ عامَّة أهل دارنا، قالت: أرسلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عثمانَ بن طلحة.
(1)
"أعين": واسع العينين.
(2)
"أقرن": طويل القرنين.
(3)
"سَمُرة": شجرة من شجر السَّمُر.
(4)
"ثبير": جبل بمكة.
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (7/ 113) وفيه: أربعين خريفًا.
(6)
يرتع: يأكل ويشرب ما شاء في خصب وسعة.
(7)
"عهن": صوف.
(8)
أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 113).
(9)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 515).
(10)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 515).
(11)
في المسند (68/ 4) و (5/ 380).
وقالت مرَّة: إنَّها سألتْ عثمانَ: لِمَ دعاكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: "إنِّي كنتُ رأيتُ قَرْني الكبش حين دخلتُ البيتَ، فنسيتُ أنْ آمرَك أنْ تُخَمِّرَهُما فَخَمِّرْهُما، فإنَّه لا ينبغي أن يكونَ في البيت شيءٌ يَشغلُ المصلِّي". قال سفيان: لم تزلْ قرنا الكبش في البيت حتَّى احترقَ البيتُ فاحترَقا.
وهذا رُوي عن ابن عبَّاس: أنَّ رأسَ الكَبْش لم يزلْ مُعلَّقًا عند ميزاب الكعبة قد يبسَ.
وهذا وحده دليلٌ على أنَّ الذبيحَ إسماعيلُ، لأنه كانَ هو المقيمُ بمكَّةَ، وإسحاقُ لا نعلمُ أنَّه قدمها في حال صِغَره، واللّه أعلم. وهذا هو الظاهر من القرآن، بل كأنَّه نصٌّ على أنَّ الذبيحَ هو إسماعيلُ، لأنه ذكرَ قِصَّةَ الذبيح، ثم قال بعده:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] ومنْ جعله حالًا فقد تكلَّف، ومستنده أنَّه إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابُهم فيه تحريفٌ، ولاسيما هاهنا قطعًا لا محيدَ عنه، فإنَّ عندهم أنَّ اللّه أمرَ إبراهيمَ أنْ يذبحَ ابنَه وحيدَه، وفي نسخة من المعرَّبة: بكْرَه إسحاق. فلفظة إسحاق هاهنا مقحمةٌ مكذوبةٌ مفتراة، لأنه ليس هو الوحيدُ ولا البِكْرُ، ذاكَ إسماعيل.
وإنما حملَهم على هذا حَسْدُ العربِ، فإنَّ إسماعيلَ أبو العرب الذين يسكنون الحجازَ، الذين منهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وإسحاقُ والد يعقوب، وهو إسرائيل، الذين ينتسبونَ إليه، فأرادوا أنْ يجرّوا هذا الشرفَ إليهم، فحرَّفوا كلامَ اللّه، وزادُوا فيه، وهم قومٌ بُهْتٌ
(1)
، ولم يُقرُّوا بأنَّ الفضلَ بيد الله يُؤتيه من يشاءُ.
وقد قال بأنَّه إسحاق طائفةٌ كثيرةٌ من السَّلف، وغيرهم، وإنما أخذوه - واللّه أعلم - من كعب الأحبار، أو صُحُف أهل الكتاب، وليس في ذلك حديثٌ صحيحٌ عن المعصوم حتَّى نتركَ لأجله ظاهرَ الكتاب العزيز، ولا يُفهم هذا من القرآن بل المفهومُ، بل المنطوقُ، بل النَّصُّ عند التَّأمُّل على أنه إسماعيل.
وما أحسن ما استدلَّ محمَّدُ بن كعب القرظي
(2)
على أنه إسماعيل، وليس بإسحاق، من قوله:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] قال: فكيفَ تقعُ البشارةُ بإسحاق، وأنَّه سيولدُ له يعقوب، ثم يُؤمرُ بذبح إسحاق وهو صغيرٌ قبلَ أن يُولد له، هذا لا يكون، لأنَّه يُناقضُ البشارةَ المتقدِّمة، والله أعلم.
(1)
"بهت": باطل.
(2)
أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق (10/ 513).
[وقد اعترضَ السُّهيلي
(1)
على هذا الاستدلال بما حاصلُه: أن قوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] جملة تامة وقوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] جملة أخرى ليست في حيِّز البشارة. قال: لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكونَ مخفوضًا إلا أنْ يُعادَ معه حرفُ الجرِّ، فلا يجوز أن يُقالَ: مررت بزيد ومن بعده عمرو، حتى يُقال: ومن بعده بعمرو. وقال: فقوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] منصوبٌ بفعل مُضمَر، تقديرُه: ووهبنا لإسحاق يعقوبَ. وفي هذا الذي قالَه نظر.
ورجَّح أنَّه إسحاق، واحتجَّ بقوله:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] قال: وإسماعيلُ لم يكن عندَه، إنما كان في حال صِغَرِه هو وأمُّه بحيالِ مكَّةَ، فكيف يبلغُ معه السعي؟! وهذا أيضًا فيه نظرٌ، لأنه قد رُوي أنَّ الخليلَ كان يذهبُ في كثيرٍ من الأوقاتِ راكبًا البراقَ إلى مكَّة، يَطلع على ولده وأمته ثم يرجع، والله أعلم
(2)
.
فمن حُكي القولُ عنه بأنَّه إسحاق كعبُ الأحبار، ورُوي عن عمرَ، والعبَّاس، وعليّ، وابن مسعود، ومَسروق، وعِكرمة، وسعيد بن جبير، ومُجاهد، وعَطاء، والشَّعبي، ومُقاتل، وعُبيد بن عمر، وأبي مَيْسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شَقيق، والزُّهْري، والقاسم، وابن أبي بُرْدة، ومكحول، وعُثمان بن حاضر، والسُّدِّي، والحَسن، وقتادة، وأبي الهُذَيل، وابن سابط، وهو اختيارُ ابن جرير
(3)
، وهذا عَجبٌ منه، وهو إحدى الروايتين عن ابن عبَّاس، ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام. قال مجاهد، وسعيد، والشعبي، ويُوسف بن مهران، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس: هو إسماعيل عليه السلام.
وقال ابن جرير: حدَّثني يُونس، أنبأنا ابنُ وَهْب، أخبرني عَمْرو بن قَيْس: عن عطاء بن أبي رَباح، عن ابن عبَّاس: أنه قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنَّه إسحاق، وكذبت اليهود
(4)
.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد، عن أبيه: هو إسماعيل.
وقال ابنُ أبي حاتم: سألتُ أبي عن الذبيح، فقال: الصَّحيحُ أنه إسماعيل عليه السلام.
قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن عليٍّ، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطُّفَيْل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جُبير، والحسن، ومجاهد، والشَّعبي، ومحمد بن كعب، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح؛ أنَّهم قالوا: الذبيحُ هو إسماعيل عليه السلام.
(1)
انظر "التعريف والإعلام" بما أُبهم في القرآن من الأسماء والأعلام للسهيلي (ص 111) طبعة مكتبة الأزهر 1356 هـ.
(2)
ما بين قوسين أثبته من ب وهو في المطبوع، وقد سقط من أ.
(3)
انظر تفسير الطبري (10/ 510 - 513).
(4)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 513).
وحكاه البغويُّ أيضًا: عن الربيع بن أنس، والكلبي، وأبي عمرو بن العلاء.
قلت: ورُوي عن معاويةَ، وجاءَ عنه: أنَّ رجلًا قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا ابنَ الذبيحين" فضحكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وإليه ذهبَ عمرُ بن عبد العزيز، ومحمَّد بن إسحاق بن يسار.
وكان الحسنُ البصري يقول: لا شكَّ في هذا.
وقال محمَّدُ بن إسحاق: عن بريدة بن سفيان بن فروةَ الأسلميّ، عن محمد بن كعب: أنَّه حدَّثهم، أنَّه ذكرَ ذلك لعمرَ بن عبد العزيز وهو خليفةٌ، إذ كانَ معه بالشام [يعني استدلالَه بقوله بعد العصمة {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]
(2)
فقال له عمر: إنَّ هذا الشيءَ ما كنتُ أنظر فيه، وإني لأراه كما قلتَ، ثم أرسلَ إلى رجلٍ كان عنده بالشام، كان يهوديًا فأسلمَ وحَسُنَ إسلامُه، وكان يرى أنه من علمائهم، قال: فسأله عمرُ بن عبد العزيز: [عن ذلك. قال محمد بن كعب: وأنا عند عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر بن عبد العزيز:]
(3)
أيُّ ابني إبراهيم أُمرَ بذبحِه؟ فقال: إسماعيلُ والله يا أمير المؤمنين، وإنَّ يهودَ لتعلمُ بذلك، ولكنَّهم يحسدونَكم معشرَ العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر اله فيه، والفضل الذي ذكرَه الله منه لصبره لما أُمرَ به، فهم يَجحدون ذلك، ويزعمونَ أنَّه إسحاق، لأنَّ إسحاقَ أبوهم
(4)
.
وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلَّتها وآثارها في كتابنا التفسير
(5)
، وللّه الحمد والمنة.
* * *
ذكرُ مولد إسحاق
قال اللّه تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113].
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 554) وتعقبه الذهبي فقال: إسناده واهٍ.
(2)
ما بين الحاصرتين سقط من أ وب وأثبته من المطبوع، والعصمة: هي عصمة إسحاق من الذبح.
(3)
ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع.
(4)
أخرج القصة ابن جرير الطبري في تاريخه (1/ 270).
(5)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 23 - 24).
وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيمَ وسارَة لما مَرُّوا عليهم
(1)
مجتازينَ ذاهبينَ إلى مدائنِ قومِ لوط ليدمِّروا عليهم لكفرهم وفُجورهم، كما سيأتي بيانُه في موضِعه إن شاء اللّه تعالى.
يذكرُ تعالى أنَّ الملائكةَ - قالوا: وكانوا ثلاثةً: جبريلُ، وميكائيلُ وإسرافيلُ - لما وَردُوا على الخليل، حَسِبهم أولًا أضيافًا، فعاملَهم معاملةَ الضيوف، شوى لهم عِجْلًا سمينًا من خيار بقره، فلمَّا قرَّبَه إليهم وعرضَ عليهم، لم يرَ لهم همَّةً إلى الأكل بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوَّة الحاجة إلى الطعام، فنكرهم إبراهيمُ {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] أي: لندَمِّرَ عليهم، فاستبشرتْ عند ذلك سارَةُ غضبًا للّه عليهم، وكانت قائمةً على رؤوس الأضياف، كما جرتْ به عادة الناس من العرب وغيرهم، فلما ضحكت استبشارًا، قال اللّه تعالى:{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] أي: بشَّرتها الملائكةُ بذلك {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] أي: في صرخة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29]، أي: كما يفعلُ النساء عند التعجُّب {قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] أي: كيف يلدُ مثلي وأنا كبيرةٌ وعقيمٌ أيضًا، وهذا بعلي، أي: زوجي شيخًا، تعجَّبت من وجود ولدٍ والحالة هذه ولهذا قالت:{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73].
وكذلك تعجَّب إبراهيمُ عليه السلام استبشارًا بهذه البشارة، وتثبيتًا لها وفرحًا بها {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 54، 55] أكَّدوا الخبرَ بهذه
(1)
كذا في ب، وفي أ: بهم.
البشارة، وقرَّروه معه، فبشَّروهما {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] وهو إسحاق، وأخوه إسماعيل غلام حليمِ، مناسب لمقامه وصبره، وهكذا وصفَه ربُّه بصدق الوعد والصبر. وقال في الآية الأخرى:{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]. وهذا مما استدلَّ به محمَّدُ بن كعب القُرَظي وغيره، على أنَّ الذبيحَ هو إسماعيل، وأن إسحاق لا يجوزُ أن يُؤمرَ بذبحه بعدَ أنْ وقعتِ البشارةُ بوجوده ووجود ولده يعقوب، المشتق من العَقِب من بَعْده.
وعند أهل الكتاب: أنَّه أَحضرَ مع العِجْل الحَنِيْذِ
(1)
- وهو المشويُّ - رغيفًا من مَلَّةٍ، فيه ثلاثة أكتالٍ وسَمْنٍ ولبن. وعندهم: أنَّهم أكلوا، وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ. وقيل: كانوا يُورُون
(2)
أنَّهم يأكلونَ والطَّعامُ يتلاشى في الهواء.
وعندهم: أنَّ اللّه تعالى قال لإبراهيم: أمَّا سارا امرأتك، فلا يُدعى اسمُها سارا، ولكنْ اسمُها سارَة، وأُباركُ عليها وأُعطيك منها ابنًا وأباركُه، و يكونُ الشُّعوب وملوكُ الشعوب منه. فخرَّ إبراهيم على وجهه - يعني ساجدًا - وضحكَ قائلًا في نفسه: أبعد مئة سنةٍ يُولد لي غلامٌ، أو سارَةُ تلدُ وقد أتتْ عليها تسعونَ سنة؟!
وقال إبراهيمُ للّه تعالى: ليتَ إسماعيلَ يعيشُ قدَّامكَ. فقال اللّه لإبراهيمَ: بحقِّي إن امْرأتك سارَة تلدُ لك غلامًا، وتدعو اسمَه إسحاق إلى مثلِ هذا الحينِ من قابل، وأوثقُه ميثاقي إلى الدهر، ولخلفِه من بعده. وقد استجبت لكَ في إسماعيلَ، وباركتُ عليه وكبَّرتُه ونمَّيتُه جدًا كثيرًا، ويُولد له اثنا عشرَ عظيمًا، وأجعلُه رئيسًا لشعبٍ عظيم. وقد تكلَّمنا على هذا بما تقدَّم، واللّه أعلم.
فقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] دليلٌ على أنها تستمتعُ بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده بولد ولده يعقوب، أي: يُولد في حياتِهما لتقرَّ أعينُهما به كما قرَّتْ بوالده، ولو لم يرد هذا لم يكن لذكرِ يعقوبَ وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عيَّن بالذكر دلَّ على أنهما يتمتعان به ويُسرَّان بولده، كما سُرَّا بمولد أبيه من قبله. وقال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا} [الأنعام: 84] وقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49].
وهذا إن شاء اللّه ظاهرٌ قويٌّ، ويُؤيِّده قوة ما ثبت في الصحيحين: من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قلتُ يا رسول اللّه! أيُّ - مسجد وُضعَ أوَّل؟ قال: "المسجد الحرام" قلت: ثم أيّ؛ قال: "المسجد الأقصى". قلت: كم بينهما؟
(1)
الحنيذ: المشوي على الحصى المحمي بالنار.
(2)
كذا في أ و ب، وفي المطبوع: يودون، وهو تصحيف.
قال: "أربعون سنة" قلت: ثم أي؟ قال: "ثم حَيْثُ أدركت الصَّلاةَ فصلِّ، فكلُّها مسجد"
(1)
.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوبَ عليه السلام هو الذي أسَّس المسجدَ الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس، شرَّفه اللّه.
وهذا مُتَّجِهٌ، ويشهدُ له ما ذكرناه من الحديث، فعلى هذا يكونُ بناء يعقوبَ - وهو إسرائيل عليه السلام بعد بناءَ الخليل وابنه إسماعيل المسجدَ الحرام بأربعينَ سنةً سواء، وقد كان بناؤُهما ذلك بعد وجود إسحاق، لأن إبراهيمَ عليه السلام لمَّا دَعا قال في دعائه، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 35 - 41].
وما جاء في الحديث
(2)
: من أنَّ سُليمان بن داود عليهما السلام، لما بنَى بيتَ المقدس سألَ اللّه خِلالًا ثلاثًا، كما ذكرناه عند قوله:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] وكما سنُورده في قصَّته. فالمرادُ من ذلك أنَّه جدَّد بناءَه، كما تقدَّم من أنَّ بينهما أربعينَ سنةً، ولم يقلْ أحدٌ إنَّ بين سليمان وإبراهيم أربعينَ سنةً، سوى ابن حِبَّان في "تقاسيمه" وأنواعه، وهذا القولُ لم يُوافق عليه، ولا سُبِقَ إليه.
* * *
ذكر بناية
(3)
البيت العتيق
قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26، 27].
(1)
أخرجه البخاري (3366) في الأنبياء، ومسلم (520) في المساجد ومواضع الصلاة.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 176) والنسائي في سننه (2/ 176) في المساجد، وابن حبان في صحيحه (1633) الإحسان.
(3)
في المطبوع: بناء.
يذكرُ تعالى عن عبده ورسوله وصفيِّه وخليله إمام الحنفاء ووالد الأنيباء إبراهيم
(1)
عليه أفضل صلاة وتسليم أنَّه بنى البيتَ العتيقَ الذي هو أوَّلُ مسجدٍ وُضِعَ لعموم النَّاس، يعبدون اللّه فيه، وبوَّأه اللّه مكانَه، أي: أرشدَه إليه ودلَّه عليه.
وقد روينا عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب وغيره؛ أنَّه أُرشد إليه بوحي من اللّه عز وجل، وقدَّمنا في صفة خلق السموات أنَّ الكعبةَ بحيالِ البيت المَعْمُور، بحيث إنَّه لو سقطَ لسقطَ عليها، وكذلك معابدُ السموات، كما قال بعض السلف: إنَّ في كلِّ سماءً بيتًا يعبدُ اللّهَ فيه أهلُ كلِّ سماءً، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض.
فأمرَ اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبنيَ له بيتًا يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السموات، وأرشدَه اللّه إلى مكان البيتِ المهيّأ له، المعيَّن لذلك، منذ خلق السموات والأرض، كما ثبتَ في الصحيحين:"إن هذا البلدَ حرَّمه اللّه يومَ خلقَ السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة".
ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم أنَّ البيتَ كان مبنيًّا قبلَ الخليل عليه السلام. ومن تمسَّك في هذا بقوله: {مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] فليس بناهضٍ ولا ظاهرٍ، لأن المراد مكانه المقدَّر في علم اللّه، المقرَّر في قدرته، المعظَّم عند الأنبياء موضعه، من لدن آدمَ إلى زمان إبراهيم.
وقد ذُكِرَ أنَّ آدم نصب عليه قُبَّةً، وأن الملائكة قالوا له: قد طُفْنا قبلَك بهذا البيت، وأنَّ السفينة
(1)
سقطت من المطبوع.
طافتْ به أربعين يومًا أو نحو ذلك، ولكن كلُّ هذه الأخبار عن بني إسرائيل. وقد قرَّرنا أنها لا تصدَّقُ ولا تكذبُ، فلا يُحتجُّ بها، فأما إن ردَّها الحقُّ فهي مردودة.
وقد قال اللّه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] أي: أوّل بيت وُضعَ لعموم النَّاس للبركة والهدى البيت الذي ببكة. قيل: مكة، وقيل: محل الكعبة: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] أي: على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده، وإمام الحنفاء من ولده الذين يقتدونَ به ويتمسَّكون بسنَّته، ولهذا قال:{مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] أي: الحجَر الذي كان يقف عليه قائمًا، لما ارتفعَ البناءُ عن قامَته، فوضعَ له ولدُه هذا الحجرَ المشهورَ ليرتفعَ عليه لمَّا تعالى البناءُ، وعَظُمَ الفناء، كما تقدَّم في حديث ابن عباس الطويل.
وقد كان الحجَر مُلصقًا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيَّام عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فأخّره عن البيت قائلًا: لئلا يَشغل المصلين عندَه الطائفين بالبيت، واتُّبعَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في هذا، فإنه قد وافقه ربُّه في أشياءَ، منها: في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم لو اتَّخَذنا مِن مقام إبراهيمَ مُصلَّى، فأنزل اللّه:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(1)
[البقرة: 125].
وقد كانتْ آثارُ قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أوَّل الإسلام، وقد قال أبو طالب في قصيدته
(2)
اللاميَّة المشهورة: [من الطويل]
وثورٍ ومَنْ أرسى ثَبِيْرًا مكانَه
…
وراقٍ لِيَرْقى في حِرَاءَ ونازِلِ
(3)
وبالبيتِ، حق البيت، من بطنِ مكَّةٍ
…
وباللّهِ إنّ اللّهَ ليس بغَافِلِ
وبالحَجر المُسْوَدِّ إذ يَمْسَحُونه
…
إذا اكتنفُوه بالضُّحى والأصائلِ
(4)
ومَوْطئ إبراهيمَ في الصّخرِ رَطْبةٌ
…
على قَدَمَيْهِ حَافيًا غيرَ ناعِل
يعني أنَّ رجلَه الكريمة غاصتْ في الصخرة، فصارتْ على قَدْر قَدَمه حافيةً لا مُنتعلة، ولهذا قال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] أي: في حال قولهم {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فهما في غاية الإخلاص والطاعة للّه عز وجل، وهما يسألان من اللّه السميع العليم أن يتقبَّلَ منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].
(1)
أخرجه البخاري (3189) في الجزية والموادعة، ومسلم (1353) في الحج، عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
(2)
انظر القصيدة في السيرة النبوية، لابن هشام (1/ 272 - 280).
(3)
ثور وثبير وحِراء: جبال بمكة.
(4)
"اكتنفوه": أحاطوا به.
والمقصودُ أن الخليلَ بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع، في وادٍ غير ذي زَرْعٍ، ودعا لأهلها
بالبركة وأن يُرْزقوا من الثمرات، مع قلَّة المياه وعدم الأشجار والزروع والثِّمار، وأن يجعلَه حَرَمًا مُحرَّمًا، وآمنًا مُحتّمًا، فاستجابَ اللّه وله الحمدُ له مسألته، ولبَّى دعوتَه، وآتاه طلبته، فقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] وسألَ اللّهَ أنْ يبعثَ فيهم رسولًا منهم، أي: من جنسهم، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصحية، لتتمَّ عليهم النعمتان الدنيوية والدينية، سعادة الأولى والأخرى.
وقد استجابَ اللّه له، فبعثَ فيهم رسولًا وأيّ رسول، ختمَ به أنبياءَه ورسلَه، وأكملَ له من الدِّين، ما لم يُؤتِ أحدًا قبلَه، وعمَّ بدعوتِه أهلَ الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر الأقطار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة، وكان هذا من خصائِصه من بين سائر الأنبياء، لشرفِه في نفسه، وكمالِ ما أُرسلَ به، وشَرفِ بُقعتهِ، وفصاحة لغتِه، وكمال شَفقتِه على أُمَّته، ولطفه ورحمته، وكريم مَحْتِدِهِ
(1)
، وعظيم مولده، وطيب مَصْدَرِه ومَوْرده.
ولهذا استحقَّ إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام إذ كان باني كعبة أهل الأرضِ أن يكونَ منصبُه ومحلُّه وموضعُه في منازل السموات ورفيع الدرجات عند البيت المعمور، الذي هو كعبةُ أهل السماء السابعة المُبارك المبرور، الذي يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة، يتعبَّدون فيه، ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور، وقد ذكرنا في التفسير
(2)
من سورة البقرة صفة بناية البيت، وما وردَ في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه كفاية، فمن أرادَه فليراجعْه ثَمَّ وللّه الحمد.
فمن ذلك ما قال السُّدِّي: لما أمرَ اللّه إبراهيمَ وإسماعيلَ أن يبنيا البيتَ، ثم لم يدريا أين مكانه، حتى بعثَ اللّه ريحًا يُقال له "الخجوج"
(3)
لها جناحان ورأس، في صورة حيَّة، فكنستْ لهما ما حولَ الكعبة عن أساس البيت الأوَّل، واتَّبعَاهَا بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساسَ، وذلك حين يقول تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]
(4)
.
فلما بلغا القواعدَ وبنيا الركنَ، قال إبراهيمُ لإسماعيل: يا بني اطلبْ لي [حجرًا حسَنًا أضعُه هاهنا. قال: يا أبتِ! إني كسلان لَغِبٌ. قال: عليَّ ذلكَ. فانطلقَ، وجاءَه جبريلُ]
(5)
بالحَجَرِ الأسودِ من
(1)
"محتده": أصله وحسبه ونسبه.
(2)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 219 - 225).
(3)
"الخجوج": الريح الشديد المَرُّ.
(4)
أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه (1/ 252).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
الهِنْد، وكان أبيضَ ياقوتة بيضاء مثل الثَّغامة
(1)
. وكان آدمُ هبطَ به من الجنَّة، فاسوَدَّ من خطايا النَّاسَ، فجاءَه إسماعيلُ بحجر، فوجدَه عند الركن. فقال يا أبتِ منْ جاءك بهذا؟ قال: جاء به منْ هو أنشطُ منك. فبنيا وهما يدعوان الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
وذكرَ ابنُ أبي حاتم: أنَّه بناه من خمسة أجبل، وأنَّ ذا القرنين - وكان مَلِكَ الأرضِ إذ ذاك - مرَّ بهما وهم يبنيانه، فقال: منْ أمركما بهذا؛ فقال إبراهيم: الله أمرنا به. فقال: وما يُدريني بما تقولُ، فشهدتْ خمسةُ أكبشٍ أنَّه أمرَه بذلك، فآمنَ وصدَّق. وذكر الأزرقي: أنَّه طافَ مع الخليل بالبيت.
وقد كانت الكعبة
(2)
على بناء الخليل مدة طويلة، ثم بعد ذلك بَنَتْها قريش، فقصَّرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال، مما يلي الشام، على ما هي عليه اليوم.
وفي الصحيحين
(3)
: من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن سالم؛ أنَّ عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبرَ ابن عمر، عن عائشةَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ألم تريْ إلى قومِك حين بنوا الكعبةَ اقتصروا عن قواعد إبراهيم" فقلتُ: يا رسولَ الله: ألا تردَّها على قواعد إبراهيم؟ فقال: "لولا حدثان قومِك بالكفر لفعلتُ" وفي رواية: "لولا أنَّ قومَك حديثو عهد بجاهلية، أو قال: بكفر، لأنفقت كنزَ الكعبة في سبيل الله، ولجعلتُ بابَها بالأرض، ولأدخلت فيها الحِجْرَ".
وقد بناها ابنُ الزبير رحمه اله في أيَّامه على ما أشار إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حسبما أخبرتْه خالتُه عائشة أُمُّ المؤمنين عنه، فلما قتلَه الحَجَّاجُ في سنة ثلاثٍ وسبعين، كتبَ إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك، فاعتقدوا أنَّ ابنَ الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسِه، فأمرَ بردِّها إلى ما كانت عليه، فنَقضُوا الحائطَ الشَّاميَّ، وأخرجوا منها الحِجْرَ، ثم سَدُّوا الحائط وردَموا الأحجارَ في جَوْفِ الكعبة، فارتفعَ بابُها الشرقيّ، وسدُّوا الغربيَّ بالكُليَّة، كما هو مشاهد إلى اليوم.
ثم لما بلغَهم أنَّ ابن الزبير إنما فعلَ هذا لما أخبرتْه عائشة أم المؤمنين نَدِموا على ما فَعلوا، وتأسَّفوا أن لو كانوا تركوه وما تولَّى من ذلك.
ثم لما كان في زمن المَهْدي بن المنصور استشارَ الإمامَ مالكٍ بن أنس في ردِّها على الصِّفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن يتخذَها الملوكُ لعبةً، يعني كلَّما جاءَ مَلِكٌ بناها على الصِّفَة التي يُريد، فاستقرَّ الأمرُ على ما هي عليه اليوم.
* * *
(1)
"الثغامة": شجرة بيضاء الثمر والزهر.
(2)
أثبتها من المطبوع.
(3)
أخرجه البخاري (1583) في الحج، ومسلم (1333) في الحج.
ذكر ثناء اللّه ورسولِه الكريم على عبده وخليله إبراهيم
قال اللّه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. لما وفَّى ما أمرَه ربُّه به من التكاليف العظيمة، جعلَه للناس إمامًا يقتدون به، ويأتمُّون بهديْه، وسألَ اللّهَ أن تكونَ هذه الإمامة متصلةً بسببه، وباقيةً في نسبه، وخالدةً في عَقبه، فأُجيبَ إلى ما سأل ورامَ، وسُلِّمَتْ إليه الإمامة بزمام، واستثني من نيلها الظالمون، واختُصَّ بها من ذرِّيته العلماءُ العاملون، كما قال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27].
فالضميرُ في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} عائدٌ على إبراهيم على المشهور، ولوطٌ وإن كان ابنَ أخيه، إلا أنَّه دخلَ في الذريَّة تغليبًا، وهذا هو الحاملُ للقائل الآخر: إن الضميرَ على نوحٍ كما قدَّمنا في قصته، واللّه أعلم.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]. الآية.
فكلُّ كتاب أُنزل من السماء على نبيٍّ من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته. وهذه خِلْعةٌ سنيَّة لا تُضاهى، ومرتبةٌ عليَّةٌ لا تُباهى. وذلك أنَّه وُلدَ له لصُلبِهِ ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارَة، ووُلد لهذا يعقوبُ، وهو إسرائيل الذي ينتسبُ إليه سائرُ أسباطِهم، فكانت فيهم النبوة، وكثروا جدًا بحيث لا يعلمُ عددَهم إلا الذي بعثهم، واختصَّهم بالرسالة والنبوة حتى خُتِمُوا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.
وأما إسماعيل عليه السلام، فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، كما سنبيِّنه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى، ولم يُوجد من سُلالتِه من الأنبياء سوى خاتَمهم على الإطلاق وسيدهم، وفخر بني آدمَ في الدنيا والآخرة محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم القرشيّ الهاشميّ المكي، ثم المدني صلوات اللّه وسلامه عليه، فلم يُوجد من هذا الفرع الشريف والغُصْن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة والدُّرَّة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السَّيِّد الذي يفتخرُ به أهلُ الجمع، ويغبطُه الأَوَّلون والآخرون يوم القيامة.
وقد ثبت عنه في صحيح مسلم، كما سنُورده أنه قال:"سأقومُ مقامًا يرغبُ إليَّ الخَلْقُ كلُّهم حتى إبراهيم"
(1)
فمدحَ إبراهيمَ أباه مِدْحةً عظيمةً في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضلُ الخلائق بعده على الإطلاق، في هذه الحياة الدنيا ويومَ يُكشفُ عن سَاق.
وقال البخاري
(2)
: حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا جريرٌ، عن منصور، عن المِنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبَّاس، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْن ويقول: "إنَّ أباكما كان يُعوِّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ: أعوذُ بكلماتِ اللّه التَّامة، من كُلِّ شَيْطانٍ وهامَّة، ومنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّة".
ورواه أهل السنن
(3)
: من حديث منصور به.
ذكر المفسرون لهذا السؤال أسبابًا بسطناها في التفسير
(4)
وقرَّرناها بأتمِّ تقرير، والحاصلُ: أنَّ اللّه عز وجل أجابَه إلى ما سألَ، فأمرَه أن يعمد إلى أربعةٍ من الطيور، واختلفوا في تعيينها
(5)
على أقوال، والمقصود حاصل على كلِّ تقدير، فأمره أن يُمرقَ لحومَهنَّ وريشهنَّ، ويخلط ذلك بعضه في بعض، ثم يقسمه قسمًا، ويجعل على كلِّ جبل منهنَّ جزءًا، ففعل ما أُمِرَ به، ثم أُمِرَ أن يدعوهنَّ بإذن ربهن، فلما دعاهنَّ، جعلَ كلُّ عضو يطيرُ إلى صاحبه، وكلُّ ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمعَ بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقولُ للشيء: كن فيكون. وأتينَ إليه سعيًا، ليكونَ أبينَ له وأوضحَ لمشاهدته يأتين طيرانًا.
ويقال: إنه أُمر أن يأخذَ رؤوسهنَّ في يده، فجعلَ كلُّ طائر يأتي فيُلقي رأسَه، فيتركَّبُ على جثَّته كما كان، فلا إله إلا اللّه.
وقد كان إبراهيمُ عليه السلام يعلمُ قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى علمًا يقينيًا، لا يحتمل النقيضَ، ولكنْ أحبَّ أنْ يُشاهدَ ذلك عيانًا، ويترقَّى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه اللّه إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأموله.
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (820) في صلاة المسافرين.
(2)
في صحيحه (3371) في الأنبياء.
(3)
أخرجه أبو داود (4773) في السنة، والترمذي (2060) في الطب، والنسائي (1006) في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة (3525) في الطب. والهامة: واحدة الهوام ذوات السموم، "واللَّامَّة": الداء والآفة.
(4)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 390 - 391).
(5)
في المطبوع: تعيُّنها.
وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 65 - 68] يُنكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين، كون الخليل على ملَّتِهم وطريقتهم، فبرَّأه اللّه منهم، وبيَّن كثرَةَ جهلهم وقلة عقلهم في قوله:{وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] أي: فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعدَه بمدد متطاولة، ولهذا قال:{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65] إلى أن قال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] فبيَّن أنه كان على دين اللّه الحنيف، وهو القصدُ إلى الإخلاص والانحراف عمدًا عن الباطل إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 130 - 141] فنزَّه الله عز وجل خليلَه عليه السلام عن أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا، وبيَّن أنه كان حنيفًا مسلمًا ولم يكن من المشركين، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68] يعني الذين كانوا على مِلَّتِهِ من اتباعه فى زمانه، ومن تمسَّك بدينه من بعدهم {وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68] يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرعَ له الدِّينَ النيف الذي شرعه للخليل، وكمَّله اللّه تعالى له وأعطاه ما لم يُعْط نبيًا ولا رسولًا قبلَه، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163] وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120 - 123].
وقال البخاري
(1)
: حَدَّثَنَا إبراهيم بن موسى، حَدَّثَنَا هشام، عن مَعْمر، عن أيُّوب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رأى الصُّوَرَ في البيت لم يدخلْ حتى أُمِر بها فمُحيت، ورأى إبراهيمَ وإسماعيلَ بأيديهما الأزلامُ، فقال:"قاتلَهم اللّه، واللّه إن استقسما بالأزلام قطّ". لم يخرِّجْه مسلم.
وفي بعض ألفاظ البخاري
(2)
: "قاتلَهم الله، لقد علموا أن شيخنا لم يستقسمْ بها قطُّ".
وقوله: {أُمَّةً} أي: قدوة، إمامًا مهتديًا داعيًا إلى الخير، يُقتدى به فيه {قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل: 120] أي: خاشعًا له في جميع حالاته وحركاته وسكناته {حَنِيفًا} أي مخلصًا على بصيرة: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120، 121] قائمًا بشكر ربِّه بجميع جوارحِه من قلبه ولسانه وأعمالِه {اجْتَبَاهُ} أي: اختاره اللّه لنفسه واصطَفَاه لرسالته، واتَّخذه خليلًا، وجمعَ له بين خيري الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] يرغِّب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدِّين القويم والصِّراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أَمر به ربُّه، ومدحَه تعالى بذلك، فقال:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]، ولهذا اتَّخذه اللّه خليلًا، والخُفَةُ هي غاية المحبَّة، كما قال بعضُهم:[من الخفيف]
قد تَخَلَّلْتَ مَسْلك الرُّوحِ مني
…
وبذا سُمِّي الخليلُ خليلًا
(3)
وهكذا نالَ هذه المنزلة خاتمُ الأنبياء وسيِّدُ الرسل محمد صلواتُ اللّه وسلامه عليه، كما ثبت في الصحيحين
(4)
وغيرهما: من حديث جُنْدب البَجليّ، وعبد اللّه بن عمرو، وابن مسعود، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيها الناس إن اللّه اتَّخذني خليلًا، كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا".
وقال أيضًا في آخرِ خطبةٍ خطبَها: "أيُّها النَّاسُ لو كنتُ مُتَّخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكنَّ صاحبَكم خليلُ اللّه". أخرجاه من حديث أبي سعيد
(5)
.
وثبت أيضًا من حديث عبد اللّه بن الزبير وابن عباس وابن مسعود.
(1)
في صحيحه (3352) في الأنبياء.
(2)
أخرجه البخاري (1601) في الحج بلفظ "قاتلهم اللّه، أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط".
(3)
ذكره ابن القيم في روضة المحبين (ص 82) طبعة دار الكلم الطيب تحقيق د. محيي الدين ديب مستو.
(4)
ليس في الصحيحين بهذا اللفظ وإنما رواه المؤلف بالمعنى.
(5)
أخرجه بالمعنى البخاري رقم (3904) في فضائل الصحابة، ومسلم (2383) في فضائل الصحابة.
وروى البخاريُّ في "صحيحه"
(1)
: حَدَّثَنَا سليمان بن حرب، حَدَّثَنَا شعبة، عن حبيب بن جُبير، عن عمرو بن ميمون، قال: إنَّ معاذا لما قدمَ اليمن صلَّى بهم الصُّبْح، فقرأ {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. فقال رجل من القوم: لقد قرَّت عينُ أُمِّ إبراهيم.
وقال ابن مردويه
(2)
: حَدَّثَنَا عبدُ الرحيم بن محمد بن مسلم، حَدَّثَنَا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حَدَّثَنَا إبراهيمُ بن يعقوب الجُوزجاني بمكَّة، حَدَّثَنَا عبدُ اللّه الحنفي، حَدَّثَنَا زَمْعة بن صالح، عن سلمةَ بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جلسَ ناسٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرجَ حتى إذا دنا منهم سمعَهم يتذاكرون، فسمعَ حديثَهم، وإذا بعضُهم يقول: عَجبًا، إن اللّه اتَّخذَ من خلقه خليلًا، فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجبَ اللّه كَلَّمَ موسى تكليمًا. وقال آخر: فعيسى روحُ الله وكلمتُه. وقال آخر: آدمُ اصطفاه اللّه. فخرجَ عليهم فسلَّم، وقال:"قد سمعتُ كلامَكم وعجبَكم أن إبراهيمَ خليلُ الله، وهو كذلك، وموسى كليمُه، وهو كذلك، وعيسى رُوحه وكلمتُه، وهو كذلك، وآدمُ اصطفاه اللّه، وهو كذلك. ألا وإني حبيبُ الله ولا فخرَ، ألا وإني أوَّلُ شافع وأوَّلُ مُشفع ولا فخر، وأنا أَوَّلُ منْ يُحرِّك حلقةَ باب الجنَّة فيفتحه اللّه، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين، وأنا أكرم الأوَّلينَ والآخرين يوم القيامة، ولا فخر".
هذا حديث غريب من هذا الوجه، وله شواهدُ من وجوه أخر، واللّه أعلم.
ورواه الحاكم في مستدركه
(3)
: من حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتنكرون أن تكون الخُلَّة لإبراهيم، والكلامُ لموسى، والرؤية لمحمَّد، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا محمود بن خالد السُّلمي، حَدَّثَنَا الوليد، عن إسحاق بن بشَّار، قال: لما اتَّخذ اللّه إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتى إنْ كان خفقانُ قلبه ليُسمع من بُعد كما يُسمع خفقان الطير في الهواء
(4)
.
وقال عُبيد بن عُمير: كان إبراهيمُ عليه السلام يُضيِّفُ النَّاسَ، فخرجَ يومًا يلتمسُ إنسانًا يُضيِّفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجعَ إلى داره، فوجدَ فيها رجلًا قائمًا، فقالَ: يا عبد الله ما أدخلكَ داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربِّها. قال: ومنْ أنتَ؟ قال: أنا مَلَكُ الموتِ، أرسلني ربِّي إلى عبد من عباده أبشِّره بأن اللّه قد اتخذه خليلًا، قال: منْ هو؟ فوالله إنْ أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتينَّه،
(1)
البخاري (4348) في المغازي.
(2)
كما في الدر المنثور (2/ 705) والترمذي (3616) في المناقب، وقال: هذا حديث غريب.
(3)
المستدرك (1/ 65 و 2/ 469).
(4)
كما في الدر المنثور (2/ 706).
ثم لا أبرحُ له جارًا، حتَّى يُفرِّقَ بيننا الموتُ. قال: ذلك العبدُ أنتَ. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبم اتَّخذني ربِّي خليلًا؟ قال: بأنَّك تُعطي النَّاسَ ولا تسألُهم. رواه ابن أبي حاتم
(1)
.
وقد ذكره اللّه تعالى في القرآن كثيرًا في غير ما موضع بالثناء عليه. والمدح له. فقيل
(2)
: إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعًا، منها خمسة عشر في البقرة وحدها.
وهو أحدُ أولي العزم الخمسة، المنصوص على أسمائهم تخصيصًا من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى، وهما قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] الآية.
ثم هو أشرفُ أُولي العزم بعد محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة، مسندًا ظهره بالبيت المعمور، الذي يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وما وقع في حديث شريك بن أبي نَمِر، عن أنس، في حديث الإسراء
(3)
: من أنّ إبراهيمَ في السادسة، وموسى في السابعة، فممَّا انتُقد على شريكٍ في هذا الحديث، والصحيح الأول.
وقال أحمد
(4)
: حدثنا محمد بن بشر، حَدَّثَنَا محمد بن عمرو، حَدَّثَنَا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن". تفرَّد به أحمد
(5)
.
ثم مما يدلُّ على أنَّ إبراهيمَ أفضلُ من موسى على الصحيح الحديث الذي قال فيه: "وأخَّرتُ الثالثة ليوم يرغبُ إليّ الخلقُ كلُّهم حتى إبراهيم" رواه مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه
(6)
.
وهذا هو المقامُ المحمودُ الذي أخبرَ عنه صلواتُ اللّه وسلامه عليه بقوله: "أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة ولا فخر". ثم ذكرَ استشفاع الناس بآدمَ ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكلُّهم يحيدُ عنها، حتى يأتوا محمد صلى الله عليه وسلم:"فيقول: أنا لها، أنا لها"
…
الحديث
(7)
.
(1)
المصدر السابق.
(2)
في ب: يُقال.
(3)
أخرجه البخاري (7517) في التوحيد، ومسلم (162)(262) في الإيمان.
(4)
في المسند (2/ 332) وهو حديث صحيح.
(5)
بل رواه الترمذي رقم (3166) وهو حديث حسن.
(6)
أخرجه مسلم (820)(273) في صلاة المسافرين، وتقدَّم.
(7)
أخرجه البخاري (3340) في الأنبياء و (4712) في التفسير.
وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر
(1)
، ومسلم
(2)
، والنسائي
(3)
، من طرقٍ عن يحيى بن سعيد القَطَّان، عن عُبيد اللّه، وهو ابن عمر العُمَريّ به.
قال البخاريُّ
(4)
: حَدَّثَنَا عليٌّ بن عبد اللّه، حَدَّثَنَا يحيى بن سعيد، حَدَّثَنَا عبيد اللّه، حدَّثني سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله! من أكرم الناس؟ قال: "أتقاهم". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فيوسف نبي الله ابن نبي اللّه ابن نبي اللّه ابن خليل اللّه؟ ". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". ثم قال البخاري: قال أبو أسامة ومعتمر، عن عبيد اللّه، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما
(5)
، وحديث عبدة بن سليمان
(6)
، والنسائي من حديث محمد بن بشر
(7)
، أربعتُهم عن عبيد اللّه بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(8)
.
وقال أحمد
(9)
: حَدَّثَنَا محمد بن بشر، حَدَّثَنَا محمد بن عمرو، حَدَّثَنَا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الكريمَ ابنَ الكريمَ ابن الكريم ابن الكريم يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه". تفرَّد به أحمد.
وقال البخاري
(10)
: حَدَّثَنَا عبدة، حَدَّثَنَا عبد الصمد عن
(11)
عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". تفرَّد به من طريق عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، به.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد
(12)
: حَدَّثَنَا يحيى، عن سفيان، حدَّثني مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يُحشرُ النَّاس حفاة عراة غرلًا، فأول من يُكسى إبراهيم
(1)
صحيح البخاري (3353) في أحاديث الأنبياء و (3490) في مناقب قريش.
(2)
صحيح مسلم (2378) في المناقب.
(3)
في التفسير (269)، وهو في الكبرى (11249).
(4)
في صحيحه (3353).
(5)
أخرج البخاري حديث أبي أسامة في أحاديث الأنبياء من صحيحه (3383). وأخرج حديث معتمر بن سليمان في (3374).
(6)
أخرجه البخاري في التفسير من صحيحه (4689).
(7)
في التفسير (270) وهو في سننه الكبرى برقم (11250).
(8)
فروى سعيد بن أبي سعيد هذا الحديث عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه عن أبي هريرة مباشرة، وكله صحيح كما هو معروف.
(9)
في المسند (2/ 332) وتقدم قريبًا.
(10)
البخاري (3390) في الأنبياء.
(11)
في المطبوع: "بن" خطأ بَيِّن، وعبد الرحمن هو ابن عبد اللّه بن دينار.
(12)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 229) وغرلًا: غير مختونين.
عليه السلام" ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] " فأخرجَاه في الصحيحين
(1)
: من حديث سفيان الثوري، وشعبة بن الحجَّاج
(2)
، كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس به.
وهذه الفضيلة المعيَّنة لا تقتضي الأفضليةَ بالنسبة إلى ما قابلَها مما ثبتَ لصاحب المقام المحمود، الذي يغبطُه به الأوَّلون والآخرون.
وأما الحديث الآخر الذي قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا وكيع وأبو نعيم، حَدَّثَنَا سفيان هو الثوري، عن مختار بن فُلْفلٍ، عن أنس بن مالك، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خيرَ البريَّة! فقال: "ذاكَ إبراهيم"
(3)
، فقد رواه مسلم
(4)
من حديث الثوري وعبد اللّه بن إدريس وعلي بن مسهر ومحمد بن فضيل أربعتُهم، عن المختار بن فلفل. وقال الترمذي
(5)
: حسن صحيح.
وهذا من باب الهَضْم والتواضح مع والده الخليل عليه السلام، كما قال:"لا تُفضِّلوني على الأنبياء، وقال: لا تُفضِّلوني على موسى فإن الناس يُصعقونَ يومَ القيامة، فأكونُ أوَّلَ من يفيقُ، فأجدُ موسى باطشًا بقائمةِ العَرْشِ، فلا أدري أفاقَ قبلي أم جُوزي بصَعْقةِ الطُّور"
(6)
.
وهذا كله لا ينافي ما ثبت بالتواتر عنه صَلواتُ اللّه وسلامُه عليه، من أنه سيد ولد آدم يومَ القيامة
(7)
. وكذلك حديث أُبيِّ بن كعب في صحيح مسلم: "وأخرْتُ الثالثةَ ليوم يرغبُ إليَّ الخلقُ كلُّهم حتى إبراهيم"
(8)
.
ولما كان إبراهيمُ عليه السلام أفضلَ الرسل وأولي العزم بعد محمَّد صلواتُ اللّه وسلامه عليهم أجمعين، أُمر المُصلِّي أن يقولَ في تشهده ما ثبتَ في الصحيحين: من حديث كعب بن عُجْرة وغيره، قال: قلنا: يا رسولَ اللّه! السلام عليك قد عرفناه، فكيفَ الصَّلاةُ عليك؛ قال: "قولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ على محمّد وعلى آل محمد، كما صَلَّيتَ على إبراهيمَ وآل إبراهيم، وباركْ على محمَّد وعلى آل
(1)
تفرد البخاري بإخراج حديث سفيان في صحيحه (3349) و (3447) و (4626).
(2)
حديث شعبة أخرجه البخاري (4625) و (4740) و (6526)، ومسلم (2860)(58).
(3)
في المسند (3/ 178).
(4)
مسلم (2369) في الفضائل.
(5)
الترمذي (3352) في التفسير.
(6)
أخرجه البخاري (3414) في الأنبياء، ولفظه: "لا تفضلوا بين أولياء اللّه
…
" ومسلم (2373) في الفضائل، بلفظ: "لا تفضلوا بين أنبياء اللّه
…
".
(7)
أخرجه البخاري (3340) في الأنبياء، ومسلم (327)(194) في الإيمان، وهو من الأحاديث المتواترة انظر "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للسيوطي (ص 149) مصورة دار المعارف بحلب - سورية.
(8)
أخرجه مسلم (820) في صلاة المسافرين، وقد تقدم.
محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ، إنَّك حميدٌ مجيدٌ
(1)
".
وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] قالوا: وفي جميع ما أُمر به، وقامَ بجميع خصال الإيمان وشُعبه، وكان لا يَشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل، ولا يُنسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصِّغار.
قال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس [في قوله تعالى]
(2)
: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] قال: ابتلاه اللّه بالطَّهارة: خمسٌ في الرأس، وخمسٌ في الجسد، في الرأس: قصُّ الشارب، والمضمضة، والسِّواك، والاستنشاق، وفرْقُ الرأس. وفي الجسد: تقليمُ الأظفار، وحَلْقُ العانة، والخِتان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء. رواه ابن أبي حاتم
(3)
، وقال: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك.
قلت: وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرةُ خمسٌ: الختان، والاستحداد، وقصُّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط"
(4)
.
وفي صحيح مسلم وأهل السنن
(5)
: من حديث وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي، عن طلق بن حبيب العَنَزي، عن عبد اللّه بن الزبير، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "عَشْر من الفِطرة: قصُّ الشارب، وإعفاء اللحية، والسِّواك، واستنشاق الماء، وقصُّ الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحَلْق العانة، وانتقاص الماء" - يعني: الاستنجاء
(6)
- قال مصعب: ونسيتُ العاشرةَ إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء. وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الخِتان.
والمقصودُ أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يَشغله القيامُ بالإخلاص لله عز وجل وخشوع العبادة العظيمة، عن مراعاة مصلحة بدنه وإعطاء كلِّ عضوٍ ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما له
(1)
أخرجه البخاري (6357) في الدعوات، ومسلم (406) في الصلاة.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
(3)
كما في الدر المنثور (1/ 273) وأخرجه البيهقي (8/ 325) في السنن الكبرى، والحاكم (2/ 266) في المستدرك.
(4)
أخرجه البخاري (5891) في اللباس، ومسلم (257) في الطهارة.
(5)
أخرجه مسلم (261) في الإيمان، وأبو داود (53) في الطهارة، والترمذي (2757) في الأدب، وابن ماجة (293) في الطهارهّ وسننها، والنسائي (8/ 126) و (128) في الزينة، وهو في الكبرى (9286) و (9287) و (9288).
(6)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
يُشيْن
(1)
من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قَلْحٍ
(2)
أو وَسَخٍ، فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].
ذكر قصره في الجنة
قال الحافظ أبو بكر البزَّار
(3)
: حَدَّثَنَا أحمد بن سنان القطَّان الواسطي، ومحمد بن موسى القَطَّان، قالا: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حَدَّثَنَا حمَّاد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنَّةِ قصرًا - أحسبه قال - من لؤلؤة ليس فيه فَصْمٌ
(4)
ولا وَهْيٌ
(5)
، أعدَّه اللّه لخليله إبراهيم عليه السلام نُزُلًا".
قال البزار: وحَدَّثَنَاه أحمد بن حُمَيْد
(6)
المروزي، حَدَّثَنَا النَّضْر بن شُمَيْل، حَدَّثَنَا حماد بن سَلمة، عن سِماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمُ رواه عن حمَّاد بن سلمةَ فأسندَه إلا يزيد بن هارون والنَّضْر بن شُمَيْل، وغيرهما يرويه موقوفًا.
قلتُ: لولا هذه العِلَّة لكان على شرط الصحيح ولم يُخرِّجوه.
ذكر قصة إبراهيم عليه السلام
قال الإمام أحمد
(7)
: حَدَّثَنَا يونس وحُجَين، قالا: حَدَّثَنَا الليث، عن أبي الزُّبير، عن جابر، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عُرِضَ عليّ الأنبياءُ، فإذا موسى ضَرْبٌ من الرجال كأنَّه من رجالِ شنوءةَ، ورأيتُ عيسى ابن مريم فإذا أقربُ مَنْ رأيتُ به شبَهًا عروةُ بن مسعود، ورأيتُ إبراهيمَ، فإذا أقربُ منْ رأيتُ به شبَهًا دِحْية". تفرَّد به الإمام أحمد من هذا الوجه، وبهذا اللفظ.
وقال أحمد
(8)
: حَدَّثَنَا أسودُ بن عامر، حَدَّثَنَا إسرائيلُ، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مُجاهد، عن ابن عبَّاس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عيسى ابن مريم، وموسى، وإبراهيم، فأما عيسى: فأحمرُ جَعْدٌ عريضُ الصَّدْر. وأما موسى: فآدمُ، جَسِيْمٌ. قالوا له: فإبراهيمُ. قال: انظرُوا إلى صاحِبكم". يعني نفسه.
(1)
كذا في أ و ب وفي المطبوع: ما يشين.
(2)
"قلح": تغير الأسنان بصفرة وخضرة تعلوها.
(3)
كما في كشف الأستار (2346) و (2347).
(4)
"فصْم": كَسْرٌ.
(5)
"وَهيٌ": ضعف. وفي هامش أ: وهَن، وكذلك في المعجم الأوسط وكشف الأستار.
(6)
كذا في ب وكشف الأستار، وفي أ والمطبوع: جميل، وهو تصحيف.
(7)
في المسند (3/ 334).
(8)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 296) وإسناده صحيح على شرط البخاري.
وقال البخاري
(1)
: حَدَّثَنَا بيانُ بن عمرو، حَدَّثَنَا النَّضْر، أنبأنا ابنُ عون، عن مجاهد، أنَّه سمعَ ابن عبَّاس، وذكروا له الدجَّال بين عينيْه [مكتوب] كافر، أو (ك ف ر). فقال: لم أسمعْه، ولكنَّه قال صلى الله عليه وسلم: "أما إبراهيمُ: فانظروا إلى صاحبكم. وأما موسى: فجَعْدٌ آدمُ، على جَملٍ أحمرَ مَخْطومٌ بخُلْبةٍ
(2)
، كأني أنظرُ إليه انحدرَ في الوادي".
وهكذا رواه البخاريُّ أيضًا في كتاب الحج
(3)
وفي اللباس، ومسلم، جميعًا: عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عديّ، عن عبد اللّه بن عون به.
* * *
ذكر وفاة إبراهيم، وما قيل في عمره
ذكرَ ابنُ جرير في تاريخه
(4)
: أن مولدَه كان في زمن النمرود بن كنعان، وهو فيما قيل: الضَّحَّاك المَلِكُ المشهورُ الذي يُقال: إنه مَلكَ ألف سنة، وكان في غاية الغشم والظلم.
وذكرَ بعضُهم أنه من بني راسب الذين بُعثَ إليهم نوحٌ عليهم السلام، وأنه كان إذ ذاكَ مَلكَ الدنيا.
وذكروا أنه طلعَ نجمٌ أخفى ضوءَ الشمس والقمر، فهالَ ذلك أهلَ ذلك الزمان، وفزع النمرودُ، فجمعَ الكهنةَ والمُنجِّمينَ وسألَهم عن ذلك، فقالوا: يُولد مولود في رَعيَّتكَ يكونُ زوالُ مُلْككَ على يديْه، فأمرَ عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يُقتَلَ المولودون من ذلك الحين، فكان مولدُ إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه اللّه عز وجل وصانَه عن كيد الفُجَّار، وشبَّ شبابًا باهرًا، وأنبته اللّه نباتًا حسنًا، حتى كان من أمره ما تقدَّم، وكان مولدُه بالسوس، وقيل: ببابلَ، وقيل: بالسواد من ناحية كُوْثى
(5)
. وتقدَّم عن ابن عباس أنه وُلدَ ببرزةَ شرقيّ دمشق.
فلما أهلك اللّه نمرودَ على يديْه وهاجرَ إلى حرَّان، ثم إلى أرض الشام، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا، ووُلد له إسماعيل وإسحاق، وماتت سارَة قبلَه بقرية حَبْرُون التي في أرض كنعان، ولها من العمر مئة
(1)
في صحيحه (3355) في الأنبياء.
(2)
الخُلْبَةُ: الليف.
(3)
البخاري (1555) في الحج و (5913) في اللباس، ومسلم (166)(270) في الإيمان.
(4)
انظر تاريخ ابن جرير الطبري (1/ 233).
(5)
"كُوثى": قال ياقوت: كوثى العراق: كوثيان؛ أحدهما كوثى الطريق، والآخر كوثى رَبَّى، وبها مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وبها مولده، وهما من أرض بابل، وبها طُرحَ إبراهيم في النار، وهما ناحيتان. معجم البلدان (4/ 487).
وسبع وعشرون سنة، فيما ذكر أهل الكتاب، فحزنَ عليها إبراهيمُ عليه السلام ورثاها رحمها اللّه، واشترى من رجل من بني حيث، يقال له: عفرون بن صخر مغارةً بأربعمئة مثقال، ودفنَ فيها سارَة هنالك.
قالوا: ثم خطبَ إبراهيمُ على ابنه إسحاقَ، فزوَّجه "رفقا" بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملَها من بلادها ومعها مُرضعتها وجواريها على الإبل.
قالوا: ثم تزوَّج إبراهيم عليه السلام "قنطورا" فولدت له: زمران، ويقشان، ومادان، ومدين، وشياق، وشوح. وذكروا ما ولدَ كلُّ واحد من هؤلاء أولاد "فنطورا".
وقد روى ابنُ عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء مَلكِ الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارًا كثيرة اللّه أعلم بصحتها.
وقد قيل: إنَّه مات فجأةً، وكذا داودُ وسليمان، والذي ذكرَه أهلُ الكتاب وغيرُهم خلافُ ذلك.
قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام وماتَ عن مئة وخمس وسبعين، وقيل: وتسعينَ سنة، ودُفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي، عند امرأته سارَة، التي في مزرعة عفرون الحيثي، وتولَّى دفنه إسماعيلُ وإسحاق صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
وقد وردَ ما يدلُّ أنه عاشَ مئتي سنة، كما قاله ابن الكلبي.
وقال أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه
(1)
: أخبرنا المُفضَّل بن محمد الجَنَديُّ بمكة، حَدَّثَنَا علي بن زياد اللَّحَجيُّ، حدَّثنا أبو قرَّة، عن ابن جُرَيْج، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدِ بن المسيِّب، عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "اختتنَ إبراهيمُ بالقَدُوم وهو ابن عشرين ومئة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانينَ سنة" وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم، وجعفر بن عَوْن العَمْري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن أبي هريرة موقوفًا
(2)
.
ثم قال ابن حبان
(3)
: ذكر الخبر المدحض
(4)
قول من زعمَ أنَّ رفعَ هذا الخبر وَهمٌ: أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن الجنيد بِبُسْتَ، حَدَّثَنَا قتيبةُ بن سعيد، حَدَّثَنَا الليثُ، عن ابن عَجْلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اختتنَ إبراهيمُ حين بلغَ مئة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، واختتن بقَدُوم".
(1)
الإحسان (6204).
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه كما في مختصر تاريخ دمشق (3/ 358).
(3)
الإحسان (14/ 86) قبل حديث (6205).
(4)
"المُدحِض": المُبْطِل.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر: من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت عليه ثمانون سنة
(1)
.
ثم روى ابن حِبَّان
(2)
عن عبد الرزاق: أنه قال: القَدُوم: اسم القرية.
قلت: الذي في الصحيح
(3)
أنه اختتنَ وقد أتتْ عليه ثمانون سنة، وفي رواية "وهو ابن ثمانين سنة" ولس فيهما تعرُّض لما عاش بعد ذلك، واللّه أعلم.
وقال محمد بن إسماعيل الحيَّاني
(4)
الواسطي: زاد في تفسير وكيع عنه - فيما ذكره من الزيادات - حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي هريرة، قال: كان إبراهيمُ أوَّل من تسرولَ، وأوَّل من فَرَق، وأوَّل من استحدَّ، وأوَّل من اختتنَ بالقَدُوم، وهو ابن عشرين ومئة سنة، وعاشَ بعد ذلك ثمانينَ سنة، وأوَّل من قرى
(5)
الضيف، وأوَّلَ من شابَ
(6)
.
هكذا رواه موقوفًا، وهو أشبهُ بالمرفوع، خلافًا لابن حِبَّان، واللّه أعلم.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسيِّب، قال: كان إبراهيمُ أَوَّلَ من أضافَ الضيفَ، وأَوَّل النَّاسِ اختتنَ، وأوَّل الناس قصَّ شاربَه، وأَوَّل النَّاسِ رأى الشَّيْبَ. فقال: يا ربِّ ما هذا؟ فقال اللّه: "وقارٌ" فقال: يا رب زِدْني وقارًا
(7)
.
وزادَ غيرهما: وأوَّل منْ قصَّ شاربَه، وأوَّل من استحدَّ، وأولَ من لبس السراويلَ.
فقبرُه وقبرُ ولده إسحاق، وقبرُ وَلَدِ وَلدهِ يعقوبَ في المُرَبَّعةِ التي بناها سليمانُ بن داود عليه السلام ببلد حَبْرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا تُلُقِّيَ بالتواتر أُمَّةً بعد أُمةٍ وجيلًا بعد جيل، من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا؛ أن قبرَه بالمربعة تحقيقًا. فأمَّا تعيينه منها فليس فيه خبرٌ صحيح عن معصوم، فينبغي أنْ تُراعى تلك المَحَلَّة وأنْ تُحترم احترامَ مثلِها، وأن تُبَجَّل، وأنْ تُجل أن يُداس في أرجائها خشيةَ أن يكونَ قبرُ الخليل، أو أحدٌ من أولاده الأنبياء عليهم السلام تحتَها.
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه، كما في مختصر تاريخ دمشق (3/ 358).
(2)
الإحسان (14/ 85).
(3)
يعني: صحيح البخاري (3356) في الأنبياء.
(4)
في المطبوع: الحساني، وهو تصحيف.
(5)
قرى الضيف: أطعمه.
(6)
انظر هذه الأوليات في كتاب "محاضرة الأوائل ومسامرة الأواخر" للسكتواري البسنوي (ص 37 - 39) وعزاه لتاريخ القدس.
(7)
أخرجه مالك في الموطأ (2/ 922).
وروى ابن عساكر
(1)
بسنده إلى وَهْبِ بن مُنَبِّه قال: وُجِد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلفه
(2)
: [من الرجز]
ألهى جَهُولًا أمَلُهْ
…
يموتُ مَنْ جَا أجَلُهْ
ومَنْ دَنا من حَتْفهِ
…
لم تُغنِ عَنْه حِيَلُهْ
وكيفَ يَبْقَى آخِرٌ
…
مَنْ ماتَ عَنْهُ أوّلُهْ
والمَرْءُ لا يَصْحبُهُ
…
في القبرِ إِلَّا عَمَلُهُ
(3)
ذكر أولاد إبراهيم الخليل
أَوَّل من وُلد له إسماعيلُ من هاجَرَ القِبْطيَّة المِصريَّة، ثم وُلد له إسحاق من سارَة بنت عمِّ الخليل، ثم تزوَّجَ بعدها "قنطورا" بنت يقطن الكنعانية، فولدتْ له ستةً: مدين، وزمران، وسرج، ونقشان، ونشق، ولم يُسمِّ السادسَ، ثم تزوَّجَ بعدها "حجون" بنت أهين، فولدت له خمسة: كيسان، وسورج، وأميم، ولوطان، ونافس. هكذا ذكره أبو القاسم
(4)
السهيلي في كتابه "التعريف والإعلام".
* * *
[قصة قوم لوط عليه السلام]
(5)
ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصَّة قوم لوط عليه السلام، وما حلَّ بهم من النقمة الغميمة
(6)
، وذلكَ أن لوطًا بن هاران بن تارح - وهو آزر - كما تقدَّم، ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم وهاران وناحور إخوةٌ كما قدَّمنا، ويُقال: إن هاران هذا هو الذي بنى حَران، وهذا ضعيفٌ لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب، واللّه أعلم.
وكان لوطٌ قد نزحَ عن محلَّة عمِّه الخليل عليهما السلام بأمره له وإذنه، فنزلَ بمدينة سَدُوم من أرض
(1)
في تاريخه؛ كما في مختصر تاريخ دمشق (3/ 376).
(2)
في مختصر تاريخ دمشق: أُصيبَ على قبر إبراهيم الخليل مكتوب خلفه في حجر. وفي ب: خلقة: وفيها تصحيف.
(3)
في المختصر: أن هذا البيت من زيادة بعض أهل العلم.
(4)
انظر "التعريف والإعلام" للسهيلي (ص 35) وفيه: مدين، وزموان، وسبرج، ونقشان، ونشق.
(5)
ما بين حاصرتين أضفته عنوانًا تمشيًا مع ما صنعه المؤلف سابقًا ولاحقًا.
(6)
الغميمة: من الغمِّ والكَرْب.
غور زغر، وكان أَمَّ تلك المَحلَّة، ولها أرضٌ ومعتملات وقرى مضافة إليها، ولها أهلٌ من أفجرِ النَّاس وأكفرِهم وأسوئهم طويَّةٌ، وأردَاهم سريرة وسيرةً، يقطعونَ السبيلَ، ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكرٍ فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون. ابتدعوا فاحشةً لم يسبقْهم إليها أحدٌ من بني آدم، وهي إتيانُ الذُّكْران من العالمين، وتركُ ما خلقَ اللّه من النِّسوان لعباده الصالحين، فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحدَه لا شريكَ له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادَوْا على ضلالهم وطُغيانهم، واستمرُّوا على فُجورهم وكُفْرَانهم، فأحلَّ اللّه بهم من البأس الذي لا يُردُّ ما لم يكن في خَلَدِهم وحُسْبَانهم، وجَعلَهم مُثْلةً في العالمين، وعبرةً يتعظُ بها الألِبَّاءُ من العالمين، ولهذا ذكرَ اللّه تعالى قِصَّتهم في غير ما موضع من كتابه المبين، فقال تعالى في سورة الأعراف:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 80 - 84].
وقال تعالى في سورة الحجر: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 51 - 77].
وقال تعالى في سورة الصافات: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 133 - 138].
وقال تعالى في الذاريات بعد قصَّة ضيف إبراهيم، وبشارتهم إياه بغلام عليم:{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 31 - 37].
وقد تكلَّمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السور في التفسير.
وقد ذكرَ اللّه لوطًا وقومَه في مواضع أُخرَ من القرآن، تقدَّمَ ذِكرها مع قوم نوح وعادٍ وثمود، والمقصودُ الآن إيرادُ ما كانَ من أمرهم، وما أحلَّ اللّه بهم مجموعًا من الآيات والآثار، وباللّه المستعان.
وذلك أنَّ لوطًا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة اللّه وحدَه لا شريكَ له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكرَ اللّه عنهم من الفواحش، فلم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركُوا ما عنه نهُوا، بل استمرُّوا على حالهم، ولم يرعووا
(1)
عن غيِّهم وضَلالهم وهمُّوا بإخراج رسولهم من بين ظَهْرَانيهم، وما كانَ حاصلُ جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا:{أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] فجعلوا غاية المدح ذمًّا يقتضي الإخراج، وما حملَهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.
فطهَّره اللّه وأهلَه إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسنَ إخراج، وتركَهم في محلَّتهم خالدين، لكنْ بعدما صيَّرها عليهم بحرةً منتنةً ذات أمواج، لكنَّها عليهم في الحقيقة نار تأجَّج، وحرٌّ يتوهَّجُ، وماؤها مِلْحٌ أجال.
وما كان هذا جوابُهم إلا لما نهاهم عن الطَّامَّةِ العظمى والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقْهم إليها أحدٌ من أهل الدنيا، ولهذا صاروا مُثْلةً فيها، وعبرةً لمن عليها.
وكانوا مع ذلك يقطعون الطريقَ، ويخونونَ الرفيقَ، ويأتون في ناديهم - وهو مجتمعهم ومحلّ حديثهم وسمرهم - المنكرَ من الأقوال والأفعال على اختلاف أصنافه، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطُون في مجالسِهم ولا يستحيُونَ من مُجالسيهم، وربما وقعَ منهم الفعْلةُ العظيمةُ في المحافل، ولا يستنكفون، ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نميمة من ناقل
(2)
، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضلُّ سبيلًا، ولم يُقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلفَ من الماضي، ولارامُوا في المستقبل تحويلًا، فأخذَهم اللّه أخذًا وبيلًا، وقالوا له فيما قالوا:{ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29]، فطلبوا منهْ وقوعَ ما حذَّرهم من العذاب الأليم، وحلول البأس العظيم، فعند ذلك
(1)
كذا في أ و ب. وفي المطبوع: ولم يرتدعوا.
(2)
كذا في أ و ب وفي المطبوع: ولا نصيحة من عاقل. ولعلها الأصوب.
دعا عليهم نبيُّهم الكريم، فسألَ من ربِّ العالمين وإله المرسلين، أن ينصرَه على القوم المفسدين، فغارَ لغَيْرتِه وغضب لغَضْبَتهِ، واستجابَ لدعوتِه، وأجابه إلى طُلْبَتهِ، وبعثَ رسلَه الكرام وملائكتَه العظام، فمرُّوا على الخليل إبراهيم، وبشَّرُوه بالغلام العليم، وأخبرُوه بما جاؤوا له من الأمر الجَسيم والخَطْب العَميم. {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 31 - 34].
وقال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31، 32].
وقال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]. وذلك أنه كان يرجو أن يُنيبوا ويُسلموا، ويُقلعوا ويرجعوا، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 75، 76] أي: أعرضْ عن هذا وتكلَّمْ في غيره، فإنه قد حتمَ أمرُهم، ووجبَ عذابُهم وتدميرُهم وهلاكُهم {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 76] أي: قد أَمر به من لا يُردُّ أمرُه، ولا يُردُّ بأسه، ولا مُعَقِّبَ لحكمِه {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76].
وذكر سعيدُ بن جُبير، والسُّدِّي وقتادة ومحمد بن إسحاق: أن إبراهيمَ عليه السلام جعلَ يقول: "أتُهلكون قريةً فيها ثلاثمئة مؤمن؟ قالوا: لا. قال: فمئتا مؤمن؟ قالوا: لا. قال: فأربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا. قال: فأربعة عشرَ مؤمنًا؟ قالوا: لا، قال ابن إسحاق إلى أن قال "أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا: لا. {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت: 32] الآية
(1)
".
وعند أهل الكتاب أنه قال: يا ربِّ أتُهلكهم وفيهم خمسون رجلًا صالحًا؟ فقال الله: لا أُهلكهم وفيهم خمسونَ صالحًا. ثم تنازلَ إلى عشرة فقال الله: لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون.
قال اللّه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] قال المفسرون: لما فصلتِ الملائكةُ من عند إبراهيم: جبريل وميكائيل وإسرافيل، أقبلوا حتى أتوا أرض سدُوم في صُور شبَّان حِسَان، اختبارًا من اللّه تعالى لقوم لوط، وإقامةً للحجَّة عليهم، فاستضافوا لوطًا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس، فخشيَ إنْ لم يُضْفهم يُضَيِّفهم غيرُه، وحسبَهم بشرًا من النَّاس {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]. قال ابن عبَّاس
(2)
ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق: شديدٌ بلاؤُه. وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنعُ بهم في
(1)
أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ (1/ 297).
(2)
انظر تفسير الطبري (7/ 80 - 81).
غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يُضَيِّفَ أحدًا، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه.
وذكر قتادة: أنَّهم وَرَدُوا عليه وهو في أرضٍ له يعملُ فيها، فتضيَّفُوا، فاستحيا منهم، وانطلقَ أمامَهم، وجعلَ يُعرِّضُ لهم في الكلام لعلَّهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلوا في غيرها، فقال لهم فيما قال: يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهلَ بلد أخبثَ من هؤلاء، ثم مشى قليلًا، ثم أعاد ذلك عليهم، حتى كرَّره أربعَ مرَّات، قال: وكانوا قد أمروا ألا يُهلكوهم حتى يشهدَ عليهم نبيُّهم بذلك
(1)
.
وقال السُّديِّ: خرجتِ الملائكةُ من عند إبراهيم نحوَ قوم لوط، فأتَوْها نصفَ النَّهار، فلما بلغوا نهرَ سَدُوم لقوا ابنةَ لوط تَسْتقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى "ريثا" والصُّغرى "زغْرتا" فقالوا لها: يا جاريةُ: هل من منزلٍ؟ فقالت لهم: مكانَكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فَرِقَتْ عليهم من قومها، فأتتْ أباها، فقالت: يا أبتاه أرادَك فتيانٌ على باب المدينة، ما رأيتُ وجوهَ قومِ قطُّ هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم. وقد كان قومُه نهوه أن يُضيِّفَ رجلًا، فجاء بهم فلم يعلم أحدٌ إلا أهلُ البيت، فخرجتْ امرأتُه فأخبرتْ قومَها، فقالت: إن في بيت لوط رجالًا ما رأيتُ مثلَ وجوههم قطُ، فجاءَه قومُه يُهرعون إليه
(2)
.
وقوله: {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أي: هذا مع ما سلفَ لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة {يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] يُرشدهم إلى غشيان نسائِهم وهنَّ بناته شرعًا، لأن النبيَّ للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، وكما قال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وفي قول بعض الصحابة والسلف: وهو أب لهم. وكهذا كقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166] وهذا هو الذي نصَّ عليه مجاهد وسعيد بن جُبَيْر والربيع بن أنس وقتادة والسُّدِّي ومحمد بن إسحاق، وهو الصواب.
والقولُ الآخر خطأ، مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحَّفَ عليهم، كما أخطؤوا في قولهم: إن الملائكة كانوا اثنين، وإنهم تَعشَّوْا عنده، وقد خبطَ أهلُ الكتاب في هذه القِصَّة تخبيطًا عظيمًا.
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] نهيٌ لهم عن تعاطي ما لا يليقُ من الفاحشة، وشهادةٌ عليهم بأنه ليس فيهم رجلٌ له مُسْكةٌ ولا فيه خير، بل الجميعُ سفهاء، فجرةٌ أقوياء، كفرةٌ أغبياء.
وكان هذا من جملة ما أرادَ الملائكةُ أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه، فقال قومه: - عليهم لعنة
(1)
أخرجه ابن جرير في التفسير (7/ 79 - 80).
(2)
أخرجه ابن جرير في التاريخ (1/ 300).
الله الحميد المجيد - مجيبينَ لنبيِّهما فيما أمرَهم به من الأمر السديد {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] يقولون - عليهم لعائن الله - لقد علمتَ يا لوط إنه لا أربَ لنا في نسائنا، وإنك لتعلَمُ مُرادنا وغَرضنا. واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولَهم الكريم، ولم يخافوا سَطْوةَ العظيم، ذي العذاب الأليم، ولهذا قال عليه السلام:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] ودَّ أن لو كان له بهم قوَّة، أو منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحفونه من العذاب على هذا الخطاب.
وقد قال الزُّهري: عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة: عن أبي هريرة مرفوعًا: "نحنُ أحقُّ بالشكُ من إبراهيم، ويرحمُ اللّه لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثتُ في السجن ما لبثَ يوسف لأجبتُ الداعي"
(1)
ورواه أبو الزِّناد: عن الأعرج، عن أبي هريرة.
وقال محمد بن عمرو بن علقمة: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"رحمةُ الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني اللّه عز وجل فما بعثَ الله بعدَه من نبيٍّ إلا في ثروة من قومه"
(2)
.
وقال تعالى: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 67 - 71] فأمرهم بقُربان نسائِهم وحذَّرهم الاستمرار على طريقتهم وسيِّآتهم، هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلَّما نصحَ لهم يُبالغون في تحصيل هؤلاء الضِّيفان ويُحرِّضون، ولم يعلموا ما حُمَّ به القَدَرُ مما هم إليه صائرون، وصبيحةَ ليلتهم إليه مُنقلبون، ولهذا قال تعالى مقسمًا بحياة نبيِّه محمد صلوات اللّه وسلامه عليه:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 36 - 38] ذكرَ المفسرون
(3)
وغيرُهم: أن نبيَّ اللّه لوطًا عليه السلام جعلَ يُمانعُ قومَه الدخولَ، ويُدافعُهم، والبابُ مغلقٌ، وهم يرومون فتحَه وولوجَه، وهو يعظُهم وينهاهُم من وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وإنفاج
(4)
، فلما ضاقَ الأمرُ وعَسُرَ الحالُ، قال:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، لأحللتُ بكم النَّكال.
قالت الملائكة: ({يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81] وذكروا أن جبريلَ عليه السلام خرجَ
(1)
أخرجه البخاري (3372) في الأنبياء.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (605) والترمذي (3116) في التفسير، والحاكم في المستدرك (2/ 561).
(3)
انظر تفسير الطبري (7/ 85 - 86).
(4)
إنفاج: تعاظم وتكبُّر.
عليهم فضربَ وجوهَهم خفقةً بطرف جناحِه، فطمست أعينَهم، حتى قيل: إنها غارت بالكلية، ولم يبق لها محلٌّ ولا عينٌ ولا أثر، فرجعوا يتحسَّسون مع الحيطان، ويتوعَّدون رسولَ الرحمن، ويقولون: إذا كان الغدُ كان لنا وله شأنٌ، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 37، 38] فذلك أن الملائكة تقدَّمت إلى لوط عليهم السلام، آمرينَ له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81] يعني عند سمِاع صوت العذاب إذا حلَّ بقومه، وأمروه أن يكونَ سيرُه في آخرهم كالساقة لهم. وقوله:{إِلَّا امْرَأَتَكَ} على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} كأنه يقول: إلَأ امرأتك فلا تسرِ بها، ويحتمل أن يكونَ من قوله:{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} أي: فإنها ستلتفت فيُصيبها ما أصابَهم، ويُقوِّي هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الأول أظهر في المعنى، واللّه أعلم.
قال السهيلي
(1)
: واسم امرأة لوط "والهة" واسم امرأة نوح "والغة".
وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والأشباه، الذين جعلَهم اللّه سلفًا لكلِّ خائن مُريب:{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] فلما خرجَ لوطٌ عليه السلام بأهله وهم ابنتاه، ولم يتبعْه منهم رجلٌ واحد، ويُقال: إن امرأتَه خرجتْ معه، فالله أعلم. فلما خَلَصوا من بلادهم وطلعتِ الشَّمْسُ، فكان عند شروقها جاءَهم من أمر الله ما لا يُردُّ، ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يُصدَّ.
وعند أهل الكتاب: أن الملائكة أمروه أن يصعدَ إلى رأس الجبل الذي هناك، فاستبعده، وسأل منهم أن يذهبَ إلى قرية قريبة منهم. فقالوا: اذهب فإنا ننتظرُك حتى تصيرَ إليها وتستقرَّ فيها، ثم نُحلّ بهم العذابَ، فذكروا أنه ذهبَ إلى قرية "صغر" التي يقول النَّاس "غور زغر" فلما أشرقتِ الشَّمْسُ نزلَ بهم العذاب، قال اللّه تعالى:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].
قالوا: اقتلعَهنَّ جبريلُ بطرف جناحِه منْ قَرارهنَّ، وكنَّ سبعَ مُدُنٍ بمن فيهنَّ من الأمم، فقالوا: إنَّهم كانوا أربعمئة نسمة. وقيل: أربعة آلاف نسمة، وما معهم من الحيوانات، وما يتبعُ تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات، فرفعَ الجميعَ حتى بلغَ بهنَّ عنانَ السماء، حتى سمعتِ الملائكةُ أصواتَ ديكتهم ونُباح كلابهم، ثم قلبَها عليهم، فجعل عاليها سافلَها. قال مجاهد: فكان أوَّل ما سقط منها شرفاتها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82] والسِّجِّيل
(2)
: فارسي مُعرَّب، وهو الشديد
(1)
التعريف والإعلام؛ للسهيلي (ص 53).
(2)
سقطت من أ.
الصُّلْبُ القويُّ {مَنْضُودٍ} أي يتبعُ بعضُها بعضًا في نزولها عليهم من السماء {مُسَوَّمَةً} أي: معلمة، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه كما قال:{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} وكما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [الشعراء: 173] وقال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 53، 54]، يعني قلبَها فأهوى بها منكَّسة عاليها سافلها، وغشَّاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة، على كل حجر اسم صاحبه الذي سقطَ عليه، من الحاضرين منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذِّين منها. ويقال: إن امرأةَ لوطٍ مكثتْ مع قومها، ويُقال: إنها خرجتْ مع زوجها وبنتيها، ولكنَّها لما سمعت الصَّيْحة وسقوطَ البلدة التفتتْ إلى قومها، وخالفتْ أمرَ ربِّها قديمًا وحديثًا، وقالت: واقوماه! فسقطَ عليها حجرٌ فدمغَها
(1)
، وألحقَها بقومها إذ كانت على دينهم، وكانت عَيْنًا لهم على منْ يكونُ عند لوطٍ من الضِّيفان، كما قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] أي: خانتاهما في الدين، فلم يتَّبعاهُما فيه. وليس المرادُ أنهما كانتا على فاحشةٍ، حاشا وكلا ولمَّا، فإنَّ الله لا يُقدِّرُ على نبيٍّ أن تبغيَ امرأتُهُ، كما قال ابن عبَّاس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأةُ نبيٍّ قط. ومنْ قال خلافَ هذا فقد أخطأ خطأً كبيرًا. قال اللّه تعالى في قصة الإفك، لما أنزل براءة أمِّ المؤمنين عائشة بنت الصِّدِّيق زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فعاتبَ اللّه المؤمنين وأَنَّبَ وزجرَ ووعظَ وحذَّر، وقال فيما قال:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 15، 16] أي: سبحانَكَ أن تكون زوجة نبيِّك بهذه المثابة. وقوله هاهنا {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] أي: وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم.
ولهذا ذهبَ منْ ذهبَ من العلماء إلى أن اللائط يُرجمُ سواءٌ كان مُحْصنًا أو لا، نصَّ عليه الشافعيُّ وأحمد بن حنبل، وطائفةٌ كثيرة من الأئمة، واحتجُّوا أيضًا بما رواه الإمام أحمد وأهلُ السُّننَ: من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "منْ وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لوط فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به"
(2)
وذهبَ أبو حنيفة إلى أن اللائطَ يُلقى من شاهق جبل ويُتْبعُ بالحجارة، كما فُعِلَ بقوم لوط، لقوله تعالى:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].
وجعلَ اللّه مكانَ تلك البلاد بحرةً منتنةً، لا يُنتفع بمائِها، ولا بما حولَها من الأراضي المتاخمة
(1)
تاريخ الطبري (1/ 301) وفيه: فأدركها حجرٌ فقتلها.
(2)
رواه أحمد في المسند (1/ 300) وأبو داود (4462) في الحدود، والترمذي (1456) في الحدود، وابن ماجة (2561) في الحدود وهو حديث صحيح بشواهده.
لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارتْ عبرة ومُثْلةً وعِظَةً وآيةً على قدرة اللّه تعالى وعظمته، وعزَّته في انتقامه ممن خالفَ أمرَه وكذَّبَ رسلَه واتَّبعَ هواه وعصى مولاه، ودليلًا على رحمتِه بعباده المؤمنينَ في إنجائه إيَّاهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من النُّور إلى الظلمات، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 8، 9]، وقال تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 73 - 77] أي: منْ نَظرَ بعين الفراسة والتوسُّم فيهم، كيف غيَّر اللّه تلك البلاد وأهلَها، وكيف جعلَها بعدما كانت آهلةً عامرة، هالكةً غامرة؛ كما روى الترمذيُّ وغيرُه مرفوعًا:"اتقوا فراسةَ المؤمن فإنَّه ينظر بنور اللّه"
(1)
ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].
وقوله {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76] أي: لطريق مهيعٍ مسلوك إلى الآن، كما قال:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138] وقال تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35]، وقال تعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 35 - 37]، أي: تركناها عبرة وعظةً لمن خافَ عذابَ الآخرة، وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربّه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجرَ عن محارم اللّه، وترك معاصيه، وخاف أن يُشابه قومَ لوط:"ومن تشبَّه بقوم فهو منهم"
(2)
وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه، كما قال بعضهم:[من الطويل]
فإنْ لم تكونوا قومَ لوطٍ بعينهم
…
بعينهم فما قومُ لوطٍ منكمُ ببعيد
فالعاقلُ اللَّبيبُ الخائفُ من ربِّه، الفاهمُ، يمتثلُ ما أمرَه اللّه به عز وجل، ويقبلُ ما أرشده إليه رسولُ اللّه من إتيان ما خلقَ له من الزوجات الحلال، والجواري من السَّراري ذوات الجمَال، وإيَّاه أن يتَّبعَ كلَّ شيطان مريد، فيحقّ عليه الوعيد، ويدخل في قوله تعالى:{وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83].
* * *
(1)
أخرجه الترمذي (3127) في التفسير وقال: هذا حديث غريب (يعني: ضعيف)، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 50) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 313) وسنده حسن، وصححه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، وحسنه الحافظ في الفتح (6/ 72) ورواه أبو داود (4031) في اللباس وله شاهد من حديث حذيفة، انظر مجمع الزوائد (10/ 271) وعلق طرفًا منه البخاري، وله شاهد مرسل، فالحديث صحيح بطرقه وشواهده.
قصة مدين قوم شعيب عليه السلام
وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضًا: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر: 78، 79].
كان أهل مدين قومًا عَربًا، يَسكنونَ مدينتَهم "مدينَ" التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجاز، قريبًا من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدَهم بمدَّة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم المدينة، وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل، وشعيبُ نبيُّهم هو ابن ميكيل بن يشجن، ذكره ابن إسحاق، قال: ويقال له بالسريانية: "ينزون" وفي هذا نظر، ويُقال: شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب، ويقال: شعيب بن نويب بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم. ويقال: شعيب بن ضيفور بن عيتا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. وقيل: غير ذلك في نسبه.
قال ابن عساكر
(1)
: ويُقال جدَّتُه، ويُقال: أمه بنت لوط.
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجرَ معه، ودخلَ معه دمشقَ.
وعن وهْب بن مُنبه أنه قال: كان شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أُحرقَ بالنار، وهاجرا معه إلى الشام فزوَّجهما بنتيْ لوط عليه السلام. ذكره ابن قتيبة
(2)
.
وفي هذا كله نظر أيضًا واللّه أعلم.
وذكر أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"
(3)
في ترجمة سلمةَ بن سعد العَنزي، قدمَ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسلمَ وانتسبَ إلى عنزةَ، فقال: "نعم الحيُّ عنزةَ، مبغيٌّ عليهم، منصورون، رهطُ شعيب وأختان
(4)
موسى" فلو صحَّ هذا لدلَّ على أنَّ شُعيبًا صهر موسى، وأنه من قبيلة من العرب العاربة يُقال
(1)
في تاريخه، كما في المختصر (10/ 307).
(2)
انظر كتاب "المعارف"، لابن قتيبة (ص 41).
(3)
"الاستيعاب"(2/ 91).
(4)
الذي في الاستيعاب: وأحبار موسى.
لهم: عَنزةَ، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، فإن هؤلاء بعدَه بدهرٍ طويل، واللّه أعلم.
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حِبَّان في ذكر الأنبياء والرسل، قال:"أربعةٌ من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيُّك يا أبا ذر"
(1)
.
وكان بعضُ السلف يُسمِّي شعيبًا خطيبَ الأنبياء، يعني لفصاحته وعلوِّ عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.
وقد روى ابن إسحاق بن بشر: عن جويبر ومقاتل، عن الضَّحَّاك، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرَ شعيبًا قال: "ذاكَ خطيبُ الأنبياء"
(2)
.
وكان أهلُ مَدْين كفَّارًا يقطعونَ السبيلَ، ويُخيفون المارَّة، ويعبدون الأيكةَ، وهي شجرةٌ من الأيك حولَها غيضة
(3)
ملتفَّة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملةً، يبخسون المِكْيال والميزان، ويُطفِّفونَ فيهما، يأخذون بالزائد ويدفعونَ بالنَّاقص، فبعثَ اللّه فيهم رجلًا منهم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم شُعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحدَه لا شريكَ له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحةِ من بَخْسِ النَّاس أشياءهم وإخافتهم لهم في سُبُلهم وطُرُقاتِهم، فآمن به بعضُهم وكفرَ أكثرُهم، حتى أحلَّ اللّه بهم البأسَ الشديدَ، وهو الولي الحميد، كما قال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85] أي: دلالة وحجَّة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تُنقل إلينا تفصيلًا، وإن كانَ هذا اللَّفظ قد دلَّ عليها إجمالًا:{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85] أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وتوعَّدَهم على [خلاف ذلك]
(4)
فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي: طريق {تُوعِدُونَ} [الأعراف: 85 - 86]: تتوعدون الناس بأخذ أموالِهم من مُكوسٍ وغير ذلك، وتُخيفون السُّبُل.
قال السُّدِّي في تفسيره عن الصحابة: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} أنهم كانوا يأخذونَ العشورَ من أموال المارة.
(1)
تقدم تخريجه (ص 183).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم؛ كما في الدر المنثور (3/ 190).
(3)
غيضة: الأجمة، ومجتمع الشجر.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
وقال إسحاق بن بشرٍ: عن جُويبر عن الضَّحاك، عن ابن عباس، قال: كانوا قومًا طغاةً بغاةً، يجلسون على الطريق، ويبخسون الناس، يعني: يُعشِّرونهم، وكانوا أوَّلَ من سَنَّ ذلك. {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 86] فنهاهم عن قطعِ الطريقِ الحِسِّيَّةِ الدنيويَّة والمعنويَّة الدينية: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] ذكَّرهم بنعمة اللّه تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القِلَّة، وحذَّرهم نقمةَ اللّه بهم إن خالفوا ما أرشدَهم إليه ودلَّهم عليه، كما قال لهم في القِصَّة الأخرى:{وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] أي: لا تركبُوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق
(1)
اللّه بركةَ ما في أيديكم ويُفقرُكم، ويُذهبُ ما به يغنيكم، وهذا مضافٌ إلى عذاب الآخرة، ومنْ جُمع له هذا وهذا فقد باءَ بالصفقة الخاسرة، فنهاهم أولًا عن تعاطي ما لا يليقُ من التطفيف، وحذَّرهم سَلْبَ نعمةِ اللّه عليهم في دنياهم وعذابه الأليم في أُخراهم، وعنَّفهم أشدَّ تعنيف.
ثم قال لهم آمرًا بعدما كان عن ضِدِّه زاجرًا {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 85، 86] قال ابن عباس والحسن البصري: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86] أي: رزق اللّه خير لكم من أخذ أموال النَّاس.
وقال ابن جرير: ما فضلَ لكم من الربح بعدَ وفاء الكيل والميزان خيرٌ لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف، قال: وقد رُوي هذا عن ابن عبَّاس.
وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيهٌ بقوله تعالى:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] يعني: أن القليل من الحلال خيرٌ لكم من الكثير من الحرام، فإنَّ الحلالَ مباركٌ وإن قلَّ، والحرامَ ممحوقٌ وإنْ كثرَ، كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرِّبا وإنْ كَثُرَ فإن مصيره إلى قُلٍّ" رواه أحمد
(2)
. أي: إلى قلة. وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقَا وبيَّنا بُوركَ لهما في بَيْعهما، وإنْ كتما وكذَبا مُحِقَتْ بركةُ بيعهما"
(3)
.
والمقصود: أنَّ الربحَ الحلال مُباركٌ فيه وإنْ قَلَّ، والحرامُ لا يجدي وإن كثر، ولهذا قال نبي اللّه شُعيب:{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86].
(1)
كذا في ب، وفي أ: فيمحو.
(2)
في المسند (1/ 395، 424) وابن ماجة (2279) في التجارات.
(3)
أخرجه البخاري (2114) في البيوع، ومسلم (1532) في البيوع.
وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] أي: افعلوا ما آمرُكم به ابتغاءَ وجه اللّه، ورجاءَ ثوابه، لا لأرَاكم أنا وغيري.
{قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] يقولونَ هذا على سبيل الاستهزاء والتنقُّص والتَّهَكُم: أصلاتُك هذه التي تُصلِّيها هي الآمرةُ لك بأن تحجزَ علينا فلا نعبدُ إلا إلهك، ونتركُ ما يعبدُ آباؤنا الأقدمون وأسلافُنا الأَوَّلون، أو ألَّا نتعاملَ إلا على الوجه الذي ترتضيه أنتَ، ونتركُ المعاملاتِ التي تأباها، وإن كنا نحن نرضاها {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] قال ابن عباس وميمونُ بن مِهْران وابن جُرَيْج وزيد بن أسلم وابن جرير
(1)
: يقول ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.
{قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] هذا تلطُّفٌ معهم في العبارة ودعوةٌ لهم إلى الحق بأبينِ إشارةِ، يقول لهم: أرأيتُم أيها المكذبون: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 88] أي: على أمر بَيِّنٍ من الله تعالى، أنه أرسلني إليكم {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88] يعني النبوة والرِّسالة، يعني وعَمِيَ عليكم معرفتها، فأيُّ حيلةِ لي لكم. وهذا كما تقدَّم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.
وقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] أي: لستُ آمرُكم بالأمر إلا وأنا أَوَّلُ فاعل له، وإذا نهيتُكم عن الشيء فأنا أَوَّلُ منْ يتركُه، وهذه هي الصفة المحمودةُ العظيمة، وضدُّها هي المردودة الذميمة، كما تلبَّسَ بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم، وخطباؤهم الجاهلون، قال الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
وذكرَ عندها في الصحيح: عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" يُؤتى بالرجل فيُلقى في النار فتندلقُ أقتابُ بطنِه - أي: تخرجُ أمعاؤه من بطنِه - فيدورُ بها كما يدورُ الحمارُ برحاه، فيجتمعُ أهلُ النَّار، فيقولون: يا فلان مالكَ؟ ألم تكن تأمرُ بالمعروف وتَنْهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"
(2)
.
وهذه صفة مُخالفي الأنبياء من الفُجَّار والأشقياء، فأمَّا السادةُ من النُّجباء والألبَّاء من العلماء، الذين يخشونَ ربَّهم بالغيب، فحالُهم كما قال نبي اللّه شعيب:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] أي: ما أُريد في جميع أمري إلا الإصلاحَ في الفعال والمقال بجهدي
(1)
انظر تفسيره (7/ 101).
(2)
أخرجه البخاري (3267) في بدء الخلق، ومسلم (2989) في الزهد والرقائق.
وطاقتي {وَمَا تَوْفِيقِي} أي: في جميع أحوالي {إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] أي: عليه أتوكَّل في سائر الأمور وإليه مَرْجعي ومَصيري في كلِّ أمري، وهذا مقامُ ترغيب.
ثم انتقلَ إلى نوعٍ من الترهيب، فقال:{وَيَاقَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] أي: لا تحملنَّكم مخالفتي، وبغضُكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالِكم وجهلِكُم ومخالفتِكم، فيحلّ اللّه بكم من العذاب والنَّكال نظيرَ ما أحلَّه بنُظرائكم وأشباهِكم من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح من المكذِّبين المخالفين.
وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] قيل: معناه في الزمان، أي: ما بالعهد من قدم، مما قد بلغكم ما أحلَّ بهم على كفرهم وعُتوِّهم. وقيل: معناه: وما هم منكم ببعيد في المحلَّة والمكان. وقيل: في الصفات والأفعال المُستقبحات، من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفيةً، بأنواع الحيل والشبهات، والجمعُ بين هذه الأقوال ممكن، فإنَّهم لم يكونوا بعيدينَ منهم، لا زمانًا ولا مكانًا ولا صفاتٍ.
ثم مزجَ الترهيب بالترغيب، فقال:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90]، أي: أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربِّكم الرحيم الودود، فإنَّه منْ تابَ إليه تابَ عليه، فإنَّه رحيمٌ بعباده، أرحمُ بهم من الوالدة بولدها {وَدُودٌ} وهو المجيبُ، ولو بعد التوبة على عبده، ولو من المُوبقات العظام {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] روي
(1)
عن ابن عبَّاس، وسعيد بن جُبَيْر، والثوريّ: أنهم قالوا: كان ضريرَ البَصَر.
وقد رُوي في حديث مرفوع أنه بكى من حبِّ اللّه حتى عَمِيَ، فردَّ اللّه عليه بصرَه، وقال:"يا شعيبُ أتبكي من خوفِك من النَّار أو مِن شوقِك إلى الجنَّة؟ فقال: بل من محبَّتِكَ، فإذا نظرتُ إليكَ فلا أُبالي ماذا يُصنعُ بي. فأوحى إليه اللّه: هنيئًا لك يا شُعيب لقائي، فلذلكَ أخدمتُك موسى بن عمران كليمي".
رواه الواحدي
(2)
عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي، عن علي بن الحسن بن بندار، عن أبي عبد اللّه بن محمد بن إسحاق الرملي، عن هشام بن عمَّار، عن إسماعيل بن عيَّاش، عن بحير بن سعيد، عن شدَّاد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وهو غريبٌ جدًا، وقد ضعَّفه الخطيب
(3)
البغدادي.
(1)
أخرج هذه الآثار ابن جرير في التفسير (7/ 103 - 104).
(2)
في تفسيره، كما في الدر المنثور (4/ 470) وأخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخه، كما في المختصر؛ لابن منظور (10/ 312).
(3)
أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (7/ 320) وقال: "إسماعيل بن علي بن الحسن بن بندار بن المثنى، أبو سعد الواعظ الاستراباذي، قدم علينا بغدادَ حاجًّا، وسمعتُ منه بها حديثًا واحدًا مسندًا منكرًا" ثم ساقه. وقال الذهبي في الميزان (1/ 329): "هذا الحديث باطل لا أصل له".
وقولهم: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] وهذا من كُفْرهم البليغ وعنادهم الشنيع، حيث قالوا:{مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أي: ما نفهمه ولا نتعقَّله، لأنا لا نُحبُّه ولا نُريده، وليس لنا همَّةٌ إليه، ولا إقبال عليه، وهو كما قال كفَّارُ قريش لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] وقولهم: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] أي: مُضْطهدًا مهجورًا {وَلَوْلَا رَهْطُكَ} أي: قبيلتُك وعشيرتُك فينا {لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 91، 92] أي: تخافونَ قبيلتي وعشيرتي، وتراعوني بسببهم ولا تخافونَ جَنَبة
(1)
اللّه، ولا تراعوني لأني رسول اللّه، فصارَ رهطي أعزّ عليكم من اللّه:{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] أي: جعلتم جانب اللّه وراءَ ظهوركم {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92] أي: هو عليمٌ بما تعملونَه وما تصنعونه، محيطٌ بذلك كله، وسيجزيكم عليه يوم تُرجعون إليه {وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] وهذا أمر تهديد شديد ووعيدٍ أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجِهم وشاكلتِهم، فسوفَ تعلمونَ من تكونُ له عاقبةُ الدار، ومن يحلّ عليه الهلاك والبَوَار {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في هذه الحياة الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: في الأخرى {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي: مني ومنكم فيما أخبر وبشَّر وحذَّر {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] وهذا كقوله: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87].
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88، 89]. طلبوا بزعمهم أن يردُّوا من آمن منهم إلى ملَّتهم، فانتصب شعيب للمحاجَّة عن قومه فقال:{أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي: هؤلاء لا يعودونَ إليكم اختيارًا وإنما يعودونَ إليه إن عادُوا اضْطرارًا مُكرمينَ، وذلك لأن الإيمان إذا خالطتْه بشاشةُ القلوبِ لا يسخطُه أحدٌ، ولا يرتدُّ أحدٌ عنه، ولا محيدَ لأحد منه. ولهذا قال:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] أي: فهو كافينا وهو العاصمُ لنا وإليه مَلْجَؤُنا في جميع أمرنا.
ثم استفتحَ على قومِه واستنصرَ ربَّه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم، فقال:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] أي: الحاكمين. فدعا عليهم، واللّه لا يردُّ دعاء رسلِه
(1)
جَنبة: جانب الشيء وناحيته. وفي المطبوع: جَنْب.
إذا استنصروه على الذين جَحدُوه وكفَروه، ورسوله خالفوه، ومع هذا صَمَّمُوا على ما هم عليه مشتملون ويه مُتلبِّسونَ:{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90].
قال اللّه تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91] ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي: رجفت بهم أرضهم، وزُلزلت زلزالًا شديدًا أزهقتْ أرواحَهم من أجسادها، وصَيَّرت حيواناتِ أرضهم كجمادِها، وأصبحت جُثثُهم جاثيةً لا أرواحَ فيها، ولا حركات بها، ولا حوَّاس لها.
وقد جمعَ اللّه عليهم أنواعًا من العقوبات، وصنوفًا من المثلات، وأشكالًا من البَليَّاتِ، وذلك لما اتَّصفُوا به من قبيح الصِّفاتِ، سَلَّطَ اللّه عليهم رجفةً شديدةً، أسكنتِ الحركاتِ، وصيحةً عظيمة أخمدتِ الأصواتَ، وظُلَّة أُرسلَ عليهم منها شررُ النَّارِ من سائر أرجائِها والجهات.
ولكئه تعالى أخبرَ عنهم في كلِّ سورة بما يُناسب سياقها ويُوافق طباقها، في سياق قصَّة الأعراف أرجفوا نبيَّ اللّه وأصحابه، وتوعَّدُوهم بالإخراج من قريتهم، أو ليعودُنَّ في مِلَّتهم راجعين، فقال تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91] فقابلَ الإرجاف بالرجفة والإخافة بالخيفة، وهذا مناسبٌ لهذا السياق، ومُتعلِّق بما تقدَّمه من السياق.
وأما في سورة هود: فذكرَ أنَّهم أخذتْهم الصَّيْحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي اللّه على سبيل التَّهَكُّم والاستهزاء والتنقُّص:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] فناسبَ أنْ يذكرَ الصيحةَ التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا الرسولَ الكريم الأمين الفصيحَ، فجاءتهم صيحةٌ أسْكَتَتْهُمْ مع رجفةٍ أسْكنتْهُم.
وأما في سورة الشعراء: فذكرَ أنه أخذَهم عذابُ يومِ الظُّلَّة، وكان ذلك إجابةً لما طَلبُوا، وتقريبًا إلى ما إليه رغبوا.
فإنهم قالوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 185 - 188] قال اللّه تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] ومن زعمَ من المفسرين، كقتادة وغيره: أن أصحابَ الأيكة أُمة أخرى غير أهل مَدْين، فقوله ضعيف. وإنَّما عمدتهم شيئان: أحدهما: أنه قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 176، 177] ولم يقل أخوهم، كما قال {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85] والثاني: أنه ذكرَ عذابَهم بيوم الظُّلة، وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة. والجواب عن الأول: أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 176]
لأنه وصفَهم بعبادة الأيكة، فلا يُناسبُ ذكرَ الأخوة هاهنا، ولمَّا نسبَهم إلى القبيلة شاعَ ذكرُ شعيب بأنَّه أخوهم. وهذا الفرقُ من النفائس اللَّطيفةِ العزيزة الشريفة.
وأما احتجاجُهم بيوم الظُلَّةِ فإن كان دليلًا بمجرَّده على أن هؤلاء أُمة أخرى، فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلًا على أنهما أُمتان أخريان [وهذا لا يقولُه أحدٌ يفهم شيئًا من هذا الشأن]
(1)
.
فأما الحديثُ الذي أوردَه الحافظُ ابنُ عساكر في ترجمة النبيِّ شعيب عليه السلام
(2)
: من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن شقيق بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا:"إن قومَ مدين وأصحابَ الأيكةِ أَمَّتان، بعثَ الله إليهما شعيبًا النبيَّ عليه السلام". فإنَّه حديثٌ غريبٌ، وفي رجاله من تكلِّم فيه، والأشبهُ أنَّه كلام عبد اللّه بن عمرو، مما أصابَه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل، واللّه أعلم.
ثم قد ذكرَ الله عن أهل الأيْكة من المذمَّة ما ذكرَه عن أهل مدينَ من التطفيف في المِكيال والميزان، فدل على أنهم أُمة واحدة أُهلكوا بأنواعٍ من العذاب. وذَكرَ في كل موضعٍ ما يُناسب من الخطاب.
وقوله {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]، ذكروا أنَّهم أصابَهم حرٌّ شديد، وأسكنَ الله هبوبَ الهواء عنهم سبعة أيام، فكان لا ينفعُهم مع ذلك ماءٌ ولا ظِلٌّ، ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلَّتهم إلى البرِّيَّة، فأظلَّتهم سحابة، فاجتمعُوا تحتَها ليستظِلُّوا بظِلِّها، فلما تكاملوا فيه أرسلَها الله ترميهم بشررٍ وشُهُب، ورجفتْ بهم الأرضُ، وجاءتْهم صيحةٌ من السماء، فأزهقتِ الأرواحَ، وخرَّبت الأشباح، {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 91، 92] ونجَّى اللهُ شعيبًا ومن معه من المؤمنين، كما قال تعالى - وهو أصدق القائلين -:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 94، 95].
وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 90 - 92] وهذا في مقابلة قولهم: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90] ثم ذكر تعالى عن نبيِّهم أنه نعاهم إلى أنفسهم مُوبِّخًا ومُؤنِّبًا ومُقرِّعًا، فقال تعالى: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ
(1)
ما بين حاصرتين سقط من الأصول؛ وأثبته من المطبوع.
(2)
في تاريخه، كما في المختصر (10/ 309).
فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93] أي: أعرضْ عنهم مُولّيًا عن محلَّتهم بعد هلكتهم قائلًا: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 93] أي: قد أدَّيْتُ ما كان واجبًا عليّ من البلاغ التامِّ والنُّصْح الكامل، وحرصتُ على هدايتكم بكلِّ ما أقدرُ عليه، وأتوصّل إليه، فلم ينفعْكم ذلك، لأن الله لا يهدي منْ يُضلُّ، وما لهم من ناصرين، فلستُ أتأسَّف بعد هذا عليكم، لأنكم لم تكونوا تقبلونَ النصيحةَ، ولا تخافونَ يومَ الفضيحة، ولهذا قال:{فَكَيْفَ آسَى} أي: أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي: لا تقبلون الحقَّ ولا ترجعون إليه، ولا تلتفتونَ، فحلَّ بهم من بأسِ اللّه الذي لا يُردُّ ما لا يُدافَعُ ولا يُمانَعُ، ولا محيد لأحدٍ أريد به عنه ولا مناص
(1)
منه.
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه
(2)
: عن ابن عباس؛ أن شعيبًا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام.
وعن وَهْب بن مُنَبِّه
(3)
أنَّ شُعيبًا عليه السلام ماتَ بمكَّة ومنْ معه من المؤمنينَ، وقبورهم غربيّ الكعبة بين دار النَّدْوة ودار بني سَهْم.
* * *
باب ذكر ذريّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
(4)
قد قدَّمنا قصَّته مع قومه وما كان من أمرهم، وما آلَ إليه أمره عليه السلام والتحيَّة والإكرام، وذكرنا ما وقعَ في زمانهِ من قصَّة قوم لوط، وأتبعنا ذلك بقصَّة مدينَ قوم شعيب عليه السلام؛ لأنها قرينتها في كتاب اللّه عز وجل في مواضعَ مُتعدِّدة، فذكرَ تعالى بعدَ قِضَة قومِ لوط قصَّة مدينَ، وهم أصحابُ الأيكة على الصحيح، كما قدَّمنا، فذكرناها تبعًا لها اقتداء بالقرآن العظيم.
ثم نشرعُ الآن في الكلام على تفضيل ذرِّيَّة إبراهيم عليه السلام، لأنَّ اللّه جعلَ في ذريَّته النبوةَ والكتابَ، فكلُّ نبيٍّ أُرسلَ بعدَه فمن وَلَده.
(1)
كذا في الأصول، وفي المطبوع: ولا مناص عنه، ومعنى: لا مناص: لا رجعة ولا عودة.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه، كما في المختصر (10/ 308).
(3)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه، كما في المختصر؛ لابن منظور (10/ 314).
(4)
كذا في ب، وفي أ: والتسليم.
ذكرُ إسماعيل عليه السلام
وقد كان للخليل بنونَ كما ذكرنا، و لكنَّ أشهرَهم الأخوان النَّبيَّان العظيمان الرسولان، أسنُّهما وأجلُّهما الذي هو الذبيحُ على الصحيح إسماعيل، بكرُ إبراهيم الخليل من هاجرَ القِبْطية المصرية عليها السلام من العظيم الجليل.
ومنْ قال: إنَّ الذبيحَ هو إسحاقُ فإنما تلقَّاه من نَقَلةِ بني إسرائيلَ الذين بدَّلوا وحرَّفوا وأوَّلوا التوراةَ والإنجيلَ، وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل. فإنَّ إبراهيمَ أُمرَ بذبح ولده البكر، وفي روايةٍ الوحيد.
وأيًّا ما كان فهو إسماعيلُ بنصِّ الدليل، ففي نصّ كتابهم إن إسماعيلَ وُلدَ ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، وإنما وُلِدَ إسحاق بعد مضي مئة سنةٍ من عمر الخليل، فإسماعيلُ هو البِكْرُ لا محالة، وهو الوحيد في الصورة والمعنى
(1)
على كل حالة. أما في الصورة فلأنَّه كان وحدَه ولدَه أزيدَ من ثلاثة عشر سنة، وأما أنه وحيدٌ في المعنى فإنه هو الذي هاجرَ به أبوه ومعه أمّه هاجرُ، وكان صغيرًا رضيعًا فيما قيل، فوضعهما في وهاد جبال فاران، وهي الجبال التي حولَ مكَة نعم المقيل، وتركَهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل، وذلك ثقةٌ باللّه وتوكُّلًا عليه. فحاطَهُما اللّه تعالى بعنايته وكفايتِه، فنعمَ الحسيبُ والكافي والوكيلُ والكفيلُ، فهذا هو الولدُ الوحيدُ في الصورة والمعنى، ولكنْ أين من يتفطَّنُ لهذا السر؟ وأين منْ يحلُّ بهذا المحل، والمعنى لا يُدركُه ويُحيط بعلمه إلا كلُّ نبيهٍ نبيل.
وقد أثنى اللّه تعالى عليه ووصفَه بالحِلْم والصَّبْر وصِدْقِ الوعد، والمحافظة على الصلاة، والأمر بها لأهله ليقيهم العذابَ، مع ما كانَ يدعو إليه من عبادة ربِّ الأرباب.
قال اللّه تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 101، 102] فطاوعَ أباه على ما إليه دعاه، ووعدَه بأنْ سيصبر، فوفى بذلك، وصبرَ على ذلك.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55].
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 45 - 48] وقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ
(1)
كذا في ب، وفي أ: ضرورة، وفي المطبوع: صورة ومعنى.
الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85 - 86] وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] الآية. وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136] الآية، ونظيرتها من السورة الأخرى. وقال تعالى:{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] الآية.
فذكرَ اللّه عنه كلَّ صفةٍ جميلةٍ، وجعله نبيَّه ورسولَه وبرَّأه من كل ما نَسبَ إليه الجاهلون، وأمرَ بأن يُؤمنَ بما أنزلَ عليه عباده المؤمنون.
وذكر علماءُ النسب وأيَّام النَّاس أنَّه أوَّلُ من ركبَ الخيلَ، وكانت قبلَ ذلك وُحُوشًا فآنسها وركبَها.
وقد قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حَدَّثَنَا شيخ من قُريش، حَدَّثَنَا عبدُ الملك بن عبد العزيز، عن عبد اللّه بن عمر؛ أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال:" اتَّخذوا الخيلَ واعتقِبُوها، فإنَّها ميراثُ أبيكم إسماعيل"
(1)
وكانت هذه العرابُ وحشًا فدعا لها بدعوتِه التي كان أعطي فأجابته.
وأنَّه أولُ من تكلَّم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد تعلَّمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جُرهم والعماليق، وأهل اليمن من الأمم المتقدِّمين من العرب قبل الخليل.
قال الأموي: حدَّثني عليُّ بن المغيرة، حَدَّثَنَا أبو عُبيدة، حَدَّثَنَا مِسْمَعُ بن مالك، عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"أوَّلُ من فُتِق لسانُه بالعربية البيِّنة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة"
(2)
فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار، هكذا أبو جريّ حدَّثني.
وقد قدَّمنا أنَّه تزوَّجَ لما شبَّ من العماليق امرأةً، وأنَّ أباه أمرَه بفراقِها، ففارقَها.
قال الأموي: هي عمارةُ بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي
(3)
. ثم نكحَ غيرَها فأمرَه أن يستمرَّ بها، وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. وقيل: هذه ثالثة، فولدت له اثني عشرَ ولدًا ذكرًا، وقد سمَّاهم محمد بن إسحاق رحمه الله، وهم: نابت وقيذر وازبل وميشى ومسمع وماش ودوصا وآزر ويطور ونبش وطيما وقيذما
(4)
. وهكذا ذكرَهم أهلُ الكتاب في كتابهم. وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيمًا المبشَّر بهم، المتقدِّم ذكرهم، وكذبوا في تأويلهم ذلك.
(1)
لم أجده، وفي إسناده رجل مجهول، فهو منقطع.
(2)
أخرجه الشيرازي في الألقاب والزبير بن بكار في النسب، من حديث علي، كما في فيض القدير (3/ 92) وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس (48) من حديث ابن عباس، وذكره القرطبي في التفسير (1/ 283).
(3)
في ب: العملاقي.
(4)
الذي في الطبري: نابت، وقيدر، وأدبيل، ومبشا، ومسمع، ودما، وماس، وأدد، ووطور، ونفيس، وطما، وقيدمان.
وكان إسماعيلُ عليه السلام رسولًا إلى أهل تلك الناحية وما والاها من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن صلواتُ الله وسلامه عليه، ولما حضرتْه الوفاةُ أوصى إلى أخيه إسحاق وزوج ابنته "نسمة" من ابن أخيه العيص بن إسحاق، فولدت له الروم، يقال لهم: بنو الأصفر، لصفرةٍ كانت في العيص. وولدتْ له اليونان في أحد الأقوال. ومن ولد العيص الأشبان، قيل: منهما أيضًا. وتوقَّفَ ابن جرير
(1)
رحمه الله.
ودُفنَ إسماعيلُ نبيُّ الله بالحجر مع أمِّه هاجرَ، وكان عمرُه يوم مات مئة وسبعًا وثلاثين سنة
(2)
.
ورُوي عن عمرَ بن عبد العزيز أنه قال: شكا إسماعيلُ عليه السلام إلى ربِّه عز وجل حزَ مكَّةَ، فأوحى اله إليه أنِّي سأفتحُ لك بابًا إلى الجنَّةِ، إلى الموضع الذي تُدفنُ فيه، تجري عليك روحُها إلى يوم القيامه
(3)
.
وعربُ الحجاز كلُّهم ينتسبون إلى ولديْه نابت وقيذار. وسنتكلَّم على أحياء العرب وبطونها وعمائِرها وقبائِلها وعشائِرها من لدن إسماعيل عليه السلام إلى زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وذلك إذا انتهينا إلى أيَّامه الشريفة وسيرته المنيفة بعد الفراغ من أخبار أنبياء بني إسرائيل إلى زمان عيسى ابن مريم خاتم أنبيائهم ومحقق أنبائهم، ثم نذكرُ ما كان في زمن بني إسرائيل، ثم ما وقعَ في أيَّام الجاهلية، ثم ينتهي الكلام إلى سيرة نبيّنا رسولِ اللّه إلى العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم من الأمم، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم العزيز الحكيم.
* * *
ذكرُ إسحاق بن إبراهيم الكريم ابن الكريم عليهما الصّلاة والتسليم
قد قدَّمنا أنه ولد ولأبيه مئة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة، وكان عمرُ أمّه سارَة حين بشُّرَتْ به تسعين سنة، قال الله تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113].
(1)
انظر تاريخ الطبري (1/ 314).
(2)
المصدر السابق (1/ 314).
(3)
المصدر السابق (1/ 315).
وقد ذكرَه اللّه تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز، وقدَّمنا في حديث أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الكريمَ بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"
(1)
.
وذكرَ أهلُ الكتاب أنَّ إسحاقَ لما تزوَّج "رفقا" بنت بثوابيل في حياة أبيه، كان عمرُه أربعينَ سنة، وأنها كانت عاقرًا فدعا اللّه لها فحملَثْ، فولدت غلامين توأمين: أولهما سمَّوه "عيصو" وهو الذي تُسميه العربُ العيصَ، وهو والد الروم الثاني
(2)
. والثاني خرجَ وهو آخذٌ بعقبِ أخيه فسمَّوه "يعقوبَ"
(3)
وهو إسرائيل الذي ينتسبُ إليه بنو إسرائيل.
قالوا: وكان إسحاق يحبُّ "العيصو" أكثر من "يعقوب" لأنه بِكرُه، وكانت أُمُّهما "رفقا" تحبُّ يعقوبَ أكثر؛ لأنَّه الأصغرُ.
قالوا: فلما كبرَ إسحاق وضعفَ بصرُه، اشتهى على ابنه "العيص" طعامًا وأمرَه أن يذهبَ فيصطادَ له صيدًا ويطبخَه له، ليُباركَ عليه ويدعوَ له. وكان العيص صاحبَ صيد، فذهبَ يبتغي ذلك، فأمرت "رفقا" ابنَها يعقوب أن يذبحَ جديين من خيار غنمه، ويصنع منهما طعامًا كما اشتهاه أبوه، ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعوَ له، فقامت فألبستْه ثيابَ أخيه، وجعلتْ على ذراعيْه وعُنُقه من جلدِ الجَدْيَيْنِ، لأن العيصَ كان أشعرَ الجسد، ويعقوبُ ليس كذلك، فلما جاء به وقرَبه إليه، قال: من أنت؟ قال: ولدُك. فضمَّه إليه وجسَّه، وجعلَ يقولُ: أما الصوتُ فصوتُ يعقوب، وأما الجسُّ والثياب فالعيصُ، فلما أكلَ وفرغَ دعا له أن يكونَ أكبرَ إخوتِه قَدْرًا، وكلمتُه عليهم وعلى الشعوب بعدَه، وأن يكثرَ رزقُه وولدُه.
فلما خرجَ من عنده جاء أخوه العيصُ بما أمرَه به والده، فقرَّبه إليه، فقال له: ما هذا يا بنيَّ؟ قال: هذا الطعام الذي اشتهيتَه. فقال: أما جئتني به قبلَ الساعة وأكلتُ منه، ودعوتُ لك؟ فقال: لا واللّه، وعرفَ أنَّ أخاه قد سبقَه إلى ذلك، فوجَدَ في نفسه عليه وَجْدًا كثيرًا. وذكروا أنَّه تواعده بالقتل إذا مات أبوهُما، وسألَ أباه فدعا له بدعوةٍ أخرى، وأن يجعلَ لذريَّته غليظَ الأرض، وأنْ يُكثِرَ أرزاقهم وثمارَهم، فلما سمعت أمُّهما ما يتواعدُ به العيصُ أخاه يعقوبَ، أمرت ابنهَا يعقوبَ أن يذهبَ إلى أخيها "لابان" الذي بأرض حرَّان، وأن يكونَ عندَه إلى حين يسكنُ مخضبُ أخيه عليه، وأن يتزوج من بناته. وقالت لزوجها إسحاق أن يأمرَه بذلك ويُوصيه ويدعو له ففعلَ.
فخرجَ يعقوبُ عليه السلام من عندِهم من آخر ذلك اليوم، فأدركَه المساء في موضعٍ فنامَ فيه، وأخذ
(1)
تقدم الحديث وتخريجه.
(2)
سقطت من المطبوع.
(3)
في هامش ب: ذكر يعقوب، وهو إسرائيل عليه السلام.
حجرًا فوضعَه تحت رأسِه ونام، فرأى في نومه ذلك مِعْراجًا
(1)
منصوبًا من السماء إلى الأرض، وإذا الملائكةُ يصعدون فيه وينزلون، والربُّ تبارك وتعالى يخاطبُه، ويقولُ له: إني سأُباركُ عليك وأكثِر ذريِّتك، وأجعلُ لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك.
فلما هبَّ من نومه فرحَ بما رأى، ونذرَ للّه لَئن رجعَ إلى أهله سالمًا ليبنينَّ في هذا الموضع معبدًا للّه عز وجل، وأن جميع ما يُرزقه من شيء يكونُ للّه عشره، ثم عمدَ إلى ذلك الحجر فجعلَ عليه دُهنًا يتعرَّفه به، وسمَّى ذلك الموضعَ "بيت إيل" أي: بيت اللّه، وهو موضع بيت المقدس اليوم، الذي بناه يعقوبُ بعد ذلك كما سيأتي.
قالوا: فلما قدمَ يعقوبُ على خاله أرضَ حرَّان إذا له ابنتان، اسم الكبرى "ليا" واسم الصغرى "راحيل"[فخطب إليه راحيل]
(2)
، وكانت أحسنهما وأجملهما، فأجابه إلى ذلك بشرط أنْ يرعى على غنمه سبع سنين، فلما مضت المدة على خاله "لابان" صنعَ طعامًا وجمعَ النَّاس عليه، وزفَّ إليه ليلًا ابنته الكبرى "ليا" وكانت ضعيفةَ العينين قبيحة المنظر. فلما أصبحَ يعقوبُ إذا هي "ليا" فقال لخاله: لم غدرتَ بي؟ وأنت إنما خطبتُ إليكَ "راحيل" فقال: إنه ليس من سنَتنا أن نُزوِّجَ الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببتَ أختَها فاعملْ سبعَ سنين أخرى، وأزوِّجكها. فعملَ سبع سنين وأدخلَها عليه مع أُختها، وكان ذلك سائغًا في ملَّتهم ثم نُسخ في شريعة التوراة.
وهذا وحده دليلٌ كافٍ على وقوع النسخ، لأن فعلَ يعقوب عليه السلام دليلٌ على جواز هذا وإباحتِه، لأنه معصوم.
ووهبَ "لابان" لكلِّ واحدة من ابنتيْه جاريةً، فوهبَ لليا جارية اسمها "زلفى" ووهب لراحيل جاريةً اسمها "بلهى". وجبرَ اللّه تعالى ضعفَ "ليا" بأن وهبَ لها أولادًا، فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا. فغارت عند ذلك "راحيل" وكانت لا تحبلُ، فوهبت ليعقوبَ جاريتها "بلهى" فوطئِها فحملتْ، وولدتْ له غلامًا سمَّته "دان" وحملتْ وولدتْ غلامًا آخر سمَّته "نيفتالي" فعمدتْ عند ذلك "ليا" فوهبت جاريتَها "زلفى" من يعقوب عليه السلام، فولدت له "حاد" و" أشير" غلامين ذكريْن، ثم حملت "ليا" أيضًا فولدت غلامًا خامسًا منها وسمَّته "إيساخر". ثم حملتْ وولدت غلامًا سادسًا سمته "زابلون" ثم حملت وولدت بنتًا سمَّتها "دنا" فصار لها سبعة من يعقوب. ثم دعتِ اللّه تعالى "راحيل" وسألتْه أن يهبَ لها غلامًا من يعقوب، فسمع اللّه نداءها وأجاب دعاءها فحملت من نبيِّ اللّه يعقوب فولدت له غلامًا عظيمًا شريفًا حسنًا جميلا سفَته يوسفَ، كل هذا وهم مقيمون بأرض حرَّان،
(1)
معراجًا: المعراج: ما يُرتقى به.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع ومن أ، وأثبتهما من ب.
وهو يرعى على خاله غنمَه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى، فصار مدَّة مقامه عشرين سنة.
فطلبَ يعقوبُ من خاله "لابان" أن يُسرِّحه ليمرَّ إلى أهله. فقال له خاله: إنِّي قد بُورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئتَ. فقال: تعطيني كلّ حَملٍ يُولد من غنمك هذه السنة أبقعَ
(1)
، وكل حَمْل ملمع أبيض بسواد، وكلّ أملح
(2)
ببياض، وكل أجلح
(3)
أبيض من المعز. فقال: نعم. فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كانَ على هذه الصفات من التُّيوس، لئلا يُولد شيء من الحملان على هذه الصفات، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم.
قالوا: فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز ودلب، فكان يُقشَرها بُلْقًا وينصبها في مساقي الغنم من المياه، لينظرَ الغنمُ إليها فتفزعَ وتتحرَّك أولادُها في بطونها، فتصيرُ ألوان حملانها كذلك، وهذا يكونُ من باب خوارق العادات، وينتظمُ في سلْكِ المعجزات، فصار ليعقوبَ عليه السلام أغنامٌ كثيرة ودوابٌّ وعبيد، وتغيَّر له وجه خاله وبنيه، وكأنهم انحصروا منه.
وأوحى اللّه تعالى إلى يعقوبَ أن يرجعَ إلى بلاد أبيه وقومه، ووعدَه بأن يكون معه، فعرضَ ذلك على أهله فأجابُوه مبادرينَ إلى طاعته، فتحمَّلَ بأهله ومالِه، وسرقت "راحيل" أصنام أبيها، فلما جاوزوا وتحيَّزوا عن بلادهم، لحقَهم "لابان" وقومُه، فلما اجتمع "لابانُ" بيعقوبَ عاتبَه في خروجه بغير علمه، وهلَّا أعلمَه فيُخرجهم في فرحٍ ومزاهرَ وطُبولٍ، وحتَى يُودِّعَ بناتِه وأولادهنَّ، ولما أخذوا أصنامَه معهم، ولم يكن عند يعقوبَ علمٌ من أصنامِه، فأنكرَ أن يكونَ أخذوا له أصنامًا، فدخلَ بيوتَ بناتِه وإمائهن يفتش فلم يجد شيئًا، وكانت راحيلُ قد جعلتهنَّ في بَرْدَعة
(4)
الحِمْل وهي تحتَها، فلم تقمْ واعتذرتْ بأنَّها طامِثٌ، فلم يقدرْ عليهن، فعند ذلك تواثقُوا على رابية هناكَ، يُقال لها "جلعاد" على أنَّه لا يهين بناته ولا يتزوَّج عليهن، ولا يُجاوز هذه الرابية إلى بلادِ الآخر، لا لابان ولا يعقوب، وعملا طعامًا وأكلَ القومُ معهم وتودَّعَ كلٌّ منهما من الآخر، وتفارقوا راجعينَ إلى بلادهم.
فلما اقتربَ يعقوبُ من أرض "ساعير" تلقَّتْه الملائكةُ يُبشِّرونه بالقدوم، وبعثَ يعقوب البرد إلى أخيه العيص يترفَّق له ويتواضع له، فرجعت البرد وأخبرتْ يعقوبَ بأن العيص قد ركبَ إليك في أربعمئة راجل، فخشيَ يعقوبُ من ذلك ودعا اللّه عز وجل وصلَّى له وتضرَّع إليه وتمسكنَ لديْه، وناشدَه عهدَه ووعدَه الذي وعدَه به، وسأله أن يكفَّ عنه شرَّ أخيه العيص، وأعدَّ لأخيه هديَّة عظيمةً، وهي مئتا شاة،
(1)
أبقع: خالط لونه لونٌ آخر.
(2)
أملح: خالط بياضَه سوادٌ.
(3)
أجلح: لا قرنَ له.
(4)
برْدعة: هي ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه، كالسَّرْج للفرس.
وعشرون تيسًا ومئتا نعجةٍ، وعشرون كبشًا، وثلاثون لَقْحَه
(1)
، وأربعون بقرة، وعشرة من الثيران، وعشرون أتانًا، وعشرة من الحُمُر، وأمرَ عبيدَه أن يسوقوا كلًّا من هذه الأصناف وحدَه، وليكنْ بين كلِّ قطيعٍ وقطيع مسافةٌ، فإذا لقيهم العيصُ، فقال: للأَوَّل لمن أنت؟ ولمن هذه معكَ؟ فليقل: لعبدك يعقوب أهداها لسيِّدي العيصُ. وليقل الذي بعدَه كذلك، وكذا الذي بعدَه، ويقولُ كلٌّ منهم وهو جاءٍ بعدنا.
وتأخَّر يعقوبُ بزوجتيْه وأمتيْه وبنيه الأحد عشرَ بعد الكل بليلتين، وجعل يسيرُ فيهما ليلًا، ويكمنُ نهارًا، فلما كان وقتُ الفجر من الليلة الثانية تبدَّى له ملَكٌ من الملائكة في صُورة رجل، فظنَه يعقوبُ رجلًا من النَّاس، فأتاه يعقوبُ ليُصارعه ويُغالبه، فظهرَ عليه يعقوبُ فيما يرى، إلا أنَّ المَلَك أصابَ وِرْكَه، فعرجَ يعقوبُ، فلما أضاءَ الفجر قال له الملك ما اسمكَ؟ قال: يعقوب. قال: لا ينبغي أن تُدعى به اليوم إلا إسرائيل. فقال له يعقوب: ومنْ أنتَ وما اسمكَ؟ فذهبَ عنه، فعلمَ أنَّه مَلَكٌ من الملائكة، وأصبحَ يعقوبُ وهو يعرجُ من رِجْلِه، فلذلك لا يأكلُ بنو إسرائيل عِرْقَ النَسَا، ورفعَ يعقوبُ عينيْه فإذا أخوه "عيصو" قد أقبلَ في أربعمئة راجل، فتقدَّم أمام أهله، فلما رأى أخاه العيص سجدَ له سبع مرَّاتٍ، وكانت هذه تحيَّتُهم في ذلك الزمان، وكان مشروعًا لهم؛ كما سجدتِ الملائكةُ لآدمَ تحيَّة له، وكما سجدَ إخوةُ يوسفَ وأبواه له كما سيأتي، فلما رآه العيص تقدَّم إليه واحتضنَه وقبَّله وبكى، ورفعَ العيصُ عينيْه ونظرَ إلى النساء والصِّبيان، فقال: من أين لك هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين وهبَ الله لعبدكَ، فدنتِ الأمتان وبنوهما فسجدوا له ودنت "ليا" وبنوها فسجدوا له، ودنت "راحيل" وابنها يوسف فخرَّا سُجَّدًا له، وعرضَ عليه أن يقبلَ هديَّته وألحَّ عليه، فقبلَها ورجعَ العيصُ، فتقدَّم أمامَه ولحقَه يعقوبُ وما معه من الأنعام والمواشي والعبيد قاصدينَ جبالَ ساعير.
فلما مرَّ بساحور ابتنى له بيتًا ولدوابّه ظلالًا، ثم مرَّ على أورشليم قرية شخيم، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعةَ شخيم بن جمور بمئة نعجة، فضربَ هنالك فسطاطَه، وابتنى ثَم مذبحًا، فسمَّاه "إيل" إله إسرائيل، وأمر اللّه ببنائه ليُستعلنَ له فيه. وهو بيتُ المقدس اليوم، الذي جدَّده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام، وهو مكان الصخرة التي أعلمَها بوضع الدُّهن عليها قبل ذلك، كما ذكرنا أولًا.
[وذكر أهلُ الكتاب هنا قصة "دينا" بنت يعقوب بنت "ليا" وما كان من أمرها مع "شخيم" بن جمور الذي قهرَها على نفسها، وأدخلَها منزلَه ثم خطبها من أبيها وإخوتها، فقال إخوتها: إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا، فإنا لا نُصاهر قومًا غلفًا، فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلُّهم، فلما كان اليوم الثالث واشتدَّ وجعُهم من ألم الخِتان، مالَ عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم، وقتلوا
(1)
لَقْحة: ناقة حلوب غزيرة اللبن.
"شخيمًا" وأباه "جمور" لقبيح ما صنعوا إليهم، مضافًا إلى كفرهم، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم، فلهذا قتلهم بنو يعقوب، وأخذوا أموالهم غنيمة]
(1)
.
ثم حملت "راحيل" فولدت غلامًا وهو "بنيامين" إلا أنها جهدت في طلقها به جهدًا شديدًا وماتت عقيبه، فدفنَها يعقوبُ في "أفراث" وهي بيت لحم، وصنعَ يعقوبُ على قبرها حجرًا، وهي الحجارةُ المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم.
وكان أولاد يعقوب الذكور اثني عشر رجلًا؛ فمن "ليا": روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وايساخر، وزايبلون. ومن راحيل: يوسف، وبنيامين. ومن أمة راحيل: دان، ونيثالي. ومن أمة "ليا": جاد وأشير، عليهم السلام.
وجاء يعقوبُ إلى أبيه إسحاق، فأقام عنده بقرية حبرون، التي في أرض كنعان، حيث كان يسكنُ إبراهيم، ثم مرضَ إسحاقُ ومات عن مئة وثمانين سنة، ودفنَه ابناه العيصُ ويعقوبُ مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها، كما قدَّمنا.
* * *
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ، وهو في ب والمطبوع.
ذكرُ ما وقعَ من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل
وقد أنزل الله عز وجل في شأنه، وما كان من أمره، سورة من القرآن العظيم ليتدبَّر ما فيها من الحِكم
والمواعظ والآداب والأمر الحكيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ. الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3].
وقد تكلَّمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة، فمن أراد تحقيقه فلينظرْه ثَمَّ، وتكلَّمنا على هذه السورة مستقصىً في موضعها من التفسير، ونحن نذكرُ هاهنا نبذًا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز.
وجملةُ القول في هذا المقام: أنه تعالى يمدحُ كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم بلسانٍ عربيٍّ فصيح بيِّنٍ واضح جليّ، يفهمُه كلُّ عاقل ذكي زكي، فهو أشرف كتابٍ نزلَ من السماء، أنزلَه أشرف الملائكة على أشرفِ الخلق في أشرف زمان ومكان، بأفصح لغة وأظهر بيان، فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية: ذكرَ أحسنها وأبينها، وأظهرَ الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغَ الباطلَ وزيَّفه وردَّه، وإن كان في الأوامر والنواهي: فأعدلُ الشرائع وأوضحُ المناهج، وأبْيَنُ حكمًا وأعدلُ حكمًا، فهو كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. يعني صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأوامر والنواهي. ولهذا قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] أي بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه: 99 - 101].
يعني: منْ أعرضَ عن هذا القرآن واتَّبعَ غيرَه من الكتب فإنه ينالُه هذا الوعيد، كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي: عن أمير المؤمنين عليٍّ مرفوعًا وموقوفًا: "من ابتغى الهدى في غيره أضلَّه اللهُ"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 91) والترمذي (2906) في فضائل القرآن، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. فهو ضعيف في المرفوع، وبعضهم وقفه على علي رضي الله عنه.
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا سريج بن النعمان: حَدَّثَنَا هشيم، أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر: أنَّ عُمَرَ بن الخطاب أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قال فغضبَ وقال: "أتتهوكون
(1)
فيها يا بن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتُكم بها بيضاء نقيَّة، لا تسألوهم عن شيءً فيخبرونكم بحقٍّ فتكذِّبونه، أو بباطل فتُصدِّقونه، والذي نفسي بيده لو أنَّ موسى كان حيًّا ما وسعَه إلا أن يتبعني". إسناد صحيح
(2)
.
ورواه أحمد من وجهٍ آخر
(3)
: عن عمر، وفيه فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لو أصبحَ فيكم موسى ثم اتبعتمُوه وتركتُموني لضَلَلْتُم. إنكم حَطي من الأمم وأنا حَظُّكم من النَّبيِّين".
وقد أوردتُ طرقَ هذا الحديث وألفاظَه في أول سورة يوسف
(4)
، وفي بعضها أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطبَ النَّاسَ، فقال في خطبته:"أيُّها الناس! إني قد أوتيتُ جوامعَ الكلم وخواتيمَه، واختُصرَ لي اختصارًا، ولقد أتيتكم بها بيضاءَ نقيَّةً فلا تتهوَّكوا، ولا يغرَّنكم المُتَهوِّكون"
(5)
. ثم أمر بتلك الصحيفة فمُحيت حرفًا حرفًا.
[قد قدَّمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدًا ذكرًا وسمَّيناهم، وإليهم تُنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفَهم وأجلَّهم وأعظمَهم يوسفُ عليه السلام، وقد ذهبَ طائفةٌ من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبيٌّ غيره، وباقي إخوته لم يُوحَ إليهم، وظاهرُ ما ذُكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصَّة يدلُّ على هذا القول.
ومن استدلَّ على نبوَّتهم بقوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [آل عمران: 84] وزعمَ أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوي، لأن المرادَ
(1)
"أتتهوكون": التهوُّك: كالتهوّر، وهو الوقوع في الأمر بغير روية، والمُتهوِّك: المتحيِّر.
(2)
في المسند (3/ 387) وفيه: أمتهوِّكون، أقول: وإسناده ضعيف.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 471) و (4/ 266) وإسناده ضعيف.
(4)
انظر تفسير ابن كثير (2/ 576).
(5)
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 173) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، ضعَّفه أحمد وجماعة.
بالأسباط شعوبُ بني إسرائيل، وما كان يُوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزلُ عليهم الوحي من السماء، والله أعلم.
ومما يؤيِّد أن يوسف عليه السلام هو المختصُّ من بين إخوته بالرسالة والنبوة، أنه نصَّ على واحد من إخوتِه سواه، فدلَّ على ما ذكرناه، ويُستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عبدُ الصمد، حَدَّثَنَا عبد الرحمن، عن عبد اللّه بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"الكريمُ ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"
(1)
. انفردَ به البخاريُّ، فرواه عن عبد اللّه بن محمد، وعبدة، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به.
وقد ذكرنا طرقَه في قصَّة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هاهنا - وللّه الحمد والمنة
(2)
-.
قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسفُ عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] وهم إشارة إلى بقية إخوته {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [يوسف: 4] وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له، فهالَه ذلك، فلما استيقظَ قصَّها على أبيه، فعرفَ أبوه أنَّه سينالُ منزلة عاليةً ورِفْعةً عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضعُ له أبواه وإخوته فيها، فأمرَه بكتمانها، وألَّا يقصَّها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل
(3)
، ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر، وهذا يدلُّ على ما ذكرناه. ولهذا جاء في بعض الآثار: استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود
(4)
.
وعند أهل الكتاب أنه قصَّها على أبيه وإخوته معًا وهو غلطٌ منهم {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: وكما أراكَ هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتَها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: يخصُّك بانواع اللطف والرحمة {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: يُفهمُكَ من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمُه غيرك {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بالوحي إليك {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي: بسببك ويحصل لهم بك خيرُ الدنيا والآخرة {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي: يُنعم عليك ويُحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب وجدَّك إسحاق، ووالد جدِّك إبراهيم الخليل {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
(1)
البخاري في الأنبياء (3382) و (3390).
(2)
ما بين الحاصرتين سقط من أ، وأثبته من هامش ب وهو في المطبوع.
(3)
"الغوائل": الدواهي والمصائب.
(4)
رواه العقيلي وابن عديِّ والطبراني وأبو نعيم والبيهقي، عن معاذ بن جبل، كما في فيض القدير (1/ 493) والمقاصد الحسنة (ص 56)، وتمييز الطيب من الخبيث (ص 27) وكشف الخفاء (1/ 135) وفي إسناده ضعف.
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لما سُئل أيُّ النَّاس أكرم؟ قال: "يوسفُ نبيُّ اللّه ابن نبيِّ اللّه ابن نبيِّ اللّه ابن خليل الله"
(1)
.
وقد روى ابن جرير
(2)
، وابن أبي حاتم، في تفسيريهما، وأبو يعلى، والبزَّار، في مسنديهما: من حديث الحكم بن ظُهَير - وقد ضعَّفه الأئمة - عن السُّدِّي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من يهود يقال له: "بستانة اليهودي" فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسفُ أنها ساجدة له ما أسماؤها؟ قال: فسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلم يُجبْه بشيء. ونزلَ جبريلُ عليه السلام بأسمائها. قال: فبعثَ إليه رسولُ الله، فقال:"هل أنت مؤمن إن أخبرتُك بأسمائها؟ قال: نعم. فقال: هي حرثان، والطارق، والذئال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمردان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، والضياء، والنور". فقال اليهوديُّ: إي والله إنها لأسماؤها
(3)
.
وعند أبي يعلى فلما قصَّها على أبيه. قال: هذا أمز مُشتَّتٌ يجمعُه الله. والشمس: أبوه، والقمر: أمه.
يُنبِّه تعالى على ما في هذه القصَّة من الآيات والحِكم والدَّلالاتِ والمواعظ والبَيِّنات، ثم ذكرَ حسدَ إخوة يوسف له على محبَّة أبيه له ولأخيه - يعنونَ شقيقَه لأمِّه بنيامين - أكثر منهم، وهم عُصْبة، أي: جماعة، يقولون: فكنّا نحن أحقُ بالمحبَّة من هذين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} : بتقديمه حبَّهما علينا.
ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسفَ أو إبعاده إلى أرضٍ لا يرجعُ منها، ليخلوَ لهم وجهُ أبيهم، أي: لتتمحَّضَ
(4)
محبَّته لهم، وتتوفر عليهم، وأضْمَروا التوبةَ بعد ذلك، فلما تمالؤوا على ذلك وتوافقوا عليه {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال مجاهد: هو شمعون. وقال السُّدي: هو يهوذا. وقال قتادة ومحمد بن إسحاق: هو أكبرُهم روبيل: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: المارة
(1)
أخرجه البخاري (3374) في الأنبياء.
(2)
انظر تفسير الطبري (7/ 148).
(3)
أخرجه سعيد بن منصور، والبزار، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي، وابن حبان في الضعفاء، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وأبو نعيم والبيهقي معًا في دلائل النبوة؛ كما في الدر المنثور (4/ 498). أقول: وإسناده ضعيف كما قال المصنف.
(4)
"لتتمحَّض محبَّتُه": لتكون خالصة، لا تشوبها شائبة.
من المسافرين {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقربُ حالًا من قتله أو نفيه وتغريبه، فأجمعوا رأيَهم على هذا فعند ذلك:{قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 11 - 14].
طلبوا من أبيهم أن يرسلَ معهم أخاهم يوسفَ، وأظهروا له أنهم يُريدون أن يرعى معهم، وأن يلعبَ وينبسطَ، وقد أضمروا له ما الله به عليم، فأجابهم الشيخ عليه من اللّه أفضل الصلاة والتسليم: يا بنيَّ يشقُّ عليّ أن أفارقَه ساعةً من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئبُ فيأكلَه، ولا يقدرُ على دفعه عنه لصغره وغفلتِكم عنه. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي: لئن عدا عليه الذئبُ فأكلَه من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقعَ هذا ونحن جماعة، إنا إذًا لخاسرون، أي: عاجزون هالكون.
وعند أهل الكتاب: أنه أرسلَه وراءَهم يتبعُهم، فضلَّ عن الطريق، حتى أرشدَه رجلٌ إليهم. وهذا أيضًا من غَلطِهم وخَطئِهم في التعريب، فإن يعقوبَ عليه السلام كان أحرصَ عليه يبعثَه معهم، فكيف يبعثه وحده؟!
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 15 - 18]. لم يزالوا بأبيهم حتى بعثَه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيْه، فجعلوا يشتمونَه ويُهينونه بالفِعال والمقال، وأجمعُوا على إلقائه في غيابت الجبِّ، أي: في قعره، على راعوفته - وفي الصخرة التي تكون في وسطه، يقف عليها المائحُ، وهو الذي ينزل ليملي الدِّلاء إذا قلَّ الماء، والذي يرفعُها بالحبل يُسمَّى الماتح - فلما ألقوْه فيه أوحى اللّه إليه أنَّه لا بُدَّ لك من فرجٍ ومخرجٍ من هذه الشِّدَّة التي أنت فيها، ولتخبرنَّ إخوتك بصنيعهم هذا في حالٍ أنت فيه عزيزٌ، وهم محتاجون إليك، خائفونَ منكَ، وهم لا يشعرون.
قال مجاهد وقتادة: لا يشعرون بإيحاء اللّه إليه ذلك
(1)
. وعن ابن عباس: وهم لا يشعرون أي: لتخبرنَّهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير
(2)
عنه. فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصَه فلطَّخوه بشئ من دم، ورجعوا إلى أبيهم عِشَاءً وهم يبكون، أي: على أخيهم. ولهذا
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 158) والتاريخ (1/ 332).
(2)
أخرجه ابن جرير في التاريخ (1/ 333).
قال بعضُ السلف: لا يغرَّنكَ بكاءُ المتظلّم، فرُبَّ ظالم وهو باكٍ. وذكرَ بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاءً يبكون، أي: في ظلمة الليل، ليكون أمشى لغدرهم لا لعُذْرهم {قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي: في غيبتنا عنه في استباقنا، وقولهم:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي: وما أنت بمصدِّقٍ لنا في الذي أخبرناكَ من أكل الذئب له ولو كنَّا غير مُتَّهمين عندك، فكيف وأنت تتَّهِمنا في هذا؟! فإنك خشيتَ أن يأكلَه الذئبُ، وضمنَّا لك ألا يأكلَه لكثرتنا حوله، فصرنا غير مُصدَّقين عندكَ، فمعذورٌ أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه.
{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: مكذوب مُفتعل؛ لأنهم عمَدوا إلى سخلةٍ ذبحوها، فأخذوا من دمِها فوضعُوه على قميصه، ليُوهموا أنَّه أكله الذئبُ. قالوا: ونسوا أن يَخْرقُوهُ، وآفةُ الكذب النسيان. ولما ظهرتْ عليهم علائمُ الرِّيبة لم يَرُجْ صنيعُهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتَهم له وحسدَهم إيَّاه على محبَّتِه له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسَّم فيه من الجَلالة والمَهابة التي كانت عليه في صغره، لما يُريد اللّه أن يخصَّه به من نبوته. ولما راودُوه عن أخذِه، فبمجرَّد ما أخذوه أعدموه وغيَّبوه عن عينيْه، جاؤوا وهم يتباكون، وعلى ما تمالؤا عليه يتواطؤون، ولهذا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} .
وعند أهل الكتاب: أن "روبيل" أشار بوضعه في الجُبِّ ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويردَّه إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاءَ "روبيلُ" من آخر النهار ليخرجَ يوسفَ لم يجدْه، فصاحَ وشقَّ ثيابَه، وعمدَ أولئك إلى جَدْيٍ فذبحوه ولطَّخوا من دمه جبَّة يوسف. فلما علمَ يعقوبُ شقَّ ثيابَه ولبسَ مِئْزرًا أسودَ، وحزنَ على ابنه أيَّامًا كثيرة، وهذه الركاكة جاءتْ من خطئهم في التعجير والتصوير.
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 19 - 22] يُخبر تعالى عن قصَّة يوسفَ حين وُضع في الجُبِّ، أنَّه جلسَ ينتظرُ فرجَ اللّه ولُطْفه به، فجاءتْ سيَّارة، أي: مسافرون.
قال أهلُ الكتاب: كانت بضاعتُهم من الفُسْتق والصَّنوبر والبُطْم
(1)
، قاصدينَ ديار مصر من الشام.
(1)
"البُطْمُ": الحبة الخضراء، من الفصيلة الفستقية، شجرتها من أربعة إلى ثمانية أمتار، تنبت في الأراضي الجبلية، ثمرتها حَسَكةٌ مفرطعةٌ خضراء، تنقشر عن غلاف خشبي يحوي ثمرة واحدة، تُؤكل في بلاد الشام والعراق.
فأرسلوا بعضَهم ليستقُوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدُهم دلوه تعلَّق فيه يوسفُ، فلما رآه ذلك الرجلُ {قَالَ يَابُشْرَى} أي: يا بشارتي {هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة مَتْجَرهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: هو عالمٌ بما تمالأ عليه إخوته وبما يسَّره واجدوه، من أنه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره تعالى؛ لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقَدر السابق والرحمة بأهل مصرَ، بما يجري اللّه على يديْ هذا الغلام، الذي يدخلُها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يُملِّكه أزمَّة الأمور، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يُحدُّ ولا يُوصف.
ولما استشعرَ إخوةُ يوسفَ بأخذ السيَّارة له لحقُوهم، وقالوا: هذا غلامنا أبَقَ منا فاشتروه منهم بثمنٍ بخسٍ، أي: قليل نَزْر، وقيل: هو الزيف {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} .
قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطيَّة العوفي: باعوه بعشرين درهمًا، اقتسموها درهمين درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهمًا. وقال عكرمة ومحمد بن إسحاق: أربعون درهمًا، فاللّه أعلم.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي: أحسني إليه {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} وهذا من لُطْف اللّه به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يُؤهِّلَه له ويُعطيه من خيري الدنيا والآخرة.
قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصرَ عزيزُها، وهو الوزيرُ بها، الذي الخزائنُ مُسلَّمة إليه. قال ابن إسحاق: واسمه إطفير
(1)
بن رُوحيب. قال: وكان مَلِكُ مصرَ يومئذ الريَّان بن الوليد، رجل من العماليق. قال: واسم امرأة العزيز "راعيل" بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها "زليخا"[والظاهر أنه لقبها]
(2)
. وقيل: "فكا" بنت ينوس. رواه الثعالبي عن أبي هشام الرفاعي.
وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس، كان اسم الذي باعَه بمصر يعني الذي جلبَه إليها مالكَ بن زعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فاللّه أعلم.
وقال ابن إسحاق: عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: أفرسُ الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى: {يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] وأبو بكر الصديق حين استخلفَ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهما.
(1)
في هامش أ وب: قطفير.
(2)
ما بين الحاصرتين سقط من أ، وهو في ب والمطبوع.
ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارًا. وقيل: بوزنه مِسْكًا، ووزنه حريرًا، ووزنه وَرِقًا. فالله أعلم.
وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أي: وكما قيَّضْنا هذا العزيز وامرأتَه يُحسنان إليه ويعتنيان به، مكنَّا له في أرض مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: إذا أراد شيئًا فإنه يُقَيِّضُ له أسبابًا وأمورًا لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] فدلَّ على أن هذا كلَّه كان وهو قبل بلوغ الأشدِّ، وهو حدُّ الأربعينَ الذي يُوحي الله فيه إلى عباده النَّبييِّنَ عليهم الصلاة والسلام من ربِّ العالمين.
وقد اختلفوا في مُدَّة العمر الذي هو بلوغُ الأَشُد
(1)
، فقال مالك وربيعة وزيد ين أسلم والشعبي: هو الحلم. وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة. وقال الضَّحاك: عشرون سنة. وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة. وقال السُّدِّي: ثلاثون سنة. وقال ابن عبَّاس ومُجاهد وقتادة: ثلاث وثلاثون سنة. وقال الحسن: أربعون سنة. ويشهدُ له قولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15].
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 23 - 29]. يذكرُ تعالى ما كان من مُراودة امرأة العزيز ليوسفَ عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليقُ بحاله ومَقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلَّقتِ الأبوابَ عليها وعليه، وتهيَّأتْ له، وتصنَّعتْ، ولبستْ أحسنَ ثيابها، وأفخرَ لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير. قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريَّان بن الوليد صاحب مصر.
وهذا كلُّه مع أنَّ يوسفَ عليه السلام شابٌّ بديعُ الجمال والبَهاء إلا أنَّه نبيٌّ من سُلالة الأنبياء، فعصمَه ربُّه عن الفحشاء، وحماه عن مَكْر النساء، فهو سَيِّدُ السادة النُّجباء السبعة الأتقياء، المذكورينَ في الصحيحين عن خاتم الأنبياء، في قوله عليه الصلاة والسلام من ربِّ الأرض والسماء: "سبعةٌ يظلُّهم اللّه
(1)
انظر أقوال السلف في معنى الأشد في تفسير الطبري (7/ 176 - 177).
في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلاظِلُّه: إمامٌ عادل، ورجلٌ ذكرَ اللّه خاليًا ففاضتْ عيناه، ورجلٌ مُعلَّقٌ قلبُه
(1)
بالمسجد إذا خرجَ منه حتَّى يعودَ إليه، ورجلان تحابَّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ تصدقَ بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلمَ شمالُه ما تنفقُ يمينُه، وشابٌ نشأ في عبادة اللّه، ورجلٌ دعتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجمالٍ فقال: إنِّي أخافُ اللّه"
(2)
.
والمقصود: أنها دعتْه إليها وحرصتْ على ذلك أشدَّ الحِرْص، فقال:{مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} يعني زوجها صاحب المنزل سيِّدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أحسنَ إليّ وأكرمَ مقامي عنده {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وقد تكلَّمنا على قوله {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.
وأكثرُ أقوال المفسرين هاهنا متلقَّى من كتب أهل الكتاب، فالإعراض عنه أولى بنا. والذي يجبُ أن يُعتقد أنَّ اللّه تعالى عصمَه
(3)
وبرَّأه، ونرهه عن الفاحشة، وحماه عنها، وصانَه منها. ولهذا قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي: هربَ منها طالبًا إلى الباب ليخرجَ منه فِرارًا منها، فاتَّبعتْه في أثره {وَأَلْفَيَا} [أي: وجدا]
(4)
.
{سَيِّدَهَا} أي: زوجَها لدى الباب، فبدرتْه بالكلام وحرَّضْته عليه {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
اتَّهمته وهي المتَّهَمة، وبرَّأتْ عِرْضَها ونزَّهَتْ ساحتَها. فلهذا قال يوسف عليه السلام:{هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} احتاج إلى أن يقولَ الحقَّ عند الحاجة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قيل: كان صغيرًا في المهد، قاله ابن عباس. ورُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جُبير، والضَّحَّاك، واختاره ابن جرير
(5)
. وروى فيه حديثًا مرفوعًا عن ابن عباس
(6)
، ووقفَه غيرُه عنه.
وقيل: كان رجلًا قريبًا إلى "أطفير" بعلها. وقيل: قريبًا إليها. وممن قال: إنه كان
(1)
في هامش ب: في نسخة: بالمساجد، وفيها: متعلق.
(2)
أخرجه البخاري (660) في الأذان، ومسلم (1031) في الزكاة.
(3)
انظر عصمة الأنبياء للفخر الرازي، ففيه ما يشفي الغليل من إثبات عصمة يوسف عليه السلام (ص 51).
(4)
سقطت من الأصول، وأثبتها من المطبوع.
(5)
انظر تفسير الطبري (7/ 194).
(6)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 192).
رجلًا
(1)
: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وزيد بن أسلم.
فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: لأنه يكونُ قد راودَها فدافعْته حتى قَدّت
(2)
مُقَدَّم قميصه {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي: لأنه يكونُ قد هربَ منها، فاتَّبعتْه وتعلَّقتْ فيه، فانشقَّ قميصُه لذلك، وكذلك كان.
ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي: هذا الذي جرى من مكركنَّ، أنتِ راودتِه عن نفسه. ثم اتَّهمْتِه بالباطل، ثم ضربَ بعلُها عن هذا صفحًا، فقال:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي: لا تذكرْه لأحدٍ، لأنَّ كتمانَ مثل هذه الأمور هو الأليقُ والأحسنُ، وأمرَها بالاستغفار لذنبها الذي صدرَ منها، والتوبة إلى ربِّها، فإنَّ العبدَ
(3)
إذا تاب إلى اللّه تابَ اللّه عليه.
وأهلُ مصرَ وإن كانوا يعبدون الأصنامَ إلا أنَّهم يعلمونَ أنَّ الذي يغفرُ الذنوبَ ويُؤاخذ بها هو اللّه وحدَه لا شريكَ له في ذلك، ولهذا قالَ لها بعلها، وعذرَها من بعض الوجوه، لأنها رأتْ ما لا صبرَ لها على مثله، إلا أنه عفيفٌ نزيهٌ بريءُ العِرْضِ، سليم الناحية، فقال:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29].
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 30 - 34]. يذكرُ تعالى ما كان من قِبَل نساء المدينة من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحُبِّها الشديد له، تعنين: وهو لا يساوي هذا؛ لأنه مولى من الموالي، وليس مثله أهلًا لهذا، ولهذا قلن {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: في وضعِها الشيء في غير محلّه {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي: بتشنيعهنَّ عليها، والتنقُّص لها، والإشارة إليها بالعيب والمذمَّة بحبِّ مولاها وعِشْقِ فتاها، فأظهرنَ ذمًّا وهي معذورةلا في نفس الأمر، فلهذا أحبَّتْ أن تبسطَ عدرَها عندهنَّ، وتُبيِّن أنَّ هذا الفتى ليس كما حسبنَ، ولا من قبيل ما لديهنَّ. فأرسلتْ إليهنَّ فجمعتهنَّ في منزلها،
(1)
انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري (7/ 192 - 193).
(2)
"قدَّت": قطعت ومزَّقت.
(3)
كذا في أ وب، وفي المطبوع: العبد المذنب.
وأعتدت لهنَّ ضِيافة مثلهنَّ، وأحضرتْ في جملة ذلك شيئًا مما يُقَطعُ بالسكاكين؛ كالأَتْرُجُ
(1)
ونحوه. وآتتْ كلَّ واحدةٍ منهنَّ سكِّينًا، وكانت قد هيَّأتْ يوسفَ عليه السلام، وألبستْه أحسنَ الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرتْه بالخروج عليهن بهذه الحالة. فخرجَ وهو أحسنُ من البَدْر لا محالة {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي: أعظمنَه وأجللنَه وهِبْنه، وما ظننَّ أن يكونَ مثل هذا في بني آدم، وبهرهنَّ حُسْنه، حتى اشتغلنَ عن أنفسهن، وجعلنَ يحززنَ في أيديهنَ بثلك السكاكين، ولا يشعرنَ بالجراح {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} . وقد جاء في حديث الإسراء "فمررتُ بيوسفَ وإذا هو قد أعطي شَطْرَ الحُسْن"
(2)
.
قال السهيلي
(3)
وغيره من الأئمة: معناه أنَّه كان على النصْفِ من حُسْن آدمَ عليه السلام، لأن الله تعالى خلقَ آدمَ بيده، ونفخَ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحُسْنِ البشريِّ، ولهذا يدخلُ أهلُ الجنّةِ الجنَّةَ على طُولِ آدمَ وحُسْنه، ويُوسف كان على النصفِ من حُسْنِ آدمَ، ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنَّه لم تكن أنثى بعد حوَّاء أشبه بها من سَارَة امرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجهُ يوسفَ مثل البرق، وكان إذا أتته امرأةٌ لحاجةٍ غطَّى وجهه. وقال غيره: كان في الغالب مبرقعًا لئلا يراه النَّاسُ، ولهذا لمَّا قام عذرن امرأة العزيز في محبَّتِها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهنَّ ما جرى من تقطيعِ أيديهن بجِراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدَّهش عند رؤيتِه ومعاينتِه.
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم مدحتْه بالعِفَّة
(4)
التَّامَّة، فقالت:{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي: امتنع {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} وكان بقيَّةُ النساء حرَّضْنَهُ على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشدَّ الإباء، ونأى لأنه من سُلالة الأنبياء، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يعني إن وَكَلْتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملكُ لنفسي نفعًا ولا ضَزَأ إلا ما شاء الله، فأنا ضعيفٌ إلا ما قوَّيتني وعصمتني وحفظتني، وحُطتني بحولك وقؤتك، ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ
(1)
"الأَتْرُّج": شجر يحمل ثمرًا كالليمون، حامض الطعم، ويُسمَّى: تفاح العجم.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 148 و 286) ومسلم (162) في الإيمان.
(3)
انظر الروض الأنف للسهيلي (1/ 129).
(4)
كذا في أ وب، وفي المطبوع: بالعصمة.
مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 34 - 41]. يذكرُ تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أي: ظهرَ لهم من الرأي بعدما علموا براءةَ يوسفَ أن يسجنوه إلى وقتٍ، ليكونَ ذلك أقلّ لكلام الناس في تلك القضية وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودَها عن نفسها فسُجن بسببها، فسجنوه ظلمًا وعدوانًا، وكان هذا مما قدَّر اللّه له، ومن جملة ما عصمَه به، فإنَّه أبعدُ له عن معاشرتِهم ومخالطتِهم، ومن هاهنا استنبطَ بعضُ الصوفية، ما حكاه عنهم الشافعي: أن من العصمة ألَّا تجد
(1)
!.
قال اللّه تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} قيل: كان أحدُهما ساقي الملك واسمه فيما قيل "نبو"، والآخر خبَّازه، يعني الذي يلي طعامَه، وهو الذي يقول له الترك "الجاشنكير" واسمه فيما قيل "مجلث" كان الملك فد اتَّهمَهما في بعض الأمور فسجنَهما. فلما رأيا يوسفَ في السجن أعجبَهما سَمْتُه وهديُه ودلُّه، وطريقته وقولُه وفعلُه، وكثرةُ عبادته ربَّه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تُناسبُه.
قال أهلُ التفسير: رأيا في ليلة واحدة، أما الساقي فرأى كأن ثلاثَ قضبان من حَبَلةٍ
(2)
، وقد أورقت وأينعتْ عناقيدَ العِنبِ
(3)
، فأخذَها فاعتصرَها في كأسِ الملك وسقاه. ورأى الخبَّازُ على رأسه ثلاثَ سِلالٍ من خبزٍ وضَواريَ الطيور تأكلُ من السَّلَ الأعلى، فقصَّاها عليه، وطلبا منه أن يُعبرهما لهما وقالا:{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فأخبرَهما أنه عليمٌ بتعبيرها، خبيرٌ بأمرها و {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}. قيل: معناه مهما رأيتُما من حلم فإني أعَبِّره لكم قبلَ وقوعه، فيكونُ كما أقول.
وقيل: معناه إني أخبرُكما بما يأتيكما من الطعام قبل مَجيئهِ حلوًا أو حامضًا، كما قال عيسى:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49].
وقال لهما: إن هذا من تعليم اللّه إياي، لأني مؤمنٌ به مُوحِّد له، مُتَبعٌ مِلَّة آبائي الكرام إبراهيم
(1)
أي: ألا تجد ما فيه الابتلاء.
(2)
"الحَبَلة": الأصل أو القضيب من شجرة الأعناب.
(3)
كذا في ب، وفي أ: عنبًا، فبدا العنبُ.
الخليل وإسحاق ويعقوب {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أي: بأن هدانا لهذا {وَعَلَى النَّاسِ} أي: بأن أمرنا أن ندعوَهم إليه، ونرشدَهم وندلَّهم عليه، وهو في فِطَرِهم مركوزٌ وفي جِبِلَّتِهم مغروزٌ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .
ثم دعاهم إلى التوحيد، وذمّ عبادة ما سوى اللّه عز وجل، وصغَّر أمرَ الأصنام وحقَّرَها، وضعَّفَ أمرَها، فقال:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39، 40] أي: هو المتصرف في خلقه، الفعَّال لما يُريد، الذي يَهدي منْ يشاءُ، ويُضلُّ منْ يشاء {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي: وحدَه لا شريك له و {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: المستقيم والصراط القويم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: فهم لا يَهتدون إليه، مع وضوحه وظهوره، وكانت دعوتُه لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأنَّ نفوسَهما مُعظِّمةٌ له، منبعثة على تلقِّي ما يقول بالقَبول، فناسبَ أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه.
ثمَّ لما قام بما وجبَ عليه وأرشدَ إلى ما أرشدَ إليه، قال:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} قالوا: وهو الساقي، {وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} قالوا: وهو الخبَّاز {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: وقعَ هذا لا محالةَ، ووجبَ كونُه على حالة، و لهذا جاء في الحديث "الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبَّرْ فإذا عُبِّرَتْ وقعتْ"
(1)
.
وقد رُوي عن ابن مسعود، ومجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنهما قالا لم نرَ شيئًا. فقال لهما: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} .
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] يُخبر تعالى أنَّ يوسفَ عليه السلام قال للذي ظنَّه ناجيًا منهما وهو الساقي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يعني: اذكرْ أمري وما أنا فيه من السجن بغير جُرْمٍ عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب. ولا ينافي ذلك التوكل على ربِّ الأرباب. وقوله {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: فأنسى النَّاجي منهما الشيطانُ أن يذكرَ ما وصَّاه به يوسف عليه السلام. قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد، وهو الصواب، وهو منصوصُ أهل الكتاب {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل: إلى السبع. وقيل: إلى الخمس. وقيل: ما دون العشرة. حكاها الثعلبي. ويقال: بضع نسوة، وبضعة رجال. ومنعَ الفرَّاءُ استعمالَ البضع فيما دون العشر. قال: وإنما يُقال: نيف.
(1)
أخرجه أحمد في المسند (4/ 10)، وابن ماجه (3914) في تعبير الرؤيا، والدارمي (2/ 126) في الرؤيا، وهو حديث صحيح.
وقال اللّه تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وقال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4] وهذا ردٌّ لقوله. قال الفراء: ويُقال بضعة عشر، وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يُقال: بضع ومئة، وبضع وألف. وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنعَ أن يُقال: بضعة وعشرون إلى تسعين. وفي الصحيح: "الإيمان بضعٌ وستون" وفي رواية: "وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"
(1)
.
ومن قال: إن الضمير في قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} عائد على يوسفَ، فقد ضُعِّفَ ما قاله، وإن كان قد رُوي عن ابن عباس وعكرمة، والحديث الذي رواه ابنُ جرير
(2)
في هذا الموضع ضعيفٌ من كل وجه. تفرَّد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي (2) المَكِّيّ، وهو متروك. ومُرسلُ الحسن وقتادة لا يُقبل ولا هاهنا بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم.
فأما قول ابن حبَّان في صحيحه
(3)
عند ذكر السبب الذي من أجله لبثَ يوسف في السجن ما لبثَ: أخبرنا الفضل بن الحباب الجُمحيّ، حَدَّثَنَا مُسدَّد بن مُسَرهدٍ، حَدَّثَنَا خالدُ بن عبدِ اللّه، حَدَّثَنَا محمّدُ بن عمرٍو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "رحمَ اللّه يوسفَ لولا الكلمة التي قالها {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ما لبثَ في السجن ما لبثَ، ورحمَ اللّه لوطًا إنْ كان ليأوي إلى رُكْنٍ شديد، إذ قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] قال: فما بعثَ اللّه نبيًّا بعده إلا في ثروة من قومه". فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومحمد بن عمرو بن علقمة، له أشياء ينفردُ بها، وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدِّها. والذي في الصحيحين
(4)
يشهدُ بغلطها، واللّه أعلم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي
(1)
أخرجه البخاري رقم (9) ومسلم (35) في الإيمان، وأحمد (2/ 445) وأبو داود (4676) في السنة، والترمذي (2617) في الإيمان، والنسائي (8/ 110) في الإيمان، وابن ماجة (57) في المقدمة.
(2)
في التفسير (7/ 221).
(3)
الإحسان (6206) وهو حديث حسن. والثروة: الكثرة والمنعة.
(4)
أخرجه البخاري (3372) في الأنبياء، ومسلم (151)(238) في الإيمان.
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:43 - 49] هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن مَلِكَ مصرَ، وهو الريَّان بن الوليد بن ثروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب: رأى كأنَّه على حافَة نهر، وكأنَّه قد خرجَ منه سبع بقرات سمان، فجعلنَ يرتعنَ في روضة هناك، فخرجتْ سبْعٌ هُزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعنَ معهنَّ، ثم مِلْنَ عليهنَّ فأكلنهنَّ، فاستيقظ مذعورًا، ثم نامَ فرأى سبعَ سنبلات خُضْرٍ في قصبةٍ واحدةٍ، وإذا سبع أُخرُ دقاقٌ يابسات، يأكلنهنَّ، فاستيقظَ مذعورًا.
فلما قصَّها على ملئِه وقومِه، لم يكن فيهم من يُحسنُ تعبيرَها، بل {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أي: أخلاط أحلام من الليل، لعلَّها لا تعبيرَ لها، ومع هذا فلا خبرةَ لنا بذلك، ولهذا قالوا:{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} فعند ذلك تذكَرَ النَّاجي منهما الذي وصَّاه يوسفُ بأن يذكرَه عند ربه فنسيَه إلى حينه هذا، وذلك عن تقدير الله عز وجل، وله الحكمة في ذلك، فلما سمعَ رؤيا الملكِ ورأى عَجْزَ النَّاس عن تعبيرها، تذكَّرَ أمرَ يوسف، وما كان أوصاه به من التَّذْكار، ولهذا قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ} أي: تذكَر {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعدَ مدَّةٍ من الزمان، وهو بضعُ سنينَ، وقرأ بعضهُم كما حُكيَ عن ابن عبَّاس وعكرمة والضَّحَّاك {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد نسيان، وقرأها مجاهد (بعد أمْهٍ) بإسكان الميم، وهو النسيان أيضًا، يقال: أمِهَ الرجلُ يامَهُ أمْهًا وأمَهًا: إذا نسي، قال الشاعر:[من الوافر]
أمِهْتُ وكنتُ لا أنسى حديثًا
…
كذاكَ الدهرُ يردي بالعقول
(1)
فقال لقومه وللملك: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} أي: فأرسلوني إلى يوسفَ، فجاءه فقال:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وعند أهل الكتاب أن الملكَ لما ذكرَه له الساقي استدعاه إلى حضرتِه، وقصَّ عليه ما رآه، ففسَّره له. وهذا غَلَطٌ، والصوابُ ما قصَّه الله في كتابه القرآن، لا ما غُرَّ به هؤلاء الجهلة الثيران، من قرَّايٍ وَرَبَّان
(2)
. فبذلَ يوسفُ عليه السلام ما عندَه من العلم بلا تأخرٍ ولا شرطٍ، ولا طلبٍ للخروج
(3)
سريعًا، بل أجابَهم إلى ما سألوا، وعبَّرَ لهم ما كان من منام الملك الدَالِّ على وقوع سبع سنين من الخصب، ويعقُبها سبعٌ جدب. {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يعني: يأتيهم الغيث والخِصْبُ والرفاهية
(1)
أمِهْت: نسيتُ. وفي تفسير القرطبي (9/ 201): يُودي بالعقول.
(2)
كذا في أ وب؛ وقرَّاي: كثير القراءة، والمراد: القرَّاء والعلماء من يهود.
(3)
في المطبوع: ولا طلبَ الخروجَ. وفي "أ" كلمة "الخروج" غير واضحة.
{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يعني: ما كانوا يعصرونَه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسُّمْسُم وغيرها، فعبَّرَ لهم، وعلى الخير دلَّهم وأرشدَهم إلى ما يعتمدونه في حالتيْ خِصْبهم وجَدْبهم، وما يفعلونه من ادِّخار حبوبِ سنيِّ الخِصْب في السبع الأول في سنبله، إلا ما يُرصدُ بسبب الأكلِ، ومن تقليل البذر في سنيِّ الجَدْب في السبع الثانية، إذ الغالبُ على الظَّنِّ أنه لا يردُّ البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 50 - 53]. لما أحاطَ الملكَ علمًا بكمال علم يُوسف عليه الصلاة والسلام، وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه، أمرَ بإحضاره إلى حضرتِه، ليكونَ من جملة خاصَّتِه. فلما جاءه الرسولُ بذلك أحبَّ ألا يخرجَ حتى يتبينَ لكلِّ أحد أنه حُبسَ ظلمًا وعدوانًا، وأنه بريءُ السَّاحة مما نسبوه إليه بهتانًا {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني: الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} قيل: معناه إنَّ سيدي العزيز يعلمُ براءتي مما نُسبَ إليَّ. أي: فمر الملكَ فليسألهنَّ: كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهنَّ إيايَ وحثِّهنَّ لي على الأمر الذي ليس برشيدٍ ولا سديدٍ؟ فلما سُئلنَ عن ذلك اعترفنَ بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فعند ذلك {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} وهي "زليخا" {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: ظهرَ وتبيَّنَ ووضحَ، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبعَ {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي: فيما يقوله من أنه بريء، وأنه لم يُراودني، وأنه حُبِسَ ظلمًا وعدوانًا وزورًا وبهتانًا، وقوله {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قيل: إنه من كلام يوسفَ، أي: إنما طلبتُ تحقيق هذا، ليعلمَ العزيزُ أني لم أخنْهُ بظهر الغيب. وقيل: إنه من تمام كلام "زليخا" أي: إنما اعترفتُ بهذا ليعلمَ زوجي أني لم أخنْه في نفسِ الأمر، وإنما كان مُراودةً لم يقع معها فعل فاحشةٍ، وهذا القولُ هو الذي نصرَه طائفةٌ كثيرةٌ من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحكِ ابنُ جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام "زليخا" وهو مُفرَّع على القوليْن الأوَّلين، وكونُه من تمام كلام "زليخا" أظهرُ وأنسبُ وأقوى، واللّه أعلم.
ونزاهةُ ساحتِه عمَّا كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي: أجعله من خاصَّتي، ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي. فلما كلَّمه وسمعَ مقالَه، وتبيَّنَ حالَه {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي: ذو مكانة وأمانة {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} طلبَ أن يولّيه النظرَ فيما يتعلق بالأهراء
(1)
؛ لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضيّ سبع سنيِّ الخِصْبِ، لينظرَ فيها بما يرضي اللّه في خَلْقِه من الاحتياط لهم والرِّفْق بهم، وأخبر المَلِكَ: إنه حفيظ، أي: قوي على حفظ ما لديه أمين عليه، عليمٌ بضبط الأشياء ومصالح الأهراء، وفي هذا دليلٌ على جواز طلب الولاية لمن علمَ من نفسه الأمانةَ والكفاءة.
وعند أهل الكتاب أنَّ فرعونَ عظَّمَ يوسف عليه السلام جدًا وسلَّطَه على جميع أرض مصر، وألبسه خاتَمه الحريرَ، وطوَّقَه الذهبَ، وحملَه على مركبه الثاني، ونُودي بين يديْه: أنتَ ربّ ومُسلَّط. وقال له: لستُ أعظمَ منكَ إلا بالكرسيّ. قالوا: وكان يوسفُ إذ ذاك ابنَ ثلاثينَ سنة وزوَّجه امرأةً عظيمةَ الشأن.
وحكى الثعالبيُّ
(2)
: أنه عزلَ "أطفيرَ" عن وظيفته وولاها يوسف. وقيل: إنه لما مات زوَّجه امرأته "زليخا" فوجدَها عذراءَ، لأن زوجَها كان لا يأتي النساءَ، فولدتْ ليوسفَ عليه السلام رجلين، وهما:"أفرايم" و "منشا" قال: واستوثقَ ليوسفَ مِلْكُ مصرَ، وعمل فيهم بالعدل، فأحبَّه الرجال والنساء.
وحُكي أنَّ يوسفَ كان يوم دخلَ على الملك عمرُه ثلاثين سنة، وأن المَلِكَ خاطبَه بسبعين
(3)
لغةً، وكلُّ
(4)
ذلك يُجاوبه بكلِّ لغةٍ منها، فأعجبه ذلك مع حداثه
(5)
سنه، فاللّه أعلم.
قال اللّه تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي: بعد السجن والضيق والحَصْر، صار مطلقَ الرِّكاب لديار مصرَ {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي: أين شاء حلَّ منها مكرَّمًا محسودًا معظَّمًا {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: هذا كلُّه من جزاء اللّه وثوابه للمؤمن، مع ما يدَّخرُ له في آخرتِه من الخير الجزيل والثواب الجميل، ولهذا قال:{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} .
ويقال: إن "أطفير" زوج "زليخا" كان قد ماتَ، فولاه الملك مكانَه، وزوَّجه امرأته "زليخا" فكان وزيرَ صدق.
(1)
الأهراء: جمع الهُرْي، وهو بيت ضخم يُجمع فيه طعام السلطان (مخزن أو مستودع).
(2)
انظر قصص الأنبياء؛ للثعالبي (ص 128).
(3)
هذه من المبالغات التي تتسم بها الحكايا الإسرائيلية؛ مما يدل على الوضع والكذب فيها.
(4)
في المطبوع: وفي كلِّ.
(5)
كذا في ب، وفي أ: حذاقة.
وذكر محمد بن إسحاق: أن صاحبَ مصر الوليد بن الريَّان أسلم على يديْ يوسف عليه السلام، فاللّه أعلم، وقد قال بعضُهم:[من الطويل]
وراءَ مضيقِ الخوفِ متّسعُ الأمنِ
…
وأوَّلُ مفروحٍ به غايةُ الحُزْنِ
فلا تيأسنْ، فاللّهُ مَلَّكَ يوسفًا
…
خزائنَه بعد الخلاصِ من السِّجنِ
(1)
إلى الديار المصريَّة يمتارون طعامًا، وذلك بعد إتيان سنيّ الجَدْب وعمومِها على سائر البلاد والعباد، وكان يوسفُ عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينًا ودنيا، فلما دخلوا عليه عرفَهم ولم يعرفوه، لأنهم لم يخطرْ ببالهم ما صارَ إليه يوسفُ عليه السلام من المكانة والعَظمة، فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم، وأرادَ ألا يعرفوه، فأغلظَ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيسُ جئتُم لتأخذوا خبرَ بلادي. فقالوا: معاذَ اللّه! إنما جئنا نمتارُ
(2)
لقومنا من الجَهْد والجُوع الذي أصابنا ونحنُ بنو أب واحدٍ من كنعانَ، ونحنُ اثنا عشرَ رجلًا، ذهبَ منا واحدٌ، وصغيرُنا عند أبينا. فقال: لا بُدَّ أن أستعلمَ أمرَكم.
وعندهم: أنه حبسَهم ثلاثةَ أيَّام، ثم أخرجهم، واحتبسَ شمعونَ عندَه ليأتوه بالأخ الآخر. وفي بعض هذا نظر.
قال اللّه تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي: أعطاهم من الميرة ما جرتْ به عادته في إعطاء كل إنسان حملَ بعير، لا يزيدُه عليه {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وكان قد سألهم عن حالهم، وكم هم؟ فقالوا: كنا اثني عشر رجلًا، فذهبَ منَّا واحدٌ وبقيَ شقيقُه عند أبينا، فقال: إذا قدمتُم من العام المقبل فأْتُوني به معكم {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} أي: قد أحسنت نزلكم وقِراكم، فرغَّبهم ليأتوه به، ورهَّبهم إن لم يأتوه به قال {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} أي: فلستُ أعطيكم ميرةً، ولا أقربُكم بالكُليَّة، عكسَ ما أسدى إليهم أولًا، فاجتهدَ في إحضاره معهم لِتملَّ شوقه منه بالترغيب والترهيب {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنجتهدُ في مجيئه معنا وإتيانِه إليكَ بكلِّ ممكن {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي: وإنا لقادرون على تحصيله.
(1)
في المطبوع: عليه السلام.
(2)
نمتار: نجلب الميرة، وهي الطعام.
ثم أمر فتيانَه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاؤوا به يتعوَّضون به عن الميرةِ في أمتعتهم من حيثُ لا يشعرون بها {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: أراد أن يردُّوها إذا وجدوها في بلادهم. وقيل: خشيَ ألا يكونَ عندهم ما يرجعون به مرة ثانية. وقيل: تذمَّم
(1)
أن يأخذ منهم عوضًا عن الميرة. وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرُها. وعند أهل الكتاب أنها كانت صُورًا من وَرق، وهو أشبه، واللّه أعلم.
يذكرُ تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم. وقولهم له: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي: بعد عامنا هذا إن لم تُرسلْ معنا أخانا، فإن أرسلتَه معنا لم يُمنعْ منَّا {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نُريد وقد رُدَّتْ إلينا بضاعتنا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نمتارُ لهم ونأتيهم بما يُصلحُهم في سَنَتهم ومَحْلهم {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ} بسببه {كَيْلَ بَعِيرٍ} قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي: في مقابلة ذهاب ولده الآخر، وكان يعقوبُ عليه السلام أضنَّ شيءً بولده "بنيامين" لأنه كان يشمُّ فيه رائحةَ أخيه، ويتسلَّى به عنه، ويتعوَّض بسببه منه، فلهذا قال:{لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن تغلبوا كلُّكم عن الإتيان به {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أ كَّد المواثيقَ وقرَّرَ العهودَ، واحتاطَ لنفسه في ولده، ولن يُغني حَذرٌ من قَدَر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعثَ الولد العزيز، ولكنَّ الأقدار لها أحكامٌ، والربُّ تعالى يُقدِّرُ ما يشاءُ ويختارُ ما يُريد، ويحكم ما يشاءُ، وهو الحكيم العليم.
ثم أمرَهم ألَّا يدخلوا المدينةَ من بابٍ واحدٍ، ولكنْ ليدخلوا من أبوابٍ مُتفرِّقةٍ. قيل: أراد ألَّا يُصيبَهم أحدٌ بالعين، وذلك لأنهم كانوا أشكالًا حسنةً، وصورًا بديعة، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسُّدِّي والضَّحَّاك. وقيل: أراد أن يتفرَّقوا لعلَّهم يجدون خبرًا ليوسفَ أو يُحدَّثون عنه بأثر، قاله إبراهيم النخعي، والأول أظهر. ولهذا قال:{وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}
(1)
تذمَّم: امتنع واستنكف.
وعند أهل الكتاب: أنه بعثَ معهم هديَّةً إلى العزيز من الفُستق واللَّوز والصَّنوبر والبُطْم والعسل، وأخذوا الدراهمَ الأولى وعوضًا آخرَ.
يذكرُ تعالى ما كانَ من أمرهم حين دخلوا بأخيهم "بنيامين" على شقيقه يوسف، وإيوائه إليه وإخباره له سرًّا عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتمِ ذلك، وسلَّاه عما كان منهم من الإساءة إليه. ثم احتالَ على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونهم، فأمرَ فتيانه بوضع سقايته - وهي التي كان يشربُ بها، ويكيلُ بها للناس الطعام - عن غِرَّته في متاع بنيامين.
ثم أعلمَهم بأنهم قد سرقوا صُواع الملك، ووعدَهم جُعالةً على ردِّه حِمْلَ بعير، وضمنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتَّهمهم بذلك فأنَّبوه وهجَّنوه
(1)
فيما قاله لهم {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقولون: أنتم تعلمون منا خِلافَ ما رميتمُونا به من السرقة {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . وهذه كانت شريعتهم: أنَّ السارقَ يدفعُ إلى المسروق منه، ولهذا قالوا:{كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} . قال اللّه تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة، ثم قال اللّه تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} . أي: لولا اعترافُهم بأن جزاءه من وُجد في رَحْله فهو جزاؤه، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي: في العلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وذلك لأن يوسفَ كان أعلم
(1)
هجَّنوه: عابوه، من هجَّن الأمرَ: إذا قبَّحه وعابه.
منهم وأتم رأيًا وأقوى عزمًا وحزمًا، وإنما فعلَ ما فعلَ عن أمر الله له في ذلك، لأنه يترتبُ على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه، فلما عاينوا استخراجَ الصُّواعِ من حمل بنيامين:{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون يوسفَ. قيل: كان قد سرق صنمَ جدِّه أبي أمه فكسرَه. وقيل: كانت عمَّتُه قد علَّقتْ عليه بين ثيابه وهو صغير منطقَةً كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعتْ، وإنما أرادتْ أن يكونَ عندها وفي حضانتها لمحبَّتها له. وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل: غير ذلك فلهذا {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} وهي كلمته بعدها، وقوله:{أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} أجابَهم سرًّا لا جهرًا، حلمًا وكرمًا وصفحًا وعفوًا، فدخلوا معه في الترفُّق والتعطُّف، فقالوا:{قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} أي: إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمحُ به، وإنما نأخذُ من وجدْنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرَّفَ إليهم حينئذ، وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيِّدًا
(1)
.
يقول تعالى مخبرًا عنهم: إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خَلصُوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرُهم وهو روبيل {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} لقد أخلفتُم عهدَه وفرَّطتم فيه كما فرَّطتم في أخيه يوسف من قبله، فلم يبقَ لي وجهٌ أقابله به {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ} أي لا أزالُ مقيمًا هاهنا {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في القدوم عليه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يقدِّرني على رد أخي إلى أبي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: أخبروه بما رأيتُم من الأمر في ظاهر المشاهدة {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ
(1)
كذا في ب: والمطبوع. وفي أ: جدًا.
الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: فإن هذا الذي أخبرناكَ من أخذهم أخانا لأنَّه سرقَ أمر اشتهرَ بمصر، وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجيّةً له ولا خلقه، وإنما سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميل.
قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في "بنيامين" مترتبًا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال. وهذا كما قال بعضُ السلف: إنَّ من جزاء السيئة السيئة بعدَها، ثم قال:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي: بحالي، وما أنا فيها من فراق الأحبة {الْحَكِيمُ} فيما يُقدِّرُه ويفعله، وله الحِكمةُ البالغة، والحجَّة القاطعة {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرض عن بنيه {وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} ذكَّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرَّك ما كان كامنًا، كما قال بعضهم:[من الكامل]
نقِّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى
…
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّلِ
(1)
وقال آخر: [من الطويل]
لقد لامَني عندَ القُبور على البُكا
…
رفيقي لتذرافِ الدُّموع السَّوافِكِ
(2)
فقالَ أتبكي كلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ
…
لقبرٍ ثوى بينَ اللِّوى فالدكادك
(3)
فقلتُ له إن الأسى يبعثُ الأسى
…
فَدَعْني فهذا كلّهُ قبرُ مالك
(4)
وقوله {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي: من كثرة البكاء {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف، فلما رأى بنوه ما يُقاسيه من الوَجْد وألم الفراق {قَالُوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} يقولون لا تزالُ تتذكره حتى ينحلَ جسدُك، وتضعف قوَّتُك، فلو رَفقْتَ بنفسك كان أولى بك {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل، وأعلم أن الله سيجعلُ لي مما أنا فيه فَرَجًا ومخْرَجًا، وأعلم أن رؤيا يوسفَ لابُدَّ أن تقعَ، ولابُدَّ أن أسجدَ له أنا وأنتم حسبَ ما رأى، ولهذا قال:{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ثم قال لهم مُحرّضًا على تَطلُّبٍ يوسفَ وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
(1)
البيت في العقد الفريد، لابن عبد ربه (3/ 470).
(2)
السَّوافك: المنصبّة، يقال سفَكَه: إذا صبَّه وأراقه.
(3)
اللَّوى: ما التوى من الرمل واعوجَّ، والدَّكادكِ: جمع الدك: وهو ما استوى من الرمل والأرض.
(4)
الأبيات لمتمم بن نُويرة. انظر حماسة أبي تمام (2/ 290).
الْكَافِرُونَ} أي: لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأسُ من رَوْح الله وفَرَجِه وما يقدره من المَخرجِ في المضايق إلا القوم الكافرون.
يُخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه، وقدومهم عليه، ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصَّدقة عليهم بردَّ أخيهم "بنيامين" إليهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: من الجَدْب وضيق الحال وكثرة العِيال {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يُتجاوزَ عنها. قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل: حبّ الصنوبر وحبّ البُطْم، ونحو ذلك. وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر
(1)
والحبال ونحو ذلك {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} قيل: بقبولها. قاله السُّدِّي. وقيل: برد أخينا إلينا. قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عُيينة: إنما حرمت الصَّدقةُ على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ونزعَ بهذه الآية. رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبقَ عندهم سواه من ضعيف المال، تعرَّف إليهم وعطفَ عليهم قائلًا لهم عن أمر ربِّه وربِّهم وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال الذي يعرفون {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} وتعجَّبوا كلَّ العجب، وقد تردَّدوا إليه مرارًا عديدة، وهم لا يعرفون أنه هو {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} يعني أنا يوسف الذي صنعتُم معه ما صنعتُم، وسلفَ من أمرِكم فيه ما فرَّطتم، وقوله:{وَهَذَا أَخِي} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا، وشدة معاقد عِزِّنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربِّنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا، وشفقته علينا {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي: فضَّلكَ وأعطاكَ ما لم يُعْطِنا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي: فيما أسدينا إليكَ، وهانحن بين يديك {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لستُ أُعاقبكُم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادَهم على ذلك فقال {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
(1)
"الغرائر": جمع الغرارة، وهي وعاء من الخيش ونحوه، يُوضع فيه القمح ونحوه.
ومن زعم أن الوقفَ على قوله لا تثريبَ عليكم، وابتدأ بقوله {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فقوله ضعيف، والصحيح الأول. ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذي يلي جسدَه، فيضعوه على عينيْ أبيه، فإنه يرجع إليه بصره بعدما كان ذهبَ بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.
ثم أمرَهم أن يتحمَّلوا بأهلهم أجمعينَ إلى ديار مصرَ، إلى الخير والدَّعة وجمع الشمل بعد الفرقة، على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.
قال عبدُ الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابنَ عبَّاس يقول:{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} قال: لما خرجتِ العيرُ، هاجتْ ريحٌ فجاءتْ يعقوبَ بريحِ قميص يوسف {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} قال: فوجد ريحَه من مسيرة ثمانية أيام
(1)
. وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم: عن أبي سنان، به. وقال الحسنُ البصري وابن جُريج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخًا، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.
وقوله {لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تقولون إنما قلتَ هذا من الفند، وهو الخَرف وكبر السن. قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جُبير وقتادة: تفندون: تسفهون. وقال مجاهد أيضًا والحسن تهرمون
(2)
.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} قال قتادة والسُّدي: قالوا له كلمة غليظة. قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} أي: بمجرد ما جاءَ ألقى القميصَ على وجه يعقوبَ، فرجعَ من فوره بصيرًا بعدما كان ضريرًا، وقال لبنيه عند ذلك {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: أعلمُ أنَّ الله سيجمعُ شَمْلي بيوسفَ، وستقرُّ عيني به، وسيُريني فيه ومنه ما يسرُّني، فعند ذلك {قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} . طلبوا إليه أن يستغفرَ لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه، وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيِّتهم التوبةُ قبلَ الفعل قيَّضهُم الله للاستغفار عند
(1)
أخرجه عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه، كما في الدر المنثور (4/ 581).
(2)
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (4/ 581).
وقوع ذلك منهم، فأجابهم أبوهم إلى ما سألوه وما عليه عوَّلوا قائلًا {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
قال ابن مسعود، وإبراهيم التَّيْميُّ، وعمرو بن قيس، وابن جُرَيْج، وغيرهم: أرجأهم إلى وقت السَّحر
(1)
. قال ابن جرير: حدَّثني أبو السَّائب، حدَّثنا ابنُ إدريس، سمعتُ عبدَ الرحمن بن إسحاق يذكرُ عن مُحارب بن دِثَار، قال: كان عمٌّ لي
(2)
يأتي المسجدَ، فسمعَ إنسانًا يقول: اللهم دعوتني فأجبتُ، وأمرتني فأطعتُ، وهذا السَّحرُ فاغفرْ لي. قال: فاستمعَ الصوتَ فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسألَ عبدَ الله عن ذلك، فقال: إنَّ يعقوبَ أخَّرَ بنيه إلى السَّحر بقوله {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}
(3)
.
وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربُّنا كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له"
(4)
.
وقد وردَ في حديثٍ أنَّ يعقوبَ أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة. قال ابن جرير: حدَّثني المثنَّى، حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حدَّثنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقولُ: "حتى تأتيَ ليلةُ الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه"
(5)
. وهذا غريب من هذا الوجه. وفي رفعه نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنه.
هذا إخبارٌ عن حال اجتماع المتحابِّين بعد الفُرْقة الطويلة التي قيل: إنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 300).
(2)
كذا في تفسير الطبري (7/ 300) وفي الأصول: عمر، خطأ، ومحارب بن دثار توفي سنة 116 هـ، وروى عن جابر وابن عمر. انظر سير أعلام النبلاء (5/ 217) وتهذيب التهذيب (10/ 49).
(3)
أخرجه ابن جرير في التفسير (7/ 300).
(4)
أخرجه البخاري (1145) في التهجد، ومسلم (758) في صلاة المسافرين وقصرها.
(5)
أخرجه ابن جرير (7/ 300).
وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال محمد بن إسحاق: ذكروا أنه غابَ عنه ثماني عشرة سنة. قال: وأهلُ الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يُرشد إلى تحديد المدة تقريبًا، فإن المرأة راودتْه وهو شابٌّ ابن سبع عشرة فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أُخرج فكانت سنواتُ الخِصْب السبع، ثم لما أمحل النَاسُ في السبع البواقي، جاء إخوتُه يمتارون في السنة الأولى وحدَهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرَّف إليهم وأمرَهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاؤوا كلُّهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} اجتمع بهما خصوصًا وحدَهما دون إخوته {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قيل هذا من المقدَّم والمؤخَّر، تقديرُه: ادخلوا مصرَ وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير، وهو معذور.
قيل: تلقَّاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} قاله السُّدِّي. ولو قيل: إن الأمرَ لا يحتاجُ إلى هذا أيضًا، وإنه ضمَّن قوله ادخلوا معنى اسكنوا وأقيموا بها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} لكان صحيحًا مليحًا أيضًا.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوبَ لما وصلَ إلى أرض "جاشر" وهي أرض "بلبيس" خرج يوسف لتلقِّيه، وكان يعقوبُ قد بعثَ ابنه يهوذا بين يديه مُبشِّرًا بقدومه. وعندهم: أنَّ الملك أطلقَ لهم أرضَ "جاشر" يكونون فيها، ويقيمون بها بنعَمهم ومواشيهم.
وقد ذكرَ جماعةٌ من المفسِّرين أنه لما أزفَ قدومُ نبيِّ الله يعقوب وهو إسرائيل، أرادَ يوسفُ أن يخرجَ لتلقِّيه، فركبَ معه الملكُ وجنودُه خدمةً ليوسف، وتعظيمًا لنبيِّ الله إسرائيل، وأنه دعا للملك، وأنَّ الله رفعَ عن أهل مصرَ بقيَّة سنيّ الجَدْب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.
وكان جملة منْ قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم، فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: ثلاثة وستين إنسانًا. وقال موسى بن عبيدة: عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شدَّاد، كانوا ثلاثة وثمانين إنسانًا. وقال أبو إسحاق، عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانًا. قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمئة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب: أنَّهم كانوا سبعين نفسًا، وسمَّوهم.
قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قيل: كانت أُمه قد ماتت، كما هو عند علماء التوراة. وقال بعض المفسرين: فأحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالتُه ليلى، والخالةُ بمنزل الأم.
وقال ابن جرير
(1)
وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمِّه إلى يومئذ، فلا يُعوَّل على نقل أهل الكتاب فيما خالفَه، وهذا قوي، والله أعلم.
(1)
انظر تفسير الطبري (7/ 302).
ورفعهما على العرش أي: أجلسهما معه على سريره {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} أي: سجدَ له الأبوان والإخوة الأحدَ عشر تعظيمًا وتكريمًا، وكان هذا مشروعًا لهم، ولم يزلْ تلك معمولًا به في سائر الشرائع حتَى حَرُمَ في مِلَّتنا.
{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} أي: هذا تعبير ما كنتُ قَصَصْتُه عليكَ من رؤيتي الأحدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر، حين رأيتهم لي ساجدين، وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} أي: بعد الهمِّ والضيق جعلني حاكمًا نافذَ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي: البادية وكانوا يسكنون أرضَ العربات من بلاد الخليل {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} أي: فيما كان منهم إليّ من الأمر الذي تقدَّم وسبقَ ذكره. ثم قال {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي: إذا أراد شيئًا هيَّأ أسبابَه ويسَّرها وسهَّلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد، بل يقدرها وُييَسِّرها بلطيف صُنْعه وعظيم قُدْرته {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي: بجميع الأمور {الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه وقدره.
وعند أهل الكتاب: أن يوسفَ باع أهلَ مصرَ وغيرَهم، من الطعام الذي كان تحتَ يده، بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والأثاث، وما يملكونه كله، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء. ثم أطلقَ لهم أرضهم، وأعتقَ رقابهم، على أن يعملوا ويكون خُمُسُ ما يستغلُّون من زَرْعهم وثمارهم للملك، فصارت سُنَّةَ أهل مصرَ بعده.
وحكى الثعالبيُّ
(1)
: أنه كان لا يشبعُ في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعانَ، وأنه إنما كان يأكل أكلةً واحدة نصفَ النهار. قال: فمن ثمَّ اقتدى به الملوكُ في ذلك. قلت: وكان أميرُ المؤمنين. عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبعُ بطنه عام الرمادة حتى ذهبَ الجدْبُ وأتى الخِصْبُ.
قال الشافعي: قال رجلٌ من الأعراب لعمرَ بعدما ذهب عام الرمادة: لقد انجلتْ عنك، وإنك لابن حرَّة.
ثم لما رأى يوسفُ عليه السلام نعمتَه قد تمَّت، وشملَه قد اجتمعَ، عرفَ أن هذه الدار لا يُقرّ بها قرار، وأنَّ كلَّ شيء فيها ومنْ عليها فان. وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربِّه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله. وسألَ منه وهو خيرُ المسؤولين أن يتوفَاه -أي: حينَ يتوفَاه- على الإسلام، وأن يُلحقه بعبادِه الصَّالحين، وهكذا كما يقال في الدعاء: "اللهم أحينا مسلمين وتوفَّنا
(1)
قصص الأنبياء؛ للثعالبي (ص 129).
مسلمين"
(1)
. أي: حين تتوفانا.
ويُحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام، كما سألَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفعَ روحَه إلى الملأ الأعلى والرفقاء الصَّالحين من النَّبييِّن والمرسلين، كما قال:"اللهم في الرفيق الأعلى"
(2)
ثلاثًا، ثم قضى.
ويُحتمل أنَّ يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام مُنْجزًا في صحَّة منه وسلامةٍ، وأن ذلك كان سائغًا في ملَّتهم وشِرْعتهم، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما تمنَّى نبيّ قط الموتَ قبل يوسف
(3)
.
فأمَّا في شريعتنا فقد نُهي عن الدعاء بالموت إلَّا عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد
(4)
: "وإذا أردتَ بقومٍ فتنة فتوفَّنا إليكَ غير مفتونين" وفي الحديث الآخر: "ابن آدمَ الموتُ خيرٌ لك من الفِتْنة" وقالت مريم عليها السلام: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23] وتمنَّى الموتَ علىُّ بن أبي طالب لما تفاقمتِ الأمورُ، وعظمتِ الفِتنُ، واشتدَّ القتالُ، وكَثُرَ القيلُ والقالُ، وتمنَّى ذلك البخاريُّ أبو عبد الله صاحب الصحيح، لما اشتدَّ عليه الحالُ، ولقيَ من مخالفيه الأهوال.
فأما في حال الرفاهية: فقد روى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما: من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّى أحدُكم الموتَ لضُرٍّ نزلَ به، إما مُحسنًا فيزدادُ، وإما مُسيئًا فلعلَّهُ [أنْ] يَسْتَعْتِبَ، ولكن ليقلْ اللَّهُمَّ أحيني ما كانتِ الحياةُ خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خيرًا لي"
(5)
والمرادُ بالضُرِّ هاهنا ما يخصُّ العبدَ في بدنه من مرضٍ ونحوه لا في دينهِ. والظاهرُ أن نبيَّ الله يوسفَ عليه السلام سألَ ذلك إما عند احتضارِه أو إذا كان ذلك أن يكونَ كذلك.
وقد ذكرَ ابنُ إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوبَ أقام بديار مصر عند يوسف سبعَ عشرة سنة، ثم توفي عليه السلام، وكان قد أوصى إلى يوسفَ عليه السلام أن يُدفنَ عند أبويْه إبراهيم وإسحاق. قال السُّدِّي: فصبرَ، وسَيَّره إلى بلاد الشام فدفنَه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجدَّه الخليل، عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب: أن عمرَ يعقوبَ يوم دخلَ مصرَ مئة وثلاثون سنة. وعندهم: أنه أقام بأرض مصر سبعَ عشرة سنة، ومع هذا قالوا: فكان جميع عمره مئة وأربعين سنة. هذا نصُّ كتابهم، وهو غلط إما في النسخة أو منهم، أو قد أسقطوا الكسرَ، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه
(1)
قطعة من حديث أخرجه أحمد في المسند (3/ 424) وغيره عن عبيد بن رِفاعة الزُّرَقي رقم (15431). قال الذهبي في السيرة (1/ 419 - 420): غريب منكر.
(2)
أخرجه البخاري (4437) في المغازي، ومسلم (2191) في السلام.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (4/ 591).
(4)
قطعة من حديث أخرجه أحمد في المسند (5/ 243) والترمذي (3235)، وقال: حسن صحيح. من حديث معاذ.
(5)
أخرجه البخاري (5671) في المرض، ومسلم (2680) في الذكر والدعاء.
الطريقة هاهنا. وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] يُوصي بنيه بالإخلاص، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.
وقد ذكرَ أهل الكتاب أنَه أوصى بنيه واحدًا واحدًا، وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشَّرَ يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تُطيعه الشعوب، وهو عيسى ابن مريم، والله أعلم.
وذكروا: أنه لمَّا ماتَ يعقوبُ بكى عليه أهلُ مصرَ سبعين يومًا، وأمرَ يوسفُ الأطبَّاءَ فطيَّبوه بطيبٍ ومكثَ فيه أربعين يومًا، ثم استأذن يوسفُ ملكَ مصرَ في الخروج مع أبيه ليدفنَه عند أهله، فأذنَ له، وخرجَ معه أكابرُ مصرَ وشيوخُها، فلما وصلوا "حبرون"
(1)
دفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيمُ الخليل من عفرون بن صخر الحيثي، فدُفنَ فيها، وعملوا له سبعة أيام. قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم، وعزَّى إخوةُ يوسفَ ليوسفَ في أبيهم وترقَّقوا له، فأكرمهم وأحسنَ منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر.
ثم حضرتْ يوسفَ عليه السلام الوفاةُ، فأوصى أن يُحملَ معهم إذا خرجوا من مصرَ فيدفن عند آبائه، فحنَّطوه ووضعُوه في تابوت، فكان بمصرَ حتى أخرجَه معه موسى عليه السلام، فدفنَه عند آبائه كما سيأتي.
قالوا: فماتَ وهو ابن مئة سنة وعشر سنين. هذا نصُّهم فيما رأيته، وفيما حكاه ابن جرير أيضًا. وقال مبارك بن فَضَالة، عن الحسن: أُلقي يوسفُ في الجُبِّ وهو ابنُ سبعَ عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانينَ سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثًا وعشرينَ سنة، ومات وهو ابن مئة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا صلواتُ الله عليه وسلامُه.
(1)
في هامش ب: قال في القاموس: باب الراء فصل الفاء: حبرون؛ بلد الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قصّة أيوب عليه السلام
قال ابن إسحاق
(1)
: كان رجلًا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رازح بن العيس بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. وقال غيره: هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن يعقوب. وقيل: غير ذلك في نسبه.
وحكى ابن عساكر
(2)
: أنَّ أُمَّه بنت لوط عليه السلام. وقيل
(3)
: كان أبوه ممن آمنَ بإبراهيم عليه السلام يومَ أُلقي في النار، فلم تحرْقه، والمشهور الأول، لأنه من ذريَّة إبراهيم، كما قرَّرنا عند قوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام: 84] الآيات؛ من أنَّ الصحيحَ أنَّ الضميرَ عائدٌ على إبراهيم دون نوح عليهما السلام.
وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ} [النساء: 163] الآية. فالصحيحُ أنَّه من سُلالة العِيص بن إسحاق، وامرأتُه قيل: اسمها
(4)
"ليا" بنت يعقوب. وقيل: "رحمة" بنت أفرائيم، وقيل: منشا
(5)
بن يوسف بن يعقوب. وهذا أشهرُ، فلهذا ذكرناه هاهنا، ثم نعطفُ بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصَّته إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
قال الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84] وقال تعالى في سورة ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 41 - 44].
وروى ابنُ عساكر
(6)
: من طريق الكلبي، أنه قال: أوَّلُ نبيٍّ بُعث: إدريس، ثم نوح، ثم
(1)
تاريخ الطبري (1/ 322).
(2)
تاريخ دمشق (10/ 58).
(3)
تاريخ الطبري (1/ 322).
(4)
المصدر السابق (1/ 322).
(5)
ذكره ابن عساكر في تاريخه (10/ 58).
(6)
تاريخ دمشق (10/ 58 - 59).
إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شُعيب، ثم موسى وهارون، ثم إلياس، ثم اليسع ثم عزى بن شوتلح بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، ثم يُونس بن متى من بني يعقوب، ثم أيوب بن رازح بن آموص بن ليفزتا بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم.
وفي بعض هذا الترتيب نظر، فإن هودًا وصالحًا المشهور أنهما بعد نوح، وقبل إبراهيم، والله أعلم.
قال علماء التفسير
(1)
والتاريخ وغيرهم: كان أيوبُ رجلًا كثيرَ المال من سائر صنوفه وأنواعه؛ من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض البَثْنيَّة
(2)
، من أرض حوران.
وحكى ابن عساكر
(3)
: أنها كلَّها كانت له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسُلِبَ من ذلك جميعه، وابتُلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليمٌ سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بهما، وهو في ذلك كلَّه صابرٌ محتسبٌ، ذاكرٌ لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحهِ ومسائه.
وطال مَرضُه حتى عافَه الجليسُ، وأوحش منه الأنيس، وأُخرجَ من بلده، وأُلقي على مِزْبلةٍ
(4)
خارجَها، وانقطعَ عنه النَّاسُ، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجتِه كانت ترعى له حقه، وتعرف قديمَ إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردَّد إليه، فتُصلح من شأنه وتُعينه على قضاء حاجتِه، وتقوم بمصلحته، وضعفَ حالها وقل مالُها حتى كانت تخدمُ النَّاسَ بالأجر لتُطعمه، وتقومَ بأودِه رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرةٌ معه على ما حلَّ بهما من فِراق المال والولد، وما يختصُّ بها من المصيبة بالزوج وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجلُ على حَسْب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه"
(5)
. ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبرًا واحتسابًا وحمدًا وشكرًا، حتى أن المثلَ ليضربُ بصبره عليه السلام، ويُضرب المثل أيضًا بما حصل له من أنواع البلايا.
(1)
انظر تفسير الطبري (9/ 56) وتاريخه (1/ 322).
(2)
ويقال: البَثنة: قرية من قرى حَوْران، تقع بين دمشق وأذرعات.
(3)
حكاه ابن عساكر في تاريخه؛ كما في المختصر (5/ 109 - 111).
(4)
هذا من الإسرائيليات التي تتعارض مع عصمة يونس عليه السلام وليس في الذكر الحكيم ولا في السنة النبوية ما يُؤيِّدها.
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 172) عن مصعب بن سعد، عن أبيه، والدارمي في سننه (2783) والحاكم في المستدرك (1/ 41) ولم أجده في الصحيح.
وقد رُوي عن وَهْب بن مُنبِّهٍ وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبرٌ طويل
(1)
في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده، والله أعلم بصحته.
وعن مُجاهد أنه قال: كان أيوب عليه السلام أوَّلَ من أصَابه الجُدريُّ.
وقد اختلفوا في مدَّة بلواه على أقوال، فزعمَ وَهْبٌ أنه ابتُلي ثلاثَ سنين لا تزيدُ ولا تنقصُ.
وقال أنس: ابتُلي سبعَ سنين وأشهرًا، وأُلقي على مِزْبلة لبني إسرائيل، تختلف الدوابُّ في جسدِه حتى فرَّج الله عنه، وعظُمَ له الأجرُ، وأحسنَ الثناء عليه.
وقال حميد: مكثَ في بلواه ثمانية عشرة سنة.
وقال السُّدِّي: تساقطَ لحمُه حتى لم يبقَ إلا العظم والعصبُ، فكانت امرأتُه تأتيه بالرَّماد تفرشُه تحتَه، فلما طال عليه، قالت: يا أيوبُ لو دعوتَ ربَّك لفرَّجَ عنك؟ فقال: قد عشتُ سبعينَ سنة صحيحًا، فهو قليلٌ لله أن أصبرَ له سبعينَ سنة. فجزعتْ من هذا الكلام وكانت تخدمُ النَّاسَ بالأجر وتُطعم أيوب عليه السلام.
ثم إنَّ الناسَ لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنَّها امرأةُ أيوبَ، خوفًا أن ينالَهم من بلائه، أو تُعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدًا يستخدمُها عمدتْ فباعت لبعض بناتِ الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيِّب كثير، فأتتْ به أيوبَ، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمتُ به أناسًا. فلما كان الغد لم تجد أحدًا، فباعتِ الضفيرة الأخرى بطعامٍ، فأتتْه به، فأنكرَه أيضًا، وحلفَ لا يأكلُه حتى تُخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارَها، فلما رأى رأسها محلوقًا، قال في دعائه:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا أبو سلمة، حدَّثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير، قال: كان لأيوبَ أخوان، فجاءا يومًا فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدُهما لصاحبه: لو كان الله علمَ من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فجزعَ أيوب من قولهما جزعًا لم يجزعْ من شيءٍ قط. قال: اللَّهمَّ إن كنتَ تعلمُ أني لم أبتْ ليلةً قطُّ شبعانًا وأنا أعلمُ مكانَ جائعٍ فصدِّقني. فصُدِّقَ من السماء وهما يسمعان، ثم قال: اللَّهُمَّ إن كنتَ تعلمُ أني لم يكن لي قميصان قطُ وأنا أعلمُ مكان عار فصدِّقني، فصُدّقَ من السماء وهما يسمعان. ثم قال: اللهم بعزَّتِكَ، وخرَّ ساجدًا، فقال: اللَّهُمَّ بعزَّتك لا أرفعُ رأسي أبدًا حتى تكشفَ عني، فما رفعَ رأسَه حتى كشفَ عنه
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 55 - 62).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (5/ 654).
وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا: حدَّثنا يونسُ، عن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن نبيَّ الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضَه القريبُ والبعيد إلَّا رجلين من إخوانه، كانا من أخصِّ إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان. فقال أحدهما لصاحبه: يعلمُ الله لقد أذنبَ أيوبُ ذنبًا ما أذنبَه أحدٌ من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاكَ. قال من ثماني عشر سنة لم يرحمْه ربُّه فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبرِ الرجلُ حتى ذكرَ ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقولُ، غير أنَّ الله عز وجل يعلمُ أني كنت أمرُّ على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأُكفِّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلَّا في حقّ. قال: وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجعَ، فلما كان ذاتَ يوم أبطأتْ عليه، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42]، فاستبطأتْه، فتَلقَّته تنظر، وأقبلَ عليها قد أذهبَ الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأتْه، قالت: أي باركَ الله فيك؟ هل رأيتَ نبيّ الله هذا المبتلى؟ فوالله على ذلك ما رأيت رجلًا أشبه به منك إذ كان صحيحًا. قال: فإني أنا هو. قال: وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعثَ الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الوَرِقَ حتى فاض".
هذا لفظ ابن جرير
(1)
، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في "صحيحه"
(2)
عن محمد بن الحسن بن قتيبةَ عن حرملة عن ابن وهب به. وهذا غريب رفعه جدًا، والأشبه أن يكون موقوفًا.
وقال ابن أبي حاتم
(3)
: حدَّثنا أبي، حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا حمَّاد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: وألبسَه الله حُلَّةً من الجنَّة، فتنحَّى أيوب وجلسَ في ناحية، وجاءت امرأتُه فلم تعرفْه، فقالت: يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان هاهنا لعل الكلاب ذهبت به، أو الذئاب؟ وجعلت تكلمه ساعة. قال: ولعل أنا أيوب. قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال: ويحك أنا أيوبُ، قد ردَّ الله عليّ جسدي.
قال ابن عباس: وردَّ الله عليه مالَه وولده بأعيانهم، ومثلهم معهم
(4)
.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إليه قد رددتُ عليك أهلكَ ومالكَ ومثلَهم معهم، فاغتسلْ بهذا
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 590) والأندر: البيدر.
(2)
الإحسان (2898).
(3)
كما في الدر المنثور (7/ 192).
(4)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 69).
الماء، فإن فيه شفاءَك، وقرِّبْ عن صحابتِك قربانًا، واستغفرْ لهم فإنهم قد عصوني فيكَ. رواه ابن أبي حاتم
(1)
.
وقال ابن أبي حاتم
(2)
: حدَّثنا أبو زرعة، حدَّثنا عمرو بن مرزوق، حدَّثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس؛ عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما عافى الله أيوبَ عليه السلام أمطرَ عليه جرادًا من ذهب، فجعلَ يأخذُ بيده ويجعلُ في ثوبه. قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبعُ؟ قال: يا ربِّ ومن يشبعُ من رحمتِك".
وهكذا رواه الإمام أحمد
(3)
: عن أبي داود الطيالسي وعبد الصمد، عن همَّام، عن قتادة، به.
ورواه ابن حبَّان في "صحيحه"
(4)
: عن محمد بن عبد الله الأزدي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد، به.
ولم يُخرِّجْه أحد من أصحاب الكتب، وهو على شرط الصحيح، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أُرسل على أيوب رِجْل
(6)
من جراد من ذهب، فجعلَ يقبضُها في ثوبه، فقيل: يا أيُّوب! ألم يَكْفِكَ ما أعطيناكَ؟ قال: أي ربِّ! ومن يستغني عن فضلكَ. هذا موقوف، وقد رُوي عن أبي هريرة من وجه آخر مرفوعًا.
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر، عن همَّام بن مُنبِّه، قال: هذا ما حدَّثنا أبو هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما أيوبُ يغتسلُ عُرْيانًا خرَّ عليه جرادٌ من ذهب، فجعل أيوبُ يحثي في ثوبه، فناداه ربه عز وجل: يا أيوبُ! ألم أكنْ أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى أي رب! ولكن لا غنى لي عن بركتِكَ".
رواه البخاري من حديث عبد الرزاق، به
(8)
.
وقوله {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] أي: اضرب الأرض برجلك، فامتثلَ ما أمرَ به، فأنبعَ الله له عينًا باردة الماء، وأُمرَ أن يغتسلَ فيها ويشربَ منها، فأذهبَ الله عنه ما كان يجدُه من الألم والأذى والسَّقم، والمرض الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدلَه الله بعد ذلك كلِّه صِحَّةً ظاهرة وباطنة، وجمالًا تامًّا،
(1)
كما في الدر المنثور (7/ 193).
(2)
كما في الدر المنثور (7/ 193).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 511) وهو عند الطيالسي في مسنده (ص 322).
(4)
الإحسان (6230).
(5)
في المسند (2/ 243).
(6)
الرِّجل: الطائفة العظيمة.
(7)
في المسند (2/ 314).
(8)
أخرجه البخاري (3391) في الأنبياء.
ومالًا كثيرًا، حتى صبَّ له من المال صبًا، مطرًا عظيمًا جرادًا من ذهب، وأخلفَ الله له أهلَه، كما قال تعالى:{وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} فقيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجرَه فيمن سلفَ وعوَّضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكُلِّهم في الدار الآخرة. وقوله: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: رفعنا عنه شدَّته {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} رحمةً منا، ورأفةً وإحسانًا {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84] أي: تذكرةً لمن ابتُلي ببلاءٍ في جسدِه أو مالِه أو ولدِه، فله أسوةٌ بنبيِّ الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبرَ واحتسبَ حتَّى فرَّجَ الله عنه.
ومنْ فهمَ من هذا اسمَ امرأته، فقال: هي رحمة، من هذه الآية، فقد أبعدَ النُّجعة وأغرقَ النَّزْعَ. وقال الضَّحَّاك، عن ابن عباس: ردَّ الله إليها شبابَها وزادَها، حتى ولدتْ له ستةً وعشرين ولدًا ذكرًا.
وعاش أيوب بعد ذلك سبعينَ سنة بأرض الروم، على دين الحنيفية، ثم غيَّروا بعدَه دين إبراهيم.
وقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حَلْفه ليضربنَّ امرأته مئة سوطٍ. فقيل: حَلْفُه ذلك لبيعها ضفائرَها. وقيل: لأنه اعترضها الشيطانُ في صورة طبيبٍ يصفُ لها دواءً لأيوب، فانتبه فأخبرتْه، فعرفَ أنه الشيطان، فحلفَ ليضربنها مئة سوط. فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذَ ضغثًا -وهو كالعثكال- الذي يجمع الشماريخَ، فيجمعها كلَّها ويضربها به ضربةً واحدةً، ويكون هذا مُنزَّلًا منزلةَ الضرب بمئة سوْطٍ ويبرّ ولا يحنث.
وهذا من الفَرج والمَخْرج لمن اتقى اللهَ وأطاعَه، ولاسيما في حق امرأتِه الصابرةِ المُحتسبةِ المكابدةِ الصِّدِّيقةِ البَارَّة رضي الله عنها.
ولهذا عقَّبَ الله هذه الرخصة، وعلَّلها بقوله:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقد استعملَ كثيرٌ من الفقهاء هذه الرخصة في باب الأيمان والنذور، وتوسَّع آخرون فيها حتى وضعوا كتابَ الحيل في الخَلاص من الأيمان، وصدَّروه بهذه الآية الكريمة، وأتَوْا فيه بأشياء من العجائب والغرائب. وسنذكرُ طرفًا من ذلك في كتاب "الأحكام"
(1)
عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى.
وقد ذكرَ ابنُ جرير
(2)
وغيرُه من علماء التاريخ: أنَّ أيوبَ عليه السلام لما تُوفي كان عمره ثلاثًا وتسعين سنة. وقيل: إنه عاشَ أكثرَ من ذلك. وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه: أنَّ الله يحتجُّ يومَ القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهلِ البلاء.
(1)
كتاب "الأحكام" من الكتب التي بدأها ولم يتمَّها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
(2)
ذكره ابن جرير في التاريخ (1/ 324).
رواه ابن عساكر
(1)
بمعناه.
وأنَّه أوصى إلى ولده "حومل"
(2)
وقام بالأمر بعده ولده "بشر" بن أيوب، وهو الذي يزعمُ كثير من الناس أنه ذو الكفل، فالله أعلم. وماتَ ابنُه هذا وكان نبيًا فيما يزعمون، وكان عمرُه من السنين خمسًا وسبعين، ولنذكر هاهنا قصَّة ذي الكِفْل، إذ قال بعضهم: إنه ابن أيوب عليهما السلام.
* * *
وهذه قصة ذي الكفل الذي زعم قومٌ أنَّه ابن أيُّوب
قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 85 - 86] وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضًا في سورة ص: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص: 45 - 47] فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونًا مع هؤلاء السادة الأنبياء، أنه نبيٌّ عليه من ربِّه الصلاة والسلام، وهذا هو المشهور.
وقد زعمَ آخرون أنَّه لم يكن نبيًّا وإنما كان رجلًا صالحًا وحكمًا مُقْسطًا عادلًا. وتوقَّفَ ابنُ جرير في ذلك، فاللّه أعلم.
وروى ابن جُريج
(3)
وابن أبي نَجيح: عن مجاهد: أنه لم يكن نبيًّا وإنما كان رجلًا صالحًا، وكان قد تكفَّلَ لبني قومه أن يكفيَه أمرَهم ويقضي بينهم بالعدل، فسُمِّي ذا الكفل
(4)
.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم: من طريق داود بن أبي هند: أنه قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفتُ رجلًا على النَّاس يعملُ عليهم في حياتي، حتى أنظرَ كيف يعملُ، فجمعَ النَّاسَ، فقال: منْ يتقبَّلْ لي بثلاث أستخلفْه؟ يصومُ النهارَ، ويقومُ اللَّيلَ، ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنتَ تصومُ النَّهارَ، وتقومُ الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم. قال: فردَّهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر، فسكتَ النَّاس، وقام ذلك الرجل، فقال: أنا. فاستخلفَه. قال:
(1)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه (10/ 82).
(2)
انظر تاريخ الطبري (1/ 325).
(3)
في المطبوع: ابن جرير.
(4)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 71).
فجعلَ إبليسُ يقولُ للشياطين: عليكم بفلان. فأعياهم ذلك، فقال: دعوني وإيَّاه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينامُ اللَّيلَ والنَّهارَ إلا تلك النومة، فدقَّ البابَ، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقامَ ففتحَ البابَ، فجعلَ يقصُّ عليه. فقال: إن بيني وبين قومي خصومةً، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا، حتى حضرَ الرَّواح وذهبتِ القائلة، وقال: إذا رحتُ فأتني آخذ لك بحقِّك، فانطلقَ وراح، فكان في مجلسه فجعلَ ينظرُ هل يرى الشيخِ فلم يره، فقامَ يتبعُه فلما كان الغد جعلَ يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه. فلما رجعَ إلى القائلة فأخذ مضجعَه، أتاه فدقَّ البابَ، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتحَ له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدتُ فأتني؟ فقال: إنهم أخبثُ قوم، إذا عرفوا أنَّك قاعدٌ قالوا: نحن نُعطيك حقكَ، وإذا نمتَ جَحدوني. قال: فانطلقْ، فإذا رحت فأْتني. قال: ففاتته القائلةُ فراحَ، فجعلَ ينتظر فلا يراه، وشقَّ عليه النُّعاسُ، فقال لبعض أهله: لا تدعُنَّ أحدًا يقربُ هذا الباب حتى أنام، فإني قد شقَّ علي النوم. فلما كان تلك الساعة جاء، فقال له الرجل: وراءَك وراءَك. قال: إني قد أتيتُه أمس فذكرتُ له أمري. فقال: لا والله لقد أمرنا ألا ندعَ أحدًا يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوَّةً في البيت، فتسوَّر منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدقُّ البابَ من داخل. قال: فاستيقظَ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك؟ قال: أما من قبلي والله فلم تُؤْت فانظرْ من أين أُتيت. قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقَه، وإذا الرجل معه في البيت فعرَفه، فقال: أعدوَّ الله؟ قال: نعم، أعييتني في كلِّ شيءٍ، ففعلتُ ما ترى لأغضبنَّك، فسمَّاه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفَّى به
(1)
.
وقد روى ابن أبي حاتم
(2)
أيضًا عن ابن عبَّاس قريبًا من هذا السياق.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحوُ هذا.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي، حدَّثنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير، حدَّثنا قتادة، سمعت الأشعري -يعني أبا موسى رضي الله عنه وهو على هذا المنبر- يقول: ما كان ذو الكفل نبيًا، ولكن كان رجلًا صالحًا، يُصلّي كلَّ يوم مئة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده، يُصلَّي كلَّ يوم مئة صلاة فسُمِّي ذا الكفل
(3)
.
ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: قال أبو موسى الأشعري: فذكره منقطعًا.
(1)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 71) وابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (5/ 661).
(2)
كما في الدر المنثور (5/ 662 - 663).
(3)
المصدر السابق (5/ 664).
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد
(1)
: حدَّثنا أسباط بن محمد، حدَّثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر، قال: سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لو لم أسمعْه إلا مرَّةً أو مرتين، حتى عدَّ سبع مرار، ولكن قد سمعتهُ أكثرَ من ذلك قال:"كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورَّع من ذنب عملَه، فأتته امرأةٌ فأعطاها ستينَ دينارًا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعدَ الرجل من امرأته أرعدتْ وبكت، فقال لها: ما يُبكيك أكرهتُك؟ قالت: لا، ولكن هذا عملٌ لم أعملْه قطُّ، وإنما حملتني عليه الحاجةُ. قال: فتفعلينَ هذا ولم تفعليه قطّ. ثم نزل، فقال: اذهبي بالدنانير لكِ. ثم قال: والله لا يَعصي الله الكِفْلُ أبدًا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر الله للكفل"
(2)
.
ورواه الترمذي
(3)
من حديث الأعمش به وقال حسن، وذَكَرَ أن بعضَهم رواه فوقفه على ابن عمر، فهو حديثٌ غريب جدًا. وفي إسناده نظر، فإن سعدًا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثَّقه ابنُ حبَّان، ولم يروه عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا، واللّه أعلم.
[وإن كان محفوظًا فليس هو ذا الكفل، وإنما لفظ الحديث: الكفل، من غير إضافة، فهو رجلٌ آخر غير المذكور في القرآن، فالله أعلم]
(4)
.
* * *
باب ذكر أممٍ أُهلكوا بعامّة
وذلك قبل نزول التوارة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] الآية. كما رواه ابن جرير
(5)
وابن أبي حاتم
(6)
والبزار
(7)
: من حديث عوف الأَعْرابي، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: ما أهلكَ الله قومًا بَعذابٍ من السَّماء أو من
(1)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 72).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 23) رقم (4747).
(3)
أخرجه الترمذي (2498) في صفة القيامة.
(4)
ما بين الحاصرتين سقط من المطبوع وأثبته من أ وب.
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 76).
(6)
أخرجه ابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (6/ 417).
(7)
أخرجه البزار (2247 و 2248) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 88) رواه البزار موقوفًا ومرفوعًا، ورجالهما رجال الصحيح.
الأرضِ بعدما أُنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مُسِخوا قردةً، ألم ترَ أنَّ الله تعالى يقول:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43].
ورفعه البزار في رواية له، والأشبه والله أعلم وقفه، فدلَّ على أن كل أمة أُهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام، فمنهم:
أصحاب الرس:
قال الله تعالى في سورة الفرقان: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان: 38 - 39]. وقال تعالى في سورة ق: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 12 - 14] وهذا السياق والذي قبلَه يدلُّ على أنهم أُهلكوا ودُمِّروا وتُبِّرُوا، وهو الهلاك.
وهذا يردُّ اختيارَ ابن جرير
(1)
من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذُكروا في سورة البروج، لأنَّ أولئك عند ابن إسحاق وجماعة كانوا بعدَ المسيح عليه السلام، وفيه نظر أيضًا.
وروى ابن جريج قال: قال ابن عباس: أصحابُ الرَّسِّ أهلُ قريةٍ من قُرى ثمود
(2)
.
وقد ذكرَ الحافظُ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق
(3)
، عن تاريخ أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة وغيره؛ أنَّ أصحابَ الرَّسِّ كانوا بحَضُور
(4)
، فبعثَ الله إليهم نبيًا يُقال له: حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه، فسارَ عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح بولده من الرسِّ، فنزلَ الأحقاف، وأهلكَ الله أصحابَ الرَّسِّ، وانتشروا إلى اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتها وسمَّاها جيرون، وهي إرم ذات العماد، وليس أعمدة الحجارة في موضعٍ أكثر منها بدمشق، فبعثَ الله هودَ بن عبد الله بن رَباح بن خالد بن الخلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد بالأحقاف، فكذبوه، وأهلكهم الله عز وجل، فهذا يقتضي أنَّ أصحابَ الرسِّ قبلَ عادٍ بدهور متطاولة، فالله أعلم.
وروى ابن أبي حاتم: عن أبي بكر بن أبي عاصم، عن أبيه، عن شَبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الرَّسُّ بئر بأذربيجان.
(1)
ذكره ابن جرير فى التفسير (11/ 412).
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 390). وذكره السيوطى فى الدر المنثور (6/ 256).
(3)
تاريخ دمشق (1/ 12).
(4)
بلدة باليمن من أعمال زَبيد قيدها ياقوت في معجم البلدان وابن عبد الحق في مراصد الاطلاع، قال: بالفتح ثم الضم وسكون الواو وراء.
وقال الثوري: عن أبي بكر، عن عكرمة، قال: الرَّسُّ بئر رسُّوا فيها نبيّهم، أي: دفنوه فيها.
وقال ابن جُرَيْج: قال عكرمة: أصحابُ الرَّسِّ بفَلَج، وهم أصحاب يس.
وقال قتادة: فَلج: من قرى اليمامة.
قلت: فإن كانوا أصحاب يس كما زعمَه عكرمة، فقد أُهلكوا بعامَّة، قال الله تعالى في قصتهم:{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] وستأتي قصَّتُهم بعد هؤلاء، وإن كانوا غيرَهم -وهو الظاهر- فقد أُهلكوا أيضًا وتُبِّروا. وعلى كل تقديرٍ فيُنافي ما ذكرَه ابن جرير.
وقد ذكرَ أبو بكر محمد بن الحسن النَّقَّاش: أنَّ أصحابَ الرَّسِّ كانت لهم بئر ترويهم، وتكفي أرضَهم جميعها، وكان لهم مَلِكٌ عادلٌ حَسَنُ السِّيرة، فلما ماتَ وجدوا عليه وَجْدًا عظيمًا، فلما كان بعد أيام تصوَّر لهم الشيطان في صورته، وقال: إني لم أمتْ، ولكنْ تغيَّبتُ عنكم حتى أرى صنيعَكم، ففرحوا أشدَّ الفَرح، وأمر بضربِ حجابٍ بينهم وبينَه، وأخبرَهم أنَّه لا يموتُ أبدًا، فصدَّق به أكثرُهم، وافتتنوا به وعبدوه، فبعثَ الله فيهم نبيًّا وأخبرَهم أنَّ هذا شيطانٌ يُخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادِته وأمرهم بعبادة الله وحدَه لا شريك له.
قال السهيلي: وكان يُوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلُوه وألقَوه في البئر، فغارَ ماؤُها، وعطشو ا بعد ريِّهم، ويَبِسَتْ أشجارُهم، وانقطعتْ ثمارُهم، وخربت ديارُهم، وتبدّلوا بعد الأنس بالوحشة، وبعد الاجتماع بالفرقة، وهلكوا عن آخرهم وسكنَ في مساكنهم الجنُّ والوحوش، فلا يُسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسود، وصوتُ الضِّباع.
فأما ما رواه -أعني ابن جرير- عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أوَّل الناس يدخل الجنَّة يوم القيامة العبدُ الأسود". وذلكَ أنَّ الله تعالى بعثَ نبيًا إلى أهل قرية، فلم يؤمنْ به من أهلها إلا ذلك الأسود.
ثم إنَّ أهلَ القرية عَدَوْا على النبيِّ فحفروا له بئرًا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصمّ. قال: فكان ذلك العبدُ يذهبُ فيحتطبُ على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعامًا وشرابًا، ثم يأتي به إلى ذلك البئر فيرفع تلك الصخرة، ويُعينه الله عليها، ويُدلِّي إليه طعامه وشرابه، ثم يردُّها كما كانت. قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون.
ثم إنه ذهبَ يومًا يحتطبُ كما كان يصنعُ، فجمعَ حطبَه، وحزمَ حِزْمته، وفرغَ منها، فلما أراد أن يحملها وجد سنةً، فاضطجعَ ينامُ، فضربَ الله على أذنه سبعَ سنين نائمًا، ثمّ إنَّه هبَّ فتمطَّى، وتحوَّل لشقِّه الآخر، فاضطجعَ فضربَ الله على أذنه سبعَ سنين أخرى، ثم إنَّه هبَّ واحتملَ حزمته ولا يحسبُ أنه نام إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباعَ حزمته، ثم اشترى طعامًا وشرابًا كما كان يصنع. ثم إنه ذهبَ
إلى الحفرة، إلى موضعها الذي كانت فيه، فالتمسَه فلم يجدْه، وقد كان بدا لقومه فيه بِدَاءً، فاستخرجُوه وآمنوا به وصدَّقوه. قال: فكان نبيُّهم يسألُهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له: ما ندري حتّى قبضَ الله النبيَّ عليه السلام، وأهبَّ الأسودُ من نومه بعد ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ ذلك الأسود لأوَّل من يدخل الجنَّة"
(1)
، فإنَّه حديثٌ مرسلٌ، ومثله فيه نظر. ولعل بَسْطَ قِصَّته من كلام محمد بن كعب القرظي، والله أعلم.
ثم قد ردَّه ابن جرير
(2)
نفسه، وقال: لا يجوز أن يُحملَ هؤلاء على أنهم أصحابُ الرسِّ المذكورون في القرآن. قال: لأن الله أخبرَ عن أصحاب الرَّسِّ أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيِّهم، اللَّهُمَّ إلا أن يكونَ حدثت لهم أحداثٌ آمنوا بالنبيِّ بعد هلاك آبائهم، والله أعلم.
ثم اختارَ أنَّهم أصحابُ الأخدود
(3)
، وهو ضعيفٌ لما تقدم، ولما ذُكرَ في قصَّة أصحاب الأخدود حيث تُوعِّدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا، ولم يذكرْ هلاكَهم، وقد صرَّح بهلاك أصحاب الرَّسِّ، والله أعلم.
* * *
ومنهم أصحابُ القرية أصحاب يس
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي (9/ 390 - 391) وذكره السيوطي في الدر المنثور (6/ 257 - 258).
(2)
انظر تفسير الطبري (9/ 391).
(3)
المصدر السابق (9/ 391).
اشتُهر عن كثير من السلف والخلف؛ أنَّ هذه القرية "أنطاكية" رواه ابن إسحاق
(1)
، فيما بلغَه عن ابن عبَّاس، وكعب الأحبار، وَوَهْبِ بن مُنَبِّه، وكذا رُوي عن بُريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة، والزُّهْري وغيرهم، قال ابن إسحاق، فيما بلغه عن ابن عبَّاس وكعب ووهْب أنهم قالوا: وكان لها مَلِكٌ اسمُه "أنطيخس"
(2)
بن أنطيخس، وكان يعبدُ الأصنامَ، فبعثَ الله إليه ثلاثًا من الرسل، وهم: صادق، وصدوق، وشلوم، فكذَّبهم.
وهذا ظاهرٌ أنهم رسلٌ من الله عز وجل، وزعمَ قتادة
(3)
أنهم كانوا رسلًا من المسيح.
وكذا قال ابن جرير
(4)
: عن وهب، عن ابن سليمان، عن شعيب الجُبَّائي: كان اسم المرسلين الأوَّليين: شمعون، ويوحنا، واسم الثالث بولص، والقرية أنطاكية.
وهذا القول ضعيفٌ جدًا؛ لأن أهل "أنطاكية" لما بعثَ إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريينَ كانوا أوَّلَ مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها بتاركةُ النَّصارى وهن: أنطاكية، والقدس، وإسكندرية، ورومية. ثم بعدها إلى القسطنطينية، ولم يهلكوا، وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أُهلكوا كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] لكنْ إن كانت الرسلُ الثلاثة المذكورون في القرآن بُعثوا إلى أهل أنطاكية قديمًا فكذَّبوهم وأهلكهم الله، ثم عمُرتْ بعد ذلك؛ فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم، فلا يمنع هذا، والله أعلم.
فأما القولُ بأن هذه القصَّة المذكورة في القرآن هي قصَّةُ أصحاب المسيح، فضعيف لما تقدَّم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله.
قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} يعني لقومك يا محمد {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} ويعني المدينة {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي: أيدناهما بثالث في الرسالة {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} فردّوا عليهم بأنَّهم بشرٌ مثلُهم كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم يستبعدونَ أنْ يبعثَ الله نبيًّا بشريًّا، فأجابوهم بأن الله يعلمُ أنَّا رسلُه إليكم، ولو كنَّا كذَّبنا عليه لعاقبَنا وانتقم منَّا أشدَّ الانتقام {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي: إنما علينا أن نُبلِّغكم ما أرسلنا به إليكم، والله هو الذي يَهدي منْ يشاءُ ويُضلُّ منْ يشاء {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: تشاءمنا بما جئتمونا به {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} قيل:
(1)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 431) والتاريخ (2/ 18).
(2)
في تفسير الطبري: أبطيحس بن أبطيحس، وفي التاريخ (2/ 18) كما في أصولنا.
(3)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 431).
(4)
لم أجده في التاريخ والتفسير؛ لابن جرير، وإنما هو لابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (7/ 50).
بالمقال، وقيل: بالفعال، ويُؤيِّد الأوَّلَ قوله:{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فوعدُوهم بالقتل والإهانة.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: مردودٌ عليكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي: بسبب أنَّا ذكَّرناكم بالهدى، ودعوناكم إليه تَوعَّدْتُمونا بالقتل والإهانة {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي: لا تقبلون الحق ولا تريدونه.
وقوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يعني لنصرة الرُّسل وإظهار الإيمان بهم {قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي: يدعونكم إلى الحقِّ المَحْضِ بلا أجرة ولا جُعالة، ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له، ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفعُ شيئًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: إن تركتُ عبادة الله وعبدتُ معه ما سواه. ثم قال مخاطبًا للرسل: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} قيل: فاسمعوا مَقالتي واشهدوا لي بها عندَ ربكم .. وقيل: معناه: فاسمعوا يا قومي إيماني برسُل الله جهرةً. فعند ذلك قتلوه، قيل: رجمًا، وقيل: عضًّا. وقيل: وثبوا إليه وثبةَ رجُل واحدٍ فقتلُوه. وحكى ابن إسحاق: عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود، قال: وَطِئوه بأرجلهم حتَّى أخرجوا قُصْبَه
(1)
.
وقد روى الثوري
(2)
: عن عاصم الأحول، عن أبي مَجْلز، كان اسمُ هذا الرجل حبيب بن مُرِّي. ثم قيل: كان نجَّارًا. وقيل: حبَّالًا. وقيل: إسكافًا. وقيل: قصَّارًا. وقيل: كان يتعبَّدُ في غار هناك، فالله أعلم.
وعن ابن عبَّاس
(3)
: كان حبيبُّ النَّجَّارُ قد أسرعَ فيه الجُذام، وكان كثيرَ الصَّدقة، قتلَه قومه. ولهذا قال تعالى:{ادْخُلِ الْجَنَّةَ} يعني لما قتله قومُه أدخلَه الله الجنَّة، فلما رأى فيها من النُّضْرة والسرور {قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} يعني ليؤمنوا بما آمنتُ به، فيحصل لهم ماحصلَ لي.
قال ابن عباس: نصحَ قومه في حياته {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} رواه ابن أبي حاتم
(4)
.
وكذلك قال قتادة
(5)
: لا يُلقى المؤمنُ إلا ناصحًا، لا يُلقى غاشَّا لما عاين من كرامة الله. {يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} تمنَّى والله أن يعلمَ قومه بما عاينَ من كرامة الله، وما هو عليه. قال قتادة: فلا والله ما عاتبَ الله قومَه بعد قتله {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} وقوله
(1)
"أخرجوا قصْبَه": أمعاءَه. وانظر تفسير الطبري (10/ 436).
(2)
أخرجه ابن جرير فى التفسير (10/ 433).
(3)
المصدر السابق (10/ 433 - 434).
(4)
كما في الدر المنثور (7/ 51).
(5)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 436).
تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أي: ما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جُنْدٍ من السماء عليهم، هذا معنى ما رواه ابن إسحاق
(1)
: عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود.
وقال مجاهد وقتادة: وما أنزلَ عليهم جُنْدًا، أي: رسالةً أخرى. قال ابن جرير
(2)
: والأوَّلُ أولى. قلت: وأقوى. ولهذا قال: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أي: وما كنا نحتاجُ في الانتقام إلى هذا حين كذَّبوا رسلنا، وقتلوا وَليَّنا {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} .
قال المفسرون: بعثَ الله إليهم جبريلَ عليه السلام، فأخذَ بعضادتي الباب الذي لبلدهم، ثم صاحَ بهم صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون، أي: قد أُخمدتْ أصواتُهم، وسكنتْ حركاتُهم، ولم يبق منهم عينٌ تَطْرُفُ.
وهذا كلُّه مما يدلُّ على أن هذه القرية ليست أنطاكية، لأن هؤلاء أُهلكوا بتكذيبهم رسلَ الله إليهم، وأهل أنطاكية آمنوا واتَّبعوا رسلَ المسيح من الحواريِّين إليهم، فلهذا قيل: إن أنطاكية أوَّلُ مدينة آمنتْ بالمسيح.
فأما الحديث الذي رواه الطبراني: من حديث حسين الأشقر، عن سُفيان بن عُيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مُجاهد، عن ابن عبَّاس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"السَّبْقُ ثلاثة: فالسابق إلى موسى يُوشع بن نون، والسابقُ إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد عليُّ بن أبي طالب"
(3)
فإنه حديث لا يثبتُ، لأن حُسينًا هذا متروك وشيعيٌّ من الغلاة، وتفرده بهذا مما يدلُّ على ضعفه بالكليَّة، والله أعلم.
(1)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 437).
(2)
انظر تفسير ابن جرير الطبري (10/ 437).
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 11152).
قصة يونس عليه السلام
قال الله تعالى في سورة يونس: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88] وقال تعالى في سورة الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 139 - 148].
وقال تعالى في سورة نون: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم: 48 - 50].
قال علماءُ التفسير: بعثَ الله يونسَ عليه السلام إلى أهل "نينوى" من أرض المَوْصل، فدعاهم إلى الله عز وجل، فكذبوه وتمرَّدوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرِهم، ووعدَهم حلولَ العذاب بهم بعد ثلاث.
قال ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغير واحد منَ السلف والخلف: فلما خرجَ من بين ظهرانيهم وتحقَّقوا نزولَ العذاب بهم قذفَ الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوحَ، وفرَّقوا بين كلّ بهيمةٍ وولدها، ثم عجُّوا
(1)
إلى الله عز وجل، وصرَخوا وتضرَّعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجالُ والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدوابُّ والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة.
فكشفَ الله العظيمُ بحوله وقوَّته ورأفتِه ورحمتِه عنهم العذابَ الذي كان قد اتَّصَلَ بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم، ولهذا قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس: 98] أي: هلا وجدت فيما سلف من القرون قريةً آمنت بكمالها، فدلَّ على أنه لم يقع ذلك، بل كما قال
(1)
عجُّوا بالدعاء: تضرَّعوا ورفعوا أصواتهم به.
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]. وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] أي آمنوا بكمالهم.
وقد اختلفَ المفسرون هل ينفعُهم هذا الإيمان في الدار الآخرة، فينُقذهم من العذاب الأخروي كما أنقذَهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين: الأظهرُ من السياق نعم والله أعلم، كما قال تعالى:{لَمَّا آمَنُوا} وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 147 - 148] وهذا المتاعُ إلى حين، لا ينفي أن يكونَ معه غيرُه من رفع العذاب الأخرويّ، والله أعلم.
وقد كانوا مئة ألف لا محالة، واختلفوا في الزيادة، فعن مكحول
(1)
عشرة آلاف.
وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم: من حديث زهير، عمن سمع أبا العالية، حدَّثني أبيّ بن كعب: أنه سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] قال: "يزيدون عشرين ألفًا"
(2)
. فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلًا في هذا الباب.
وعن ابن عباس: كانوا مئة ألف وثلاثين ألفًا. وعنه: وبضعة وثلاثين ألفًا. وعنه: وبضعة وأربعين ألفًا. وقال سعيد بن جبير: كانوا مئة ألف وسبعين ألفًا
(3)
.
واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده، أو هما أُمَّتان؟ على ثلاثة أقوال، هي مبسوطة في التفسير
(4)
.
والمقصودُ أنَّه عليه السلام لما ذهبَ مُغاضبًا بسبب قومِه، ركبَ سفينةً في البحر فلجَّت
(5)
بهم واضطربتْ وماجتْ بهم وثَقُلتْ بما فيها، وكادُوا يغرقونَ على ما ذكره المفسرون. قالوا: فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخفَّفوا
(6)
منه. فلما أقرعوا
(7)
وقعت القرعة على نبيِّ الله يونس، فلم يسمحوا به، فأعادوها ثانيةً فوقعت عليه أيضًا، فشمَّر
(8)
ليخلعَ ثيابه ويُلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك.
(1)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 132).
(2)
أخرجه الترمذي (3229) في التفسير، وابن جرير في التفسير (10/ 532).
(3)
انظر أقوال ابن عباس وسعيد بن جُبير في تفسير الطبري (10/ 529 - 530).
(4)
انظر تفسير ابن كثير (4/ 28).
(5)
فلجَّتْ: خاضت اللجة، ووصلت إلى الأعماق.
(6)
في المطبوع: ليتحفظوا، وهو تحريف.
(7)
في المطبوع: فاقترعوا.
(8)
في بعض النسخ: فتشمَّر.
ثم أعادوا القرعةَ ثالثةً فوقعتْ عليه أيضًا، لما يُريده الله به من الأمر العظيم، قال الله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 139 - 142]. وذلك أنه لما وقعتْ عليه القُرْعة أُلقيَ في البحر، وبعثَ الله عز وجل حوتًا عظيمًا من البحر الأخضر فالتقمَه، وأمره الله تعالى ألَّا يأكلَ له لحمًا ولا يهشمَ له عظمًا، فليس لك برزقٍ، فأخذه فطافَ به البحار كلَّها. وقيل: إنه ابتلعَ ذلك الحوتَ حوتٌ آخرُ أكبر منه.
قالوا: ولما استقرَّ في جَوْفِ الحوت حَسِبَ أنَّه قد ماتَ، فحرَّك جوارحَه فتحرَّكتْ، فإذا هو حيٌّ، فخرَّ لله ساجدًا، وقال: يا رب اتَّخذتُ لك مسجدًا [في موضع]
(1)
لم يعبدْكَ أحدٌ في مثله.
وقد اختلفوا في مقدار
(2)
لُبْثِه في بطنه، فقال مجالدٌ عن الشعبي: التقمه ضُحىً ولفظه عشيَّةً. وقال قتادة: مكث فيه ثلاثًا. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام. ويشهدُ له شعر أُميَّة بن أبي الصلت: [من الطويل]
وأنتَ بفضلٍ منكَ نجّيت يُونُسًا
…
وقدْ باتَ في أضعافِ حُوتٍ لياليا
(3)
وقال سعيدُ بن أبي الحسن، وأبو مالك: مكثَ في جوفه أربعينَ يومًا. والله أعلمُ كم مقدار ما لبثَ فيه.
والمقصود أنَّه لما جعل الحوتُ يطوفُ به في قرار البحار، ويقتحمُ به لُجج المَوْجِ الأجاجي، فسمعَ تسبيح الحِيتان للرحمن، وحتى سمعَ تسبيحَ الحصى لفالق الحَبِّ والنَّوى وربّ السموات السبع والأرضين السبع، وما بينها وما تحتَ الثرى. فعندَ ذلك وهنالكَ قال ما قال بلسان الحال والمقَال، كما أخبرَ عنه ذو العِزة والجلال، الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضرَّ والبلوى، سامع الأصوات وإن ضعفتْ، وعالم الخفيَّات وإن دقَّت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين، وهو أصدق القائلين وربّ العالمين وإله المرسلين:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ} إلى أهله {مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88] فظنَّ أن لن نقدر عليه: أن نضيق، وقيل معناه: نقدر من التقدير، وهي لغة مشهورة قدر وقدّرَ، كما قال الشاعر:[من الطويل]
فلا عائدٌ ذاك الزمانُ الذي مضى
…
تباركْتَ، ما يُقدَرْ يكُنْ، فَلكَ الأمرُ
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} قال ابن مسعود، وابن عبَّاس، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جُبير،
(1)
زيادة من المطبوع والدر المنثور (7/ 127).
(2)
انظر هذه الأقوال في تفسير الطبري (10/ 529) والدر المنثور (7/ 127).
(3)
أضعاف حُوتٍ: جوفه.
ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والضحاك: ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل
(1)
. وقال سالم بن أبي الجعد: ابتلعَ الحوتَ حوتٌ آخر فصارتا: ظلمة الحُوتين مع ظُلْمة البحر
(2)
.
قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144] قيل: معناه لولا أنه سبَّح اللّهَ هنالك وقالَ ما قالَ من التهليل والتسبيح والاعتراف للّه بالخضوع والتوبة إليه والرجوع إليه، للبث هنالك إلى يوم القيامة، ولبُعثَ من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما رُوي عن سعيد بن جبير
(3)
في إحدى الروايتين عنه، وقيل: معناه {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ} من قبل أخذ الحوت له {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: المطيعين المصلِّين الذاكرينَ الله كثيرًا، قاله: الضَّحاكُ بن قيس، وابن عبَّاس، وأبو العالية، ووهْبُ بن مُنبِّه، وسعيد بن جبير، والضَّحاك، والسُّدِّي، وعطاء بن السَّائب، والحسن البصري، وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير
(4)
.
ويشهدُ لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن: عن ابن عبَّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "يا غلام إنِّي مُعلِّمكَ كلماتٍ: احفظ الله يحفظْكَ، احفظِ الله تجدْه تُجاهَكَ، تعرَّفْ إلى الله في الرَّخاء يعْرفكَ في الشِّدَّة"
(5)
.
وروى ابنُ جرير في تفسيره، والبزَّار في مسنده، من حديث محمد بن إسحاق، عمن حدَّثه، عن عبد الله بن رافع مولى أمِّ سلمة، سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أرادَ الله حبسَ يونسَ في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذ، ولا تخدشْ لحمًا، ولا تكسرْ عظمًا. فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمعَ يونسُ حسًّا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوتِ: إن هذا تسبيح دوابِّ البحر. قال: فسبَّح وهو في بطن الحوت، فسمعتِ الملائكةُ تسبيحَه، فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتًا بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يُونس عصاني، فحبستُه في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبدُ الصَّالحُ الذي كان يصعدُ إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحُوتَ فقذَفه في السَّاحل، كما قال الله: {وَهُوَ سَقِيمٌ} ".
هذا لفظ ابن جرير
(6)
إسنادًا ومتنًا.
(1)
انظر تفسير الطبري (9/ 76 - 77).
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 77).
(3)
أخرجه ابن جرير في التفسير (10/ 529).
(4)
المصدر السابق (10/ 529).
(5)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 307) والترمذي (2516) في صفة القيامة، وهو حديث صحيح.
(6)
أخرجه ابن جرير في التفسير (9/ 77 - 78).
ثم قال البزَّارُ
(1)
: لا نعلمه يُروى عن النبيِّ إلا بهذا الإسناد، كذا قال.
وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن أخي ابن وَهْب، حدَّثنا عمي، حدَّثني أبو صخر؛ أن يزيدَ الرقاشيّ حدَّثه، سمعت أنس بن مالك -ولا أعلم إلا أن أنسًا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعوَ بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، قال: اللهم {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فأقبلتِ الدعوةُ تحن بالعرش، فقالت الملائكة: يا ربِّ! صوتٌ ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا: يا ربّ ومن هو؟ قال: عبدي يُونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزلْ ترفع له عملًا متقبلًا، ودعوة مجابة، قالوا: يا ربَّنا أو لا ترحم ما كان يصنعُه في الرخاء فتُنجيه من البلاء؟ قال: بلى فأمرَ الحوتَ فطرحَه في العراء
(2)
.
ورواه ابن جرير
(3)
: عن يونس، عن ابن وَهْب، به.
زاد ابن أبي حاتم
(4)
: قال أبو صخر حميد بن زياد: فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدِّثه هذا الحديث، أنه سمع أبا هريرة يقول: طُرح بالعراء، وأنبت الله عليه اليقطينة [قلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينةُ؟]
(5)
قال شجرة الدُّباء. قال أبو هريرة: وهيَّأَ الله له أرويه
(6)
وحشيَّةً، تأكلُ من خشَاش الأرض -أو قال: هشاش الأرض- قال: فتفشخ
(7)
عليه، فترويه من لبنها كل عشية وبكرة، حتى نبتَ.
وقال أميَّةُ بن أبي الصَّلْتِ في ذلك بيتًا من شعره: [من الطويل]
فأنْبَتَ يقطينًا عليهِ برحمةٍ
…
مِنَ اللّهِ لولا اللّهُ أصبحَ ضاويًا
(8)
وهذا غريب أيضًا من هذا الوجه، ويزيد الرَّقاشيّ ضعيف، ولكنْ يتقوَّى بحديث أبي هريرة المتقدّم، كما يتقوَّى ذاك بهذا، والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ} أي: ألقيناه (بالعَراء) وهو المكان القَفْر الذي ليس فيه شيءٌ من الأشجار، بل هو عارٍ منها {وَهُوَ سَقِيمٌ} أي: ضعيف البدن. قال ابن مسعود: كهيئة الفَرْخ، ليس
(1)
كما في كشف الأستار (2254) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 98) وقال: رواه البزار عن بعض أصحابه، ولم يُسمه، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم، كما في الدر المنثور (5/ 668).
(3)
في التفسير (9/ 76).
(4)
أخرجه ابن جرير كما في الدر المنثور (7/ 130).
(5)
ما بين حاصرتين أثبته من ب.
(6)
أروية: في هامش ب. قال الجلال السيوطي في مختصر النهاية: الأروية: هي الأيائل، وقيل: غنم الجبل.
(7)
فتفشخ: تقف فوقه، وتباعد بين رجليها.
(8)
في الدر المنثور "ألقى ضاحيًا" ومعنى: ضاويًا: هزيلًا.
عليه ريش. وقال ابن عبَّاس
(1)
والسُّدِّي وابنُ زيد: كهيئة الصَّبيّ حين يُولد وهو المنفوس ليس عليه شيء {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . قال ابن مسعود، وابن عبَّاس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جُبير، ووهْب بن منبه، وهلال بن يساف، وعبد الله بن طاووس، والسُّدّي، وقتادة، والضَّحَّاك، وعطاء الخراساني، وغير واحد: هو القَرْعُ
(2)
.
قال بعض العلماء: في إنبات القَرْع عليه حِكم جَمَّة: منها: أن ورقه في غاية النعومة، وكثير وظليل، ولا يقربه ذبابٌ، ويُؤكل ثمرُه من أوَّل طلوعه إلى آخره نِيئًا ومطبوخًا، وبقشره وببزره أيضًا. وفيه نفع كثير وتقوية للدِّماغ وغير ذلك.
وتقدَّم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت تُرضعه لبنها وترعى في البرية وتأتيه بكرةً وعشيَّة. وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه، ولهذا قال تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي: الكرب والضِّيق الذي كان فيه {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجارَ بنا.
قال ابن جرير
(3)
: حدَّثني عمران بن بكَّار الكُلاعي، حدَّثنا يحيى بن صالح، حدَّثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدَّثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعتُ سعدَ بن مالك، -وهو ابن أبي وقاص- يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اسم الله الذي إذا دُعي به أجابَ، وإذا سُئل به أَعْطى؛ دعوةُ يونس بن متَّى، قال: فقلت: يا رسولَ الله! هي ليونس خاصَّة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس بن متَّى خاصَّة، وللمؤمنين عامَّة إذا دَعَوْا بها، ألم تسمع قول الله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88] فهو شرطٌ من الله لمن دعاه به".
وقال ابن أبي حاتم
(4)
: حدَّثنا أبو سعيد الأشجُّ، حدَّثنا أبو خالد الأحمر، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن حَنْطَب، قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب، يعني ابن سعد، عن سعدٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ دَعا بدعاءَ يُونس استجيبَ له" قال أبو سعيد الأشجُّ: يُريد به {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وهذان طريقان عن سعد. وثالث أحسنُ منهما:
قال الإمام أحمد
(5)
: حدَّثنا إسماعيل بن عمر، حدَّثنا يونس بن أبي إسحاق الهَمْداني، حدَّثنا
(1)
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 529).
(2)
المصدر السابق (10/ 530)، والدر المنثور (7/ 130).
(3)
في التفسير (9/ 78).
(4)
كما في الدر المنثور (5/ 17).
(5)
في المسند (1/ 170).
إبراهيم بن محمد بن سعد، حدَّثني والدي محمد، عن أبيه سعد -وهو ابن أبي وقَّاص- قال: مررتُ بعثمانَ بن عفَّان في المسجد، فسلَّمتُ عليه، فملأ عينيه منِّي ثم لم يردَّ عليّ السلام، فأتيتُ عمرَ بن الخطَّاب، فقلت: يا أمير المؤمنين: هل حدثَ في السلام شيءٌ؟ قال: لا، وما ذاك؟ قلت: لا إلا أني مررتُ بعثمان آنفًا في المسجد فسلَّمت عليه، فملأ عينيْه منِّي ثم لم يرد عليّ السلام. قال: فأرسلَ عمر إلى عثمان فدعاه، فقال: ما منعكَ ألا تكونَ رددتَ على أخيك السلام؟ قال: ما فعلتُ، قال سعد: قلت: بلى، حتى حلفَ وحلفتُ، قال: ثم إنَّ عثمانَ ذكرَ فقال: بلى، وأستغفرُ الله وأتوبُ إليه. إنك مررتَ بي آنفًا، وأنا أُحدِّث نفسي بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والله ما ذكرتُها قط إلا تغشَّى بصري وقلبي غشاوة. قال سعد: فأنا أُنبئك بها، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ لنا أوَّلَ دعوة، ثم جاء أعرابي فشغلَه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعتُه، فلما أشفقتُ أن يَسبقني إلى منزله ضربتُ بقدمي الأرضَ، فالتفتَ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"منْ هذا؟ أبو إسحاق" قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: "فمه؟ " قلت: لا والله، إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلكَ، قال:"نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. فإنه لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّه في شيء قطُّ إلا استجابَ له".
ورواه الترمذي والنسائي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد به
(1)
.
* * *
ذكر فضل يونس عليه السلام
-
قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 139] وذكرَه تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ أنا خير من يُونس بن متَّى".
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي (3505) في الدعوات، والنسائي (656) في عمل اليوم والليلة، والحاكم في المستدرك (1/ 505) و (2/ 382) وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
في المسند (1/ 390) وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه البخاري (4804) في التفسير.
وقال البخاري أيضًا
(1)
: حدَّثنا حفصُ بن عمرَ، حدَّثنا شعبة، عن قتادةَ، عن أبي العالية، عن ابن عبَّاس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما ينبغي لعبد أن يقولَ إنِّي خير من يونسَ بن متى" ونسبه إلى أبيه.
ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به
(2)
. قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه: لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث هذا أحدُها.
وقد رواه الإمام أحمد
(3)
عن عفَّان، عن حمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وما ينبغي لعبدٍ أن يقولَ أنا خير من يونسَ بن متَّى" تفرّد به أحمد
(4)
.
ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني
(5)
: حدَّثنا محمَّد بن الحسن بن كَيْسان، حدَّثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتَّات، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغي لأحدٍ أن يقولَ أنا عند الله خيرٌ من يونسَ بن متَّى".
إسناده جيد ولم يُخرِّجوه
(6)
.
وقال البخاري
(7)
: حدَّثنا أبو الوليد، حدَّثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت حُميدَ بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغي لعبدٍ أن يقولَ أنا خيرٌ من يونسَ بن متَّى".
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة به
(8)
.
وفي البخاري ومسلم
(9)
: من حديث عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، في قصة المسلم الذي لطمَ وجهَ اليهوديّ حين قال: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. قال البخاري في آخره: "ولا أقول: إن أحدًا أفضلُ من يونس بن متَّى"، وهذا اللفظ يقوّي أحدَ القولين من المعنى: لا ينبغي لأحد أن يقولَ: أنا خيرٌ من يونسَ بن متَّى، أي: ليس لأحد أن يُفضِّل نفسَه على يونسَ.
(1)
أخرجه البخاري (4630) في التفسير.
(2)
أخرجه أحمد في المسند (1/ 342) ومسلم (2377) في الفضائل وأبو داود (4669) في السنة.
(3)
في المسند (1/ 242).
(4)
في إسناده عبد الله بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف الحديث.
(5)
أخرجه الطبراني في الكبير (11122).
(6)
أقول: في إسناده أبو يحيى القتات، لين الحديث، لكن متنه صحيح كما سيأتي.
(7)
أخرجه البخاري (4631) في التفسير.
(8)
أخرجه مسلم (2376) في الفضائل.
(9)
أخرجه البخاري (3414) في الأنبياء، ومسلم (2373) في الفضائل.
والقولُ الآخر: لا ينبغي لأحدٍ أن يُفضِّلني على يونسَ بن متَّى، كما قد وردَ في بعض الأحاديث:"لا تُفضِّلُوني على الأنبياء ولا على يونسَ بن متَّى"، وهذا من باب الهضم والتواضع منه صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى سائر أنبياء الله المرسلين.
* * *
انتهى الجزء الأول من كتاب البداية والنهاية ويليه الجزء الثاني وأوله:
ذكر قصة موسى عليه السلام