الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* المندوب
* المحظور.
الدرس الرابع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا زال الحديث في بيان الأحكام التكليفية التي ذكر المصنف (رحمه الله تعالى أنها خمس) وبدأ بالواجب، وذكرنا أن الواجب هنا ليس هو قسما من أقسام الأحكام وإنما هو فعل المكلف، تعلق به الإيجاب فهو من متعلقات الحكم وليس من أقسامه، وقد وهمت بالأمس وعرفت الإيجاب بأنه ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، وهذا ليس بصحيح بل هو وَهَم، وإنما نقول الإيجاب هو الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء جازما، لأن الإيجاب هو نفسه الخطاب، فذكرت أن تعريفه ما طلب الشارع، هذا هو الحق، فنقول: ماذكره المصنف هنا، قوله:"واجب يقتضي الثواب على الفعل والعقاب على الترك" نقول هذا التعريف بالثمرة واللازم والحكم، والثمرة واللازم والحكم هذه فرع، والحكم على الشيء نقول فرع عن تصوره، إذن ما تصور حقيقة الواجب الذي هو فعل المكلف؟ نقول:"ما طلب الشارع فعله طلبا جازما" إذن الواجب الذي هو صفة فعل المكلف له حكم وله حقيقة، حقيقته تدرك بالحد والتعريف، تعريفه: نقول: "ما طلب الشارع فعله طلبا جازما".
(ما): هذه اسم موصول بمعنى (الذي) يصدق على فعل المكلف، حينئذ يكون جنسا، بمعنى أنه تدخل فيه الأحكام التكليفية الخمسة، (طلب): خرج من قوله (ما) الذي هو جنس الإباحة أو المباح، لماذا؟ لأنه لا طلب فيها، "طلب الشارع فعله" خرج المكروه والمحرم، لأن الشارع طلب تركه، بقي معنا المندوب، حينئذ نقول:"طلبا جازما" بمعنى أنه لا يجوز له الترك، بأن رتب العقاب على ترك الفعل فخرج به المندوب، هذا هو حقيقة الواجب الذي هو صفة فعل المكلف "ما طلب الشارع فعله" حكمه، ثمرته، نقول ما يثاب على فعله امتثالا ويعاقب على تركه، أما الإيجاب الذي هو صفة الطاعات، الذي هو القرآن نفسه، الذي هو صفة الحاكم، نقول "الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء جازما"، "الخطاب المقتضي" يعني الطالب للفعل، خرج به الخطاب المقتضي للترك وهو التحريم والكراهة، "المقتضي للفعل اقتضاء جازما" خرج به الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء غير جازم وهو المندوب، ولذلك [
…
] كما سبق، ثم قال بعدما انتهى من حد الواجب وحقيقته والمسائل التي يتعلق بها:"ومندوب" ومندوب هذا معطوف على قوله "واجب" = "تكليفية وهي خمسة: واجب ومندوب" و"مندوب" هو القسم الثاني من أحكام الشرع التكليفية ويقال فيه ما قيل في الواجب، أنه في الأصل صفة فعل المكلف، فحينئذ عرَّف الحكم الشرعي من حيث تعلقه بفعل المكلف، والمندوب هذا من جهة الصيغة اسم مفعول من (نَدَبَ يَنْدُبُ) فهو (مَنْدُوبٌ) والأصل أنه يقال مندوب إليه، أي مدعوٌّ إليه ولكن هذه تسمى عند أهل اللغة الحذف والإيصال، مندوب إليه = يُحذَف (إلى) ثم يتصل الضمير بالمندوب، وهو اسم مفعول فيستتر فيه، يسمى حذفا وإيصالا، الحذف للحرف والإيصال للضمير المستتر، الضمير الظاهر يصير ضميرا مستترا، حذفت الحرف ووصلت الضمير بعامله الأصلي وهو المندوب، لأنه اسم مفعول فيرفع نائب الفاعل، قلنا "مندوب" مشتق من الندب، حقيقة الندب في اللغة الدعاء، وبعضهم يقيده بـ (الدعاء بأمر مهم).
لا يسألون أخاهم حين يندبهم.:. في النائبات على ما قال برهانا.
إذن المندوب لغة: المدعو لمهم _كما قال الآمِدِيُّ_ من الندب، وهو الدعاء، ومنه حديث:(انتدبَ اللهُ لمن يخرج في سبيله) أي أجاب له طلب مغفرة ذنوبه، (انتدب الله لكذا) أي أجاب.
والمندوب في الاصطلاح إذا عرفنا أنه صفة فعل المكلف حينئذ نعرفه بما عرفنا به الواجب، فنقول:"ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم"(ما) اسم جنس بمعنى الذي، أي اسم موصول بمعنى الذي، وهي جنس، تشمل الأحكام التكليفية الخمسة، (طلب الشارع) خرج ما لا طلب فيه وهو الإباحة، (طلب الشارع فعله) خرج المحرم والمكروه لأن الشارع ترك الترك هنا، (طلبا غير جازم) يعني طلبا غير جازم أي طلبا غير مقطوع به بحيث لم يرتب على تركه العقاب، خرج به الواجب، فالواجب والمندوب يشتركان في طلب الفعل وفي ترتب الثواب على الفعل، ولذلك ولهذه العلة ثنَّى المصنف بعد الواجب بالمندوب، وإلا جماهير الأصوليين عند التصنيف يذكرون أولا الواجب ثم الحرام ثم المندوب ثم المكروه ثم المباح، على هذا التفسير، والمصنف هنا جرى على ما جرى عليه ابن قدامة في الروضة، لذلك قيل إن هذا الكتاب اختصر من الروضة، بدأ بالواجب وثنى بالمندوب وثلث بالمحظور وربع بالمكروه والمباح، نعم ذكر المكروه ثم المباح، ما الفرق بينهما؟ نقول الفرق: بعضهم راعى أن كلا من الواجب والمندوب طلب فعل، بقطع النظر عن كونه جازما أو ليس بجازم، الواجب فيه طلب فعل والمندوب طلب فعل، إذن اشتركا في هذه الحيثية، وزد على ذلك أن الواجب يترتب على فعله ثواب، والمندوب يترتب على فعله ثواب، إذن الأولى أن يثنى بالمندوب بعد الواجب لاشتراكهما في هاتين العلتين ثم يذكر بعد ذلك المحظور والمكروه لاشتراكهما في طلب الترك، وإن افترقا من جهة ترتب العقاب، لأن المحظور يترتب العقاب على فعله، والمكروه لا يترتب العقاب على فعله، إذن بقطع النظر عن العقاب وعدمه يقدم المحظور على المكروه، ويثلث بالمحظور بعد المندوب لاشتراكهما في مجرد الطلب، لماذا؟ لأن المندوب والواجب طلب الفعل، والمكروه والمحظور طلب الترك، بهذه الحيثية رتب المصنف ابن قدامة في الروضة، جماهير الأصوليين ليسوا على هذا الترتيب، وإنما يذكرون الواجب أولا ثم الحرام، لماذا؟ قالوا: لاشتراكهما في صيغة متحدة، وهي الصيغة الجازمة، إذن الواجب طلب جازم، والمحرم طلب جازم، إذن كل منهما طلب جازم بقطع النظر عن كون الواجب طلب فعل والمحرم طلب ترك، لمجرد الجزم نقول الأولى أن يثنى بالمحرم بعد الواجب، لهذه العلة رتب كثير من الأصوليين الحرام بعد الواجب، ثم يذكرون المندوب ثم المكروه، يعني يقدم المندوب على المكروه لاشتراكهما في الصيغة أيضا، ما هي الصيغة؟ عدم الجزم، كل منهما ليس بجازم، يعني مطلوب الترك مطلوب لا على وجه الجزم، المندوب مطلوب لا على وجه الجزم، والمكروه مطلوب لا على وجه الجزم، إذن اشتركا في عدم الجزم مع اختلافهما في كون المندوب مطلوب الفعل والمكروه مطلوب الترك، فهمتم الآن هذا الترتيب؟ نقول هنا رتب باعتبار مطلق الطلب، والجمهور رتبوا باعتبار مطلق الجزم، واضح هذا؟ فنقول المندوب في اللغة هو المدعو لمهم، من الندب وهو
الدعاء.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم.:. في النائبات على ما قال برهانا.
وفي الاصطلاح نقول: "ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم".
هنا قال: "ما يقتضي الثواب على الفعل، لا العقاب على الترك" وهذا يسمى كما ذكرنا أنه حَدٌّ أو رسمٌ بالثمرة واللازم والحكم، والحكم فرع عن تصور حقيقة الشيء، أن يصور أولا بالحد المقرب للجنس والفصل ثم بعد ذلك يبين حقيقته من جهة الثمرة واللازم، "ما يقتضي الثواب على الفعل" = "ما" يعني فعل ويشمل (فعل المكلف) يشمل الجوارح والقلب واللسان، فهذه الثلاثة مَوْرِدٌ للندب، من الأفعال الظاهرة ما هو مندوب، من أعمال القلوب ما هو مندوب، من أعمال اللسان ما هو مندوب، "يقتضي" يعني يطلب الثواب على الفعل، وعرفنا أن المراد بالثواب هو الجزاء بخير مطلقا، "يقتضي الثواب على الفعل" مطلقا؟ أم لابد من قيدٍ؟ لابد من قيد، وهو امتثالا، لأن العبادة إذا وقعت لا على وجه القربة فليس فيها ثواب، "ما يقتضي الثواب على الفعل" مطلقا سواء كان فعل جوارح على الظاهر أو اعتقاد القلب أو اللسان، "لا العقاب على الترك" إذن لا يقتضي ترك المندوب الوقوع في العقاب، لماذا؟ لأنه مطلوب الفعل لا على وجه الجزم، بخلاف الواجب فإنه مطلوب الفعل مع الجزم، يعني مقطوع به، بحيث رتب الشرع العقاب على الترك، وهنا لا العقاب على الترك، لماذا؟ لأنه مطلوب لا على وجه الجزم والقطع بأن لم يرتب الشارع العقاب على ترك الفعل، قال:"وبمعناه" إذن عرفنا حده من جهة الثمرة وحقيقته من جهة الجنس والفصل، قال:"وبمعناه" يعني بمعنى المندوب "المستحب والسنة والنفل" وهذا مراده أن المندوب له أسماء، يعني ليس مقطوعا في هذا اللفظ، وإنما له أسماء متعددة كلها تتفق على هذا القدر المشترك، وهو ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، وذكر في مختصر التحرير أنه يسمى سنة، يعني المندوب يطلق عليه أنه سنة، ومستحبا وتطوعا ونفلا وقربةً ومرغبا فيه وإحسانا، هذه كلها ألفاظ روعي فيها المعنى اللغوي وأما من جهة الاصطلاح فمصدقها شيء واحد وهو ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم، وإن شئت قل:"ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك"، وهذا هو الأصح أن هذه الألفاظ كلها مترادفة، وكثير من أرباب المذاهب المتأخرين يجعلون فروقا بين بعض هذه الأسماء، وكلها فروق فيها تكلف وفيها كثير من المخالفات للشرع أصلا، فحينئذ نقول لا يقيد المندوب بمعنى يفترق به عن السنة، ولا تقيد السنة بمعنى يفترق عن المستحب وهلم جرا، لماذا؟ لأن المسألة عندهم اصطلاح، فإذا اتفقوا على الأصل وهو أن مطلوب الفعل لا على وجه الجزم وهو ما اقتضى الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، وهذا القدر كله مشترك بين مدلول هذه الأسماء، فحينئذ نحكم بأنها مترادفة، وجعل أي قيد يزيد على بعض هذه الأسماء حينئذ يكون تقييدا لهذا الحد، والأصل فيه أنه مطلق ولا يزاد عليه إلا ما قد ذكره الأصوليون أنفسهم، فنقول المندوب ما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم، سواء أظهره النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة، سواء أقره في بيته، سواء داوم عليه، سواء ذكر ثوابا محددا، سواء ذكر ثوابا غير محدد، سواء رغب فيه على المنبر، سواء رغب فيه
بعض الصحابة، نقول هذا القدر كله لا يجعلنا نجعل لكل معنى من هذه المعاني مصطلحا خاصا، أو هذه الصفات التي ذكرت لا تجعلنا نجعل لكل معنى من هذه المعاني مصطلحا خاصا، لأن الأصل تقليل الاصطلاح، هذا الأصل عندهم، كلما أمكن ألا يوزع ويشتت في الاصطلاح فهو أولى، وعليه نقول هذه الأسماء كلها مترادفة في الاصطلاح، وكل من فرق من المالكية والحنابلة والشافعية فنقول هذا تفريق يعتبر من جهة الاصطلاح وأما المعنى الأصلي عند كثير من المتقدمين من الأصوليين فهي مترادفة، ولذلك ما قال بعضهم أو بعض الأئمة المتأخرين أنهم حكموا بأن هذه التفرقة في هذه الاصطلاحات أمر محدث، يعني بدعة، فحينئذ نقول الأصل الترادف ولا نأثر عنه.
فضيلة والندب والذي استحب.:. ترادفت ثم التطوع انتخب.
رغيبة ما فيه رغب النبي.:. بذكر ما فيه من الأجر جبي.
أو دام فعله بوصف النفل.:. والنفل من تلك القيود أخل.
والأمرِ بل أعلم بالثواب.:. فيه نبي الرشد والصواب.
وسنة ما أحمد قد واظبا.:. عليه والظهور فيه وجبا.
هذه كلها اصطلاحات فقط لا دليل عليها، (وسنة ما أحمد واظبا _عليه الصلاة والسلام_ والظهور فيه وجبا) يعني السنة تختص عند بعض المالكية المتأخرين بما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره في جماعة، طيب هذا في السنة أم ليس في السنة؟ نقول سنة أو لا؟ والأصل فيه عدم الظهور، إذن على هذا الحد وهذه التفرقة نقول خرج كثير من السنن التي حكاها الكثير من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها في بيته، فنقول ما فعله عند النوم ولم يأمر به نقول هذا ليس من السنة وإنما يسمى نفلا، [
…
]، حينئذ كل ما يشتر نقول هذا لا أصل له، (والندب والسنة والتطوع والمستحب بعضنا قد نوهوا) والضد لفظ، يعني مع اختلافهم وذكرهم مصطلحات خاصة قالوا الضد لفظ، يعني لا يقبل [
…
] على هذا الاختلاف، إذن لا فائدة أن نقيد كل معنى بمصطلح خاص، لذلك قال هنا:(وبمعناه)، يعني في معنى المندوب السابق (ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك)(المستحب) إذن المندوب يسمى مستحبا، لماذا؟ (مستحبا) اسم مفعول، من (استُحِبَّ، يُستَحَبُّ، فهو مُسْتَحَبّ) يعني بمعنى أن الشرع أحبَّه، والأصل هل الشرع أحب المندوب فقط دون الواجب؟ إذا قلنا المستحب من المحبة بمعنى أن الشرع أحبه، والواجب؟ هو أشد حبا، لا نقول أحب، أشد حبا أو أشد محبة من المندوب، لماذا؟ لأنه آكد، ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، وأما المندوب فليس بجازم، ولذلك الواجب منه ما هو معين، فإذن الواجب معناه المستحب، يعني المستحب يأتي أو يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، بعض المتأخرين كالحنابلة يفرق بين السنة والمستحب، نقول ما ثبت بدليل فهو سنة، وما ثبت بتعليق فهو مستحب، نقول هذا أيضا لا أصل له، والأصل عدم التفرقة، ولذلك يقول يستحب دخول الخلاء أو يستحب عند دخول الخلاء قول بسم الله، هذا بدليل أو بتعليل؟ بدليل، فكيف يعبر عنه بالاستحباب وهو قد نص على أن الاستحباب في كثير من المتون الفقهية بمعنى ما ثبت بتعليل لا بدليل!! على كل الأمر فيه كثير من التناقضات، (وبمعناه المستحب والسنة) يعني السنة هي ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، أو إن شئت قل: ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، هذا عند الأصوليين، يطلق السنة مرادا به المندوب، ولا يطلق الآخر عندهم أيضا، سيأتينا مبحثه في موضعه.
ثم قال (وهي الطريقة) لما ذكر السنة أنها تأتي بمعنى المندوب قال وهي (الطريقة) يعني وهي لغة = السنة لغة: الطريقة والسيرة، ولذلك يقال السنة _كما قال بعضهم_ السيرة حميدةً كانت أو ذميمةً، قال لبيد:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم.:. ولكل قومٍ سُنَّةٌ وإمَامُها.
يعني طريقة ولها إمام، ولذلك يأتي في القرآن:[سُنَّةَ اللهِ]، أي طريقة الله جل وعلا في المكذبين لرسله، إذن الطريقة والسيرة هو معنى السنة في الاصطلاح، فكلها في اللغة، قال لكن تختص بما فُعِل للمتابعة فقط، وهذا ليس باستقصاء على هذا الإطلاق، وإنما نقول السنة تطلق ويراد بها ما يقابل الواجب، يعني لها إطلاقات ثلاثة، تطلق السنة ويراد بها ما يقابل الواجب، وهو الذي ذكره هنا بمعنى المندوب، يعني ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، وتطلق السنة في ما يقابل القرآن، ولذلك نقول السنة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأقواله وتقريراته، أقواله وأفعاله وتقريراته، هذه مقابلة للقرآن، تسمى السنة، ولذلك نقول أدلة الفقه كم؟ أربعة، الكتاب والسنة، ما المراد بالسنة هنا؟ ما يقابل الواجب؟ نقول لا، ما يقابل القرآن، وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، السنة تطلق إطلاقا ثالثا عند كبار الأئمة وخاصة في باب المعتقد في ما يقابل البدعة، كل ما وافق القرآن والحديث ويدخل فيه عمل الصحابة مطلقا، فهذا يسمى سنة، ولذلك جاءت كتب السنة عند الأئمة ويذكرون فيها الاعتقاد وأصول أهل السنة والجماعة، وهنا أهل السنة والجماعة، ما المراد بالسنة؟ ما يقابل البدعة، هذا على قولي، ما يقابل البدعة، إذن تطلق السنة ويراد بها واحد من هذا الإطلاقات الثلاثة، ما يقابل الواجب، ما يقابل القرآن، ما يقابل البدعة، هنا قال (لكن تختص بما فعل للمتابعة فقط)، (لكن) هذا حرف استدراك، يستدرك فيما سبق إذا كانت السنة تأتي مرادفة للمندوب فيما طلب الشارع فعله طلبا غير جازم إلا أنها تختص _أي لفظ السنة_ تختلف عن المندوب في إطلاقه، ذكر إطلاقا واحدا فقط، وهو أنها تختص بما فعل للمتابعة فقط، يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا، سواء كان واجبا أو مستحبا، ولذلك جاء قول أنس (رضي الله تعالى عنه):"من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا"، هذا واجب، عبَّرَ عنه من السنة، قال الصحابي:"من السنة" وإذا قال الصحابي (من السنة) فله حكم الرفع، ليس مرفوعا حقيقة، وإنما هو له حكم الرفع.
وليعط حكم الرفع في الصواب.:. نحو من السنة من صحابي.
فإذا قال الصحابي (من السنة) لحمل على أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو قال أمِرنا ونُهينا.
وليعط حكم الرفع في الصواب.:. نحو من السنة من صحابي.
كذا أمرنا وكذا كنا نرى.:. في عهده أو عن إضافة عرا.
هذا سيأتينا إن شاء الله لاحقا في السنة، إذن نقول ما فعل للمتابعة فقط مرادا به متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعبر عنه بالتالي:[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ]، (أسوة=فُعلَة) من التأسي، قال بعض الأصوليين بتحديد مفهوم التأسي:(أن تفعل كما فعل لأجل أنه فعل، وأن تترك كما ترك لأجل أنه ترك)، (أن تفعل كما فعل) لا تقل هل هذا فعله على جهة الوجوب، وهل هو واجب عيني أو واجب كفائي، هل هو على جهة الاستحباب أو لا، هل تركه هذا على جهة التحريم، أو الكراهة، لا مادام هو أنه بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا الفعل فافعل، وهذا هو الأصل في المسلم، وهذا هو الأصل على جهة الخصوص في طالب العلم، وإلا ما فائدة العلم؟ ما فائدة العلم إذا كان طالب العلم يتعلم من أجل أن يقول هذا واجب إذا لو تركته آثم، وهذه من السنة (رحم الله السنة)، فيترك ويتساهل بالسنة من أجل أنه علم هذه المصطلحات، نقول هذه المصطلحات فائدتها عند التعارض، إذا تعارض على المكلف، على المسلم، على طالب العلم _ بعض الأمور فأيهما يقدم؟ حينئذ يجد السؤال، هل أقدم هذا على ذاك؟ هل أترك هذا؟ هل هذا قابل التأكيد؟ هل هذا كذا؟ هل يترتب على تركه شيء (مؤاخذة)؟ حينئذ تأتي هذه الاصطلاحات، نقول هذا سنة = تركه لا يعاقب عليه، هذا واجب، أما الأصل أن تفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، (لأجل أنه فعل) فقط لا لكونه واجبا، لأجل أنه فعل، (وأن تترك كما ترك لأجل أنه ترك)، ذكرها الفتوحي في مختصر التحرير، هذا الضابط للتأسي.
هنا قال: (فيما فُعِلَ للمتابعة فقط، واجبا كان الفعل أو لا) ولذلك جاء في الحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، (بسنتي) مطلقا، يشمل الدين كله، ولذلك هذا إطلاق بما يقابل البدعة، ذكره بعضهم.
(والنفل)، (وبمعناه المستحب والسنة والنفل) إذن النفل يكون بمعنى المندوب، هذه ألفاظ كلها مترادفة، وبعضهم يخص النفل بما؟ بمعنى خاص به، وليس للتفريق سبيل.
والنفل وهو الزيادة على الواجب، النفل في اللغة الزيادة، مطلق الزيادة، كل زيادة فهي نفل، وفي الاصطلاح قالوا: وهو _أي النفل_: (الزيادة على الواجب) أي النفل يطلق على العبادات التي يبتدؤها العبد زيادة على الواجب، ما ليس بواجب فهو نفل، مثل ماذا؟ قيام الليل نفل أو لا؟ نفل، الرواتب نفل أو لا؟ نفل، كل ما زاد عن الواجب أو على الواجب فو نفل، وبعضهم يجعل من هذا قول جل وعلا:[وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ]، وبعضهم يقول لا، ليس المراد هذا، لماذا؟ لأن النافلة في هذه الآية لو كان المراد بها المرادف للمستحب والمندوب لَمَا قال (لكَ)، هذا تخصيص، أليس كذلك؟ لأن قيام الليل هذا نافلة مستحب للكل، وهنا ورد التخصيص، لذلك استدل بعضهم بهذه الآية على وجوب القيام على النببي صلى الله عليه وآله وسلم، "وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" إذن ما يزاد على الواجب، كل ما زاد على الواجب فهو نافلة، ثم قال:(وقد سمى القاضي ما لا يتميز) هذه مسألة أخرى، إذن عرفنا أن المندوب الآن حده ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، وله أسماء كلها مترادفة، كلها بمعنى واحد تقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على الترك، يرد السؤال: هل المندوب مكلف به؟ نقول: الصواب نعم، أنه حكم تكليفي، ولذلك ذكره المصنف هنا في الأحكام التكليفية، وإن كان الكثير من الأصوليين لا يرون أن المندوب حكم تكليفي.
ولَيْسَ مَنْدُوْبٌ وَكُرهٌ في الأَصَحّْ.:. مُكَلَّفًا ........ .
إذن ليس بحكم تكليفي، وإذا لم يكن حكما تكليفيا لماذا يفترض في هذا الموضع؟ والأصح أنه حكم تكليفي، لماذا؟ لأن فيه معنى التكليف اللغوي، التكليف في اللغة ماهو؟ ما فيه كلفة ومشقة، ليس فيه إلزام ولا طلب، التكليف في اللغة ما فيه كلفة ومشقة، إذا قلت حد التكليف في الاصطلاح: طلب ما فيه كلفة ومشقة، حينئذ ثبت بالحس أن المندوب فيه كلفة ومشقة، فإذا ثبتت المشقة في المندوب فحينئذ نحكم عليه بأنه حكم تكليفي، ولذلك قيل:(وهو تكليف _أي المندوب_ إذ معناه طلب ما فيه كلفة) بل نص بعضهم أنه قد يكون أشق من الواجب، وهذا مدرك بالحس، قد يكون المندوب أشق من الواجب، الصيام في الصيف هل هو كالصيام في الشتاء؟ أيهما أشق؟ الصيف، قد يكون صوم رمضان موعده في الشتاء، وقد يتنفل ويتطوع المكلف بالصيام في الصيف، أيهما أشق؟ الثاني لا شك، لا شك أن صيام التطوع في الصيف أشد مشقة على المكلف من الصيام في الشتاء ولو كان فرضا، ولو كان صوم رمضان، حينئذ ثبتت المشقة في المندوب، فإذا ثبتت المشقة حينئذ نحكم عليه بأنه حكم تكليفي، قال بعضهم: السواك ليست به مشقة، أليس كذلك؟ فقول (سبحان الله) ليس فيه مشقة، نقول كذلك الواجب بعضه ليس فيه مشقة، كذلك الواجب بعض أفراده ليس فيه مشقة، إذن انتفاء المشقة عن الواجب وهو تكليف بالإجماع لا يلزم منه ارتفاع الحكم التكليفيعنه، أو وصفه بأنه حكم تكليفي، الواجب نقول في الواقع = في الأصل أنه إلزام أو طلب ما فيه كلفة ومشقة، هذا في الواجب، لكن قد يكون بعض آحاد الواجب ليس فيه مشقة، فإذا انتفت المشقة عن بعض آحاد الواجب لا يلزم منه أن يرتفع الحكم التكليفي من جهة الوصف عن الواجب، نقول كذلك المندوب، وجود المشقة هو الأصل فيه وكون بعض المندوبات لا مشقة فيه لا يلزم منه أن يرتفع الوصف بأنه حكم تكليفي، ولذلك عبر الزركشي في تشنيف المسامع قال المراد بالمندوب المشقة، وجود المشقة، جنس المشقة، وإذا كان جنس المشقة حينئذ تصدق في بعض الأفراد دون بعض، وكذلك الواجب، الإنسان قد يكون يصلي أربع ركعات قد لا يجد فيها مشقة، كذلك قد يصوم رمضان كاملا ولا يجد فيه مشقة، والحج كذلك قد لا يجد فيه مشقة، فحينئذ نقول انتفاء المشقة عن الواجب لا يلزم منه ألا يكون حكما تكليفيا، بل الأصل فيه أن فيه مشقة، والأصل في المندوب أن فيه جنس المشقة كما هي في الواجب، فعدم وجودها أو [ .. ]
في بعض الأفراد كالسواك والتسبيح والتهليل، نقول لا يلزم منه ألا يكون المندوب حكما تكليفيا، وبعضهم يرى أن فيه تكليفا ومشقة من جهة ماذا؟ من جهة أن صاحب القلب الحي إذا فاته ثواب المندوب تحسر وتقطع قلبه ألَمًا لفوات هذا الثواب، إذن فيه مشقة أو لا؟ فيه مشقة، لأن المسلم لا يرضى أن يفوته هذا الخير العظيم، كثير من المندوبات قد تكون أكثر من الواجبات وفيها من الثواب والخير العظيم الذي يعود على القلب بالانشراح والخشوع إلى آخره = لا يرضى بفوات هذا الثواب إلا من عنده نقص في إيمانه، وخاصة المضطرب، ولذلك الإمام أحمد يقول:(لا تقبل شهادة تارك الوتر) لماذا؟ لا لكونه واجبا، عند أصحابه أن الوتر لكثرة الأحاديث الدالة على أهميته حتى قال أبو حنيفة بوجوبه (عليه رحمة الله) قال بوجوبه، لا يترك ويعتاد ترك هذه السنة إلا من كان في قلبه مرض، ولذلك لا يعتاد ترك السنن إلا من كان في قلبه مرض، وخاصة إذا كان من طلاب العلم فهذا لا تقبل شهادته كما قال الإمام أحمد، لماذا؟ لأنه لا يترك هذا الفضل العظيم إلا رغبة عنه، وهذا قد يكون فيه خفة بالثواب، هذا الأول، أنه تكليف، وهو مأمور به حقيقةً، اختلفوا هل المندوب مأمور به أو لا؟ نقول: نعم، الأصح أنه مأمور به حقيقة لا مجازا، بدليل ماذا؟ بدليل أنه داخل في حد الأمر، الأمر سيأتينا أنه اللفظ الدال على طلب، والأمر لفظ دال على طلب، لو قال (افعل) ومراد بها الندب:[وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ]، [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]، نقول هذا (أشهدوا) دال على طلب ومراد به الندب، ليس واجبا، إذن هو داخل في قوله:(اللفظ الدال على طلب)، كما أن قوله:[وَأقِيمُوا الصَّلاةَ] داخل في قوله (اللفظ الدال على طلب) إذن استوى الندب أو المندوب والواجب في حد واحد، والانقسام الأمري [ .. ]، شاع عند الفقهاء أنهم قالوا الأمر قسمان: أمر إيجاب وأمر استحباب، يعني أمر جازم وأمر غير جازم، وهذا الشائع هو عليه الاعتماد عند الفقهاء والأصوليين، ولذلك قال عمرو بن العاص لمعاوية:"أمرتك أمرا جازما" إذن قيد الأمر بماذا؟ بالجزم احترازا من الأمر غير الجازم، فهذا التقييد دل على أن الأمر نوعان: جازم وغير جازم، إذن أطلق على غير الجازم وهو المندوب أمر، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
أمرتك أمرا جازما فأعطيتني.:. وكان من التوحيد قتل ابن هاشم.
كذلك هو مستدعًى ومطلوبٌ، وذكرناه، وأيضا أطلق عليه في الكتاب أنه أمر، قال تعالى:[إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى]، (إن الله يأمر) هذا أمر، (بالعدل) وكله واجب، (والإحسان) والإحسان منه واجب ومنه مستحب، إذن الإحسان مأمور به لقوله (يأمر) ومن الإحسان ما هو مندوب، إذن المندوب مأمور به، (وإيتاء ذي القربى) إيتاء ذي القربى ليس كله واجب، بل بعضه واجب وبعضه مستحب، وهو داخل في مفهوم قوله (يأمر) إذن (إيتاء ذي القربى) مأمور به، وإيتاء ذي القربى المندوب مأمور به، كما أن الواجب مأمور به، إذن أطلق لفظ الأمر في الشرع، في الكتاب على ماذا؟ على المندوب، والأصل الحقيقة، يعني لا نقل مجازا، يعني من ينفي يقول: إطلاق لفظ أمر على المندوب مجازا وليس بحقيقة، نقول: لا، حقيقة، بدليل هذه الآية، أن الله عز وجل قال (يأمر) فحينئذ نقول الأصل حمل اللفظ على الحقيقة، ولا يُعدَل عنه إلى المجاز إلا بخبر ولا خبر، يعني إلا بدليل وقرينة، ولا دليل ولا قرينة.
وحيثما استحال أصل انتقل.:. إلى المجاز أو لأقربه حصل.
(وحيثما استحال أصل) فالمراد بالأصل هنا الحقيقة، وحيثما استحال حمل اللفظ على حقيقته انتقل إلى المجاز، حينئذ نقول انتقل لمجاز، وبهذه القرينة أو بهذا التقييد أو بهذه القاعدة نرد مؤولة الصفات فنقول حمل الصفات على ظاهرها لا يستحيل، ولا نحتاج أن نبطل المجاز من أجل أن نثبت الصفات على ظاهرها، ونقول أجمع أهل المجاز كلهم قاطبة من أهل البيان والأصوليين وغيرهم على أنه لا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بقرينة وخبر، فحينئذ الأصل أن يحمل اللفظ على حقيقته، على ظاهره، فإذا استحال ولم يمكن حمله على ظاهره لابد من قرينة حتى نقول هذا هو مجاز، ونقول آيات الصفات كلها لا يستحيل حملها على ظاهرها، والقرينة التي جعلوها للاستحالة الأصلية قرينة فاسدة باطلة تدل على فساد عقولهم، ولا نحتاج أن نقول نبطل المجاز من أجل أن نبطل قاعدة التحريف والتأويل عند الأشاعرة وغيرهم، إذن هو مأمور به لقوله تعالى:[إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى]، وإطلاق الأمر عليه بالكتاب أو السنة إطلاق حقيقي، أيضا لأنه طاعة، المأمور به طاعة، أليس كذلك؟ وكل طاعة مأمور بها:[قُلْ أطِيعُوا اللهَ]، (أطيعوا) مأمور بالطاعة، إذن المندوب طاعة وهذا بالإجماع، وكل طاعة مأمور بها لأن الطاعة ضد المعصية، المعصية ما هي؟ مخالفة المأمور، الطاعة ما هي؟ امتثال المأمور، إذن المندوب طاعة، فينتج أن المندوب مأمور به، هذا قياس [ .. ].
المندوب طاعة (مقدمة صغرى) وهذا بالإجماع، وكل طاعة مأمور بها، ولها وجهان: من جهة الدليل: [قُلْ أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ] وهذا أمر، والمأمور به الطاعة، من جهة أخرى أن الطاعة ضد المعصية، والمعصية مخالفة الأمر، والطاعة امتثال الأمر، حينئذ ينتج أن المندوب مأمور به، وهذا هو الحق، أما قول السيوطي:(ولَيْسَ مَنْدُوْبٌ وَكُرهٌ في الأَصَحّْ.:. مُكَلَّفًا .. ) نقول هذا قول مرجوح، ولو قال به جماهير الأصوليين، فإذا ثبت الدليل من الكتاب والسنة والنظر الصحيح نقول به ولا نخالف.
ثم قال: (وقد سمى القاضي ما لا يتميز من ذلك كالطمأنينة في الركوع والسجود واجبا) بمعنى أنه يثاب عليها ثواب الواجب لعدم التميز، وخالفه أبو الخطاب، ثم قال (والفضيلة والأفضل كالمندوب) يرد سؤال بعد هذا، وهو قبل الشروع في هذه المسألة: هل للمندوب صيغ تدل عليه؟ من أين نأخذ المندوب؟ عرفنا أن الواجب نأخذه من صيغة (افعل)، أو الفعل المضارع المقرون باللام ونحو ذلك من مصدر إلى آخره، والمندوب؟ متى نقول هذا مندوب وهذا واجب؟ نقول هذا واجب إذا دل عليه دليل مما ذكرناه بالأمس من صيغ الواجب، أما المندوب فالأكثر والأشهر أنه يأتي بصيغة (افعل) إذا دلت قرينة على عدم إرادة الوجوب منها، الأصل في (افعل) ماهو؟ الوجوب، وحُكِيَ الإجماع عليه.
وافعل لدى الأكثر للوجوب.:. وقيل للندب أو المطلوب.
وقيل للوجوب أمر الرب.:. وأمر من أرسله للندب.
بصيغة افعل فالوجوب حققا.:. حيث القرينة انتفت وأطلقا.
لا مع دليل دلنا شرعا على.:. إباحة في الفعل أو ندب فلا.
إذن نقول الأصل في (افعل) أنه للوجوب، إذا دلت قرينة صرفته عن الوجوب إلى الندب إذن مدلول الندب يكون بصيغة (افعل) إذا اقترنت بقرينة تدل على عدم الوجوب، [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]، (أشهدوا) هذا صيغة (افعل) والأصل فيه أنه للوجوب، لكن نقول هنا للندب، لوجود قرينة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم باع ولم يُشهد، [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] إذن باع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشهد، وفعله عليه الصلاة والسلام حجة أو لا؟ نقول: حجة، لأنه دليل شرعي فحينئذ صار قرينة صارفة للوجوب، [وَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا]، (كاتبوهم) هذا إطلاق، (إن علمتم فيهم خيرا) إذن بهذا القيد مَن كان عنده عبد يربيه وفيه خير للإسلام والمسلمين قال (كاتبوهم) وهو أمر، والأمر للوجوب، إذن يجب المكاتبة، لكن هل كل الصحابة كاتب؟ الجواب لا، طيب والصحابة عندهم من فيه خير للإسلام والمسلمين وأبقى الرقيق عنده رقيقا فلم يكاتب فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فعل الصحابة لا يعتبر صارفا إلا عند من يجعل فعل الصحابة حجة، وهنا ما دام النبي صلى الله عليه وسلم حيا فهو الحجة عليه الصلاة والسلام فأقرهم يعني سكت عما هم عليه فصار تقرير النبي صلى الله عليه وسلم قرينة صارفة للوجوب في قوله (وكاتبوهم)، هذا صيغة (افعل)، كذلك لو صُرِّحَ بالسنية، "وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ" هذا سنة أو واجب؟ سنة " وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ" نقول هذا سنة، كذلك إذا صُرِّحَ بالأفضلية، "فَمَن اغْتَسَلَ فالغُسْلُ أفضَلُ" دل على أنه مستحب وليس بواجب، كذلك لو جاء بصيغة الترغيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة:"لو رَاجَعْتِهِ" ليس فيه وجوب، وإنما هو من صيغ الندب، ولكن أشهرها الأول، وأما التفريق عند بعضهم أن ما كان في العبادات فهو للوجوب وما كان في الآداب أو المعاملات فهو للندب هذا تفريق لا دليل عليه، وهذا شاع عند كثير من الفقهاء المتأخرين، ما كان في الآداب بصيغة (افعل) فهو ماذا؟ فهو للاستحباب، وكذلك في النهي، قالوا: ما كان في الآداب فهو للكراهة، والصواب أنه ليس عليه دليل.
قال: (وقد سمى القاضي) أبو يعلَى، وإذا أطلق القاضي فالمراد به أبو يَعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي، (وقد سمى القاضي _أبو يعلى_ ما لا يتميز من ذلك كالطمأنينة في الركوع والسجود واجبا) عرفنا أن النفل يطلق ويراد به المندوب، وهو الزيادة على الواجب، نخلص من هذا أن النفل قسمان = أن الزائد على الواجب قسمان = النفل الذي بالمعنى الاصطلاحي عندهم وهو الزائد على الواجب قسمان: قسم متميز بذاته، منفصل، زيادة متميزة منفصلة بذاتها عن الواجب، كالسنن الرواتب بالنسبة للفرائض، نقول سنة المغرب منفصلة عن الفريضة، هي نفل وزيادة عن الواجب، أليس كذلك؟ هذه منفصلة ولا إشكال فيها، وبالإجماع أنها نفل، ندب، مستحب، لا خلاف فيها، لم يقل أحد بوجوبها، النوع الثاني .. نقول: زيادة غير متميزة، بمعنى أنها غير منفصلة بذاتها غير مستقلة، وإنما وردت مع واجب ولا يتميز عن الواجب، مثلوا له بالطمأنينة في الركوع والسجود، ما حكم الطمأنينة؟ واجب، ركن في الصلاة، فإذا ركع مقدار تسبيحة واحدة قد أتى بالواجب، لو زاد إلى عشر يسبح إلى عشر، ما زاد على الواجب، على الركن، ما حكمه؟ نقول هذا أولا نفل أو لا؟ نفل، زيادة عن الواجب، هو أتى بالواجب، ركع فأتى بالواجب، لو سبح مرة واحدة ثم رفع أتى بالواجب ولا إشكال، لكنه زاد على الواجب، هل هذه الزيادة متميزة منفصلة بذاتها كالسنن الرواتب مع الفريضة؟ الجواب لا، الزيادة على الواجب فيما هو صورته كالطمأنينة هذه مختلف فيها بين الأصوليين، هل هي واجبة أم ندب، الأئمة الأربعة على أنها ندب وليست بواجبة، لماذا هي ندب وليست بواجبة؟ لأنها جائزة الترك، يجوز أن يترك الزيادة، يأتي بتسبيحة واحدة ثم يقوم، إذن ترك التسبيحة الثانية والثالثة والعاشرة، ولو كانت واجبة لَمَا جاز تركها، والمندوب هو الذي يجوز تركه، فحينئذ عند الأئمة الأربعة أن ما زاد على أقل الواجب من الطمأنينة في الركوع والسجود=قالوا هذا ماذا؟ هذا ندب، (ما لا يتميز من ذلك كالطمأنينة في الركوع والسجود واجبا) هذا عند القاضي أبي يعلى، عند القاضي أبي يعلى سمى ما زاد على الواجب مما لا يتميز بذاته وينفصل عنه بذاته سماه واجبا، واختلفوا في تفسير كلامه، هل مراده أن الكل واجب لأنه امتثال للمأمور فصار واجبا؟ كما هو قول بعض الشافعية والكركي، أم أن مراده أنه مندوب إلا أن ثوابه ثواب الواجب؟ على قولين في تفسير كلام القاضي، هنا قال (بمعنى)، أراد أن يسمى إشكالا في كلام القاضي، قال بمعنى أنه يثاب عليها ثواب الواجب لعدم التميز لا أنه في ذاته واجب، لا بل هو مندوب، لكن الثواب ثواب الواجب، فرق بين أن يقال مندوب يثاب ثواب المندوب وبين أن يقال مندوب يثاب ثواب الواجب، أيهما أعظم ثواب المندوب أو الواجب؟ الواجب، ما الدليل؟
أحد الطلاب: ............
الشيخ: نعم أحسنت.
إذن نقول ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب، القاضي أبو يعلى رأى أن هذا الواجب لا يتميز _الذي هو أقل ما يصدق عليه أنه واجب_ لا يتميز عن النفل الزائد عليه، فحكم أن الكل يثاب ثواب الواجب، واضح هذا؟ وخالفه أبو الخطاب، خالف شيخه، أبو الخطاب تلميذ القاضي، وخالفه أبو الخطاب، أي: خالف شيخه أبا يعلى، فقال: إن هذه الزيادة ندب كما هو قول الأئمة الأربعة فيترتب عليها أنه يثاب ثواب الندب.
إذن الخلاصة أن نقول: ما زاد على الواجب = النفل الزائد على الواجب قسمان: [مستقل بذاته] وهو ندب بالإجماع كالسنن الرواتب مع الفرائض، يعني منفصل بذاته، النوع الثاني:[ما لا يتميز بذاته] لا ينفصل عنه بل هو معه، فحينئذ اختلف الأصوليون، الجماهير على أن ما زاد على أقل الواجب فهو ندب ويثاب عليه ثواب النفل، عند الكركي وبعض الشافعية أنه واجب لأنه امتثال لواجب، فصار الكل واجبا، فيثاب عليه ثواب الواجب مع الحكم على المحكوم عليه بأنه واجب، توجيه القاضي أبي يعلى أنه ليس بواجب وإنما الثواب ثواب الواجب، وعليه في الحقيقة ثلاثة أقوال في ما لا يتميز، واجب يثاب عليه ثواب الواجب، ندب يثاب عليه ثواب الندب، ندب يثاب عليه ثواب الواجب، وهو قول القاضي أبي يعلى.
واضحة هذه المسألة؟ نعم.
ثم قالوا: والفضيلة والأفضل كالمندوب، يعني مما يصدق على ما يقتضي الثواب على الفعل لا العقاب على التركالفضيلة، والأفضل كالمندوب في المعنى والحكم، يعني في الحقيقة والحكم، والقاعدة والقول الأصح في هذا _حتى لا يلتبس على طالب العلم_ أن كل ما ذكر من الأسماء المتعلقة بالمندوب كلها مترادفة، وحينئذ لا تشتغل أو تشغل نفسك بما ذكره كثير من الأصوليين في ذلك التفرقة بين تلك المصطلحات، لأن ذلك فيه نوع صعوبة، الأحناف عندهم عشرات المصطلحات للتفرقة بين المندوبات، وكذلك الشافعية والمالكية والحنابلة إلى آخره، فتضبط ماذا؟ تقول كلها مترادفة وأرح قلبك من الجدال.
[هنا قام أحد الطلاب يقرأ من متن المصنف] .................................. ..................................
............................ .................................. ..................................
............................ .................................. ..................................
الشيخ: نعم، قال:(ومحظور) القسم الثالث من أقسام الأحكام التكليفية ما يسمى بالمحظور، وهو اسم مفعول من الحظر، وسبق أن هذه كلها التي يذكرها المصنف (رحمه الله تعالى) إنما هي أوصاف لفعل المكلف، وليست هي الأحكام التكليفية، إذن المحظور من حيث وصفه، من حيث تعلقه بفعل المكلف:"ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه" المحظور اسم مفعول من الحظر مأخوذ من الحظر، فسمي الفعل بالحكم المتعلق به، إذن الحظر المراد به في اللغة الممنوع، الحظر=المنع، والمحظور=الممنوع، ولذلك قال هنا:(وهو لغةً الممنوع)، يعني بمعنى اسم المفعول، (والحرام بمعناه) يعني بمعنى المنع، أو بمعنى المحظور، لا إشكال، إما يكون بمعنى المنع أو بمعنى المحظور، إذن كل منهما الحظر يفسر في اللغة بالمنع والحرام يفسر في اللغة بالمنع، ولذلك جاء في:[وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ]، [وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ]، كلها بمعنى المنع.
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري.:. إني امرؤ صرعي عليكِ حرام.
أي: ممنوع.
ومنه قول الناس إن قابل البعض: حرام عليك، بعضهم يقول: كيف تحرم ما لا يحرمه الله، في ظني أن المراد به المنع، حرامٌ عليكَ كذا، لا يقصد به الشرع، فلذلك يتوسع في هذه الكلمة لأنها موافقة للغة.
إذن محظورٌ وهو لغة الممنوع، (والحرام بمعناه) يعني بمعنى المحظور، بمعنى الحظر أو بمعنى الممنوع، قال:(وهو ضد الواجب) الحرام ضد الواجب، والأصل في الحقيقة أن الحرام ليس بضد الواجب، وإنما هو ضد الحلال، ولذلك تقول هذا حرام وهذا حلال، كما قال تعالى:[وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلالٌ]، إذن في الشرع أن الرام يقابل الحلال، ولذلك جاء في الحديث أيضا:"إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ"، (بينهما أمور مشتبهات) يعني ليست بحلال خالصة وليست بحرام خالصة، ومن هنا من الجهل أن يعطى هذا المشتبه حكم الكراهة.
كالحتم واللازم مكتوبٍ وما.:. فيه اشتباه للكراهة انتمى.
لماذا؟ لأنه ليس بحلال خالص وليس بحرام خالص، فلا يعطى حكم الإذن المطلق كالوجوب والندب ولا يعطى المنع مطلقا كالتحريم وإنما يعطى درجة وسطى وهو الكراهة، وهذا من التقييد.
إذن نقول: (الحرام ضد الواجب) في الأصل ليس بضد الواجب، وإنما جعله الأصوليون ضد الواجب باعتبار تقسيم أحكام التكليف، لماذا؟ لأنك إذا قلت:(الواجب ما يثاب على فعله امتثالا ويعاقب على تركه)، اعكسه، تقول:(الحرام ما يثاب على تركه امتثالا ويعاقب على فعله) إذن هو ضده أو لا؟ ضده، نقول الحرام ضد الواجب، من أي حيثية؟ لا من حيثية الشرع، أنه في الشرع كذا، بل الحرام ضد الحلال، طيب لماذا إذا كان الشرع يقول:"إن الحلال بين وإن الحرام بين" إذن جاء الحلال والحرام متقابلين، لماذا جعل الأصوليون _وهم يبحثون في الأدلة التي تثبت بها الأحكام الشرعية_ لماذا جعلوا الحرام ضد الواجب؟ تقول: من حيث تقسيم الأحكام التكليفية، لأنهم حكموا أن الواجب ما يثاب على فعله والحرام يثاب على تركه، الواجب يعاقب على تركه والحرام يعاقب على فعله، إذن هما ضدان، من هذه الحيثية هما ضدان، فلا إشكال ولا اعتراض حينئذ على الأصوليين.
والحرام بمعناه وهو ضد الواجب، قال:(ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه)، (ما) جنس، يعني اسم موصول بمعنى الذي، وهو جنس يشمل جميع الأحكام التكليفية، (يعاقب) من العقوبة وهو معناها، (على فعله) إذا فعله حينئذ استحق العقوبة وترتبت العقوبة يعاقب، هذا الأصل، الأصل أنه يعاقب، وأما طروء العفو حينئذ لا يرد لفظا بهذا الرسم، (ما يعاقب على فعله) إذن إذا فُعِلَ المحظور نقول فاعله يعاقب، لكن هذا من حيث الوصف، يعني لو رأيت إنسانا يفعل كبيرة من الكبائر لا تقل هذا يعاقب، تنزل الوصف على الشخص، لا، وإنما تقول من فعل الزنا يعاقب، هذا الأصل، أليس كذلك؟ أما الأشخاص فلا تنزل عليهم الأحكام، (ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه) إن تركه ترتب عليه الثواب، وإن فعله ترتب عليه العقاب، لكن يقيد قوله (ويثاب على تركه) امتثالا، لأن الثواب في الواجب والحرام وجودا وعدما مترتب على شرطه، وشرط الثواب هو وجود النية، نية التقرب إلى الله عز وجل، ولذلك ذكرنا بالأمس:
وليس في الواجب من نوال.:. عند انتفاء قصد الامتثال.
فيما له النية لا تشترط.:. وغير ما ذكرته فغلط.
ومثله الترك لما يحرم.:. من غير قصد ذا نعم مستلزم.
إن ترك المحظور ولم ينوِ شيئا نقول هذا مُسَلَّمٌ من الإثم، لماذا؟ لأن الإثم والعقاب مرتب على الفعل وهو لم يفعل، حينئذ سقط العقاب، لكن الثواب مرتب على ماذا؟ مرتب على أنه ينوي بهذا الترك القربة إلى الله خوفا وعظمة للرب جل وعلا، فحينئذ نقول: الثواب تركه نية التقرب إلى الله، إن وجدت هذه النية ترتب عليها الثواب، إن انتفت انتفى الثواب، هذا من حيث الجملة لكن من حيث التفصيل نقول الإطلاق هذا فيه نظر، لأن تارك المحرم أو تارك الحرام هذا على أربعة أنحاء، أربعة أقسام=نقول تارك المحظور أربعة أقسام:
[أولا] أن يترك المحظور لأنه لم يطرأ على قلبه أصلا، ماحدَّث نفسه، بل قد يعيش مدة عمره ولم يعرف معنى الربا أصلا، ولا يفعله، في قرية نائية، لا بنوك ولا شركات ولا أسهم ولا أي شيء، نقول هذا سَلِمَ من الربا ولم يحدث نفسه أصلا بالربا، هذا نقول لا ثواب ولا عقاب، لا عقاب لماذا؟ لأنه لم يفعل الربا، والعقاب مرتب على ماذا؟ على وجود الفعل، وهو الربا، لا ثواب لفقد شرط الثواب، وهو نية التقرب، لأنه لم يخطر بباله أصلا. هذا النوع الأول لتارك المحظور.
[النوع الثاني] أن يكون تركه له مخافة وتعظيما لله، وهذه نسعى أن نكون من أهل هذه المرتبة، تركه مخالفة وتعظيما لله، فهذا يثاب، لماذا؟ لوجود شرط الثواب، وهو نية التقرب إلى الله عز وجل، ولذلك جاء في الحديث الصحيح:"أنَّ مَنْ هَمَّ بالسيئةِ فلم يعملها كتبَ اللهُ له ذلك حسنة كاملة"، جاء في الحديث:"لأنه تَرَكَهَا مِن جَرَّائِي" أي: من أجلي، إذن كُتبَ الهَمُّ بالسيئة حسنة، إذن أثيب على الترك، لماذا؟ لأنه تركها (قال جلَّ وعلا:"من جرَّائي" أي: من أجلي) فوجد شرط الثواب وهو نية التقرب إلى الله عز وجل. هذا الثاني.
[الثالث] أن يتركه عجزا عنه، يعجز عنه، دون القيام بفعله، يعني ما نوى أن يفعل، وإنما همَّ بقلبه أن يتركه عجزا عنه دون القيام بفعله، فهذا لم يهم بالفعل أصلا، يعني يكون كمن يرى مالا مع شخص ما، ينوي في قلبه أنه لو وجد له مال لفعل وفعل من المعاصي والمنكرات، هل فعل؟ لم يفعل، نوى؟ نعم نوى، هذا يعاقب عقاب نية الفاعل، ولذلك جاء في الحديث:"فهما في الوزر سواء"، "لو أن لي مالا مثل فلان لفعلت وفعلت، فهما في الوزر سواء"، هو ما فعل، لكنه نوى، لكنه في العقاب عدلا يعاقب عقاب نية الفاعل، لأن النية عمل وقد يعاقب عليها كما أن الظاهر عمل وقد يعاقب عليه، أليس كذلك؟ حينئذ لا إشكال، [ .... ] نقول: لا، النية عمل، عمل قلب، إذن هو فعل مكلف، فتعلق به التحريم، فحينئذ نقول: فهما في الوزر سواء، مرتب على هذا مع أنه لم يعمل.
[الرابع] أن يكون تاركا للمحظور عجزا عنه مع فعله الأسباب، فهذا يعاقب عقوبة الفاعل، كمن بذل الأسباب، أراد أن يسرق فذهب ليسرق فأعد العدة فإذا وجد الشرطي أمام الباب [ .. ]، نقول هذا همَّ وفعل الأسباب لكنه عجز، عجزه مع نيته وبذل الأسباب استحق أن يرتب عليه عقاب الفاعل، كأنه فعل ذلك، ولذلك جاء في ال حديث الثابت:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" كأنه بذل الأسباب وعجز، تحرك، حاول أن يقتله ولكنه عجز مع بذله الأسباب، نقول يعاقب عقاب الفاعل، إذن هذه أربعة أحوال.
وحينئذ قوله: (ويثاب على تركه امتثالا) نقول هذا إطلاق فيه نظر يقصر على [ .. ] الأحوال الأربعة، قال (فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد في العين واجبا حراما)(فلذلك) ما هو المشار إليه؟ الحرام، وهو ضد الواجب، لكون الحرام ضد الواجب ترتب عليه ما سيذكره المصنف، (فلذلك) أي: لأجل أن الحرام ضد الواجب، قبل ذلك نقول من أسماء الحرام عدة أسماء، تسمى محظورة وممنوعة ومزجورة ومعصية وذنبا وقبيحا وسيئة وفاحشة وإثما وحرجا وتحريجا وعقوبة، كلها أسماء لمسمى واحد، وهو ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه امتثالا.
صيغ الحرام، متى نحكم على أن هذا الفعل حرام _كما حكمنا على الواجب بأنه واجب والمندوب بأنه مندوب_؟ لابد من صيغة تدل عليه، لابد من لفظ يدل عليه، الحرام نقول الأصل فيه أنه يدل عليه بصيغ: منها وأشهرها وأولها صيغة (لا تفعل)، (لا) الناهية الداخلة على الفعل المضارع:[لا تُشْرِكْ بِاللهِ]، الثاني: التصريح بلفظة التحريم وما اشتق منها: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ]، [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ]، نقول هذا حرام أو لا؟ حرام، ما الذي دل؟ لفظ التحريم، صُرِّحَ به، نُطِقَ بِهِ، كما قلنا في الأول:[لا تُشْرِكْ] نقول الشرك حرام، بدليل دخول (لا) الناهية على الفعل المضارع وجُزِمَ بها والنهي يقتضي التحريم، مطلق النهي يقتضي التحريم، وسيأتي في موضعه، الثالث: التصريح بعدم الحِلِّ، أو بنفي الحِلِّ:[وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا]، نقول هذا لا يحل، يعني يحرم عليكم الأخذ، الرابع: أن يقال ترتيب العقوبة، إذا رتبت العقوبة على الفعل _كما هناك إذا رتبت العقوبة على الترك في الواجب حكمنا عليه أنه واجب_ هنا ترتيب العقوبة على الفعل تجعلنا نحكم عليه بأن الفعل محرم:[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ] ما هي العقوبة؟ [فَاقْطَعُوا]، إذن ما حكم السرقة من الآية؟ التحريم، ما الدليل؟ ما وجه الاستدلال؟ رتب عقوبة، [وَالسَّارِقُ] هذا فعل أو ترك؟ فعل، إذن فَعَلَ السرقة، فلما رتبت العقوبة وهي (فاقطعوا أيديهما) على فعل وهو السرقة=دلَّ على أن السرقة حرام، ثم قال:(فلذلك) أي: لأجل أن الحرام ضد الواجب يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجبا حراما، بمعنى أنه إذا كانا ضدين يستحيل اجتماع الضدين في محل واحد من جهة واحدة، هذا مراده، هل يمكن تقول (زيد قائم جالس) في آن واحد في زمن واحد؟ لا، لا يمكن، لماذا؟ لأن القيام والجلوس ضدان، فلا يمكن أن يكون في الساعة الواحدة في الوقت نفسه قائما جالسا، إذن يستحيل كون الشيء الواحد قد اجتمع فيه الضدان، كذلك إذا كان الواجب ضدا للحرام لا يمكن أن يكون الشيء الواحد حراما واجبا معصية طاعة، هذا من باب التقريب، ثم نقول:(الواحد) المراد به الوحدة يعني الاتحاد يعني اتحاد الشيء، إذن نقول المراد بالوحدة هنا الاتحاد، اتحاد الشيء في مكان واحد، قال:(الواحد بالعين) والمراد بالعين بالشخص، لأن الشخص قد يكون واحدا، يعني يوصف الفاعل بالوحدة، وهذا قد يجتمع فيه الثواب والعقاب، الحسنات والسيئات، وهذا مما يُرَدُّ به على المعتزلة، يعني الشخص الواحد الذي هو الآدمي يجتمع فيه ثواب وعقاب، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، فيثاب على الحسنات تكتب له ويثاب عليها بشرطها، أما السيئات إن تاب منها قبل موته فإن قبلت التوبة بشرطها فالحمد لله، إن مات ولم يتب فهو تحت المشيئة، إن شاء الرب آخذه وإن شاء عفا عنه، هذا مذهب من؟ أهل السنة والجماعة قاطبة، بخلاف أهل البدع من المعتزلة ونحوهم الذين ينفون اجتماع الثواب والعقاب في شخص واحد، ولذلك عندهم أن من مات على كبيرة من غير توبة فهو خالد مخلد في النار، أما أهل السنة والجماعة فلا.
ولا نقول إنه في النار.:. مخلد فالأمر للباري.
تحت مشيئة الإله النافذة.:. إن شا عفا عنه وإن شا آخذه.
بقدر ذنبه إلى الجنان.:. يُخرَجُ إن مات على الإيمان.
هذا الفاسق المِلِّيُّ الذي مات على الإسلام وهو مرتكب لكبائر ولم يتب منها، نقول أمره للباريء إن شاء عفا عنه وإن شاء آخذه، أما الجزم بأنه خالد مخلد في النار فهذا مذهب أهل البدع.
هذا الواحد بالشخص الآدمي، أما الفعل فقال هنا يستحيل كون الشيء الواحد بالعين، قال (بالعين) احترازا من الشيء الواحد في الجنس، فإنه قد يجتمع فيه الحلال والحرام، يعني قد يتحد شيئان أو يجتمعان في الجنس، البعير والخنزير، كما مثَّلَ الشيخ الأمين، البعير والخنزير ما جنسهما؟ حيوان، إذن اجتمعا في جنس واحد، نقول الوحدة بالجنس لا تنفي اجتماع الواجب والحرام، بل قد يجتمعان، إذن لا يستحيل اجتماع الواجب والحرام في ما اتحد جنسه، فتقول البعير حلال والخنزير حرام، إذن اجتمع الحلال والحرام أو لا؟ اجتمعا، في ما اتحد جنسا، الواحد بالعين احترز به أيضا عن الواحد بالنوع، أن يكون الفعل واحدا وله أشخاص آحاد، حينئذ نقول لا يستحيل اجتماع الحلال والحرام في الواحد بالنوع، مثل ماذا؟ السجود، السجود هذا نوع، أليس كذلك؟ فعل للمكلف، له أشخاص وآحاد أو لا؟ كيف له أشخاص؟ لا، سجود للصنم، وسجود لله، إذا قيل آحاد وأشخاص يعني اثنين فصاعدا، كل ما له أفراد اثنين فصاعدا صار نوعا، كما نقول الإنسان هذا نوع للحيوان، فيدخل تحته الذكر والأنثى، والذكر هذا نوع يدخل تحت زيد وعمرو وخالد، والأنثى نوع يدخل تحته هند وفاطمة
…
إلى آخره، فحينئذ نقول السجود هذا نوع، ذو أشخاص ذو آحاد، لا يمتنع أن يوصف بعض أفراد النوع بالوجوب، وبعض أفراد النوع بالتحريم بل بالكفر، فإذا سجد لله عز وجل فهو واجب، وإذا سجد للصنم فهو حرام بل وكفر، أليس كذلك؟ أي نعم، فحينئذ نقول: الواحد بالعين لا يستحيل اجتماع الوجوب والتحريم، الواحد بالجنس لا يمنع اجتماع التحريم والوجوب، ماذ بقي؟ الواحد بالعين كزيد، الواحد بالعين، الشخص الواحد، حينئذ قالوا: هذه إما يكون لها جهة واحدة وإما ان يكون لها جهتان، في كلتا الحالتين على المذهب، في كلتا الحالتين نقول لا يجوز بل يستحيل أن يجتمع الواجب والحرام معا، فلا يسعك ان تقول زيد مسلم كافر، يجتمعان؟ لا يجتمعان، كذلك لا يصح أن تقول هذه الصلاة حرام وهي في نفس الوقت واجبة، لماذا؟ لأنها بالعين، ليس عندنا صلاة متعددة، أنت لا تحكم بأن صلاة الظهر بطلت، حرام، باطلة، وأن صلاة العصر صحيحة، حينئذ يكون ثمت صلاة لغير الله، [ .. ] أن تحكم على صلاة واحدة، زيد قام يصلي فتقول هذه الصلاة واجبة حرام، يمكن؟ لا يمكن، قال:(يستحيل، إذن فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجبا حراما، طاعة معصية) لا يمكن أن يكون الفعل الواحد طاعة وفي نفس الوقت هو معصية، هذا مستحيل، لماذا؟ لأن الجهة هنا ليست منفكة، وإنما هي جهة واحدة، أو جهتان يمتنع القول بانفكاكهما، على قول من يرى صحة الانفكاك، قال:(كالصلاة في الدار المغصوبة) أراد أن يمثل لنا بما استحال فيه اجتماع الواجب والحرام، فقال:(كالصلاة) الصلاة هي نوع واحد في العين، المراد به صلاة [ ....... ]
لا الظهر مثلا، ليس المراد طول الصلاة، يدخل فيها كل الأفعال، لا، المراد بها صلاة حتى تصير واحدا بالعين، لو أريد بها صلاة الفجر والظهر والمغرب لَمَا صحَّ المثال، وإنما تقيد المثال (كالصلاة) يعني صلاة زيد بطهر واحد مثلا، أو إذا كانت عدة فرائض في زمن الغصب على ما سيذكره، (كالصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى)، (الصلاة في الدار المغصوبة) هذه مسألة عويصة عند الأصوليين، ودائما تذكر في هذا الباب وفي باب النهي، قال:(كالصلاة في الدار المغصوبة) ما صورة الصلاة في الدار المغصوبة؟ بل كيف تغتصب الدار؟ تغتصب الدار، يعني ما هي سرقة، بل اغتصبها جهارا نهارا، فحينئذ صار اشتغاله أو إشغاله أو كينونته في هذه الدار حراما، أليس كذلك؟ كل وقته الذي مكث في هذه الدار وهو غاصب لها ومعلوم أن الغصب حرام وأن ما ترتب على الحرام فهو حرام = حينئذ كل فعل فعله في هذه الدار من حركة وسكون وقول ومشي وأكل وشرب وصلاة نقول الأصل فيه التحريم، فحينئذ لو دخل وقت صلاة الظهر وهو غاصب للدار في داخل الدار، وقا صلى، نقول الأصل في استعمال المغصوب حرام، فكل حركة من قيام وركوع وسجود واضطجاع ونوم = هذا هو الأصل أنه التحريم، فحينئذ وجبت عليه الصلاة، صلاة الظهر، فقام تحرك في دار مغصوبة، اجتمع عندنا ماذا؟ حرام وواجب، اجتمع عندنا حرام وواجب، هل يمكن أن يكون الشيء الواحد بالعين حراما واجبا من جهة واحدة؟ قالوا: لا، إذن نقول هذه الصلاة التي أُدِّيَتْ بحركات محرمة في الدار المغصوبة المحرمة نحكم ببطلانها، لماذا؟ لأنها ليست صلاة مأمورا بها، قال جل وعلا:[أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ]، (أقم الصلاة) هل الصلاة التي صلاها في الدار المغصوبة داخلة في هذا النص؟ الجواب: لا، فحينئذ لما لم يشملها الأمر (أقم الصلاة) لم تكن الصلاة مأمورا بها، فالذي يجتمع عندنا واجب وحرام، فإذا فعل هذه الصلاة فيما حرم عليه فعله فيه كالصلاة في الدار المغصوبة حكمنا عليه ببطلانها، ولذلك قال:(كالصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين) يعني ماذا؟ أين الجواب؟ (كالصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين) لا تصح، لابد من التقدير، لا تصح، ولا يسقط بها الطلب، ولا تبرأ بها الذمة، لماذا؟ لأن هذه الصلاة منهي عنها، والقاعدة الكبرى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه:"مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وسيأتي بحث هذه المسألة (النهي يقتضي الفساد) في باب النهي بإذن الله تعالى، فالأصل أنه لا يذكر هذه المسألة هنا، ولكنه تفرع من أجل قوله (وهو ضد الواجب).
قال: (في أصح الروايتين عن الإمام أحمد) يعني لا تصح الصلاة في الدار المغصوبة في أصح الروايتين عن الإمام أحمد، وهو المذهب عند الحنابلة، المذهب الملتزم به أنها لا تصح في الدار المغصوبة، ولا يسقط بها الطلب، لماذا؟ قالوا لأن النهي يقتضي الفساد، والصحة تقتضي الثواب، فلا يجتمعان، ثواب وعقاب في شيء واحد من جهة واحدة لا يجتمعان، فحينئذ نقدم الحكم بالبطلان، لعلة أن هذه الصلاة منهي عنها فلا تشملها الأوامر التي نصت على وجوب الصلاة، [أقِمِ الصَّلاةَ]، [أقِيمُوا الصَّلاةَ]، نقول ليست هذه الصلاة داخلة فيها، لأن المراد (أقم الصلاة) على وجه الشرع، أن يكون المكان مباحا، أن يكون بوضوء، أن يكون مجتنبا للمحرمات، ألا يصلي في ثوب حرير ..
إلى آخره، أن يأتي بالواجبات وبالأركان، ليس المراد مطلق الصلاة، وإنما الصلاة مقيدة بالشرع، فيصير (أقم الصلاة) فقام عمدا صلى في مكان نجس أو في الحمَّام أو في المقبرة حكمنا في الصلاة بأنها باطلة، لماذا؟ لأن النهي يقتضي الفساد، هل نقول هذه الصلاة مأمور بها؟ لا، ليست مأمورا بها، وليست داخلة في الأوامر وإنما هي منهي عنها، وحينئذ الواجب والأمر لا يشمل المنهي عنه، قال:(لأن النهي يقتضي الفساد والصحة تقتضي الثواب فلا يجتمعان في عمل واحد، ومن أخل ومتى أخل مرتكب النهي بشرط العبادة أفسدها) لو صلى بلا وضوء ما الحكم؟ الصلاة، نقول باطلة أو لم تنعقد؟ إذا أحدث في أثناء الصلاة نقول بطلت الصلاة، وإذا أقدم وهو غير متوضيء نقول لم تنعقد الصلاة، وفرق بينهما، لم تنعقد الصلاة = لم يدخل بالصلاة أصلا، أما الثاني دخل في الصلاة وبطلت الصلاة، إذن:(ومتى أخل مرتكب النهي بشرط العبادة أفسدها) ونية التقرب بالصلاة شرط كما ذكرناه سابقا أن الواجب باعتبار اشتراط النية في الاعتداد به قسمان: منه ما لا يقبل إلا بنية الامتثال، ومنه الصلاة، إذن لابد أن يأتي بشرط الثواب وهو نية التقرب إلى الله عز وجل، فإذا لم يأتِ به كمن صلى بلا وضوء، أليس كذلك؟ من لم يأتِ به كمن صلى بغير وضوء، لماذا؟ لأن صحة هذا الواجب متوقفة على شرط الثواب، ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال، لأن الصلاة منهي عنها وفعله الذي قضاه بالحركة أو السكون أو قيام أو ركوع أو سجود نقول هذه ليست بعبادة، لأنها معصية والتقرب بالمعصية محال، إذن هل ممكن أن يأتي بشرط الثواب وهو فاعل لمعصية؟ لا يمكن، لا يمكن أن يصح شرط التقرب إلى الله عز وجل وهو فاعل لمعصية، لأنه لا يتقرب إلى الله عز وجل بالمعاصي، وإنما يتقرب إليه بالطاعات، وشرط الطاعات امتثال الأمر، أيضا من شرط الصلاة إباحة الموضع، أن يكون مباحا الموضع الذي تصلي فيه، والغصب محرم، فهو كالصلاة في المكان النجس، لو صلى عمدا في مكان نجس دون ضرورة حكمنا ببطلان صلاته، لأن اشتراط الطهارة في الموضع كاشتراطه في البدن والثوب، ولذلك شرط الطهارة طهارة الموضع والبدن والثوب هذا عند جماهير أهل العلم، إذن من شرط الصلاة إباحة الموضع وهو محرم فهو كالنجس، أيضا لأن الأمر بالصلاة لم يتناول هذه المنهي عنها، هذا أهم ما تقف معه، مع قوله (النهي يقتضي الفساد) أن الأمر بالصلاة لم يتناول هذه الصلاة المنهي عنها، هو منهي أن يستعمل الدار المغصوبة مطلقا، لا يرد أن يستعملها لأنها محرمة، لو صححنا استعماله أو مكنا له بعض الاستعمال لجعلنا له يدا على هذه الدار والأصل انتفاؤها، إذن هذه حجة المذهب في عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة وهو الأرجح، لأن القاعدة أن النهي يقتضي الفساد مطلقا، (وعند من صححها) تفرع المصنف، تفرع فقال (وعند من صححها) إذن بعض العلماء وهو الجمهور يرون أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة، لماذا؟ لأنهم يقسمون النهي إلى ثلاثة أقسام: كلها ذكرها المصنف هنا، (وعند من صححها) يعني من صحح الصلاة في الدار المغصوبة (النهي ثلاثة أقسام: إما أن يرجع إلى ذات المنهي عنه) يعني يكون محل النهي هو الذات، هذه الذات لا توجد،
لا ينبغي أن توجد، وإنما النهي تعلق بها لإعدامها، كقوله:[وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا]، نقول الزنا تعلق به النهي، والمراد بالنهي هنا عدم إيجاد هذه الذات، [لا تُشْرِكْ بِاللهِ]، نقول النهي هنا تعلق بذات الشرك، والذي يضبط لك هذه المسألة أن المراد هو الذات أنه لا يمكن أن يوجد فرض منه وهو صحيح، مثلا قال (لا تشرك بالله) إذن الشرك منهي عنه، هل ثم فردٌ من أفراد الشرك دلَّ دليلٌ خارج عنه بالتصحيح له والإقرار؟ الجواب: لا، أبدا، (لا تشرك) هذا فعل مضارع، وهو مصدر [ .. ]
من مصدر وزمن، دخلت عليه (لا) الناهية، إذن صار نكرة في سياق النهي فتعم، النكرة في سياق النهي من صيغ العموم، حينئذ (لا تشرك) يعني لا يقع منك أي فرد من أفراد الشرك، كل فرد من أفراد الشرك فهو منهي عنه بهذه الآية، فحينئذ نقول: هذا النهي عائذ إلى ذات المنهي عنه، بدليل أنه لا يوجد فرد منه صحيح قد جوزه أو استثني في موضوع آخر، (لا تقربوا الزنا) أيضا نقول إن النهي هنا عائد إلى ذات الزنا، [لا تَأْكُلُوا الرِّبَا] نقول هذا النهي عائد إلى ذات المنهي عنه، إما ان يرجع إلى ذات المنهي عنه حينئذ فيضاد وجوبه، فحينئذ لا يمكن أن يُصحَّح، فإذا قال:(لا تأكلوا الربا)، [وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]، لا يمكن أن يأتي عقد بربا صريح ليس فيه شبهة أو لم يقل عالم له باستثناء هذه الصورة فنقول هذا صحيح، لماذا؟ لأنه باطل، والبطلان والصحة لا يجتمعان في شيء واحد، كذلك الوجوب والتحريم لا يجتمعان في شيء واحد وقد تعلق النهي بذات المنهي عنه، إما أن يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه، فلا يجتمعان حينئذ، فيستحيل الاجتماع، (أو إلى صفته) يعني النوع الثاني من أقسام النهي عند من صحح الصلاة في الدار المغصوبة أن يرجع النهي إلى صفته، يعني إلى صفة الفعل المنهي عنه لا إلى ذاته، بأن يكون الداء من حيث هي مطلوبة الفعل ولكن لما قام بها وقد نهي عنها فحينئذ نجعل النهي راجعا إلى صفة المنهي عنه، كما مثل هنا وبالمثال يتضح المقال، (أو إلى صفته) يعني صفة المنهي عنه، (أن يكون الفعل مطلوبا والنهي راجع إلى صفة من صفاته، كالصلاة في السُّكْر الصلاة من حيث هي مطلوبة، أليس كذلك؟ [وَأقِيمُوا الصَّلاةَ]، [أقِيمُوا الصَّلاةَ]، "خَمْسُ صَلَوَاتٍ" إذن هي مطلوبة، لكن والسكر أيضا منهي عنه مطلقا، فلما قام بالصلاة وصف السكر بأن كان المصلي سكرانا حينئذ نُهِيَ عن هذه الصلاة وقال:[لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ] صلاة منهي عنها أو لا؟ الصلاة هنا في الآية منهي عنها أو لا؟ نقول منهي عنها، هل النهي لذات الصلاة بحيث أن الصلاة لا يمكن أن توجد كالشرك والزنا؟ نقول: لا، لماذا؟ لتصحيح الصلاة، بل للأمر بها في مواضع أخَر، فحينئذ ننظر إلى هذا النص [لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى] فنقول: النهي هنا راجع إلى صفة في الصلاة لا إلى ذات الصلاة، إذن الصلاة مطلوبة ونُهِيَ عنها لوصف السكر القائم بالمصلي، والحيض، لو صلت الحائض نقول صلاتها منهي عنها، هل النهي هنا لذات الصلاة؟ نقول: لا، وإنما لوصف قائم بالمُصَلِّيةِ، وهي كونها حائضا، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة:"فإذا أقبلتِ الحيضةُ فدعي الصلاةَ، وإذا أدبرتِ اغتسلي وصلي" والأماكن السبعة، ما هي الأماكن السبعة؟ ذكرها هنا في الحاشية، التي جاءت في حديث ابن عمر:"نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُصَلَّى في سبع مواطن: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله" نقول الصلاة في موضع من هذه المواضع السبعة منهي عنها، هل نُهِيَ عنها لذاتها؟ الجواب: لا، وإنما نُهِيَ عنها لوصفٍ قام بها وهو كونها في محل منهي عنه، والحديث ضعيف، وإنما
ثبت النهي عن ثلاثة مواضع فقط: المقبرة، والحمام لحديث أبي سعيد:"الأرض كلها مسجد إلا الحمام"، ومعاطن الإبل، لحديث أبي هريرة:"صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل"، أما السبعة هذا حديث ضعيف.
(والأوقات الخمسة)، أوقات النهي الخمسة، (من طلوع الفجر أو بعد صلاة الفجرإلى طلوع الشمس ومن طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح، وعند قائمة الظهيرة ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، أو عند الشروع في الغروب إلى أن تغيب أو يغيب قرص الشمس كاملا) كما هو في أول النهار، لذلك أول النهار وقتان: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، أيهما أشد كراهة؟ الثاني، والصواب التحريم ليس الكراهة، لكن على قول الجمهور، أشد كراهة من ارتفاع الشمس، من طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح، لذلك جاء النص فيها، والأوقات الخمسة، إذن نقول هذه الأمثلة التي ذكرها المصنف أمثلة لصلاة اتصفت بصفة وهي منهي عنها، ولكن النهي راجع إلى الوصف، فسماه أبو حنيفة فاسدا، المنهي عنه لوصفه النوع الثاني سماه فاسدا، وسيأتينا في الصحة والبطلان.
وقابل الصحة بالبطلان.:. وهو الفساد عند أهل الشان.
وخالف النعمان فالفساد.:. ما نهيه للوصف يستفاد.
الباطل والفاسد عند الأحناف في العبادات سيان وفي المعاملات مختلفان، هكذا قاعدة الأحناف، في العبادات سيان يعني مترادفان كالجمهور، وفي المعاملات مختلفان، الباطل ما مُنع بأصله ووصفه، والفاسد هو الذي ذكره هنا ما شُرع بأصله ومُنع بوصفه، بيع الخنزير بالدم، الثمن والمثمن منهي عنه لذاته في البيع فحينئذ نقول هذا باطل، العقد باطل لماذا؟ لأنه مُنِعَ بأصله ووصفه، أما بيع الدرهم بدرهمين الأصل جواز بيع الدرهم بالدرهم بشرطه، فإذا باع درهما بدرهمين حُرِّمَ لا لكون عدم جواز بيع الدرهم بالدرهم (المال بالمال) وإنما للتفاضل الذي وقع في هذا العقد، فهذا شُرعَ بأصله وهو بيع الدرهم بالدرهم إلا أنه لما كان الثمن أكبر من المبيع وقع الربا، وهذا سيأتينا بحثه، فسماه أبو حنيفة فاسدا لأنه شُرع بأصله ومُنعَ بوصفه، ثم قال:(وعندنا) وعند الشافعية (وعندنا) يعني معاشر الحنابلة (وعندنا وعند الشافعية أنه من القسم الأول) وهو أنه منهي لذاته، (وعندنا وعند الشافعية أنه من القسم الأول) يعني النهي لذاته، فحينئذ يكون باطلا، فإذا صلى في الأوقات الخمسة، ما حكم الصلاة؟ باطلة، هكذا إذا صلى في الأوقات الخمسة الصلاة باطلة عند الفقهاء، إذا صلى في أوقات النهي ما حكم الصلاة؟ لم تنعقد، إذا صلى (إذا) شرطية، و (صلى) هذا فعل ماضٍ، كل صلاة في أوقات النهي فهي باطلة؟ كيف تقول باطلة؟ قضاء الفوائت (الفرائض الفائتة) بالإجماع أنها صحيحة وجائزة وليست بباطلة في أوقات النهي، إذن ما يعمم الحكم وإنما تقول ما ليس بقضاء فريضة، أما قضاء الفريضة فهو جائز باتفاق، ما لم يكن كذلك ولم يكن من ذوات الأسباب فالجمهور على البطلان، وما كان من ذوات الأسباب فهذا فيه خلاف بين الشافعية وغيرهم، والجمهور أيضا على البطلان، ولذلك المذهب لا تصح، سواء كان من ذوات الأسباب أو من غيرها وهذا هو الأصح، أن التنفل مطلقا في أوقات النهي محرم على الصحيح وليس بمكروه والصلاة باطلة، إذن أرجعناه إلى الأول وهو كون النهي هنا عائدا إلى الذات (ذات المنهي عنه) وليس عائدا إلى وصفه لأن المنهي عنه الصلاة نفسها بوصف السكر [لا تقربوا الصلاة] حينئذ الصلاة نفسها منهي عنها لأن الصلاة هذه القول بالامتثال في مثل هذه لا يمكن، متعذر، لأن الرجل الآن قائم يصلي، أنت لا تتحدث عن سكر دون صلاة ولا عن صلاة دون سكر، تنبه لهذا!! أنت لا تحكم الآن على صلاة دون سكر ولا سكر دون صلاة، وإنما رجل أمامك الآن يصلي وهو سكران، ما حكم الصلاة؟ نقول الصلاة هذه منهي عنها، نفسها منهي عنها، لماذا؟ لقوله تعالى:[لا تقربوا الصلاة] والنهي يقتضي الفساد مطلقا، أيضا فوات شرط التقرب وهو النية، هل يمكن أن ينوي السكران؟ إيش ينوي؟ ظهرا أو عصرا؟ ما ينوي، فحينئذ لانتفاء النية لا يمكن أن يتصور، لذلك فهو غير مكلف إذا كان قد أخذ في السكر، غير مكلف، إذن غير مخاطب بالصلاة، لو صلى حكمنا على صلاته بأنها باطلة، للنهي ولانتفاء القصد، ما هو المنهي عنه هنا؟ هل هو السُّكر لكونه في الصلاة؟ أو الصلاة التي أُدِّيَتْ بسُكر؟ الثاني، المنهي عنه الصلاة نفسها التي وُصفَتْ بالسُّكر، لا النهي راجعا إلى السُّكر ابتداءً، لا، السُّكر
ابتداءً هذا منهي عنه بنصوص أخرى، يعني التحريم ثابت قبل الصلاة وبعد الصلاة، كذلك صلاة الحائض نقول هذه الصلاة عينها منهي عنها وليس النهي عائدا للحيض لكونه صفة في الصلاة، فدعوى أن النهي متعلق بالصفة (صفة المنهي عنه) لا بذاته هذه عقلية ولا تصح، يعني هذه الدعوة باطلة، وإنما انتفاء الصفة عن الموصوف في مثل هذه الأمثلة التي فيها بالخصوص لا يتصور، بل نقول هذا داخل في القسم الأول فيكون باطلا، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد (رحمة الله عليهم أجمعين) لأن المنهي عنه هو الموصوف وليس الصفة، هو الصلاة نفسها وليس الامتثال، هو الموصوف وليس الصفة، الصلاة الواقعة في حالة السُّكر، الصلاة الواقعة في المقبرة، الصلاة الواقعة وقت الزوال، إذن المنهي عنه هو نفس الصلاة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، لأن المنهي عنه نفس هذه الصلاة الواقعة في حالة السُّكر والحيض أو نحوها، ولذلك حكمنا ببطلانها، قال:(ولذلك بطلت)، لأن حكم القسم الأول هو البطلان، (أو لا)، يعني إيش؟ (أو لا إلى واحد منهما)، فالقسم الأول أن يكون عائدا إلى ذات المنهي عنه، القسم الثاني أن يكون عائدا إلى صفة في المنهي عنه، (أو لا إلى واحد) يعني ليس عائدا إلى ذات المنهي عنه ولا إلى صفة قائمة بالمنهي عنه وإنما لأمر خارج عنه، (كلبس الحرير في الصلاة) جاء النص بتحريم لبس الحرير للذكر، وجاء الأمر بالصلاة (صلاة الظهر ونحوها)، فإذا صلى وهو لابس للحرير حينئذ نقول النهي هنا هل هو إلى ذات المنهي عنه؟ قالوا: لا، هل هو إلى وصف قائم بالمنهي عنه؟ الجواب: لا، هكذا عندهم، (فإن المصلي فيه جامع بين القربة والمكروه، إذن هو مطيع من جهة قيامه للصلاة، وهو عاصٍ) هو يقول بين القربة والمكروه، لعله يرى أن لبس الحرير مكروه، والصحيح أنه حرام، بين القربة والتحريم، إذن لبس الحرير حرام، فيأثم على لبس الحرير وفعل الصلاة واجب فيثاب على فعل الصلاة، فحينئذ تصح الصلاة مع الإثم، لا نقول الصلاة باطلة كما قلنا هناك، أن الصلاة في حالة السكر باطلة، بل نقول هنا الصلاة صحيحة مع الإثم على فعل المحرم وهو لبس الحرير، لماذا؟ قال: لأن الجهة منفكة، وهو أن الصلاة مطلوبة من حيث هي ولبس الحرير منهي عنه، محرم من حيث هو، وليس لبس الحرير صفة داخلة في ذات الصلاة أو مؤثرا على الصلاة، فحينئذ نقول الجهة منفكة، ولذلك قال:(فإن المصلي فيه جامع بين القربة) يعني بالصلاة (والمكروه) يعني بلبس الحرير (بالجهتين) جهة القربة والكراهة ولا استحالة في ذلك، فلذلك قال:(بل تصح)، ومن هنا قال بعضهم إن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة لانفكاك الجهة، قال المكان المغصوب كلبس الحرير، الغصب (هذا قول الجمهور لكنه ليس بالصحيح، أن الغصب محرم من حيث هو، والصلاة مطلوبة من حيث هي، إنما الجهة منفكة، فإذا صلى في دار مغصوبة نقول الصلاة صحيحة ويثاب عليها ويأثم من حيث الغصب) لكن نقول هذا ليس بالسديد، لماذا؟ لأن الحكم هنا (دائما نقول) الحكم على صلاة معينة، نجد أمامنا الآن يصلي في دار مغصوبة، كيف نقول الصلاة من حيث هي مطلوبة مثال عليها، والغصب من حيث هو محرم؟ إذا قيل الشيء من حيث هو فاعلم أن هذا القسم منطقي أو
عند المتكلمين، لماذا؟ لأنه إذا قيل في مثل هذه الصلاةِ صلاةٌ من حيث هي نقول هذا أمر ذهني لا وجود له في الخارج، لماذا؟ هل أمرنا الله عز وجل بصلاة من حيث هي؟ أو بصلاة بشروط ومنها إباحة المكان؟ الثاني وليس الأول، أما من حيث هو يعني معناه تصور صلاة لا في مكان، يمكن؟ هل تتصور الرجل يصلي لا في مكان؟ في الهواء؟ نقول هذا مستحيل، فحينئذ القول بانفكاك الجهة في الصلاة في الدار المغصوبة لا وجه له، وهو قول الجمهور، بل نقول هذه الصلاة عينها لا يمكن أن تنفك الجهة بل الجهة واحدة، فحينئذ يكون من القسم الأول فالصلاة باطلة، وسيأتينا في بحث النهي أن النهي يقتضي الفساد مطلقا، وسيأتي هذا الباب في موضعه، ونقف على هذا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.