الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* الحكم ولوازمه
* الحكم. والحاكم. والمحكوم فيه ،والمحكوم عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا منحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ
ذكرنا في ما سبق المقدمة التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى فيما يتعلق بتعريف أصول الفقه بأنه يعرف من جهتين: من جهة كونه مركبا تركيبا إضافيا، ومن جهة كونه علما لقبيا لهذا الفن.
قلنا المقصود هنا هو الحد الأول الذي ذكره، وهو معرفة الأدلة، أدلة الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد، هذه ثلاثة أركان، بعضهم زاد عليها: الأحكام الشرعية بمعرفة تصور الواجب والتحريم والإباحة والكراهة والندب، لماذا؟ لأن ثمرة الأدلة هي الأحكام الشرعية، عندنا مثمر وثمرة، المثمر هو الأدلة، والثمرة هي الأحكام الشرعية، والمستثمر هو المجتهد، وطرق الاستثمار هي وجه دلالة هذه الأدلة على الأحكام الشرعية التي ذكرها فيما سبق، والغرض منه معرفة كيفية اقتباس الأحكام، هذه تسمى طرق الاستباط، طرق الاستثمار. والمستثمر هو المجتهد، والثمرة هي الأحكام الشرعية. إذن هذه أربعة أركان لابد من الوقوف عليها.
هل الأحكام الشرعية داخلة في موضوع أصول الفقه أو لا؟ هذه فيها نزاع، الجمهعور على أن موضوع أصول الفقه هـ الأدلة فقط، والأحكام ثمرة، حينئذ تكون الثمرة تابعة، والتابع لغيره غيرُه، لابد أن يكون مباينا مباينة تامة عنه. (الأحكام والأدلة الموضوع، وكونه هذي فقط مسموع) هكذا قال صاحب المراقي. (الأحكام والأدلة الموضوع) على قول من يرى الأحكام الشرعية داخلة في مسمى أصول الفقه ن يعني فيما يبحث عنه الأصولي، أفي ما يدور حوله موضوع أصول الفقه.
ثم قال (وذلك ثلاثة أبواب).
(وذلك) المشار إليه هو أصول الفقه، يعني كأنه حصر لك اصول الفقه في ثلاثة أبوزاب على سبيل الاقتصار، كما سبق أنه اختصر هذا الكتاب من كتاب مطول له، فقال:(وذلك ثلاثة أبواب، الباب الأول: في الحكم ولوازمه)، يعني سيذكر لك في هذا الباب حقيقة الحكم الشرعي؛ لأن البحث هنا في الشرعيات، ولوازمه: يعني لوازم الحكم، الحكم ولوازمه أربعة أقسام، لأن الحكم لا بد له من حاكم، ولا بد للحكم من محل، وهو المحكوم عليه، ولا بد من شيء يحكم فيه وهو المحكوم فيه، إذن أربعة أركان. إذن الحكم ولوازمه: الحكم هذا ركن خاص، ولوازمه: هذا جمع لازم، واللازم -كما هو معلوم-: ما يمتنع انفكاكه عن الشيء، حينئذ لا بد للحكم من حل، ولذلك حصر الأصوليون الأركان في أربعة أركان: وهي الحكم، هذا بحث خاص يبحثون فيه حقيقة الحكم، والحاكم، كم الذي يكون مصدرا للتشريع وهو الله عز وجل لأن كلامنا في الشرعيات، المحكوم فيه وهو أفعال العباد، فعل المكلف، المحكوم عليه، هو المكلف نفسه، الآدمي.
قال (في الحكم ولوازمه) قال: قيل فيه حدود، أسلمها من النقد والاضطراب: الحكم في اللغة المنع، يعني الحكم له معنيان، معنى لغوي ومعنى اصطلاحي، لابد – إذا اريد المعنى الاصطلاحي - أن يذكر المعنى اللغوي، ليعرف العلاقة بين المعنيين، المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، لأن المعنى الاصطلاحي هذا حقيقة عرفية أو شرعية، لا بد له من إحدى الحقيقتين إما حقيقة شرعية وإما حقيقة عرفية، ومعلوم أن الأصل في اللغات أنها تحمل على الحقيقة اللغوية، ولا يجوز التخصيص أو التعميم بنقله إلى حقيقة عرفية أو شرعية إلا إذا ثبت أن هذا المعنى قد استعمل في لغة العرب، هذا هو الأصل، ولذلك إذا عُرف الإيمان يقال الإيمان لغة كذا، والإيمان في الشرع كذا، الصلاة لغة الدعاء، وفي الاصطلاح أقوال وأفعال .. الخ، لم يذك الفقهاء هذه المعاني؟ ليبين لك أن ثَمَّ تناسبا بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي الذي يعبر عنه بالحقيقة العرفية أو الحقيقة الشرعية. إذن نقول هنا الحكم ليُعرف العلاقة بين الحكم الشرعي والحكم اللغوي.
الحكم لغة: المنع، ومنه سمي القضاء حكما، لماذا؟ قالوا لأنه يمنع من غير المقضي منه، إذا حكم القاضي فقد أثبت الحكم الذي يراه، ومنع غره من أن ينفذ حكمه على المحكوم عليه. إذن الحكم في اللغة هو المنع، ولذلك قول جرير يُذكر في هذا الموضع:
أبني حنيفة احكموا سفاءكم .. إني أخاف عليكمُ أن أغضبَ
فإذا قيل: حكم الله في هذه المسألة الوجوب، معناه أن الله عز وجل قضى في هذه المسألة بالوجوب ومنع من مخالفة هذا الحكم. ولذلك سميت الحكمة حكمة كما قيل مشتقة مشتقة من الحكم، لماذا؟ لأن فيها منعا، تمنع صاحبها من الوقوع في الرذائل والأخلاق غير المحمودة. إذن عرفنا الحكم في اللغة.
أما في الاصطلاح، فذكر بعضهم كالشيخ الأمير رحمه الله في المذكرة وغيرها، أن الحكم اصطلاحا هو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، إذن الحكم يكون بالإثبات إيجابا ويكون بالنفي سلبا، زيد قائم: هنا حكمت على زيد بثبوت القيام، زيد ليس بقائم: هنا حكمت على زيد بسلب القيام عنه. إذن الحكم يؤكون بالإثبات ويكون بالنفي. إذن لا يتصور كما يظن البعض أن الحكم دائما إذا قيل حرام معناه أنه قد حكم وأفتى، وإذا قيل ليس بحرام معناه ليس مفتى، لا هو أفتى في الموضعين، في الإثبات بإثبات التحريم، وفي النفي بنفي التحريم. هذا من حيث الجملة: إثبات أمر لأمر: زيد قائم، أو نفيه عنه: زيد ليس بقائم. هذا من حيث الجملة.
ثم يتنوع بالاستقراء إلى أنواع ثلاثة أو أربعة أو خمسة، على خلاف بينهم. إن كان موضع النسبة، محل النسبة مستفادة من الشرع، يعني إثبات أمر لأمر لأمر، من المثبت؟ إذا كان الشرع فحينئذ يكون الحكم شرعيا، الذي أثبت إذا كان المثبت لأمر آخر هو الشرع صار الحكم شرعيا، أو نفيه صار الحكم شرعيا. إذا كانت النسبة مستفادة من العقل، العقل هو الذي أثبت الأمر للأمر أو نفاه عنه، حينئذ يكون الكم عقليا. إن كانت النسبة مستفادة من التجربة، نقول حينئذ الحكم تجريبيا. إن كانت النسبة مستفادة بالإثبات أو النفي من الاصطلاح أو الجعل، كالفاعل مرفوع، والفاعل ليس بمنصوب، نقول هنا الحكم اصطلاحي أو جعلي. إن كانت النسبة مستفادة من الحس، بالإثبات أو بالنفي، حينئذ نقول الحكم حسي. إذن يتنوزع الحكم باعتبار محل النسبة. الوسط الذي يشترك فيه الكل إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه. في جميع الأنواع الخمس هذه نقول فيها إثبات وفيها نفي، لكن موضع الإثبات، أو محل استفادة الإثبات أو النفي يتنوع بتنوع المثبت أو النافي. إن الشرع فالحكم شرعي، إن كان العقل فالحكم عقلي.
(الكل أكبر من الجزء) هذا إثبات، نقول هذا الحكم مستفاد من العقل، (الجزء ليس أكبر من الكل) هذا الحكم بالنفي والسلب، مستفاد من العقل. (بعض الأدوية ثبت أنها مسهلة أو مسهرة) فنقول هذه ثبتت بالتجربة. كذلك نقول (النار محرقة) النسبة هنا حسية ، (النار ليست باردة) حسية، حسية لمن؟ أنت إذا حكمت بأن النار محرقة، هل أنت أحسست بأن النار محرقة؟ أم شاع وذاع بأن النار محرقة؟ أصل الحكم لمن جرب يكون حسيا، أما بعده فبعضهم يرى أنه عقلي، لماذا؟ لأنه شاع وذاع وصار كالضروري أن هذا الحكم حسي.
والمراد الذي معنى المراد به الحكم الشرعي، الحكم قيل فيه حدود، يعني في الاصطلاح لا في اللغة، لماذا؟ لأنه أتى بـ (ال) وهذه للعهد الذكري، لأنه سبق هناك وقال في حد الفقه: معرفة أحكام الشرع. فقال والحكم، لما أخذ الأحكام الشرعية فصلا في حد الفقه اعاد الحكم معرفا بـ (ال). والنكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأولى. إذن نقول الحكم هنا المراد الحكم الشرعي لأنه أطلق هناك في الفقه فقال معرفة أحكام الشرع. قيل فيه حدود، يعني كثرت الحدود، حدود جمع حد، والحد في اللغة المنع، وفي الاصطلاح الجامع المانع.
الجامع المانع حد الحد ..
الجامع لكل أفراد المحدود، بحيث لا يخرج عنه فرد من افراده، المانع من غيره المحدود من الدخول في الحد، ولذلك قيل: سمي البواب حدادا، لأنه يمنع الخارج من الدخول، وقد يمنع الداخل من الخروج، إذن هو حامٍ يمنع الداحل من الخروج، كالصبيان، ويمنع الخارج من الدخول، حينئذ هو حداد، لذا قيل البواب هو حداد لأنه جامع مانع. وكذلك الحدود التي هي التعريفات عند أرباب الفنون، هي جامعة مانعة، تجمع أفراد المحدود، وتمنع غيرها من الدخول فيها. ولا يشترط فيه ألا ينتقد أو أن لا يعترض عليه باعتراض، لأنه كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية لم يسلم حد في الدنيا من الاعتراض، الحد التام الذي يعنون له المناطقة هو يقولون يعسر وجوده، فإذا كان أهل الصنعة يقولون يعسر الإتيان به مفمن باب أولى لا يأتس به أصحاب الأصول ونحوهم ز فحينئذ نقول كل ما يذكر في الأصول أو في الفقه أو في النحو أو في الصرف من الحدود، هذه أشبه ما يكون بالرسوم المقربة للمحدود، أما أنه لا يعترض عليه بأي اعتراض، أو أنه لا بد أن يسلم من كل اعتنراض هذا لا يمكن، لأنها رسوم وليست بحدود، ولأن المعرفات – كما هو معلوم – ثلاثة: حد ورسم ولفظي.
معرف على ثلاثة قسم .. حد ورسمي ولفظي عُلم
لذلك اختلفت الحدود فيه، اختلفت التعاريف، أسلمها من النقض والاضطراب. من النقض: النقض المراد به هنا أن يدخل في الحد غير المحدود، وهو التعريف غير المانع، إذن نقض أو انتقض الحد لكونه غير مانع مثل ماذا؟ لو قيل: ما الإنسان؟ فقال: حيوان، جميع أفراد المحدود (الإنسان) دخلت في لفظ حيوان، أليس كذلك؟ هل خرج فرد من أفراد المحدود (الإنسان) عن لفظ حيوان؟ الجواب لا. لكن هل منع هذا اللفظ من غير ألفاظ المحدود من الدخول في الحد؟ الجواب لا؛ لأن الحيوان هذا يصدق على الإنسان بكل أفراده، ويصدق على الفرس والحمار والبغل إلى آخره، إذن هذا غير مانع، هو جامع، لكنه ليس مانعا. هذا يسمى النقض.
والاضطراب: أن يكون الحد غير منضبط، عكس الأول، يعني غير جامع، الحيوان ما هو؟ قال: الناطق، عرف لي الحيوان، فقال: الناطق، الناطق هذا خاص بالإنسان، حينئذ نقول هذا جامع أو مانع؟ لم يجمع كل الأفراد، لأن الحيوان ليس مختصا بفرد واحد هو الناطق وهو الإنسان، وبل يشمل الإنسان الناطق ويشمل عيره، إذن أسلمها من النقض والاضطراب لكونها غير جامعة أو غير مانعة هو ما سيذكره المصنف.
لكن يرد السؤال: لماذا اضطرب الأصوليون في حد الحكم؟ اختلفت كلمة الأصوليين في حقيقة الحكم وتفسيره لأمرين، يعني سبب الاصطراب أمران:
الأول: أن بعض المكلفين غير موجود وقت الخطاب، وقت تنزل القرآن بعض المكلفين غير موجود، بل هو معدوم وخطاب المعدوم محال، لأنه ليس بشيء، المعدوم ليس بشيء، حينئذ كيف يخاطب؟ بعض المكلفين غير موجود وقت الخطاب، يعني إذا نزل قرآن بأمر أو نهي " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "، المخاطب به من؟ وقت التنزيل المخاطب به الصحابة رضي الله عنهم، إذن الصحابة مكلفون، هل هم كل المكلفين من أول الدنيا إلى آخرها؟ لا، ليسوا كل المكلفين، غذن هم بعض المكلفين، نزل القرآن وخاطب الرب جل وعلا الصحابة بقوله " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "، إذن بعض المكلفين حين التنزيل كان موجودا ولا إشكال أن الحكم كان متعلقا بهم، لكن انقرض عهد الصحابة وجاء بعدهم التابعون وبعدهم إلى يومنا إلى أن تقوم الساعة، هؤلاء مكلفون أم لا؟ إن قلتَ: مكلفون، فحينئذ لا يشملهم الخطاب لأنهم لم يثخاطبوا، لأن معنى الخطاب إلى الغير، أن يكون مباشرة، هذا الأصل فيه في لغة العرب، فحينئذ كيف يكون الخطاب الأول الموجه للصحابة، يكون موجها للصحابة وهم موجودون، وشاملا لمن يأتي بعدهم؟! فبعض الأصوليين أراد أن يأتي بحد جامع للصحابة ولغيرهم، لماذ؟ لأن الخطاب كما يشمل الموجود كذلك يشمل المعدوم، لكن بشرطه كما سيأتي. هذا أولا: أن بعض المكلفين غير موجودين في وقت الخطاب وقت تنزيل القرآن. والمعدوم ليس بشيء فحينئذ كيف يخاطب؟ ونريد في الحد حد الحكم الشرعي الجامع للموجودين ولغيرهم بحد واحد منضبط؟ فاضطربت كلمتهم.
السبب الثاني: أن الأصوليين أكثرهم في باب المعتقد لم يكونوا جميعا على عقيدة الأشاعرة والكلابية والمعتزلة إلى آخره، بعضهم ينكر لكلام كلام الرب جل وعلا ويقول بأن هذا القرآن مخلوق، وبعضهم يثبت الكلام النفسي كالأشاعرة والكلابية، فحينئذ كلام الرب جل وعلا وهو خطابه الذي هو الحكم الشرعي عند الأصوليين، هذا معنى قائم بالنفس مجرد عن الصيغة. بسبب هذين الأمرين اضطربت واختلفت كلمة الأصوليين في حقيقة الحد. وسيأتي في موضعه إن شاء الله في (باب الأمر) إثبات فساد كلام الأشاعرة في إثبات الكلام النفسي.
إذن عرفنا أن المصنف هنا – رحمه الله – حكم على كثير من الحدود بأنها مضطربة، وهو جاء بحد يرى أنه أسلم الحدود، وهو فيه نوع اضطراب وإيهام أيضا. قال إنه (قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نطقا أو استنباطا). (أنه) أي الحكم في الاصطلاح عند الأصوليين (قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نطقا أو استنباطا).
اعلم أولا أن الحكم الشرعي هذا يرد عند الفقهاء ويرد عند الأصوليين، فله مبحثان: مبحث فقهي، ومبحث أصولي، لماذا؟ لأن الأحكام الشرعية يثبتها الأصولي ويثبتها الفقيه أيضا، ولكن الأصولي يثبتها من حيث هي، والفقيه يثبتها من حيث تعلقها بأفعال المكلفين، ولكن النظر للحكم الشرعي من حيث هو عند الأصوليين، ومن حيث تعلقه بفعل المكلف عند الفقهاء. فحينئذ ترتب على هذا الاختلاف النظري، نظر الأصولي في الحكم الشرعي، ونظر الفقيه للحكم الشرعي، اختلفت عبارة الفقهاء مع الأصوليين في حد الحكم الشرعي. ولذلك حد الحكم الشرعي عند الفقهاء – كما عبر عن ذلك صاحب " مختصر التحرير بقوله – مدلول خطاب الشرع، خطاب الشرع الذي هو القرآن والسنة، مدلوه يعني الذي دل عليه، أثر خطاب الشرع هو الحكم الشرعي، مدلول خطاب الشرع هو الحكم الشرعي. فحينئذ قوله: مدلول، يعني ما دل عليه خطاب الشرع، هذا يشمل الأحكام الخمسة عند الفقهاء: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح. خمسة أحكام دخلت في هذا الحد. ويشمل المعدوم والموجود، لماذا؟ لأن خطاب الشرع كما يتعلق – وإن كان هناك فلسفة لبعض المتكلمين، لكن نقول المسألة محسومة شرعا، الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ " إذن نحتاج أن نختلف؟ لا نحتاج أن يكون في المسألة خلاف لورود النص، هذا القرآن قانون عام لكل مكلف بشروط التكليف كما سيأتي، كل من وجد على وجه الأرض منذ أن نزل إلى أن تقوم الساعة فالقرآن حاكم عليه شاء أم أبى. فحينئذ نقول: قوله مدلول الشرع يشمل الأحكام الخمسة التكليفية عند الفقهاء، ويشمل المعدوم حين تنزل الخطاب، لكن بشرطه، المعدوم مخطاب لا شك في هذا، لكن مخاطب متى؟ بشرطه وهو إذا وُجد مستجمعا لشروط التكليف، يعني " أقيموا الصلاة " هذا موجه للصحابة، والمكلف منهم قد خوطب بهذا النص، من بعدهم مخاطب بهذا النص لقوله تعالى: " لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ "، لكن مطلقا لا، وإنما تعلق به الخطاب تعلقا معنويا، وهو أنه إذا وُجد وولد وساتكمل الشروط واستجمع شروط التكليف حينئذ تعلق به الخطاب. فقوله " اقيموا الصلاة " نقول متعلق بالمكلفين الموجودين ومتعلق أيضا بالمعدومين إذا وُجدوا مستجمعين لشروط التكليف. يسمى عن الأصوليين التعلق الأول (التعلق التنجيزي) إذا كان الخطاب نزل على المكلفين مباشرة وهم موجودون يسمى تعلقا تنجيزيا. وتعلقه بالمعدومين بشرط وجودهم مستكملين لشروط التكليف يسمى تعلقا معنويا. إذن التعلق نوعان تنجيزي ومعنوي. هذا ماذا؟ تعريف الحكم الشرعي عند الفقهاء: مدلول خطاب الشرع.
مدلول خطاب الشرع المراد به كما في قوله تعالى " وأقيمو الصلاة " وجوب الصلاة، هذا لفظ ومدلول، كلام مفيد أليس كذلك؟ مدلوله ماذا؟ وجوب الصلاة. ونفسه الكلام هذا دليل الحكم الشرعي عند الفقهاء وليس هو الحكم الشرعي، إذا قيل " وأقيمو الصلاة " نقول هذا دليل، ثبت به وجوب الصلاة. ما الحكم الشرعي عند الفقهاء؟ " أقيموا الصلاة " أم وجوب الصلاة؟ إذن: مدلول خطاب الشرع، ما دل عليه خطاب الشرع، " وآتوا الزكاة " نقول نفس الـ[ .. ] كلام الله عز وجل، هو خطاب مدلوله الذي دل عليه هو وجوب الزكاة. حينئذ عندنا دليل ومدلول، الدليل نفس الخطاب: كلام الله عز وجل، المدلول ما دل عليه الخطاب وهو وجوب الصلاة ووجوب الزكاة. نظر الفقيه إلى المدلول لكون بحث الفقيه في أفعال العباد، في أفعال المكلفين، ولا ينظر إلى الشرع إلا بهذا الارتباط، كل شيء يتعلق بفعل المكلفين يكون هو محلا لبحث الفقيه.
أما الأصوليون فلهم نظرة أخرى. قالوا لا، ليس مدلول خطاب الشرع وهو وجوب الصلاة ليس هو الحكم الشرعي، وإنما الحكم الشرعي هو نفس اللفظ. " أقيموا الصلاة " نفسه اللفظ كلام الله هو الحكم الشرعي، وليس مدلوله. إذن اختلفت العبارات أم لا؟ اختلف النظر أن لا؟ اختلف النظر. عند الأصوليين قد يعترض عليهم بماذا؟ بأن يُقال: اتحد الدليل والمدلول، لماذ؟ لأن دليل وجوب الصلاة هو " أقيموا الصلاة "، وجوب الصلاة ثبت بماذا؟ بقوله " أقيموا الصلاة "، يرد عليهم عند بعضهم أنه اتحد الدليل والمدلول، لكن ليس بصواب هذا، اتحد الدليل والمدلول هذا نقول باختلاف النظرين، أن تفرق بين الحكم الشرعي عند الأصوليين وعند الفقهاء، فإذا علمت أن الحكم الشرعي عند الأصوليين هو نفس الخطاب، حينئذ لا يرد عليهم أنه المدلول، وإذا قلت إن الحكم الشرعي عند الفقهاء هو مدلول خطاب الشرع لا يرد عليهم أيضا ماذا؟ أن " اقيموا الصلاة " هو الحكم الشرعي. وعليه نقول: فرق الأصوليون بين الدليل والمدلول، فقالوا الدليل هو الحكم الشرعي، ولذلك عرفون بأن الحكم الشرعي عندهم هو (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف به)، وزاد بعضهم (بالاقتضاء أالتقييد أو الوضع).
(خطاب الله) عبر بعضهم بكلام الله، كما قال صاحب المراقي:
كلام ربي إن تعلق بما
…
يصح فعلا للمكلف اعلما
من حيث إنه به مكلف
…
فذاك بالحكم لديهم يعرف
إذن ثَمَّ فرق بين الأصوليين والفقهاء في تحديد مفهوم الحكم الشرعي.
بعضهم يقول: الإيجاب هذا تعبير الأصوليين، والوجوب هذا تعبير الفقهاء، فإذا قيل أقيموا الصلاة نقول أوجب الله الله الصلاة إيجابا، فوجبت الصلاة وجوبا، فالإيجاب هذا وصف لنفس كلام الله لأنه هو الحكم الشرعي وهو صفة للحاكم، المدلول الذي هو الوجوب هذا ما دل عليه " أقيموا الصلاة "، إذن " أقيمو الصلاة " له نظران، له اعتباران، نظر الأصولي إذلى ذاته فنسبه إلى الله قائله، وهو حكم، والحكم صفة الحاكم، حينئذ قال " أقيموا الصلاة " هو الحكم الشرعي. الفقيه نظر باعتبار تعلقه بفعل المكلف، فقال ما دل عليه اللفظ " أقيموا الصلاة " وهو وجوب الصلاة. إذن نقول كما قال [
…
] أن الحكم الشرعي عند الأصوليين والحكم الشرعي عند الفقهاء المعبر عنه بالإيجاب والوجوب هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار، متحدان بالذات يعني الذات واحدة، وهي كقوله " وأقيموا الصلاة "، مختلفان بالاعتبار بالنظر، إن نسبت هذا اللفظ غلى كونه كلاما لله عز وجل، قلتَ هذا إيجاب وهو صفة له وهو حكم شرعي. إن نظرتَ إلى كونه متعلقا بفعل المكلف، فمدلوله وجوب الصلاة، هذا نظر الفقيه، وكلٌ نظر إلى بحثه؛ لأن موضوع أصول الفقه هو الأدلة، فحينئذ ينظر في نفس اللفظ، هذا بحث الأصولي، وموضوع الفقه هو أفعال العباد، فحينئذ ينظر الفقيه بهذا الاعتبار.
هنا ظاهر كلام المصنف الذي أختار أنه أسلم الحدود أنه يميل إلى الحكم الشرعي عند الفقهاء، ولذلك قال قضاء الشرع يعني ما قضى به الشرع، والذي قضى به الشرع هو مدلول خطاب الشرع، فحينئذ يكون هذا الحد على طريقة الأصوليين أم على طريقة الفقهاء؟ نقول الظاهر إنه على طريقة الفقهاء. والأولى أن يعرف بما عرفه جماهير الأصوليين، وهو أسلم الحدود من النقض والاضطراب ما ذكرناه لكم سابقا: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، هذا الحد تضعه بين قوسين وتقول: أسلمها من النقض والاضطراب، وهو أولى مما ذكره المصنف، ونشرحه ثم نأتي على ما ذكره المصنف.
(خطاب الله) خطاب هذا فِعال:
لِفَاعَلَ الفِعالُ والْمُفَاعَلَهْ = وغيرُ ما مَرَّ السماعُ عادَلَهْ
إذن هو مصدر، خطاب: فاعل، خاطب زيدٌ عمرا خطابا ومخاطبة، قاتل زيد عمرا قتالا ومقاتلة، إذن هو مصدر. له معنيان: قد يُنظر إليه بالمعنى المصدري، يعني معناه المصدري ماهو إذا قيل خاطب زيد عمرا؟ وجه الكلامَ إليه. كذلك توجيه الكلام أو اللفظ المفيد إلى الغير لقصد الإفهام نقول هذا هو الخطاب. لكن هل المراد المعنى المصدري هنا؟ نقول: لا، المراد المخاطب به، غذا قيل تلفظ وملفوظ به. التلفظ غير الملفوظ به، الملفوظ به هو الذي تسمعه، والتلفظ هو الذي تراه من حركة اللسان ونحوه، فالتكلم والتكليم غير الكلام ز أليس كذلك؟ تصور معي: التكليم هو فعل وإصدار الكلام، حركة اللسان من مخارجه إلى آخره نقول هذا تكليم، إذن معناه المصدري هو إخراج الكلام، المعنى المراد من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول هو ما تسمعه، فالكلام غير التكليم والملفوظ به غير التلفظ وغير الللفظ. الخطاب هو توجيه الكلام غلى الغير لقصد الإفهام، هل هو مراد هنا؟ نقول لا، بل المراد به المخاطب به، فحينئذ يكون في الكلام أو في التعريف هنا مجاز مرسل من إطلاق المصدر وغرادة اسم المفعول. بعضهم عدل عن هذه العبارة فقال: كلام الله، لماذا؟ لأنهم يختلفون في الخطاب هل يسمى في الأزل كلاما أم لا ن فعدل صاحب المراقي إلى قوله: كلام ربي .. إلى آخره، إذن عرفنا أن المراد بالخطاب هنا المخاطب به، وليس المراد به المعنى المصدري الذي هو توجيه الكلام إلى الغير. خطاب هذا جنس في التعريف، فيشمل خطاب الله عز وجل، ويشمل خطاب الرسول صلى الله عليه سلم، ويشمل خطاب الإنس للإنس والجن للإنس والعكس والملائكة إلى غيره. لكن المراد هنا: خطاب الله، فبإضافته للفظ الجلالة خرج خطاب الإنس لبعضهم وخطاب الملائكة وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم. لمذا؟ لأن الإضافة قيد، الإضافة نسبة تقييدية، إذا قيل: جاء غلامٌ، يحتمل أنه غلام امرأة ويحتمل أنه غلام ارجل، فإذا قلتَ: جاء غلام امرأة، تخصص أو لا؟ تخصص. فإذا قلتَ جاء غلام هند ازداد تخصيصا. هنا إقا قيل: خطاب الله، أضيف إلى المعرفة فاكتسب التعريف، فحينئذ نقول هذا قيد أول احترز به المصنفون وأرباب الأصول عن خطاب غير الله عز وجل، لماذا؟ لأننا نعرف الحكم الشرعي، ومصدر الحكم الشرعي من؟ الله عز وجل! " إن الحكم إلا لله "، إذن لا حاكم إلا الله، " والله يحكم لا مقب لحكمه "، " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ " إلى آخر الآيات الدالة على أن الحكم محصور في الرب جل علا، فلا حاكم إلى الله، وكل تشريع من سواه فهو باطل مردود على أهله ز
ورد إشكال: إذا قيل: الحكم الشرعي خطاب الله كلام الله عز وجل، الأحكام الشرعية نقول في الفقه مثلا: تستمد الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وعند من صحح فعل الصحابي وقول الصحابي والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا إلى آخره، إذا حصرنا الأحكام الشرعية بكونها مأخوذة من القرآن فحسب، أو بكونها كلام الله فحسب حينئذ خرج كثير من الأحكام التي ثبتت بالسنة، والتي ثبتت بالإجماع، والتي ثبتت بالقياس، فحينئذ يكون هذا الحد غير جامع لأن ثم أحكام ثابتة بالسنة وهي أحكام شرعية، وثم أحكام ثابتة بالإجماع وهي أحكام شرعية، وثم أحكام ثابتة بالقياس وهي أحكام شرعية. وإذا قلنا الحكم الشرعي محصور في خطاب الله عز وجل صار الحد غير جامع. الجواب عن هذا نقول:
أولا: بالمنع، نمنع أن هذه المصادر مصادر الاقتباس للأحكام الشرعية نمنع كونها خارجة عن الحد، لماذا؟ أولا لأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى خطاب الله عز وجل، لذلك قال المصنف: والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغٌ ومبين لما حكم به " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ " أليس كذلك؟ وجميع ما في السنة داخل في قوله تععالى – كما نص أهل العلم -: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا "، " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ "، " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " إلى آخر الآيات الدالة على أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله، وعلى أنا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما جاء به الرب جل وعلا، حينئذ لا غشكال، فكل حكم شرعي ثبت بالسنة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقول: السنة كاشفة للخطاب الإلهي الأصلي، وهو كونه وحيا، لقوله تعالى " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى "، إذن كل ما ثبت في السنة فهو داخل في القرآن فلا إشكال، فإذا قيل خطاب الله يشمل السنة كما يشمل القرآن.
ما ثبت من الأحكام الشرعية بدليل الإجماع نقول: معلوم اتفاق أهل الإجماع أن الإجماع لا بد له من مستند يستند عليه، وهو كتاب أو سنة، حينئذ رجع إلى خطاب الله.
ما ثبت بالقياس نقول: هذا لا بد له من أصل يعتمد عليه القائس، الأيس كذلك؟ المجتهد الآن عندما يجتهد لا بد أن ينقل حكم المعلوم إلى الفرع المجهول، المعلوم لا بد الذي هو الأصل الذي قيس عليه، لا بد أن يكون ثابتا بدليل شرعي. فإذا ثبت بالقرآن لا إشكال، فإذا ثبت بالسنة أرجعنا السنة إلى القرآن، فإذا ثبت حكم الأصل بالإجماع أرجعنا الإجماع إلى الأصل. حينئذ نقول لا تخرج هذه المصادر عن كونها خطاب الرب جل وعلا. إذن خطاب الله شامل للسنة ومشامل للإجماع وشامل للقياس. بعضهم عدل هذه العبارة، إذا تسليم الحل، نقول: خطاب الشرع أو قضاء الشارع كما قال هنا، لكن لا نعبر بالقضاء نقول خطاب الشارع أو خطاب الشرع، وإطلاق الشارع على الله عز وجل من باب الإخبار لا من باب أنه اسم من أسمائه جل وعلا، لقوله تعالى " شرع لكم من الدين
…
"، حينئذ لا بأس من إطلاقه، فقيل الشارع هو الله ن وقيل أيضا الشارع هو النبي صلى الله عليه وسلم.
يرد إشكال فيما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له أصل في الكتاب، لأن السنة كما هو معلوم إما مؤكدة وإما مؤسسة، مؤسسة غذا قلنا " وما ينطق عن الهوى " حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في بعض المسائل فلا تكون موجودة في الكتاب، فهل النبي صلى الله عليه وسلم مشرع استقلالا؟ نقول: لا، ما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ووافق الصواب وافق الحق حينئذ نستدل بإقرار الرب جل وعلا على هذا الحق، فهو مرجوع إلى خطاب الله عز وجل، وما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وكان خلاف الأولى فحينئذ لا بد ان يأتي الوحي بالتصحيح والإرجاع إلى الصواب. لذلك لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة هل تكفر كل شيء؟ قال نعم، ثم دعا السائل فقال له: إلا الدين أخبرني به جبريل آنفا. فدل على مذا؟ النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد ثم يُصحح من السماء.
إذن (خطاب الله المتعلق)، عرفناأن المراد بخطاب الله هو كلام الله اقلرآن، وجميع المصادر الأخرى راجعة إلى القرآن، خطاب الله عز وجل متنوع، منه ما يتعلق بذاته، منه ما يتعلقبأسمائه وصفاته ن منه ما يتعلق بأفعال المكلفين ن منه ما يتعلق بذوات المكلفين، منه ما يتعلق بالجمادات، منه ما يتعلق بالبهائم، ونحو ذلك، إذن ليس على وتيرة واحدة، ما هو الحكم الشرعي من هذه المسائل كلها؟ قال:(المتعلق بفعل المكلف) هذا احترازا عن خمسة أشياء، لأن خطاب الله أنواع، فأخرج قوله (المتعلق بفعل المكلف) خطاب الله المتعلق بذاته جل وعلا كقوله تعالى " شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ "، هذا خطاب الله أم ماذا؟ خطاب الله، هل هو حكم شرعي؟ من حيث اللفظ نقول لا ليس بحكم شرعي، لأن متعلقه عند الأصوليين ليس بفعل المكلفوإنما بذاته جل وعلا فلا يسمى حكما شرعيا عند الأصوليين. خرج ما يتعلق بصفاته جل وعلا " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ "، " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى "، " وهو السميع البصير "، " إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا "، نقول هذا خطاب الله القرآن، لكن ليس متعلقا بفعل المكلف، وإنما تعلق بصفاته جل وعلا وأسمائه. الثالث ما تعلق بفعله كقوله " الله خالق كل شيء "، الرابع ما تعلق بذوات المكلفين لا بأفعال المكلفين، بذات المكلف " ولقد خلقناكم ثم صورناكم "، " خلقكم من نفس واحدة "، هذا متعلق بماذا؟ بالذات لا بالفعل الذي هو ثمرة الكسب والإرادة عن المكلف. خامسا خرج ما تعلق بالجمادات " يوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة "، نقول هذا خطاب الله هل هو حكم شرعي؟ نقول لا، في الاصطلاح ليس بحكم شرعي، لماذا؟ لأنه وإن كان خطاب الله وإن كان كلام الله غلا أنهليس متعلقا بفعل المكلف، وإنما تعلق بالجمادات. زاد بعضهم سادسا: المتعلق بالبهائم " يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ "، " والطيرُ "، قراءتان، " الطيرَ " منادى، هذا خطاب موجه إلى الطير، هل ننقول هو حكم شرعي؟ الجواب لا لأنه خطاب متعلق بالبهائم.
إذن خطاب الله انواع، كونه المتعلق بفعل المكلف أخرج الخمسة التي ذكرناها أو الستة.
ما المراد بـ (المتعلق)؟ التعلق المراد به الارتباط، يعني يأتي خطاب الله مبينا وكاشفا ورافعا لصفة فعل المكلف، هل هو مطلوب الفعل أو لا، هل هو مطلوب الترك أو لا، هل هو مأذون فيه أو لا. لأن فعلك أنت من ذهابك وإيابك، المشي القيام القعود، الكلام الاعتقاد النية،، كل الأفعال التي يمكن ان تصدر عن الإنسان نقول: هذه الإنسان ليس حرا فيها ن بل هي محكومة من سابع سماء، لماذا؟ لأنك عبد " وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون "، فحينئذ العبادة حاصرة للإنسان في كل وقته وفي كل أنفاسه، فكون خطاب الله متعلقا بمعنى أنه مرتبط ن وهذا الخطاب وهذا النص تعلقه ومفهومه ومدلوله وحديثه وكلامه عن فعل من أفعال المكلقين، من أي جهة؟ من كونه هذا الفعل هل هو مطلوب منك إيجاده، لا بد ان تتي به، على جهة الجزم أو الاستحباب، هل هو مطلوب الترك؟ لا بد أن تتركه جزما أو [ .. ]، هل أنت مخير فيه بين الفعل والترك؟
إذن (المتعلق) لا بد أن تدرك معنى المتعلق بمعنى المرتبط، وفسر بعضهم المتعلق الذي من شأنه أن يتعلق، يعني تسمية للشيء بما يؤول إليه، وهو نوع من أنواع المجاز المرسل عند البيانيين.
قال (المتعلق بفعل المكلف) هذان لفظان (فعل) و (مكلف).
من هو المكلف؟ الآدمي البالغ العاقل غير الملجئ بشرطه. م
االمقصود بفعل المكلف؟ الفعل له إطلاقان: إطلاق لغوي، وإطلاق عرفي اصطلاحي عند الأصوليين، وهو متعَلَّق الخطاب أو الحكم الشرعي عندهم.
أما في اللغة فالفعل ما يقابل القول والاعتقاد والنية. إذا نظرنا في حال الإنسان إما أن يفعل فعلا صريحا، كالسرقة والزنا – والعياذ بالله – أو يمشي أو يجلس أو يقوم فيصلي، نقول هذا فعل ظاهر صريح. وإما أن يقول قولا، وإما أن ينوي، وإما أن يعتقد اعتقادا وإما أن يترك. هذه خمسة أشياء ولا سادس لها، هذا الذي يمكن أن يصدر من الإنسان. قلنا: الفعل في اللغة ما يُقابل القول والاعتقاد والنية، إذن ما هو؟ الفعل الصريح، الفعل في اللغة هو الفعل الظاهر الصريح من الإنسان كالمشي والقيام والقعود. أما القول فلا يسمى فعلا في اللغة، وأما الاعتقاد فلا يسمى فعلا في اللغة، وأما النية فلا تسمى فعلا في اللغة. وهذا من جهة النفي في اللغة فيه إشكال لأنه ثبت في الشرع. أما في الاصطلاح عند الأصوليين والعرف فالفعل: كل ما يصدر عن المكلف، فهو فعل، وتتعلق به قدرته من قول أو فعلا او نية أو اعتقاد. أربعة أمور كلها تسمى أفعالا عند الأصوليين ن وهي محل تعلق خطاب الله تعالى للحكم الشرعي، فنقول ماذا؟ هل سميى الفعل الصريح فعلا، نقول لا إشكال فيه، لأنه متفق عليه عرفا ولغة، فالسرقة تسمى فعلا والمشي يسمى فعلا لغة واصطلاحا، هل يسمى القول فعلا؟ نقول نعم يسمى القول لغة ونفيه في اللغة هذا فيه غشكال لأنه ورد في القرآن قال جل وعلا:" زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ "، أطلق الفعل على القول، غذن يسمى القول فعلا ن هل يسمى الاعتقاد والنية هل تسمى فعلا او لا؟ نقول نعم تسمى فعلا، بدليل مؤاخذة الشرع بها، جاء في النص قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " القاتل هذا فعلا فعلا صريحا ن والمقتول ما فعل شيئا، قالوا: يار سول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ فعل فعلا صريحا فأخذ به، إذن الجزاء المترتب كونه في النار مترتب على فعل صريح أما المقتول هاذا ما فعل شيئا ن فقال صلى الله عليه وسلم:" إنه كان حريصا على قتل صاحبه ". لإذن العزم المصمم والنية الجازمة والإرادة الجازمة هذه تسمى فعلا؛ لأنه لا تكليف إلا بفعل كما سيأتي.
ما وجه الاستدلال؟
نقول: كون المؤاخذة مركبة على العزم المصمم والإرادة الجازمة، ولا غثم غلا على فعل. فحينئذ دل على أن العزم المصمم هذا فعل. ماذا بقي؟ الترك.
الترك هذا مختلف فيه عند الأصوليين، هل يسمى فعلا أم لا؟ والأصح والأرجح أنه فعل. ولذلكقال صاحب المراقي:
ولا يكلف بغير الفعل .. باعث الأنبيا ورب الفضل
فكفنا في النهي مطلوب النبي .. والكف فعل في صحيح المذهب
قال عبر عن الترك بالكف لأن الترك نوعان: مطلق ترك، ليس فيه حبس للنفس، هذا أمر عدمي لا يتعلق به التكليف، وهناك ترك مع كف نفس يعني يمنع نفسه من الداخل، فهذا يسمى كفا ويسمى تركا، لكن يسمى كفا لأنه أخص من مطلق الترك. هذا هو الذي هو متعلق التكليف، هل يسمى فعلا في الشرع وهل تترتب عليه الأحكام من جهة الثواب والعقاب أو لا؟ نقول: الصواب: نعم، والكف فعل في صحيح المذهب، الدليل على هذا من الكتاب والسنة واللغة.
أما الدليل من الكتاب فقوله جل وعلا: " كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " هو ترك التناهي عن المنكر، وهذا ترك، فسماه فعلا " لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ " والصنع أخص مطلقا من الفعل. كل صنع فعلا ولا عكس، لأن الصنع فعل وزيادة، كونه على هيئة معينة، وإذا ثبت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، حينئذ " لبئس ما كانوا يصنعون " نقول هذا أخص من مطلق الفعل، وثبوت أو إثبات الأخص يستلزم ثبوت أو إثبات الأعم.
من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده "، قال " من سلم " وهو كف الأذى، كف الأذى إسلام أو لا؟ إسلام، ترتب عليه الثواب أو لا؟ يترتب عليه الثواب، حينئذ سمي الكف فعلا، سمي إسلاما.
أما من اللغة فقول الراجز، وهو من الصحابة:
لئن قعدنا والنبي يعمل .. لذاك منا العمل المضلَّلُ
(لئن قعدنا) يعني ترك مساعدة النبي في حفر الخندق، تركنا العمل مع النبي صلى الله عليه وسلم، (لذاك منا) الذي هو القعود (العمل المضلل) فسماه الصحابي (العمل المضلل) إذن هو فعل.
إذن نقول الفعل اصطلاحا: كل ما يصدر عن المكلف وتتعلق به قدرته، لماذ تتعلق به قدرته عنا؟ احترازا من المُلجأ الذي ألجئ إلى فعل ليس له قدرة واختيار في دفعه، أُخذ برمته وألقي من أعلى الشاهق على شخص فمات، هذا يثسمى المُلجأ، هل هو قاتل؟ لا ليس بقاتل بالإجماع، بالاتفاق أنه ليس مكلفا، فليس بآثم وليس بقاتل، فحينئذ نقول: هذا الذي لم تتعلق قدرته بالفعل، غير مراد هنا بالتكليف، لو قلنا مكلف لوجب إدخاله في الحد هنا (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف). إذن الفعل في الاصطلاح هو المراد هنا في الحد: كل يصدر عن المكلف وتتعلق به قدرته من فعل أو قول أو اعتقاد أو نية أو كف. هذه خمسة اشياء.
المكلف قلنا نفسره بماذا؟ البالغ العاقل، ولا نقول المكلف من تعلق به التكليف؛ لأنه يلزم علينا الدور وهو ممتنع. من هو المكلف؟ من تعلق به الحكم الشرعي. والحكم الشرعي يتعلق بمن؟ بالمكلف، هذا يسمونه ماذا؟ الدور، وهذا ممتنع، إذا كان أحدهما لا يفسر إلا بالآخر يسمى دورا عنده.
قال (بفعل المكلف)، بعضهم يقول (بأفعال المكلفين) بالجمع، وهذا ليس بسديد، لماذا؟ لأن الحكم الشرعي قد يتعلق بفعل مكلف واحد، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، زواجه بأكثر من أربع حكم شرعي أم لا؟ حكم شرعي، هل تعلق بأفعال المكلفين؟ ها؟ لا لم يتعلق بأفعال المكلفين، وإنما تعلق بفعل مكلف واحد. كذلك ما ورد من إجزاء الـ[ .. ] لأبي بردة في الأضحية هذا خاص به ولا يتجاوز إلى غيره على قول الجمهور. حينئذ (بفعل المكلف) نقول ناتي بالواحد ولا نأتي بالجمع للدلالة على أن بعض الأحكام الشرعية قد تتعلق بفرد واحد أو بفعل مكلف واحد كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
قال (بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع) هذا ليبين لك أن الحكم الشرعي نوعان، حكم تكليفي وحكم وضعي. قوله (بالاقتضاء أو التخيير) هذا تضع بين قوسين أنه حكم تكليفي، (أو بالوضع) هذا حكم وضعي.
قوله (بالاقتضاء) هذا جار ومجرور متعلق بفوله (خطاب الله تعالى المتعلق بالاقتضاء)، أخرج ما تعلق بفعل المكلف لا من حيث أنه مكلف به وإنما من حيثية أخرى، قوله جل وعلا:" والله خلقكم وما تعملون " هذا (خطاب الله تعالى متعلق بفعل المكلف) أليس كذلك؟ إذن يصدق عليه الحد إلى هنا، لكن هل هو مطلوب الفعل أو الترك أو مخير في الفعل والترك؟ لا، وإنما من حيثية اخرى وهي الإخبار بأن أفعال العباد مخلوقة، " يعلمون ما تفعلون " هذا خطاب الله المتعلق بفعل المكلف لكن لا من حيث أنه مكلف يعني مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مخير بين الفعل والترك، وإنما من حيثية اخرى وهو أن الحفظة تعلم فعل أو أفعال المكلفين. " ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون " قالوا فيها ما قيل في الأول، إذن قوله:(بالاقتضاء أو التخيير) هذا مخرج لخطاب الله المتعلق بفعل المكلف لا من حيث غنه مكلف به بل من حيثية أخرى.
(بالاقتضاء) المراد بالاقتضاء هو الطلب، يعني يُطلب الفعل أو يُطلب الترك من المكلفين، وعليه نقول الطلب نوعان: طلب فعل إيجاد شيء، قم، افعل مثلا، طلب ترك، لا تفعل، وطلب الفعل هذا إما أن يكون على وجه الجزم أو لا. إذا طلب الشارع فعلا من المكلفين إما أن يطلبه على وجه الجزم والقطع بأن يرتب الوعيد على الترك، كقوله:" أقيموا الصلاة " نقول هذا خطاب الله تعالى متعلق بفعل المكلفين على جهة اقتضاء الطلب مع الجزم بحيث لا يجوز لهم ترك المأمور به، فإن تركوا تعلق بهم الوعيد. هذا يسمى: إيجابا. نفس النص " أقيموا الصلاة " يمسى إيجابا. طلب الفعل إن لم يكن مع جزم بأن جوز له ترك الفعل هذا يسمى ندبا والفعل الذي تعلق به الندب يسمى مندوبا. إذن هذان نوعان: إيجاب وهو حكم الشرع ن والفعل الذي تعلق به الإيجاب يسمى واجب، النوع الثاني الندب والفعل الذي تعلق به الندب يسمى مندوبا. هذا النوع الأول مطلوب الفعل.
الثاني: مطلوب الترك كقوله " لا تقربوا الزنا " هذا إما أن يكون مع الجزم أو القطع، بان رتب الوعيد والعقاب على الفعل، هذا يسمى تحريما، والفعل الذي تعلق به يسمى حراما أو محرما. فإن كان طلب الترك لا مع الجزم بأن جوز له ارتكاب الفعل ولم يرتب العقاب على الفعل هذا يسمى كراهة والفعل الذي تعلق به يسمى مكروها. إذن أربعة احكام دخلت في قوله (بالاقتضاء).
بقي الحكم الخاص، حكم تكليفي ن وهو الإباحة دخل بقوله (أو التخيير)، و (أو) هذه للتنويع والتقسيم وليست للشك، لأن (أو) التي للشك لا يجوز إدخالها في الحدود.
ولا يجوز في الحدود ذكر أو .. وجائز في الرسم فادرِ ما رووا
حينئذ نقول (أو) هذه للتنويع والتقسيم، (أو التنخيير) يعني استواء الطرفين؛ إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل، نقول هذا حد الإباحة، إذن بهاتين الكلمتين (بالاقتضاء أو التخيير) نقول: شمل الحكمَ التكليفي بأنواعه الخمسة، أدخل الحكم التكليفي بأقسامه الخمسة. الحكم التكليفي – كما سيأتي – بالاتفاق أنه يشمل الإيجاب والتحريم، هذا لا إشكال فيه، وإنما وقع نزاع في الندب والكراهية، هل هما من الحكام التكليفية أم لا؟ الصواب أنهما من الأحكام التكليفية وسيأتي.
الحكم الخامس وهو الإباحة، هل هو حكم تكليفي أم لا؟ يكاد يكون إجماع أنه ليس بحكم تكليفي، إذن إذا لم يكن حكما تكليفيا لماذا أدخله في حد الحكم الشرعي؟ هو حكم شرعي وليس بحكم تكليفي، ولذلك يتنبه طالب العلم أن نفي الأصوليين عن الإباحة كونها حكما تكليفيا لا يلزم من ذلك أن تكون الإباحة ليست حكما شرعيا، بل هي حكم شرعي، وحديثنا الآن في التعريف هل هو من حيث الحكم الشرعي التكليفي فقط أم الحكم الشرعي من حيث هو؟ الحكم الشرعي من حيث هو، حينئذ نقول: إدخال التخيير هنا والمراد به الإباحة لا إشكال فيه أما عدها دون ذكرها في الحد يعني هكذا لو قال قائل: الأحكام التكليفية خمسة، دون النظر إلى حد الحكم الشرعي، فقال خمسة: الإيجاب وكذا وكذا والإباحة، نقول: ذكر الإباحة في ضمن الأحكام التكليفية هذا من باب التسامح والتوسع في العبارة، هكذا ذكر بعضهم، وبعضهم يرى – وهو أحسن – أن الأحكام التكليفية ذُكر فيها الإباحة لن متعلق الإباحة هو المكلف، لأن البهيمة فعلها لا يوصف بكونه مباحا، المجنون الذي لا يتعلق به التكليف لا يسمى فعله مباحا، وإنما هي حكم شرعي، وحينئذ إذا كانت حكما شرعيا كانت خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، والمجنون ليس مكلفا، ففعله ليس مباحا، والصبي بنوعيه المميز وغير المميز ليس مكلفا إذن فعله ليس مباحا، إذن ذُكرت ليس من باب التسامح والتوسع والتساهل، وإنما لكون متعلق الإباحة فعل المكلف، فبالنظر لهذه العلة ذُكرت ضمن أحكام الشرع التكليفية.
(أو بالوضع) هذا لذكر الحكم الثاني وهو الوضع ن المراد بالوضع الجعل، وهو كون الشرع وضع علامة للدلالة على شيء آخر، لكونه إما سببا له، أو شرطا له، أو مانعا، أو كون الفعل صحيحا أو فاسدا، أو وُصف بالأداء أو بالقضاء أو بالإعادة كما يعبر بعضهم ويعمم الحكم الشرعي الوضعي. ولكن اتفق الأصوليونن على أن الأسباب والشروط والموانع أحكام تكليفية، هذا باتفاق، واختلفوا في الصحة والفساد والقضاء والرخصة والعزيمة والأداء والإعادة، هذه أحكام تكليفية ام لا؟ والصواب أنها ليست أحكاما تكليفية وإنما محصورة في الثلاثة كما سيأتي بيانه.
إذن عرفنا الخلاصة أن الحكم الشرعي قسمان: حكم شرعي تكليفي، وهذا يدخل تحته خمسة أحكام، وحكم شرعي وضعي، هذا يدخل تحته ثلاثة أقسام: الشروط والأسباب والموانع.
ثم خطاب الوضع هو الواردُ
…
بأن هذا مانع أو فاسد
أو ضده أو أنه قد أوجبا .. شرطا يكون أو يكون سببا
كون الزوال سببا لوجوب الصلاة، نقول هذا حكم وضعي لماذا؟ لأنه لست مكلفا بتحصيل الزوال، هل هو كإيجاب الصلاة وإيجاب الزكاة ونحوها؟ نقول لا، ليسا متساويين، المراد بالحكم الشرعي التكليفي أن يكون الفعل صادرا من المكلف، أن يسعى المكلف في تحصيل ما أمر به أو نهي عنه، أما الحكم الشرعي الوضعي فهذا من وضع الرب جل وعلا، هذا من وضع الرب جل وعلا، كون الحيض مانعا من الصلاة نقول هذا حكم وضعي، إذا وُجد الحيض مُنعت المرأة من اصلاة، غذن هو مانع أو سبب أو شرط؟ نقول: مانع. هل بيدها أن تأتي بالحيض؟ لا ليس بيدها هذا هو الأصل، إذن جُعل الحيض علامة من الرب، إذا وجد هذا السبب الذي هو من فعل الرب جل وعلا أول إذا وُجد ترتب عليه الحكم التكليفي وهو تحريم والصوم. إذن هذا هو حد الحكم الشرعي عند الأصوليين ن وهو أولى ما يُذكر من الدود وعليه جماهير الأصوليين، بأنه (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع).
هنا قال أنه (قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نُطقا أو استنباطا) وهذا كما ذكرتُ سابقا أنه يميل إلى حد الحكم الشرعي عند الفقهاء، يعني يميل إلى مذهب الفقهاء، وأولى ما يُعرف به مذهب الفقهاء بأنه مدلول خطاب الشرع، فرق بين أن يُقال: الحكم الشرعي خطاب الشرع، وبين أن يقال الحكم الشرعي مدلول خطاب الشرع.
هنا قال: والحكم قيل فيه حدود أسلمها من النقض والاضطراب أنه قضاء الشارع، أتي بقضاء لماذا؟ لإظهار المناسبة بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي. ذكرنا أن القضاء يسمى قضاء لمنعه، إذن وُجد المعنى اللغوي في المعنى الاصطلاحي، وهذا لا بد من ذكره، ليس ثم تباين وتغاير تام بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، ليس بينهما تغاير أبدا، فإما أن يأتي العرف فيخصص أو يعمم، وإما أن يأتي الشرع فيخصص أو يعمم، والأكثر التخصيص، الأكثر أن يكون اللفظ في اللغة معناه عاما ثم يأتي الشرع فيخصص إلا في مسألة واحدة وهي مسألة الإيمان، معناه لغة التصديق، لكن معناه في الشرع مركب من ثلاثة أركان، يعني ليس الإيمان الشرعي هو تصديق القلب فحسب، بل جعل هو ركن وجعل القول ركن وجعل العمل الظاهر ركن في الإيمان فإذا فات واحد من هذه الأركان فات الإيمان على مذهب أهل السنة والجماعة.
قال: (قضاء الشارع) إذا أتى بقوله قضاء للدلالة على العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، قضاء الشارع المراد به حكم الشارع، وذكرنا أنه إذا قيل حكم الله في المسالة بالوجوب بمعنى أنه قضى فيها بالوجوب ومنع من المخالفة، قضاء الشارع نقول فيه أنه جرى على الحكم عند الفقهاء من أنه أثر خطاب ومدلوله وليس الخطاب نفسه كما هو عند جمهور الأصوليين، فكأنه فصل وميز بين الدليل الشرعي وبين الحكم الشرعي الذي دل عليه ذلك الدليل، إذن " أقيموا الصلاة " عند الفقهاء دليل وليس بحكم، وجوب الصلاة مدلول ذلك الدليل وليس بدليل، وأما عند الأصوليين " أقيموا الصلاة " هذا حكم شرعي وهو الدليل نفسه. لإذن اتحد الدليل والمدلول عند الأصوليين، (قضاء الشارع) قلنا أضاف الشارع لما ذكرناه في خطاب الله عز وجل، للدلالة على أنه لا حكم إلا لله عز وجل، وأكثر ما قيل في ذاك الحد قاله هنا. والشارع هذا قلنا يستعمل استعمال الأخبار يعني ليس اسما من أسماء الله عز وجل، ويجوز إطلاقه على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أيضا مشرع من حيث إنه موافق لخطاب الرب جل وعلا وليس بخارج عنه.
قضاء الشارع على المعلوم: يعني على شيء معلوم، معلوم هذا عند الأصوليين كما سيأتي أنه لفظ عام لا أعم منه، يعني إذا قيل اللفظ منه خاص ومنه عام، ثمَّ خاص لا أخص منه، وثم عام لا أعم منه، أعلى كلمة يدخل تحتها ساشر الموجودات، قالوا لفظ المعلوم، لأنه يشمل المعدوم والموجود، وكل ما وُجد فهو داخل تحت لفظ الموجود، والمعدوم كل ما ليس بموجود، إذن المعلوم يشمل الموجود والمعدوم، أليس كذلك؟ لذلك نقول: الله يعلم ما كان وما يكون وما سيكون لأن متعلق العلم أعم.
(على المعلوم) يعني على شيء معلوم وجودات وعدما، على شيء معلم وجودا وعدما، لأن المعلوم عام لا أعم منه فيشمل الموجود الآن ومن سيوجد، فيشمل المكلف بالفعل والمكلف بالقوة، لو قال متعلق بفعل المكلفين لكان أولى من فعل المعلوم، أيهما أوضح؟ الأول، وليس بهذا، هو يقول أسلمها من النقض والاضطراب، نقول هذا فيه نوع إيهام لماذا؟ لأن المعلوم هذا يحتاج إلى تأمل أكثر من قوله المتعلق بأفعال المكلفين. إذن (على المعلوم) قلنا يشمل الموجود والمعدوم، يعني المكلف بالفعل والمكلف بالقوة، الوصف للشيء عند أهل المنطق ونحوهم قد يوصف كونه موجودا بالفعل، وقد يوصف كونه موجودا بالقوة، كيف؟ قالوا بالفعل يعني أنه الآن متصف بهذا الوصف، أنت جالس أليس كذلك؟ هو الآن متصف بصفة الجلوس، طيب الآن صفة الجلوس كائنة فيه، أليس كذلك؟ نقول هو جالس بالفعل، وهو أيضا في نفس الوقت قائم، تصدقون؟ نعم صحيح، هو قائم لأنه قائم بالقوة، لأنه لو أراد أن يقوم الآن قام مباشرة، يعني لا يمتنع أن يقوم، حينئذ وصف بالقيام بالقوة لأنه لو أراد ووُجدت النية وانتفى المانع لصار قائما، وكونه متصفا بالجلوس نقول هذا بالفعل، أنت الآن مستيقظ لأنه الآن مستيقظ وليس بنائم، لكنك نائم بالقوة [يضحك الشيخ]، لأنه ينام لو أراد أن ينام.
إذن قوله (على المعلوم) يشمل الموجود والمعدوم، يعني يشمل المكلف بالفعل والمكلف بالقوة، المكلف بالقوة مثل المعدوم الذي سيولد فإذا استجمع شروط التكليف صار مكلفا. الطبيب مكلف أو لا؟ هو موجود مخلوق، مكلف أو لا؟ إن قلت مكلف أخطأت، إن قلت غير مكلف أخطأت، على الكلام هذا، فنقول هو ليس مكلفا بالفعل وهو مكلف بالقوة، لأن مآله أن [
…
] ز
(على المعلوم بأمر ما) هذا متعلق بفوله (قضاء لأمر ما) هذا يريد ما ذكرناه أولا (بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع) وذاك أوضح من هذا التعريف (بأمر ما) نقول أنها نكرة صفة أي بأمر، أي أمر، وهذا الأمر على ما ذكرناه سابقا، إما طلب أو تخيير أو وضع، والطلب إما طلب فعل وإما طلب ترك، وكل منهما إما جازم أو ليس بجازم. إذن قوله 0 بأمر ما) أراد أن يوضح التعريف واختار تعريف أسلم وأوضح من ذلك التعريف المشهور فأتى بهذه العبارة، إذن نقول هو نفسه بهذه العبارة ليس سالما من النقض والاضطراب. (بامر ما) إذن فهو شامل لنوعي الحكم الشرعي التكليفي والوضعي، (نطقا أو استنباطا) هذا حال قوله (قضاء الشارع) أو تمييز. قضاء الشارع - حكم الشارع: قد يكون ماخوذا من نطق، يعني دلالة الللفظ على الحكم الشرعي منطوقة، " فلا تقل أف " تحريم التأفيف مأخوذ من النص ما دل عليه اللفظ في محله، نقول هذا تحريم للتأفيف مأخوذ من النص. طيب ضرب الوالدين محرم أو لا؟ محرم لا إشكال بل هو أولى بالتحريم من التأفيف. ما الدليل عليه؟ نفس الآية " فلا تقل لهما أف " من جهة الاستنباط من جهة التأمل من جهة التدبر من جهة قياس الضرب على التأفيف من باب الأولى أو ما يسمى بقياس الأولى نظرنا فيه فاستنبطنا من هذا الدليل ماذا؟ تحريم التأفيف دل عليه قوله " فلا تقل لهما أف " نطقا، وتحريم الضرب - وهو من باب أولى - دل عليه قوله تعالى "فلا تقل لهما أف " استنباطا. إذن الحكم الشرعي قد يكون مأخوذا من النطق وقد يكون ماخوذا من الاستنباط. إذن قوله (قضاء الشارع على المعلوم بأمر ما نطقا أو استنباطا) نقول الأولى ما ذكرنا سابقا.
إذا عرفنا الحكم الشرعي عن الفقهاء، من هو الحاكم؟ هو الله سبحانه وتعالى، لا حاكم سواه " والله يحكم لا معقب لحكمه "، " إن الحكم إلا لله "." إن الحكم " هذه نافية بمنزلة (ما) نافية تحل محلها، إلا إذا وقعت في جواب ما أفادت القصر والحصر. " إن الحكم إلا لله " يعني ما الحكم إلا لله، فإثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، وهذه أعلى صيغ الحصر (ما) و (إلا)، لذلك قيل الحصر مفهوم منه من النطق، وسيأتي. هو الله سبحانه لا حاكم سواه، يرد عليه ما ذكرناه سابقا، وهو السنة النبوية، والإجماع، والقياس، قال: والرسول صلى الله عليه وسلم، هذا جواتب سؤال مقدر، (الواو) هذه تسمى عند أهل البيان للاستنئناف البياني، وهو ما كان واقعا في جواب سؤال مقدر، يعني المصنف يستحضر سؤال، فإذا قال الحاكم هو الله عز وجل، طيب والرسول صلى الله عليه وسلم؟ الأحام المتلقاة من السنة؟ فيستحضر في ذهنه هذا السؤال فيجيب، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ " إن عليك إلا البلاغ " مبلغ عن الله عز وجل، ومبين للتشريع، لما حكم به سبحانه، إذن " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم "، إذن هو مبين عليه الصلاة والسلام، فإن حكم باجتهاد نقول أقره الرب جل وعلا، " وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى ". (والمحكوم عليه) عرفنا الحاكم عرفنا الحكم، والحاكم، بقي المحكوم عليه قال هو المكلف، المكلف اسم مفعول من كُلِّف يُكلف، فهو مكلف، مشتق من التكليف والتكليف من التفعيل، كلف يكلف تكليفا، كـ علم يعلم تعليما، والتكليف في اللغة عندهم إلزام ما فيه مشقة وكلفة:
تكلفني ليلا قد شق وليها ..... وعادت عوادٍ بيننا وخطوب.
يكلفه القوم ما نابهم .. وإن كان أصغرهم مولدا.
إذن التكليف في اللغة إلزام ما فيه مشقة، فإلزام الشيء والإلزام به هو تصييره لازما لغيره، لا ينفك عنه مطلقا أو لا ينفك عنه في وقت ما. هذا في اللغة، وأما في الاصطلاح فعبارات الأصوليين مختلفة ومضطربة، سبب الاضطراب أنهم اتفقوا على أن الإيجاب والتحريم حكمان تكليفيان، هذا متفق عليه ن فمن اقتصر على هذين النوعين أراد أن ياتي بحد يشمل النوعين فقط ويخرج الكراهة والندب والإباحة، ومن يرى أن الإباحة والندب والكراهة أحكاما تكليفية اراد أن يأتي بحد يشمل الخمس. من أراد قصرها على الأربعة دون الإباحة اراد أن يأتي بحد يشمل الربعة دون الإباحة ن فحينئذ تكون التعاريف مختلفة لهذا السبب، فقال بعضهم: التكليف اصطلاحا هو طلب ما فيه مشقة، الإباحة هل فيها طلب؟ ليس فيها طلب لا طلب فعل ولا ترك، إذن خرجت الإباحة بقوله طلب ما فيه مشقة. خرجت الإباحة لأنه ليس فيها طلب. قلنا الطلب كم نوع؟ طلب فعل، وطلب ترك، وطلب الفعل نوعان: مع الجزم، ولا مع الجزم، وطلب الترك نوعان: مع الجزم، ولا مع الجزم، هذه أربعة. أخرج الإباحة وقصر الحكم التكليفي على الإيجاب والتحريم والندب والكراهة، الحد الثاني قال التكليف (إلزام ما فيه مشقة) إذن جزم (لا مع الجزم) خرج بقوله إلا، خرجت الإباحة ليست فيها إلزام، وخرجت الكراهة ليس فيها إلزام، والندب ليس فيه إلزام، إذن اقتصر هذا الحد على ماذا؟ على الإيجاب والتحريم، إذن هذا الخلاف في التعريف لليس خلافا هكذا جاء، وإنما لخلاف سابق، وهخل المندوب مكلف به أم لا، وهل المكروه مكلف به أو لا، الجمهور على عدم التكليف لذلك قال السيوطي:
وليس مندوب وكره في الأصح
…
مكلفا ولا المباح فرجح
بحده إلزام ذي الكلفة لا طلبه
المرجح ما هو عند الجمهور؟ (إلزام ما فيه مشقة) لأن المندوب ليس مكلفا به والمكروه ليس مكلفا والمباح مكلفا به حينئذ يقتصر الحكم على الإيجاب والتحريم.
وليس مندوب وكره في الأصح
…
مكلفا ولا المباح فرجح
إذا [
…
] لذلك ربط لك الحدود بالخلاف السابق، إذا تبين أن المندوب ليس بحكم تكليفي وكذلك المكروه وكذلك المباح. (فرجح، في حده) الذي هو التكليف، (إلزام ما ذي الكلفة لا طلبه)، إذن (إلزام ما فيه مشقة) هو الراجح، و (طلب ما فيه مشقة) هو الأرجح [كذا قال الشيخ ولعله يريد المرجوح]، ونقول الصواب العكس، أن طلب ما فيه مشقة هو الأرجح، وإلزام ما فيه مشقة هو المرجوح، والصواب أن المندوب مكلف به وأن الكراهة مكلف بها ن فهما حكمان تكليفيان، وأما المباح فليس حكما تكليفيا، إذن عرفنا تعريف التكليف وهو: إلزام الذي يشق .. أو طلب فاه بكل الخلق.
لكن إذا قيل المندوب هو مكلف به أم لا، وهل المكروه مكلف به أم لا، لا ينبني عليه حكم عملي، وإنما هو خلاف تنظيري تقريري، يعني في تأصيل المسائل، يعني خلاف لفظي، ولذلك قال:
وهو إلزام الذي يشق .. أو طلب فاه بكل الخلق
لكنه ليس يفيد فرعا .. فلا تضق لفقد فرع ذرعا
هكذا قال صاحب المراقي.
(لكنه) يعني في التكليف (ليس يفيد فرعا) لا ينبني عليه حكم من الأحكام العملية، وإنما هو خلاف في التأصيل فقط، خلاف في التأصيل، والمحكوم عليه هو المكلف، من هو المكلف؟ نقول من تعلق به التكليف، متى يُحكم على الشخص بكونه مكلفا؟ نقول شرط المكلف بالفعل أمران، يعني لا يكون الآدمي مكلفا إلا بوجود شرطين اثنين لا ثالث لهما على الأصح: وهما العقل وفهم الخطاب. المسائل المتعلقة بهذا المبحث طويلة وكثيرة ومتفرعة جدا، لكن نقتصر اقتصارا غير مخل بإذن الله، نقول: العقل وفهم الخطاب. ما المراد بالعقل؟ آلة التمييز والإدراك. ما يُدرك به الإنسان يسمى عقلا، قيل سمي عقلا من العقل، يعني المنع، لأنه يمنع صاحبه عن سفاسف الأمور، كما قيل في الحكمة هناك، العقل هو آلة الإدراك، آلة الإدراك والتمييز، لأن العاقل إذا اتصف بهذه الآلة ميز بين حقائق الأمور، أدرك معنى المساء ومعنى الأرض ومعنى الماء البارد وميز بين الحق والباطل والجيد والردئ إلى آخره، بواسطة هذه الآلة.
(فهم الخطاب) المراد بالفهم إدراك الكلام هذا هو الفهم كما ذكرناه بالأمس، الفهعم في اللغة هو إدراك معنى الكلام، إذا أدرك المخاطب معنى الكلام، ما الذي يريده المتكلم بهذا الكلام على وجه التمام نقول هذا قد فهم الخطاب، والخطاب المراد به خطاب الشرع لأن بحثنا في الشرعيات. أجمع العلماء على اشتراط العقل في التكليف، هذا باتفاق. لماذا اشترط الصوليون هذين الشرطين؟ لأن التكليف خطاب كما سبق، حكم الشرع خطاب من الله عز وجل، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، تجلس تتحدث مع مجنون؟! تأخذ وتعطي معه تدعوه في بيتك؟! ما يمكن هذا، محال. لمذا؟ لأن من لا عقل له هذا لا يمكن أن يُخاطب. كذلك من لا يفهم هذا لا يمكن أن يخاطب، وإذا كان الله قد شرع العبادات لحكم ومصالح عظيمة حينئذ لا بد أن يكون المكلف عاقلا فاهما للخطاب. إذن نقول: لأن التكليف خطاب وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال، أيضا قالوا لأن المكلف به مطلوب حصوله من المكلف طاعة وامتثالا، إذا أمر الله عز وجل كما قيل في تعريف التكليف عند بعضهم: خطاب بامر أو نهي - إذا أما أنك مأمور أمر إيجاب أو استحباب، أو أنك منهي نهي تحريم أو كراهة. ما المطلوب بهذا الأمر وبهذا النهي؟ الطاعة والامتثال لأنه مأمور، والمأمور إنما يُتصور بعد الفهم، لا يمكن ان يمتثل ما أمر به إلا إذا فهم المأمور، ومن لا فهم له لا يمكن أن يقول له افهم ن هو ما يفهم، هناك لا يمكن أن تأتي برضيع تقول له " وأقيموا الصلاة "! لأنه لا يفهم، لو قيل له افهم يتعذر أن يفهم، لذلك ارتفعه عنه التكليف. هذان شرطان: العقل وفهم الخطاب.
العقل أخرج المجنون فالمجنون حينئذ ليس مكلفا بالإجماع لفقد ما ذكر ولدليل قوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث وذكر منهم المجنون حتى يفيق، فإن اعترض على هذا بتعلق قيم المتلفات وأروش الجنايات ووجوب الزكاة بمال المجنون أجبنا بأن هذا من قبيل الحكم الوضعي لا التكليفي ن والذي يشترط فيه العقل وفهم الخطاب هو الحكم التكليفي لا الوضعي، المكلف هنا المراد به المكلف بالحكم التكيفي الذي هو الإيجاب والتحريم، أما الحكم الوضعي فحينئذ هذا لا شترط له عقل ولا فهم الخطاب، ولذلك تجب الزكاة في مال المجنون، كيف وجبت؟ نقول هذا من ربط الأحكامك بأسبابها وهو من قبيل الحكم الوضعي، إذن إذا ورد اعتراض عليك بكون المجنون قد تتعلق به بعض الأحكام كقيم المتلفات، لو خرج مجنون وكسر الزجاج وفعل كذا وكذا، آثم؟ ليس بآثم، هل يضمن؟ نعم يضمن، كيف ضمنته وقد نفيت عنه الإثم؟ نقول الإثم مترتب على التحريم وهذا مرفوع عنه لأنه غير مكلف بالتحريم وكونه قد أتلف وجنى ترتبت قيم المتلفات واروش الجنيات لأنه من ربط الأحكام بأسبابها، وجد السبب كما إذا قيل غذا زالت الشمس وجبت عليكم صلاة الظهر، هذا حكم تكليفي مربوط بزوال الشمس، إذا المجنون أتلف، تعلق بوليه قيم المتلفات ن حينئذ الاعتراض بهذا لا وجه له، فنقول المجنو ليس مكلفا بدليل السنة والتعليل لا نحتاج إليه.
(فهم خطاب) هذا أخرج الصبي لأن الصبي نوعان: مميز وغير مميز، والضابط اختلف فيه الأصوليون، هل يميز بين النوعين بالصفة أو بالسن؟ على خلاف، منهم من قال بصالفة، يعني إذا بدا يفهم الخطاب [
…
] إذا استطاع أن تقول ويرد، فيأخذ ويعطي معك، تقول هذا يفهم، إذا أراد أيوه أن يختبره فقال اشترِ دجاجا فذهب واشتراه نقول هذا صار مميزا، لو قلت له اشترِ عيشا فراح واشترى ببسي؟! ماذا نقول؟! نقول هذا غير مميز، إذن هذا إذا جعل الفرق بين المميز وغير المميز بالوصف. أن يفهم، إذن لا يُحد بسن، قد يكون صاحب 5 سنين أو من صاحب 7 سنين أو 10 ولا إشكال.
بعضهم رأى ان يضبط بالسن وهذا أولى واحسن لورود السنة، أولا يضبط بالسن لأن السن معيار يمكن أن يضبط به دون الوصف، لأن قد يختلفون الناس، قد يقول فلان هذا الصبي قد يفهم ويرد، أو أنه قد اتصف بصفة ميزته عن الصبي غير المميز، يختلف الناس في هذا ن لكنه بلوغه سبع سنين هذا لا يختلف فيه أحد، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع " فلما علق الشرع الأمر بالصلاة وهي عبادة من أهم العبادات بعد التوحيد علقها بتمام سبع دل على أن السن هذا معتبر شرعا، فحينئذ الأولى، قد يقول قائل: الحديث لا يدل، نقول الحديث فيه إشارة ولو نوعا ما، والقول بالوصف لا دليل عليه من الكتاب السنة، فتعليق الحكم بمنا يحتمل أنه مراد من الحديث أولى من تعليقه بما لا دليل عليه أصلا، حينئذ نقول: الفرق بين المميز وغير المميز هو سن سبع سنين، يعني إذا تمت السابعة ودخل في الثامن فهذا مميز. كما الذي ينبني عليه؟ ينبني عليه أنه دون التمييز ليس مكلفا بالإجماع، فلو صلة لا تصح صلاته أصلا ن ولا يصح أن يصف بين الصفوف في الصلاة، وأما إذا بلغ 7 سنين ففيه خلاف في تكليفه والجمهور على أنه ليس مكلفا، إذا الصبي غير المميز ليس مكلفا بالإجماع، والصبي المميز هذا ليس مكلفا على مذهب الجماهير، لأن بعضهم كالإمام أحمد يرى أنه مكلف إذا بلغ العاشرة لأنه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث " واضربوهم عليها لعشر " فدل على أن العشر موضوع تكليف لأنه علق عليه الضرب وهو عقاب ولا عقاب إلا على ترك واجب، ولا واجب إلا متعلق بمكلف، حينئذ من يلغ العشر فهو مكلف، والجواب عن هذا أن يُقال عند الجماهير - وهو الأصح - أن الضرب هنا ضرب تأديب وليست عقوبة على واجب، وإنما الأمر " مروهم بالصلاة لسبع " من باب التحبيب والتعويد على الصلاة والمخاطب هنا أولياء الأمور، إذن نقول الصواب أن الصبي ليس مكلفا، لماذا؟ لأنه لا فهم له، غير المميز لا عقل له، والمييز قد يوجد عنده عقل لكنه ليس ذا فهم تام، ولو وجد نوع فهم فغنه غير تام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاث " وذكر منهم " عن الصبي " نسبة إلى الصبا وهو من الولادة إلى البلوغ، قال " حتى يكبر " وفي رواية " حتى يحتلم "، وفي رواية " حتى يبلغ "، إذن الصبي مرفوع عنه قلم التكليف. حينئذ نقول الأصح أنه ليس مكلفا، إذن نقول الصبي والمجنون غير مكلفين؛ لأن مقتضى التكليف الطاعة والامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف لأن القصد إنما يكون بعد الفهم. والأولى أن يعلل بثبوت السنة، إذا وردحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو أولى من التعليلات. إذن نقول المحكوم عليه وهو المكلف لا بد أن يكون متوفرا فيه شرطان وهما العقل وفهم الخطاب. كلما فقد العقل نقول ارتفع التكليف، وكلما فقد فهم الخطاب ارتفع التكليف، ولذلك نقول الأصح في الناسي والساهي والغافل ماذا؟ عدم التكليف، هذا هو الصواب لعدم فهم الخطاب.
لأن الخطاب إذا قيل " وأقيموا الصلاة " وهذا نائم، هل هو فاهمل للخطاب أو لا؟ لا يفهم، هو نائم ويشترط في الإفهام أن يكون المخاطب سامعا، وهذا ليس بسامع، إذن فيما ذكر نقول الأصح عدم التكليف. يرد الإشكال:" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "، هذا قضاء ولا قضاء إلا لترك واجب. إذن هو مكلف وقت النوم، نقول الصواب أنه مخاطب خطاب أداء في ذلك الوقت، لذلك جاء في بعض الروايات:" وذلك وقتها " فالذي ينام عن الصلاة وقد خرج الوقت ثم قام فصلى الأصح أنه يصلي أداء لا قضاء، ثم يقال هذا من باب ربط الوجوب بسببه، إذا انعقد السبب، حينئذ إما أن يؤدى في وقته وإما أن يتعلق به إلى أن يستيقظ فحينئذ يكون مخاطبا بالأداء لا بالقضاء.
أما المُكره فهذا نوعان عند أهل العلم، الذي يعبر عنه بالمُلجأ، الذي سلب القدرة كأن يحمل ويلقى من شاهق، هذا يسمى الملجأ يعني الذي سلب القدرة والاختيار، ليس له أي قدرة وليس له أي اختيار في الفعل. هذا بالإجماع أنه غير مكلف. ولذلك لو أخذ الشخص وألقي من شاهق على شخص آخر فمات فلا يضمن، ليس آثما، غير مكلف، وهذا بالإجماع، أما من بقي معه قدرته واختياره كأن قيل له افعل هذا الشيء وإلا قتلناك، إذن هو لم يُكبل، هو بقي باختياره يمشي ويقوم ويجلس، حينئذ نقول قد أُكره، يعني حمل على شيء لا يرضاه، هذا المكره الذي قيل له هذه العبارة نقول هذا له أحوال، إما أن يكون الإكراه على القول: قولا واحدا ليس بمكلف لقوله تعالى " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان "، فإذا عفي عنه للإكراه - وهو قول هنا - في كلمة الكفر فما دونها من باب أولى وأحرى، لو أكره قيل له سب الله - والعياذ بالله - أو سب النبي صلى الله عليه وسلم أو سب زيد أو عُبيد من الناس، نقول هذا قول محرم، فإذا أكره عليه خينئذ نقول لا تكليف، للدليل السابق أنه إذا أكره عن كلمة الكفر ورفع عنه التكليف فمن باب أولى وأحرى أن ما دون ذلك ألا يكون مكلفا، هذا في القول. أما الفعل فهذا يفصل فيه: إما أن يكونفعلا متعلقا بحق الله عز وجل أو متعلقا بحق الآخرين. ما كان متعلقا بحق الله عز وجل كما لو أكمره الصائم على الإفطار، نقول له أفطر وأنت لست مكلفا لأن هذا الفعل متعلق بحق الله عز وجل، ومعلوم أن مبناها على المسامحة لا المشاحة. أما الفعل المتعلق بحق الآخر: اقتل زيدا وإلا قتلناك الأصح مع وجود الخلاف أنه مكلف، ولا يجوز له أن يثقدم على قتل غيره حفظا لنفسه، لوجود شرطي التكليف وهما: العقل وفهم الخطاب، ولذلك الأصح عند الكثيرين أنه لا يشترط على هذين الشرطين الاختيار. إذن ثم فرق بين المكره المُلجأ الذي فقد القدرة وسلب الاختيار كمن كبل وأدخل بيتا وقد حلف ألا يدخله، نقول هذا غير مكلف بالإجماع، وبين المكره الذي لم يصل إلى تلك الدرجة وإنما له نوع اختيار ونوع قدرة، نقول هذا نفصل فيه من جهة القول والفعل، فما كان قولا فهو ليس مكلفا به بل هو معفو عنه، ومن كان فعلا متعلقا بالله عز وجل فهو معفو عنه ليس مكلفا، ما كان متعلقا بحق الآخرين حينئذ نقف ونقول هو مكلف وذلك قرره ابن القيم رحمه الله في مواضع عديدة، والمحكوم عليه هو المكلف.
يبقى مسالة واحدة ونختم بها: الفعل الذي كُلف به. عرفنا المكلف، من هو؟ العاقل البالغ غير الُملجأ والذاكر غير الناسي، طيب الفعل الذي كُلف به ن هل كل فعل يكلف به؟ الجواب لا، يُشترط فيه ثلاثة شروط:
أولا: أن يكون الفعل معلوما، أما غير المعلوم هذا لا يمكن أن يفعله، ولذلك يشترط في تنزيل الأحكام عند أهل العلم أن يكون عالما " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " لماذا؟ لأن شرط التعذيب والثواب العلمُ، لا عقاب إلا بعد علم، ولا ثواب إلا بعد علم.
الثاني: أن يكون معدوما، يعني غير موجود، الإنسان مخاطب بصلاة ظهر في يومه هذا مثلا بصلاة واحدة، إذا صلى، هل يخاطب مرة أخرى فيقال له صل الظهر؟ لا يمكن هذا محال، لماذا؟ وُجد، وإيجاد الوجود تحصيل حاصل وهو محال، لا يمكن أن يصلي مرة ثانية، ولو أعاد الصلاة ولم يكن ثمة خلل في الصلاة الأولى تكون الثانية نافلة، لو أعاد مئة مرة نقول هذه الثانية نافلة، لأنه لو اراد أن يعيد الظهر ظهرا امتنع عليه، لأن من باب تحصيل الحاصل وهو محال.
الثالث: أن يكون ممكنا مقدورا عليه ن ولذلك لا تكليف بمحال على الأصح " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها "، " فاتقوا الله ما استطعتم "، " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "، هذه شروط الفعل المكلف به.
ثم قال (والأحكام قسمان) سيتكلم عن تفصيل الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية.
وسيأتي غدا بإذن الله تعالى.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد.