المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى - البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

ص: 367

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر يا كريم، الحمد لله رب العالمين

وصل الله عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

خرَّج الإمام أحمد (1) من حديث أبي الحصين الشامي عن أبي صالح الأشعري، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْحُمَّى مِنْ كِيرٍ (2) مِنْ جَهَنَّمَ، فَمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا، كَانَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ".

وفي رواية له (3): "كَانَ حَظَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ".

اختلف في إسناد هذا الحديث عَلَى أبي صالح الأشعري.

فَقَالَ أبو الحصين الفلسطيني: عن أبي أمامة، عن أبي صالح.

وخالفه إسماعيل بن عبيد الله فرواه عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد مريضًا ومعه أبو هريرة من وعك كان به، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر فإن الله يقول: هي ناري، أسلطها عَلَى عبدي المؤمن في الدُّنْيَا، لتكون حظه من النار في الآخرة".

خرجه ابن ماجه (4) من طريق أبي أسامة، عن عبد الرحمن بت يزيد، عن إسماعيل به.

وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي ضعيف.

ومن قال إنه ابن جاير فقد وهم.

وقد خرجه الطبراني من رواية أبي المغيرة عن أبي تميم به.

وخالفه سعيد بن عبد العزيز، فرواه عن إسماعيل بن عبد الله، عن أبي

(1)(5/ 252).

(2)

كير الحداد: الَّذِي ينفخ به النار. "النهاية "(4/ 217).

(3)

في "المسند"(5/ 264).

(4)

برقم (2370).

ص: 369

صالح، عن كعب الأحبار من قوله.

قال الدارقطنى: وهو الصواب.

قال: ورواه شبابة، عن أبي غسان، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ظنه أبا حصين الأسدي الكوفي -بفتح الحاء وكسر الصاد- وظن أبا صالح هو السمان، وكل ذلك وهم! إِنَّمَا هو أبو حصين بضم الحاء وفتح الصاد- فلسطيني ليس بالمشهور، وأبو صالح هو الأشعري.

وقد روي هذا من حديث عائشة من رواية هشيم (1) ثنا مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ".

خرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن مخلد التمار الواسطي عن هشيم به، وذكره الدارقطني وقال في التمار: لا بأس به.

قال: وخالفه مندل، فرواه عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة موقوفًا، وهو المحفوظ.

قلت: قد توبع التمار عَلَى روايته عن هشيم، فرواه نصر بن زكريا، عن جعفر بن عبد الله البلخي، عن هشيم، كما رواه التمار.

وقد روي عن عائشة من وجه آخر، خرجه الطبراني (2) والبزار (3) من رواية عمر بن راشد- مولى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان- عن محمد بن عجلان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعمر بن راشد هذا، قال ابن عدي: هو مجهول.

وروي من حديث عثمان بن عفان، من رواية الفضل بن حماد الأزدي،

(1) أخرجه البزار برقم (765 - كشف).

(2)

في الأوسط برقم (3318) وفي الصغير (13/ 113 - 114) وقال: لم يروه عن هاشم بن عروة إلا محمد بن عجلان، ولا عن ابن عجلان إلا عمر بن راشد، تفرد به يعقوب بن سفيان. وعزاه الهيثمي في المجمع (2/ 306) للطبراني في الصغير والأوسط، قال: وفيه عمر بن راشد ضعفه أحمد وغيره ووثقه العجلي.

(3)

كما في مجمع الزوائد (2/ 306)، ولكنه من طريق آخر غير هذا الطريق.

ص: 370

عن عبد الله بن عمران القرشي، عن مالك بن دينار، عن معبد الجهني، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القَيَامَة» .

خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (1)، والعقيلى (2).

وقال في ابن عمران: لا يتابع عَلَى حديثه.

قال: وإسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد.

وقال في موضع آخر: في إسناده نظر.

قال: وهذا مروي من غير هذا الوجه، بإسناد أصلح من هذا يثبت (3)، وهو صحيح، انتهى.

ومعبد الجهني هو القدري المبتدع.

وروي من حديث أبي ريحانة من رواية عصمة بن سالم الهُنائي، عن أشعث الحداني، عن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْحُمَّى كِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهِيَ نَصِيبُ المُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» .

خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (4) وغيره (5).

وروي من حديث أنس: رواه الطبراني (6) من حديث الشاذكوني، ثنا [عبيس](7) بن ميمون، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْحُمَّى

(1) في "المرض والكفارات"(157).

(2)

في "الضعفاء الكبير"(2/ 287) وقال العقيلي: إسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد، وقد روي في هذا أحاديث مختلفة في الألفاظ بأسانيد صالحة.

(3)

في "الضعفاء الكبير"(3/ 448) وقال العقيلي: هذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا.

(4)

في "المرض والكفارات"(21).

(5)

وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 63) معلقًا، والطحاوي في "المشكل"(3/ 68)، والبيهقي في "الشعب"(9846).

(6)

في "الأوسط"(754).

(7)

في النسخ الثلاث (عيسى)، والصواب ما أثبته كما في "تهذيب الكمال"(19/ 276 - 277).

ص: 371

حَظُّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ». إسناده ضعيف.

وقد روي أيضاً من حديث ابن مسعود، ولا يصح.

وروي مرسلاً، خرجه محمد بن سعد في طبقاته (1): ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو المتوكل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ذكر الحمي، فَقَالَ:"مَنْ كَانَتْ بِهِ، فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ النَّارِ". فسألها سعد ابن معاذ ربه، فلزمته حتى فارق الدُّنْيَا.

وروي عن مجاهد قال: "الحمى". من قوله، خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (2): من رواية عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "الحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ" -ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) - والورود في الدُّنْيَا هو الورود في الآخرة.

اعلم أن الله تعالى خلق الجنة والنار، ثم خلق بني آدم، وجعل لكل واحد من الدارين أهلاً منهم.

ثم بعث الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرون بالجنة من آمن وعمل صالحًا، وينذرون بالنار من كفر وعصى.

وأقام أدلة وبراهين دلت عَلَى صدق رسله فيما أخبروا به عن ربهم من ذلك.

وأشهد عباده في هذه الدار آثارًا من الجنة، وآثارًا من النار.

فأشد ما يجده الناس من الحر من فيح جهنم، وأشد ما يجدونه من البرد من زمهرير جهنم!

كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).

وروي أن برد السحر الَّذِي يشهده الناس كل ليلة من برد الجنة حين تفتح

(1)(3/ 421).

(2)

في "المرض والكفارات"(20).

(3)

مريم: 71.

(4)

أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617).

ص: 372

سحرًا كل ليلة.

وروي عن عبد الله بن عمرو أن الجنة معلقة بقرون الشمس، تنشر كل عام مرة. يشير إِلَى زمن الربيع، وما يظهر فيه من الأزهار والثمار، وطيب الزمان واعتداله، في الحر والبرد، وأبلغ من هذا كله، أن الله تعالى أشهد عباده في نفوسهم، آثارًا محسوسة، يجدونها ويحسونها من آثار الجنة والنار.

فأما ما يجدونه من آثار الجنة، فما يتجلى لقلوب المؤمنين، من آثار أنوار الإيمان، وتجلي الغيب لقلوبهم، حتي يصير الغيب كالشهادة لقلوبهم في مقام الإحسان.

فربما تجلت الجنة أو بعض ما فيها لقلوبهم أحيانًا، حتي يرونها كالعيان، وربما استنشقوا من أراييحها، كما قال أنس بن النضر يوم أحد: واهًا لريح الجنة، والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد (1)!!

وأما ما يجدونه من آثار النار، فما يجدونه من الحمى، فإنها من فيح جهنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَاطْفِئُوهَا بِالمَاءِ" (2).

وهي نوعان: حارة وباردة.

فالحارة من آثار (سموم)(3) جهنم، والباردة من آثار (زمهرير)(4) جهنم.

وروى ابن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي السائب - مولى عبد الله بن زُهرَة- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ النار استأذنت ربها في نفسين، فأذن لها، فأما أحدهما فهذه (الجذوة)(5) التي تصبيكم من السماء، وأما الآخر فهذه الحمى التي تصيبكم، فَإِذَا اشتدت عَلَى أحدكم،

(1) أخرجه مسلم (1903).

(2)

أخرجه البخاري (643، 5723)، ومسلم (2209) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (3263، 5725)، ومسلم (2210) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (3262، 5726)، ومسلم (2212) من حديث رافع بن خديج.

(3)

الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار. القاموس: مادة: "سمم".

(4)

الزمهرير: شدة البرد، وهو الَّذِي أعده الله عذابًا للكفار في الدار الآخرة "النهاية"(2/ 314).

(5)

الجذوة: القبسة من النار. "ترتيب القاموس"(1/ 465).

ص: 373

فليطفئها عنه بالماء البارد".

خرجه أبو أحمد الحاكم، وإسناده جيد، وهو غريب جدًّا!

فَإِذَا كانت الحمى من النار، ففي هذه الأحاديث السابقة أنها حظ المؤمن من نار جهنم يوم القيامة.

والمعنى -والله أعلم- أن حرارة الحمى في الدُّنْيَا تكفر ذنوب المؤمن، ويطهر بها، حتى يلقى الله بغير ذنب، فيلقاه طاهرًا مطهرًا من الخبث، فيصلح لمجاورته في دار كرامته دار السلام، ولا يحتاج إِلَى تطهير في كير جهنم غدًا؛ حيث لم يكن فيه خبث يحتاج إِلَى تطهير، وهذا في حق المؤمن الَّذِي حقق الإيمان، ولم يكن له ذنوب، إلا ما تكفره الحمى وتطهره.

وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكفير الذنوب بالأسقام والأوصاب، وهي كثيرة جدًّا يطول ذكرها.

ونحن نذكر هاهنا من ذلك بعض النصوص المصرحة بتكفير الحمى.

ففي "صحيح مسلم"(1) عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عَلَى أم السائب- أو

أم المسيب- فَقَالَ: "فَقَالَ: مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ"(2).

قَالَتِ: الْحُمَّى، لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا.

قَالَ: "لا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ الخَبَثَ».

وخرج ابن ماجه (3) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه.

وخرج الحاكم (4) من حديث عبد الرحمن بن أزهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ العَبْدُ الْمُؤْمِنُ حِينَ يُصِيبُهُ الْوَعْكُ أَوِ الْحُمَّى، كَمَثَلُ حَدِيدَةٍ تَدْخُلُ النَّارَ، فَيَذْهَبُ خَبَثُهَا، وَيَبْقَى طَيِّبُهَا» .

وقال: صحيح الإسناد.

(1) برقم (2575).

(2)

تزفزف: "ترتعد من البرد، ويروى بالراء""النهاية".

(3)

برقم (3469).

(4)

في "المستدرك"(1/ 348).

ص: 374

وقال غيره من الحفاظ: لا أعلم له علة.

وخرج الترمذي (1) من حديث عائشة "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (2)، وعن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (3)، فَقَالَ: هذه (معاتبة) (4) الله العبد بها يصيبه من الحمي، والنكبة، حتى البضاعة يضعها في جيب قميصه فيفقدها فيفزع لذلك، حتى إِنَّ العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير".

وقال: حسن غريب.

وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (5) من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الحمى و (المليلة) (6)، لا تزالان بالمؤمن، وإن ذنبه مثل أحد، فما تدعانه وعليه من ذنبه مثقال حبة من خردل".

وخرجه الإمام أحمد (7)، وعنده:"إِنَّ الصداع والمليلة".

وخرج الطبراني (8) من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ: «تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا، مَا (اخْتَلَجَ) (9) عَلَيْهِ قَدَمٌ، أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ». فَقَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّى لَا تَمْنَعُنِي خُرُوجًا فِي سَبِيلِكَ، وَلَا خُرُوجًا إِلَى بَيْتِكَ، وَلَا إِلَى مَسْجِدِ نَبِيِّكَ".

قال: فلم يمس قط إلا وبه الحمى!

(1) برقم (2991).

(2)

البقرة: 284.

(3)

النساء: 123.

(4)

في "الأصل": متابعة، والمثبت منا "سنن الترمذي".

(5)

في "المرض والكفارات"(223).

(6)

المليلة: حرارة الحمى ووهجها. "النهاية"(4/ 362).

(7)

(5/ 198).

(8)

في "المعجم الكبير"(540)، و"الأوسط" (445). قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 305): رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه وهما مجهولان كما قال ابن معين.

(9)

أصل الاختلاج: الحركة والاضطراب "النهاية"(2/ 60).

ص: 375

ومعنى إجراء الحسنات عليه، كتابة ما كان يعمله في الصحة، مما منعته منه الحمى، كما ورد تفسيره في أحاديث آخر صريحًا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد من به الحمى قال له: "طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

يعني أنها تطهير من الذنوب والخطايا.

ففي "صحيح البخاري"(1) عن ابن عباس "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، قَالَ:«لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَدخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ:«لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَقَالَ الأعرابي: قُلْتُ طَهُورٌ؟ بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَنَعَمْ إِذًا» .

يعني أنه لم يقبل الطهارة، بل ردها، وأخبر عن حُمَّاه بما أخبره به عن نفسه، فحصل له ما اختاره لنفسه، دونه ما رده.

وقد خرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2) من حديث شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ: "جَاءَ شَيْخٌ أَعْرَابِيٍّ إِلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَحُمَّى تَفُورُ، فِي عِظَامِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ» فَقَالَهَا ثلَاثًا، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ:«بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ» . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالِثَةِ: «فَنَعَمْ إِذًا، إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى عَلَى عَبْدٍ قَضَاءً، لَمْ يَكُنْ لِقَضَائِهِ مَرَدٌّ» .

وفي "مسند الإمام أحمد"(3) عن أنس "أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ -وَهُوَ مَحْمُومٌ- فَقَالَ: "كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ"، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَهُ".

وقال هشام عن الحسن: كانوا يرجون في حُمَّى ليلة، كفارة لما مضى من الذنوب.

(1) برقم (3616).

(2)

(1/ 290).

(3)

(3/ 250).

ص: 376

وقال حوشب عن الحسن رفعه: "إِنَّ الله ليكفر عن المؤمن خطاياه بحمى ليلة".

وروي عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا بإسناد ضعيف.

وقال عبد الملك بن عمير: قال أبو الدرداء: حمى ليلة كفارة سنة!

وروى ذلك كله ابن أبي الدُّنْيَا (1).

وقد قيل في مناسبة تكفير حمّى ليلة لذنوب سنة، أن القوى كلها تضعف بالحمى، فلا تعود إِلَى ما كانت عليه إِلَى سنة تامة!

وفي مناسبة تكفيرها الذنوب كلها، أن الحمّى يأخذ منها كل أعضاء البدن ومفاصله قسطه من الألم والضعف، فيكفر ذلك ذنوب البدن كلها.

وإذا كانت الحمّى بهذه المثابة، وأنها كفارة للمؤمن وطهارة له من ذنوبه، فهى حظه من النار؛ باعتبار ما سبق ذكره.

فإنه لا يحتاج إِلَى الطهارة بالنار يوم القيامة، إلا من لقي الله وهو متلطخ يخبث الذنوب.

وفي الترمذي (2). عن أبي بكر الصديق: "أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقراه هذه الآية حين أنزلت:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (3) قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ فِي ظَهْرِي انْْقِصَامًا، فَتَمَطَّأْتُ لَهَا وَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟! أوْ إِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِمَا عَمِلْنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الآخَرُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

(1) في "المرض والكفارات" وأرقامها (29، 28، 83، 49).

(2)

برقم (3039) وقال أبو عيسي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال.

(3)

النساء: 123.

ص: 377

وفي "مسند بقي بن مخلد" بإسناد جيد، عن عائشة:"أن رجلاً تلا هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (1) فَقَالَ: إنا لنجزى بكل عمل عملنا؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نعم يجزى به المؤمن في الدُّنْيَا، في نفسه، في جسده فما دونه".

وأما ما روي عن مجاهد أن الحمى في الدُّنْيَا، هو ورود جهنم يوم القيامة -فإن صح عنه- فله معنى صحيح، وهو أن ورود النار في الآخرة قد اختلف فيه الصحابة عَلَى قولين:

أحدهما: أنه المرور عَلَى الصراط، كقول ابن مسعود.

والثاني: أنه الدخول فيها، كقول ابن عباس.

فمن قال هو المرور عَلَى الصراط، فإنه يقول: إِنَّ مرور المؤمنين عَلَى الصراط بحسب إيمانهم وأعمالهم -كما صحت النصوص النبوية- فمن كمل إيمانه نجي، ولم يتأذ بالنار، ولم يسمع حسيسها، ومن نقص إيمانه، فإنه قد تخدشه (الكلاليب)(2)، و (يتكردس)(3) في النار بحسب ما نقص من إيمانه، ثم ينجو.

ومن قال هو دخول النار، فإنه يقول إِنَّ المؤمنين الذين كمل إيمانهم، لا يحسون بحرها بالكلية.

وفي "المسند"(4) عن جابر مرفوعًا: "لا يبقى أحد إلا دخلها، فأما المؤمنون فتكون عليهم بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم، حتى إِنَّ للنار لضجيجًا من بردهم".

وفي حديث آخر: "تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي"(5).

(1) النساء: 123.

(2)

الكلوب بالتشديد: حديدة معوجة الرأس "النهاية"(4/ 195).

(3)

المكردس: الَّذِي جمعت يداه ورجلاه وألقي في موضع "النهاية"(4/ 162).

(4)

(3/ 328 - 329).

(5)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 668)، والبيهقي في "الشعب"(375)،=

ص: 378

وقال بعض التابعين: إذا قطع المؤمنون الصراط يقول بعضهم لبعض: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيَقُولُونَ: نعم، ولكن وردتموها وهي خامدة.

فعلى كلا القولين: المؤمنون الذين كمل إيمانهم لا يحسون بحر جهنم، ولا يتأذون به عند الورود عليها، فيكون ما أصابهم في الدُّنْيَا من فيح جهنم بالحمّى، هو حظهم من النار، فلا يحصل لهم شعور وإحساس بحر النار، سوى إحساسهم بحر الحمّى في الدُّنْيَا.

فهذا هو معنى ما ورد أن الحمّى حظ المؤمن من النار، وأنها حظهم من ورود النار يوم القيامة، والله أعلم.

وقد كانت الحمى تشتد عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعظم درجته عند الله، وكرامته عليه، وإرادته رفعة درجته عنده.

فروى ابن مسعود قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَمُّ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ؟! وَإِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، إِمَّا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، وَلا أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ، يَمْرَضُ مَرَضًا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَطُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا» .

=والخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 193) من حديث يعلى بن منية.

قال البيهقي: تفرد به سليم بن منصور وهو منكر.

وقال الخطيب: هكذا قال عن منصور بن عمار، عن خالد بن دريد. وروى هذا الحديث سليم بن منصور بن عمار، عن أبيه، واختلف عليه فَقَالَ: إسحاق بن الحسن الحربي، عن سليم، عن أبيه، عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى.

ورواه أحمد بن الحسين بن إسحاق الصوفي، عن سليم، عن أبيه، عن هقل ابن زياد، عن الأوزاعي، عن خالد بن دريك، عن بشير بن طلحة، عن يعلى بن منية، والله أعلم. أ. هـ.

وقال المصنف في "التخويف من النار"(ص 184) بعد ذكره الحديث: غريب وفيه نكارة. أهـ.

وقال الهيثمي في "المجمع"(10/ 360): رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو "ضعيف". اهـ.

ص: 379

خرَّجه البخاري بمعناه (1)، وهذا لفظ ابن أبي الدُّنْيَا (2).

وفي رواية البخاري: قلت: ذلك أن لك أجرين. قال: "أجل".

وخرج ابن ماجه (3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخلت عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم وهو (يوعك)(4) فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق "اللحاق، فقلت: يا رسول الله، ما أشدَّها عليك؟! قال: "إنا كذلك، يُضعف لنا البلاء، ويُضعف لنا الأجر".

وفي "المسند"(5) عن فاطمة بنت عتبة قَالَتْ: "أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعُودُهُ -فِي نِسَاءٍ- فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ، يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللهَ شَفَاكَ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من لا تصيبه الحمى والصداع من أهل النار، فجعل ذلك من علامات أهل النار، وعكسه من علامات المؤمنين.

ففي "المسند"(6) والنسائي (7) عن أبي هريرة «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالدَّمِ. قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا. قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ هَلْ أَخْذَكَ هَذَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: عُرُوقٌ تَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» .

(1) برقم (5647)، وكذا مسلم (2571).

(2)

في "المرض والكفارات" رقمي (2، 229).

(3)

برقم (4024).

(4)

الوعك: الحمى. "النهاية"(5/ 207).

(5)

(6/ 369).

(6)

(2/ 332).

(7)

في "السنن الكبرى"(7491).

ص: 380

وخرج الطبراني (1) من حديث أَنَسٍ: "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ، يَمَصُّ الدَّمَ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ. قَالَ: مَا اشْتَكَيْتُ قَطُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. أَخْرِجُوهُ عَنِّي".

وفي "المسند"(2) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ " وَهُوَ حَرٌّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ. وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَوَجَعٌ مَا أَصَابَنِي قَطُّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً، وَتَصْفَرُّ أُخْرَى".

وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحمى لأمته عموماً، ولأهل مدينته خصوصًا، وللأنصار من أهل قباء خصوصًا.

فأما الأول: ففي "المسند"(3) عن أبي قلابة قال: "نبئت أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي قَالَ فِي دُعَائِهِ: فَحُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، قَالهاَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ: فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأَبَى عَلَيَّ -أَوْ قَالَ: فَمنعت -فَقُلْتُ حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا

" يَعْنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وأما الثاني: في "المسند"(4) أيضاً عن أبي عسيب -مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ، فَأَمْسَكْتُ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ،

(1) في "المعجم الأوسط"(5905) قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 294): وفيه الحسن بن أبي جعفر. قال عمرو بن علي: صدوق منكر الحديث. وقال ابن عدي: صدوق وهو ممن لم يتعمد الكذب، وله أحاديث صالحة.

(2)

(5/ 142).

(3)

(5/ 248).

(4)

(5/ 81).

ص: 381

وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلَى الشَّامِ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِين".

ولا ينافي هذا ما في "الصحيح"(1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ (2) يَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

اللَّهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الوَبَاءِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ، كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ» .

قَالَتْ: وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا -تَعْنِي مَاءً آجِنًا (3).

فإن المراد بالحمى في هذا الحديث الوباء، وهو وخم الأرض وفسادها وفساد مائها وهوائها، المقتضي للمرض، وقد نقل ذلك من المدينة إِلَى الجحفة، كما في "صحيح البخاري"(4) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةٍ" -وَهِيَ الجُحْفَةُ- فَأَوَّلْتُهَا وَبَاءَ المَدِينَةِ يُنْقَلُ إِلَى الجُحْفَةِ» .

(1) أخرجه البخاري (1889)، ومسلم (1376).

(2)

أي صوته. قيل: أصله أن رجلاً قطعت رجله، فكان يرفع المقطوعة عَلَى الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكل رافع صوته: رفع عقيرته. "النهاية". (3/ 275).

(3)

الماء الآجن: أي الماء المتغير الطعم واللون. "النهاية"(1/ 26).

(4)

برقم (7038). قال الحافظ في "الفتح"(12/ 444): وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجًا من قول موسى بن عقبة.

ص: 382

وأما الحمى المعتادة فهي التي أمسكها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهي التي تكون بالأرض الطيبة، والبلاد الهنيئة الصحيحة هواؤها وماؤها.

وأما الثالث: -وهو تخصيص الأنصار بها- ففي "المسند"(1) أيضاً، و"صحيح ابن حبان"(2) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:«اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أُمُّ مِلْدَمٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ، فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ، فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ: إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ يَكْشِفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَدَعْهَا» .

وخرج الخلال في كتاب "العلل" من حديث سَلْمَان الفارسي قَالَ: «اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْحُمَّى أَبْرِي اللَّحْمَ، وأَمُصُّ الدَّمَ. قَالَ: اذْهَبِي إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ. فَأَتَتْهُمْ. فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَشَكَوُا الْحُمَّى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللهَ فَكَشَفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُمُوهَا، فَأسْتَنْظَفَتْ بَقِيَّةَ ذُنُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ دَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ» .

وقد كان كثير من السلف الصالح يختار الحمى لنفسه -كما سبق عن أبي بن كعب أنه دعا لنفسه بالحمى.

وروي من وجه آخر من حديث أبي سعيد البخاري قال: "قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا، مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ. قَالَ: أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ؟ قَالَ: وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا. قَالَ: فَدَعَا اللهُ أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ! فِي أَنْ لَا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ. فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ حَتَّى مَاتَ".

(1)(3/ 316).

(2)

كما في "الإحسان"(2935).

ص: 383

خرَّجه الإمام أحمد (1)، وابن حبان في "صحيحه"(2)، والحاكم (3) وقال: عَلَى شرطهما.

وخرَّج النسائي (4) أول الحديث فقط.

وقد سبق عن سعد بن معاذ نحو ذلك.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا (5) بإسناده عن عطاء، عن أبي هريرة قال: ما من مرض أَحَبّ إليَّ من هذه الحمّى، إِنَّمَا تدخل في كل مفصل، وإن الله عز وجل يعطي كل مفصل قسطه من الأجر.

ووضع بعض ولد الإمام أحمد يده عليه، فَقَالَ له: كأنك محموم؟ فَقَالَ أحمد: وأنّى لي بالحمّى؟

ومع هذا كله فالمشروع سؤال الله العافية، لا سؤال البلاء.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بسؤال العافية، ويحثّ عليه، وقال لمن سأل البلاء وتعجيل العقوبة له في الدُّنْيَا:"إِنَّكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، أَلَا قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(6).

وسمع رجلاً يسأل الله الصبر، فَقَالَ:"سألت الله البلاء، فسل العافية"(7).

وفي دعائه بالطائف -وقد بلغ منه الجهد مما أصابه من أذي المشركين -: "إِنْ لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي"(8).

وقال: "لا تتمنوا لقاء العدو، ولكن سلوا الله العافية، فَإِذَا لقيتموهم فاصبروا"(9).

وكان بعض السلف يقول في دعائه في المرض: اللهم أنقص من الوجع، ولا تنقص من الأجر.

(1)(3/ 23).

(2)

كما في "الإحسان"(2928).

(3)

في "المستدرك"(4/ 308).

(4)

في "السنن الكبرى"(7489).

(5)

في "المرض والكفارات"(244).

(6)

أخرجه عبد بن حميد (1399)، وأبو يعلى (3837) عن أنس.

(7)

أخرجه الترمذي (3527) وقال: هذا حديث حسن، والبزار (2635 - البحر الزخار) وقال:

وهذا الحديث لا نعلم له طريقًا عن معاذ إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن اللجلاج إلا أبو الورد.

(8)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(13/ 181) في الجزء المطبوع وحده.

(9)

أخرجه البخاري (3026) معلقًا، ومسلم (1741).

ص: 384

{وروى ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب المرضى" (1) بسنده إِلى أبي هريرة رفعه قال: "من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز وجل، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"} (2).

ومن هنا كُره تمني الموت، فإنه استعجال للبلاء قبل وقوعه، كما قال ابن عمر لمن سمعه يتمنى الموت: لا تتمنّ الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية.

وفي "المسند"(3) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ سَعَادَةِ المَرْء أَنْ يُطَولَ عُمْرَهُ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ» .

والحمى هي بريد الموت، ورائده، فتمنيها كتمني الموت، فيجوز حيث يجور تمني الموت.

وكان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي، وأحب المرض تكفيرًا لذنبي، وأحب الفقر تواضعًا لربي.

وفي حديث عبد الرحمن بن المرقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض" خرجه أبو القاسم البغوي.

وقال حسان بن عطية: ذكرت الحمى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "تلك أم الدم، تلدم اللحم والدم".

وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَحْبِسُ عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ» .

وقال ابن شبرمة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ» .

وقال سعيد بن جبير: الحمى بريد الموت.

خرجه كله ابن أبي الدُّنْيَا (4).

وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي عن أصحاب رسول الله أجمعين.

(1) برقم (83).

(2)

هذه الفقرة سقطت من الطبعة الأولى، واستدركتها من حاشية نسخة فاتح باستانبول.

(3)

(3/ 332).

(4)

في "المرض والكفارات"(92)، (73)، (74).

ص: 385