الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* الباب السابع: الفصل والوصل.
* دواعي الفصل.
* دواعي الوصل.
* الباب الثامن: الإيجاز والإطناب.
* تعريف الإيجاز والإطناب وأنواع كلٍ.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
(الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ)، (الْبَّابُ السَّابِعُ: الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ)
الباب السابع من الأبواب الثمانية التي انحصر فيها علم المعاني، وهو أعظم الأبواب، من أبواب هذا العلم علم المعاني أعظمها الفصل والوصل، وهو أعظم الأبواب خطرًا وأصعبها مسلكًا وأدقها مأخذًا، حتى قصر أبو علي الفارسي البلاغة على معرفته قيل: مبالغة. وقيل: حقيقة. وأن من كمل فيه لا بد أن يكون كمل في غيره، يعني الذي يُتْقِنُ هذا الباب إلا من كمل في غيره من أبواب السابقة والآتية. (الْفَصْلُ وَالْوَصُلُ) قَدَّمَ الناظم الفصل لأنه الأصل، والوصل عارض، حاصل بزيادة حرف، لأن الوصل هو: عطف الجملة على الجملة. والفصل هو: ترك العطف. لأن العطف كما يكون في المفردات يكون كذلك في الجمل، كما تعطف زيدًا على عمرٍو، جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، رَأَيْتُ زَيْدًا وَبَكْرًا، عطفت المفرد على المفرد، كذلك يكون عطفه في الجمل. إن كان العطف بحرف يدل على معنى وهو غير الواو، الوَاو تدل على معنى، لكن (الفاء، وثُمّ) هذه واضحة معانيها المعاني المعتبرة في المفردات هي بعينها معتبرة في الجمل، يعني كما أن (الفاء) تدل على الترتيب مع التعقيب في المفردات كذلك مع الجمل، وكذلك (ثُمّ) تدل على التعقيب مع المهلة في المفردات كذلك في الجمل. إذًا نقول: لأن الفصل هو الأصل، والوصل عارض حاصل بزيادة حرفٍ لكن لما كان الوصل بمنزلة الملكة، والفصل بمنزلة عدمها، والأعدام إنما تعرف بملكاتها، جرت عادة علماء المعاني بتقديم تعريف الوصل، لأن الوصل يحتاج إلى ملكة. يعني: الذي يسلم مثل ما يقال: (سكن تسلم) هناك. هنا الذي يُريد أن يسلم فليفصل ولا يصل إلا إذا كان عالمًا، ولن يجيد إلا إذا كانت عنده ملكة، وهو لذلك قال: أعظم أبواب علم المعاني.
قال رحمه الله تعالى:
إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه
…
كَنَفْسِهَا أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ
فافْصِل .................
…
............................
إذًا قدم الفصل على الوصل.
الوصل لغةً: الجمع. وهو: عطف بعض الجمل على بعض.
والفصل لغةً: القطع. وهو: ترك عطف بعض الجمل على بعض.
قال الناظم: (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه). يعني إذا توالت جملتان. الحديث هنا عن الجملتين، إذا توالت جملتان فـ (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ مِنْ مَاضِيَه) يعني الثانية من ماضية يعني من السابقة، يعني الجملة الثانية المعطوفة (إِنْ نُزِّلَتْ) من السابقة التي هي المعطوف عليها كنفسها، أو النوع الثاني (أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ) دخل تحت هذا البيت أربعة أنواع مما يجب فيه الفصل، وهو ما يعنون له بـ:
كمال الاتصال هذا الأول.
الثاني: شبه كمال الاتصال.
وثالثًا: كمال الانقطاع.
ورابعًا: شبه كمال الانقطاع.
هذه أربعة أنواع، اثنان دخلا تحت قولنا:(كَنَفْسِهَا). الذي هو كمال الاتصال وشبه كمال الاتصال.
أو العاري (كَالْعَارِيَةْ) دخل تحته نوعان: كمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع.
ما المراد بهذه الأنواع الأربعة؟
هذه الأنواع الأربعة هي مواضع وجوب الفصل بين الجمل.
الأول: كمال الاتصال. فيجب الفصل بين الجملتين إذا كان بينهما كمال الاتصال. والمراد بكمال الاتصال أن تكون الثانية مؤكدة للأولى، أو بدلاً منها، أو عطف بيان. إما تكون الثانية تأكيدًا للأولى، أو تكون بدلاً منها، أو تكون عطف بيان. حينئذٍ نقول: يجب الفصل في هذه المواضع الثلاثة، أن تُنَزّل الجملة الثانية من الأولى منزلة التوكيد المعنوي في إفادة التقرير مع اختلاف المعنى وهذا التوكيد المعنوي، أو اللفظي في إفادة التقرير مع اتحاد المعنى. يعني: قد تنزل الجملة الثانية من الأولى مُنَزَّلة التوكيد المعنوي كـ جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، وقد تنزل الثانية من الأولى منزلة التوكيد اللفظي كـ جَاءَ زَيْدٌ زَيدٌ، هذان اعتباران من اعتبارات المذكورة هنا.
مثال الأول التوكيد المعنوي قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} . بالنسبة إلى قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} . {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] كم جملة؟ جملتان {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مبتدأ وخبر، {لَا رَيْبَ فِيهِ} جملة اسمية هذه نافية للجنس {لَا رَيْبَ فِيهِ} إذًا جملة اسمية وجملة اسمية، نُزِّلَتِ الثانية من الأولى منزلة التوكيد المعنوي، وفُصِلَ بينهما يعني: لم يعطف ذلك الكتاب ولا ريب فيه، ذلك الأمر ولا شك فيه كما يقول الناس. نقول: لا، إنما فصل بين هاتين الجملتين لأن الثانية بمنزلة التوكيد، وهل يقال: جَاءَ زَيْدٌ وَنَفْسُهُ؟ أو جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ؟ جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، كما أنه لا يفصل بين جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ، نَفْسُه المؤكد المعنوي مع المؤكد زيد كذلك هنا نزلت مُنَزّلة التوكيد المعنوي [فلا فصل](1)، بل يجب الفصل هنا وليس بـ فلا وصل بل يجب الفصل هنا. إذًا {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} فإنه لما بولغ هنا الوجه لماذا؟ لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى في الكمال {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تدل على أن الكتاب بلغ الدرجة القصوى في الكمال من جهتين:
(1) سبق.
أولاً: {ذَلِكَ} تدل على كمال التمييز، وجاءت اللام، اللام البعد، وإلا {الْكِتَابُ} يشار إليه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} جاء في غير موضع {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} [النمل: 76] وهذا يشار بها للقريب، لكن جاء هنا قال:{ذَلِكَ} . إذًا فيه مكانة وعظمة. {الْكِتَابُ} دخلت عليه (أل) الدالة على الكمال، حينئذٍ لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى في الكمال، ووجهه أنه جعل المبتدأ {ذَلِكَ} اسم الإشارة الدالة على كمال العناية بتمييزه وتعريف الخبر {الْكِتَابُ} بـ (أل) الدالة على الانحصار حينئذٍ عرف الجزءان أي:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} أنه الكتاب الكامل الذي يستحق أن يُسمى كتابًا دون ما سواه، جاز حينئذٍ أن يتوهم السامع قبل التأمل أن في ذلك مجازًا، إذا قيل:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} هذا هو الكتاب وما عداه ليس بكتاب، قد يتوهم السامع بأنه مجاز أي: بسبب المبالغة فاتبع بقوله {لَا رَيْبَ فِيهِ} كما أنه قد يتوهم جَاءَ زَيْدٌ رَسُولُهُ غُلامُهُ ذاته يحتمل فلما قيل: نَفْسُهُ. حينئذٍ تعين، فلما قال:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . واحتمل أنه فيه شيء من المبالغة - وانتبه هنا المعاني ليست خاصة بالمسلمين، حتى يقال: كيف يتوهم؟ - لا، هنا الكتاب عام يستمعه المسلم والكافر، فقد يتوهم الكافر العربي {ذَلِكَ الْكِتَابُ} بأنه مجاز من باب المبالغة، فجاء {لَا رَيْبَ فِيهِ} إذًا من باب التأكيد، من باب نفي المجاز في قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} . دفعًا لهذا التوهم. إذًا هذا الأول بما يتعلق بالجملة إذا كانت الثانية بمنزلة التأكيد المعنوي.
ومثال التوكيد اللفظي تُنَزّل الثاني مُنَزّلة التوكيد اللفظي قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . أيضًا في نفس السورة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إذا جُعلت جملة مستقلة بالنسبة لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هذه الجملة تعتبر مؤكدة أو بمنزلة التأكيد اللفظي لقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} ، {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} فإن معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كُنْهُهَا من أين أخذنا هذا؟ لما في تنكير هدى، هُدى دال على الإبهام والتفخيم التنكير يدل على الإبهام ويدل على التفخيم، والإتيان به دون هادٍ اسم فاعل حتى كأنه هداية محضة، لذلك تقول: زَيْدٌ عَدْل. كأنه هو العدل بعينه ولا يقال: زَيْدٌ عَادِل. إذا أردت المبالغة تقول: زَيْدٌ عَدْلٌ. إذًا هو العدل بعينه لا يزيد عنه ولا ينقص، {هُدًى} إذًا هو الهداية بعينها، فلو قلت: هادٍ. فهو أقل معنى من {هُدًى} ، وكذلك عادل هو أقل معنًى من العدل، لأن المصدر يدل على تمام المعنى. وقوله: هادٍ. إذًا {هُدًى} أدل على المقام من هادٍ حتى كأنه هداية محضة، وهذا معنى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لأن معناه الكتاب الكامل أي في الهداية إذ هي المقصود من الإنزال فهو بإنزال جيد للثاني في قولك: جَاءَ زَيْدٌ زَيدٌ. إذًا {ذَلِكَ الْكِتَابُ} لما عرّف الجزأين وكان المراد به الكمال، الكمَال في ماذا؟ القرآن أو الكتاب إنما أُنزل من كونه هادٍ إلى طريق الله عز وجل، فإذا قيل:{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يكون فيه توكيد لفظي من جهة المعنى. إذًا هذا ما يتعلق بالجملة الثانية إن كانت مؤكِّدة، وأما البدل من كون الثاني بدلاً من الأولى لنكتة كـ كون المراد لطيفًا أو مطلوبًا في نفسه فتُنَزّل الثانية بمنزلة البدل المطابق نحو قوله تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]. {قَالَ يَا آدَمُ} ما قال: وقال يا آدم. لماذا؟ لأن {قَالَ يَا آدَمُ} هو عين الوسوسة، أليس كذلك؟ جَاءَ زَيْدٌ أَخُوكَ، أخوك بدل مطابق، بدل كلّ من الكل، هل يصح أن تقول: جَاءَ زَيْدٌ وَأَخُوكَ، وأردت به البدلية؟ الجواب: لا، إذًا هنا لما كان قوله:{قَالَ يَا آدَمُ} هو عين الوسوسة فسرها لأن قوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} . هذا فيه شيء من ناحية الإجمال، فقال:{قَالَ يَا آدَمُ} . ففصل جملة {قَالَ} لأنها بمنزلة البدل المطابق من وسوس، والنكتة في الإبدال هنا لطافة المراد ودقته، وهذا مثال صالح لعطف البيان فنحتاج إلى إعادة، لأن كل ما صلح أن يكون بدل كل من الكل فهو عطف بيان. إذًا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} لِمَ فصل؟ لكون الجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بمنزلة البدل المطابق من قوله:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} أو بمنزلة عطف البيان، أو بمنزلة بدل البعض نحو قوله تعالى:{أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 132: 134] انظر {أَمَدَّكُم} ، {أَمَدَّكُم} . {أَمَدَّكُم} الأولى فيها شيء من التعميم أو الإبهام
…
{أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} ما هو؟ قال: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
هل هذا كلّ ما أمدهم الله تعالى به من النعم؟ الجواب: لا، إذًا هذا بدل بعض من كلّ. ففصل جملة {أَمَدَّكُم} الثانية لأنها كبدل البعض إذ مضمونها بعض ما يعلمون، والنكتة في إبدالها كون مضمونها مطلوبًا في نفسه، أو بمنزلة بدل الاشتمال نحو: ارْحَلْ لا تُقِيمَنْ عِنْدَنَا، أو لا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا. ارْحَلْ ما قال: وَلا تُقِيمَنَّ. إنما قال: ارْحَلْ لا تُقِيمَنَّ. إذًا فصل بين الجملتين لكون الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من الأولى، فلا تقيمن بدل اشتمال من ارحل، والنكتة كالذي قبله.
إذًا إذا كانت الجملة الثانية بمنزلة التوكيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، أو بمنزلة البدل من السابقة، أو بمنزلة عطف البيان حينئذٍ وجب الفصل، يعني: لا يجوز أن تعطف الثانية على الأولى، لماذا؟
لكونها توابع، والتوابع عين المتبوع، والعطف يقتضي المغايرة، والموجب للتأكيد دفع توهم السهو أو المجاز.
إذًا هذا هو النوع الأول كمال الاتصال، يُعَنْوَنُ له عند البيانيين بكمال الاتصال أن تكون الثانية بمنزلة البدل أو التوكيد أو عطف البيان.
الموضع الثاني من مواضع وجوب الفصل: أن يكون بين الجملتين شبه الاتصال - ليس كمال الاتصال - شبه الاتصال. يعني شبه كمال الاتصال وصورته بأن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، يعني تُنَزّل الجملة الأولى بمنزلة السؤال، والجملة الثانية بمنزلة الجواب. فتُنَزّل الأولى مُنَزّلة السؤال فتُفْصَلُ منها الثانية كما يُفْصَلُ الجواب عن السؤال، هذا الأصل، أَيْنَ زَيْدٌ؟ فِي الْبَيْتِ. لا يصح تقول: أَيْنَ زَيْدٌ وَفِي الْبَيْتِ. لا يُعطف الثاني على الأول، مثلها الجملة الثانية إذا كانت بمنزلة الجواب فلا تعطف على ما قبلها لأنها في منزلة الجواب، ويسمى الفصل في ذلك استئنافًا، وكذلك الجملة الثانية تسمى استئنافًا، هذا ما يُسمى باستئناف البياني الذي يمر معنا دائمًا، ما ليس واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف النحوي، ما كان واقعًا في جواب سؤال مقدر هذا الاستئناف البياني. مثاله قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} هل النفس أمارة بالسوء؟ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فنزلت الثانية منزلة الجواب، والأولى اقتضت السؤال فحينئذٍ وجب الفصل، وهذه بقرينة التأكيد.
ومنه قول الشاعر:
قال لي كيف أنت قلت عليل
…
سهر دائم وحزن طويل
كأنه قال: لم أنت عليل؟ فقلت: عليل سهر دائم. هذا جاء الفصل، ولم يقل وسهر دائم، لماذا؟ لكون الثانية مُنَزَّلَة مُنَزّلة الجواب من السابقة، كأن المخاطب لما سمع عليل قال: ما سبب علتك؟ قال: سهر دائم وحزن طويل.
إذًا هذا الموضع الثاني وهو شبه الاتصال، هذان الموضعان داخلان في قوله:(كَنَفْسِهَا). (إِنْ نُزِّلَتْ ثَانِيَةٌ) يعني: جملة ثانية (مِنْ مَاضِيَه) يعني من الجملة الماضية السابقة. (كَنَفْسِهَا) وهذا ما يُسمى بكمال الاتصال أو شبه كمال الاتصال. يعني أن تكون الثانية بمنزلة التوكيد، أو عطف البيان، أو بدل بأنواعه، أو بمنزلة الجواب. إذًا دخل النوعان في هذه (كَنَفْسِهَا).
(أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَةْ) وهذا يدخل تحته أمران وهو الموضع الثالث أن يكون بين الجملتين كمال الانقطاع. وصورته أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، الأصل في العطف عند البيانيين أن يُعطف الخبرُ على الخبرِ، والإنشاء على الإنشاء مطلقًا لفظًا ومعنًى؟ لفظًا ومعنًى هذا الأصل، فإن اختلفا في اللفظ والمعنى، أو في المعنى دون اللفظ، أو في اللفظ، في البعض دون المعنى، يعني كانت الأولى خبرية لفظًا إنشائية معنى، وكانت الثانية إنشائية لفظًا خبرية المعنى، حينئذٍ قالوا: هذا حصل فيه اختلاف.
إذًا كمال الانقطاع أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط، أو يفقد الجامع، لا بد من تحقق أمرين.
مثال كمال الانقطاع: مات فلان رحمه الله. هل يصح أن يقال مات فلان ورحمه الله؟ لا يصح، لماذا؟ لكون الأولى خبرًا لفظًا ومعنًى، والثانية خبرٌ لفظًا لا معنًى. لأن رحمه الله عرفنا قبل قليل أنه ثُمَّ قد يقع الخبر موضع الإنشاء، وهنا وقع الخبر موضع الإنشاء رحمه الله بمعنى يرحمه الله. إذًا لما اختلفا في المعنى خبرًا وإنشاءً حينئذٍ وجب الفصل. إذًا مات فلان رحمه الله، أي يرحمه الله. فهو إنشاء معنًى فلا يصح عطفه على مات فلان، لأنه خبر لفظًا ومعنًى.
إذًا هذا الموضع الثالث من المواضع التي يجب فيها الفصل فصل جملة الثانية على الأولى ولا يجوز العطف إذا كان بين الجملتين كمال الانقطاع لأن اختلفتا خبرًا وإنشاءً أو فقد الجامع، وسيأتي فقد الجامع.
الموضع الرابع من مواضع وجوب الفصل: شبه الانقطاع. يعني شبه كمال الانقطاع. بأن يكون عطف الثاني على الأولى موهمًا لعطفها على غيرها. يعني: لو عطفنا لوقع وهم أو فسد المعنى مثاله المشهور عندهم:
وتظن سلمى أنني أبغي بها
…
بدلاً أُرَاهَا في الضلال تهيمُ
تظن سلمى ماذا؟ أنني أبغي بها بدلاً، هذا مظنون سلمى، أُرَاهَا يعني أنا. في الضلال تهيم، ولو عطف أُرَاهَا على أبغي لصار من مظنون سلمى. إذًا العطف هنا يُفسد المعنى، حينئذٍ نقول: يجب الفصل لأننا لو عطفنا أُرَاهَا على أبغي لصار من مظنون سلمى، تظن سلمى ماذا؟ أنني أبغي بها بدلاً، وهل تظن أنني أُرَاهَا في الضلال تهيم؟ الجواب: لا. هذا من مظنون المتكلم الشاعر نفسه، وأما هي فلا. إذًا نقول: فصل أُرَاهَا عن أبغي، لأنه لو عُطِفَ لظُنَّ أنه معطوف على أبغي، وليس مرادًا بل يفسد المعنى. اتضح هذا؟ إذا عَطَفَ هنا صار من مظنون سلمى، تظن سلمى أنني أبغي. إذًا هذا مظنون سلمى، هذا الذي تظنه سلمى. أُرَاهَا في الضلال تهيم. هذا مظنوني أنا، فلو عطفته على أبغي لظُنَّ أنه من مظنون سلمى فسد المعنى.
إذًا هاتان الموضعان كمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، وهو المراد بقوله:(إِنْ نُزِّلَتْ) يعني الثانية من الأولى (كَالْعَارِيَةْ)، (فافْصِل).
إذًا هذه مواضع أربعة يجب فيها الفصل.
أو نزلت الجملة الثانية من الأولى كالعارية. العارية ما تعطيه غيرك على أن يعيده إياك، يقال: أعاره أعطاه إياه عارية. (كَالْعَارِيَةْ) قال الشارح هنا: بأن لم يقصد تشريك الثانية للأولى في الحكم. وهو داخل في مفهوم ما قد سبق، لكن ثَمَّ مثال مشهور عند البيانيين وهو جميل قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] ما قال: والله يستهزئ بهم. فصل بماذا؟ لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لأن الاحتمال إما أن يُعْطَف على إذا خلوا والله يستهزئ بهم، أو إن يُعطف على قالوا:{إِنَّا مَعَكُمْ} ، وكلا المعنيين العطف يُفسد المعنى، والله يستهزئ بهم إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم والله يستهزئ بهم لو عطف على {إِنَّا مَعَكُمْ} لصار من مقول المنافقين، أليس كذلك؟ وإذا عطفه على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} خلوا هذا مقيد، مقيد بماذا؟ بظرف بمعنى أن قولهم هذا إنما هو مقيد بالخلوة، إذًا الحال المقابل للخلوة انتفى مقولهم، أليس كذلك؟ لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على خلوا {وَإِذَا خَلَوْاْ} حينئذٍ صار استهزاء الله سبحانه وتعالى بهم في حال خلوتهم لا مطلقًا، وهذا فسد المعنى. بل {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} مطلقًا دون أن يقيد بفعلهم هم، وإنما يكون على إطلاقه، فكلا المعنيين لو عُطِفَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فَسَدَ. لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لماذا؟ لأنه ليس من مقولهم فلو عُطِفَ عليه لزم تشريكه في كونه مقول قالوا فيلزم أن يكون مقول قول المنافقين وليس كذلك {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} ، {قَالُواْ} أي: المنافقون. إنا معكم والله يستهزئ بهم، هذا فيه تنافي.
أو كان للأولى حكم لم يقصد إعطائه للثانية فالفصل واجب [لئلا يلزم من الفصل التشريك](1) لئلا يلزم من الوصل التشريك في ذلك الحكم نحو: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} .. الآية، لم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يُشاركه في الاختصاص بالظرف المتقدم لأن قوله:
…
{وَإِذَا خَلَوْاْ} . هذا ظرف، والظرف متعلق بقوله:{قَالُواْ} أليس كذلك؟ متى يقول قولهم؟ إذا خلوا، لو عطفه على قالوا: ليس على مدخول قالوا لصار متقيدًا بالظرف وهو لم يرد، لم يُعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {قَالُواْ} لئلا يشاركه في الاختصاص في الظرف المتقدم وهو قوله:{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما مر أن تقديم المفعول ونحوه من الظرف وغيره يفيد الاختصاص فيلزم أن يكون استهزاء الله بهم مختص بحال خلوتهم إلى شياطينهم وليس كذلك.
فجميع ما مرّ قال الناظم فيه: (فافْصِل) أي وجوبًا. والفاء هنا واقعة في جواب الشرط. (فافْصِل) إذًا في المواضع الأربعة السابقة.
(1) سبق.
(وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ أَرْجَحُ)، (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) يعني: للجملتين في نسخة وإن تَوسَّطت (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) وهذا عبارة السيوطي في ((عقود الجمان))، (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) للجملتين توسط بين ماذا؟ بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، عرفنا كمال الاتصال وعرفنا كمال الانقطاع، كمال الاتصال أن تكون الجملة الثانية مؤكدة أو بدلاً أو عطف بيان أو بمنزلة الجواب، هذا ليس منزلة جواب منزلة الجواب هذا شبه الاتصال، كمال الانقطاع أن يكون بين الجملتين تنافٍ في الخبرية والإنشائية مع فقد الجامع.
التوسط بين الموضعين قال هنا: (وَإِنْ تَوَسُّطٌ) يعني بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع بأن تتفق الجملتان في الخبرية أو الإنشائية لفظًا ومعنًى أو معنًى فقط - انظر أو معنّى فقط - ولهما أقسام ثمانية تُطلب في المطولات.
مثاله قوله: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. والجامع هنا الاتحاد في المسند {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} جاء العطف هنا لماذا؟ لكون الجملة الثانية خبرية أو إنشائية؟ الجملة الأولى {يُخَادِعُونَ اللهَ} خبرية لفظًا ومعنًى {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} خبرية لفظًا ومعنًى، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} خبرية لفظًا ومعنًى ووجد الجامع وهو اتحاد المسند، أين المسند؟ {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} الجامع للاتحاد في المسند {يُخَادِعُونَ} الواو، طيب {خَادِعُهُمْ} من؟ من المخادَع هنا؟ {يُخَادِعُونَ اللهَ} على كلامهم؟ المفعول به، والفاعل هم، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي الله عز وجل. حينئذٍ الاتحاد وقع في ماذا هنا؟ يخادِعون وخادِع اتحدا في اللفظ المادة، اتحدا في اللفظ لأنه مشتق من المخادعة فحينئذٍ لما اتحدا صار تناسب بينهما، وهو الجامع الآتي ذكره إن شاء الله.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] عطفت الثانية على الأولى، الأُولى إنشائية أو خبرية؟ خبرية لفظًا ومعنًى، ليس فيه تمني ولا والثانية؟ كذلك، والجامع بينهما؟ أبرار فجار، نعيم جحيم، تضاد، لأن التضاد هذا يعتبر مما يجمع به بين الأمرين. قال:(فالْوَصْلُ). إذًا (وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ) هذا مبتدأ، (أَرْجَحُ) هذا الخبر، (بِجَامِعٍ) هذا متعلق بقوله:(فالْوَصْلُ). (فالْوَصْلُ) بين الجملتين بالواو (بِجَامِعٍ) هذا فيه اشتراط وجود الجامع، يعني لا يكون التوسط توسطًا إلا بوجود الجامع، فإن انتفى الجامع حينئذٍ انتفى التوسط، (بِجَامِعٍ) بين الجملة الأولى والثانية. أي: لا بد في جميع ذلك أن يكون مقرونًا بجامع أي وجه من وجوه المناسبة، لا وصل إلا بجامع، لا عطف لجملة ثانية على أولى إلا لمناسبة بينهما، فيكون باعتبار المسنَد إليهما، يعني ما هما أوجه الجامع أو المناسبة؟
لهم كلام طويل فيه، لكن منه يكون باعتبار المسنَد إليهما والمسندين جميعًا. أي المسند إليه في الأولى والمسند إليه في الثانية، إذا اتفقا فحينئذٍ قلنا: هذه مناسبة كالمثال السابق. وكذلك المسند في الأولى والمسند في الثانية. إذا اتفقا قلنا: هذا جمع، نحو ماذا؟ يَشْعُرُ زَيْدٌ وَيكْتُبُ هنا الشعر والكتابة بينهما مناسبة، يعني إذا جاء في الذهن الشعر يستحضر الكتابة، وإذا جاءت الكتابة يستحضر الشعر، ثم المسند إليه هو هُو يَشْعُرُ زَيْدٌ وَيكْتُبُ هُوَ، إذًا ثَمَّ مناسبة بينهما، لا يقال: يَشْعُرُ زَيْدٌ يكْتُبُ. وإنما يقال: وَيكْتُبُ. للمناسبة الظاهرة بين الشعر والكتابة وتقارنهما في خيال أصحابهما، يعني الذي يتخيل الشعر يتخيل الكتابة والعكس بالعكس، وعمرو يعطي ويمنع، الإعطاء إذا استحضره الإنسان في ذهنه تصور ماذا؟ مقابله وهو المنع، إذًا هذه مناسبة، مناسبة في ماذا؟ في الوجود أو في التضاد؟ الثاني في التضاد؛ لأنه لا يمنع يعطي في وقت واحد مع اتحاد الجهة. إذًا وعمرو يعطي ويمنع لما بين الإعطاء من تناسب التضاد، وخَالِدٌ شَاعِرٌ وَبِشْرٌ كَاتِبٌ، وَزَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ. خالدٌ شَاعِرٌ وبِشْرٌ كَاتِبٌ، شاعر كاتب، وَخالِدٌ وَبِشْرٌ إذا كان بينهما إخوة أو صداقة أو صحبة ونحوها حينئذٍ نقول: هذا مناسب. زَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ الطول والقصر تضاد، وزيد وعمرو إذا كانت بينهما مناسبة من إخوة أو صداقة أو نحوهما من الملابسات بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فإنه لا يجوز، لو لم يكن بين زيد وعمرو مناسبة لم يَجُزِ العطف زَيْدٌ طَوِيلٌ وَعَمْروٌ قَصِيرٌ وزيد هذا في واد وهذا في وادٍ آخر، لا يجوز العطف، لماذا؟ لعدم وجود الجامع.
وإن كان المسندان فقط متناسبين دون المسند إليهما نحو زَيْدٌ كَاتِبٌ وَعَمْروٌ شَاعِرٌ حيث لا مناسبة بين زيد وعمرو بوجه مما ذُكر على ما ذكرنا، ونحو: خُفِّي ضَيِّقٌ وَخَاتَمِي وَسِيع. الضيق والسعة متقابلان حصل المناسبة، لكن خفي وخاتمي ليس بينهما جامع. إذًا نقول: هذا لا يصح العطف إلا على وجه آخر. امتنع العطف يعني في نحو خُفِّي ضَيِّقٌ وَخَاتَمِي وَسِيع، امتنع العطف لعدم المناسبة بين زيد وعمرو في الحالة المفروضة السابقة، وعدم المناسبة بين الخف والخاتم، وإن وجدت مناسبة التماثل في المسندين الأولين وهما الشعر والكتابة، ومناسبة التضاد في المسندين الآخرين وهما الضيق والسعة، حيث لا مناسبة بين مسند إليهما في المثالين، أي بين زيد وعمرو، والخف و .. .
إذًا لا بد من وجود المناسبة بين المسندين والمسند إليهما في الموضعين، وكذا نحو زيد شاعر وعمرو طويل سواء كان بين زيد وعمرو مناسبة أم لا لعدم التناسب بين المسندين وهما الشعر والطول. زَيْدٌ شَاعِرٌ وعَمْروٌ طَوِيلٌ لا يصح العطف لماذا؟ لأن الطول والشعر ليس بينهما مناسبة، إذا استحضر الشعر لا يستحضر الطول، والعكس بالعكس، ولو كان زيد وعمرو أخوين، لو وجد المناسبة بين المسند إليه يعني: بينهما ترابط ومعنى وتعلق لم توجد مناسبة بين المسندين حينئذٍ امتنع العطف.
وقول الناظم: (أَرْجَحُ). هذا غلط، ظاهره يُشعر بجواز الفصل وليس كذلك، بل يجب الوصل في هذا الموضع (وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ) واجب متعين وليس بأرجح لأنه يُفهم ماذا؟ يُشعر بجواز الفصل، وليس كذلك، بل الوصل متعين في هذه الحالة.
الحاصل أن التوسط توسط الجملتين بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع لا بد من تحقق أمرين، توسط حقيقته إذا اجتمع فيه أمران:
الأمر الأول: اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً على التفصيل الذي ذكرناه. اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً.
الثاني: وجود الجامع بين الجملتين. إن وجدا قلنا: توسط فيجب الوصل. إن فقدا أو فقد أحدهما حينئذٍ هو كمال الانقطاع لأنه إذا فقد الأول في فك الجملتين إذ لم تتفق الجملتان فهو كمال انقطاع، وإذا لم يوجد الجامع فهو كمال انقطاع، إن فقدا حينئذٍ واضح بين إن اجتمعا حينئذٍ هو التوسط فيجب الوصل.
إذًا متى نحكم على الجملتين لكونهما توسطتا بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال؟ إذا تحقق فيه أمران:
اتفاق الجملتين خبرًا وإنشاءً.
وجود الجامع.
حينئذٍ نحكم على الجملة بأنها متوسطة فيجب الوصل. فإذا اختل أحد الأمرين فهو كمال الانقطاع.
(وَإِنْ تَوَسُّطٌ فالْوَصْلُ ** بِجَامِعٍ أَرْجَحُ) وهذه الحالة الخامسة التي يذكرها البيانيون.
بقي حالة، وهي مما يجب فيه الوصل، هو الوصل لدفع لإيهام، وهذه واضحة، لا، جزاك الله خيرًا. لا، وجزاك الله خيرًا. أليس كذلك؟ قالوا: هنا يجب. فيه خلاف المشهور أنه يجب، حينئذٍ إذا كان ثَمَّ إيهام ولا يدفع إلا بالوصل وجب الوصل. إذا قال له: تفضل. قال: لا جزاك الله خيرًا [ها ها] يوهم ماذا؟ أنه دعاء عليه، وهو ليس كذلك. إذًا لا وجزاك الله خيرًا، لا وأستغفر الله، لا وأيدك الله، لا وبارك الله فيك، لا بد من الإتيان بالواو هذه الحالة السادسة. وهي الوصل لدفع الإيهام، كقولهم: لا وأيدك الله. وُصِلَتْ وإن كان بينهما كمال الاتصال لأن الأولى خبر والثانية إنشاء لئلا يُتَوَهّم أن لا داخلة على جملة وأيدك الله فتكون دعاءً عليه، ومثله: لا وأستغفر الله.
...................
…
............ ثُمَّ الْفَصْلُ
بِحَالٍ حَيْثُ أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا
…
أَصْلٌ وَإِنْ مُرَجِّحٌ تَحَتَّما
لما كانت الجملة الحالية أو كانت الحال الواقعة جملة تارة توصل بالواو وتارة تفصل عن صاحب الحال حينئذٍ لها علاقة بباب الوصل والفصل، ولذلك يذكرها البيانيون في خاتمة باب الوصل والفصل لأنها إن فصلت فهي من الفصل، وإن وصلت فهي من الوصل. إذًا لها حالان، لما كانت الحالة الأولى واقعة جملة تارة تدخلها الواو وتارة لا تدخلها صار لها في الصورة حالتا وصل وفصل، فناسب ذكر ذلك في بابه، وتارة تأتي بالواو وتارة بدونها حينئذٍ عَقَّبَ للمناسبة. فقال:(ثُمَّ الْفَصْلُ للحَالٍ) أي: المنتقلة هنا (بِمَا لِحَالٍ) هذا ما ظهر لي وجهه، (بِمَا لِحَالٍ) في الشرح [لا في للحال]. ثم الفصل للحال حيث أصلها قد سلما الكلام واضح، أما (ثُمَّ الْفَصْلُ بِمَا لِحَالٍ) هذا لم يتضح لي والله أعلم.
(ثُمَّ) للترتيب الذكري، (الْفَصْلُ للحَالٍ) المنتقلة، منتقلة هذا قيد لا بد من تقيدها، أي ترك عطفها بالواو (الْفَصْلُ) يعني ترك العطف.
…
(للحَالٍ) المراد هنا جملة الحال لأن الحديث هنا في ماذا؟ في الجمل لا في المفردات، ليس جاء زيد راكبًا، لا، هذا قول واحد أنه لا يوصل بسابقه، لا يعطف بالواو، وإنما المراد بالجملة. إذًا (للحَالٍ) الواقعة جملة، والمراد بها الحال التي هي منتقلة، (حَيْثُ أَصلُهَا) هنا تعليل، حيث للتعليل يعني لماذا الفصل؟ (حَيْثُ أَصلُهَا)، المراد بالأصل هنا المفرد، لأن الحال كالخبر تارة تأتي مفردًا، وتارة تأتي جملة بنوعيها، أي النوعين أصل للآخر؟ المفرد أصل للجملة، [جاء زيد](1) لا ليس جاء، زيد قائم هذا أصل لقولك: زيد أبوه قائم. أليس كذلك؟ أبوه قائم جملة خبر، هي فرع لماذا؟ لأنها في قوة المفرد، يعني تفسر بمفرد، الحال كذلك، الأصل جاء زيد ضاحكًا هذا الأصل، جاء زيد يضحك هذا فرع، فلما كان الأصل لا يُعطف بالواو كان الأصل في الفرع ألا يُعطف بالواو، اتضحت؟ واضح؟ الأصل المفرد لا يُعطف، قلنا: الحال إذا جاءت مفردة لا تُعطف، جاء زيد ضاحكًا، هل يصح أن يقال: جاء زيد وضاحكًا؟ ما يصح. إذًا الأصل في الحال المفردة أن لا توصل بما قبلها أو بصاحب الحال بالواو فوجب الفصل، إذا قيل: جاء زيد يضحك هذا فرع أم أصل؟ فرع، لماذا؟ لأنه جملة، والأصل في الحال أن تكون مفردة، كما أن الأصل الذي هو المفرد الفصل ولا يوصل بالواو كان الفرع كذلك، صار مثله، ولذلك علله (حَيْثُ أَصلُهَا) إذًا الفصل (للحَالٍ) هذا الأصل، لماذا؟ لأن (أَصلُهَا) الذي هو المفرد، فحيث هنا للتعليل، (حَيْثُ أَصلُهَا) وهو المفرد في قولك: جاء زيد ضاحكًا. (قَدْ سَلِمَا) من دخول الواو، والألف للإطلاق، كما أن أصلها سلم من دخول الواو كذلك الفرع الذي هو الجملة إذا وقعت حالاً تسلم. إذًا الأصل في جملة الحال الفصل وليس الوصل، حيث (أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا ** أَصْلٌ) هذا خبر الفصل، الْفصل أصل، لو قيل بأن جملة الحال توصل وتفصل، توصل يعني تدخل عليها الواو، وتفصل، لكن أي النوعين أصل، الفصل أم الوصل؟ الفصل، لذلك قال: الفصل أصل، والوصل فرع. لماذا كان الأصل هو الفصل؟ لأنها فرع عن المفرد، والمفرد الأصل فيه الفصل بل يتعين الفصل، واضح هذا؟ أصل لأنها معربة بالأصالة لا بالتبعية، والإعراب في الأسماء إنما جيء به للدلالة على المعاني الطارئة عليها بسبب تركيبها مع العوامل فهو دال على التعلق المعنوي بينها وبين عواملها فيكون مغنيًا عن تكلف تعلق آخر كالواو، والأحسن من هذا ما استدل به القزويني حيث قال: استدل على ذلك بالقياس على الخبر والنعت. الخبر لا يفصل عن المبتدأ بالواو، والنعت لا يفصل عن المعنوت بالواو، والحال بمعنى الخبر والنعت فلا توصل بالواو. قال رحمه الله: لأنها في المعنى - يعني جملة الحال. - حكم على صاحبها كالخبر، ووصف له كالنعت. إذًا بالمنزلة، وإذا كان الحال مثل الخبر والنعت فكما أنهما يكونان بدون الواو فكذلك الحال. عرفنا هذا؟ إذًا [والحال] و (الْفَصْلُ للحَالٍ أَصلُهَا قَدْ سَلِمَا) أصلها.
(1) سبق.
قلنا: الحال المراد بها المنتقلة احترازًا عن المؤكدة لمضمون الجملة فإنها لا يجوز أن توصل البتة، بل الفصل متعين في كل حال، فإنها لا تدخلها الواو أبدًا لشدة ارتباطها بما قبلها كقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء: 79] قد تأتي جملة وقد تأتي مفردة، فهذه الحال المؤكِّدة لعاملها لفظًا ومعنًى.
(وَإِنْ مُرَجِّحٌ تَحَتَّما) إن وُجِدَ مرجح ينقل عن الأصل وهو الفصل إلى الوصل حينئذٍ (تَحَتَّما) يعني صار العدول إلى الوصل هو الأصل، (وَإِنْ) يعني (وَإِنْ) يكن (مُرَجِّحٌ) للفصل على الوصل أو للوصل على الفصل (تَحَتَّما) بألف الإطلاق، أي وجب الفصل وامتنع دخول الواو، وذلك بأن كانت الجملة فعلية والفعل مضارع مثبت، التفاصيل هذا يذكرها النحاة في آخر باب الحال وفيها تفاصيل كثر تُرْجَع إليها. إذا كانت الجملة جملة حالية فعلية وفعلها مضارع مثبت، يعني غير منفي حينئذٍ يجب الاكتفاء بالضمير لأنه أصل في الربط، جاء زيد يضحك. جاء زيد ويضحك؟ نقول: لا، هذا لا يصح. لماذا؟ لكون الحال هنا جملة فعلية فعلها مضارع وهو مثبت، حينئذٍ أين الرابط؟ الضمير المستتر يضحك هو أي زيد، فيكتفى بالضمير عن الواو، لأنه أصل في الربط. ومثَّلَ له البيانيون بقوله تعالى:{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي لا تعطي حال كونك تعد ما تعطيه كثيرًا. والمثال الذي ذكرناه واضح. أيضًا وإن يكن مرجحًا للوصل
(تَحَتَّما) أيضًا الوصل فيؤتى بالواو، وضابطه كل جملة خلت عن ضمير يربطها بصاحبها بالواو ليحصل ارتباط بصاحبها فلا يجوز، خرجت زيد قائم، يعني إذا خلت الجملة عن ضمير تعينت الواو، إذا وجد الضمير حينئذٍ قد يجوز الواو وقد لا يجوز، يعني مختلف فيه له أوضاع وأحوال، وإن خلت الجملة عن الضمير تعينت الواو، لماذا؟ لأن الحالية كالجملة الخبرية لا بد لها من رابط يربطها بالمبتدأ، هنا لا بد من رابط يربطها بصاحب الحال، فإذا قلت: خَرَجْتُ زَيْدٌ قَائِم. أين الضمير؟ ليس عندنا ضمير. إذًا وجب الوصل بالواو، خَرَجْتُ وَزَيْدٌ قَائِمٌ، الواو هذه واو الحال، والتفاصيل هذه تؤخذ من كتب النحو.
ثم قال الناظم رحمه الله تعالى:
(الْبَابُ الثَّامِنُ: الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ)
يسير الباب نأتي عليه (الْبَابُ الثَّامِنُ) وهو خاتمة الأبواب الثمانية التي انحصر فيها علم المعاني، وهو:(الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ). هذا هو الباب الثامن، وهو باب عظيم حتى نقل صاحب ((سر الفصاحة)) عن بعضها أن البلاغة هي الإيجاز والإطناب كما قيل في الوصل والفصل، (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ) هي البلاغة ولم يذكر الناظم المساواة، (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ) ولم يذكر المساواة هذه مما يستدل بها على أن الناظم لم ينظم ((التلخيص)) لأن ((التلخيص)) ذكر المساواة جعلها أصل، مساواة وإيجاز وإطناب، وهنا أسقط المساواة، ولم يذكر المساواة للعلم بها مما ذكره في حد (الإِيجَازُ وَالإِطْنَابُ). هذا إذا أردنا أن نجعل النظم صار على ما صار عليه الكثير من البيانيين، وإن رأينا أنه جنح إلى رأي ابن الأثير أن المساواة لا وجود لها، إما إيجاز، وإما إطناب. حينئذٍ نقول: خالف كثيرًا من البيانيين. وأيضًا لقلة الأبحاث المتعلقة بالمساواة لم يذكرها، الإيجاز والإطناب والمساواة هذه ثلاثة أبحاث، لماذا انقسمت إلى ثلاثة ألفاظ لمعانيها؟ لأن المقبول من طرق التعبير إذا تكلم المتكلم ليس كل ما تكلم به يكون مقبولاً، وإنما المقبول قالوا: إما أن يعبر عن المراد تأدّية أصله بلفظ مساوٍ له، فالمقبول من طرق التعبير عن المراد إما أن يكون بتأدّية أصله بلفظ مساوٍ له، أو ناقص عنه وافٍ، أو زائد عليه بفائدة، يعني إذا تكلم متكلم اللفظ والمعنى:
إما أن يكون متساويين.
وإما أن يكون أحدهما زائد على الآخر.
وإما أن يكون ناقصًا.
فالمساوي هو المساواة، والناقص هو الإيجاز، والزائد هو الإطناب.
فالمقبول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله بلفظ مساوٍ له تأدية أصل يعني المعنى أصل المراد بلفظ مساوٍ له، يعني اللفظ والمعنى متساويان ليس أحدهما أزيد من الثاني.
أو ناقص عنه وافٍ، يعني اللفظ ناقص عن المعنى والمعنى كثير هذا يُسمى الإيجاز.
أو زائد عليه بفائدة، وهذا يسمى الإطناب.
فالأول المساواة، والثاني الإيجاز، والثالث الإطناب.
فالمساواة نحو قوله تعالى مثَّلَ لها الناظم ولا يذكرها {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] والمثال هذا فيه كلام لكن من باب المثال فقط {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} قالوا: فإذا تأملت الآية وجدتها منطبقة على معانها من غير زيادة ولا نقصان. إذًا المساواة هي في حقيقتها تأدية أصل المعنى بلفظ مساوٍ له لفائدة، والمثال هو المذكور، وأشار الناظم إلى تعريف ما بوب له وهو الإيجاز والإطناب بقوله:(تَوْفِيَةُ المُرَادِ بِالنَّاقِصِ مِنْ ** لَفْظٍ لَهُ الإِيجَازُ)
ما هو الإيجاز؟ (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) يقال: وَفَى الشيء يَفِي وُفِيًّا على فُعُولٍ أي تم وكثر. وأَوْفَى على الشيء وأَوْفَاه حقّه ووَفَّى تَوْفِيَةً بمعنى أنه أعطاه. إذًا (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) يعني إعطاء المراد الذي هو المعنى، والمراد به أصل المعنى (تَوْفِيَةُ المُرَادِ) أي توفية المعنى المقصود من اللفظ. (بِالنَّاقِصِ) يعني باللفظ الناقص، عنه عن أصل المراد إذًا عندنا أمران:
أصل المراد وهو المعنى.
وعندنا ما يُعَبَّرُ أو ما يُعَبِّرُ عن أصل المعنى.
الأول هو المقصود، والثاني هو اللفظ، إن أُدِّيَ المعنى الذي هو أصل المراد بلفظ ناقص وكان المراد أكثر من حيث المعنى فهو الإيجاز، باللفظ الناقص عنه أي: عن أصل المراد بـ (لَفْظٍ لَهُ) كما قال الناظم، والضمير في قوله:(لَهُ) يعود إلى المراد.
(الإِيجَازُ) يعني هو الإيجاز، وهو لغةً التقصير ضد التطويل، فهو هنا بمعنى الاختصار، فالإيجاز عُرْفًا تَأْدِيَةُ أصل المعنى بلفظ ناقص وافٍ لفائدة، أو التعبير عن المقصود بلفظ ناقص عنه وافيًا به، بمعنى أنه يشترط أن يكون اللفظ ناقصًا لكن لا يخل بالمعنى، فإن خل بالمعنى هذا خرج عن كونه فصيحًا، الكلام في لفظ وجيز يؤدى به معنى كثير دون خلل في المعنى.
(وَالإِطْنَابُ إِنْ بِزَائِدٍ عَنْهُ)، (وَالإِطْنَابُ إِنْ) أُدِّيَ أصل المعنى المراد بلفظ زائد عنه، (وَالإِطْنَابُ إِنْ) أين فعل الشرط؟ نقول: محذوف دل عليه ما سبق (إِنْ بِزَائِدٍ عَنْهُ) إن أُدِّيَ أصل المعنى المراد (بِزَائِدٍ) أي بلفظ زائد (عَنْهُ) يعني عن المراد. بلفظ زائد (عَنْهُ) أي عن المراد. فهو تأدية أصل معنى المراد بلفظ زائد عنه. فيكون اللفظ أكثر من المعنى، لكن لا بد من فائدة وإلا صار حوشًا، أو التعبير عن المقصود بلفظ زائد عليه لفائدة، فخرج بقوله بتعريف الإطناب بفائدة التطويل وهو المسمى بالإكثار، وهو أن يكون اللفظ زائدًا على أصل المعنى لا لفائدة، ويكون الزائد غير متعين كما في قول الشاعر:
وألفى قولها كذبًا ومَيْنَا
كذبًا ومينًا ما الفرق بينهما؟ المين هو الكذب، والكذب هو المين، ليس فيه زيادة لمعنى، وإنما هي زائدة دون، لكن لا يُعَيَّن بأن الزائد هو كذبًا أو مينًا، وإنما هنا غير معين، فيه زائد لكن لا نحكم به، لأن الذي يحكم هو المتكلم، فإن الكذب هو المين فلا فائدة من الجمع بينهما.
وخرج الحشو وهو الزائد المتعين، يعني: الإطناب يُشترط فيه الفائدة، احترزنا عن ماذا؟ عن التطويل، والتطويل هو زيادة لكنها غير متعينة مثل كذبًا ومينًا، واحد منهما زائد لكن ما ندري ما هو؟ الحشو زيادة لكنها متعينة، نعرف أن هذه الكلمة هي الزائدة، فخرج الحشو وهو الزائد المتعين. من قول الشاعر:
واعلم علم اليوم والأمس قبله
ما الفائدة من قبله، الأمس دل عليه، الأمس لا يكون إلا قبلاً، الأمس قبله، إذًا قبله نقول: هذا زائد وهو حشو، فإن قوله: قبله. زائد مستغنًى عنه.
ثم قسم الإيجاز إلى نوعين فقال: (وَضَرْبَا الأَوَّلِ). الألف هذه وَضَرْبَ الأَوَّلِ، قصر، مبتدأ مرفوع بالابتداء، ورفع الألف، والنون حذفت للإضافة (وَضَرْبَ الأَوَّلِ) بدليل قال:(الأَوَّلِ). عرفنا أن الأول مضاف والثاني مضاف إليه (وضربان:
(وَضَرْبَا الأَوَّلِ ** قَصْرٌ وَحَذْفُ جُمْلَة أَوْ جُمَلِ) دل على أن الإيجاز نوعان، ثم شرع في بيانهما، ثم قسم الإيجاز إلى نوعين فقال:(وَضَرْبَا الأَوَّلِ) أي الإيجاز. (قَصْرٌ) أي إيجاز قصر. (وَحَذْفُ جُمْلَة) .. إلى آخره أي إيجاز حذف.
إذًا الإيجاز نوعان:
إيجاز قصر.
وإيجاز حذف.
والفرق بينهما أن الكلام القليل إن كان بعضًا من كلامه كثير فهو إيجاز حذف، وإن كان كاملاً يُعْطِي معنًى أطول منه فهو إيجاز القصر. يعني إذا كان الكلام ليس فيه حذف وكان الكلام اللفظ قليلاً والمعنى كثيرًا فهو إيجاز قصر، وأما إذا كان المعنى كثيرًا وحصل حذف كما سيذكره الناظم حينئذٍ يسمى إيجاز حذف.
إذًا الفرق بينهما أن الكلام القليل إن كان بعضًا من كلام كثير فهو إيجاز حذف، إن كان مختصر منه، يعني: حذفت بعض الألفاظ.
وإن كان كاملاً يعطي معنًى أطول منه فهو إيجاز قصر، وقد يجتمعان في نحو فلان يعطي ويمنع، فإذا جعلت الفعل قاصرًا من باب {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] حينئذٍ هذا قصر، إيجاز قصر، وإذا جعلته مما حذف مفعوله بمعنى أنه مما كان الأصل فيه ذكر المفعول ولم تُنَزِّله مُنَزّلة القاصر حينئذٍ لزم، يعني لزم التقرير كما مرّ معنا حينئذٍ صار فيه إطناب. فإذا جعلت الفعل قاصرًا فهو إيجاز قصر، وإذا جعلته متعدّيًا وحذفت المفعول إرادة العموم فهو إيجاز حذف. يعني لفظ واحد يحتمل الأمرين. فإيجاز القصر أن يتيسر للمتكلم كلام لفظه قليل ومعناه كثير، اللفظ القليل والمعنى كثير. مثاله قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. فإن معناه كثير ولفظه قليل لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قَتَلَ قُتِلَ كان ذلك داعيًا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض، وكان ارتفاع القتل حياةً لهم، وليس فيه حذف شيء، هذا المعنى كثير دل عليه هذا الكلام القليل، وهذا إيجاز. وإيجاز الحذف. قال السبكي: لا يقال إيجاز القصر فيه أيضًا حذف لكلام كثير، لأن إيجاز القصر يؤتى فيه بلفظ قليل يؤدي معنى لفظ كثير، وإيجاز الحذف يترك فيه شيء من ألفاظ التركيب الواحد مع إبقاء غيره لحاله، يعني لا بد فيه من الحذف. وإيجاز الحذف قال هنا:(وَحَذْفُ جُمْلَة أَوْ جُمَلِ أَوْ جُزْءِ جُمْلَةٍ). ذكر أن الحذف، إيجاز الحذف هو ما حُذِفَ منه شيء، ثُمَّ هذا المحذوف إما أن يكون جملة وإما أن يكون جمل، وإما أن يكون جزء جملة، يعني ليس بكلام مستقل فهو أنواع ثلاثة. وإيجاز الحذف إما حذف جملة، والمراد بالجملة هنا الكلام المستقل الذي لا يكون جزءًا من كلام آخر، يعني ليس بجملة الشرط وحدها أو جملة الجواب وحدها، ولذلك جُعِلَ جملة الشرط وجملة الجواب من قسم حذف جزء الجملة. مثاله قوله تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60]. {فَانفَجَرَتْ} ، {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} فضرب الحجر {فَانفَجَرَتْ} إذًا حذف جملة، مراد بها كلام مستقل، يعني حذف كلامًا أوله وآخره يسمى كلامًا، وهذا دل عليه الفاء هنا، أي فضربه بها فانفجرت فقوله: فضرب بها جملة محذوفة، (أَوْ جُمَلِ) يعني أن يكون المحذوف جمل ليست جملة واحدة أي فوق جملة اثنتان فأكثر كقوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ} [يوسف: 45، 46]{فَأَرْسِلُونِ} يعني: فأرسلوني فذهبت .. قصة كاملة فحُذِفَ كلُّ ما ذُكِر {يُوسُفُ} لأنه منذ أن قال لهم الكلام مباشرة واجه يوسف؟ لا، وإنما حذف عدة جملة، هذا يكون في القصص القرآني كثير جدًا يعني يُخْتَصَر. وهذا مثل ما يفعله بعض الناس يريد أن يخبرك عن شيء في السوق فذهبت ووقفت هذا الأصل فيه الكلام البليغ أن يُحْذَف ويؤتى بمباشرة المقصود، أي {فَأَرْسِلُونِ} فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له: يا يوسف.
فحذف الجمل التي ذكرتَ فيما سبق أو جزءُ جملة (أَوْ جُزْءِ) بالخفض معطوف على جملة، حذف جزء جملة يعني إما مسندًا أو مسند إليه أو صفة أو موصوف على حسب، أوردها السيوطي في ((عقود الجمان)) بكثرة (أَوْ جُزْءِ جُمْلَةٍ) أي أو حذف جزء جملة، والمراد بجزء الجملة هنا ما يُذكر في الكلام ويتعلق به ولا يكون مستقلاً عمدة كان أو فضلاً، كل ما يحذف من المفردات فهو جزء جملة، ولذلك:
حذف ما يعلم جائزٌ
وحذف فضلة أجز
كل داخلٌ في هذا. كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية [إذا أراد أنه ليس مجازًا مثلاً](1) نعم إذا أردنا به أنه مجاز فحينئذٍ حذف المضاف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي اسأل أهل القرية حذف المضاف.
{وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] أي آيةً مبصرةً حذف الموصوف هنا.
{وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي سفينةٍ صالحة أو سليمة حذف الصفة.
{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] أي إن أرادوا وليًّا فحذف الشرط مع أداته.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45] حذف الجواب، جواب إذا الشرطية وهو محذوف أي اعرض على كلٍ، كل ما يحذف من المفردات من المضاف أو الصفة أو الموصوف أو المبتدأ أو الخبر حينئذٍ يكون داخلاً في هذا.
والحذف على وجهين:
أحدهما أن لا يقام شيءٌ مقام المحذوف، بل يكتفى بقرينة كما في الأمثلة السابقة. يعني حذف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] حذف أهل، هل أقام في اللفظ شيء مقامه؟ لا، إنما عُلِمَ المحذوف بالقرينة.
(1) سبق.
الثاني أن يقام. يحذف شيءٌ ويأتي تعويضًا عنه بجملةٍ. مثاله قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي إن يكذبوك هذا شرط فلا تحزن واصبر هذا جواب الشرط {فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس هو الجواب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} ليس هذا تعليل، ليس هذا جوابًا للشرط {وَإِن يُكَذِّبُوكَ} فلا تحزن واصبر {فَقَدْ كُذِّبَتْ} .. إلى آخره. فقوله:{فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس جزاءً للشرط، لماذا؟ لأن تكذيب الرسل، الرسل متقدم على التكذيب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} هذا سابقٌ فأين الجواب؟ لا يكون جوابًا فلا يصح وقعه جزاءً له، بل هو سببٌ لمضمون الجواب المحذوف أقيم مقامه استغناء بالسبب عن المسبب. إذًا إذا حذف شيء إما أن يُؤْتَى ببدله بما ينوب عنه، وإما أن لا يأتي أو يُؤتى بشيءٍ، والغالب هو الأول يعني القرينة هي التي تدل على المحذوف ولا يذكر في كلام شيءٌ البتة. ثم الحذف على القاعدة العامة لا بد من دليلٍ يدل عليه، إذ حذف ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز باتفاق أهل العربية نحاةً والصرفيين والبيانيين، أن ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز، سواءٌ كان في الحروف عند الصرفيين أو في الكلام، وأدلته كثيرة يعني: الذي يدل على المحذوف أشار إليها بقوله: (وَمَا يَدُلُّ ** عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ) والذي يدل على المحذوف أنواع كثيرة متعددة. وقوله: (عَلَيْهِ). الضمير يعود على الحذف (أَنْوَاعٌ) التنوين هو للتكثير متعددة، (وَمِنْهَا الْعَقْلُ) يعني لم يذكر إلا العقل، بأن يدل العقل على المحذوف لاقتضائه إياه، يعني لا يمكن أن يستقيم الكلام إلا بمحذوفٍ، لكن دلالةٌ عقلي على المحذوف ليست من جهة التعيين، يعني الكلمة المحذوفة معينة، العقل يدل على أن ثَمَّ حَذْفًا في التركيب، لكن ما هي هذه الكلمة؟ العقل لا يدل عليها، فالعقل يدل على العموم لا على الخصوص، يعني على عموم الحذف مطلق الحذف، هذا التركيب فيه حذفٌ، ويحتمل كذا وكذا وَكذا والتعيين يكون بالقرائن والسياق لا بالعقل، لكن دلالته يعني العقل عليه على المحذوف إنما هي على جهة العموم لا الخصوص، بأن تقتضي أن في الكلام حذفًا، وأما التعيين لخصوص المحذوف فلا دلالة للعقل عليه، واضحٌ هذا؟ فالعقل يدل على المحذوف على جهة العموم لأن في الكلام حذفًا فقط ويقف، ثم تعيين هذا المحذوف هذا يؤخذ من القرائن والسياق، فلا دلالة للعقل عليه، وإنما يدل عليه مقصود ظاهرٍ من الكلام يوجد في كل مقامٍ بحسب من ما يقتضيه العرف والمقام وسياق الكلام. يعني تعيين المحذوف يؤخذ بالقرائن لفظية، وأما كونه فيما الكلام محذوفًا حينئذٍ يؤخذ من العقل. كقوله تعالى:
…
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي تناولها. وإن شئت قل: أكلها. فإن العقل دلّ على أن في الكلام محذوفًا وذلك لأن الأحكام الشرعية كما هو معلوم عند الأصوليين لا تناط بالذوات والأعيان، يعني: لا يقال هذا حرام لذات الشيء نفسه، وإنما فعل العبد هو الذي يوصف بكونه حرامًا أو واجبًا.
فالأحكام الشرعية لا تناط بالذوات والأعيان وإنما تتعلق بأفعال المكلفين فلا بد هنا من محذوف وهو يحتمل، يحتَمل ماذا؟ التناول الأكل النظر المس البيع غير ذلك، والمقصود الأظهر من هذه الأشياء المحتملة في الآية تناولها يعني أكلها، فدل على تعيين المحذوف أُخِذَ من السياق، وأما كونه محذوفًا هذا أُخِذَ من العقل.
ثم قال:
وَجَاءَ لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ
…
ثَانٍ وَالاعْتِرَاضُ وَالتَذْيِيلِ
(ثَانٍ) يعني الإطناب [أحسنت] قَسَّمَ لك أولاً الإيجاز، ثم أراد أن يبين أغراض الإطناب، (وَجَاءَ)(ثَانٍ)، (وَجَاءَ) هذا فعل ماضي (ثَانٍ) هذا فاعله (وَجَاءَ)(ثَانٍ) أي الإطناب، لأمور إما الإيضاح بعد الإبهام كقوله تعالى:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]. فإن قوله:
…
{اشْرَحْ} يفيد طلب شرح شيء ما له {رَبِّ اشْرَحْ} ما هو الذي طُلِبَ شرحه؟ لما جاء {صَدْرِي} فَسَّرَهُ. أولاً فيه إيهام لقوله {اشْرَحْ} ما الذي طُلِبَ شرحه؟ لَمَّا جاء {صَدْرِي} صار فيه تفسير ومثله {وَيَسِّرْ لِي} ما هو؟ {أَمْرِي} [طه: 26] إذًا جاء الإيضاح بعد الإبهام، والتوشيع وأشار إليه بقوله:(وَجَاءَ لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ). وهو في اللغة لَفّ القطن المندوف واصطلاحًا أن يُؤْتَى في عجز الكلام بمثنى مفسر باسمين ثانيهما معطوف على الأول، يعني يأتي في آخر الكلام بمثنى مجمل، ثم يأتي تفصيله «يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان» . هذا إبهام، ثم جاء
…
«الحرص وطول الأمل» . إذًا يُسمى ماذا؟ يسمى توشيعًا، لذا قال:
…
(بِالتَّفْصِيلِ). يعني يفصل المثنى باسم معطوف على آخر بعد الإبهام، وهذا فيه تشويق، فَفَسَّرَ الخصلتين باسمين عطف أحدهما على الآخر، ولو أراد الإيجاز والاختصار لقيل: يشب فيه الحرص وطول الأمل هذا ابتداءً مباشرةً لكنه أراد التشويق هذا هو الأصل في الإطناب، يعني يشوق يشب وفيه خصلتان تتوجه النفس وما هاتان الخصلتان؟ إذا جاء الجواب كان أكمل، لكنه أَبْهَمَ ثُمَّ وَضَّحَ للعلة الذي ذكرناها.
إذًا التوشيع للتفصيل أن يُؤتى في عجز الكلام يعني: في آخره بمثنى وفيه إبهام، ثم يأتي لتفصيل هذا المسمى باسمين لأن المثنى لا يدل على أكثر من اثنين، عُطِفَ الثاني على الأول بالواو، ويُسَمَّى توشيعًا، ومنه ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضيلة الخاص. لقوله:{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] داخل التوشيع حتى ليس كأنه من جنس العمل، (وَالاعْتِرَاضُ) وهذا أن يؤتى في أثناء الكلام الجملة الاعتراضية التي تمر معك في الإعراب الجملة الاعتراضية قد تكون جملة واحدة، وقد يأتي بجمل، وهو أن يُؤتى في أسماء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر، يعني ليس خاصًا بجملة واحدة - وإن ادَّعاه بعض النحاة - ولكن الصحيح قد يكون أكثر من جملة لا محل لها من الإعراب، لأنها من المواضع التي لا محل لها من الإعراب لنكتة كالتنزيه بقوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]. {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} معطوف على قوله: {الْبَنَاتِ} ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون هذا الأصل {سُبْحَانَهُ} هذه جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، قصد بها ماذا؟ التنزيه، جيء بها بالجملة هذه، هذه الجملة بين الجملتين. {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36] إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى هذا الأصل {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} هنا جملتان إذا لم يكن أكثر، وكذلك قول الشاعر:
إن الثمانين وبُلِّغْتَهَا
…
قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى ترجمان
بُلِّغْتَهَا اعتراض، والمراد بها الدعاء، والواو فيها اعتراضية ليست عاطفة ولا حالية (وَالتَذْيِيلِ) يعني يأتي الإطناب للتذييل بصيغة التفعيل، وهو لغة جعل ذيل للشيء، من اسمه ذيل للشيء يعني يكون في الخاتمة يكون في خاتمة الكلام، واصطلاحًا عندهم أن يأتي بجملة عقب جملة، والثانية تَشْتَمِلُ على معنى الأولى للتأكيد، يعني الأولى معادة في الثانية، فيأتي بجملتين جملة عقب جملة، وتكون الثانية مشتملة على معنى الأولى، ويكون فيها معنى التأكيد، يعني هذا معنى التأكيد، التأكيد هو التقوية وهو ضربان نوعان، ما خرج مخرج المثل بأن يقصد حكم الكلي منفصل عن ما قبله جارٍ مجرى الأمثال، نحو ماذا؟ قوله تعالى:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]. هذا يصلح أن يكون ماذا؟ أن يكون مثلاً {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ، {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} هل هو داخل في قوله:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ؟ داخل فيه، فالجملة الثانية عُقِّبَت بالجملة الأولى وهي مشتملة عليه من جهة المعنى. أي هل يُعَاقَبُ على ما ذُكِرَ على أن المراد أعمُّ من الجزاء الأول.
وقوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]. {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} يجري مجرى المثل، وهذا قد يذكره الناس وهي مشتملة على معنى الجملة الأولى، هذا النوع الأول.
والثاني ما لا يجري مجرى المثل، وذلك بأن لم يستقل بإفادة المراد، بل يتوقف على ما قبله، بمعنى أن التذييل جعل الذيل الجملة الأخرى العقب الجملة الأولى لا تستقل بنفسها، بل لا بد من ذكرها مع السابقة، مثاله كالآية السابقة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} إذا جعل التقدير وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص لا على جهة التعميم لو قيل:{وَهَلْ نُجَازِي} . على جهة العموم استقل بنفسه، وإذا أريد به الخصوص حينئذٍ لا تنفك عن الجملة السابقة، وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص فيكون متعلقًا بما قبله معنًى فلا يُعْلَم أن يكون بمجرده مثلاً، وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34، 35]. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} اشتملت على معنى الجملة السابقة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} تذييل من الضرب الثاني، يعني الذي لا يجري مجرى المثل لأنه لا ينفك عنه، وإن كان داخلاً في معناه. وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . من الضرب الأول لأنه يجري مجرى المثل وهو منفك عما سبق وإن كان مشتملاً له من جهة المعنى، فكل منهما تذييل على ما قبله.
إذًا ذكر لك بقوله: (وَجَاءَ)(ثَانٍ) أي الإطناب (لِلتَوشِيعِ بِالتَّفْصِيلِ) هذا متعلق بالتوشيع لأنه جاء مفصلاً لمثنى بعطف الاسم الثاني على الأول بالواو (وَالاعْتِرَاضُ) عرفنا المراد بالاعتراض أنه يكون بجملة أو جملتين أو أكثر، (وَالتَذْيِيلِ) بنوعيه الاثنين. والله أعلم.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.