المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * الباب السادس: الإنشاء. * تعريف الإنشاء الطلبي وأنواعه. * التمني - شرح مائة المعاني والبيان - جـ ١٠

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * الباب السادس: الإنشاء. * تعريف الإنشاء الطلبي وأنواعه. * التمني

‌عناصر الدرس

* الباب السادس: الإنشاء.

* تعريف الإنشاء الطلبي وأنواعه.

* التمني والاستفهام وأدواتهما.

* الأمر والنهي وأغراضهما.

* تقدير الشرط الجازم بعد هذه الأنواع.

* النداء وأغراضه.

* مجيئ الخبر بمعنى الطلب والعكس.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى:

(الْبَابُ السَّادِسُ: الإنْشَاءُ)

الباب السادس من الأبواب الثمانية التي ينحصر فيها علم المعاني هو باب الإنشاء الإِنشاء مصدر أَنْشَأَ يُنْشِئُ إِنْشَاءً، وله إطلاقات قد يطلق على نفس الكلام الذي لا يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، لذلك يُعَرَّف على أنه ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته. وعرفنا أن المراد بالصدق هو تطابق الواقع، وعدم مطابقة الواقع هو الكذب. حينئذٍ الصدق المأخوذ في حد الإنشاء هو تعريفه بعينه الصدق الذي أُخِذَ في حدّ الخبر، ولذلك نقول: الكلام يُقَسّم إلى: خبر، وإنشاء.

خبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته.

والإنشاء ما لا يحتملهما.

فيطلق الإنشاء على نفس الكلام الذي لا يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، ومر معنا في شرح القويسني لشرح هذه الجملة، كقولك: بعتك هذا بكذا. بعتك هذا عند إنشاء البيع فلا يقال له: صادق أو كاذب. وقد يطلق على ما هو فعل المتكلم. إذًا إما أن يراد به الكلام نفسه، وإما أن يراد به فعل المتكلم. أي إلقاء الكلام الإنشائي. فرق بين الكلام الإنشائي وبين إلقاء الكلام الإنشائي، كما أن الإخبار كذلك، يقال: خبر، وإلقاء الخبر. ففرق بينهما. والأظهر أن المراد هو الثاني يعني: إلقاء الكلام الإنشائي وليس المراد به نفس الكلام. يعني: الباب السادس الإنشاء. ما المراد بالإنشاء قبل الولوج في مسائل الإنشاء؟ هل المراد به مراد الكلام نفسه؟ أو المراد به إلقاء الكلام الإنشائي؟

الثاني، المراد به الثاني، كما يشير إليه قوله:(يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ). (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) إذًا نقول: هذا يدل على أن المراد به الإلقاء.

واعلم أن الإنشاء إما أن لا يكون طلبًا يعني: الإنشاء نوعان: إنشاء طلبي، وغيره. غير طلبي. غير الطلبي الذي لا يكون طلبًا كأفعال المقاربة كاد وأخواتها، وأفعال المدح والذم نعم الرجل زيد هذا إنشاء لكنه ليس طلبيًّا، بئس الرجل عمرو هذا إنشاء لكنه ليس طلبيًّا، وصيغ العقود بعتك واشتريت والقسم ولعل ورُبّ وكم الخبرية ونحو ذلك، هذه كلها إنشاء لكنه من النوع الثاني الذي هو لا يكون طلبيًّا، يعني لا يفهم الطلب كالأمر والنهي. الأمر والنهي فيه شيء من إفهام الطلب فلا يُبحث عنها ها هنا لقلة المباحث البيانية المتعلقة بها، يعني: لا يبحث البيانيون عنا في أفعال المقاربة والقسم ولعل وكم الخبرية لأن الأبحاث متعلقة بها قليلة ولأن أكثرها في الأصل أخبار نقلت إلى معنى الإنشاء، والمقصود بالنظر هنا هو النوع الثاني الذي هو الإنشاء الطلبي لاختصاصه بمزيد أبحاث لم تذكر في بحث الخبر، فالإنشاء حينئذٍ يكون منقسمًا إلى نوعين: طلبي، وغيره. والمقصود هنا الطلبي أي المنسوب إلى الطلب كالاستفهام والأمر ونحو ذلك.

قال الناظم:

يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ

مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ وَالمُنْتَخَبْ

مِنْهُ التَّمَنِّي وَلَهُ المَوْضُوعُ

لَيْتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ

ص: 1

(يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) يُسْتَدْعَى الإنشاء يُسْتَدْعَى الظاهر ليس لها معنى، إنما الإنشاء يَسْتَدْعِي يعني: يطلب. وإذا عرفنا أن المراد بالإنشاء هنا إلقاء الكلام الإنشائي ظهر معنا يَسْتَدْعِي يعني: الإنشاء منه استدعاء وهو الطلب. أما يُسْتَدْعَى هذا فيه بعد.

قال الناظم: (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ)، (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ) إذًا الإنشاء قد يكون استدعائيًّا يعني: طلبيًّا، إذا كان طلب هذا أشبه ما يكون بالتفسير إذا كان هو أي الإنشاء طلبًا، وقف عليها على لغة ربيعة، وإلا هو خبر كان طلبًا والألف طلبا هذا الأصل وقف عليها على لغة ربيعة لأن ربيعة تسوي في الوقف بين المرفوع والمخفوض والمنصوب على خلاف لغة الجمهور الذي يفرقون بين المنصوب والمرفوع والمجرور، فيوقف على المجرور والمرفوع بالسكون وأما المنصوب فيوقف عليه بماذا؟ بالألف.

وقف على المنصوب منه بالألف

كمثل ما تكتبه لا يختلف

نقول عَمْروٌ قد أضاف زيدا

وخالد صاد الغزاة صيدا

ص: 2

وقف على المنصوب منه بالألف، إذًا طلبا، هذا الأصل، لغة ربيعة تقف عليه بالسكون كالمجرور والمرفوع، فإذا جاء مثل هذا التركيب إذا كان طلب لا يقال أين الألف التي تكون مبدلة عن التنوين نقول: هذا جرى على لغة ربيعة من باب الاعتذار له. إذًا (طَلَبْ) خبر كان منصوب وقف عليه على لغة ربيعة (مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ)، (مَا) أي الذي (هُوَ) أي الطلب أو المطلوب. (غَيْرُ حَاصِلٍ) يعني غير موجود وقت الطلب، لأن طلب ما يكون موجودًا محال يكون محالاً من باب تحصيل الحاصل، فقوله:(مَا هُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ) أي وقت الطلب. أي أن الإنشاء الطلبي أو الإنشاء إذا كان طلبًا استدعى مطلوبًا غير حاصل، (مَا هُوَ)، (هُوَ) الضمير يعود على المطلوب، يعني الطلب يتعلق باللفظ أو بإرادة المتكلم، وأما المطلوب هذا متعلق بالمخاطب. إذًا نقول:(مَا هُوَ) أي المطلوب (غَيْرُ حَاصِلٍ) أي: وقت الطلب سواء وُجِدَ ثم عدم، أو لم يكن ابتداءً. يعني المراد أنه غير موجود وقت الطلب، وإذا كان كذلك حينئذٍ إما أن يكون موجودًا ثم عُدِمَ، وإما أن لا يكون موجودًا ابتداءً، فيشمل النوعيين، لماذا؟ قالوا: لامتناع الطلب الحاصل فإنه محال، فلو اسْتَعمل أو اسْتُعمل صِيَغِ الطلب نحو: ليت لي مالاً. لمطلوب حاصل حينئذٍ امتنع إجراؤها على معانيها الحقيقية وهو المطلوب غير الحاصل، يعني: لو جاء في لسان العرب أو جاء في القرآن لفظ وقد كان المطلوب حاصلاً حينئذٍ لا بد من حمله على المعنى المجازي، لماذا؟ لكون الطلب إنما يتوجه إلى شيء غير موجود، وإذا كان كذلك حينئذٍ إذا جاء الطلب لشيء موجود إما أن نقول بأنه تناقض وهذا قد لا يقال به، وإما أن يقال بأن له محملاً حسنًا وهو المجاز، ومن هنا قال النحاة أن الأمر دلالته على إيجاد شيء غير موجود أو ديمومة الموجود، لأن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]{وَاتَّقِ} [الأحزاب: 37] وهو فعل أمر طلب شيء غير موجود، كيف نصنع في هذا الفعل {اتَّقِ اللَّهَ} هل التقوى غير موجودة؟ قالوا: هنا نوجه الكلام إلى أمرين، المطلوب بصيغة افعل إما أن لا يكون موجودًا فيطلب وجوده قم كان قاعدًا قلت له: قم. حينئذٍ حصل شيء لم يكن موجودًا، إن كان موجودًا قالوا: لا بد أن نجعل الطلب هنا لشيء غير موجود للقاعدة هنا لأن الطلب لا يتوجه إلا إلى شيء غير حاصل، قالوا: هنا {اتَّقِ اللَّهَ} الديمومة هذه شيء معدوم لم تقع بعد، فالمسئول أو المطلوب هنا {اتَّقِ اللَّهَ} المراد به دم على التقوى وهذا كقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] آمَنُوا وصفهم بالإيمان إذًا كيف يطلب منهم شيئًا قد حصل نقول: من باب تحصيل الحاصل {آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} آمِنُوا الأول حصل به الإيمان، ثم الإيمان قد يزول ولا يثبت، ثم أمر آخر وهو الديمومة والثبات على الإيمان هو الذي تعلق به مدلول آمِنُوا الثاني، حينئذٍ إما إيجاد شيء لم يحصل فيكون مدلول افعل، وإما الشيء الثاني وبه توجه الآيتان وهو ديمومة ما قد حصل، والديمومة معدومة حينئذٍ تعلق الأمر بشيء معدوم وجرى على القاعدة.

ص: 3

إذًا لو اسْتُعمل صيغ الطلب نحو: ليت لي مالاً. لمطلوب حاصل امتنع إجراؤها على التمني هنا نقول: لا بد أنه اسْتُعْمِل في شيء آخر من باب توجيه الكلام. ولذلك النحاة في باب الأمر قد أصابوا وأجادوا في تقسيم الأمر إلى شيئين:

الأمر الأول: طلب شيء لم يكن موجودًا.

الثاني: قد يكون موجودًا لكن قد يكون الطلب للديمومة عليه.

إذًا (يَسْتَدْعِي الإِنْشَاءُ إِذَا كَانَ طَلَبْ) أي الإنشاء إذا كان طلبًا استدعى مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب. ثم قال: (وَالمُنْتَخَبْ مِنْهُ التَّمَنِّي). (وَالمُنْتَخَبْ) يعني: الذي انتخب واختير من أنواع الطلب ليس كل طلب يبحث عنه هنا في باب الإنشاء، وإنما يختار بعض المواضع التي تتعلق بها المباحث البيانية (وَالمُنْتَخَبْ مِنْهُ فِيهِ) بعض النسخ والتي معي [فِيهِ] وليس له وجه، بعض الشروحات [مِنْهُ] وهو أولى، انتخب من كذا هذا الأصل، انتخب من الإنشاء التمني، أما انتخب في الإنشاء التمني هذا بعيد، ففيه الضمير أو منه الضمير يعود للإنشاء، وَانْتَخَبَ وَانْتُخِبَ إنما يتعدّى إلى يتعدى بمن هذا الأصل فيه. إذًا (وَالمُنْتَخَبْ) هذا مبتدأ (مِنْهُ) أي من الإنشاء وهو متعلق بالمنتخب (التَّمَنِّي). وأنواعه كثيرة أي الإنشاء والمنتخب أي المختار منه أي من الطلب (التَّمَنِّي) هذا النوع الأول من أنواع الطلب الذي يبحث عنه البيانيون.

ص: 4

وهو في الاصطلاح عندهم طلب حصول شيء على سبيل المحبة (وَلَهُ الْمَوْضُوعُ ** لَيْتَ)، (وَلَهُ) متعلق بـ (المَوْضُوعُ)، و (لَيْتَ) هذا خبر، (المَوْضُوعُ) للتمني له الضمير يعود للتمني الموضوع له ليت، يعني التمني معنًى من المعاني، والعرب تراعي المعاني وتجعل لها ألفاظًا تدل عليها وهي الحروف في الأصل، ولذلك الأصل في وضع الحروف أن تدل على المعاني القائمة بالنفس، فالتمني له حرفه وهو ليت، والنهي له حرفه وهو لا، والنفي والترجي كل هذه معاني ولها حروف دالة عليها. إذًا (وَلَهُ) أي لهذا المعنى وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة (المَوْضُوعُ) أي اللفظ الموضوع له للتمني (لَيْتَ) أي وُضِعَ له هذا الحرف وحده، ليت هو الذي يدل على التمني، ولا يشترط إمكان الْمُتَمَنَّى بخلاف الْمُتَرَجَّى، الْمُتَرَجَّى أي الشيء الذي تعلق به الرجاء يُشترط أن يكون ممكنًا يعني غير مستحيل وممكن الوقوع، وأما التمني فلا، فالْمُتَمَنَّى لا يُشترط إمكان حصوله بل قد يتعلق التمني بشيء محال، بخلاف الْمُتَرَجَّى فإنه يُشترط إمكانه فيصح التمني (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ)، فيصح التمني كما قال الناظم هنا (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ) عرفنا التمني حقيقته، وعرفنا حرفه، وهو ليت، ثم ما الذي يُتَمَنَّى؟ ما هو الْمُتَمَنَّى؟ هل يُشترط فيه أن يكون شيئًا واقعًا، أو شيئًا يجوز أن يقع، أو لا بد أن يكون محالاً؟ قال:(وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) يعني يجوز أن يكون الْمُتَمَنَّى لشيء (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ) وإن لم يحصل (الْوُقُوعُ) يعني شيئًا محالاً، فيتعلق الْمُتَمَنَّى أو التَّمَنِّي بشيء محال، أو بشيء غير ممكن، أو يصح أن يقال:(يَكُنِ) هنا على بابها (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا فيكون الخبر محذوفًا يجوز الوجهان، تكون كانت هنا تامة، ويجوز أن تكون ناقصة. إذًا لا يُشترط إمكان الْمُتَمَنَّى هذا القاعدة، بخلاف الْمُتَرَجَّى فإنه يُشترط إمكانه فيصح الْمُتَمَنَّى أو التمني وإن لم يكن الوقوع وكان تامة هنا أو ناقصة والتقدير وإن لم يكن الوقوع ممكنًا بل محالاً وقعه، لأن الإنسان كثيرًا ما يحب المحال ويطلبه، ولا يمتنع تمني الممكن إذا لم يكن توقع وطمع في حصوله لعدم الأسباب الموجبة ووجود الأسباب المانعة إذ لو توقعت وطَمِعْتَ لاستعملت كلمة لعل في الأول وعسى في الثاني.

إذًا الأصل في الْمُتَمَنَّى أن يكون محالاً، وإذا كان ممكنًا فحينئذٍ هو على أمرين:

إما أن يتوقع وقوعه أو لا.

الثاني: يجوز تعلق التمني به والأول لا.

ولذلك قال: ولا يمتنع تمني الممكن، متى؟ إذا لم يكن توقع وطمع في حصوله، إما لعدم الأسباب الموجبة ووجود الأسباب المانعة إذ لو توقعت الممكن وطمعت فيه حينئذٍ تستعمل كلمة ليت في التوقع، إذا كان الممكن متوقعًا حينئذٍ لا يكون التمني متعلقًا به، وإنما يكون بـ لعل، وإذا كان الثاني الذي هو الطمع فحينئذٍ يؤتى به بـ عسى، إذًا عسى للشيء الذي طُمِعَ في وجوده مع إمكانه، ولَعَلَّ للشيء الذي توقع وقوعه مع إمكانه، فإن كان ممكنًا ولم يتعلق به طمع ولا توقع حينئذٍ صح التمني ودخول ليت عليه، فالمحال مثل قول الشيخ الهرم:

ص: 5

يا ليت الشباب يعود يومًا

فأخبره بما فعل المشيب

ألا ليت الشباب، ليت، الشباب يعود يومًا، في الدنيا الشباب لا يعود فإذا تمنى أن يعود الشباب حينئذٍ قد تمنى محالاً، لأن الله تعالى حكم بذلك، والممكن الذي لم يُتوقع وقوعه كقول الفقير المملق: ليت لي مالاً فأحج منه. ليت لي مالاً هو لا يتوقع، المال ممكن أو لا؟ ممكن أن يحصل لكن هذا في حاله بعيد جدًا ولم يتوقع ولم يطمع محال يعني في نفسه، فحينئذٍ قوله هذا نقول: ممكن لم يتعلق به الطمع ولا التوقع فجاز التمني، وإما إذا كان المال متوقعًا حينئذٍ لا يصح أن يدخل عليه ليت إنما يأتي بماذا؟ توقع؟ يكون بـ لعل. والمكن الذي لم يتوقع وقوعه كقول الفقير: ليت لي مالاً فأحج منه فإن حصول المال ليس محالاً لكنه غير متوقع الحصول، ومتى كان الْمُتَمَنَّى متوقع الحصول انتقل التمني أو عن التمنِّي إلى الترجِّي فحينئذٍ نأتي بـ لعل، فمن ثَمَّ فرق بعضهم بين التمني والترجي:

لأن الأول في البعيد، التمني يكون في البعيد، والثاني في القريب.

بعيد الوقوع هذا يأتي التمني فيه. والثاني الذي هو الترجِّي في القريب.

وبأن الأول الذي هو التمني في المعشوق للنفس، والثاني: الترجي في غيره.

وبأن الثاني الذي هو الترجي في المتوقع، والأول في غيره.

إذًا عرفنا حقيقة التمني ثم قال: (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ). ثم بين ما هو الذي يتمنى يتعلق بماذا؟ قال: (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا بل محالاً أو أمكن وقوعه لكنه غير متوقع الحصول ولا يتعلق به الطمع. إذًا الممكن نوعان:

ممكن لا يتعلق به الطمع والوقوع فهذا الذي يصح أن يكون متمنى.

ونوع آخر يصح أن يكون واقعًا وكذلك يتعلق به الطمع فحينئذٍ لا يدخل عليه حرف تمني وهو ليت.

(وَلَوْ وَهَلْ مِثْلُ لَعَلَّ الدَّاخِلَةْ ** فِيهِ)، (وَلَوْ وَهَلْ) و (لَعَلَّ) قد يأتي التمني عرفنا أن حرفه ليت، قد يُتَمَنَّى بغير ليت بواحد من الحروف الثلاثة إما:(لَوْ)، وإما (هَلْ)، وإما (لَعَلَّ)، إذا (لَوْ) قد تأتي للتمني لكنه مجازًا لا حقيقة، لأن الحقيقة هو وضع ليت، و (هَلْ) قد تأتي للتمني لكنه ليس حقيقةً بل هو مجاز، وكذلك (لَعَلَّ) الشأن فيها كالشأن في (لَوْ).

ص: 6

إذًا (وَلَوْ) أي وقد يتمنى بـ (لَوْ) وذلك ما القرينة؟ قالوا: القرينة على أن (لَوْ) للتمني إذا نُصِبَ جوابها، لأن (لَوْ) في الأصل هي شرطية تحتاج إلى جواب، إذا نصب جوابها علمنا أن لو هنا للتمني، نحو: لَوْ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثَنِي. تُحَدِّثُنِي غلط تُحَدِّثَنِي بالنصب على تقدير فأن تُحَدِّثَنِي حينئذٍ نصب الفعل المضارع بأن مقدرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب التمني، أليس كذلك؟ مرّ معنا في ((الآجرومية)) فَتُحَدِّثَنِي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في أحد الأجوبة الستة وهو التمني هنا، فحملت (لَوْ) على التمني بدليل ماذا؟ بدليل نصب الفعل المضارع بعدها، فنصب الفعل المضارع قرينة لأن النحاة إنما نصوا بالتتبع والاستقراء على أن الفعل المضارع يُنصب بعد الفاء السببي إذا وقع في جواب (لَوْ)، وهنا (لَوْ) لَو بُحِثَ في المعاني التي يمكن أن تُجعل من المعاني الستة لَمْ يَصِحَّ لها إلا التمني، فقيل:(لَوْ) هنا تُستعمل في التمني. لَوْ تَأْتِينِي فَتُحَدِّثَنِي بالنصب، فإن النصب قرينة على أن (لَوْ) ليست على أصلها وهو الشرط، إذ لا ينصب الفعل المضارع بعدها بإضمار أن، وإنما تضمر أن بعد الأشياء الستة المقررة في علم النحو والمناسب لـ (لَوْ) هنا هو التمني. قالوا: كما يفرض بـ (لَوْ) غير الواقع واقعًا، كذلك يطلب بـ (ليت) وقوع ما لا طماعيةً في وقوعه. ومنه قوله تعالى:{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 102]. {فَنَكُونَ} لو {فَنَكُونَ} المعنى لو نظرت فيه على جهة الإجمال لقلت له: التمني. {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} يتمنون الكرة والرجعة {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إذًا الفاء هذه فاء السببية، والفعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء الواقعة في جواب التمني، والتمني إنما حصل هنا بـ (لَوْ)، والذي دلنا على ذلك النصب، لماذا النصب مع كون الأمر قد يكون في جواب التمني والنهي والدعاء والترجي إلى آخره؟ نقول: لأننا نظرنا فإذا به لا يمكن أن يُحمل أو تحمل لفظ (لَوْ) على معنى من المعاني الستة إلا لو على التمني، وأنت لو نظرت إلى السياق وجدت أن المراد بالآية هنا التمني.

إذًا (لَوْ) تستعمل في التمني لكنه مجازًا، والأصل في التمني إنما يكون بـ (ليت).

ص: 7

(وَهَلْ) أي وقد يجيء التمني بـ (هَلْ) والأصل أنها استفهامية، هذا الأصل فيها، فتخرج عن الاستفهام إلى التمني، وأصلها الاستفهام، حيث يُعْلم أو يَعْلم القائل امتناع ما بعدها، عرفنا أن التمني وإن لم يكن الوقوع فـ (هَلْ) الأصل فيها إذا مرت بك أن تحملها على الاستفهام، إذا استفهم إنما يُستفهم عن شيء ممكن الوقوع، أليس كذلك؟ فإذا كان ما بعدها غير ممكن الوقوع حملتها على التمني، ولذلك قالوا لك: أصلها الاستفهام حيث يعلم القائل امتناع ما بعدها نحو قوله تعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف: 53]{فَيَشْفَعُواْ لَنَا} فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب الذي هو الاستفهام، وهنا وقد عُلِمَ أن لا شافع لهم هذا معلوم أم لا؟ معلوم من جهة الشرع إذًا غير ممكن الوقوع، والاستفهام إنما يمكن عن ماذا؟ عن شيء يمكن وقوعه وإيجاده وحصوله، هَلْ قَامَ زَيْدٌ؟ هَلْ زَيْدٌ قَائِم؟ حينئذٍ لما كان ما بعد (هَلْ) امتنع وقوعه قلنا: هذه اسْتُعْمِلَتْ في معنى التمني والسياق يدل على ذلك، {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ} هذا فيه معنى التمني، فيمتنع حينئذٍ حمله على حقيقة الاستفهام لحصول الجزم بانتفاء هذا الحكم واستدعاء الاستفهام للجهل بثبوته وانتفاءه، والنكتة هنا في التمني بـ (هَلْ) والعدول عن ليت هو إيراد المتمنَّى لكمال العناية به في صورة الممكن الذي لا جزم بانتفائه، يعني خرج عن كونه بـ (ليت) لأن الأصل في (هَلْ) أن يكون ما بعده جائز الوقوع، ولذلك استعملت هذه في محل تلك.

إذًا التمني بـ (هَلْ) مجاز وليس بحقيقة لأن الأصل في التمني إنما يكون بماذا؟ بـ ليت. ومن هنا نعلم أن الصحيح أن المجاز يدخل الحروف كذلك، وهذا سيأتي بحثه في ((الكوكب الساطع)) إن شاء الله تعالى.

ص: 8

(مِثْلُ لَعَلَّ) أي مثل ما يتمنى بـ لعل (الدَّاخِلَةْ ** فِيهِ) أي في حكم التمني، فيعطى حكم ليت، وينصب في جوابه المضارع على إضمار أن على القاعدة، وهذه كلها تبحث في نصب الفعل المضارع بأن مضمرة وجوبًا، نحو: لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ. بالنصب على إضمار أن، وذلك لبعد المرجو عن الحصول فأشبه المحلات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها، وهذا إذا كان مستبعدًا الزيارة، يعني رجل بعيد ولا يطمع أن يحج قد يحصل هذا فحينئذٍ إذا استعمل لعل هنا لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ، حينئذٍ نقول: ما بعد لعل هذا غير مطمع في وجوده، ليس باعتبارك أنت وإنما باعتبار المتكلم يفترض فيه ذلك، حينئذٍ نقول: هنا استعمل لعل في غير الواقع، وهذا الشأن إنما يكون في ليت، كما قال:(وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) ممكنًا لَعَلِّي أَحُجُّ فَأَزُوكَ بالنصب على إضمار أن، وذلك لبعد المرجو عن الحصول، وعلمنا فيما سبق أن (لَعَلَّ) يكون ما بعدها مرجو الحصول يعني مطموع في حصوله، فأشبه المحالات والممكنات التي لا طماعية في وقوعها، فيتولد منه التمني لِمَا مرّ في أنه طلب محال أو ممكن لا طمع فيه بخلاف الترجي. إذًا (وَالمُنْتَخَبْ فِيهِ) عرفنا حقيقته (وَلَهُ المَوْضُوعُ ** لَيْتَ) هذا هو الأصل في التعبير عن التمني، (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُقُوعُ) هذا بيان للمتمنَّى أنه يكون محالاً أو ممكنًا لكنه لا طمع فيه، ثم بين أن غير (لَيْتَ) قد يقوم مقام (لَيْتَ) وهو ثلاثة أحرف، وإنما يكون هذا من جهة المجاز وهو:(لو)، و (هَلْ)، و (لَعَلَّ).

ثم قال: (وَالاِسْتِفْهَامُ). أي من أنواع الطلب كما أن من الطلب التمنِّي الاستفهام (وَالاِسْتِفْهَامُ) بالرفع عطف على التمني (وَالمُنْتَخَبْ فِيهِ التَّمَنِّي) والمنتخب كذلك الاستفهام، يعني الذي اختير، (وَالاِسْتِفْهَامُ) بالرفع عطفًا على التمنِّي (فِيهِ التَّمَنِّيْ) تمنِّيْ بإسكان الياء لأي شيء؟ للوزن؟ نعم.

.

يُسمى منقوص، نعم التمني.

ومن أنواع الطلب الاستفهام وهو عمدة أنواع الطلب، وهو لغةً طلب الفهم، وعرفًا طلب حصول صورة الشيء في الذهن، يعني المراد به:

إما أن يكون تصديقًا.

وإما أن يكون تصورًا.

وكلا الأمرين التصديق والتصور إنما يكون في الذهن، هذا هو الأصل فيه. بمعنى أن المطلوب به حصول علم حصول صورة الشيء في الذهن، وهذا هو حقيقة العلم، الإدراك مطلقًا، إدراك الشيء على ما هو عليه، طلب حصول صورة الشيء في الذهن فإن كانت وقوع نسبة بين أمرين أو لا وقوعها فحصولها هو التصديق، ومر معنا مرارًا معنى التصديق: وهو إدراك المركبات عن الجمل الاسمية والفعلية المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل أو نائبه. إدراكه بمعنى حصول المعنى الحاصل من هذه الجملة في الذهن يُسمى تصديقًا [جهة التيسير] نحو: هل قام زيد؟ وإلا فهو التصور نحو: ما العنقاء؟ التصور إنما يكون بالمفردات.

إدراك مفرد تصورًا عُلِم

ودَرْكُ نسبةٍ بتَصْدِيقٍ وُسِم

ص: 9

نسبة خارجية، أو دَرْكَ يعني: إدراك وقوع نسبة كلامية على ما مر معنا في شرح ((السُّلَّم)) على كلٍّ التصديق والتصور مبحثهما في أنواع العلم الحادث، فصل في أنواع العلم الحادث من شرح ((السُّلَّم)) ومر معنا، لكن المراد هنا أن الاستفهام هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن بالوجهين المعلومين في تقسيم العلم، إما تصديق وإما تصور، فقد يُطلب ببعض أدوات الاستفهام التصديق فقط، وقد يُطلب ببعض أفراد أو أدوات الاستفهام التصور، وقد يجوز التصور والتصديق في البعض كما سيأتي. إذًا ما العنقاء؟ هذا استفهام، اسْتفهام عن ماذا؟ عن إدراك مفرد، ما حقيقة العنقاء؟ فسِّرْهَا لي، ما الإنسان؟ ما الكلمة؟ نقول: هذه كلها إدراكها يُسمى تصورًا، والسؤال وقع عنها بما وهي اسم استفهام.

إذًا الاستفهام يكون في التصديق ويكون في التصور، وكلاهما نوعا العلم واللفظ الموضع له أي الاستفهام قال:(وَالاِسْتِفْهَامُ). عرفنا هو عطف على التمني عرفنا حقيقته (وَالمَوْضُوعُ لَهْ) يعني واللفظ الموضوع له للاستفهام أحد عشرة لفظًا.

هَلْ هَمْزَةٌ مَنْ مَا وَأَيٌّ أَيْنَا

كَم كَيْفَ أَيَّانَ مَتَى أَنَّى

(هَلْ هَمْزَةٌ) حرفان، والبقية أسماء (مَنْ)، و (مَا) بإسقاط حرف العطف (وَأَيٌّ أَيْنَا) الألف للإطلاق، و (كَم) إسقاط حرف العطف

و (كَيْفَ) بإسقاط حرف العطف و (أَيَّانَ)، و (مَتَى) كذلك بإسقاط حرف العطف و (أَنَّى) هذه كلها أسماء.

إذًا إحدى عشرة لفظًا يُستفهم بها، فهذه الألفاظ وإن اشتركت في إفادة الاستفهام فإنها تختلف باعتبار ما يُطلب بها، لأن بعضها يطلب به التصور، وعرفنا أن المراد بالتصور إدراك المفرد يعني لا يقع بعده إلا المفرد أو ما يُؤدي مؤدى المفرد. وبعضها يُطلب به التصديق حينئذٍ يقع بعدها الجمل الاسمية أو الفعلية، وإذا كان كذلك نقول: أدوات الاستفهام اشتركت في إفادة الاستفهام، ثم تختلف باعتبار ما يُطلب بها:

(فَهَلْ) الفاء فاء الفصيحة (بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ)، (فَهَلْ) الفاء فاء الفصيحة يُطلب تصديق بها فقط، يعني لا يُطلب بها التصور، وإنما يُطلب بها التصديق، (فَهَلْ) الفاء الفصيحة (بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ) فقط أي انقياد الذهن وإذعانه لوقوع النسبة بين الشيئين، هل قام زيد؟ ثبوت القيام لزيد هو الذي يستفهم عنه بـ هل (تَصْدِيقٌ) وقوع النسبة الخارجية أو لا، فتدخل على الجملتين (هَلْ) يعني: الجملة الاسمية والجملة الفعلية، هل قام زيد؟ وهل عمرو قاعد؟ هل قام زيد؟ جملة فعلية، هل عمرو قاعد؟ هل زيد قام؟ ما نوع الجملة هنا؟ هل زيد قام؟ اسمية أو فعلية؟ من قال اسمية، لماذا؟

..

اسمية فهي بالاسم تبتدئ

إذًا بُدأت باسم وهو مبتدأ، إذًا (هَلْ) حرف استفهام مبني على السكون لا محل له من الإعراب، زيد مبتدأ، قام والفاعل الجملة خبر، التعبير غلط الإعراب هذا خطأ، فرق بين أن يقال: هل زيد قائم؟ إذا لم يقع الفعل في حيز هل صارت الجملة اسمية، هل زيد قائم؟ هل عمرو قاعد؟ إذًا اسمان مبتدأ وخبر.

ص: 10

وأما إذا وقع الفعل في حيز (هَلْ) يعني بعدها، فما بعدها من اسم ليس مبتدأ، لأنه إذا وقع بعدها فعل اختصت بالفعلية فلا يليها الاسم هل زيد قام؟ الإعراب على التحقيق هل حرف استفهام زيد فاعل لفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور قام، إذًا زيد ليس مبتدأً وإنما هو فاعل لفعل محذوف، انظر التركيب فرق بين أن تقول: هل زيد قائم؟ تلاها اسمان مبتدأ وخبر، أما هل زيد قام؟ هل زيد يقوم؟ لا، لا تعرب زيد أنه مبتدأ، وليست هذه الجملة باسمية وإنما هي جملة فعلية لأنها هل إذا رأت الفعل في حيزها اختصت به فلا تدخل إلا على الجملة الفعلية، واضح هذا؟ إذًا تدخل على الجملتين:

الجملة الاسمية كقولك: هل عمرو قاعد؟ هذا الذي يعبر به على جهة التحقيق.

وعلى الجملة الفعلية هل قام زيد؟ هل زيد قام؟ هاتان الجملتان فعليتان، إذا كان المطلوب حصول التصديق بثبوت القيام لزيد والقعود لعمرو، إذا كان المطلوب بقولنا: هل عمرو قاعد؟ حصول التصديق حينئذٍ هذه (هَلْ) للتصديق، إما إذا كان المراد به التصور حينئذٍ نقول: هذه يمتنع التركيب. ولأجل ذلك لكون هل للتصديق امتنع العطف بعدها بـ (أم) المتصلة، ومرَّ معنا (أم) المتصلة وهي التي يطلب بها التعيين بعد الهمزة أزيد عندك أم عمرو؟ (أم) تُسمى أم المعادلة، لماذا؟ لأن (أم) هنا وقعت بين شيئين، يعني هو متأكد [أنه] أن عنده واحد منهما، لكن المشكوك فيه هل هو زيد أم عمرو؟ أزيد عندك؟ إذًا عندك هذا متحقق الوقوع عندك شخص ما، لكن المتردد فيه هل هو زيد أم عمرو؟ أزيد عندك أم هذه عادلتها أزيد؟ صارت معادلة لها، الأصل أن تدخل الهمزة على الاسمين فدخلت على زيد ونابت عنها أم في الاسم الثاني، أزيد عندك أم عمرو؟ فنقول: أم هذه المتصلة، أم لطلب التعيين بعد همزة داخلة على أحد المستويين أزيد عندك أم عمرو؟ إذا كنت قاطعًا بأن أحدهما عنده، ولكنك شككت في عينه، ولهذا يكون الجواب بالتعيين لا بنعم ولا بلا، وتسمى هذه معادِلة لأنها عادلَت الهمزة بالاستفهام بها وتُسمى متصلة لعدم الاستغناء بأحدهما عن الآخر، هذا النوع الذي عدّه ابن آجروم مرّ معنا في الحرف حروف العطف هذه لا يصلح أن تدخل بعد (هَلْ)، لماذا؟ لأنها تعادل بين تصور شيئين مفردين أزيد عندك أم عمرو؟ يعني المراد به تصور وجود زيد وتصور وجود عمرو، إذًا تعلقت بالتصور، وهل ليست للتصور وإنما هي للتصديق.

إذًا ما يدل على التصور لا يلي هل الدالة على التصديق.

إذًا امتنع العطف بعدها بعد (هَلْ) التي لا تُستعمل إلا في التصديق بأم المتصلة فلا يقال هل زيد قام أم عمرو؟ لأن أم المتصلة إنما تستعمل عند طلب التصور وإرادة التعيين بعد العلم بالنسبة والتطبيق طلب النسبة فيلزم طلبها وكونها حاصلة وتحصيل الحاصل محال وهما متنافيان، بخلاف أم التي هي بمعنى (بل) أم الإضرابية التي تؤدي معنى (بل)، وتُسمى أم المنقطعة فيجوز تقول: هل قام زيد أم قعد عمرو؟ لأن مفهوم المنقطعة الإضراب عن الجملة السابقة، والاستفهام لطلب تصديق آخر فتكون موافقة لطلب هل فيجوز اجتماعها معه.

إذًا هل لا يصح أن يَلِيَهَا أم المتصلة بخلاف المنقطعة، لأن المنقطعة لطلب التصديق، وأم المتصلة لطلب التصور فيحصل تنافي بينهم.

ص: 11

و (هَلْ) قسمان: بسيطة، ومركبة.

بسيطة هي التي يُطلب بها مطلق وجود الشيء، فيطلب المتكلم بها نسبة الوجود إلى الماهية أو نفيها عنها هل زيد موجود؟ ما الذي طُلِبَ به؟ شيء بسيط يعني شيء واحد، هل الحركة موجودة؟ إذا طُلِبَ بـ هل وجود شيء أو صفة الشيء ماهية بالوجود حينئذٍ صارت بسيطة.

ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء فيطلب بها المتكلم نسبة وجود شيء إلى الماهية ونفيها عنها كقولنا: هل الحركة دائمة؟ هل زيد مسافر؟ تصورت إقامته أولاً أليس كذلك؟ هل زيد مسافر؟ هل قام زيد؟ تصورت أولاً جلوسه، إذًا هي مركبة، إذا استلزمت معنى آخر وطلب شيئًا آخر حينئذٍ نقول: هذه مركبة، لماذا؟ لأنها تستلزم تصور شيء قبل المسئول بها، وأم هل زيد موجود؟ نقول: لا، هذا ليس فيه إلا وجود زيد فقط.

وهي تخصص الفعل المضارع بالاستقبال بحكم الوضع كالسين وسوف يعني: [هل قام زيد متى؟ في المستقبل [نعم]] (1) هذه ليست لا، هل يقوم زيد؟ هل قام زيد؟ في الماضي، تخصص الفعل المضارع بالاستقبال مرّ معنا أن السين وسوف تؤخر زمن [الماضي](2) المضارع من الحال إلى الاستقبال، وأن كذلك تصير الزمن الحال إلى المستقبل، هل يقوم زيد؟ يعني في الزمن المستقبل. إذًا مما يصرف زمن الفعل المضارع من الحال إلى الاستقبال (هل) كذلك. ولذلك قال: وهي تخصص الفعل المضارع بالاستقبال بحكم الوضع كالسين وسوف، وعلم ذلك بحكم الاستقراء، فلا يصح هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ هذا توبيخ، والتوبيخ والتقريع في شيء مضى أو في شيء مستقبل؟ في المستقبل أو في الماضي؟ في الماضي التوبيخ على شيء وقع وحصل، هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ نقول: هنا تضرب في الزمن المستقبل وهو أخوك وقع الضرب مع دلالة التوبيخ هذا في الماضي فتنافيا فلا يصح، لا يصح أن يقال: هل تضرب زيدًا وهو أخوك؟ لأنه استفهام توبيخ والتوبيخ إنما يكون للحال والماضي وهل هذه تصرف الزمن إلى المستقبل يعني: تخصص المضارع بالاستقبال كما مرّ فلا يصلح لإنكار الفعل الواضع في الحال بخلاف الهمزة فإنها لأصالتها تدخل في الحال والاستقبال من غير تخصيص، فيصح أن تقول: أتضرب زيدًا وهو أخوك؟ لأنها للحال وكذلك للماضي، ومنه:{أَتقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} . (فَهَلْ بِهَا يُطْلَبُ تَصْدِيقٌ) عرفنا أن (هَلْ) للتصديق فقط فلا يليها ما يُدل على التصور.

(1) سبق.

(2)

سبق.

ص: 12

وما عدا همز تصور والذي يعني: الباقي غير (هل) عدا يعني: تجاوز همزة استثني همزة (تَصَوُّرٌ) يعني تفيد التصور، تستعمل في إدراك المفردات (وَمَا) أي والذي بقي من أدوات الاستفهام بعد هل (هَمْزًا عَدَا) أي عدا همزًا يعني تجاوز همزًا استثنيها (تَصَوُّرٌ) هذا خبر ما، أي: يطلب به تصور فقط دون التصديق، وتختلف من جهة أن المطلوب بكل منها تصور شيء آخر لأن (ما) لها معنى، و (من) لها معنى، و (أين) لها معنى وهكذا، فكل واحدة لها معنًى وتشترك في إفادة التصور لكن تشترك في إفادة التصور على طريقة واحدة أو تختلف في إفادة التصور باختلاف معانيها، لا شك أنه الثاني لأنها أسماء،،وإذا كانت أسماء فلها أوضاع، وإذا كانت لها أوضاع حينئذٍ اشتركت في قدر معين وزاد كل نوع منها على إفادة التصور بما دل عليه من معناه.

فـ (من) يطلب بها تعين الشخص العالم من هنا؟ فيقال: زيد. من هنا؟ هُنا أفادت ماذا؟ طلب التصور، لكن السؤال إنما يكون عن أي شيء؟ عن الشخص يعني: العاقل الذي اتصف بالعلم، فيقال: زيد. ونحوه مما يفيد التعيين والتشخص، فـ (من) موضوعة للجنس من ذوي العلم لا يُسأل بها عن الوصف. يعني لا يُسأل بـ (من) عن الأوصاف، وإنما يُسأل بـ (ما) عن الأوصاف، إن وُجِدَ استعمال (من) عن الأوصاف حينئذٍ لا بد من قرينة أو نكتة تدل على خروج شيء عن ما أوضع له.

(وَمَا) يطلب بها أحد الأمرين، إما شرح الاسم، أي شرح مدلوله، كقولك: ما العنقاء؟ ما المراد به؟ شرح هذا الاسم، طالبًا شرح هذا الاسم، وتجاب بإيراد لفظ أشهر أو حقيقة المسمى، يعني:(مَا) للتصور، يُطلب بها أحد أمرين:

إما شرح الاسم ما العنقاء؟ فيرد بلفظ أشهر من لفظ العنقاء، أو كشف عن حقيقة المسمَّى التي هو بها هو، أي الماهية. كقولك: ما الإنسان؟ يعني السؤال عن ماذا عن اللفظ أو عن حقيقته؟ عن حقيقته، يعني: ما ماهية الإنسان؟ تقول: حيوان ناطق.

(وَأَيٌّ) ويسأل بها عن ما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما، (أَيّ) يطلب بها التمييز عن شيئين اشتركا في قدر مشترك بينهما فالذي امتاز به أحد صنفين هو الذي يجاب بأي، يعني يُسأل بـ (أَيّ) ويكون الشيء الْمُمَيِّز هو الذي يكون جوابًا لأي، لأنهم قد اشتركا فتأتي بالشيء المشترك فما افترق به أحدهما عن الآخر هو الذي يكون جوابًا، {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} [مريم: 73] هنا السؤال عن الخيرية، فريقان اشتراكا في أن كلاًّ منهما فريق وجماعة، حينئذٍ لا بد من تمييز بعضهما عن الآخر، أي أنحن أم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فالمؤمنون والكفار قد اشتركا في الفريقية، هذا فريق وهذا فريق، وسألوا عن ما يُمَيّزُ أحدهما عن الآخر، والأمر الذي يقع به التميز هنا هو الخيرية، والجواب بالتعيين نحن أو أنتم، والجواب معلوم.

و (أَيْنَ) ويُسأل بها عن المكان كـ أين زيد؟ وجوابه: في البيت، أو في المسجد.

و (كَم) ويسأل بها عن العدد نحو: {كَمْ لَبِثْتُمْ} أي كم سنةً أو شهرًا أو يومًا أو ساعة.

و (كَيْفَ) ويسأل بها عن الحال كيف زيد؟ أصحيح أم سقيم؟

و (أَيَّانَ) ويُسأل بها عن الزمان المستقبل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .

ص: 13

و (مَتَى) ويسأل بها عن الزمان ماضيًا كان أو مستقبلاً بخلاف أيان فهي للزمن المستقبل نحو: متى تحضر؟ والجواب: اليوم، أو غدًا. ومتى حضرت؟ وجوابه: أمس أو أول أمس.

و (أَنَّى) أَنَّى هذه تستعمل:

- تارةً بمعنى كيف ولا يليها إلا الفعل نحو قوله تعالى: {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]. يعني كيف، السؤال عن كيف. {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي كيف شئتم على أي حال.

- وتارة بمعنى من أين (أَنَّى) تستعمل بمعنى كيف ولا يليها إلا فعل

{أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ} ، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .

وتارة بمعنى من أين نحو: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. يعني من أين لك هذا. أي من أين لك هذا الرزق الآتي كل يوم.

إذًا هذه المعاني اشتركت أو هذه الأسماء اشتركت في كونها يُسأل بها لإدراك التصور، ثم تفترق من حيث ما دلت عليه من معنى.

قال الناظم: (وَهْيَ هُمَا). ما التركيب؟ الهمزة (وَهْيَ) أي الهمزة. (هُمَا) تصور والتصديق. إذًا تُستعمل الهمزة للتصور والتصديق معًا، أو تارة للتصور، وتارة للتصديق؟

الثاني يعني: تارة وتارة، لأنهما يتنافيان تصديق إدراك المركب، والتصور إدراك المفرد، فلا يكون الشيء مركبًا ومفردًا في وقت واحد، إنما تارة تأتي للتصور، وتارة تأتي للتصديق (وَهْيَ) أي الهمزة. يطلب بها (هُمَا) أي التصور والتصديق، يعني التصديق فقط والتصور فقط، وقد تكون لطلب أيهما كان، وهذا الحكم مختص بالهمزة لكونها الأصل، وباقي الأدوات نائبة عنها، هذا الأصل في الاستفهام.

مثال التصور في المسند إليه أهذا زيد أم عمرو؟ تقول: زيد. أهذا زيد أم عمرو؟ هذا المسند إليه المسئول عنه هذا المشار إليه، هذا زيد أم عمرو؟ تصور زيد النتيجة يعني الجواب يكون زيد أو يكون عمرو. أَخَلٌّ فِي الإِنَاءِ أَمْ عَسَلٌ؟ هذا عالم بأن الإناء فيه شيء لكن لا يدري هل هو خل أم عسل، حينئذٍ يسمى ماذا؟ يُسمى تصورًا. ومثال التصور في المسند أَفِي الْخَابِيَةِ جِبْسٌ أَمْ عَسَلٌ؟ خابية هل فيها جبس أم عسل تردد في النوعية. ومثال التصديق أَزَيْدٌ قَائِمٌ؟ حيث كان التصديق لم يقم فإن كان أم عمرو أو أَم قعد فليس له، أَزَيْدٌ قَائِمٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ؟ إذا كان التقدير أَمْ لَمْ يَقُمْ فهي للتصديق، لأنه قام زيد زَيد قائم أم قاعد هذا المراد، إن كان التقدير أم قاعد حينئذٍ خرج التصور، وإذا كان المراد أَمْ لَمْ يَقُمْ نفيت الذي أُسند بمقابل السابق حينئذٍ هي للتصديق.

إذًا (وَهْيَ هُمَا) يعني: الهمزة تأتي التصور والتصديق.

ثم قال:

وَقَدْ لِلاستِبْطَاءِ وَالتَّقْرِيرِ

وَغَيْرُ ذَا يَكُونُ وَالتَّحْقِيرِ

ص: 14

(وَقَدْ لِلاستِبْطَاءِ وَالتَّقْرِيرِ ** وَغَيْرُ ذَا يَكُونُ)، وقد يكون الاستفهام للاستبطاء، يعني قد تخرج أدوات الاستفهام عن إفادة الاستفهام إلى معنى آخر، ومنها ما ذكره الناظم بما ذُكر، (وَقَدْ) تستعمل أدوات الاستفهام المذكورة في غير الاستفهام مما يناسب المقام بمعونة القرائن مجازًا، لأن الأصل استعمالها في هو الاستفهام، فإذا استعملت في غير المعنى الذي وُضِعَت له في لسان العرب حينئذٍ هو حقيقة المجاز، وذلك عند امتناع إجرائها على معانيها الحقيقية، إذا امتنع أن تحمل أداة الاستفهام على الاستفهام حينئذٍ لا بد من التأويل، والقرينة والحال هو الذي يدل على تعيين المعنى المراد، فتجيء حينئذٍ خرجت عن الاستفهام للاستبطاء، أي: عده بطيئًا في الإجابة، كم أدعوك وما تلبي دعوتي؟ كم أدعوك هل أراد أن يستفهم كم مرة يدعوه، أم أراد أنه يستبطأ الإجابة؟ أدعوك وأدعوك وأَدعوك وما أجبتني إلى من أشكوا حالي، كم أدعوك؟ حينئذٍ نقول: هذا للاستبطاء. إذا خرجت عن كونها تفيد الاستفهام. أي عده بطيئًا في الإجابة كم أدعوك؟ لمن دعوته فلم يجبك، وهو شكاية عن البطء ونسبة المخاطب إلى التقصير في الإجابة. ومثَّلَهُ في ((الإيضاح)) بقوله تعالى:{مَتَى نَصْرُ اللهِ} [البقرة: 214]. ليس استفهامًا وإنما هو فيه شيء من الاستبطاء، (وَالتَّقْرِيرِ) أي ويجيء الاستفهام أو أداة الاستفهام للتقرير، أي حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه وإلجائه إليه، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ليس المراد به السؤال، وإنما المراد به التقرير، بشرط أن تسبق الهمزة المقرر به، ويُذْكَر بعدها فإن أردت التقرير بالجملة قلت: أَفَعَلْتَ كذا {أَلَمْ نَشْرَحْ} تأتي بالفعل مباشرة بعد الهمزة، أو بالمفعول قلت: أزيدًا ضربت؟ هذا تقريرٌ بالمفعول ليس بالضرب، وإنما بكون الضرب قد وقع على زيد، أو الفاعل {أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا} [الأنبياء: 62]، هذا تقريرٌ للفاعل، والأول للفعل، والثاني للمفعول به.

وفي تقريره بالحال أراكبًا سرت؟ وقس عليه.

إذًا يؤتى بهمزة التقرير أولاً ثم بالمقرر به، إن كان فاعلاً حينئذٍ يكون التقدير فاعل، وإن كانت جملةً تأتي بالجملة، إن كان حالاً أو مفعولاً به ونحو ذلك.

ص: 15

وقد لا تكون أدوات الاستفهام لما ذكر بل لغير ذلك لغير ذاك كما قال الناظم: (وَغَيْرُ ذَا) أي المذكورين، أي لغير الاستبطاء والتقرير يكون كالتعجب، تعجب بأداة الاستفهام نحو:{مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]{لَا أَرَى} ، {مَا لِيَ} استفهام هذا، هل يستفهم عن فعل نفسه؟ هل قمت؟ هذا لا يستفهم الأصل إنسان عن فعل نفسه، لأنه لم يكن يغيب عنه إلا بإذنه فلما لم يبصره تعجب من حال نفسه في عدم إبصاره إياه، إلا معنى الاستفهام العاقل عن حال نفسه، وهذا محال، بل هو بعيد، قد يكون مجازًا لنوعٍ ما، والتنبيه على الضلال ضلال المخاطب كقوله تعالى:{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]. هل هذا استفهام؟ لا، ليس استفهام، وإنما خرج عن أصله والمراد به التنبيه على الضلال، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} خطابٌ بتارك أمر الرسول والقرآن كما يقال لم يترك الجادة الواضحة إلى أين تذهب؟ يعني إلى أين أنت ذاهب هذا الطريق ليس هو الطريق، أي أنك ضللت، وذلك لأنه الله تعالى يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وحينئذٍ لا تخفى عليه خافية من أجل أن يسأل عنها، فلا يريد بهذا الكلام الاستفهام عن مكان ذهابهم الذي هو مفهوم أين، لأن أين للمكان حينئذٍ في ظاهره استفهامٌ عن مكان ذهابهم، ولكن الله تعالى يعلم حينئذٍ لا يكون استفهامًا.

(وَالتَّحْقِيرِ) كقولك من هذا؟ أنت تعرفه لكن أرد أن تحقره فقلت: من هذا؟ وهذا للتحقير استخفافًا بشأنه مع أنك تعرفه.

وَالأَمْرُ وَهْوَ طَلَبُ اسْتِعْلَاءِ

وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي

أي ومن أنواع الطلب (الأَمْرُ)، والمنتخب منه التمني (وَالأَمْرُ) عطفًا على التمني، (وَهْوَ) أي الأمر (طَلَبُ اسْتِعْلَاءِ) يعني (طَلَبُ) بمعنى الإيجاد، طلب فعلٍ غير كفٍ على جهة استعلاء، (طَلَبُ) هذا فيه قصور من الناظم لأن الطلب قد يكون طلب فعلٍ، وقد يكون طلب تركٍ، قد يقال بأنه لما ذكر النهي حينئذٍ تختص الأمر بطلب الفعل، لكنه لم يعرف النهي، لو عرف النهي بأنه طلب الترك عرفنا أن الأمر طلب الفعل، فالأمر هو طلب إيجاد فعلٍ غير كفٍ، على جهة استعلاءٍ من الآمر على المأمور بمعنى أنه يطلبه ويكون العلو معه، يعني وهو عالٍ، الاستعلاء المراد به العلو على المأمور، وعده لنفسه عاليًا، وهذا الأصح عند البيانيين. هنا يفرقون حتى السيوطي في ((شرح عقود الجمان)) الأصح عند البيانيين أنه يُشترط في الأمر الاستعلاء، وإذا جاء عند الأصوليين وبحث المسألة هو بنفسه، والأصح عند الأصوليين أنه لا يُشترط علوٌ ولا استعلاء، والمسألة هي بعينها، والمتكلم وإن اختلف من جهة أنه فنٌ مستقل إلا أن الأصل في المسألة هي واحدة. فالأصح أن يقال ما رُجِّحَ عند الأصوليين يُسْتَصْحَبُ عند البيانيين، ومن رجح ما عند البيانيين ورآه حقًا استصحبه عند الأصوليين، والحق في المسألة أنه لا يُشترط في الأمر علوٌ ولا استعلاء سواءٌ كان عند البيانيين أو عند الأصوليين.

وليس عند جل الأذكياء

شرط علوٌ فيه واستعلاء

ص: 16

هذا هو الصحيح أنه لا يشترط في الطلب أن يكون على جهة الاستعلاء ولا على جهة العلو. والسيوطي هنا اختلف أمره رجح في ((الكوكب)) أنه لا يُشترط فيه علوٌ ولا استعلاء، ورجح هنا في ((عقود الجمان)) أنه يُشترط فيه الاست .. والمسألة هي بعينها، والمبحث هنا لغوي، وإذا كان كذلك يُنظر فيه على جهة القواعد العربية، فما وافق الحق قبل، وما لم يوافق رُدَّ، ولم يشترط المتكلم العربي الفصيح عندما قال: افعل. أن يكون الفعل من أعلى إلا أدنى، ولا يُشترط فيه أن يكون اللفظ مصحوبًا بما يدل على الغلظة، حينئذٍ يستوي فيه الأمران وإنما نطقوا بافعل وحملت على طلب إيجاد الفعل من غير كفٍ فحينئذٍ سمي أمرًا.

والتقسيم الذي يذكره البيانيون وتبعهم عليه المناطقة وغيرهم

[أن الأمر إن كان من أعلى إلى أدنى](1) أن الطلب إن كان من أعلى إلى أدنى فهو أمرٌ.

وإن كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء.

وإن كان من مساوي لمساوي فهو التماس.

هذا لا الأصل له في لغة العرب، وإنما هو مجرد اصطلاح استعماله على جهة الأمر قالوا: حقيقة. والتماسٌ ودعاء قالوا: هذا على جهة المجاز. والصحيح أنه لا يُعرف هذا، هذا أمرٌ دخيلٌ على لسان العرب. إذًا قال:(وَالأَمْرُ وَهْوَ) أي الأمر من حيث المعنى طلب استعلاء، طلب فعلٍ غير كفٍ على جهة استعلاء، وذكر الناظم هنا ما رجحه البيانيون وهو أنه يشترط في الطلب أن يكون على جهة الاستعلاء من أجل أن يسمى أمرًا، فإن لم يكن على جهة الاستعلاء قالوا: ليس بأمر وإن استعمل فيه صيغة افعل فهو مجاز، والمراد هنا أن يعرف الأمر حقيقةً لا مجاز، فإن كان من المساوي للمساوي لأنه انتفى به الاستعلاء فلا يسمى أمرًا، إن كان من أدنى إلى أعلى {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [آل عمران: 147] قالوا: ليس بأمر وإنما هو دعاء. نقول: هذا التقسيم لا أصل له.

ثم قال: (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي)، (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ) قبل ذلك لأنه ذكر أن النهي له صيغة [النهي] الأمر له صيغة وهي صيغة افعل هذا الأصل فيها، وكل ما دل على الطلب ولو بواسطةٍ فيسمى أمرًا عند الأصوليين، وأما عند العرب فما، ذل بصيغته هو الذي يُسمى فعل أمر، يعني بصيغة افعل، وأما ليفعل فهذا ليس بأمرٍ وإن سماه الأصوليون أمرًا، لأن النظر إنما يكون في مدلول اللفظ لا في اللفظ بعينه فحسب، {لِيُنفِقْ} [الطلاق: 7] هذا يسمى أمرًا عند الأصوليين، عن النحاة لا يسمى أمرًا، لكن عند البيانيين ذكر المرشدي أن البيانيين كالأصوليين. يعني ما دل على الأمر يكون أمرًا، ولذلك قال: صيغته من المقترنة باللام أولى، ومتى تكون مقترنة باللام؟ إذا كان فعلاً مضارعًا {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ} هذا يُسمى أمرًا عند البيانيين وهو أمرٌ عند الأصوليين، نحو: ليقم زيدٌ. هذا يُسمى أمرًا وهي لام الجازمة المفيدة للطلب، أو لا يكون بها نحو: أَكْرِم عمرًا، وصه، ونذاري، ورويدًا زيدًا هذه كلها تُسمى أمرًا عند البيانيين وهي كذلك عند الأصوليين.

(1) سبق.

ص: 17

وأشار بقوله: (وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي). (جَائِي) هذه الياء للإشباع، جاءٍ هذا الأصل، جاءٍ لأنه منقوص وإذا نُوِّنَ ونُكِّرَ وجب دخول التنوين لكونه وقع في آخر البيت وذهب التنوين، إما أن يقال بأن الياء رجعت، وإما أن يقال بأنها للإشباع. أي: أن صيغة الأمر قد يستعمل لغيره، عرفنا صيغة الأمر افعل وليفعل وما ذُكر معه. الأصل فيها الدلال على طلب إيجاد فعلٍ من غير كفٍ على جهة الاستعلاء، قد يستعمل صيغة الأمر في غير الأمر كما اسْتُعْمِلَ ليت في غير التمني وهل في غير الاستفهام، إذًا الأصل في وضعها أن تُستعمل فيما وضعت له، وقد تخرج عنه ويسمى مجازًا، فصيغة الأمر قد تُستعمل لغيره، يعني لغير الطلب طلب الفعل استعلاءً بحسب مناسب المقام، وقرائن الأحوال تستعمل للإباحة وهذه يعتني بها الأصوليون أكثر، يعني افعل حقيقةً للوجوب، افعل حقيقةً في الوجوب، مجازٌ في الندب. هذا الذي يعنينا مجازُ في الندب والإباحة، هذا الذي تعلق بالأحكام الشرعية، فإذا قيل: حقيقةٌ في وجوب. حينئذٍ إذا لم توجد قرينة صارفة وجب حمل اللفظ على حقيقته، وهو الدلالة على الوجوب.

وافعل لدى أكثر للوجوب

يعني حقيقة، إن دلت افعل عن الندب لقرينة حينئذٍ يكون مجاز، إذا لم تستعمل في الدلالة على الطلب.

ثانيًا إذا دلت القرينة على عدم الوجوب والندب استعملت في الإباحة، حينئذٍ نقول: هذا الذي يتعلق بالحكم الشرعي. فتستعمل للإباحة نحو جالس الحسن أو ابن سيرين {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} [المائدة: 2]، {فَاصْطَادُواْ} قالوا: هذه للإباحة.

والتهديد كذلك تأتي {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] هل هذا أمرٌ بأن يعمل ما شاء؟ لا، المراد به التهديد.

إذًا لم تستعمل في الأمر حينئذٍ نقول: هذا مجاز. والإهانة نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].

والتسخير أي التذليل {كُونُواْ قِرَدَةً} [البقرة: 65].

والتعجيز نحو: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23]{فَأْتُواْ} الأمر هنا لتعجيز.

إذًا هذا من معاني افعل التي تخرج عنها للدلالة أو من الدلالة على الأصل وهو الأمر.

(وَقَدْ لأَنْوَاع يَكُونُ جَائِي) وقد يكون يعني صيغة: افعل. (جَائِي) لأنواعٍ يكون جائيًا لأنواع، أليس كذلك؟ وقد يكون الأمر جائيًا لأنواعٍ هذا الأصل يكون على ما سبق.

وَالنَّهْيُ وَهْوَ مِثْلُهُ بِلَا بَدَا

وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ وَالنِّدَا

ص: 18

(وَالنَّهْيُ) هذا عطفٌ على التمني، أي ومن أنواع الطلب النهيّ، من أنواع الطلب المنتخب الذي يتحدث عنه البيانيون تعلق به أحكام بيانية (النَّهْيُ) وهو طلب الكفّ عن الفعل. النهي ضد الأمر بمعنى أنه يقابله في التعريف وفي الأحكام المترتبة عليه في الجملة، طلب الكفّ عن الفعل تحريمًا أو كراهةً على جهة الاستعلاء على حد ما سبق في الأمر. والصحيح أنه لا يُشترط فيه علوٌ ولا استعلاء كالأمر، فإن صادف استعماله على سبيل الاستعلاء مِمن هو أعلى أفاد وجوب الترك المعبر عنه بالتحريم، وإلا أفاد طلب الترك فحسب، ثُمّ إن استعمل على سبيل التضرع سمي دعاءً، وإن استعمل من المساوي سمي التماسًا. يعني الكلام في النهي كالكلام في الأمر، والصحيح هنا كالصحيح هناك، أن هذا التقسيم حادث، يعني لا يعرف في لسان العرب، وإنما هو دخيلٌ عليها، وإلا إما أن يقال بأنه حقيقة أو مجازٌ، أم أنه [يسمى أمرًا ولا يكون] ويسمى نهيًا ولا يكون نهيًا حقيقةً؟ تقول: لا. وقول الناظم: (وَهْوَ مِثْلُهُ) أي مثل الأمر في الاستعلاء لأنه المتبادر إلى الفهم فهو طلب الكفّ عن الفعل استعلاءً. وقوله: (بِلَا بَدَا) أي ظهر بلا، بدا بِلا يعني: أداته التي وضع في الدلالة على النهي هي لا الناهية الجازمة، وهو حرفٌ واحدٌ وهو لا الجازمة، نحو: لا تفعل {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: 13]، وفي عرف النحاة تسمى هذه الصيغة نهيًا، في أي معنًى استعمل كما يسمى افعل أمرًا وهذا هو الصحيح، يعني ليس عندنا التماسٌ ولا دعاء، تُسمى نهيًا في أي معنًى استُعمل، متى ما وجد طلب الترك سُمِّيَ نهيًا، كما أن صيغة افعل متى ما وجد الطلب طلب الفعل سُمِّيَ؟ سمي أمرًا.

وقد يخرج عن استعماله في طلب الكف إلى غيره وهذه كذلك يعتني به الأصوليون كالتهديد كقولك لعبدٍ لا يمتثل أمرك: لا تمثل أمري. كما يقول الأب لابنه: لا تذهب لا تذهب. يعني: تهديد هذا تخويف، فإنه ظاهرٌ أنه ليس المراد طلب كفِّه عن الامتثال، وإنما المراد به التهديد.

كالدعاء نحو: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] فإنه ظاهر أنه تضرع والتماس كقولك على سبيل التلطف لمن يساويك لا تفعل كذا أيها الأخ، دل على أنه التماسٌ وليس بنهيٍ، هذا جريٍ على التفصيل المشهور عندهم. إذًا (وَالنَّهْيُ وَهْوَ مِثْلُهُ بِلَا بَدَا) وهذه مباحثها تكون في النحو على جهة التفصيل، وما يتعلق بها من أحكام في أصول الفقه (وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ) والشرط يجوز بعدها أي بعد هذه المذكورات الأربعة

(وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا) أي بعد الأنواع الأربعة وهي:

التمني، الاستفهام، النهي، الأمر.

ص: 19

(بَعْدَ)(يَجُوزُ) يعني يجوز أن يقدر، أي بعد الأنواع الأربعة التي هي التمني والاستفهام والأمر والنهي (وَالشَّرْطُ) المراد به حرف الشرط، قد يقدر بعدها، فيجوز أن يُجْزَمْ بعدها المضارع بتقدير شرطٍ بعدها، وهذا مما عدَّه النحاة من الجوازم ويبحث في جزم الفعل المضارع وهو ما يسمى بالطلب. {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} [الأنعام: 151]، {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30] {يَغُضُّوا} الأصل يغضون ما الذي جزمه؟ {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ} أين الجازم؟ ليس عندنا أداة جزم {يَغُضُّوا} يغضون إن يغضوا من أبصارهم إذًا على تقدير حرف شرط {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} إن تأتوا أتلوا، إذًا نقول: على هذا تقدير حرف شرطٍ. نحو: ليس لي مالاً أَنْفِقْهُ. أي إِنْ أُرْزَقْهُ أُنْفِقْهُ، وأين بيتك أزرك أي: إن تعرفنيه أو تعرفنيه أزرك {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] إن يقيموا الصلاة، فحينئذٍ يجوز بعد هذه الأوجه الأربعة: التمني، والاستفهام، والأمر، والنهي، إذا جُزم الفعل المضارع حينئذٍ يكون مجزومًا بشرطٍ مقدر على خلافٍ، ولا تشتم يكن خيرًا لك. يعني إن لا تشتمني يكن خيرًا لك، وتفصيلها أكثر يكون في كتب النحو ومرَّ معنا.

إذًا المراد هنا (وَالشَّرْطُ بَعْدَهَا يَجُوزُ)، (وَالشَّرْطُ) يعني أداة الشرط (يَجُوزُ بَعْدَهَا) بعد هذه الأربعة حينئذٍ يجزم الفعل المضارع بحرف الشرط المقدر أو بجواب الطلب على خلاف المذكور.

(وَالنِّدَا) أي ومن أنواع الطلب النداء بكسر النون ممدودًا إلا أن الناظم قصره للوزن وقيل لغة، وهو طلب الإقبال بحرفٍ نائبٍ مناب أدعو لفظًا أو تقديرًا، النداء هو طلب الإقبال بحرفٍ إذا الأصل في وضع أن يكون بحرفٍ هذا الحرف نائبٌ مناب أدعو تقديرًا أو لفظًا، لفظًا أو تقديرًا يا زيد هذا نُطق بحرف النداء {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يوسف: 29] {يُوسُفُ} يعني يا يوسف إذًا حرف النداء يكون مقدرًا ويكون ملفوظًا بها.

فيا للبعيد حقيقةٌ أو ما نُزِّلَ مُنَزَّلته، يعني قد تجيء ياء للقريب، الأصل فيها للبعيد يا زيد ما تستعمله للقريب، إنما تستعمل للبعيد، أو ما نُزِّلَ مُنَزّلة البعيد هو قريب لكنك أردت أن تشير إلى أنه فيه بعدٌ إما من حيث الفهم أو من حيث المكانة، يعني قد تجيء يا للقريب عند إعطائه حكم البعيد وتَنْزِيله مُنَزَّلَتَه لنكتةٍ تقتضيه فيصير بعيدًا حكمًا، وتلك النكتة إما إشارة إلى كونه بليدًا فينبه باستعمالها فيه على بلادته، وأنه بعيدٌ من التنبيه، وإما الحرص في وقوع النداء للمخاطب وطلب إقباله كأنه بعيد كقوله تعالى:{يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ} [القصص: 31]. وإما بيان الاعتناء بالمخاطب، وكون المخاطب يعتني به نحو:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وأما (أَيَا، وهَيَا) فهما للبعيد تنبيهًا على أنه حاضر لا يغيب، وأي والهمزة للقريب، وقد تستعمل في البعيد تنبيهًا على أنه حاضرٌ في القلب لا يغيب عنه أصلاً.

إذًا الأصل في حرف النداء أن يكون ياء ومثله ما ذكرناه.

(وَالنِّدَا

ص: 20

وَقَدْ لِلاخْتِصَاصِ وَالإِغْرَاءِ ** يَجِيءُ) قد يجيء النداء بالياء يجيء أو

[تجيء] إذا أردنا به الأداة يجوز لكن يجيء أظهر، وقد يجيء يعني النداء غير مستعملاً في معناه الحقيقي وإنما يخرج عن أصله كما هو الشأن في (ليت) و (هل) ونحوها، وقد تستعمل صيغة النداء في غير معناه وهو طلب الإقبال بأن تجيء إذا جعلناه راجعًا إلى الأداة (لِلاخْتِصَاصِ) يعني يفيد الاختصاص بدلاً من أن يقال يا أيها الرجل حينئذٍ نقول: هذا أفاد الاختصاص. ومر معنا معنى الاختصاص أنه [قصر الحكم على] ذكر الحكم في المذكور ونفيه عن ما عداه، نحو: أنا أفعل كذا أيها الرجل، في مثل هذا التركيب نقول: أيها الرجل أصله يا أيها الرجل، هنا حذفت يا وأيها الرجل دليلٌ عليها، أي متخصصًا به دون الرجال، أنا أفعل كذا أيها الرجل، هذا التركيب وإن كان الأصل فيه ياء النداء إلا أنه خرج عن أصله وهو طلب الإقبال إلى معنى التخصيص بمعنى أنه ما دل عليه التركيب أنا أختص به دون غيرٍ من الرجال، فقولك: أيها الرجل تخصيصٌ منادى بطلب إقباله عليه، ثُمَّ جُرِّدَ عن ذلك ونقل إلى تخصيص مدلولٍ من بين أمثاله بما نُسِبَ إليه، يعني مدلول شخصٍ واحدٍ من بين أمثاله بما نُسِبَ إليه، يعني رجلٌ من الرجال أو زيدٌ من الزيود، واستعماله يكون إما في معرض التفاخر نحو: أنا أكرم الضيف أيها الرجل، يعني أنا مختصٌ بإكرام الضيوف من بين الرجال. أي مختصًا من بين الرجال بإكرام الضيف، أو التصاغر نحو: أنا المسكين أنا الرجل، يعني أنا المختص بالمسكنة، أو لمجرد البيان بيان المقصود بذلك الضمير نحو: أنا أدخل الدار أيها الرجل، فكل هذا صورته صورة النداء وليس به، يعني خرج عن أصله، والمراد به هذا التركيب بعينه: أنا أفعل كذا أيها الرجل، خرج عن كونه نداءً إلا إفادة التخصيص، لأن أيًّا وما جعل وصفًا له لم يرد به المخاطب يعني: النداء، لم يرد به المخاطب يعني: مناداته، بل هو عبارةٌ عما دل عليه ضمير المتكلم السابق وهو أنا، ولا يجوز فيه إظهار حرف النداء لأنه لم يبق فيه معنى النداء أصلاً فكره التصريح بأداته بلفظ أيها، والرجل مضمومٌ من نوعه على أنه صفته ومجموعه في محل نصب من حيث الإعراب بحثٌ طويل عند النحاة.

(وَالإِغْرَاءِ) يعني قد يخرج النداء إلى الإغراء أي التحريض، كقولك لمن أقبل يتظلم: يا مظلوم. يعني زد، زد من الشكايا. يا مظلوم، فإنه ليس لطلب الإقبال لكونه حاصلاً وإنما الغرض والقصد إغراؤه وحثه على زيادة التظلم وبث الشكوى، فإنه ليس بنداءٍ حقيقةً. وقوله:(لِلاخْتِصَاصِ وَالإِغْرَاءِ) متعلق بقوله: (تَجِيءُ). وفي نسخةٍ: (يَجِيءُ).

ص: 21

ثم قال ختم الباب بقوله: (ثَمَّ مَوْضِعَ الإِنْشاءِ) قد يقع الخبر. ثم قد يقع الخبر موضع الإنشاء، مرّ معنى أن الكلام نوعان: خبرٌ، وإنشاء. وعرفنا المراد بالخبر والمراد بالإنشاء، قد يستعمل يعني: تأتي بالجملة بلفظ الخبر والمعنى إنشاء، وقد يقع العكس، لكن الأكثر أن يستعمل الخبر موضع الإنشاء، والثاني مختلفٌ فيه. ولذلك قال هنا:(ثَمَّ) للترتيب الذكري

(مَوْضِعَ الإِنْشاءِ) بالنصب مفعولٌ مقدم لقوله: (يَقَعُ). (قَدْ) للتحقيق و (يَقَعُ) فعل مضارع و (الْخَبَرُ) فاعل (مَوْضِعَ) يعني مكان (الإِنْشاءِ)، أي قد يقع الخبر موقع الإنشاء أي: ترد صيغة الخبر ويراد بها الإنشاء لمعنًى من المعاني، منها ما ذكره الناظم بقوله:(لِلتَّفَاؤُلِ) بوقوع المعنى المطلوب فيعبر عنه بصيغة الماضي الحاصلة التي حقها أن يخبر عنها بأفعالٍ ماضية، يعني: عرفنا أن الإنشاء يكون في المستقبل شيءٌ لم يقع، ولذلك من أبرز ما يميز الخبر عن الإنشاء، الخبر شيءٌ مضى انتهى هذا الأصل فيه، والإنشاء يكون بشيءٍ متعلقٍ في المستقبل، تعبر عن المستقبل بشيءٍ قد مضى للدلالة على أنه واقعٌ وحاصل وهذا ما عناه بقوله:(لِلتَّفَاؤُلِ). يعني التفاؤل بماذا؟ بوقوع المعنى المطلوب مثل ماذا؟ غفر الله لك، هذا دعاء اللهم اغفر لك مثلاً أو له، حينئذٍ نقول: اغفر هذا الأصل، وَضِعَ موضعه غَفَرَ وهو فعلٌ ماضي للدلالة على ماذا؟ على التفاؤل بوقوع المطلوب وهو حصول المغفرة من الله للمخاطب، فإنه أبلغ من: رب اغفر له. قد يقال: رب اغفر له، وقد يقال: غفر الله لك، أيهما أبلغ؟ غفر الله لك، بخلاف اغفر، حيث أتى بصيغة الماضي كأنه وقع فأخبر عنه، (وَالْحِرْصُ) يعني والإظهار الحرص، يعني: وقصد الحرص في وقوع المطلوب الذي اشتمل عليه الخبر لأن الطالب إذا عظمت رغبته في شيءٍ كثر تصوره إياه وربما يخيل إليه أنه حاصلٌ، هذا يسمى حرصًا، حينئذٍ نورده بلفظ الماضي نحو: رزقني الله لقاءك، وزارني محبوبي ما كان اللهم ارزقني لقاءه، وزرني يا محبوبي. يعني أتى بالجملة الفعل الماضي للدلالة على الدار. قال القزويني: والدعاء بصيغة الماضي من البليغ نحو: رحمه الله يحتملها. يعني يحتمل التفاؤل ويحتمل الحرص. وهنا نصٌ من البيانيين وهو محل وفاقٍ في معنى على أنه يعبر عن الرحمة برحمه الله، والآن استبدلت عند البعض يرحمه الله وهذا غلظ، يعني ليس، يجوز من ناحية اللغة لكن ناحية المعنى البليغ لا، والدعاء بصيغة الماضي من البليغ نحو: رحمه الله يحتملها أي التفاؤل وإظهار الحرص، وأما غير البليغ فهو ذاهبٌ عن هذه الاعتبارات. (أَوْ بِعَكْسِ ذا) عكس ماذا؟ استعمال الإنشاء مرادًا به الخبر هذا مختلفٌ فيه هل هو واقعٌ أم لا؟ لكن المشهور وجوده، ووجوده في بعض الأمثلة فقط، يعني ليس له قواعد وليس له يعني نكات (تأَمَّلِ) أي تأمل المذكور، (أَوْ بِعَكْسِ ذا) أي عكس قولنا: قد يقع الخبر موقع الإنشاء أي: قد يقع الإنشاء موقع الخبر، أي يُستعمل الخبر بصيغة الطلب لنكتٍ تُدْرَكُ بالتأمل. ولذا قال الناظم:(تأَمَّلِ). منها قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} [الأعراف: 29].

ص: 22

الآية لم يقل وإقامة وجوهكم تأكيدًا لمكان العناية بالصلاة {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] جاء بصيغة الإنشاء الطلب، والمراد به التسوية، حصل منك استغفارٌ أم لا؟ الحكم واحدٌ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] أي ليتربصن دل هنا على أن التسليم إنما يكون في الامتثال.

إذًا القاعدة هنا أنه يجوز أن يقع الخبر مرادً به الإنشاء، وهذا كثير، وهو متفقٌ على وجوده، وقد يقع الإنشاء مرادًا به الخبر وهذا مختلفٌ فيه، والصحيح وجوده لأنه دون سابق، والله أعلم.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 23