المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * الفن الثاني: علم البيان. * تعريف علم البيان وبيان - شرح مائة المعاني والبيان - جـ ١٢

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * الفن الثاني: علم البيان. * تعريف علم البيان وبيان

‌عناصر الدرس

* الفن الثاني: علم البيان.

* تعريف علم البيان وبيان طرقه.

* التشبيه تعريفه وأركانه.

* بيان طرفي التشبيه وأنواعهما.

* بيان وجه الشبه وأنواعه.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

بعدما أنهى الناظم رحمه الله تعالى ما يتعلق بالفن الأول من الفنون الثلاثة التي هي مجموع علم البلاغة، فن العِلم الأول علم المعاني، والثاني علم البيان، والثالث علم البديع، لما أنهى ما يتعلق بالفن الأول وأبوابه الثمانية.

قال رحمه الله تعالى: الفن الثاني (عِلْمُ البيانِ) الفن الثاني من الفنون الثلاثة (عِلْمُ البيانِ) وقد حصر بعضهم علم البلاغة في علم المعاني وعلم البيان لِمَا مرّ في أول الكتاب، وأخر الكلام عليه عن الكلام عن المعاني أو على المعاني لكونه أخصّ منه إذ المعاني كالمفردِ، والبيان كالمركب، أخر كلام عليه عن الكلام عن المعاني لكونه أخصّ منه، ولذلك قلنا: قدم علم المعاني على علم البيان لكونه كالمفرد بالنسبة لعلم البيان، إذ علم البيان لا بد أن يراعى فيه مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وإذا كان كذلك فحينئذٍ لا بد من العلم أولاً، فعلم المعاني، ثم علم البيان. لكونه أخصّ منه إذ المعاني كالمفرد، لأن علم البيان كالمفرد، والبيان كالمركب فهو متأخرٌ عنه طبعًا ولذلك أخره عنه وضعًا، وقدمه على الثالث لشدة الاحتياج إليه يعني: علم البديع لأن الحاجة إلى علم البيان أشد لكونه جزءًا من علم البلاغة، ومحتاجًا إليه بتحصيل بلاغة الكلام بخلاف البديع فإنه من الْمُحَسِّنَات، يعني من المكملات إما من جهة اللفظ وإما من جهة المعنى، وهذا العلم يعني علم البيان من شروط تحسينه عن علم البديع كما سيأتي والشرط مقدمٌ على المشروط. إذًا هذا وجه المناسبة بين ترتيب العلوم الثلاثة.

أولاً: علم المعاني، لأنه كالمفرد.

وعلم البيان ثانيًا، لأنه كالمركب، والمفرد مقدمٌ على المركب.

وثالثًا: علم البديع لكونه من المحسنات، والبيان شرطٌ فيه والعلم بالشرط مقدمٌ عن العلم بالمشروط.

عِلْمُ الْبَيِّانِ مَا بِهِ يُعَرَّفُ

إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ

فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ

...........................

ص: 1

هذا تعريف علم البيان. قال الناظم في تعريفه (عِلْمُ الْبَيِّانِ) هنا أظهر في مقام الإضمار مرّ معنا أن الشيء إذا ذكر أولاً إنما يأتي بالضمير نقول: زيدٌ قَدِمَ وهو راكبٌ. لا يصح أن يقال في الأصل إلا لنكتةٍ ما زيدٌ قدم وزيدٌ راكبٌ لئلا يظن أن زيدًا الثاني مغايرٌ للأول حينئذٍ يقال: وهو راكبٌ. هنا الفن الثاني (عِلْمُ الْبَيِّانِ) وهو (مَا بِهِ يُعَرَّفُ) هذا هو الأصل، وإنما يقال: أظهر يعني: جاء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار الذي هو الضمير لنكتةٍ قد يقال: لأنه أراد الإيضاح أراد به الإيضاح أو من أجل الوزن، (عِلْمُ الْبَيِّانِ مَا بِهِ يُعَرَّفُ)، (مَا) اسم موصول بمعنى الذي يصدق على الْمَلَكَة، وعرفنا أن الْمَلَكَة شرطٌ في تحصيل في تحصيل الفصيح والبليغ، يعني: لا يكون الرجلُ فصيحًا إلا إذا كان ذا مَلَكَةٍ، ولا يكون بليغًا إذا كان ذا مَلَكَةٍ، فمن أورد الكلام الفصيح ولم تكن له مَلَكَة فليس بفصيح، ومن أورد الكلام البليغ ولم تكن له مَلَكَة فليس ببليغ، من أورد كلام وقد وجد ما يتحقق من شروطٍ في علم البيان حينئذٍ لا يكون على وَفْقِ هذا الفن الثاني. إذًا مَلَكَةٌ ما - أي: مَلَكَةٌ - وهي هيئة راسخةٌ في النفس يُقْتَدَرُ بها على إدراك جزئياتٍ أو نفس الأصول والقواعد على ما علمت في علم المعاني، يعني هنا في تعريف الفن يصح أن يُراد به (مَا) الذي أُطْلِقَ وأريد به الْمَلَكَة، أو إن شئت قل العلم، ثم يفسر العلم بالْمَلَكَة أو بالمسائل أو بالقواعد والأصول. هنا يحتمل أن يكون المراد به الْمَلَكَة ويحتمل أن يكون المراد به الأصول والقواعد لِمَا مَرّ في علم المعاني، ملكةٌ يقتدر بها على إدراكاتٍ جزئية لأنها تحصل جملةً واحدةً بالفعل، يعني المراد هنا أن ما يصدق عليه علم البيان كالذي يصدق عليه علم المعاني، بمعنى أنه لا يوجد دفعةً واحدة وإنما يوجد شيئًا فشيئًا، (بِهِ يُعَرَّفُ)، (بِهِ) متعلقٌ بقوله:(يُعَرَّفُ)، أي برعايته (بِهِ) أي [بعلم المعاني](1) بعلم البيان ليس المعاني بعلم البيان وهل المراد به العلم بالأصول والقواعد فحسب أو الرعاية؟ ما المراد به؟ هل المراد به علم الرعاية الذي هو الْعَمْلُ بما عَلِم؟ أو المراد فقط العلم النظري؟

(1) سبق.

ص: 2

لا شك أن المراد به الثاني، لِمَا مَرَّ معنا مرارًا أن من حفظ قواعد النحو ولم يطبق النحو حينئذٍ لا يسمى نحويًا، ومن عَلِمَ قواعد علم المعاني ولم يطبقه حينئذٍ لا يسمى بلاغيًا، وكذلك علم البيان، فالشأن حينئذٍ في الرعاية لأن الملكة لا تستفاد إلا بذلك، كيف نقول: هو مَلَكَة يعني: هيئةٌ راسخة، ثم هو مجرد قواعد تحفظ ولا تطبق؟ وهذا لا يسمى علم البيان، لا بد أن يكون علم البيان علم رعاية حينئذٍ يصح أن يقال: بأنه بياني. إذًا (بِهِ) يعني برعايته والباء هنا سببية، يعني بسبب رعايته، (يُعَرَّفُ) الأصل يُعْرَفُ بالتشديد للنظم يعني: فعل مضارع مُغَير الصيغة وبتقديم الجار والمجرور هنا (بِهِ يُعَرَّفُ) يحتمل أنه للوزن ضرورة، ويحتمل أن فيه إيماءً إلا أنه لا يُعْلَمُ غالبًا إلا بعلم البيان، يعني ما سيأتي. وقلنا: غالبًا لإخراج العرب العربان إذ هو مركوز في طبائعهم، يعني علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع هذه العرب العربان فصيح، يعني قبل تدوين أو تأصيل هذا العلم كان العلم موجودًا في ركائزهم، كعلم الأصول وعلم النحو والصرف، حينئذٍ الشأن واحد والكلام واحد، فإدراك القواعد لا يلزم منه أن من كان قبل القواعد أن لا يكون بيانيًا، أليس كذلك؟ لأن العلم هذا علم صناعة صار علمًا حادثًا، وكما هو الشأن في علم النحو وعلم الأصول، العرب القح قبل وضع النحو لا يَعْرِف أن هذا تمييزًا وأن هذا حالاً وهذا مضاف وهذا مضاف إليه، وإنما يأتي به على السليقة يأتي به على وجهه على القواعد، لكن هذا الاصطلاحات اصطلاحات عرفية لا يُدْرِكُهَا ولا يعرفها، لو قيل له: هذا تمييزًا، هذا فعلٌ ماضٍ، فعل مضارع لما أدرك ذلك، كذلك الشأن في البلاغة بأنواعها الثلاثة المعاني والبيان والبديع، فالسليقي الذي يأتي به على سليقته ولا يعرف هذه الاصطلاحات لا يخرج عن كونه عالمًا بفن البلاغة. ولذلك نقول: غالبًا لإخراج العرب العربان إذ هو مركوزٌ في طبائعهم من غير أن يعلموا البيان ويمكن أن يكون قدمه للوزن (يُعَرَّفُ) ما الذي يعرف؟ قال:

.................

إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ

فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ

........................

(إيرَادُ) هذا نائب فاعل (يُعَرَّفُ)، (يُعَرَّفُ) ما الذي (يُعَرَّفُ)؟ (إيرَادُ مَا) أي معنًى (مَا) هو اسم موصول بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة يحتمل هذا ويحتمل ذاك، (إيرَادُ مَا) أي معنًى واحدٍ من المعاني التي يدل عليها الكلام المراعى فيه مطابقته لمقتضى الحال، يعني يأتي بالكلام الذي اشتمل على علم المعاني، لأن علم المعاني كما مر معنا أنه مطابقة المقام لمقتضى الحال، مقتضى، نعم مطابقته لمقتضى الحال من حيث التأكيد وعدمه، ومن حيث الحذف، المسند والمسند إليه .. إلى آخره فيأتي به على وجهه، ثم هو معنًى واحدٌ من المعاني.

إذًا (إيرَادُ مَا) يعني إيرادك هنا بإضافة المصدر إلى المفعول، والذي أورده هو المتكلم (إيرَادُ مَا) إيرادك ما، أي معنًى واحدٍ من المعاني التي يدل عليها الكلام المراعى. إذًا المعنى هنا ليس مدلول مفرد، وإنما هو مدلول مركب هذا أولاً.

ص: 3

ثم ليس كل مركبٍ وإنما مركبٌ قد طابق مقتضى الحال. إذٍ اشتمل على علم المعاني، ثم هو معنًى واحد وليس بمعاني متعددة كما سيأتي في المثال، ولذلك فالمعنى الواحد نقول هنا: هو ما يدل عليه الكلام الذي رُوعِيَ فيه المطابقة لمقتضى الحال وتقييد المعنى بالواحد للدلالة على أنه لو أورد معاني متعددة بطرقٍ مختلفة لم يكن من البيان في شيء، يعني لو تكلم عن جود حاتم، وتكلم عن شجاعة زيد، وتكلم عن حلم آخر، نقول: هذه معاني متعددة وليس هو بمراد، المراد هنا أن يأتي بمعنى واحد كالجود فقط، ثم يُعبر عن هذا المعنى الواحد بطرقٍ مختلفة تارةً بالتشبيه، وتارة بالمجاز على اختلاف أنواعه، وتارةً بالكناية، فالمعنى واحد وهو مدلول الكلام، ثم هذا الكلام قد طابق مقتضى الحال. إذًا لو أورد كلامًا متعلقًا بمعاني متعددة مختلفة ككلامٍ يتعلق بجود حاتم وكلامٍ آخر يتعلق بشاعرية حسان وثالثٍ يتعلق بحلم فلان حينئذٍ يقول: هذه معاني متعددة وإن كانت الطرق مختلفة إلا أنها ليست من علم البيان في شيء، إنما المراد بعلم البيان إيراد ما أي معنًى من المعاني التي دل عليها الكلام مراعى في مطابقته لمقتضى الحال.

ص: 4

(طُرُقُه)(إيرَادُ مَا) أي الذي معنى (طُرُقُه تَخْتَلفُ) يعني طرق هذا المعنى الواحد تختلف، (طُرُقُه) جمع طريق والمراد هنا التراكيب ط (طُرُقُه) جمع فُعُل والمراد هنا التراكيب والعبارات الموصلة إلى المقصودِ، عَبَّر عن التراكيب والعبارات هنا بالطرق مجازًا لعلاقة الإيصال، فالطريق الحسي يُوصل إلى المقصود، والكلام والعبارات توصل إلى المقصود، إذًا (طُرُقُه) أي تراكيبه، (تَخْتَلفُ) أي مختلفة، (طُرُقُه) الضمير يعود إلى (مَا) يعني الطرق التي يُحَصَّلُ بها هذا المعنى الواحد (تَخْتَلفُ). إذًا المعنى متحد والطرق التي هي تراكيب الكلام مختلفة، هذا يُسمى ماذا؟ يسمى علم البيان. (تَخْتَلفُ) هي أي الطرق، أي مختلفة، فالجملة صفة للطرق، واختلافها كما بينه هنا بالتعريف (فِي كَوْنِهَا وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ)، (فِي كَوْنِهَا) أي في كون هذه الطرق التي يعبر بها عن المعنى الواحد واضحة الدلالة على ذلك المعنى، والمراد به كما سيأتي الدلالة العقلية عليه، بأن يكون بعض الطرق واضح الدلالة وبعضها أوضح، يعني من باب واضح وأوضح كصحيح وأصح. إذًا كلها مشتركة بقدرٍ واحدٍ فليس عندنا هنا خفاء يقابل الوضوح، بعضها واضح الدلالة وبعضها أوضح، ولا شك أن الواضح خفيٌ بالنسبة إلى الأوضح، الواضح من حيث هو بالنسبة إلى الأوضح فيه شيءٌ من الخفاء فلذلك لم يحتج أن يقول - يعني المعرف - في الإيضاح والخفاء، السَّكَّاكِيّ لما عرف البيان قال: علمٌ بِهِ. كما قال هنا: يُعَرَّفُ إيرَادُ مَا طُرُقُه تَخْتَلفُ فِي الخفاء والوضوح. جاء بكلمة الخفاء وهذا قالوا: أنه غلط منه، غُلِّطَ في ذلك، بكل كلها واضحة، إن أراد بالخفاء الذي هو الواضح في مقابلة الأوضح صح، وإن كان الخفاء في مقابلة الواضح غُلِّطَ في ذلك، لأن الخفي هذا ليس مشتملاً على بلاغة الكلام فانتفى به ركنٌ من أركان الكلام الذي يُعَبَّرُ عنه بالبلاغة، فلذلك لم يحتج أن يقال: في الإيضاح والخفاء كما فعله السكاكي، بل لا يصح إرادة الخفاء، لا يصح هنا البتة، لماذا؟ لأن ما ليس بواضح إذا كان الخفي في مقابلة الواضح ما ليس بواضح أصلاً ليس طريقًا لطيفًا فلا يكون مقامًا بيانيًا انتفى عنه علم البيان، فلا يكون مقامًا بيانيًا ولا فصيحًا، فليس إيراد المعنى الركيك بلفظ الركيك من مسائل هذا العلم، لأن الخفاء ملازمٌ للركيك، فإذا كان كذلك فالمعنى الركيك الذي يؤدَّى بلفظ الركيك هل هو من مسائل هذا العلم؟ الجواب: لا، ولا من العلم الماضي لأنه يشترط في ما سبق مطابقته لمقتضى الحال وأن يكون فصيحًا، ولا يكون فصيحًا إلا إذا سلم من التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي .. إلى آخر ما مضى، وإنما الكلام في طرقٍ واضحة بعضها أوضح من بعضٍ.

ص: 5

إذًا (فِي كَوْنِهَا) الضمير يعود إلى الطرق، و (وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ) هذا يشتمل نوعين: ما كان واضحًا في نفسه وباعتبار مقابله الأوضح قد يكون فيه شيءٌ من الخفاء، حينئذٍ واضح الدلالة يدخل فيه ما هو أوضح من بابٍ أولى، فإذا اشترط الوضوح فالأوضح من بابٍ أولى وأحرى فيشمل النوعين، ولا نحتاج أن نقول: في الخفاء والوضوح لأنه محتمل إذا كان الخفاء مقابل الوضوح فهو غَلَطٌ لأنه ركيك والركيك لا يكون من مسائل هذا العلم، وإن كان في مقابل الأوضح فيعبر عنه بالوضوح هذا الأصل فيه، فخرج حينئذٍ من التعريف معرفةُ إيراده بطرقٍ مختلفةٍ في اللفظ والعبارة فقط، بأن يريده بألفاظٍ مترادفة مثلاً نقول: هذا ليس من علم البيان. فلا يكون ذلك من علم البيان، والمراد بالمعنى الواحد كل معنًى يدخل تحت قصد المتكلم فلو عرف أحدٌ إيراد معنى قولنا: زيدٌ جوادٌ مثلاً زيدٌ جوادٌ بطرقٍ مختلفة لم يكون بمجرد ذلك عالمًا بالبيان، يعني إذا عرف بأن زيد جوادٌ يؤتى به بطرقٍ مختلفة لكنه ليس أهلاً لإنشاء هذه الطرق، حينئذٍ لا يكون من أهل البيان، لماذا؟ لأنه يُشْتَرَط في هذا العلم كما اشتُرِطَ في العلم السابق الْمَلَكَة، وكما اشْتُرِطَ في من يتصف بالبلاغة بليغ، ومن يتصف بالفصاحة فيقال: فصيح، لا بد أن تكون عنده مَلَكَة، فإذا انتفت الْمَلَكَة فحينئذٍ لا يكون بلاغيًا، كما أنه لا يكون كذلك من عَرَفَ إيراد كل معنًى يدخل في قصد المتكلم وليست له مَلَكَة كالعربي المتكلم بالسليقة، هذا داخل ولا شك أنه داخل، لماذا؟ لأن هذه اصطلاحات عرفيه يعني: نشأت بعد أن لم تكن، فوجدت اللغة بصنوفها وأنواع علومها - اللغة العربية - وكان أهلها عالمين بها، بل هم أهلها وهم المرجع في ذلك، حينئذٍ لما استقرت هذه المصطلاحات لا يمكن أنَّنَا نخرج أولئك الأقوام الذين تعلمنا منهم اللغة لمجرد عدم علمهم بهذه الاصطلاحات، بل هم أهلها وذاك نحويٌ، وذاك بيانيٌ، وذاك صرفيٌ، ولو لم يعلم الاصطلاحات، كما نقول: ذاك أصوليٌ ولو لم يكن على علمٍ بالاصطلاحات.

ص: 6

فعلم البيان علمٌ يعرف به إيراد المعنى الواحد - انتبه - إيراد المعنى الواحد يعني أنت عندما تتكلم تورد تنطق تلفظ المعنى الواحد المدلولِ عليه بكلامٍ مطابقٍ لمقتضى الحال بطرقٍ مختلفةٍ في إيضاح الدلالة عليه، بأن يكون بعض الطرق واضحة الدلالة وبعضها أوضح. قال الطيبي: مثال ذلك أنَّا إذا أردنا إيراد معنى قولنا: زيدٌ جوادٌ وأردنا مثلاً فنقول: في طرق التشبيه لأن مقاصد هذا العلم محصورة في التشبيه والمجاز والكناية، وإن كان التشبيه داخلاً أو خارجًا في الأصل وإنما احتيج إليه لكون الاستعارة مبنيةً على التشبيه، فلو أردنا أن نأتي بـ زيدٌ جوادٌ بطرق التشبيه ماذا نقول؟ نقول: زيدٌ كالبحر في السخاوة، زيدٌ مشبه كالبحر الكاف حرف تشبيه والبجر مشبهٌ به في السخاوة هذا وجه الشبه، هذا طريق، نفس المعنى نأتي به بطريقٍ آخر بتركيبٍ آخر بكلامٍ آخر فنقول: زيدٌ كالبحر، نحذف ماذا؟ وجه الشبه، زيدٌ بحرٌ حذفنا وجه الشبه والأداة، هذه ثلاث طرق لمعنًى واحد وهو كون زيدٍ جوادًا هل المعنى اختلف؟ لا. وإنما هو معنى واحد، ولذلك قلنا: إيراد المعنى الواحد هذا مراد، ثم يؤتى به بعدة طرق، إن كان بالتشبيه فله ما ذكره هنا، وفي طرق الاستعارة زيدٌ جوادٌ ماذا نقول؟. نقول: رأيت بحرًا في الدار، حذفنا الكاف، وتقول: لُجَّةُ زيدٍ كَثُرَتْ. وتقول: لُجَّةُ زيدٍ متلاطمٌ أمواجها. هذا بوجوه الاستعارة الآتي بيانها إن شاء الله تعالى، فحينئذٍ زيدٌ جوادٌ جئنا به المعنى واحد واختلفت الطرق في التعبير عنه بنوع الاستعارة وهي نوعٌ من أنواع المجاز كما سيأتي، وفي طرق الكناية زيدٌ جوادٌ ماذا نقول؟ زيدٌ مضيافٌ، زيدٌ جوادٌ مضيافٌ، مضيافٌ ماذا يقدم؟ زيدٌ كثيرٌ أضيافه هذا نوعٌ آخر، زيدٌ كثيرٌ رماده، الرماد يعني الطبخ، إن الرماد كثيرٌ بساحة زيد، المعنى واحد انظروا العبارات مختلفة، إن الجود في قبةٍ ضربت على زيدٍ، إنه مصورٌ من الجود، كأنه خلق من الجود، هذا في غاية ما يمكن أن يُعبر. انظر المعنى واحد زيدٌ جوادٌ جئت به بعدة طرق في التشبيه وبالاستعارة وفي الكناية هذا المراد بإيراد المعنى الواحد وهو كون زيدٍ جوادًا بطرقٍ مختلفة وكلها واضحة بمعنى أن الدلالة تفهم من التركيب نفسه ولكلٍ وجهةٌ كما سيأتي بيانه. فظهر أن مرجع البيان إلى اعتبار المبالغة بإثبات المعنى الشيء هكذا قال الطيبي، وهذا هو الصحيح أن علم البيان كله تشبيه ومجاز والكناية مبناها على المبالغة. إذًا فظهر أن مرجع البيان إلى اعتبار المبالغة بإثبات المعنى للشيء.

إذًا لمٌ يعرف به إيراد المعنى الواحد المدلولِ عليه بكلام المطابق لمقتضى الحال بطرقٍ مختلفة في إيضاح الدلالة عليه بأن يكون بعض الطرق واضح الدلالة وبعضها أوضح.

قوله: (وَاضِحَةَ الدِّلالَةْ) أو الدَّلالة الدُّلالة مثلثة الدال كما مرّ معنا، وإن كان الضم رديء المشهور الدِّلالة والدَّلالة بالكسر والفتح، والدُّلالة سمع لكنه رديء كما قال الأمين في مقدمته، ولَمَّا لم تكن كل دَلالةٍ قابلةً للوضوح والخفاء احتيج إلى تقسيمها.

ص: 7

هنا يذكر البيانيون قبل الكلام في التشبيه والمجاز والكناية. أقسام الدلالة تُعَرّف الدَّلالة، ثم تذكر أقسامها الثلاثة أو القسمين العامين دلالة لفظية ودلالة غير لفظية، ثم تقسم غير اللفظية إلى ثلاث، وتقسم اللفظية إلى ثلاث، على كلٍّ مرّ معنا هذا قريبًا في شرح ((السُّلّم)) وليس مرادًا هنا، إنما المراد هو ما يقابل الوضعية، ولما لم تكن كل دَلالةٍ قابلةً للوضوح والخفاء احتيج إلى تقسيمها وتعين المقصود منها، فالدلالة حينئذٍ لأنه قال:(فِما بِهِ لَازِمُ مَا وُضِعِ لَهْ). الدلالة هي كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر، هذا إذا شرطنا الفهم بالفعل، كون أمرٍ بحيث يفهم منه أمرٌ آخر، فُهِمَ منه بالفعل أم لا، يعني لا يُشترط في الدلالة أن تكون دلالة أن يفهم بالفعل، بل ولو بالقوة، فهم أمرٍ من أمرٍ، يعني يتعلق به الفهم كون الشيء هذا عند البيانيين بحيث يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر أو كون أمرٍ بحيث يُفْهَمُ منه أمرٌ، الأول الدّال والثاني المدلول. إذًا عندنا دلالة وعندنا دالٌ وعندنا مدلولٌ، عندنا دلالة وهي الفهم سواءٌ قلنا: فهمًا بالفعل أم لا، وعندنا دالٌ وهو اللفظ أو غيره، وعندنا المدلولٌ وهو ما يُفْهَمُ من اللفظ أو غيره، فدلالة اللفظ حينئذٍ نقول: اللفظ الموضوع. أما المهمل فلا مدخل له هنا اللفظ الموضوع الذي وضعته العرب لا يخلو إما أن يدل على تمام ما وضع له، أو على جزئه، أو على الخارج اللازم له ذهنًا. لفظ الموضوع إما أن تكون الدلالة مطابقية أو تَضَمُّنِية أو التزامية. ولكن من حيث التقسيم الدلالة اللفظية نقول: إما أن يدل اللفظ على تمام وكمال الموضوع له أو على جزئه على بعضه، وهذا يكون في المعاني المركبة لا البسيطة، أو على الخارج اللازم، وهذا يكون ملتزمًا من جهة الذهن، فدلالة اللفظ على تمام ما وضع له وضعية تسمى وضعية، ثّمَّ فرقًا بين الحديث عن أقسام الدلالة بين البيانيين والمناطقة، فالتقسيم في الجملة متحد لأن الأسماء قد تختلف، فدلالة اللفظ على تمام - يعني كمال - ما وُضِعَ له - يعني تمام المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ في لسان العرب - يعني ذلك المعنى - وضعيًا يسمى وضعيًّا.

ص: 8

المطابقية يعبر عنها هنا بالوضعية، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق بالنسبة إلى من هو عالمٌ بالوضع، فنسميها دلالة وضعية، المطابقية التي نسميها ناطقة تسمى هنا وضعية، إذًا مرّ بك هذه دلالة وضعية فاعلم أن مرادهم بها دلالة اللفظ على تمامِ ما وُضِعَ له، وهي التي يعنون لها بدلالة المطابقة، فحينئذٍ نسميها دلالة وضعية يعني نسبةً إلى الواضع، لماذا؟ لأن الواضع إنما وضع اللفظ للدلالة على تمام الموضوع له، فهي دلالةٌ منسوبةٌ إلى الوضع، وإنما اختصت به مع كون دلالة التضمن وكذلك دلالة التزام فيها شيء من الوضع، لأن هذه وضعية محضة بخلافهما يعني: التضمنية والالتزامية وإن كان للوضع مدخلٌ فيه، يعني الوضع، ولذلك نقول: اللفظ الموضوع. إذًا لا بد أن يكون مأخوذًا في جميع الأقسام، اللفظ الموضوع إما أن يدل على تمام ما وضع له. عرفنا الوضعية، أو على جزئه هذا قسمٌ لأي شيء للفظ الموضعي، إذًا هي وضعية أو على اللازم الخارج إذًا هي وضعية. إذًا الوضع له مدخلٌ في الأنواع الثلاثة ولا شك، لكن لما كان الوضع في دلالة اللفظ على تمام ما وُضِعَ له محضًا يعني خالصًا يُفهم المعنى منه دون دلالة العقل، حينئذٍ سمت وضعية محضة، وأما دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له اللفظ العقل له مدخلٌ، فسلب عنه لفظ الوضع فلا تسمى وضعية، وإنما تسمى عقلية عند البيانيين، وكذلك الالتزام من بابٍ أولى وأحرى. إذًا الوضع له مدخلٌ في الدلالة الوضعية والدلالة التضمن والدلالة التزام إلا أنه لما كان المعنى يُفهم في التضمن بواسطة العقل لأنه دلالةٌ على جزئه، واللازم كذلك بواسطة العقل سُلِبَ عنه عن هذين النوعين وصف الوضعية واختص بدلالة المطابقة فهي الدلالة الوضعية عندهم لأن الوضع هنا متمحضٌ في الفهم. هذا الأول، وعلى جزئه يعني: دلالة اللفظ على جزئه أي: على جزء الموضوع له من حيث هو جزءٌ وهذا إنما يكون في المعاني المركبة، وأما المعاني البسيطة فلا تتأتى دلالة التضمن البتة، مثل ماذا؟ قالوا: كدلالة الإنسان على الحيوان فقط، إذا قلت: هذا إنسانٌ وقصدت به الحيوان فقط فهو جزءٌ لأن الإنسان معناه مركب من شيئين حيوان ناطق، إذا أطلقت لفظ الإنسان وأردت به الحيوان فقط فهو دلالة الشيء على جزئه، دلالة اللفظ على جزئه، يعني على جزء المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ، وإذا قصدت به الناطق دون الحيوان كذلك استُعْمِل اللفظ في الدلالة على جزء المعنى، وهذا المعنى كذلك أورده ابن لقيم في أعلام الرب جل وعلا. فيقال: الرحمن دلالته دلالة وضعية كما هنا أو مطابقة على الذات والصفة معًا، ذاتٌ متصفة بصفة الرحمة، إذًا عندنا أمران فهو معنًى مركب، دلالة الرحمن على الذات فقط هذه دلالة تضمن، دلالة الرحمن على الرحمة فقط دون الذات هذه دلالة التضمن.

ص: 9

إذًا دل اللفظ على جزء المعنى كدلالة الإنسان على الحيوان فقط أو على الناطق فقط، أو دلالة اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له لازمٌ ذهنًا، دلالة اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له يعني لم يوضع له في لسان العرب هذا المعنى وإنما وضع لمعنًى آخر لكن يلزم من هذا المعنى معنًى آخر، فيكون المعنى الذي وُضِعَ له اللفظ في لسان العرب مَلْزُومًا، واللازم هو الخارج، كدلالة الأربعة على الزوجيةً، أليس كذلك؟ الأربعة وضعت العرب لفظ أربعة للعدد المعدود بالأربعة، لكن لم تضع العرب أو الواضع لفظ أربعة للدلالة على أنه زوجٌ، فالزوجية ليست داخلةً في مفهوم الأربعة وإنما هو لازمٌ، لأن القاعدة كل أن كل منقسمٍ على اثنين ثم تكون النتيجة اثنين صحيحين حينئذٍ يكون زوجًا، ويقابله الفرد حينئذٍ دلالة الأربعة على الزوجية نقول: هذه دلالة اللفظ على خارجٍ عنه لازمٌ له، لأنه لا ينفك عن الأربعة وهو كونه ينقسم على اثنين لا ينفك عن الزوجية، ومَثَّلُوا له كدلالة الإنسان على الضاحك، إذا قيل: الإنسان هو حيوان ناطق. ويلزم منه أن يكون ضاحكًا فالمعنى ملزوم، وهذا اللازم لازمٌ، فثَمَّ فرق بين اللازم والملزوم، إذًا النوع الثالث إذا دل اللفظ على خارجٍ عن الموضوع له لازم

#31.08 من حيث إنه خارجٌ لازمٌ، فهاتان الدلالتان على الجزء وعلى الخارج عند البيانيين عقلية، بخلاف الكلام عند المناطقة، ولذلك مرّ معنا فصلٌ في أنواع الدلالة اللفظية الوضعية. قلنا: الوضعية يدل على أن الأقسام الثلاثة وضعيةٌ عند المناطقة، نسيتم؟ فصلٌ في أنواع الدلالة. قال الشارح: اللفظية. قال صاحب الأصل: الوضعية. إذًا الوضعية هذا احترازًا عن مقابلها، فحكم على أنواع الدلالة اللفظية كلها بكونها وضعية، دلالة اللفظ على ما وافقه يدعونها دلالة المطابقة

وجزئيه تضمنًا وما لزم

ص: 10

الثلاثة هذه قالوا: وضعية. إذًا كلها وضعية عند أكثر المناطقة إن كان ثَمَّ خلافٌ بينهم. أما عند أهل البيان فيختلفون فعندهم ما يُسَمَّى بالوضعية التي يُقابلها المطابقية عند المناطقة هذه وضعية ولا إشكال فيها، بل هي متفقٌ عليها لأن البحث هنا تتناوله ثلاثِ أيدي أو ثلاثُ أيدي: الأصولي، والمنطقي، والبياني. ويختلفون في ما يُحكم على هذه الدلالة، فعند المناطقة الثلاثة وضعية، وعند البيانيين المطابقية وضعية والتضمنية التزام عقلية، وعند الأصوليين وهو الصحيح في المقامات الثلاث أن دلالة المطابقة والتضمن وضعية والالتزام عقلي. وهذا المرجح في جميع الفنون. إذًا المسألة واحدة والحكم واحد والدليل واحد فلا اختلاف باختلاف الفنون، ولذلك هنا قال: عقلية. لماذا هي عقليةٌ عندهم عند البيانيين؟ لأن دلالته عليهم أي دلالة اللفظ على الجزء وعلى اللازم الخارج إنما هو من جهة العقل، يعني: العقل له مدخلٌ، فلما كان العقل له مدخلٌ في ذلك حينئذٍ سميت عقلية، فالعقل يحكم بأن حصول الكل والملزوم في الذهن يستلزم حصول الجزء واللازم، الكل الذي هو مدلول اللفظ، إذا حصل أولاً في الذهن حكم العقل بالجزء، وإذا حصل الملزوم الذي هو معنى اللفظ حينئذٍ دل العقل على اللازم، فالوصول من الكل إلى الجزء هذا حصل بالعقل لأنك أطلقت اللفظ والمراد به الكل في لسان العرب. الإنسان المراد به حيوانٌ ناطق هذا أصلٌ، إذا أطلقت الإنسان فالأصل فيه أنه ينصرف إلى الحيوان الناطق فإذا أردت بعضه فالعقل الذي خصصه. إذًا العقل له مدخلٌ. إذا أطلقت الأربعة فالمراد به المعنى الموضوع المعدود حينئذٍ إذا توصلت به بهذا اللفظ إلى الزوجية فالعقل هو الذي حكم. إذًا لما كان العقل وسيلةً في التوصل من الكل إلى الجزء ومن الملزوم إلى اللازم حينئذٍ سميت عقلية، فالعقل يحكم بأن حصول الكل الذي هو مدلول اللفظ المطابق بالأصل، والملزوم في الذهن يستلزم حصول الجزء واللازم فيه أيضًا، وشروط الالتزام هنا - لأنها عقلية - أن يكون الملزوم ذهنيًا، فاتفقا مع المناطقة بأن يكون الملزوم ذهنيًا، أما الذي يكون في الخارج كالسواد للغراب فليس بمراد، ولو باعتقاد المخاطب، ولا يُشترط أن يمنع العقل انفكاكه كما اشترطه المناطقة، فاللازم عند البيانيين ليس هو كاللازم عند المناطقة، يعني: ثَمّ افتراقٌ في الاصطلاحات بين الطائفتين، لا يُشترط أن يمنع العقل انفكاكه. مر معنا أن اللازم هو ما يمنع العقل انفكاكه، ما يمنع العقل انفكاكه هذا هو اللازم، هل هذا هو المراد عند البيانيين إذا أطلقوا اللازم؟ الجواب: لا، لا يُشترط هذا، كما اشترطه المناطق وإلا لخرج كثير من معان المجازات والكنايات من أن تكون مدلولات التزامية، ولَمَا تَأَتَّى الاختلاف بالوضوح بدلالة الالتزام أيضًا. العقلية المراد بها عند البيانين هي دلالة التضمن ودلالة الالتزام.

ص: 11

وإيراد المعنى الواحد عرفننا أنواع الدلالة، إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح لا يَتَأَتَّى بالوضعية التي هي دلالة اللفظ على تمام ما وُضِعَ له، فليس لها بحث في علم البيان ولا يتعلق بها العلم من أصله، وإنما إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة يكون في ماذا؟ في دلالة التضمن، وفي دلالة الالتزام. إذا الذي يُستعمل هنا في الأصل هو ما كان أحد أو أحد الدلالتين، لأن السامع إذا كان عالِمًا بوضع الألفاظ لذلك المعنى لم يكن بعضها عنده أوضح من بعض، وإن كان غير عالِمٍ بذلك لم يكن كل واحد من الألفاظ دالاً عليه لتوقف الفهم على العلم .. .

المراد هنا الخلاصة أن الوضعية الذي دلالة المطابقة لا بحث لها في علم البيان، وإنما يتعلق البيان بالدلالة العقلية وهي دلالة التضمن ودلالة الالتزام، ويتأتى بالعقلية لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح.

إذا علمت ذلك فاعلم كما قال الناظم هنا:

.................

فِما بِهِ لَازِمُ مَا وُضِعِ لَهْ

إِمَّا مَجَازٌ مِنْهُ الاستِعَارَةُ

تُنْبِي عَنِ التَّشْبِهِ أَوْ كِنَايَةُ

أراد أن يبين علم البيان أنه منحصر في ثلاثة مقاصد، كما مرّ في علم المعاني منحصر في أبواب ثمانية، منحصر الأبواب في ثمانية هنا علم البيان منحصر في ثلاثة أبواب:

تشبيه هذا أولاً.

وثانيًا: المجاز.

وثالثًا: الكناية.

لا بحث له في غير هذه الأبواب الثلاثة، والأصل في بحثهم أنه منحصر في بابين المجاز والكناية، وأما التشبيه فالأصل أنه لا يُبحث فيه، لكن لما كان المبنى الاستعارة على التشبيه حينئذٍ بُحِثَ في التشبيه وذكرت أنواعه على جهة التفصيل.

ص: 12

إذا علمت ذلك فاعلم أن ما به، ما أي اللفظ اسم موصول بمعنى الذي يصدق على اللفظ، ما به أي اللفظ المراد به لازم ما وضع له، لازم ما أي لازم معنًى موضوع له أي اللفظ، موضوع له، له الضمير يعود إلى اللفظ. وقوله (مَا بِهِ) الضمير يعود إلى ما يعني اللفظ الذي يُراد به لازم ما، يعني لازم معناه، لأن دلالة الجزء على الكلِّ هذا لازم عندنا لأنها عقلية، ليست وضعية الصحيح أنها وضعية لكن على كلام البيانين هي عقلية، إذا البحث هنا في دلالة في اللازم، وهو دلالة الكلِّ على الجزء إنما علمت جهتك اللزوم العقلي، ودلالة المعنى على لازم خارج له أو عنه، إذًا فما به، أي اللفظ المراد به لازم معنى ما، معنى موضوع له اللفظ المراد به لازم ما وضع به. إذا المراد بهذا التركيب المراد به لازم ما وضع له، يعني اللفظ المراد به لازم ما وضع له سواء كان جزءًا، ودخلت دلالة التضمن أو خارجًا دخلت دلالة الالتزام، أي سواء كانت اللازم داخلاً كما في التضمن أو خارجًا كما في دلالة الالتزام. إما أن تقوم قرينة على عدم إرادة ما وُضِعَ له فهو مجاز، دلالة اللفظ على اللازم سواء كان جزءًا أو خارجًا، إما أن تقوم قرينة على أن اللفظ اسْتُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له فهو مجاز. ولذلك قال:(إِمَّا مَجَازٌ). إما أن تقوم قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز، ثم المجاز منه الاستعارة، والاستعارة هي مجاز علاقته المشابهة، إذًا التشبيه أصل للاستعارة، ولذلك قال:(مِنْهُ الاستِعَارَةُ) هكذا (مِنْهُ) أي من المجاز (الاستِعَارَةُ) وهي نوع من أنواع المجاز، تُبنى، أي هي الاستعارة على التشبيه فلزم ذكر (التَّشْبِيهِ)، (أَوْ كِنَايَةُ) عطف على قوله:(مَجَازٌ) فانحصر المقصود من البيان في هذه الثلاثة.

إذا مجاز هذا إذا قامت قرينة على عدم إرادة ما وُضِعَ له اللفظ، ثم المجاز منه (الاستِعَارَةُ) وهي تبنى على (التَّشْبِيهِ) الذي كان أصلها أو أصلهما فتعين التعرض له أيضًا قبل المجاز الذي أحد أقسام الاستعارة، أو كناية هذا عطف على سابقه. إذا كأنه قال: فما به لازم ما وضع له إما مجاز أو كناية هذا الأصل، إما مجاز أو كناية، أو للتنويع، فقسم لك المقاصد أو المقصودين إلى نوعين: مجازًا أو كناية. ولما كانت الاستعارة وهي نوع من المجاز مبناها على التشبيه لزم أن يذكر التشبيه فلذلك يذكرون التشبيه أول ما يتكلمون عنه.

المقصد الأول من المقاصد الثلاث، إذا ما عرفنا هذه المقدمة المقصد الأول هو التشبيه: التَّشْبِيه مصدر شَبَّهَ يُشَبِّهُ تَشْبِيهًا من باب التَّفْعِيل، وهو في الاصطلاح عند البيانين: الدلالة على مشاركة أمر للآخر في معنًى. الدلالة إذا عندنا الدلالة، لا بد أن نعرف ماذا الدلالة؟ وقد سبق معنا، وعرفنا أنواع الدلالة وقد سبق معنا، وعرفنا أن الوضعية ليست مرادًا هنا، فإن قيل أن التشبيه من الدلالة الوضعية حينئذٍ كيف يُبحث في علم البيان؟

أجبنا بأن البحث بالتشبيه ليس من علم بيان ابتداءً، وإنما هو مذكور لما يتعلق بعلم البيان، لأن بحث البيانين هنا في هذا الفن علم البيان في الدلالة العقلية، والتشبيه ليس من هذا الأصل، فكيف يذكر؟

ص: 13

قلنا: .. #42.38 لم يذكر آصالة وإنما ذكر تبعًا، فحينئذٍ المجاز والكناية دلالتهم عقلية فلا إشكال فيه ولا اعتراض، واضح هذا؟ [نعم] التشبيه هو الدلالة على مشاركة، إذًا هذا معنى التشبيه ثَمّ مشاركة بين شيئين، مشاركة أمر الذي هو الْمُشَبَّه لآخر الذي هو الْمُشَبَّهُ بِهِ في معنًى الذي هو وَجْهُ الشَّبَهِ، لا على وجه الاستعارة التحقيقية، ولا على وجه الكناية، ولا على وجه التجريد، يعني هذه ثلاثة أشياء فيها مشاركة شيء لشيء آخر في معنًى، وهل هي تشبيه؟ الجواب: لا، ليست من التشبيه، لئلا تدخل في الحد لولا من أن نذكر هذا القيد لو لم أن نذكر هذا القيد لدخلت في الحدّ، فلا بد من إخراجها، فنقول: لا، هذا استدراك وإخراج، لا على وجه الاستعارة التحقيقية، وهي فيها تشبيه مشاركة أمر لأمر آخر في معنًى، لكنها ليست من التشبيه الاصطلاح، ولا على وجه الكناية ولا على وجه التجريد شرح التعريف. قوله: (الدِّلالَةْ) أي من المتكلِّم للمخاطَب، أليس كذلك؟ الدلالة، دلالة من؟ دلالة الكلام، ممن؟ من المتكلِّم إلى المخاطَب، بالكاف ونحوها، دلالة بأي شيء حصلت؟ بالكاف ونحوها يعني بأداة التشبيه لأن المشاركة هنا ما الذي يدل عليها؟ الذي يدل عليها أداة، قد تكون حرفًا، وقد تكون اسمًا، وقد تكون فعلاً. ولذلك يُعبر بالأداة كما سيأتي. الدلالة من المتكلم للمخاطَب بالكاف ونحوها لفظًا أو تقديرًا، لفظًا كقولك زيد كالأسد، هنا لفظت بالكاف. زيدٌ أسدٌ. على الصحيح أنه تشبيه بليغ ليس استعارة فحينئذٍ نقول: الأصل زيد كالأسد. حُذِفَت الكاف، إذًا قد تكون الكاف مذكورةً، وقد تكون مقدرة، على اشتراك أمر وهو الْمُشَبَّه لأمر آخر وهو اْلُمَشَّبَهُ بِهِ في معنًى وهو وجه الشَّبَهِ، والمراد هنا بوَجْهِ الشَّبَهِ وصف من أوصاف أحدهما في نفسه. يعني: وصف من أوصاف أحدهما الْمُشَبَّه أو الْمُشَبَّهِ به، في نفسه كالشجاعة في الأسد، والنور في الشمس.

وينبغي أن يكون وجه الشبه في نفسه مما يصح أن يقاس به غيره لبلوغه الكمال في بابه، يعني لا بد أن يكون وصفًا متميزًا، لأنك إذا قلت: زيد كالأسد. هذا زيد حيوان، والأسد حيوان كذلك، زيد موجود، والأسد موجود، زيد يأكل والأسد يأكل، هذا يشرب وهذا يتناسل. إذا الأوصاف مشتركة لكن ما الذي أريد؟ أريد وصف يتميز به الْمُشَبَّه به لا يشاركه الْمُشَبَّه، يعني الوصف الجامع قد يكون مشتركًا بينهما وقد يكون المشبَّه به متميزًا فيه، بمعنى أنه أظهر فيه فيقال زيد كالأسد يعني في الشجاعة، وأما ما عداها من الأوصاف فهي مشتركة بين زيد والأسد بل وغيره، وذلك كقولك زيد كالأسد دُلَّ بهذا الكلام على مشاركة زيد الأسد في الشجاعة، فدلالته على هذه المشاركة هي التشبيه، زيد كالأسد، ما الذي فُهِمَ من هذا التركيب؟

ص: 14

مشاركة زيد الأسد في معنًى واحد وهو وصف انفرد به الأسد وهو الشجاعة، هذا الذي يُسمى ماذا؟ يُسمى بالتشبيه، ثَمَّ مُشبَّه، ثَمَّ مُشَبَّهٌ به، ثَمَّ أداة، ثَمَّ وجه شبه أركانه أربعة كما سيأتي. ولما كان هذا التعريف يتناول يعني دخل فيه ما يسمى تَشْبِيهًا بلا خلاف، ولِمَا يُسمَّى تشبيهًا على المختار، ولِمَا لا يُسمّى تشبيهًا. إذًا ثلاثة أحكام، منه يعني مما يُحكم عليه بأنه تشبيه هو تشبيه بلا خلاف، وذلك فيما إذا ذكرت الأداة، كـ (زيد كالأسد)، نقول: هذا تشبيهٌ بلا نزاع.

النوع الثاني: يُسمى تشبيهًا وفيه نزاع لكن على الصحيح هو تشبيه في قولك: زيد الأسد. هذا فيه نزاع، هل هو استعارة أو تشبيهٌ اصطلاحيّ؟ الصحيح أنه تشبيهٌ اصطلاحي.

ولِمَا لا يُسمى تشبيهًا ووُجِدَ فيه المعنى وهو مشاركة أمر لآخر في معنًى.

هذا النوع لا بد من إخراجه وهو ثلاثة أشياء: استعارة تحقيقية، والكناية، والتجريد. ما يسمى بالتجريد. ولِمَا لا يسمى تَشبيهًا احترز عن الثاني بتقييده بأن يكون ذلك الاشتراك على وجه الاستعارة التحقيقية، وهي التي تحقق معناها حسًّا أو عقلاً، الاستعارة هي مجاز علاقته المشابهة، قد يكون مدلوله محققًّا مدركًا بالحسّ، وقد يكون شيئًا معقولاً، يعني مدركًا بالعقل كما سيأتي، نحو: رأيت أسدًا يرمي. هنا ليس عندنا تشبيه وإنما هي استعارة تحقيقية، لأنه شَبَّهَ أولاُ ثُمَّ أطلق لفظ الأسد على زيد كما سيأتي بيانه.

ص: 15

إذًا نقول: هذه الاستعارة التحقيقية ومثالها: رأيت أسدًا يرمي. نقول: هذا ليس بتشبيه اصطلاحي وإنما هو استعارة تحقيقية، وإن كانت هي مبنيةً على التشبيه، لأن التشبيه ما ذُكر إلا من أجل الاستعارة، إذًا رأيت أسدًا يرمي ليس هو بتشبيه اصطلاحي، ولا على وجه الاستعارة بالكناية، وسيأتي بحثها، وهي التي أظهر فيها التشبيه في النفس. ثَمَّ مُشاركة أَمْرٍ لآخر، لكن هنا التشبيه مضمر في النفس، يعني مقدر في النفس، يعني منويّ، نويتَ أولاً ثُمَّ أَطْلَقْتَ، فلم يُصَرِّحْ بشيء من أركانه سوى الْمُشَبّه، ودُلَّ عليه بأن أُثْبِتَ للمشبَّه أَمْرٌ اخْتَصّ بالْمُشَبّه به نحو: أَنْشَبَتُ الْمَنِيَّةُ أَظْفَارَهَا، هذا يُسَمَّى كناية، وهو فيه في الأصل معنى التشبيه، لكنه ليس بالتشبيه الاصطلاحي ولا بد من إخراجه، وسيأتي معنى الكناية في آخر الفصل. ولا على وجه التجريد وهو أن يكون الْمُشَبّه مذكورًا أو مقدرًا ولم يكن اسم الْمُشَبّه به خبرًا للمُشَبّه ولا في حكم الخبر مع حذف أداة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه، نحو ماذا؟ لقيت من زيد أسدًا. كأنك جردت من زيد أسدًا، لقيت من زيد هذا يُسمى التجريد عند البيانين، لقيت من زيد أسدًا، فبكل من هذه الثلاثة دلالة على مشاركة أمر لآخر في معنًى إذا وُجِدَ فيه الْحَدّ، ولكن لا يُسمَّى شيء من تَشْبِيهًا اصطلاحًا، لا الاستعارة الحقيقية، ولا كناية، ولا التجريد، وإن كانت الثلاثة مبناها على التشبيه في الأصل، لكن لا تسمى تشبيهًا في الاصطلاح. ودخل في تعريف التشبيه الاصطلاحي ما يُسمى تشبيها بلا خلاف، وهو ما ذكر فيه أداة التشبيه، سواء ذكر الْمُشَبّه معها نحو: زيد كالأسد، ذُكِرَ فيها أدة التشبيه، وهذا محل وفاق، أو حذف لقرينة نحو: كأسدٍ. في جواب: كيف زيد؟ كأسدٍ. أين الْمُشَبّه محذوف لقرينة وقوعه - الكلام يعني - جوابًا لسؤال: كيف زيد؟ كأسد، أو كالأسد. ودخل أيضًا ما يُسمى تشبيهًا على المختار يعني على الصحيح، وهو التشبيه الذي حُذِفَتْ أداته وجُعِلَ الْمُشَبّه به خبرًا عن الْمُشَبّه أو في حكم الخبر، سواء كان مع حذف الْمُشَبّه أو مع ذكره {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. [البقرة: 18] أي هم صمٌّ أي هم كصمٍّ، واضح هذا؟ {صُمٌّ} نقول: هذا خبر لمبتدأ محذوف، حذف المبتدأ وهو هم وبَقِي الْمُشَبّه به وحذفت الأداة. كقول الشاعر:

أَسَدٌ عَلَيَّ وفي الْحُروبِ نَعَامَة

ص: 16

يعني أنت كالأسد، وحُذِفَ أنت الذي هو المبتدأ الْمُشَبّه، وحذفت أداة التشبيه وبَقِيَ الْمُشَبَّه به كما هو الشأن في {صُمٌّ بُكْمٌ} . إذا هذا على الصحيح يعتبر ماذا؟ يعتبر تشبيهًا، الذي حذفت أداته وجُعِلَ الْمُشَبّه به خبًرا عن الْمُشَبّه، هم كصم هذا الأصل، تشبيهٌ أم لا؟ تشبيهٌ اتفاقًا هذا التركيب تشبيه باتفاق، لكن لَمَّا حُذِفَ الْمُشَبَّه وحذفت الأداة قال:

{صُمٌّ} ، هل هو تشبيه أم لا؟ محل نزاع والصحيح أنه تشبيه، وإن كان التقدير هم كصم، لَمَّا حذفت الأداة جُعِلَ الْمُشَبّه به خبًرا عن الْمُشَبّه، لَمَّا [لم يكن جارًّا] لم يكن مجرورًا بالكاف المحذوفة حينئذٍ وقع فيه لبس، أي أنت أسد، وحذف منهما الْمُشَبّه وأداة التشبيه. والثاني نحو قولك: زيدٌ أسدٌ. وحذفت أداة التشبيه فقط، فهو تشبيه بليغ على الصحيح لا استعارة. إذًا هذان النوعان وقع فيهما نزاع، وهو النوع الأول أن يحذف الْمُشَبّه مع الأداة ويجعل الْمُشَبّه به خبرًا عن المبتدأ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} - احفظ هذا المثال - هم كصم هذا الأصل.

الثاني أن تحذف الأداة فقط ويبقي الْمُشَبّه. زيدٌ أسدٌ. ماذا صنعتَ؟ أبقيت الْمُشَبّه والْمُشَبّه به طرفين وحذفت الأداة، هذا فيه نزاع كذلك، والصحيح في الموضعين أنهما تشبيه اصطلاحًا لا استعارة. انتهينا من التعريف.

ثم قال رحمه الله تعالى:

وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ حسِّيَّانِ

وَلِّوْ خَيَالِيًّا وَعَقْلِيَّانِ

وَمِنْهُ بِالْوَهْمِ وَبِالْوُجْدَانِ

أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ

لما كان الطرفان هما الأصل والعمدة في التشبيه لكون الوجه معنًى قائمًا بهما والأداة آلة في ذلك، قدَّم بحث ما يتعلق بالطرفين، المراد بالطرفين هما الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، لأن البحث يكون في أمور:

أولاً: في الْمُشَبّه والْمُشَبّه به. في الطرفين على ما ذكر الناظم في البيتين.

الثاني: في الأداة.

الثالث: في وجه الشبَّه.

ثم يذكرون أغراض الشبّه، الغرض منه، ثم يذكرون أقسام كل منها.

فقال رحمه الله تعالى: (وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ) أي الْمُشَبّه والْمُشَبَّه به، إما

(حسِّيَّانِ)(وَعَقْلِيَّانِ)، والخيالي داخل في الحسيّ، والوهم والوجدان داخلان في العقل على الترتيب انظر في البيتين، (حسِّيَّانِ) أو (عَقْلِيَّانِ) هذا التقسيم، إما (حسِّيَّانِ) أو (عَقْلِيَّانِ) أو مختلفان ولو خياليًّا هذا نوع من أنواع الحسّيّ داخل فيه، و (مِنْهُ) أي من العقليّ (بِالْوَهْمِ وَبِالْوُجْدَانِ) إذا الوهم والوجدان داخلان في العقل، (أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ) يعني بعضه حسيّ وبعضه عقليّ. إذا القسمة ثلاثية، طرف التشبيه ثلاثة أقسام: إما (حسِّيَّانِ) وإمّا (عَقْلِيَّانِ)، وإما مختلفان. الحسِّيَّان أن يكون كلٌّ من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به حِسِّيّ.

والعقليان أن يكون كل من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به عقليّ.

ومختلفان أن يكون الأول والمشبّه حسي، والمشبه به عقلي، والنوع الثاني أن يكون الْمُشَبّه عقلي وأن يكون الْمُشَبّه به حسي. هذا ما يعبر عنه بالمختلفين، واضح هذا؟

ص: 17

نشرع (وَطَرَفَا التَّشْبِيهِ) أي الْمُشَبّه والْمُشَبّه به إما (حسِّيَّانِ)، أي كل منهما حسي منسوب إلى الحسيّ، والمراد به هنا الحسّ الظاهر لأن الحسّ قد يقال بأن المراد به حسّ الباطن وهو الوجدان، ويطلق في الأصل ويراد به الحسّ الظاهر وهو حقيقته هنا يعني الحسيّ المراد بالحسي المراد به الْمُدْرَكُ هو أو مادته بأحد الحواس الخمسة، أو بإحدى الحواس الخمسة. المدرك يعني الذي يُدرك، والإدراك واضح، هو أو مادته، هو يعني: بتركيبه وأجزائه، أو مادته يعني مفرداته التي تألف المركب منها، إذًا الحسيّ هنا قد يكون مركبًا فيدرك الشيء كله بالحسِّ، وقد لا يدرك بالحس وإنما تدرك مفرداته التي تألف منها، وسيأتي مزيد بيان. والمراد هنا بالحواس الخمس التي هي: البصر والسمع والشم والذوق واللمس. هذه الحواس الخمس. فإذا أُدْرِكَ الْمُشَبّه أو الْمُشَبّه به هو أو مادته يعني التي تألف منها بإحدى الحواس الخمس فهو الحسيّ، يعني الذي يُسمى حسِّيًّا، كتشبيه الخدّ بالورد، في المبصرات، خدّ ورد، الخدّ كالورد مثلاً في الحمرة، الْخَدّ هذا مُشبّه والورد مُشبَّهٌ به، وكلاهما حسيّ لأنه مدرك بالبصر يدرك بالبصر. والصوت الضعيف بالهمس، إذا شبه الصوت الضعيف بالهمس، الصوت كالهمس. حينئذ نقول: كلاهما حسيّ لأن كلاًّ من الْمُشَبّه والْمُشَبّه به مدرك بالسمع، هذا من المسموعات، وكالنكهة بالعنبر في طيب الرائحة هذا من المشمومات، وكتشبيه الريق بالشهد أو بالخمر في اللذة - إذا كان يتلذذ - أو في إزالة عقل الشارب، حينئذٍ شُبِّهَ الخمر أو الرّيق بالخمر كلاهما مما يُذاق حينئذٍ هذا في المذاقات، وكتشبيه الجلد الناعم بالحرير، في ماذا؟ في اللمس. إذًا هذه كلها الْمُشَبّه والْمُشَبّه به يدرك بالحسِّ. ودخل في الحسيّ بزيادة قولهم أو مادته هو الخيال، مادته يعني المفردات التي تألف منها الكلّ، فعندنا مادة وعندنا كلّ هيئة، قد تكون المادة مدركة بالحسّ، وأما الكلّ فلا يدرك بالحسّ إنما يكون بالخيال، فدخل بالحسّ بزيادة قولهم أو مادته الخيال كما أشار إليه الناظم في قوله:(وَلِّوْ خَيَالِيًّا). يعني ولو كان المدرك (خَيَالِيًّا) خيالي هذا خبر كان المحذوفة مع اسمها.

وبعد إن ولو كثيرًا لاشتهر

«ولو خاتمًا من حديد» . يعني ولو كان الملتمس خاتمًا، وخاتمًا خبر كان المحذوفة مع اسمها.

ويحذفونها ويبقون الخبر

بعد إن ولو كثيرًا لأشتهر

ص: 18

(وَلِّوْ خَيَالِيًّا) يعني ولو كان المدرك بالحس (خَيَالِيًّا)، وهو ما كانت مادته يعني مفرداته تدرك بالحسّ، وأما هو فلا لأنه غير موجود، يعني لو تخيل الذهن هيئة مركبة من أشياء حسِّيّة لكنه لا وجود له في الخارج، فحينئذٍ لو وجد في الخارج لأدرك بالحسّ، وهو الخيالي المعدوم، يعني غير موجود في الخارج، وإنما تصوره الذهن، المعدوم الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ دون المجموع المركب منها. إذًا (وَلِّوْ خَيَالِيًّا) المراد بالخياليّ المعدوم الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ، يعني تخيل الذهن شيئًا مركبًا هذا الشيء المركب لا وجود له في الخارج، رَكَّبْتَهُ من ماذا؟ ركبته من أِشياء محسوسة لو وُجِدَ مَا رُكِّبَ من محسوس في الخارج يُدْرَكُ بماذا؟ بالحسِّ. لذلك صار الخيالي حسِّيًّا، دخل في الحسّ. المعدوم إذا هو غير موجود، الذي فُرِضَ مُجْتَمِعًا من أمور كل واحد منها مما يدرك بالحسِّ دون المجموع المركب منها، كما في قول الشاعر:

وكأن مُحْمَرّ الشقيق إذا تَصَوَّبَ أو تَصَعَّدَ

أعلام ياقوت نُشِرْنَ على رماح من زبرجد

هنا ماذا صنع؟ شَبَّه الشقيق، الشّقيق المراد به ورد أحمر في وسطه سوادًا شبَّه الشقيق بعلم الياقوت لحمرته، والعود الأخضر الرقيق الذي هو ساقه بالرمح من زبرجد، وهو حجر أخضر معروف، أعلام ياقوت ليس عندنا أعلام ياقوت، يعني كأنه قال: أعلام من ذهب، على ساق من فضة، هذا له وجود في الخارج؟ لا. ولكن الذهب والفضة لها وجود في الخارج، فركَّب من الذهب والفضة شيئًا مجتمعًا لا وجود له في الخارج، لكن لو وُجِدَ لكان مدركا بالحسّ، فإن كلاًّ من العلم والياقوت والرمح والزبرجد محسوس، لكن هذا المركب الذي مادته تَرَكَّبَ منها كل واحد منها حَسِّيّ، لكن هذا المركب الذي هذه الأمور مادته ليس بمحسوس، لماذا؟ لأنه غير موجود، لو تخيلت طائرًا بخمسة أجنحة أو برأسين .. إلى آخره، نقول: هذا وجوده وجود ذهني، لكن مركب من ماذا؟ أنت أدركت الجناح وعرفته، وهو شيء في الخارج محسوس، لو وجد بهذه الصفة في الخارج لكن مدركًا بالحسِّ، لأنه ليس بموجود لأن الحسّ إنما يُدْرِكُ ما هو موجود في المادة حاضر عند الْمُدْرِك على هيئات مخصوصة محسوسة. إذًا الأعلام التي هي من ياقوت أعلام ياقوتية منشورة على رماح من زبرجد هذا لا وجود لها، وأما المادة التي أُلِّفَتْ منها هذه الهيئة فهي موجودة، هذا يُسمى ماذا؟ يُسمّى خياليًّا، وهو داخل في الحسِّ بمعنى أنه لو وُجِدَ في الخارج لكن مُدْرَكًا بالْحِسِّ، والعقل يتصور ما لا وجود له في الخارج كما مرَّ معنا، وإِمّا (عَقْلِيَّانِ) نقول: هذا يقابل (حسِّيَّانِ)، إذًا طرفا التشبيه الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، إما أن يكون حِسِّيَّينِ ودخل فيهما الخيالي وهو المعدوم المفروض وجوده قد أُلِّفَ من أشياء محسوسة.

ص: 19

قال: (عَقْلِيَّانِ) أي منسوب كلاهما إلى العقل وهو ما عدا ذلك، أي ما لا يكون هو ولا مادته مدركًا بإحدى الحواس الخمس، لا يدرك هو ولا مادته يعني المفردات التي تَأَلَّفَ منها المركب لا يدرك بإحدى الحواس الخمسة الظاهرة، وإنما يدرك بالعقل يعني الذي يفهمه العقل. قالوا: كما في تشبيه العلم بالحياة، العلم ليس محسوسًا يعني لا يدرك بالحس لا بالبصر ولا بالشم ولا يذاق، والحياة كذلك لا تشم ولا تدرك بالبصر إذا انتفى عن الطرفين إدراك الحواس الخمس، ووجه الشبه لهما كونهما جهتي إدراك. إذا العقلي هو ما لا يدرك هو ولا مادته بالحسِّ كالعلم والحياة. (وَمِنْهُ بِالْوَهْمِ) يعني (مِنْهُ) يعني من العقلي الوهمي، وهو ما يدرك بالْوَهَمِ الذي لا يكون للحسِّ مدخل فيه مع أنه لو أُدْرِك لم يُدرك إلا بها، يعني لا يُدرك بإحدى الحواس الخمسة المذكورة السابقة، مع أنه لو أدرك لم يُدرك إلا بإحدى الحواس الخمس بخلاف الخيال السابقة، السابق إذا للحسّ فيه مدخل فإنه منتزع منه، هنا المفردات عقلية، والهيئة عقلية، لو وجد في الخارج لأُدرك بالحس بخلاف الخيالي، الخيَال الهيئة المجتمعة لا تُدرك بالعقل، ولو أُدركت بالخارج لأدركت بالحس حينئذٍ لما تألفت وتكونت من المحسوسات تعلقت بالحسّ ولذلك دخلت هنا. هنا الوهمي الذي لا يكون الحسِّ مدخل فيه مع أنه لو أدرك لم يدرك إلى بها، وبهذا القيد يتميز عن العقلي كما في تشبيه قول أبي تمام:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زُرقٌ كأنياب أغوالِ

غول ولها أنياب، أين الغول؟ لا وجود لها، أين أنياب الغوال؟ لا وجود لها، حينئذ هي موجودة في العقل لكن الغول لو وُجِدَ في الخارج لأُدْركت بماذا؟ بالحسِّ لأنها منسوبة إلى نوع من أنواع الحيوان، وأنيابها من باب أولى أن تُدْرَك بالحسِّ. إذًا أنياب أغوال، يعني أظفار أغوال، هي الغول لم توجد في الخارج حينئذ أنيابها من باب أولى، فلو أدرك هذا الشيء إنما يُدرك بالحسِّ. إذًا هذا يُسمى ماذا؟

يُسمى وهمي لأن متوهم لا وجود له في الخارج، لو وُجِدَ على سبيل الافتراض لكان إدراكه يكون بالبصر، فأنياب الأغوال مما لا يُدركه الحسّ، لماذا؟ لعدم وجودها، لكنها لو أُدْرِكَت لَمْ تُدرك إلى بحس البصر، هذا الوهمي، وكذا من العقلي ما يُدرك بالوجدان يعني الحسّ الباطن الذي يُسمى بالوجدانيات، أي يُدرك بالقوى الباطنة وتسمى وجدانيات، لكون الإنسان يُدركها بقواه الباطنة، ويجدها من نفس اللذة والألم والجوع والشبع والهم والفرح وما شاكل ذلك، فليس إدراك شيء من هذه المعاني يكون بالحواس الظاهرة، أليس كذلك؟ وليست من العقليات الصرفة، بل من الوجدانيات التي تُدرك بالقوى الباطنة، فيَعلم من نفسه أنه على جوع لكنه لا بدلالة العقل ولا بدلالة البصر ولا بدلالة السمع ولا بالشم ولا بغيره، وإنما يُسمى بالحس الباطن. إذا من العقلي بالوجدان أي ما يدرك بالقوة الباطنة كاللذة وما عطف عليها، وهذان داخلان تحت قوله:(عَقْلِيَّانِ). إذا الوهمي والوجداني هما من أقسام العقلي.

ص: 20

(أَوْ فيهِمَا يَخْتَلِفُ الجُزْآنِ)، (أَوْ فيهِمَا) أو للتنويع، والعطف هنا على (حسِّيَّانِ). (أَوْ فيهِمَا) أي في طرفي التشبيه يختلف الجزءان بأن يكون الْمُشَبّه عقليًّا والْمُشَبّه به حِسِّيًّا، عرفنا المراد بالعقلي ويشمل الوهمي والوجداني، والْمُشَبّه به الحسي ويشمل الخيالي كتشبيه المنية بالسبع، المنية بالسبع، مشبه هنا عقلي لأن لا تدرك بالبصر ولا بالسمع ولا بالذوق، والْمُشَبّه به هو السبع هذا حسيّ، إذا الْمُشَبّه هنا والْمُشَبّه به اختلفا حسًّا وعقلاً، هذا يُعبر عنه بالمختلفين بأن يكون الأول عقليًّا كالمنية، والثاني يكون حسيًّا كالسبع، أو العكس يكون الْمُشَبّه حسيًّا والْمُشَبّه به عقليًّا كالعكس في التشبيه السابق، تشبيه السبع بالمنية، وكتشبيه النور بالهدى، فإن النور حسي يدرك بالبصر والهدى عقلي ووجه الشبه بينهما كونهما جهتي وصول إلى المقصود. إذًا هذا ما يتعلق بطرفين التشبيه.

ثم قال: (وَوَجْهُهُ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ). (وَوَجْهُهُ) بعد ما أنهى الكلام على الطرفين شرع في الكلام على الجامع بينهما وهو وجه الشبه، يعني المعنى الذي وُجِدَ في الْمُشَبّه به فأُلْحِقَ أو العكس وُجِدَ في الْمُشَبّه فأُلْحِقَ بالْمُشَبّه به، يعني وُجد هذا الوصف في المشبه، ثم لوجوده في المشبه به [أُلحق الثاني] أُلحق الأول بالثاني، يعني الْمُشَبّه بالْمُشَبّه به، فوجود الوصف أولاً يكون في الْمُشَبّه به، هذا لا كلام فيه، وإنما يتحقق وجود الوصف في المشبه لأن هذا ما يكون أشبه بالقياس، إلحاق النظير بالنظير، وهو وجه الشبه، وقدَّمه على ما يليه لأن له مَدْخَلِيَّةً في مفهوم التشبيه كالطرفين، فقال:(وَوَجْهُهُ) أي وجه الشبه واحدًا كان أو متعددًا كما سيأتي في تقسيم الناظم (مَا اشْتَرَكَا فِيهِ)، أي معنًى (مَا) هنا اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المعنى، لأن الكلام هنا في المعاني، (مَا) أي معنًى (اشْتَرَكَا) الألف هذه فاعل، أي الطرفان الْمُشَبّه والْمُشَبّه به، (فِيهِ) أي في المعنى الذي قُصِدَ اشتراك الطرفين فيه، والمراد هنا المعنى الذي له زيادة اختصاصٍ بالْمُشَبّه، وقصد اشتراكهما فيه، يعني كما ذكرنا سابقًا زيدٌ مثلاً قلنا: زيدٌ كالأسد هنا يشتركان في أوصاف متعددة كثير من الذاتيات مثلاً وغيرها، كل منهما حيوان وكل منهما جسمٌ وكلٌ منهما موجود وكلٌ منهما يأكل ويشرب ويناسل هذه أوصاف مشتركة بين زيدٍ والأسد ولكن ليس شيئًا منها مقصودٌ فيه بالتشبيه، وإنما المراد به المعنى القائم بالْمُشَبّه به فوجد في الْمُشَبّه وامتاز الْمُشَبّه به عن غير به، يعني بالشجاعةٍ مثلاً.

ثم قال رحمه الله تعالى:

............. وَجَا

ذَا فِي حَقِيقتيهِمَا وَخَارِجَا

وَصْفاً فَحِسِّيٌّ وَعَقْلِيٌّ

..........................

يعني ينقسم وجه الشبه إلى حقيقي وخارجي، يعني خارجٌ وداخلٌ، ثم الخارجي نوعان: وصفٌ وإضافيٌ، والوصف نوعان: حسيٌ وعقليٌ وهذا يأتي بحثه فيه طولاً.

والله أعلم، وصلّى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 21