الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عناصر الدرس
* الفن الثالث: علم البديع.
* تعريف علم البديع وأنواعه.
* أقسام البديع اللفظي.
* أقسام البديع المعنوي.
* خاتمة في السرقات الشعرية.
* تعريف السرقة وأقسامها ونوع كلٍ.
* ما يلحق بالسرقة الخفية.
* الخاتمة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى: الفن الثالث علم البديع. تقدم في بيان ترتيب هذه الفنون الثلاثة أن فن البديع ليس جزءًا من البلاغة، بل هو تابعٌ لها، والنظر فيه فرع النظر فيها، ولذلك أُخِّرَ، والذي عليه الاهتمام عند البيانيين هو الأول أو الثاني، علم المعاني، وعلم البيان. وأما علم البديع فهو كالتّتمة لهذين العلمين.
عرَّفَهُ في قوله:
عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلَامْ
…
بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ وَالمَقَامْ
(عِلْمُ البَدِيعِ) أظهر في مقام الإضمار بإرادة الإيضاح لزيادة الإيضاح، (عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ) إسكان الهاء لغةٌ، وهُو أي علم البديع (تَحْسِيْنُ الكَلَامْ)، (تَحْسِيْنُ) تفعيل، وهو مصدر لمعنى اسم الفاعل مُحَسِّنُ، مُحَسِّنُ الكلام (تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) وهو علمٌ، يُعْرَفُ به وجوه (تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) هذا الذي ينبغي أن يقدر فيه الكلام، (عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) ليس هو عين التحسين فحسب إنما هو علمٌ يعرف به وجوه تحسين الكلام، لا بد من تقدير هذه الكلمات، علمٌ يُعْرَفُ به وجوه (تَحْسِيْنُ) تفعيل بمعنى مُحَسِّن، (تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) أي المعاني التي يُحَسَّن الكلام بها، قوله: يُعْرَفُ، أي يتصور معانيها، ويُعرف أعدادها وتفاصيلها بقدر الطاقة، بمعنى أن المحسنات اللفظية والمعنوية كثيرة جدًا عند أهل البيان، وكثيرٌ منها مما لا حاجة إليها، وإنما بعض المسائل المتعلق بالمعنوي أو اللفظي هي التي يُعتنى بها، وأما ما عداه فهو من باب [تشخيخ] الكلام فحسب
عِلْمُ البَدِيعِ وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلَامْ
…
بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ وَالمَقَامْ
يعني بعد التحقق بالعلمين السابقين، وهما علم المعاني وعلم البيان، (بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ) أي وضوح الدلالة، ووضوح الدلالة إنما يكون بتحقيق علم البيان، أي الخلو عن التعقيد المعنوي، وقوله:(بَعْدَ) متعلق بالمصدر تحسن الكلام، (وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) تحسين، متى يكون المحسِّن؟ (بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ)، والمراد برعاية الوضوح المراد بها علم البيان. وعلمنا في ما سبق أن المراد بعلم البيان وكذلك علم المعاني، وكذلك كل العلوم المراد بها علم الرعاية، بأن تراعى بمعنى أنه يُلاحظها ويُطبقها من أجل أن توجد الْمَلَكَة، وأما مجرد حفظ القواعد هذا لا يُسمن ولا يُغني من جوع، بل لا بد من مراعاة هذه القواعد وتطبيقها من أجل أن تحصل له الْمَلَكَة، وحفظ قواعد النحو دون تطبيقها لا يفيد شيئًا، وحفظ قواعد الصرف دون النظر فيها في المفردات لا يفيد شيئًا، كذلك هنا قال:(بَعْدَ رِعَايَةِ الْوُضُوحِ، وَالمَقَامْ) أي وبعد رعاية المقام، أي مقام التخاطُب، بعد رعاية المقام أي مقام التخاطب، بأن يُؤتى بالكلام مطابقًا للحال كما سبق تفصيله، وذلك تنبيهٌ على أن هذه الوجوه إنما تعدٌ محسنِّةً للكلام بعد رعاية الأمرين، وإلا لكان كتعليق الدُّرِّ على أعناق الخنازير، هكذا قيل، كتعليق الدر على أعناق الخنازير فلا يفيد شيئًا، يعني تحسين الكلام على جهة الجناس، السجع .. ونحو ذلك، ثُمَّ الكلام لا يكون مطابقًا للحال ولا يكون مراعًى فيه وضوح الدلالة هذا كما قال: الشراح.
ووجوه تحسين الكلام ضربان، إذًا بعدما عرف لنا علم البديع (وَهْوَ تَحْسِيْنُ الكَلَامْ) أي المحسنات العلم بها بعد رعاية العلمين السابقين، قال:(ضَرْبَانِ) يعني هو (ضَرْبَانِ)، وضربان هذا خبر مبتدأ محذوف أي وهو (ضَرْبَانِ) أي نوعان، ووجوه تحسين الكلام (ضَرْبَانِ) منها ما يتعلق باللفظ فيكسوه حسنًا وجمالاً وهو (لَفْظيٌّ) كما قال هنا:(لَفْظيٌّ)، هذا إعرابه بدل مفصل من مجملٍ، وهذا أحسن، ويصح أن يكون خبرًا لمبتدأٍ محذوف يعني أولها (لَفْظيٌّ) أو الأول لفظيٌ، يجوز الوجهان، ومتى ما كان اتصال الكلام وحصل به الإعراب فهو مقدم، نوعان (ضَرْبَانِ لَفْظيٌّ) بدل مفصل من مجمل، إذًا هو جملةٌ واحدة، (ضَرْبَانِ) وهو (ضَرْبَانِ لَفْظيٌّ) أي وهو لفظيٌ، أو أولها لفظيٌ صار جملتين، وجعلوا الكلام في جملةٍ واحدة أولى من جعله جملتين. إذًا (ضَرْبَانِ) منها ما يتعلق باللفظ، ولذلك قال: وهو (لَفْظيٌّ) أي راجعٌ إلى تحسين اللفظ أولاً وبالذات، ولا يكون اللفظ مجردًا عن المعنى، لا بد أن يكون له أثرٌ في المعنى، لكن يكون الأثر في المعنى تبعًا لا استقلالاً، بمعنى أنه يُنظر في اللفظ أولاً وبالذات وإن كان بعضها قد يفيد تحسين المعنى، لكن تحسين اللفظ مقصودٌ بالذات، وتحسين المعنى يكون تابعًا له فليس مقصودًا، فلا يفهم طالبٌ من كون التحسين هنا وقع باللفظ أنه لا علاقة له بالمعنى البتة، لا، ليس هذا المراد، وإنما المراد أن بعض المحسنات اللفظية القصد الأول فيها هو اللفظ ولا شك أنه قد يؤثر في المعنى فتأثيره في المعنى لا يخرجه عن كونه لفظيًا ويجعله من القسم الثاني، بل هو لفظيٌ لأن المراعى فيه أولاً وبالذات هو اللفظ. أي راجع إلى تحسين اللفظ أولاً وبالذات، أي وإن كان بعضها قد يفيد تحسين المعنى لكن تحسين اللفظ مقصودٌ بالذات، ومعنوي الذي أشار إليه في البيت الثالث (وَالمَعْنَوِيُّ) أي القسم الثاني معنوي، ومن اسمه نسبةً إلى المعنى، لفظيٌّ الياء هذه ياء النسبة، ومعنويٌّ هذه الياء ياء النسبة. إذًا هو منسوبٌ إلى المعنى، والقول فيه كالقول في سابقه، أن يكون الأصل المراعى فيه هو المعنى، وقد يفيد في اللفظ. إذًا القصد الأول هو المعنى، (وَالمَعْنَوِيُّ) أي راجع إلى المعنى أولاً وبالذات وإن كان قد يفيد بعضها تحسين اللفظ أيضًا، وقدَّم اللفظ هنا
لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ وَرَدْ
…
وَسَجَعٍ أَوْ قَلْبٍ وَتَشْرِيعٍ وَرَدْ
قدَّمَ اللفظي على المعنوي لطول الكلام على المعنوي لأنه لم يذكر في اللفظي إلا خمسة فقط، اثنين في الشطر الأول التجنيس والرد، والسجع والقلب والتشريع هذه خمسة أنواع من اللفظيّ، ثم ذكر المعنويّ .. إلى آخر الأبيات، فطُول الكلام في المعنوي لذلك أَخَّرَهُ وعنده قاعدة أن الذي يقل الكلام فيه يُقَدَّمُ على ما يطول الكلام فيه، ولا يلزم أن يكون أهم منه لأن المعنوي أهم، فلما أَخَّرَهُ؟ نقول: أَخَّرَهُ لطول الكلام فيه. قال: (كَتَجْنيسٍ)، (لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ)، (كَتَجْنيسٍ) إيش إعرابه؟ وذلك (كَتَجْنيسٍ) يعني يكون خبر مبتدأ محذوف، (لَفْظيٌّ، (ضَرْبَانِ) وهو (لَفْظيٌّ)، أولهما (لَفْظيٌّ كَتَجْنيسٍ)، وذلك أي اللفظي (كَتَجْنيسٍ) إذًا خبرٌ لمبتدأ محذوف، وما بعده يكون معطوفًا على تجنيسٍ بالخفض، (كَتَجْنيسٍ) بين اللفظين ويسمى جناسًا ومجانسةً، يعني التجنيس يسمى جناسًا ومجانسةً (كَتَجْنيسٍ) وهو تشابه اللفظين في التلفظ، يعني في النطق، بأن يكونا في اللفظ لفظًا واحدًا هذا نوعٌ وهو التام، وقد يكون ثم نقصٌ وتغايرٌ كما سيأتي وهذا ما يسمى بالناقص، ثم الجناس. إذًا عرفنا الجناس أنه تشابه اللفظين في التلفظ، ثم الجناس نوعان تامٌ وغير تام. يقابل التام الناقص، فالتام المراد به أن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها هذه كلها أربعة أشياء، لا بد أن يتفق اللفظان في هذه الأمور الأربعة، ثم إن كان من نوعٍ واحدٍ كاسمين سُمِّيَ متماثلاً، مثاله قوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] الساعة غير ساعة، إذًا ساعة وساعة اتفقا في اللفظ [تشابه اللفظين] تشابه اللفظان في الحروف وعددها وترتيبها ونوعها، نقول: هذا الساعة الأولى المراد بها القيامة، {غَيْرَ سَاعَةٍ} المراد بها الجزء من الزمن، فاتحدا في اللفظ واختلفا في المعنى، ولا يمكن أن يكون متحدين في المعنى لصار مشتركًا، فحينئذٍ نقول: إن كان من نوعٍ واحدٍ كاسمين سميت متماثلة، وإن كان من نوعين سُمِّيَ مُسْتَوْفَى، ومنه قوله:
ما مات من كرم الزمان فإنه
…
يحيا لدى يحيى بن عبد الله
يحيى لدى يحيى، يحيى الأولى فعلٌ، ويحيى الثانية اسمٌ، إذًا اتفقا في اللفظ واختلفا في النوع، الأول فعل والثاني اسمٌ يُسمى ماذا؟ جِنَاسًا تامًا مُسْتَوْفَى، والساعة وساعة يسمى جناسًا تاماً متماثلاً.
ومن الجناس التام المركب وهو ما كان أحد لفظيه مركبًا، يعني المضاف والمضاف إليه والكلمة الثانية تكون مفردة، فإن اتفقا في الخط سُمِّيَ متشابهًا كقوله: إذا مَلَكَ لم يكن ذَا هبة فدَعْهُ فدولته ذاهبة [ها ها]، إذا ملك لم يكن ذا هبةٍ يعني صاحب هبة، ذا هبةِ، فدعه فدولته ذاهبة، لاحظتم؟ ذا هبةٍ في اللفظ والخط، واللفظ لا شك أنهما مختلفان، وأما من حيث الكتابة ذا هبة، ذاهبة متفقان هذا يسمى مركبًا لأن أحد اللفظين مضاف ومضاف إليه وهو قوله: ذا هبة، ذا هبةٍ يعني عطاء، وإن لم يتفقا في الخط سُمِّيَ مفروقًا كقوله:
كلكم قد أخذ الجام ولا جام لنا
…
ما الذي ضر مدير الجامِ لو جاملنا
جام لنا جاملنا اتفقا في بعض الحروف واختلفا في الخط سُمِّيَ ماذا؟ مفروقًا هذا يسمى جناسًا تامًا مركبًا مفروقًا، وغير التام يقابل التام الناقص وهو ما اختلف اللفظان فيه نحو قوله تعالى:{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 29، 30]. زيد {الْمَسَاقُ} فيه الميم مساق هو الساق وزيد فيه الميم اختلفا في بعض الحروف هذا يُسمّى جناسًا ناقصًا غير تام، هذا ما يتعلق بقوله:(كَتَجْنيسٍ وَرَدْ) يعني وردٍّ، هذا النوع الثاني من اللفظ، والمراد به رد العجُز على الصدر، ويقع في النظم والشعر، ففي النثر أن يَجعل أو يُجعل أحد اللفظين في أول الفقرة والآخر في آخرها، يعني يتفقان يجمع اللفظين اشتقاقٌ أو شبه الاشتقاق، تقع إحدى اللفظتين في أول الكلام، واللفظة الآخرة التي تجامعها في الاشتقاق في آخر الكلام:{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. {وَتَخْشَى} ، {أَن تَخْشَاهُ} وقعت تخشى وتخشى في أول الكلام وفي آخره يقال فيه: رد الْعَجُز على الصدر، رد العجُز يعني: الأخير آخر الفقرة على أوله، وفي الشعر أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر قبله كقوله:
سريعٌ إلى ابن العم يلطم وجهه
…
وليس إلى داعٍ ندا بسريعٍ
سريعٌ، وليس إلى داعٍ ندا بسريعٍ، إذًا اتفقا في أول البيت وفي آخره.
(وَسَجَعٍ) أي ومن اللفظ ما يُسمى بالسجع: وهو توافق الفاصلتين من النثر على حرفٍ واحدٍ، يعني يتفقا في آخر فاصلتين كل واحدةٍ من الكلمتين تختم بحرفٍ متحد، توافق الفاصلتين من النثر على حرفٍ واحد. قال السكاكي: هو في النثر كالقافية في الشعر. كالقافية هو كون آخر البيت على حرفٍ واحد وهو ثلاثةُ أضرب، ثلاثة أنواع السجع - ويهتم به كثير من البيانيين بل بعضهم ألف فيه رسائل صغيرة -:
الأول: المطرف. ما يسمى بالمطرف إن كان مختلفين في الوزن نحو قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح: 13، 14]. {وَقَاراً} فَعَالاً {أَطْوَاراً} أَفْعَالاً اتفقا واختلفا، اتفقا في الحرف الأخير لكنهما اختلفا في الوزن.
والثاني: المرصع: وهو ما استوت فواصله في الوزن والتقفية، وكان كل ما في إحدى الفقرتين أو جله من الألفاظ مثل ما يقابله من الأخرى. يعني يتقابلان في كل كلمة يقابلها كلمةٌ أخرى، يعني لا تكون إحدى الجملتين أطول بكثير من الجملة السابقة. مثاله قول الحريري:
فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه
…
ويقرع الأسماع بزوجر وعظه
هنا الوزن المراد به الوزن العروضي يعني: ما يقابل الحركة بالحركة، والساكن بالساكن.
فهو يَطْبَعُ الأَسْجَاعَ، يَقْرَعُ الأَسْمَاعَ.
بِجَوَاهِرِ لَفْظِهِ، بِزَوَاجِرِ وَعْظِهِ
اتفقا أو لا؟ اتفقا، إذًا يُسمى ماذا؟ يُسمى مُرَصَّعًا استوت فواصله، لو حصل تغيير يسير في الثانية ولا يكون كثيرًا لا يضر فيبقى على حاله.
الثالث: المتوازي: وهو أن تستوي الفاصلتان في اللفظ ولم توافق سائر ألفاظ إحداهما ولا جل ما يقابلها من أختها في الوزن والتقفية، بمعنى أن آخر الكلمة تكون متحدة لكن الجل يختلف، ما احترزنا به عن الْمُرَصّع هو الْمُتَوَازِي، قلنا: المرصع استوت الفواصل وكان كل ما في إحدى الْفِقْرَتَيْنِ أو جُلّه من الألفاظ مثل الأخرى، إن نقص عنه بأن كان يسيرًا فهو داخلٌ في المرصع، إن كان كثيرًا فهو المتوزاي، ولذلك كل ما لم يكن مطرفًا أو مرصعًا فهو المتوازي، يعني كـ ما لا يقبل علامة الاسم ولا الفعل حينئذٍ يكون من المتوازي أن تستوي الفاصلتان في اللفظ ولم توافق سائر ألفاظ إحداهما ولا جُلّ ما يقابلها من أختها في الوزن والتقفية. نحو قوله تعالى:{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} . [الغاشية 13، 14] اتفق الفاصلتان في الوزن والتقفية دون غيرهما لاختلاف سرر، وأكواب فهي متفقة في الوزن {سُرُرٌ} ، {وَأَكْوَابٌ} مختلفة في كل من الوزن والتقفية هذا ما يتعلق بالسجع بأنواعه الثلاثة.
(أَوْ قَلْبٍ) أي من اللفظ القلب، و (أَوْ) هنا بمعنى الواو، وهو قلب حروف الكلام على ترتيب بحيث لو افتتح من آخره لأوله لخرج النظم الأول بعينه، وهذا لا فائدة فيه، يعني تقرأ الكلام من أوله إلى آخره وتعكسه هو بعينه:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] إذا قرأت بالعكس ربك فكبر، وما الفائدة {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] سلس، سلس تأتي بالعكس، ما الفائدة؟ على كلٍّ سمَّوْهُ قلبًا (وَتَشْرِيعٍ وَرَدْ) أي جاء ويسمى التوشيح والقافيتين، وهو بناء البيت على قافيتين يصح المعنى عند الوقوف على كلٍ منهما، يعني لك أن تقف في بعض قوافي، وينتقل إما أنه ينتقل إلى تفعيلاتٍ أخرى في الوزن نفسه في البحر نفسه أو ينتقل إلى بحرٍ آخر، حينئذٍ نقول: هذا يسمى توشيح.
يا خاطب الدنيا الدنية إنها
…
شرك الردى وقرارة الأكدار
دارٌ متى أضحكت في يومها
…
أبكت غدًا بُعْدًا لها من دار
لو وقفت عند قوله: يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى، دارٌ متى أضحكت في يومها أبكت غدًا. صار بيتًا آخر، [وأما المعنوي]، هذا ما يتعلق باللفظ وذكر فيه خمسًا:
التجنيس.
ورد العجُز على الصدر.
والسجع.
والقلب.
والتشريع.
(وَالمَعْنَوِيُّ) من وجوه تحسين الكلام أشار إلى كثير منها لأنها أهم، وفيها ما لا فائدة فيه كذلك، فقال:(وَالمَعْنَوِيُّ وَهْوَ) أي المعنوي
…
(كالتَّسْهِيمِ) وذلك كالتسهيم، والمعنوي كالتسهيم، لو قال: كذلك لصار كالتسهيم خبر المعنوي لكن لما قال: (وَهْوَ) المعنوي عطفٌ على
…
(لَفْظيٌّ) والمعطوف على المرفوع مرفوع، وهو أي المعنوي هذا مبتدأ
…
(كالتَّسْهِيمِ) خبر لـ (هْوَ). (كالتَّسْهِيمِ) ويسمى الإرصاد عند القزويني: وهو أن يجعل قبل العجُز من الْفِقْرة وهي من النثر بمنزلة البيت من الشعر، أو البيت ما يدل عليه إذا عرف الرَّوْيّ يعني يجعل في أول الكلام ما يدل على آخره لكن بشرط أن يعرف الرَّوْي يعني الحرف الأخير، تعرف أن هذه مختومًا بالنون حينئذٍ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. [العنكبوت: 40] يعني أنت تكمل الآية إذا علمت أولها هذا يسمى تسهيمًا. ومنه قوله:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
هذا يسمى تسهيمًا أن يُجْعَلَ قبل العجُز قبل ختام الكلام ما يدل على الخاتمة بشرط أن يُعْرَفَ الرَّوْي بأي شيءٍ كان، والجمع وهو أن يُجْمَعَ بين متعددٍ في حكمٍ، تأتي بمتعددٍ وتحكم عليهم بحكمٍ واحدٍ كقوله تعالى:
…
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] حكم على ماذا؟ على متعددٍ، إن الشباب والفراغ والْجِدَى مفسدةٌ. حكم على متعددٍ بحكمٍ واحدٍ مفسدةٌ للمرء أَيَّ مفسدة (وَالتَّفْرِيقِ) وهو إيقاع تباين بين أمرين في المدح أو غيره، يعني تأتي بتقابل بين أمرين كلٌّ منهما له حكمه الخاص فتفصل كاسمه (التَّفْرِيقِ) تَفْرِق بينهما تذكر الأول وحكمه والثاني وحكمه:{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] فصل بين متباينين وبَين حكم كلٍّ منهما، وهذا مثال غير المدح وفي المدح كقول الشاعر:
ما نوال الغمام وقت ربيعٍ
…
كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عينٍ
…
ونوال الغمام قطر ماء
ما نوال: أي الجود. الغمام: السحاب. وقت ربيعٍ: يعني زمن سلطان نزول الغيث، كنوال الأمير يوم سخاء: يعني يقارن بين عطاء السحاب وبين عطاء الأمير، يقول: الأمير يعطي درة عين وهذه كناية عن عشرة آلاف درهم، ونوال الغمام قطر ماء قد لا يستفيد منها شيء فيقارن بين الأمرين، فجعل هذا حكمًا وهذا حكمًا، وقد أوقع التباين بين نَوَالَيْنِ.
(وَالتَّقْسِيمِ) وهو ذِكْر متعددٍ، ثم إضافة ما لكلٍّ إليه على التعيين قول الشاعر:
ولا يقيم على ضيمٍ يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الذل مربوط برمته
…
وهذا يشج فلا يرثِي له أحد
قسم ثم أبكى هذا على ذاك، [والقول بالموجب والقول بالموجب نعم]
والقول بالْمُوجِبِ، بالْمُوجَبِ يجوز فيه الوجهان. وهذا يعتني به الأصوليون أكثر، وهو ضربان، القول بالموجِب ضربان: أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبتها لغيره من غير تعرض لثبوته له وانتفائه عنه. يعني يتكلم متكلم فيأتي بصفة، ثم يُعلِّق عليها حكمًا يأتي المخاطَب والمتكلِّم الآخر فيأخذ هذه الصفة ويعلق عليها حكمًا آخر من غير تعرض للحكم الذي أثبته المقابل، لا بإثبات ولا بنفي، والمثال يوضح {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ} انظر عندنا حكم وعندنا وصف {الْأَعَزُّ} المتصف بالعزة رتب عليه حكم ما هو؟ الإخراج - انتبه شيئين - صفة وإخراج، {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} أخذ ماذا؟ الوصف، وسكت عن الحكم الذي هو الإخراج. قال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} حينئذ هنا ماذا صنع؟ أخذ الصفة رُتِّبَ عليها حكم في كلام المنافق، ثم أثبتها للمقابل وهم المؤمنون لله ورسوله والمؤمنون، وسكت عن قضية الإخراج، لكن اللفظ يدل عليها باعتراف المنافق، لأن هذا أمر مُسَلَّم وهو أن الأعز يخرج الأذل، ولكن ماذا صنعوا؟ ادَّعُوا العزة فالحكم كما هم، فالأعز هو الذي سيخرج الأذل، وثبتت العزة لله ورسوله إذا هم الذين سيخرجون المنافقين، فالأعز صفة وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية عن المؤمنين، وقد أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة، فأثبت الله تعالى تلك الصفة التي عَلَّقُوا عليها الحكم لغير فريقهم، وهو الله ورسوله والمؤمنون ردًّا عليهم ولم يتعرض لثبوت حكم الإخراج لمن أثبت لهم العزة ولا لنفيه عنهم، لأن الغرض هو إبطال دعواهم، إثبات الحكم المعلق على تلك الصفة لأنفسهم، بل اللفظ وإن سكت الرب جل وعلا عن إثبات الحكم إلا أنه دالّ عليه باعتراف المنافقين، لأنهم رتبوا حكم الإخراج على من ثبتت لهم العزة، وأثبتها الله تعالى له ولرسوله وللمؤمنين، إذًا هم الذين سيخرجون المنافقين من المدينة.
الثاني: حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه، وهذا ما يُسَمَّى بالأسلوب الحكيم، ومرّ معنا كما في قصة القبعثر مع الحجاج:(لأحملنك على الأدهم). قال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب إلى آخر ما مرّ معنا.
(وَالتَّجْرِيدِ). (وَالتَّجْرِيدِ) هذا الذي مر معنا أين؟ الأمس أين؟ أسأل بأين، .. نعم قلنا: مشاركة أمر لآخر تعريف التشبيه: مشاركة أمر لآخر في معنًى لا على وجه الاستعارة التحقيقية ولا على وجه الاستعارة بالكناية، وعرفنا المراد بالنوعين ولا على وجه (التَّجْرِيدِ)، وهو الذي معنا الآن.
(وَالتَّجْرِيدِ) وهو أن يُنْتَزَعَ من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغةً في كمالها فيه، يعني ينتزع يتخيل شيئًا مأخوذ من شيء آخر فيخاطبه أو يُعَلِّق عليه حكمًا أو نحو ذلك، وهو أقسام منها ما يكون بـ (من) التجريدية، هي (من) الابتدائية ويسمونها في هذا الموضع التجريدية نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم. هو عينه. لي من زيد صديق حميم. كأنه أخذ من زيد شخصًا آخر ووصفه بكون صديق حميم هو عينه، يسمى ماذا؟ ويسمى تجريدًا، أن ينتزع من أمر من زيد مثلاً ذي صفة آخر مثله فيها، إذًا: لي من فلان صديق حميم. هو بعينه. أي بلغ من الصداقة حدًّا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه.
ومنها ما يكون بالباء التجريدية وهي الباء التي تفيد معنى مع. ومنها ما يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه، نحو قولهم: لأن سئلت فلانًا لتسألن به البحر. بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرًا في السماحة، لتسألن بحرًا يعني انتزع من زيد الذي لا يَرُدّ أحدًا انتزع منه بحرًا، حينئذ صوره بصورة أخرى، وعندنا شيئان زيد من الناس وبحر هل هما متغايران؟ لا، هما شيء واحد، ومنها ما يكون بالفي الداخلة على المنتزع منه، نحو قوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28]{لَهُمْ فِيهَا} أي في جهنم، هي دار الخلد {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} هذا مبالغة في شدة ما يكون لهم من الهول.
ومنها ما يكون من غير توسط حرف نحو:
ولأن بقيت لأرحلن بغزوة
…
تحوي الغنائم أو يموت كريم
هو نفسه استخلص من نفسه رجلاً ووصفه بكونه كريمًا يعني نفسه انتزع من نفسه كريمًا مبالغة في كرمه.
ومنها مخاطبة الإنسان نفسه كقوله: لا خيل عندك تهديها ولا مال. لا خيل عندك يخاطب نفسه لكنه استخلص من نفسه شخصًا آخر، يعني يستحضر أنه شخص آخر قد يعاتبه قد يمدحه قد، قد .. إلى آخره، فانتزع من نفسه شخصًا آخر مثله في فقد الخيل والمال.
(وَالجَدِّ) أي قصد في قالب الهزل، يعني يأتي بكلام يريد به (وَالجَدِّ) لكنه يأتي بصورة الهزل، هذا يُسمى ماذا؟ يُسمَّى جَدًّا في قالب الهزل والناس يستريحون لهذا، كقوله:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرًا ** فقل: [عِدّ] أو [عُدّ] عن ذا كيف أكلك للضب؟
إذا جاء مفاخر ردَّه إلى أمر آخر.
(وَالطِّبَاقِ) ويُسمَّى المطابقة والتضاد والتكافؤ، وهو أي الطباق الجمع بين متقابلين في الجملة، أي سواء كان تقابل ضدَّيْنِ أو نقيضين أو عَدَمٍ ومَلَكَة، ويكون بلفظين من نوعٍ وهما اسمان، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18]، {أَيْقَاظاً} ، {رُقُودٌ} ، تقابلَا ضدّان، يعني النوم واليقظة لا يجتمعان، أو فعلين نحو {يُحْيِي وَيُمِيتُ} تقابلا أو لا؟ مقابلة بين ضدين، الإحياء والإماتة متقابلان، أو حرفين {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] لها وعليها متقابلان.
إذًا التقابل يقع بين الاسمين، وبين الفعلين، وبين الحرفين. أو من نوعين نحو {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] {مَيْتاً} هذا اسم {فَأَحْيَيْنَاهُ} هذا فعل.
والطباق قسمان:
طباق الإيجاب يعني الثبوت، والأمثلة التي سبقت كلها في طباق الإيجاب.
وطباق السلب: وهو الجمع بين فعلين من نوع واحد، أحدهما مثبت والآخر منفي، أو أحدهما أمر والآخر نهي. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 6، 7]، {لَا يَعْلَمُونَ} ، {يَعْلَمُونَ} جمع بين فعل واحدٍ، تارة نُفِي وتارة مُثْبَت، {فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} ، {فَلَا تَخْشَوُاْ} هذا نهيّ {وَاخْشَوْنِ} . إذًا حصل هنا الجمع بين فعلين من نوع واحد أحدهما مثبت والآخر منفي، {لَا يَعْلَمُونَ} ، {يَعْلَمُونَ} أو أحدهما أمرٌ والآخر نهيّ، هذا يُسمّى طباقًا.
والتأكيد، والتأكيد أي تأكيد المدح بما يُشبه الذّمّ، أو العكس تأكيد الذّمِّ بما يشبه المدح. الأول الذي هو تأكيد المدح بما يُشبه الذّم أفضله - هو نوعان - أفضله وأحسنه وأبلغه أن يُستثنى من صفة ذم منفية عن شيء صفة مدح بتقدير دخولها فيها، يعني يأتي لفظ عام: ولا عيب. العيب صفة مدح أو ذَمّ؟ صفة ذَمّ، هنا مثبتة أو منفية؟ منفية، ولا عيب، إذًا هذا أولاً، صفة ذَمٍّ منفية، غير أن سيوفهم استثناء أو لا؟ أراد أن يستثني مما هو عيب، أليس كذلك؟ غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب، يعني إن كان فلول السيوف الذي هو كسرها يعني انكسرت من شدة الحرب والعزو حينئذ إن كان هذا عيب فهو داخل في قوله: ولا عيب. وهل هو داخل؟ الجواب: لا. إذا نقول: هذا يعتبر تأكيدًا بما يشبه الذّمّ لماذا؟ لأنه لما قال: ولا عيب فيهم غير، الأُذُن تنتظر ماذا؟ استثناء عيب قد وصفوا به. فلما جاء ما ذكره، هل هو عيب أم لا؟ يعني لو كان فيهم عيب لكان هذا، ولكنه ليس بعيب. أي إن كان فلول السيف عيبًا فأثبت شيئًا منه على تقدير كونه منه وهو محال، يعني قَدَّرَ أن ما بعد غير داخل في العيب وهو محال، لأن فلول السيف بقراع الكتائب هذا مدح، بل هو غاية المدح، فحينئذٍ قَدَّرَ كونه عيبًا وهذا محال، فهو في المعنى تعليق بالمحال، والمعلق بالمحال محال. والتأكيد فيه من أين جاء التأكيد هنا؟ جاء من جهة أنه كدعوى الشيء ببينة، والأصل في مطلق الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذِكْر ما بعدها يُوهِمُ إِخْرَاجَ شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد، لأنه إذا قال: ولا عيب فيهم غير جاءت الأداة. فالأصل أن الأُذُن تنتظر صفة ذَمٍّ، فإذا به قد جاء بصفة مدح، حينئذٍ جاء التأكيد، إذا لا عيب فيهم ثم أَكَّدَهُ بصفة مدح لو كانت عيبًا لكان هو العيب فيه.
والثاني تأكيد الذم بما يشبه المدح عكس السابق أن يُستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذمّ بتقدير دخولها فيه كالسابق، كقولك: فلان لا خير فيه إلا أنه يُسيء إلى من أحسن إليه. إلا، لا خير فيه إلا، الأُذُن تنتظر ماذا؟ صفة مدح لكنه قال: إلا أنه يُسيء. زاد الطين بِلَّه، فجاء بصفة ذم، هذا يُسمَّى ماذا؟ يُسمَّى تأكيدًا للذم بما يُشبه المدح، بكيف أشبه المدح؟ لأنه جاء بصفة الذم منفية ثم جاء بأداة الاستثناء، والأصل الاستثناء أنه متصل، إذا سيُخْرِج شيئًا، لكنه ما أخرج وإنما زاده تأكيدًا. والتأكيد من جهة التعليق بالمحال لأن المعنى في قولك: فلان لا خير فيه .. إلى آخره إن كأنه الإساءة المذكورة خيرًا فأُثبتت أو أَثبت شيء منه على تقدير كونها منه، وكونها منه محال فإثبات شيء من الخيل محال، ومن جهة أن الأصل في الاستثناء الاتصال فذكر أداته قبل ذكر ما بعده يوهم إخراج شيء مما قبلها، فإذا وليها صفة ذمّ جاء التأكيد، والأمر واضح، (وَالْعَكْسِ)، والعكسِ عطف على تجنيس، والعكس بالخفض، وهو أن يُقَدّم في الكلام جزء ثُمَّ يؤخر، نحو عادات السادات، سادات العادات هذا مثاله المشهور، عادات السادات، السادات العادات {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
…
[الممتحنة: 10] عكسه، يأتي بالعكس.
(وَالرُّجُوعِ) وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض لنكتة لفائدة، نحو قوله:
قف بالديار التي لم يُعْفِهَا الْقِدَمُ
…
بلى وغَيَّرَهَا الأرواح والدِّيَمُ
أخبر أولاً أن هذه الديار لم يُبْلِها تَقَادم الْعَهْدِ يعني قِفْ بالديار التي لم يعفها القدم، يعني لم يزلها القدم باقية كما هي، ثم قال: بلى، رجع نقض الحكم السابق، وغيرها الأرواح يعني الرياح، والدِّيَمُ يعني القطر من السماء، ثم نقض هذا الخبر بقوله: بلى وغيرها الأرواح. أي هبوبها، والدِّيم: أي القطر، والنكتة هنا إظهار التحيُّرِ كأنه أخبر أولاً بما لا تحقق له، ثم لما أفاق بعض إفاقة نقض الكلام السابق قائلاً: بل بلى عفاها القدم غير الأرواح والديم، إذًا يخبر أولاً ثم يأتي بما ينقضه آخرًا.
(وَالإِيهَامِ) ويسمى التورية: وهي أن يُذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد، ويراد البعيد. يأتي بلفظ يُراد به قريب وبعيد، يعني يطلق على شيء قريب، ويطلق على بنفس الوقت على شيء بعيد، يطلقه المتكلم يظن المخاطب أنه أراد القريب وهو يريد البعيد، مما أنتما؟ «من ماء» . أراد به قرية ماء أو تسمى ماء، السائل فَهِمَ أنه اسم قرية وأراد به المتكلم أنه من ماء مهين، وبهذا سميت بالإيهام لاشتمالها على معنى القريب أيضًا، واتفقت كتب البلاغة هنا إذا أرادوا أن يستدلوا على التورية بقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]{اسْتَوَى} يعني استولى، وهذا تحريف للنصوص وليس من الإيهام في شيء، بل هو من أحكم المحكم كما قال ابن القيم رحمه الله. فهذا المثال باطل من أصله، حتى السيوطي أورده في شرح ((عقود الجمان)).
(وَاللَّفِّ وَالنَشْرِ). (اللَّفِّ وَالنَشْرِ) متقابلان، وهو ذكر متعدد على التفصيل والإجمال، يعني يُذكر أولاً متعدد، إما أن يفصله كذا وكذا، وإما أن يُجْمِلَهُ، ثُمَّ ذُكر ما لكلٍّ من غير تعيين ثقة بأن السامع يردّه إليه، فالأول ضربان الذي هو المفصل لأن النشر أما على الترتيب ترتيب اللفّ نحو قوله تعالى:{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [القصص: 73] جمع بين أمرين متعددين {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} الأول للأول، والثاني للثاني، أليس كذلك؟ هذا يسمى لفًّا ونشرًا مرتبًا، يعني ذكر متعددين على الترتيب، ثم ذكر شيئين الأول يرجع إلى الأول والثاني للثاني. كقوله:{لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يرجع إلى {اللَّيْلَ} ، {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} يرجع إلى {وَالنَّهَارَ} .
وإما على غير ترتيبه كقوله:
كيف أسلوا وأنتِ حقفٌ وغصنٌ
…
وغزالٌ لحظًا وقدًا وردفًا
الحقفُ هو الرمل المتراكم، وغصن وغزال، لحظًا وقدًّا وردفًا، لحظًا للغزال، وقدًّا للغصن، وردفًا للحقف، يعني بالعكس، هذا يُسمى غير مرتب الذي يُسمى بالْمُشَوَّش، وهنا معكوس الترتيب. والثاني هنا ذكر متعدّدًا على جهة التفصيل يعني الأول اللفّ ثم النشر، اللفّ أولاً قد يُلَفّ الشيء متعدّدًا الليل والنهار، حقف غصن غزال، ثم يأتي النشر، قد يكون الأول مجملاً لكنه متضمن لمتعدّد، كقوله تعالى:{وَقَالُواْ} الواو هنا في اللفظ هي شيء واحد لكنها دالة على متعدّد لأن المقصود به اليهود والنصارى {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}
…
[البقرة: 111] تقدير الكلام وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، هذا يُسمَّى لفًّا ونشرًا، واللفّ هنا مجمل يعني الذي ذُكر أولاً مجمل لأنه دلّ عليه بالواو، أي: وقالت اليهود: لن دخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. فَلَفَّ بين الفريقين لعدم الإلباس الواو والثقة بأن السامع يردّ إلى كل فريق مقوله، يعني لا يحصل اللبس، لا يأتي آتٍ يقول: قالت النصارى لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا. وقالت اليهود: لا يدخل الجنة إلا من كان نصارى؟ لا، لماذا؟ لما بينهما من عداوة، كل منهما يَدَّعِي أنه في الجنة ومقابله في النار، إذًا لا يمكن أن يختلف كأن وجه التسمية هنا الأول باللفّ أنه طوى فيه حكمه، لأنه اشتمل عليه من غير تصريح به، ثُمَّ لما صرَّح به في الثاني كأنه نشر ما كان مطويًّا فسُمِّيَ نَشْرًا.
(وَالاِسْتِخْدَامِ) استخدام طيب هذا مفيد جدًا في التفسير، وهو أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما منصوص، ثم يأتي بضمير يعود على أحد المعنَيَيْنِ، يعني يأتي بلفظ له معنيان ثم يأتي ضمير يعود على أحد المعنَيَيْنِ، فالأول كقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه، إذا نزل السماء رعيناه، أراد بالسماء إذا نزل السماء يعني نزل المطر، ورعيناه أراد به النبات، السماء يطلق ويراد به القطر ويطلق ويراد به النبات لكنه مجاز، أراد بالسماء الغيث، وبضميره في رعيناه النبات، وكلا المعنيين مجاز. والثاني نحو ماذا؟ قوله: أتينا غيثًا فرعيناه. أتينا غيثًا يعني نباتًا فرعيناه أي النبات، الأول مجازي والثاني حقيقي [نعم].
إذًا الاستخدام يكون على نوعين: إيراد لفظ له معنيان، الأول يراد به معنى ثم بضميره معنى آخر، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ثم بالآخر الآخر على التفصيل .. .
(وَالسَّوْقِ) أي سوق معلومٍ مساق غيره، وهو ما يسمى بتجاهل العارف لنكتة كالمبالغة في المدح، يعني كأنه ما يعرف ويأتي بسلسال أو بسؤل أو نحو ذلك:
ألمع برق سرى ضوء مصباح
…
أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي
كأنه ما يدري، فيستفسر ألمع برق؟ يعني ما يدري هل هذه الابتسامة التي وقعت هل هي لمع برق؟ أم ضوء مصباح؟ أم هي ابتسامة؟ هو يدري أنها ابتسامة، لكن أراد أن يبالغ في المدح فيأتي بهذا البيت، وكقوله:
ليلاي منكنّ أم ليلى من البشر
وما أدري ولست أُخال أدري أقوم آل حصن أم نساء.
وهم رجال، يدري.
(وَالتَّوْجِيهِ)، (وَالتَّوْجِيهِ) وهو إيراد الكلام محتمل لوجهين مختلفين كقول من قال لأعور: ليت عينيه سواء، ليت عينيه سواء هذا يحتمل، يحتمل أنه أراد أن تكون الصحيح ها كأختها فيصير دعاء عليه ليت عينيه سواء، ويحتمل أن تكون العوراء كأختها الصحيحة فحينئذٍ يكون دعاء له، يُسمى ماذا هذا؟ التوجيه: إيراد الكلام محتمل لوجهين مختلفين والسامع على حسب نيته.
(وَالتَّوْفِيقِ). التوفيق هذا يسمى الموافقة والتناسب والتواقيع أيضًا، ويسمى مراعاة النظير: وهو جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد، يعني يجتمع أو يعطف شيئًا على شيء بين متناسبين بينهما مناسبة، لكن لا يكون بينهما مضادة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}
…
[الرحمن: 5 - 6] إذا بينهما .. النجم هنا النبات الذي لا ساق له، والشجر معلوم الذي له ساق، هنا متناسبان الشمس والقمر كل منهما كوكب الأول يكون مضيئًا في النهار، والثاني يكون مضيئًا في الليل
…
{بِحُسْبَانٍ} جمع بينهما، والبحث وعَبَّرَ عنه القزويني بالمذهب الكلامي يسمى المذهب الكلامي البحث: وهو إيراد حجة للمطلوب على مذهب أهل البحث. يعني على طريقة أهل البحث، يسمونهم أهل الكلام بأن تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب، يعني تطبيقًا للقياس الذي مرَّ معنا:
إِنَّ القِياسَ مِنْ قَضايا صُوِّرا
…
مُسْتَلْزِماً بِالذَّاتِ قَوْلاً آخَرا
هو الذي يعنونه هنا، نحو قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلم تفسدا فدل على أنه لا آلهة، واضح؟ واللازم وهو الفساد أي الخروج عن نظام منتفٍ، بدليل الواقع، فالملزوم وهو تعدُّد الآلهة كذلك منتفٍ، والتعليل أي وحسن التعليل: وهو أن يُدَّعَى لوصف علة مناسبة له باعتبار لطيفٍ غير حقيقي، يعني يأتي بفعل ما ويُعَلِّل لذلك الفعل بعلة مناسبة، لكنها غير حقيقية مناسبة عندهم قد تكون ممكنة وقد لا تكون ممكنة، كقول الشاعر:
ما به قتل أعاديه ولكن
…
يتقي إخلاف ما ترجو الذئابُ
هذا من كرمه، ما به قتل أعاديه، هو ما يقتل الأعداء لكن لما كان قتل الأعداء إذا ماتوا جاءت الذئاب أكلت، لا يُرد أن يخيب الذئاب إذا سيقتل أعاديه [ها ها]. فإن قتل الأعداء في الغالب لدفع مضرتهم لا لما ذُكر من أن طبيعة الكرم غلبته، ومحبة صدق رجاء الراجين بعثته على قتل أعدائه لِمَا عُلِمَ من أنه إذا توجه للحرب صارت الذئاب ترجو اتساع الرزق عليها بلحوم من يُقْتَلُ من الأعداء.
ما به قتل أعاديه ولكن
…
يتقي إخلاف ما ترجو الذئابُ
(وَالتَّعْليقِ). (وَالتَّعْليقِ): وعَبَّرَ عنه القزويني بالتفريع: وهو أن يُثْبَتَ لِمُتَعَلِّق أمر حكم بعد إثباته لمتعلق له آخر على وجه يُشْعِرُ بالتفريع، يعني يُرتب حكم على شيء، ثم يرتب الحكم عَيْنُه على شيء آخر بطريقة تُشعر أن الثاني فرع عن الأول وليس كذلك، كقوله:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ** [كما دمائكم][كما دماؤكم] يجوز الوجهان كما دمائكم تشفي من الْكَلَبِ
فَرَّعَ على وصفهم بشفاء أحلامهم عن داء الجهل، ووصفهم بشفاء دمائهم من داء الْكَلَبِ، وليس بلازم يعني ليس هناك تلازم بين كون الدماء تُشفي من الكلب وبين أن الأحلام لسقام الجهل شافية يعني العقول تشفي من الجهل.
ثم قال الناظم: (الخَاتِمَةُ: فِي السَّرِقات الشِّعْرِيَّةِ) أي هذه خاتمة في الفن الثالث وهي السرقات الشعرية وما يتصل بها من الاقتباس والتضمين وغير ذلك.
السرقات معلومة لا يحتاج إلى التعريف [ها ها] وهي جمع سرقة، السرقة كما تكون في الأموال تكون في الأفكار، نعم تكون في الأفكار، وهي السرقة هنا أن يأخذ الشاعر كلام شاعر تقدم عليه، واتفق أهل البديع هنا إن كان في الغرض على العموم كالوصف بالشجاعة والسخاء فلا يسمى سرقة، يعني: لو تكلم شاعر ووصف أو مدح الكرم، وجاء متأخر فمدح الكرم ليس عندنا سرقة لماذا؟ لأن الكرم هذا مُشاع ليس لأحد، ومثله في وجه الدلالة المشترك في معرفته لتقرر ذلك في العقول والعادات، كذلك ما يطلق من العبارات لو أطلق حاتمًا على زيد من الناس أطلقه متقدم وأطلقه متأخر لا نقول المتأخر قد أطلق حاتمًا على زيد لكرمه وجوده إذا هذه سرقة، نقول: لا، وجه الدلالة هنا في إطلاق العلم هذا مشاع ليس مختصًا بأحد من الناس لتقرر ذلك في العقول والعادات، وإن لم يشترك الناس في معرفة وجه الدلالة جاز أن يُدَّعَى فيه السبق والزيادة، يعني ما نحكم أن الثاني مما اختص به، يعني هذا التركيب انفرد به المتنبي أو الفرزدق أو جرير هذا التركيب بعينه في الدلالة على شيء ما، وجاء متأخر فإذا به يأتي بالتركيب نفسه، لا نَدَّعِي السرقة إلا إذا علمنا بأن الثاني نص على ذلك، وإذا لم نعلم حينئذ نقول: هذا يشبه ذلك وذاك متقدم، فلازمنا وإنما الفضل للمتقدم، جاز أن يُدَّعَى فيه السبق والزيادة بأن يحكم بين القائلين فيه بالتفاضل بأن يقال: زاد أحدهم على الآخر، أو نقص منه.
السرقات ظاهر وغير ظاهر، السرقات نوعان: ظاهر، وغير ظاهر.
الظاهر يُعَنْوَنُ لها بالجلية سرقة جلية واضحة كالشمس في كبد السماء.
وغير الظاهر الخفي حينئذ لها أحكام تتعلق بها.
ظاهر وهي سرقة الجلية وهي ضابطها: أن يأخذ المعنى كله، إما بلفظه كله أو بعضه، أو وحده. هنا عندنا معنًى ولفظ، المعنى كله وهذا لا إشكال فيه، ثم قد يأخذ اللفظ كله أو بعض اللفظ أو يأخذ المعنى وحده، فإن أخذ اللفظ كله من غير تغيير يعني تغيير للفظه لكيفية التركيب والتأليف الواقع بين مفردات سُمِّيَ [انتحالاً] ونسخًا، يسمى نسخًا، إذا أخذا المعنى كله باللفظ كله هذا يُسَمَّى نسخًا، يعني فيه معنى النقل،
النسخ نقل أو إزالة كما حكوه عن أهل اللسان ..
إذًا من معاني النسخ في لسان العرب النقل، هنا نقله بكماله وهو مذموم كما قال الناظم هنا، (فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) السرقات ظاهر قسمان منه ظاهر جلي، ثم جاءت الفاء فاء الفصيحة ما هو هذا الظاهر؟ (فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) ما هو النسخ؟ أخذ المعنى كله بلفظه كله من غير تغيير للنظم، يُسمّى ماذا؟ يُسمَّى نسخًا، ما حكمه عندهم؟ مذموم بدون تفصيل، ولذلك قال:
…
(فالنَّسْخُ ** يُذَمُّ) والفاء فاء الفصيح، فالنسخ أخذ المعنى كله مع جميع اللفظ، يعني أخذ البيت بنفسه وادَّعَاه له، كما حُكِيَ عن عبد الله بن الزبير أنه فعل ذلك بقول مَعَن [وفي الحاشية هناك يقول مُعَن] ابن أوس
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
…
على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه
…
إذا لم يكن عن شفرة السيف مذحل
هذه قصيدة لمعن بن أوس أولها:
لعمرك ما أدري وإن لأوجل
…
على أينا تعد المنية أول
البيتان موجودان في هذه القصيدة، فادعاه عبد الله بن الزبير أنه له، ثم لما أورد معهما جاء في القصة: أنت يا أخي بالرضاعة ولا فرق بيننا. حينئذ نقول: هذا يُسمّى نسخًا لأنه أخذ المعنى كله بلفظه وهو مذموم. وإن أخذ اللفظ كله مع تغيير لنظمه غير فيه بعض المفردات، أو أخذ بعض اللفظ لا كله سُمِّيَ إغارة ومسخًا. الأول نسخ، والثاني مسخ، ولذلك قال: لا إن استطيع المسخ، حينئذ يكون ماذا؟ يكون فيه تفصيل، المسخ إن أخذ اللفظ كله ولا شك أنه مع المعنى لكنه غَيَّرَ فيه، أو أخذ بعض اللفظ لا كله سُمِّيَ إغارة ومسخ. حينئذ لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون الثاني أبلغ من الأول، أو دونه، أو مثله. يعني إذا أخذ المعنى كله وأخذ اللفظ بعض اللفظ ولا بد أن يزيد أو يغير في اللفظ، فحينئذ إما أن يكون الثاني الذي سميناه مسخًا أبلغ من الأول، أو يكون دونه والأول أبلغ، أو يكون مثله سيان يكون سيان. فإن كان الثاني أبلغ من الأول لاختصاصه بفضيلة لا توجد في الأول كحسن السبك أو الاختصار أو الإيضاح أو زيادة معنى فممدوح، هذه سرقة ممدوحة إذا ممكن أن تقول: ما هي السرقة التي مدحها بعض أهل العلم؟ هي السرقة التي تُسمى مسخًا ويكون الثاني أبلغ من الأول. فالثاني مقبول كما أشار إليه الناظم بقوله: (لَا إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ) فلا يذم، لا هذا عطف على قوله يذم، فالنسخ يذم مذموم هو أي النسخ لا يذم (إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ)، أو لا (إِنِ اسْتُطِيعَ المَسْخُ) فلا يذم، وهذا متى؟ إذا كان أبلغ من الأول، مثاله:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
…
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
الفاتك الشجاع القتال، اللهج الحريص على القتل.
وقول سَلْمٍ بعده:
من راقب الناس ما تهمن
…
وفاز باللذة الجسور
فبيت سَلْمٍ قالوا: أجود سبكًا وأخصر لفظًا، هو أخذه من سابقة لكنه حذف بعض الألفاظ وسار أبلغ من الأول، هذا يسمى مسخًا لكنه ممدوح ولا يذم، لماذا لكونه أبلغ من الأول.
وإن كان الثاني دون الأول لفوات فضيلة توجد في الأول فالثاني مذموم، إذا كان دونه فالثاني مذموم، فهو داخل في قوله: و (النَّسْخُ ** يُذَمُّ) الحكم واحد، وإن كان مثله فالثاني أبعد من الذم الفضل للأول، وإذا أخذ المعنى وحده سُمِّيَ إلمامًا وسلخًا كما قال الناظم:(وَالسَّلْخُ مِثْلُهُ) إذًا نسخٌ ومَسْخٌ وسلخٌ، أليس كذلك؟
النسخ أخذ المعنى كله بجميع لفظه.
المسخ أخذ المعنى كله ببعض لفظه، أو كل اللفظ مع تغيير.
السلخ هنا فيه معنى السلخ كالشاة تسلخ، ماذا صنع؟ أخذ المعنى كله وكساه لفظًا من عنده يسمى سلخًا (وَالسَّلْخُ مِثْلُهُ) سُمِّيَ إلمامًا وسلخًا كما أشار إليه بقوله:(وَالسَّلْخُ) وهو كشف الجلد عن الشاة ونحوها فكأنه كشط عن المعني جلدًا وألبسه جلد آخر فإن اللفظ للمعنى بمنزلة اللباس. وقوله (مِثْلُهُ) أي مثل المسخ في انقسامه إلى ثلاثة أقسام، لأن الثاني إما أبلغ من الأول، أو دونه، أو مثله. والذم إنما يتوجه إلى أي شيء؟ إذا كان دونه، وأما إذا كان أبلغ فهو ممدوح، وإذا كان مثله حينئذ أبعد عن الذم والفضل للأول.
(وَغَيْرُ ظِّاهِرِ) هذا يقابل قوله ظاهر (َغَيْرُ ظِّاهِرِ) يعني السرقة الخفية، وهو السرقة الخفية وهو أن يغيِّر المعنى بوجه لطيف بحيث لا يظهر أنه مسروق إلا بعد تأمل. وهذا النوع يختلف عن السابق، والسابق فيه تفصيل من حيث الذم والمدح والقبول والرد. السرقة الخفية كلها ممدوحة بمعنى أنك تستطيع أن تأخذ قصيدة وتغير الألفاظ ويبقى المعنى حينئذ هذا يُسمى سرقة خفية وهو ممدوح، بحيث لا يظهر أنه مسروق إلا بعد تأمل وهو محمود.
وتغيير المعنى من وجوه، منها نقله، أي أن ينقل المعنى إلى محل آخر كما قال الناظم:(كَوَضْعِ مَعْنًى فِي مَحَلِّ آخَرِ)[في مكان آخر] نسختان، (كَوَضْعِ مَعْنًى فِي) مكان (آخَرِ) أي في محل معنى آخر، كقول البحتري:
سُلِبوا وأشرقت الدماء عليهم
…
محمرة فكأنهم لم يُسْلَبُوا
هذا سلبوا يعني ثيابهم فكأنهم لم يسلبوا لأن الدماء غطت أجسادهم كأنها ثياب عليهم فكأنه لم يسلبوا، سُلِبُوا من الثياب لكن جلودهم قد سترت بالدماء.
قال أبو الطيب:
يبس النجيع عليه وهو مجرد
…
من غمده فكأنما هو مغمد
النجيع من الدم ما كان يضرب إلى سواد، وقوله:(عَلَيْهِ) أي على السيف، فكأنما هو مغمد، لأن الدم اليابس في منزلة غمد له فقد نقل المعنى من الجرحى والقتلى إلى السيف، أخذ المعنى نفسه يعني: سلبوا كأنهم لم يسلبوا جعله لسيف سلبوا كأنهم لم يسلبوا.
ومن وجوه نقل المعنى أن يتشابه المعنيان أي معنى البيت أول ومعنى البيت الثاني كما أشار إليه الناظم بقوله: (أَوْ يَتَشَابَهَانِ) يعني في المعنى، معنى البيت الأول ومعنى البيت الثاني، كقول جرير:
فلا يمنعك من أَرَبٍ لحاهم
…
سواء ذو العماء والخمار
سواء ذو العمائم والخمار يعني الرجال منهم والنساء سواء كل منهم ضعيف، وقول أبي الطيب:
ومن في كفة [منهم] قناة
…
كمن في كفه [منهم] خضاب
قناة يعني السيف، استوى من في يده سيف ومن في يده خطاب.
إذا (أَوْ يَتَشَابَهَانِ) يعني في المعنى البيت والبيت، ومنه أن يكون المعنى الثاني أشمل من المعنى الأول كما أشار إليه بقوله:(أَوْ ذَا) يعني البيت الثاني أشمل من معنى البيت الأول، كقول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم
…
وجدت الناس كلهم غضابى
وقول أبي نِوَاس:
ليس على الله بمستَنْكَرٍ
…
أن يجمع العالم في واحد
فالأول اختص ببعض العالم وهو الناس وهذا شملهم وغيرهم أن يجمع العالم ما قال الناس، العالم الناس وغيرهم. (وَمِنْهُ) أي من غير الظاهر (قَلْبٌ) وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأول، (قَلْبٌ) يعني يقلب الثاني [شعل] الثاني معنى البيت السابق يكون نقيضه ضده، كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة
…
حب لذكرك فليلمني اللُّوَّمُ
وقول أبي الطيب:
أأحبه وأحب فيه ملامة
…
إن الملامة فيه من أعدائه
هنا ماذا؟ وما يكون من عدو، عدو الحبيب يكون مبغوضًا لا محبوبًا هذا نقيض معنى بيت أبي الشيص [الأول استعملها في العداوة، والثاني] الأول استعملها في المحبة والثاني استعملها في العداوة.
قال الناظم: (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ). (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ) أي مما يتصل بالكلام في السرقات الشعرية الكلام في اقٌتباس، إذا (وَاقْتِبِّاسٌ يُنْقَلْ) أي مما يتصل بالكلام السرقات الشعرية الكلام في الاقتباس، وهو اصطلاحًا تضمين الكلام نثرًا أو نظمًا شيء من القرآن أو الحديث لا على أنه منه، أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو من الحديث لا علا أنه منه، يعني لا يقول قائل: قال الله أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينسب القول. هكذا حينئذ يسمى اقتباسًا، إن صَرَّحَ فليس باقتباس وإنما هو شيء آخر، كقول الحريري:
فلم يكن كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشدك فأغرب
أقرب أغرب فلم يكن {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] هذا نص قرآني لم يقل قال الله تعالى هذا يُسمَّى اقتباسًا فحينئذ جاء بالآية أو جز منها ولم ينسبه لقائله، والقول الآخر:
إن كنت أزمعت على هجرنا
…
من غير ما جرم فصبر جميل
وإن تبدلت بنا غيرنا
…
فحسبنا الله ونعم الوكيل
[ها ها]
وقول الحرير:
قلنا: شاهت الوجوه نص حديث «ألا شاهت الوجوه» . وقبح اللكع ومن يرجوه
ولا بأس بتغيير يسير للوزن أو غيره كقوله:
قد كان ما خفت أن يكون
…
إنَّا إلى الله راجعون
إنا إليه، إنا لله وإنا إليه بدّل وغَيّر، لكنه تعيير يسير من أجل الوزن هذا لا يُخِلُّ بالاقتباس، وإنما لو كان التغيير كثيًرا خرج عن كونه اقتباسًا، إذا لا بأس من التغيير اليسير لأجل الوزن أو غيره، ولا يخرجه عن كون اقتباسًا، وأما إذا كان كثيرًا فحينئذ خرج، إذًا لا يجوز التغيير اللفظ الكثير، والمعني هذا لا إشكال فيه، أنه لو غير المعنى لخرج عن كونه اقتباسًا (وَمِنْهُ تَضْمِيْنٌ)، أي مما يتصف بالسرقات الشعرية (تَضْمِيْنٌ) يعني ما يسمى بالتضمين، وهو أن يضمن الشعر شيئًا من شعر الغير مع التنبيه عليه أنلم يكن مشهورًا عن البلغاء، فإن كان مشهورًا فلا احتياج إلى التنبيه، وبهذا يتميز عن السرقة.
إذا السرقة ليست فيه تنبيه، ويعني يأتي بلفظ يشير إلى أنه ليس من شعره، وذلك إذا لم يكن مشهورًا، وأما إذا كان مشهورًا فلا إشكال فيه، كقول الحرير:
على أني سأنشد يوم بيع
…
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
سأنشد، المصراع الثاني (أضاعوني وأي فتى أضاعوا) ليس للحريري [دل على] هذا يسمى تضمينًا المصراع الثاني يسمى تضمينًا، ودل على ذلك في قوله: سأنشد يعني: وضع علامة تدل على ذلك وأحسنه ما زاد على الأول لنكتة كالتورية والتنبيه، يعني لو زاد عن الأول فهو حسن، واغْتُفِرَ التغيير اليسير ويسمى تضمين البيت فأكثر استعانة، التضمين المصراع فما دونه إبداعًا ورفوًا. يعني إذا ضَمَّنَ البيت فأكثر يُسَمَّى استعانة، والمصراع يعني نصف البيت فما دونه حينئذ يسمى إبداعًا ورفوًا (وَتَّلْمِيحٌ) أليس كذلك؟ (وَمِنْهُ تَضْمِيْنٌ وَتَّلْمِيحٌ) بالرفع عطف على (تَضْمِيْنٌ)، (وَتَّلْمِيحٌ) بتقديم اللام على الميم من لَمِحَهُ أو لَمَحَهُ إذا أبصره ونظر إليه، لمح إذا أَبْصَرَ ونظر إليه، وهو الإشارة إلى قصة أو شعر أو مثل من غير ذكره، يعني يشير في البيت بقصة بكلمة ولا يذكر القصة، كقوله:
فو الله ما أدري أأحلام نائمٍ
…
أَلَمَّتْ بِنَا أَمْ كَانَ في الرَّكْبِ يُوشَعُ
إشارة إلي قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس. وكقوله:
لعمرو مع الرمضاءِ والنَّارِ تُلْتَظَى
…
أَرَقٌّ وأَحْفَى منك في ساعة الْكَرَبِ
لعمرو مع الرمضاء هذا إشارة إلى بيت مشهور
والمستجير بعمرو عند كربته
…
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وكقولك لشخص تعدد السيادة والتصدر قبل أوانهما
لا تَعْجَلْ تُحْرَمْ.
تُشِير إلى قولهم: من تعجل شيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
(وَحَلّ) يعني وحلٌّ وهو أن ينثر اللفظ، الحلّ ضد الْعَقْدِ عندنا أمران:
عَقْدٌ: وهو نظم النثر.
وحَلّ: وهو نثر النظم. يعني يأتي إلى النظم فينثره هذا يسمى ماذا؟ يُسمَّى حَلاًّ، أن ينثر النظم كقول بعض المغارب:
فإنه لَمَّا قَبُحَتْ فَعَلاتُهُ، وحَنْظَلَت نَخَلاتُه، لَمْ يَزَلْ سُوءَ الظَّنِّ يَقْتَادُهُ، ويُصَدِّقُ الذي يَعْتَادُهُ. حلّ قول أبي طيب:
إذا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ
…
وصَدَّقَ ما يَعْتَادُ مِنْ تَوَهُّمِ
يعني جاء بالبيت على جهة أسجاع، وشرط كونه مقبولاً أن يكون سَبْقُهُ حسنًا لا يتقاصر على ذلك النظم بأن يكون مسجَّعًا والألفاظ جَزِلَة وأن يكون وَاقِعًا مَوْقِعَهُ بأن تكون ألفاظه مطابقًا معناها للمقام، إذًا حل النظم لا بأس به، حلّ نثر النظم لا بأس به.
(وَمِنْهُ عَقْدٌ)، (وَمِنْهُ عَقْدٌ) أي مما يتصل بالكلام على السرقة العقد، العقد هذا خبر أو مبتدأ؟ مبتدأ متأخر، ومنه خبر مقدم، أي مما يتصل بالكلام على السرقات العقد، وهو نظم النثر لا جعل طريق الاقتباس، فإن كان فيه شيء من القرآن أو من السنة دون نسبتهما إلى القائل فهو اقتباس، فإن لم يكن كذلك انتفي شرط الاقتباس فهو (عَقْدٌ) كقوله: مَا بَالُ مَنْ أَوْلُهُ نُطْفَة، وجِيفَةٌ آخره يَفْخَرُ. عَقَدَ قول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ويُذْكَر حديثًا: وما لابن آدم والفخر وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة. وهذا كثير تجده في أدب الطلب.
(وَالتَّأَنُّقٍ انْ تَسَل) بحذف الهمزة (وَالتَّأَنُّقُ) يعني مما ينبغي العناية به (التَّأَنُّقُ)، (انْ تَسَل) عنه فينبغي للمتكلِّم شاعرًا كان أو كاتبًا أن يَتَأَنَّقَ أي يفعل فعل التَّأَنُّقِ في الرياض من تتبع الأَنَقِ والأحسن، الأنق هو الأحسن عطف تفسير في أول كلامه وآخره، فالأول التأنق في أول الكلام موجب لإقبال نفس السامع، والثاني يعني في آخر الكلام يزيدها إقبالاً على ما مضى وجابر لما يقع قبله من التقصير في التعبير، وهذا يحتاجه الخطباء منكم، فالأول يكون بحسن الابتداء وأشار إليه بقوله (بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ)، وهو أن يقدم في أول كلامه ما يُشعر بالمقصود، يعني إذا أراد في المقدمة الخطبة يأتي: إن الحمد لله، والحمد لله، ويأتي بما يُشعر بالحديث عنه سيتكلم في الربا يأتي بآية تدل على الربا، إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله كقوله بالتهنئة بُشْرَى فقد أنجز الإقبال ما وعد، إذًا بُشرى ما بعده فيه بشارة، ومن محاسن الابتداء صنعة الانتقال من المطلع إلى المقصود، يعني إذا أتى بالمقدمة كيف يدخل في المقصود؟ كيف ينتقل؟ لا بد من كلمة ينتقل بها يخرج على المقدمة إلى المقصود يُسَمَّى صَنْعَة الانتقال، وهو الذي عناه بقوله:(بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ) بانتقال، يعني صنعة الانتقال من المطلع، المطلع هو (بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ) إلى المقصود بالحديث، وهو ما أشار إليه بقوله:(انْتِقَالِ) وهو ثلاثة أقسام:
الأول: التخلص، يُسمى التخلص: وهو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة بينهما.
الثاني: الاقتضاء. وهو الانتقال إلى ما يلاءمه.
الثالث: فصل الخطاب. هذا هو الأشهر، وهو لفظ: أما بعد. وهو السنة، وهو متوسط بينهما، واتفق البيانيون على أن فصل الخطاب هو: أما بعد، لا خلاف عندهم في هذا. ومنه هذا، وإن للمتقين. هذا، وإن، هذا تقوم مقام أما بعد، هذا، وفي الأسماء ما لا ينصرف.
وثالث المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها الانتهاء، وعبر عنه الناظم بقوله:(حُسْنُ الْخِتَام) يعني من (حُسْنُ) الكلام ختمه بما يشعر بتمامه بحيث لا يكون بعده للنفس تشوق، كقوله:
بَقِيتَ بَقَاءَ الدَّهْرِ يا كهف أهله
…
وهذا دُعَاءٌ للبرية شاملُ
لأن مما يختم به الدعاء، فإذا دعا علمت أنه قد ختم، وانتهى المقال. وانتهى المقال هكذا المقال. وانتهى المقال هذا من (حُسْنُ الْخِتَام) لأنه جاء بكلمة انتهى، و (المَقَالِ) بمعنى القول، يعني انتهى النظم على هذا الذي ذكره الناظم رحمه الله تعالى، ونحن كذلك نكون قد انتهينا بقوله: انتهى
…
(مُنْتَهَي المَقَالِ) من التعليق والشرح لهذا المتن. وقلنا: هو يعتبر متنًا مختصرًا أَجْمَلَهُ في مئة بيت يَشْتَغِلُ به من لا عناية له بـ ((الْجَوْهَرِ الْمَكْنُون))، وأما من له رغبة فـ ((الْجَوْهَرِ)) أحسن وأكمل وأعلى درجة من هذا النظم.
هذا النظم مختصر وبه خلل كبير، وخاصة في علم البيان، والله أعلم.
وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.