المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * الفصاحة وموصوفاتها.   هذا يقول: الذي لم يدرس البلاغة قطعًا - شرح مائة المعاني والبيان - جـ ٢

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * الفصاحة وموصوفاتها.   هذا يقول: الذي لم يدرس البلاغة قطعًا

‌عناصر الدرس

* الفصاحة وموصوفاتها.

هذا يقول: الذي لم يدرس البلاغة قطعًا الذي يحفظه، إن كان عنده همة على ((الجوهر المكنون)) فبه يبدأ، لماذا؟

لأنه قد يقول: أحفظ ((مائة المعاني)) وأحفظ ((عقود الجمان))، قد يموت وما حفظ ((عقود الجمان)) سويت، وقد لا يجد من يشرحها له، فهناك عوائق يعني لأن كونه يجعل ((عقود الجمان)) من محفوظاته هذا شيء موهوم متخيل في الذهن، قد لا يكون شاهد له واقع، فَيُفَوِّت على نفسه الخير الكثير، لكن لو يحفظ الجوهر ثم أن تسنى له أن يحفظ ((العقود الجمان)) جيد، وأما أن يسوف ويحفظ النظم هذا، هذا ما يسمن، لا يكفي، لا يكفي على الأقل # 0.50

سائله من ((الآجرومية))

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى:

...................

فَقُلْتُ غَيْرَ آمِنٍ مِنْ حَسَدِ

فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلَامَتِهْ

مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ وَمِنْ غَرَابَتِهْ

وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ

ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ

مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا

وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا

وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي

وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقاً لِلْحَالِ

فَهْوَ الْبَلِيغُ وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ

وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ

وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا

يَقُولُهُ وَالْكذْبُ إِنْ ذَا يُعْدَمَا

(وَالْكذْبُ ذا إن عدما - في نسخةٍ أخرى).

اعلم أنه لما كانت معرفة البلاغة متوقفةً على معرفة الفصاحة، إذًا ثَمَّ أمران:

بلاغة وفصاحة.

أيهما متوقفٌ على الآخر؟

البلاغة متوقفةٌ على معرفة الفصاحة.

إذًا لما كانت معرفة البلاغة متوقفةً على الفصاحة لكون الفصاحة مأخوذةً في تعريف البلاغة وجب تقديم تعريف الفصاحة على تعريف البلاغة.

إذًا لا نبدأ بالحديث عن البلاغة أولاً، وإنما نتحدث أولاً عن الفصاحة.

ثم هذه الكلمة فصاحة وما اشتق منها موصوفاتها ثلاثة، يعني: ثلاثة أشياء:

مفرد وكلامٌ ومتكلم.

يقال: مفردٌ فَصِيح، أو كلمةٌ فَصِيحَة، مفرد بمعنى الكلمة، ومتكلمٌ فصيح، وكلامٌ فصيح، فالموصوف بهذه اللفظة ثلاثة أشياء، ولا شك أن ثَمَّ فرقًا بين الكلمة الواحدة الموصوفة بكونها فصيحة وبين المتكلم أنه ذات الشخص وبين الكلام نَفْسِه، فثَمَّ فروقٌ بينها وكل واحدٍ من هذه الثلاث يحتاج إلى وقفةٍ من حيث الشروط.

لما كانت معرفة فصاحة الكلام والمتكلم وهي المقصودة متوقفةً على معرفة فصاحة المفرد، لأن من هو المتكلم الفصيح؟ هو الذي عنده مَلَكَة يقتدر بها على إنشاء كلامٍ فصيح، إذًا لا بد من معرفة أول المفرد الفصيح أو الكلمة الفصيحة، وكذلك الكلام ما هو الكلام الفصيح؟ المشتمل على كلماتٍ فصيحة، فحينئذٍ وجب تقديم معرفة فصاحة الكلمة أو المفرد على معرفة فصاحة المتكلم والكلام.

فقال الناظم:

ص: 1

(فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) بعضهم جعله (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) مقول القول فقلت: (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) قلت: هذا النظم .. إلى آخره. (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) أي: فصاحة اللفظ المفرد، (فَصَاحَةُ) هي في الأصل صفة اللبن الذي أخذت رغوته، اللبن له رغوة تعرفونها؟ له رغوة إذا أخذت الرغوة قيل: هذا لبنٌ فصيح، والفصيح هو هذا اللبن وفَصُحَ إذا أُخِذَت رغوته هذا معنًى أول، والإبانة فصاح الإبانة، يقال أفصح الفصيح إذا ظهر، قال تعالى حكايةً عن موسى:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص: 34]. يعني: أبين مني قولاً، إذًا الفصاحة تأتي في اللغة بمعنى الإبانة، فالفصاحة فَعَالَة من فَصُحَ لأن فَعُلَ له وزنان منهما فَعَالةٌ لفَعُلَ، فهي في اللغة تنبئ عن الظهور والإبانة، يقال فصح الأعجمي وأفصح إذا انطلق لسانه وخلصت لغته من اللُُّكْنَة، وقيل: الفصاحة لغةً الإيضاح، يقال: أفصح عن مراده إذا أوضحه، إذًا المشهور أن الفصاحة وهي فعَالة مصدر لفَعُلَ فَصُحَ مشهور أنها بمعنى الإبانة والظهور، تنبئ عن معنى الظهور والإبانة، والذي يوصف كما مرَّ معنا في الفصحة ثلاثة أشياء.

أولاً: المفرد، فقدمه لكونه لا يُعرف فصاحة المتكلم ولا الكلام إلا بمعرفة فصاحة المفرد، فقال:(فَصَاحَةُ المُفْرَدِ). أي فصاحة اللفظ المفرد، فالمفرد وصفٌ لموصوفٍ محذوف أي اللفظ المفرد، والمراد بالمفرد هنا الكلمة الواحدة، فيقال: كلمةٌ فصحية ومرّ معنا أن تعريف المفرد بمال لا يدل جزءه على جزء معناه في النحو غلط وإن اشتهر عند ابن هشام وغيره والسيوطي كذلك والأشموني، هذا غلط من تداخل الاصطلاحات تداخل الفنون، فالمفرد الذي لا يدل جزءه على جزء معناه هو المفرد عند المناطقة، وأما المفرد هنا فهو الكلمة الواحدة، أو إن شئت قل: اللفظة الواحدة، أو التلفظ بلفظٍ واحدٍ عُرفًا، قل هذا أو ذاك، لكن المراد به هو الكلمة الواحدة، تُسمى ماذا؟ وأنواع الكلمة ثلاثة: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ. ثم قد يألف بين اسمين فيقال: عبد الله هذا لا يسمى مفردًا عند النحاة، وإنما يسمى مفردًا علمًا عبد الله علمًا، يُسمى مفردًا عند المناطقة، وهنا محل النزاع ولذلك سلم الأشموني بأنه كلمة واحدة، وكذلك السيوطي كلمة واحدة، ولكنه في تقدير كلمتان يعني باعتبار كونه مضافًا ومضافًا إليه قبل جعله علمًا وهو مركب إضافي من كلمتين، وبعد ذلك فلا، وهذا غلط لا يُسَلَّمُ لهما ولا لهم البتة، وقد نص على ذلك غير واحد.

إذًا المراد بالمفرد هنا نفسره بما هو في لسان العرب، المفرد أي: الكلمة الواحدة، فيقال: كلمةٌ فصيحة ومفردٌ فصيح.

متى نحكم على المفرد أو الكلمة بأنه فصيحٌ أو فصيحًا؟

قال: إذا سَلِمَ من ثلاثة أشياء، أن يخلص ويسلم ويتبرأ من ثلاثة عيوب، ما هي هذه العيوب؟

الأول: قال: (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ).

الثاني: (وَمِنْ غَرَابَتِهْ).

الثالث: (وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ).

ص: 2

إذا انتفت هذه كلها حينئذٍ نقول: هذه المفردة وهذه الكلمة فصيحة، ألا يكون بين حروفها تنافر، ألا تكون الكلمة غريبة، ألا تكون الكلمة مخالفةً للقياس، واضح؟ ثلاثة شروط كلها باجتماعها حينئذٍ نحكم على اللفظ بأنه فصيح وعلى الكلمة بأنها فصيحة.

(فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) قال: (فِي سَلَامَتِهْ) يقال: سَلِمَ من الآفات ونحوها سلامًا وسلامةً بَرِئَ في سلامةِ يعني: في بَرَاءته من العيوب والآفات المذكورة، وله كذا خلصًا فهو سالمٌ وسليم من هذه الأمور الثلاثة.

إذًا (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) عرفنا المفرد المراد به هنا الكلمة الواحدة، (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ) عند البيانيين اصطلاحًا:(سَلَامَتِهْ) في ثلاثة أشياء، (فَصَاحَةُ المُفْرَدِ)(سَلَامَتِهْ) في ثلاثة أشياء فمتى وجد في المفرد في الكلمة الواحدة شيءٌ من هذه الثلاثة لا تكون الكلمة فصيحة ولا يكون المفرد فصيحًا، لو سَلِمَ من الغرابة ومن مخالفة القياس لكنه لم يسلم من النُّفْرَة فالكلمة غير فصيحة، لو سَلِمَ من التنافر أو النُّفرة فيه ومن الغرابة لكنه مخالفٌ للقياس فالكلمة غير فصيحة.

إذًا تحصيل المفرد الفصيح هو باجتماع هذه الثلاث بأن تنتفي كلها.

(فَصَاحَةُ المُفْرَدِ فِي سَلَامَتِهْ) أي: من ثلاثة أشياء أولها ما أشار إليها بقوله: (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ)، (نُفْرَةٍ) فُعْلة على وزن فُعْلة، (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ) هذا متعلق بقوله:(سَلَامَتِهْ)، (فِي سَلَامَتِهْ) سلامة قلنا: هذا مصدر بمعنى البراءة من العيوب، (مِنْ نُفْرَةٍ)، (سَلَامَتِهْ) (مِنْ نُفْرَةٍ) أو (مِنْ نُفْرَةٍ) فقوله:(مِنْ نُفْرَةٍ) متعلقٌ بقوله: (سَلَامَته) والضمير في (فِيهِ) يعود إلى المفرد، (مِنْ نُفْرَةٍ فِيهِ) يعني: في المفرد، والمراد هنا (سَلَامَته) أي: خلوصه من نفرةٍ في مادته التي تركب منها المفرد، يعني ألا يكون بين حروفه (نُفْرَةٍ)، والمراد بالنُّفرة التنافر، يعني: ألا يكون بين حروف اللفظ الواحد منافرةً، بأن يكون أحدهما من مخرجٍ والثاني تاليه من مخرجٍ يبعد عن ذلك المخرج أو يكون قريبًا ويكون النطق بالحرفين فيه ثقلٌ وعسرٌ، والمراد هنا خلوصه من نفرةٍ في مادته المتركب هو من حروف، أي: لا تتنافى حروفه فَتَتَنَافَر، فالتنافر وصف في الكلمة أو المفرد، التنافر هنا في الحروف يعني الكلمة الواحدة أن يكون بين حروفها تنافٍ وتنافر، وهذا عندهم على قسمين: أعلى وأدنى. لا بد من ذكره هذا الموضع أعلى وأدنى.

ص: 3

الأول: ما تكون الكلمة به في غاية الثِّقَل على اللسان، يعني بلغت من النفرة بين الحروف ما ثَقُلَ على اللسان النطق بها، مثل ما رُوِيَ عن أعرابي وهذا مثالٌ مشهور - وأنا أعتمد الأمثلة المشهورة عند البيانيين بحيث لو فتحت ((التلخيص)) أو شروح ((التلخيص))، أو ((الإيضاح))، أو ((عقود الجمان)) تجد المثال هُوَ هُوَ، ولا نأتي بأمثلة عصرية مؤلفة لأنها لا تنفع، وهي تضر أكثر مما تنفع - ما رُوِيَ عن أعرابي أنه سُئِلَ عن ناقته أين هي؟ فقال: تركتُها ترعى الهعخع. هُعْخع أي بين الحروف تنافي وتنافر، هعخع اجتمعت الهاء مع العين والأول مضموم والثاني ساكن فحصل تنافي بين الحروف يعني: ثِقَل في النطق، فإذا حصل ثِقَلٌ في النطق وعسرٌ في النطق حينئذٍ حكمنا على الكلمة بأنها غير فصيحة، وقيل في ضبطه هِعْخَع بكسر الهاء وإسكان العين وهو نبت يُتداوى به وقيل غير ذلك، ليس المراد المعنى، لأنه قيل: لا وجود له. لكن هذا المثال مذكور عندهم، فالهعخع قالوا: حصل تنافر بين الحروف مما أدّى إلى ثقل على اللسان بل غاية في الثقل على اللسان، حينئذٍ نحكم على هذه الكلمة وإن سُمِعَتْ من أَعْرابي إن صح فحينئذٍ نحكم عليها بكونها غير فصيحة.

ما السبب هنا في التنافر؟

قالوا: سبب التنافر في هذه الكلمة ثِقَلُها باجتماع الحروف المتقاربة المخرج لاسيما الهاء والعين، فإنه لا يكاد واحدٌ منهما يأتلف مع الآخر من غير فصل، الهاء والعين من مخرج واحد تقاربا، في لسان العرب أنه لا يكاد يوجد الهاء والعين إلا بينها فاصل، هع جاءت متتالية فحينئذٍ نقول: هذه التوالي والتتابع سببا ثِقَلاً في اللسان.

الثاني: من نوعي التنافر ما هو دون ذلك، أقل، لم يصل لدرجة الهعخع وإنما هو أقل من ذلك، كلفظ مُسْتَشْزِرَات هذا فيه ثِقَل، لا بد من كسرها حتى تنطق به مُسْتَشْزِرَات، الواقع في قول امرئ القيس: غدائره مستشزراتٌ إلى العلا. أي: مرتفعات. قالوا: سبب التَّنافر هنا توسط الشين وهي مهموسةٌ رِخْوة بين التاء وهي مهموسةٌ شديدة والزاي وهي مجهورة، إذًا

[لكونها لوقوع الحروف هنا بين أو](1) لوقوع التنافي والتنافر بين الحروف حكمنا عليها بكونها غير فصيحة.

هذا هو المشهور عند البيانيين أن النظر في المخرج وفي صفات الحرف، والمرجح أن النظر هنا إلى الذوق السليم، فقد يحكم على الكلمة بكونها غير فصيحة لتقارب المخارج، وقد يحكم على كلمة بأنها غير فصيحة لماذا؟ لتباعد المخارج، نحكم كونها غير فصيحة لوجود التنافر أو لغير ذلك، فالحق أن التنافر بين الحروف في الكلمة الواحدة مرده إلى الذوق لا إلى مخرج الحرف - كما اشتهر عند كثير من المتأخرين -، فكل ما عده الذوق السليم الصحيح ثقيلاً متعسرًا يعني: متعسرًا النطق فهو متناقر سواءٌ كان من قُرب المخارج أو بعدها أو غير ذلك، هذا الأول.

إذًا (من نفرةٍ فيه) يعني: من تنافرٍ فيه يعني في المفرد بأن تكون حروفه متنافرة أي: متباعدة، وهذا إنما يكون على مرتبتين: غاية في التنافر، ما هو دونه، وبناء هذا التنافر على المخارج بُعْدًا وقُرْبًا، والصحيح أن مرده إلى الذوق السليم.

(1) سبق.

ص: 4

وأشار إلى الثاني مما يسلم فيه أو منه المفرد بقوله: (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) هذا الشيء الثاني الذي يُشترط في الحكم على فصاحة المفرد بكونه فصيحًا السلامة من الغرابة، أي: سلامته أي: المفرد من الغرابة، وهي أن تكون الكلمة مستعملة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مهموسة الاستعمال، الحيوان الوحشي يعني: غير مألوف، إذا كانت الكلمة غير مأنوسة غير مستعملة لا يستعملها العرب بل هي مهجورة تُسمى ماذا؟ تسمى غريبة.

واستعمال هذا النوع يُخِلّ بالفصاحة، على خلاف ما انتكست المفاهيم الآن، الذي يستعمل الغريب من الألفاظ يُعَدُّ بليغًا، وهذا غلط بمعنى أنك إذا سمعت كلامًا ما واحتجت إلى القاموس بجوارك فهذا ليس ببليغ لماذا؟

لأنه استعمل كلمةٍ تحتاج إلى الرجوع إلى القواميس والمعاجم، إذًا (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) أي: سلامته من الغرابة وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال أي: بالنسبة إلى العرب العربان، يعني: لا بالنسبة إلى استعمال الناس، فيحتاج حينئذٍ إلى معرفة هذه الكلمة ومعناها يحتاج إلى أن يُنَقَّرَ عنها في كتب اللغة المبسوطة كما رُوِيَ مثالٌ غريب عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمارٍ فاجتمع عليه الناس فقال ماذا؟ ما لكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة افرنقعوا. افرنقعوا مستعملة هذه؟! يعني اجتمعتم عليّ فتنحو، تكأكأتم يعني: اجتمعتم، هذه لو سَمِعْتَ تكأكأتم من خطيب تحتاج إلى قاموس يكون بجوارك القاموس، إذًا لما كانت هذه الكلمة غير مستعملة غير مأنوسة حكمنا عليها بأنها وحشية، وإذا كانت وحشية فهي غريبة، وإذا كانت غريبة فهي غير فصيحة، لأن من شرط فصاحة المفرد أن يسلم ويَخْلُصَ من الغرابة، وهذه الكلمة غريبة، يعني المراد بالغرابة وكون الكلمة غريبة أنك تحتاج إلى أن تنقر في كتب المعاجم من أجل أن تعرف ما معنى هذه تلك الكلمة. ما لكم تكأكأتم علي تكأكأكم على ذي جنة، الذي يسمعك يظن أنك تتكلم انكليزي ولا فرنسي، ما يدري أن هذه تكأكأتم هذه كلمة عربية، إذًا يحتاج إلى البحث هذا ماذا؟ افرنقعوا عني. أي اجتمعتم وتنحو عني.

ص: 5

أو يكون معنى الغرابة - وهذا هو الأصل فيها - أن يكون معنى الغرابة أن يُخَرَّجَ لها وجهٌ بعيد، يعني: يُطْلِقُ لفظ ويريد به معنًى ولا يتضح معناه، يعني غير ظاهرة الْمَعْلَم مع كون الكلمة مستعملة لكنه لكونه أوردها في تركيبٍ ما احتاج إلى أن يُنَقَّر وأن يُبْحث وأن يتأمل ماذا أراد بهذا اللفظ، كما في قول العجاج: وفاحمًا ومرسنًا مُسَرًّجًا. مُسَرًّجًا كلمة ليست مثل في تكأكأتم ها ولا هُعْخع وإنما هي مستعملةٌ في موضعٍ بالتركيب قد أدى إلى لبسٍ في فهم المراد، فهي غير ظاهرة لماذا؟ ولذلك لم يعرف ما أراد بقوله مُسَرًّجًا كما نص القزويني على ذلك حتى اخْتُلف في تخريجه على أقوال: ماذا أراد مُسَرًّجًا؟ فقيل: هو من قولهم للسروج سُرَيْجِيَّة منسوبةً إلى قيمٍ حداد يقال له سُرَيْج، وفاحمًا ومرسنًا مُسَرًّجًا. يعني: السيوف مُسَرَّجَة يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السُّريجي، وقيل: لا، بل هو من السِّراج يريد أنه في البريق كالسراج وهذا يقرب من قولهم: سَرِجَ وجْهُهُ، أي حَسُنَ، وسرَّج الله وجهه أي بهجه وسنه.

إذًا لما احتملت معنيين، واختلف في المراد بالمعنى من الكلمة لم يتضح المراد، قالوا: هذه نوع غرابة فتجعل الكلمة غير فصيحة لكونها غريبة.

إذًا الغرابة المراد به نوعان:

غرابةٌ لا يُدرى ما المعنى حتى يُرجع إلى المعاجم.

غرابةٌ بأن تكون الكلمة مستعملة ومأنوسة إلا أنه خَرَّجَهَا على معنًى بعيد، أو أنه لما أطلقها في تركيب ما احتملت وجهين فأكثر.

وأشار إلى الثالث في قوله: (وكونه مخالف القياس) كونه بالجر عطفًا على قوله: (مِنْ نُفْرَةٍ) من (كونه مخالف القياس) عطف على قوله

(نُفْرَةٍ)، (وَكَونُهُ) أي المفرد، (مُخَالف)، (مُخَالف) اسم فاعل أو مفعول؟ خَالَفَ يُخَالِفُ فهو مُخَالِف إذًا اسم فاعل من خَالَفَ عن الأمر خَرَجَ، إذًا (مُخَالف) بكونه مخالفًا، (مُخَالف) هذا خبر كون،

(مُخَالف) أي خارجًا عن القياس، والمراد بالقياس هنا قياس الصرفي، يعني لم يأت هذا اللفظ المفرد على سنن قواعد الصرفيين بأن يكون مخالفًا لها، ولو عبَّر بالقانون لكن أحسن، أي لقاعدة من قواعد عربية وذلك بأن تكون الكلمة على خلاف القانون المستنبط من تتبع لغة العرب أعني مفردات ألفاظهم الموضوعة، وما هو في حكمها كوجوب الإعلال في نحو قَامَ، قَامَ أصله قَوَمَ لو استعمل قال: قَوَمَ زيد. لو تكلم متكلم قال: أنا ما أريد أن أُعِلّ، ما دام أن أصل الألف هذه اتفاقًا أصلها واو، وأصله باب فَعَلَ والكلّ اتفقوا على أن الأصل قَوَمَ، قال: قَوَمَ زيدٌ، ما حكمه؟

نقول: خالف القياس هنا، القياس الصرفي، حينئذ قَوَمَ استعمالها ليس فصيحًا، فهذا اللفظ انتفى عنه وصف الفصاحة لكونه مخالف القياس، إذًا كوجوب الإعلال في نحو قَامَ، والإدغام في مَدّ، نقول: هذا استعمال لِمَا هو على القياس، لو فَكّ الإدغام واستعمله مَدَدَ حينئذ نقول: هذا خالف القياس. وغير ذلك مما اشتمل عليه علم الصرف، والتعبير بالقياس يَرِدُ عليه أن نحو أَبَى يَأْبَى هذا مخالف للقياس، وهل هو فصيح أم لا؟

ص: 6

قطعًا فصيح لأنه جاء في التنزيل {وَيَأْبَى اللهُ} [التوبة: 32] إذا هو مخالف للقياس، هل قوله:(وَكَونه مُخَالف الْقِيَاسِ) أن كل ما خالف القواعد الصرفية وحُكم عليه بأنه شاذَّ فاستعمال هذا الشاذّ يكون ليس فصيحًا؟

لا، ليس هذا المراد، وإنما المراد ما نطقت به العرب سواء وافق القياس الصرفي أم لا؟ فحينئذ ما وافق القياس وما خالف القياس الصرفي - القواعد العامة - كله يُسمى فصيحًا، لكن لَمَّا قال:(وَكَونه مُخَالف الْقِيَاسِ) أَوْهَمَ بأن ما خالف القياس ليس فصيحًا فلا بد من التعبير الدقيق أن يقال ما خالف القانون، قانون الوضع العربي، وقد وضعت العرب بعض الألفاظ موافقةً للقياس الصرفي مصطنع عليه وبعضها مخالف، إذًا كلا النوعين - المسموع الذي يُعَبَّرُ عنه بكونه مسموعًا والقياسي - كلا النوعين نقول: استعماله يكون فصيحًا.

إذًا التعبير بالقياس يَرِدُ عليه أن نحو أَبَى يَأْبَى، وعَوِرَ، واسْتَحْوَذَ، وما أشبه ذلك من الشواذ الذي عنون له الصرفيون بالشاذّ الثابتة في اللغة هي من المخالفة للقياس فلا توصف بالفصاحة، لو وقفنا مع كلمة القياس وليس الأمر كذلك، ليس الأمر كذلك، بل ليست من المخالفة في شيء لأنه كذلك ثبتت عن الواضع في حكم المستثنات. ولو عبر بالقانون لشمل النوعين.

إذًا عندنا سماعي وعندنا قياسي، أليس كذلك؟ كلا النوعين موافقته والنطق به يكون ماذا؟

موافقًا للفصاحة. فقول الناظم كغيره من أرباب فن (مخالف القياس) أوهم أن ما خالف القياس صار في القواعد العامة وسُمِّي بالشاذّ أنه ليس بفصيح، وليس الأمر كذلك، فالمخالفة ما لا يكون على وفق ما ثبت عن الواضع، هذا المراد بـ (مُخَالف الْقِيَاسِ) ما لا يكون على وفق ما ثبت عن الواضع نحو ماذا؟

مَثَّلُوا له بـ (الأجلل) يعني ما خالف قانون العربية كقول الشاعر:

الحمد لله العلي الأجْلَلِ

الأجلل الأصل الأجلّ بالإدغام، هل سُمِعَ الأجلل؟ لا، ما سمع، إذًا الأجلّ فكّه من أجل الوزن، أَجْلَلِ نقول: هذا لم يستعمله العرب هكذا، وإنما فكّ الإدغام. هل نطقت العرب بهذا اللفظ؟

الجواب: لا. إذًا هذا اللفظ نقول غير فصيح لكونه مخالفًا لِمَا وضعه الواضع الذي تكلم بهذه الألفاظ، فإن القياس الأجلّ بالإدغام، إذًا فصاحة المفرد خلوصه من ثلاثة أشياء:(من نفرة فيه) أي المفرد، (وَمِنْ غَرَابَتِهْ) يعني غرابته من حيث المعني، النفرة تعود إلى الحروف اللفظ، والغرابة تعود إلى المعنى، (وَكَونُهُ مُخَالف الْقِيَاسِ) تعود إلى الوضع العام، يعني ما نطقت به العرب سواء ما سُمِّي سماعيًا عند الصرفيين أو سمي قاسيًا فكلا النوعين يكون موافقته موافقة للقياس، فهذه الثلاثة لا بد من اعتبارها عند الحكم على اللفظ بكونه فصيحًا.

علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرًا - وهذا هو الميزان - وليست الفصاحة أن يأتي بألفاظ لا يعرفها السامع - ليقال بليغ ونحو ذلك هذا غلط هذا جاهل، فحينئذ نقول: ما كثر استعماله في لسان العرب هو الذي يستعمله الفصيح والبليغ، فنحكم على الكلمة بكونها فصيحة إذا كثر استعمالها في لسان العرب أو أكثروا من استعمالها أو أكثروا من استعمالها ما بمعناها.

ص: 7

ثم أشار إلى الثاني مما يوصى بالفصاحة وهو الكلام فقال:

...................

ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ

مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا

وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا

وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي

.............................

يقال كلام فصيح، ومتى يعتبر الكلام فصيحًا؟

الأول كلامه في ماذا؟

في المفردات فنحكم على اللفظ كونه فصيح مفرد، الكلمة الواحد نحكم عليه بكونها فصيحة إذا اجتمع فيها السلامة من الثلاثة الأمور السابقة، الآن في الكلام الجملة المفيدة سواء كانت اسمية أو فعلية مع متعلقاتها، متى نقول هذا كلام فصيح؟

ومتى نقول هذا الكلام غير فصيح؟

لا بد من أن يشتمل على سلامته من ثلاثة أشياء، يعني وافق فصاحة المفرد في كونه لا بد أن يسلم من ثلاثة أشياء:

الأول: (مِنْ تَنَافُرٍ).

ثاني: (لَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ) ضعيفًا.

الثالث: (مِنَ التَعْقِيدِ خالِي). ليخلو من التعقيد.

إذا أشار إلى ثاني مما يوصف بالفصاحة وهو الكلام، فقال:(ثُمَّ) هذا للترتيب الذكري، (الفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) أي الكلام الفصيح، فمن هنا بيانية، (الفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ) فالكلام يوصف أيضًا بالفصاحة وهي خلوصه من ثلاثة أشياء، أشار إلى الأول منها بقوله:(مَا كَانَ مِنْ تَنَافُرٍ سَلِيمَا)، (مَا) اسم موصول، والمراد به هنا الكلام، اسم موصول يقع على الكلام، أي الكلام الذي (كَانَ) هو اسم كان ضمير مستتر يعود إلى ما، (سَلِيمَا)(مِنْ تَنَافُرٍ)، (سَلِيمَا) هذا خبر كان أي سالِمًا،

(سَلِيمَا) أي سالِمًا (مِنْ تَنَافُرٍ) هذا متعلق بقوله (سَلِيمَا) واضح؟ فاسم (كَانَ) ضمير (مَا)، و (سَلِيمَا) بمعنى سالِمًا خبر (كَانَ)، و (مِنْ تَنَافُرٍ) متعلق به يعني بالخبر، والتنوين هنا (تَنَافُرٍ) عوض عن المضاف إليه، أي من تنافر الكلمات، التنوين عوض عن المضاف إليه، والمراد هنا بهذا القيد والشرط أن يقع التنافر بين الكلمات اثنين فأكثر، أي منافرة كل واحدة بالأخرى، فإذا وقع الكلام متنافرًا بأن وقع تنافر بين كلمة وكلمة أخرى مع كون كل كلمة على حدة فصيحة - مفرد فصيح - حكمنا على الكلام بكونه غير فصيح. (مِنْ تَنَافُرٍ)(سَلِيمَا) يعني سَلِمَ من التنافر أي تنافر الكلمات، فالمراد هنا بالتنافر تنافر الكلمات أن يَقَعَ التنافر بين الكلمات يعني اثنين فأكثر، أو اثنتين فأكثر، أي منافرة كل واحدة للأخرى لا منافرة أجزاء الكلمة بعضها لبعض، لأنه لو ثبتت المنافرة بين أجزاء الحروف نَعُدّ اللفظ والكلمة غير فصيحة.

إذًا الكلام هنا ليس بالكلمة ذاتها، التنافر نوعان:

تنافر في ذات الكلمة مثل الهعخع، الهاء مع العين، لكن هنا عندنا التنافر بين كلمة وكلمة، وكل كلمة على حدة لو فككناها عن الجملة فهي فصيحة، لكن لكونها قربت من هذه الكلمة وَلَّدَتْ ثِقَل في اللسان، فالتنافر هنا باعتبار ضم كلمة إلى أخرى، لأننا تكلم في الكلام، والكلام فيه إسناد مُسْنَد ومُسْنَد إليه، فإذا ضم هذه الكلمة إلى تلك الكلمة وحصل تنافر نقول: وجد تنافر بين الكلمات، أي منافرة كل واحدة للأخرى لا منافرة أجزاء الكلمة الواحدة بين ذلك من الفصاحة الكلمة.

ص: 8

فالمتنافر من كلامٍ أن تكون كلماته ثقيلة على اللسان، وإن كان كل منها فصيحة بإنفرادها، فمنهم ما هو أعلى ومنه ما هو دون، يعني كالتنافر في المفرد، يعني منه ما بلغ الغاية في التنافر ومنه ما هو دون ذلك.

الأول: مَثَّلُوا له بمثال مشهور بقوله: ((وليس قرب قبر حرب قبر)).

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر قرب

لوحدها فصيحة، وقبر فصيحة، لكن لَمَّا ضُمّ بعض الكلمات إلى بعض في هذا الموضع صار فيها ثقل على اللسان، وليس قرب قبر حبر قبر، هنا القافات متتالية ثم الراءات فصار هناك ثِقَل في اللسان، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات، فكل كلمة على حدة هي فصيحة، قرب فصيحة، قبر فصيحة لكن لَمَّا جمع بينهما في سياق واحد وفي مصراع واحد، والشاهد في المصراع الثاني، قالوا: هذا تنافر بين الكلمات.

قال الرماني في هذا البيت: ذكروا أنه من شعر الجن. يعني هذا البيت وأنه لا يتهيأ لأحد أن يُنْشِدَهُ ثلاث مرات فلا يَتَتَعْتَع، [ها من ينشده ثلاث مرات وله جائزة]((وليس قرب قبر حرب قبر))، قالوا: لا يستطيع أن يأتي به ثلاثة مرات، سَهْل جئت به كم مرة، إذًا قالوا: هنا حصل تنافر بين الكلمات، وهذا النوع أعلى مراتب التنافر، وهو من تنافر الكلمات لأن كل كلمة على انفراده لا تنافر فيها.

الثاني: نحو قول أبي تمام:

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُهُ وحدي

قالوا: أمدحه لوحدها لا تنافر فيها، لوجوده في القرآن {فَسَبِّحْهُ}

[الطور: 49] لَمَّا كُرِّرَتِ الكلمة صار فيه نوع ثِقَل أَمْدَحُهُ أَمْدَحُهُ إذا حصل فيه نوع ثقل والحكم بالثقل هنا كما سبق إنما يكون المرد فيه إلى الذوق السليم، الإنسان من نفسه يقول: ما فيه بأس. نقول: لا، غيرك من أهل البيان يراه أن به بأس.

إذًا التكرار هنا ليس كالتكرار السابق، فالتنافر بين أجزاء أمدحه وأمدحه ليس كالتنافر بين ((ليس قرب قبر حرب قبر))، فهذا أخفّ من الأول، فإن قوله: أمدحه ثِقَلاً ما لكنه أقل من السابق لِمَا بين الحاء والهاء من تنافر لتقارب المخرجين، هكذا علل كثير، وقيل: سبب التنافر ليس هو تقارب الحرفين لأنه موجود في القرآن {فَسَبِّحْهُ} لو حكمنا على ذلك لقلنا التنافر بين حرفين يُخرج الكلمة عن كونها فصيحة، وهذا لا وجود له في القرآن البتة، الفصيح القرآن كلماته ومفرداته وتراكيبه كلها في أعلى درجات الفصاحة، ليس فصيح بحسب، فحينئذ {فَسَبِّحْهُ} الحاء والهاء جاءا في القرآن، إذًا الجمع بين الحاء والهاء في كلمة واحدة لا يُعَدّ تنافرًا لماذا؟ لوجوده في القرآن، ولذلك ما قلنا مرارًا في دروس اللغة أننا نستدل على إثبات القواعد بالقرآن، ولا نأتي نقعد قواعد من كلام أهل الجاهلية ثم نأتي نقول: القرآن خالف القاعدة هذا خلل، وإنما العكس هو الصحيح، أن نقعد من القرآن وما جاء به القرآن فهو أعلى درجات الفصاحة، وما جاز في القرآن فهو قاعدة بذاتها، نعم قد تقل قد تكثر، هذا يختلف باختلاف المواضع.

ص: 9

إذًا أمدح قيل سبب التنافر تكرار أمدحه خاصة بما فيه من الثقل بين الحاء والهاء، يعني النظر هنا لا لذات اللفظ وإنما إلى التكرار، فمنشأ الثقل في الأول السابق نفس اجتماع الكلمات، وبالثاني تكرير أمدحه دون مجرد الجمع بين الهاء والحاء لوقوعه في القرآن في قوله:{فَسَبِّحْهُ} .

إذًا هذا هو الأول وهو (ثُمَّ الفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ مَا) أي كلام كان، أي هذا الكلام (سليمَا) من تنافر، أي سلم من تنافر الكلمات بعضها مع بعض، وهذا على نوعين: أعلى، ودون.

ثم أشار إلى الثاني مما يشترط في الكلام الفصيح أن يسلم منه وقوله (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ سَقِيمَا)، والمشهور عند البيانيين ضعيفًا، ضعف التأليف، هذه وزنها ولكنه لم يرد عندهم [سليمًا] ضعيفًا هو المراد [بالسليم] الضعيف، (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ)، (وَلَمْ يَكُنْ تَألِيفُهُ) أي تأليف الكلام الضمير في تأليف هنا يعود إلى الكلام وهو اسم (يَكُنْ)، تأليف اسم (يَكُنْ) لذلك رفع، و (سَقِيمَا) خبره، خبر (يَكُنْ) أي الذي سَلِمَ من الكلمات من التنافر تأليفه أي الذي سَلِمَ من الكلمات من التنافر (سَقِيمَا) أي ضعيف التأليف، لم يكن تأليفه [سليمًا]، لم يكن تأليفه (سَقِيمَا) ليس سليمًا (1)، لم يكن تأليفه (سَقِيمَا) أي الأصل في السقم هو المرض، لكنه أراد هنا ماذا؟

(1) الألفاظ سليمًا التي وضعناها بين معكوفتين بَيَّن الشيخ هنا أنها سبق.

ص: 10

الضعيف، يقال: فهمٌ سقيم أي ضعيف، ولم يكن تأليف الكلام ضعيفًا بين كلماته، وذلك بألا يجري على المطرد من قواعد العربية عند الجمهور، يعني تأليف الكلام ترتيب الكلام قد يجري على السنن المشهور عند النحاة في قواعدهم، وقواعد النحاة - وخاصة البصريين - إنما يقعدون على ما اشتهر في لسان العرب، ولا ينظروا إلى القليل والنادر، ولا يقعدون .. ، وهذا من من أهم الفوارق بين مدرسة الكوفيين والبصريين، الكوفيون أدنى ما يمكن أن يتمسك به ويكون منقولاً جعلوه مستثنى مطرد أو جعلوه قاعدة، أما البصريون فلا، وإنما يجعلون القاعدة هو الشائع ثم ما ورد من البيت والبيتين والثلاثة، بل وأحيانًا العشر يجعلونه شاذًّا أو نادرًا أو .. أو .. إلى آخره، ولا يجعلون ناقضًا للقاعدة، حينئذ ما جاء على وفق المشهور في لسان العرب نقول: هذا فصيح، وما جاء مخالف نقول ضعف تأليفه، يعني تركيبه بعض على بعض نقول: هذا لم يأت على سنن العرب، حينئذ ينتفي عنه وصف الفصاحة، بالمثال يأتيك، أي لا يجري على المطرد من القواعد العربية عند الجمهور من النحاة بأن يكون التأليف مخالفًا للقياس الصحيح من الأقيسة النحوية المشهورة عند جمهور النحاة، كإلحاق علامة التثنية بالفعل إذا أُسند الفعل إلى فاعل ظاهر. قاما الزيدان عند الجمهور النحاة هذا شاذٌّ يحفظ ولا يقاس عليه، ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) هذه لغة ضعيفة، فإذا جاء يتكلم وتكلم قال: قاما الزيدان وقصد بالألف [أنها فاعل](1) أنها حرف ليست فاعل، لو كان فاعلاً صح لا إشكال فيه، قصد بأن هذه الألف حرفًا، تدل على أن الفاعل مثنى كما أن التاء من قامت هند حرف تدل على أن الفاعل مؤنث، قامت هند: هند فاعل وهو مؤنث، ما الذي دلنا؟ التاء قاما الزيدان، الزيدان مثنى، ما الذي دلنا؟ بلفظه والألف، فالألف هنا دالة على التثنية كما أن التاء من قامت دالة على التأنيث، نقول: هذا سُمِعَ من كلام العرب، وهو لغة ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) أبا الحارث يسمونها، لكنه ضعيف، ولذلك نقول: لا يُخَرَّج القرآن عليها البتة وإن جوزها البعض فيها خلاف لكن هذا المشهور عند النحاة وهو الصحيح أن القرآن لا يُخَرَّج على لغة ((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)) البتة، {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ}

[الأنبياء: 3] قالوا: هذه هيئته ظاهره على هذه اللغة، لكن لا بد من القول بالتقديم والتأخير، فإذا تكلم متكلم بهذه اللغة نقول: لم يجر على المطرد من لسان العرب، حينئذ نقول: هذا الكلام ليس فصيحًا.

(1) سبق صوبه الشيخ بعدها.

ص: 11

قاما الزيدان، قاموا الزيدون، ماذا فعل؟ ألحق بالفعل علامة يعني حرفًا يدل على أن الفاعل الظاهر جمع، نقول: هذا شاذّ. حينئذٍ التركيب كله الكلام نقول: ليس فصيحًا. ليس الحرف فقط ليس فصيحًا، لا، تركيب كله هذه الجملة الفعلية قاموا الزيدون نقول: هذا الكلام ليس فصيحًا، لماذا؟ لضُعْف تأليفه، لأنه أُلِّفَ ورُكِّبَ على غير سنن العرب، قاما الزيدان نقول: هذا التركيب كله الجملة الفعلية ليست فصيحة، فالكلام ليس فصيحًا لماذا؟ لفقد شرط لكونه أُلِّفَ على غير ما اشتهر من كلام العرب. إذًا بأن يكون التأليف مخالفًا للقياس الصحيح من الأقيسة النحوية المشهورة عند جمهور النحاة، كإلحاق علامتي التثنية والجمع بالفعل المسند للفاعل الظاهر نحو:((أَكَلُونِي الْبَرَاغِيث)). وهي غير فصيحة، كذلك عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة وحكمًا، ضرب غلامه زيدًا، ضرب غلامه زيدًا قالوا: هذا كلام غير فصيح، لماذا؟ لأن سند العرب إذا استعملت الضمير إنما ترده إلى متقدم، إما في اللفظ وهو الرتبة، إما في الرتبة دون اللفظ. وهنا قد رجع إلى متأخر في اللفظ والرتبة معًا، لأن ضرب غلامُهُ زيدًا، الضمير يعود إلى ماذا؟ إلى زيد وهو مفعول به، إذًا عاد عليه في اللفظ والرتبة، اللفظ يعني: النطق، وهنا نُطِقَ بزيد متأخرًا في محله، والرتبة التي هي المكانة المنزلة، وهي كون المفعول به يتلو الفاعل، لو قال ضرب زيدًا غلامُهُ فصيح؟ نقول: نعم فصيح لماذا؟ لأن هنا عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ لأن غلامه، ضرب زيدًا غلامه الضمير هنا يعود على

ماذا؟ على متقدم في اللفظ لكنه متأخر في الرتبة فانفكت الجهة، حينئذ نقول: عاد على متأخر في اللفظ والرتبة معًا فهو شاذٌّ، وأما إذا عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ كالمثال الذي معنا نقول: هذا ليس بشاذٍّ،

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] عاد على متأخر في الرتبة دون اللفظ لأن تكلم به متقدمًا. إذًا إذا عاد الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة نقول: هذا ضُعْف تأليف وهذا الكلام لا يُسَمَّى فصيحًا كالمثال الذي ذكرناه: ضَرَبَ غُلامُهُ زيدًا. وهنا عاد الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة وهو ضعيف على الصحيح عند الجماهير. إذًا هذا الشرط الثاني (وَلَمْ يَكُنْ) يعني: الكلام تأليفه يعني تركيبه أي الكلام سقيمًا يعني: ضعيفًا، ومتى يكون تأليف الكلام سقيمًا ضعيفًا إذا خالف السنن لغة العرب، وهو ما كان عليه جمهور النحاة من القواعد العامة عندهم.

ص: 12

وأشار إلى الثالث في قوله: (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أشار إلى الثالث مما يُشترط في فصاحة الكلام خلوصه من التعقيب، والتعقيب تَفْعِيل من {عَقَّدَ فَعَّل الثلاثي] (1) عَقَّدَ ليس فَعَّلَ، الثلاثي المزيد بحرف نعم مزيد بحرف. يقال: تَعَقَّدَ الكلام أعيا فهمه بسوء تركيبه أو خفاء معناه، إذا قيل كلام مُعَقَّد يعني غير مفهوم بسب ما وهو الآتي، وهو عند البيانين هنا تأليف الكلام على وجهٍ يَعْسُرُ فَهْمُهُ لسوء ترتيبه ويكون لفظيًّا ومعنويًّا، (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أيضًا مصدر أَضَ يَئِيضُ هذا مفعول مطلق يعني: رجعنا رجوعًا لذكر ما يَخْلُصُ منه الكلام كما ذكرنا ما يَخْلُصُ منه المفرد على ما سبق، (خالِي) بإثبات الياء مع حذف التنوين، والأصل خَالٍ يجب تنوينه لأنه ناقص غير محل بأل، وهنا إما أن يقال بأنه رجعت الياء لحذفه السبب الموجب لحذف الياء وهو التنوين، أو يقال بأن الياء هنا للإشباع، خالي إشباع كسرة وليس هي الياء التي حذفت للتنوين، (خالِي) اسم فاعل خلا، يقال خلا المكان والإناء وغيرهما خُلُوًّا وخلاء فَرِغَ مما به، وفلان من العيب بَرِئَ منه، إذا (خالِي) يعني: بَرِئَ من العيب، هذا الشرط الثالث مما يُشترط في الكلام خلوصه من التعقيد، (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي)، ومن التعقيد وهو خال (مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي)، هو مبتدأ قوله:(خالِي) هذا خبر، ومن التعقيد متعلق بخالٍ، إذًا وهو أي الكلام خالٍ أي فارغ

(مِنَ التَعْقِيدِ) وأطلق أل هنا وحينئذ يشمل التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي إذ هما نوعان، والمراد به (التَعْقِيدِ) هنا خفاء قصد المتكلم بكلامه، بألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى، ما تدري ما الذي يريده من الكلام، وله سببان:

أحدهما: ما يرجع إلى اللفظي وهو التعقيد اللفظي.

والثاني: ما يرجع إلى المعنى وهو تعقيد المعنى.

إذًا السبب هنا المراد به القسمة الثنائية، فالتعقيد عند البيانين نوعان:

- تعقيد لفظي.

- وتعقيد معنوي.

(1) سبق استدركه الشيخ مباشرة.

ص: 13

وبالنسبة تعرف السبب ما الذي سَبَّبَ سوء الفهم وعدم الفهم أو خفاء قصد المتكلم بكلام اللفظ، ما الذي سَبَّبَ عدم فهم مقصود المتكلم من كلام أو خفاؤه هو المعنى، فحينئذ يكون إلى 45.42# أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو أن يختل نظم الكلام ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه، ما يدري السامع! يسمع كلام فيه تقديم وتأخير .. إلى آخره، ما يدري كيف يصل إلى المعنى، قدم المبتدأ ويؤخر عن الخبر، ويقدم المستثنى على المستثنى كلام ركيك، لا يفهم منه خرج زيد بدر مسجد درس رَكِّب كلمات متقاطعة [ها ها] هذا يُسمى ماذا؟ سببه اللفظ بسبب التقديم والتأخير، ولا يدري السامع كيف يُتَوصل منه إلى معناه بألا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد وإن كان ثابتًا في الكلام جاريًا على القوانين، يعني: ذكر الفعل والفاعل وذكر المنصوب مع صفته لكنه قدم وأخر وحذف وأضمر فالتبس الكلام، كقول الفرزدق - كونوا معي - يمدح إبراهيم بنِ هشام أو بنَ هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان،

وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

هذا الكلام ركيك جدًا وهو للفرزدق:

وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

اكتبوها حتى تفهموها، لا بد من لوح وإلا ما يفهم

وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

إذا عرفت الإعراب تعرف المعركة أين حصلت، مثله هذا مبتدأ، حيٌّ هذا خبر، في الناس إلا مُمَلَّكًا إلا أداة استثناء مُمَلَّكًا هذا مُستثنى، أين المستثنى منه؟ حَيٌّ مؤخر، ولذلك نصبه تعين النصب وإلا كان يجوز فيه البدل، أبو أمه هذا مبتدأ ثانٍ، أَبُوهُ هذا خبر، حَيٌّ يُقَارِبُهُ موصوف وصفته، إذًا ماذا حصل هنا؟ قَدَّم المستثنى على المستثنى منه، وثانيًا فصل بين أبو أمه وأبوه المبتدأ والخبر بحي وهو أجنبي، وفصل بين الموصوف وهو حي وصفته وهو يُقَارِبُهُ بالخبر وهو أبوه، إذا فصل بين الموصوف والصفة بالخبر، وفصل بين المبتدأ والخبر بأجنبي وهو حَيٌّ، فركَّ المعنى، فالمعنى: وما مثلُ الممدوح وما مثلُهُ الضمير يعود إلى الممدوح وهو إبراهيم بن هشام، في الناس حَيٌّ يُقَارِبُهُ إلا مُمَلَّكًا هذا واضح، وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مُمَلَّكًا أبو أمه أبوه، أبو أمه أبوه يعني أبو الممدوح فهو ابن أخته، وهو ابن أخته، أي لا يماثله في الناس حي إلا ابن أخته كان حقه أن يقول كما قال في

((الإيضاح)): وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مُمَلَّكًا أو أبو أمه أبوه فإنه مدح إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: وما مثله [يعني إبراهيمُ الممدوح أو](1) يعني إبراهيمَ الممدوح، في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مُمَلَّكًا يعني هشامًا، أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح لأنه [خالَه](2)

(1) سبق استدركه الشيخ مباشرة.

(2)

سبق استدركه الشيخ مباشرة.

ص: 14

خَالُه، عندنا خال وابن أخته، ما علاقة أبو أم ابن الأخت بالخال من حيث الأبوة؟ يقول: أبو أمه أبوه، أبو أم الممدوح الذي هو ماذا؟ الخال، أبوه أليس كذلك؟ ما العلاقة بين الخال وابن الأخت؟ أبو أمه يعني أبو من الممدوح الذي هو إبراهيم بن هشام أبوه، إذا يكون ماذا؟ يكون من جهة الأبوة اجتمعا في الأبوة، لكن هذا نزل بدرجة لكونه ابن أخته، قال هنا: أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مُمَلَّكًا يعني هشام أبو أمه، أي أبو أم هشام أبوه، أي أبو الممدوح، فالضمير في أمه للمُمَلَّك الذي هو هشام بن عبد الملك، وفي أبوه للممدوح، فوصل بين أبو وأمه وهو مبتدأ، وأبوه وهو خبره بحيٍّ وهو أجنبي، وكذا فصل بين حَيٍّ ويقاربُهُ وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي، وقدم المستثنى على المستثنى منه، إذًا صَعُبَ فهم المراد لكونه قَدَّمَ وأَخَّر لم يلتزم الترتيب الذي هو معهود عند النحاة بأن يجمع بين المبتدأ والخبر وبين النعت الموصوف وصفته، بل فرَّق بين النعت ومنعوته بأجنبي وهذا يؤدي إلى صعوبة الفهم، فهو في غاية التعقيد كما ترى؟

فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سَلِمَ نظمه من الخلل، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا بقرينة، إن وجدت القرينة جاز التقديم والتأخر، إن وجدت القرينة جاز الإضمار وعدمه، إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية - كما سيأتي في محله -.

السبب الثاني: ما يرجع إلى المعنى.

وهو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني ظاهرًا، يعني يكون للفظ معنيان، أحدهما ظاهر والثاني غير ظاهر، يكون مراد الناظم أو المتكلم غير الظاهر، لكنه لم يجعل لعله قرينة تجعل الذهن ينتقل من الظاهر إلى غير الظاهر فحينئذ يكون وقع في إبهامٍ، كقول العباس بن الأحنف:

سأطلب بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا

وتَسْكُبُ عَيْنَايّ الدُّمُوعَ لِتَجْمُلَ

(تسكب عيناي) كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن، وأصاب أليس كذلك؟ فراق ثم الدمع كنى بسكب الدموع عن الفراق، أصاب أم لا؟

أصاب لأن الفراق سبب لهطول الدموع، ثم طرد ذلك في نقيده وهو المسرة، المسرة يلزم منها عدم الدموع ليس فيه بكاء لأنه فرح يحصل باللُّقِيّ لكنه أطلق الجمود على عدم الدمع عند المسرة، وهنا أخطأ لماذا؟

لأنه ظن أن الجمود هو عدم الدمع مطلقًا وليس كذلك، بل الجمود إنما توصف به العين عند عدم الدمع إذا أراد البكاء، يعني: إذا أراد أن يبكي فلم يبك، وجمدت عينه، وأمَّا إذا لم يطلب البكاء فلم يبك لا يقال بأن العين جامدة، إذًا الجمود لا يوصف به إمساك الدمع إلا إذا طَلَبَ، وإمَّا إذا لم يطلب فلا، ثم طرد ذلك في نقيده فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقًا من غير اعتبار شيء آخر، وأخطأ، لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها، فلا يكون كناية عن المسرة، وإنما يكون كناية عن البخل، فالكلام الخالي من التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرًا حتى يُخَيّل إلى السامع أنه فهمه من حاق اللفظ، يعني من جانب اللفظ.

ص: 15

إذًا شرط الثالث: (وَهْوَ مِنَ التَعْقِيدِ أَيْضاً خالِي) أن يكون خاليًا من التعقيد بنوعيه اللفظي والمعنوي، والمراد بالتعقيد اللفظي ألا يلتزم الترتيب المعهود عند أهل العربية فيقدم ويؤخر دون قرينة أو أن يضمر بدون قرينة، والنوع الثاني: التعقيد المعنوي: أن يستعمل لفظًا ويريد به معنى بعيد دون إقامة قرينة تدل على ذلك، فالانتقال من المعنى الظاهر كالجمود هنا إلى عدم البكاء مطلقًا وهو المسرة هذا فيه بُعْدٌ.

ثم شرع فيما يتعلق بالكلمة الثانية وهي البلاغة وبقي عليه فصاحة المتكلم ذكرها فيما بعد:

....................

وَإِنْ يَكُنْ مُطَابِقاً لِلْحَالِ

فَهْوَ الْبَلِيغُ وَالَّذِي يُؤَلِّفُهْ

وَبِالْفَصِيح مَنْ يُعَبِّرْ تَصِفُهْ

وهذا يأتي معنى غدا إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أسئلة:

- هذا يقول: ما اسم الشرح الذي نقرأه للرجوع إليه والاستفادة منه؟

: إن كان جديد على العلم نَوْر الشنقيطي هذا الكتاب طيب، ولو رجعت إلى ((الإيضاح)) الأصل طيب.

- كيف يكون التركيب غير فصيح في اللغة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«يتعقبون فيكم ملائكة» .

: هذا ما أثبتَهُ أنت الذي يجري عليك.

- كيف نوجهه تأليف أهل العلم كتبًا في غريب الحديث؟

ما حكمنا أنها ليست فصيحة، غريب الحديث يعني الكلمات الذي التي تحتاج إلى شيء من فهم، وهذا قد يكون في استعمال الناس، لا باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، لأنه خاطب الصحابة وفهموا عنه، ثم صارت غريبة باعتبارنا نحن، أما الصحابة لا، عندما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظٍ حكمنا عليه بأنه غريب حتى على الصحابة؟! ما أحد يقول بهذا.

وصلَّ الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 16