المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌عناصر الدرس * الباب الأول: الإسناد الخبري. * الغرض من الخبر. * أحوال - شرح مائة المعاني والبيان - جـ ٤

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌عناصر الدرس * الباب الأول: الإسناد الخبري. * الغرض من الخبر. * أحوال

‌عناصر الدرس

* الباب الأول: الإسناد الخبري.

* الغرض من الخبر.

* أحوال المخاطب وحكم كلٍ.

* الحقيقة والمجاز العقليان.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال الناظم رحمه الله تعالى:

(الْبَابُ الأَوَّلُ: أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ)

هذا هو الباب الأول من الأبواب الثمانية التي نظمها هذا العلم، وهو علم المعاني حيث ذكر أنه (مُنْحَصِرُ الأَبْوَابِ فِي ثَمَانِ)، وأول الأبواب هذا ما يتعلق بالإسناد.

قال: (أَحْوَالُ الإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ). ثلاث كلمات لكل واحد منها محترز، و (الْخَبَرِيِّ) احترازًا عن الإنشائي، وهل أخرج الإنشائي وليس بداخل؟

ليس هذا المراد، وإنما مرادهم أن التركيز في هذا الموضع يكون على الخبر، ولذلك قصد، وليس فيه احترازًا عن الإنشاء. و (أَحْوَالُ) بمعنى أمور عارضة وهو جمع حال، يعني: صفات تَعْرِض على الإسناد. والإسناد مصدر أَسْنَدَ يُسْنِدُ إِسْنَادًا، والإسناد عند البيانيين كغيرهم نسبة حُكْمٍ إلى اسم إيجابًا أو سلبًا، نسبة حكم نسبة بمعنى إضافة، إذا قلت: زَيْدٌ قَائِم. أضفت إلى زيد القيام، نَسَبْتَ إلى زيد القيام، فزَيْدٌ منسوب إليه وقائم منسوب، والذي نسبته هو ثبوت القيام، نسبة حكمٍ، والحكم المراد به هنا على جهة الإجمال الخبر والفعل، لأنك إذا قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. أثبت لزيد مضمون لفظ قائم وهو القيام، إذا قلت في الجملة الفعلية: قام يقوم زيد. فنسبت إلى زيد القيام، فالفرق بين قام زيد ويقوم زيد أنك نسبت القيام في قام زيد إلى زيد في الزمن الماضي، ويقوم زيد نسبت القيام إلى زيد في الزمن الحال أو المستقبل، واضح هذا؟ إذًا نسبة حكمٍ أي: مضمون الخبر أو مضمون الفعل إلى اسم المراد به المبتدأ والفاعل أو نائب الفاعل، فإذا قلت: قَامَ زَيْدٌ. زَيْدٌ هذا فاعل إذًا نسبتَ حكم وهو القيام الذي دل عليه قام إلى زيدٍ، وزيد هذا من حيث المعنى مسنَد إليه، وهو الذي يعنيه البيانيون، كذلك إذا قلت: زَيْدٌ قَائِمُ، زيد عند البيانيين يُسَمَّى ماذا؟ مُسْنَدًا إليه، وعند النحاة مبتدأ، وعند المناطقة موضوع، ليس محمول، وعند الأصوليين محكومًا عليه، لأنه هو المكلَّف.

إذًا أربعة أسماء لمسمًّى واحد، نسبة حكم إلى اسمٍ وهو مبتدأ أو فاعل أو نائب فاعل إيجابًا أو سلبًا، إيجابًا يعني: إثباتًا. زَيْدٌ قَائِمٌ أليس كذلك؟ لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا ما الفرق بينهما؟

كلاهما جملة اسمية إلا أن الأولى مثبته زَيْدٌ قَائِمٌ فيه إثبات قيام لزيد، لَيْسَ زَيْدٌ قَائِمًا فيه نفي القيام عن زيد أليس كذلك؟ مَا زَيْدٌ قَائِمٌ فيه نفي القيام عن زيد، حينئذٍ إيجابًا يعني: إثباتًا. أو سلبًا يعني: نفيًا، فالجملة الفعلية وكذلك الجملة الاسمية إما أن تكون موجبة وإما أن تكون سالبة، فإما أن يُثْبَتَ للمحكوم عليه وهو المسند إليه مدلول أو مضمون الخبر، أو ينفى عنه.

ص: 1

وهذا تعريف مشهور عند النحاة، وعند البيانيين المشهور أن الإسناد هو بمعنى ما سبق إلا أن فيه شيئًا من الإطالة، ضَمُّ كلمة أو ما يَجْرِي مجراها إلى أخرى بحيث يفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منتفي عنه، هو الأول لكن هذا فيه زيادة فلسفة، يعني: ضم كلمة هذا فيه نِسبة، نسبة حكم إلى اسم إذًا ضم كلمة إلى أخرى، كلمة واضحة إما اسم وإما فعل، طيب أو ما يجري مجراها يعني ما يكون في قوة الكلمة، وذلك فيما إذا وقع الخبر جملة زَيْدٌ قَائِمٌ، كلاهما مفردان ضممت كلمة إلى كلمة أخرى، طيب زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ، هل ضممت كلمة إلى كلمة أخرى؟ لا، وإنما ضممت جملة إلى كلمة، هنا قال: ضم كلمة أو ما يجري مجراها. يعني: ما يجري مجرى الكلمة يعني ما يكون في قوة الكلمة، والجملة الفعلية والاسمية إذا وقعت خبرًا فهي مأولة للمفرد، زَيْدٌ قَامَ أَبُوهُ في قوة قولك: زَيْدٌ قَائِمٌ أَبُوهُ. وَقَائِمٌ أَبُوهُ هذا مفرد، إلى أخرى يعني: إلى كلمة أخرى أو ما يجري مجراها بحيث يُفيد الحكم بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى بمعنى أن الإسناد إنما يكون باعتبار المفاهيم وهو كذلك، فإذا قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. عندنا أربعة أشياء زَيْدٌ لفظ مسمى زيد، قَائِمٌ لفظ مسمى قائم، فأنت إذا أخبرتَ عن زيد بكونه قائمًا هل أخبرت عن اللفظ باللفظ؟ هل أخبرت بمضمون قائم عن لفظ زيد؟ لا، لأنك إذا قلتَ: أخبرتَ عن اللفظ. حينئذٍ قلت: زَيْدٌ قَائِمٌ. لفظ الزيد لفظ زيد هو قائم وليس هذا المراد، وإنما المراد مسمى زيد ذاته، لأن عندنا اسم وعندنا مُسمّى، الاسم يكون باللسان لفظ زيد، مسمى الشخص نفسه الذات # 6.41

مسمى زيد، إذا قلت: قَائِمٌ. أثبت القيام لزيد أو لمسماه؟ لمسمى زيد، كذلك إذا قلت: قَائِم. هل أثبت لزيد الذي هو مسمى زيد لفظ قائم أو ما دل عليه قائم؟

ما دل عليه قائم. انتبه لهذه الاعتبارات.

إذًا قال هنا بأن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى، فالاعتبار ليس باللفظ وإنما بما دل عليه اللفظ، فإذا أخبرت زيد قائم أي: مُسمَّى زيد ثابت له مدلول قائم، مضمون قائم ثبت بمدلول زيد، الذي هو وصف القيام هو ذات زيد وليس هو لفظ زيد، إذًا هذا هو الإسناد.

الإسناد يقتضي مُسْنَدًا ومُسْنَدًا إليه، لأن عندنا كلمتين نسبة حكم إلى اسم، إذًا عندنا نسبة وهي الأصل في الإسناد، وهذه النسبة تقتضي بأن توجد، كيف توجد؟ لا بد أن توجد بين لفظين، فأحد اللفظين يسمى مسندًا إليه وهو المحكوم عليه، واللفظ الآخر يسمى مُسندًا، وهنا التسمية باعتبار الألفاظ في عرف النحاة.

قال الناظم:

إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ

فَسَمِّ ذَا فَائِدَة وَسَمِّ

إِنْ قَصَدَ الأِعْلَامَ بِالْعِلْمِ بِهِ

لَازِمَهَا ...............

العاقل إذا تكلم هنا اشترط العاقل ولا لا، إذا تكلم بكلام ما فله فائدتان، يعني في الجملة ماذا أراد بكلامه؟

ص: 2

إما أن يريد إفادة المخاطَب، أنت ما تعلم زيد مسافر ما تدري جئتَ قلتُ لك: زَيْدٌ مُسَافِر، أَوْ سَافَرَ زَيْد. ما المراد بهذا الخطاب بهذا الخبر، إفادة المخاطَب مدلول اللفظ، بمعنى أنه لا يدري عن سفر زيد قلتُ له: زَيْدٌ سَافَرَ. هذا يسمى ماذا؟ يسمى إفادة المخاطَب نفس الحكم الذي دلّ عليه زَيْدٌ سَافَرَ.

النوع الثاني: لا يُراد بالخبر إفادة المخاطَب، لأنه يعلم مدلول اللفظ، لكن ثَمَّ أمر آخر يشير إليه المتكلِّم بكلامه، وذلك فيما إذا أراد أن يُخْبِرَ المخاطَب بأنه يعلم الحكم كما علمه المخاطَب زيد يكون عندك في البيت تعلم أن زيد عندك أو لا؟ تعلم قطعًا موجود في البيت فأقول لك: زَيْدٌ عِنْدَكَ الْبَارِحة تَعَشَّى عِنْدَك. أنت تدري أو لا تدري؟

تدري قطعًا، إذًا إخباري لم يُقْصَد به إفادة المخاطَب مدلول اللفظ وإنما أراد به لازم الفائدة. وهي إذا قلت: زيد عندك يعني: أعلم أن زيدًا عندك كما تعلم أنت بأن زيد عندك، إذًا هذا يُسِمَّى ماذا؟ ليس فيه فائدة المخاطَب بمدلول اللفظ وإنما بلازم اللفظ.

هاتان فائدتان، فمن المعلوم أن العاقل إذا قصد بخبره إفادة المخاطب حينئذٍ إما أن يقصد نفس الحكم يعني الذي دل عليه اللفظ زَيْدٌ قَائِمٌ إذا أخبر من لا يعلم بقيام زيد، وهذا هو الأصل في الكلام، أو كون المتكلِّم والمخبِر عالمًا بالحكم كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك: زَيْدٌ عِنْدَك. هو يعلم أنه عنده في البيت ولكنك تقول: زَيْدٌ عِنْدَك. بمعنى أني أعلم ما تعلمه أنت وهو أن زيد عندك هذا يسمى الثاني لازم الفائدة.

وهذا الذي عناه الناظم من قوله: (إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ نَفْسَ الحُكْمِ). يعني: بإخباره (فَسَمِّ ذَا) أي: المقصود الكلام أو الخبر. (فَائِدَة) فائدة الخبر، (وَسَمِّ)(لَازِمَهَا) الضمير يعود للفائدة متى؟ إن قصد الإعلام بالعلم به، واضح هذا؟

إذًا كل عاقل إذا تكلم فالأصل فيه أنه لا يخرج عن هاتين الفائدتين.

نقول: العاقل لماذا؟ لأن النائم قد يقوم فيتكلم وكلامه لا يفيد المخاطَب ولا لازم الفائدة، والمجنون إذا تكلم كذلك لا يفيد المخاطَب ولا يفيد لازم الفائدة.

ص: 3

إذًا قول الناظم: (إِنْ قَصَدَ المُخْبِرُ - بخبره - نَفْسَ الحُكْمِ). أي: الحكم نفسه (نَفْسَ الحُكْمِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمراد بالحكم هنا وقوع النسبة أو لا وقوعها، الذي هو المحكوم به إطلاقًا للمصدر على اسم المفعول مجازًا، كقولك: زَيْدٌ قَائم. لمن لا يعرف أنه قائم فهو حكم أفاد فائدة لم تكن عند المخاطَب، إذا أفدت المخاطَب فائدة ليست عنده هذا هو النوع الأول، (فَسَمِّ ذَا فَائِدَة)، الفاء هذه واقعة في جواب الشرط

(إِنْ قَصَدَ)(فَسَمِّ) الفاء هذه واقعة الجواب الشرط، و (ذَا) اسم إشارة للمفرد في محل نصب مفعول أول لـ (سَمِّ)، و (فَائِدَة) هذا مفعول ثانٍ، لأن (سَمِّ) هذا يتعدى إلى مفعولين فينصب الأول بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بنفسه أو بالباء، سميت ولدي محمدًا، سميت ولدي بمحمدٍ يجوز فيه الوجهان، (فَسَمِّ ذَا فَائِدَة)، إذًا (ذَا) في محل نصب مفعول أول لـ (سَمِّ)، ومفعوله الثاني (فَائِدَة)، والمشار إليه بقوله:(ذَا) أي: هذا الحكم الذي يُقصد بالخبر إفادته (فَائِدَة) أي: فائدة الخبر.

إذًا هذا هو النوع الأول الذي يكون مقصودًا للمتكلِّم العاقل.

(وَسَمِّ إِنْ قَصَدَ) المخبِر بخبره (الأِعْلَامَ) أي: إعلام وإخبار المخاطَب (بِالْعِلْمِ بِهِ) أي: بالعلم بأن المتكلم عالم بالحكم، يعني: ليس ثَمَّ قصد للمتكلم أن يخبر المخاطب بشيء لا يعلمه، لأنه يعلمه باعتباره هو المخاطَب من حيث إفادة الحكم هذا من باب تحصيل الحاصل، تقول: زيد عندك. أنت تعلم أن زيد عندك. إذًا نقول: هذا من باب تحصيل الحاصل، والأصل فيه أن الكلام يكون لغوًا، لكن لَمَّا رُوعِيَ فيه اللازم وهو إفادة المخاطَب أني أعلم ما تعلمه أنت صار فيه فائدة، لكنها ليست من ذات اللفظ، فذات اللفظ يدل على النسبة فقط قيام زيد ثابت أو القيام ثابت لزيد، كونه يعلم يعني: المتكلِّم بمدلول الخبر وهو إعلام المخاطَب بذلك هو شيء خارج، واللازم كما مر معنا أنها شيء خارج عن مدلول اللفظ، (الأِعْلَامَ) أي: إعلام وإخبار المخاطَب بالعلم به أي: بالعلم بأن المتكلم عالم بالحكم كقولك لمن زيد عنده [يعلم ويعلم نعم أنك أو](1) لا يعلم أنك تعلم ذَلِكَ زَيْدٌ عِنْدَه (لَازِمَهَا) أي: لازم فائدة الخبر مفعول يُسَمَّي وجواب إن محذوف، يعني: قصد الإعلام بالعلم به (فَسَمِّ) لازمها، يعني لازمها هذا متعلق (سَمِّ) مفعول به، طيب أين الجواب إن قصد الإعلام بالعلم به فسمه لازمها؟

تُقَدِّرُ له جوابًا محذوفًا لأنه أَخَّرَ المفعول به وقدَّم العامل (سَمِّ) ووسط بينهما بين العامل والمفعول به جملة (إِنْ قَصَدَ الأِعْلَامَ بِالْعِلْمِ بِهِ)، (بِالْعِلْمِ بِهِ) يعني: بمدلول الخبر، فإذا كان كذلك فسمها لازمها، أي: لازم فائدة الخبر مفعول (سَمِّ) وجواب إن محذوف كما ذكرنا.

والحاصل: أن قَصْدَ الْمُخْبِر بخبره إفادة المخاطَب أحد أمرين:

إما الحكم الذي ضمنه الخبر، وهو النسبة محكوم بها ويسمى فائدة الخبر وهو الأصل في الكلام.

وإما كون المخبر عالمًا بالحكم، ويسمى لازم فائدة الخبر.

(1) سبق.

ص: 4

هذا هو الأصل في الكلام. يعني: لا يخرج عن هذين الأمرين، وقد يراد الخبر لغير هذين الأمرين يعني: قد يأتي الخبر ولا يراد به فائدة الخبر ولا لازمها ويراد به شيء آخر، فالحصر حينئذٍ حصر أغلبي، قد يراد بهذا التركيب غير إفادة المخاطَب العلم بمدلول اللفظ أو بلازم الفائدة، فيرجع حينئذٍ إلى قاعدة كما نص على ذلك الخطيب القزويني في ((الإيضاح)) وهي: أن العالم قد يُنَزَّلُ منزلة الجاهل، متى؟ لعدم جريانه على موجوب العلم بالعمل به، الأصل في العلم أنه يقتضي العمل، ولا يكون العلم محمودًا إلا إذا قارنه العمل، فإن انتفى العمل ووجد العمل، فالجاهل والعامل سواء في مرتبة واحدة، من يَعْلَمُ ولا يَعْمَلُ هو والجاهل سواء طبعًا ليس في الحكم الشرعي لأن العالم يعاقب، والجاهل قد يُعْذَر وقد لا يُعْذَر، المراد هنا في الخطاب، فحينئذٍ يستوي الجاهل والعالم، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل وإن كان عالمًا به فنسوي بينهما في الخبر، كقولك لمن يعق أباه وهو يعلم أنك تعلم أنه أبوه: زَيْدٌ أَبُوكَ. تقول للابن: زَيْدٌ أَبُوكَ. هو يعلم أو لا يعلم أنه أبوه؟ يعلم، هل هناك فائدة أو ما يسمى بفائدة الخبر؟ الجواب: لا، إلا إذا كان الابن ضائعًا وقال: هَذَا أَبُوكَ. حينئذٍ جاءت فائدة الخبر

(لَازِمَهَا) إذا لم يكن المخاطَب يعلم أني أعلم أنه أبوك سار لازم الفائدة ونقيد هذا المثال بماذا؟ إذا كان المخاطَب يعلم أني أعلم أنه أبوه، تقول في: زَيْدٌ أَبُوكَ فَأَحْسِن إِلَيْه. هنا انتفى عندنا الأمران، ليس عندنا فائدة الخبر، ولا لازم فائدة الخبر، لماذا خوطب بهذا بِهذا التعبير؟ زَيْدٌ أَبُوكَ؟ لأنه لعدم إحسانه إلى أبيه انتفى العمل بالعلم، لأنه بعلمه أنه أبوه يقتضي البر، فلما انتفى البر الذي هو العمل حينئذٍ نُزِّلَ العالم والجاهل في مرتبة واحدة، زَيْدٌ أَبُوكَ فَأَحْسِن إِلَيْه فيعامل معاملة الجاهل لأبوته لعدم عمله بمقتضى علمه، فمن لم يعمل بما عَلِمَ هو والجاهل سواء فيخاطب العالم بخطاب الجاهل، وقد ينتفي عنه الفائدان لأمر آخر ليس بما سبق، ككلام العباد مع ربهم هذا، لا، ليس فيه فائدة الخبر ولا لازم الفائدة، قطعًا هذا أليس كذلك؟ ولذلك قوله تعالى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} . لما يخاطب الله عز وجل {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ليس فيه فائدة الخبر وليس فيه لازم الفائدة، إنما من باب إظهار الفقر والتذلل، له فائدة أخرى ليست هي المذكورة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} [آل عمران: 36] الله يعلم أنها وضعتها أنثى {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36] والله يعلم ذلك {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] نقول: خطاب العباد مع الله تعالى ليس فيه إفادة المخاطب بمدلول الخبر، وليس فيه لازم الفائدة، وإنما له نكتة تختص به في موضعه.

ص: 5

فإذا تقرر هذا وعرفت أن القصد بالخبر أحد الأمرين السابقين وأن العالم قد يُنَزّل مُنَزَّلة الجاهل فينبغي للمتكلم حينئذٍ إذا تكلم أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة، إما أن تأتي بألفاظ لإفادة الخطاب أو المخاطب شيئًا ليس عنده، أو بما يدل على أنك عالم بما يعلمه المخاطب، وما زاد على ذاك فهو لغو، يعتبر لغو زيادة على الكلام، نقول: يعتبر لغوًا.

فالأصل فيه أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة في إفادة الحكم أو لازم الحكم، فلذا قال الناظم:(وَلِلْمَقَامِ انْتَبِهِ). إن كان المقام يقتضي إفادة المخاطب فحينئذٍ تأتي بألفاظ تفيد الخطاب فقط ولا تزد، وإن كان المراد إفادته لازم الفائدة فحينئذٍ تأتي بألفاظ تدل على ذلك ولا تزد،

(وَلِلْمَقَامِ انْتَبِهِ) أي: مقام التخاطب (انْتَبِهِ) أمر من انْتَبَهَ يَنْتَبِهُ والانتباه هو التيقظ يعني: تيقظ لذلك.

ثم ذكر مما يناسب المقام ولا يزد ولا يُنْقِص ما يسمى بأَضْرُبِ الخبر، أَضْرُب الخبر ثلاثة:

ابتدائي، طلبي، إنكاري.

الابتدائي له موضع، والطلبي له موضع، والإنكاري له موضع.

إِنْ ابْتِدَائِيًّا فَلَا يُؤَكِّدُ

أَوْ طَلَبِيًّا فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ

وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ

.............................

بيت ونصف اجتمع فيه أضرب الخبر الثلاثة، مشهورة عند البيانيين،

(إِنْ ابْتِدَائِيًّا) إن شرطيًا (ابْتِدَائِيًّا) خبر كان أو يكن محذوف مع اسمها لأن إن لا يليها الاسم البتة، لا يليها اسم فإن جاء مرفوعًا حينئذٍ قلنا هذا فاعل لفعل محذوف أليس كذلك؟ أو نائب فاعل، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] {وَإِنْ أَحَدٌ} أحد جاءت بعد إن {وَإِنْ} في لسان العرب لا يتلوها الاسم المرفوع البتة، فإن كان كذلك حينئذٍ لا يعرب مبتدأ خلافًا لمن جوز ذلك فإنه لا يعرب مبتدأ، فحينئذٍ نقول:

{أَحَدٌ} فاعل لفعل محذوف إن استجارك أحد، وقد يكون نائب فاعل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] {كُوِّرَتْ} هي نائب فاعل {إِذَا الشَّمْسُ} {الشَّمْسُ} هذه إيش إعرابها؟ نائب فاعل ما الذي دلك على ذلك {كُوِّرَتْ} ، كُور هذا مغير الصيغة إذًا إذا كورت الشمس هذا الأصل لماذا؟ لأن إذا شرطية ولا يتلوها إلا الفعل، إن جاء بعد إن أو إذا اسم منصوب حينئذٍ الغالب تجعله خبرًا لكان المحذوفة مع اسمها وهذا الذي عناه ابن مالك في قوله: ويحذفونها. يعني: كان.

ويحذفونها ويبقون الخبر

وبعد إن ولو كثيرًا ذا اشتهر

«التمس ولو خاتمًا» . «خاتمًا» ما الناصب له؟ تقول: خبر كان، أين كان؟ تقول: كان راحت في خبر كان [ها ها]. يعني: حُذفت التمس ولو كان الملتَمَسُ خاتمًا، ولو كان كَان حذفت والملتمس هذا اسمها محذوف معها.

ص: 6

هنا قال: (إِنْ ابْتِدَائِيًّا). يعني: إن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم والتردد فيه فالمقام حينئذٍ يكون ابتدائيًا، لا بد من تقدير في الجملة كلها (إِنْ ابْتِدَائِيًّا) إن يكن المخاطب خالي الذهن، خالي الذهن من ماذا؟ من الحكم ومن التردد فيه، فإذا انتفى هذان الأمران الحكم أصالة ما يدري عن الخبر من أصله، أو التردد بأن يدري لكنه لم يجزم، فحينئذٍ فالمقام يسمى ابتدائيًّا، ما حكمه؟ (فَلَا يُؤَكَّدُ) الفاء هذه واقعة في جواب الشرط لا يُؤَكَّدُ يعني: الخبر. لا يؤكد الخبر يعني: لا تأتي بمؤَكِّدٍ من المؤكِّدات.

فإن تخاطب خال الذهن من حكم ومن تردد، فالتغني عن المؤكدات، زَيْدٌ قَائِمٌ، هو ما يدري قيام زيد، ما يدري عن الموضوع من أصله، قَامَ زَيْدٌ، زيْدٌ قَائِمٌ، حينئذٍ لا يؤكد له، إذا أكدت حينئذٍ لم يطابق الكلام مقتضى الحال انتفت البلاغة، إنسان ما يدري عن زيد قائم واللهِ الَّذِي لا إِلَه غَيْرُه زَيْدٌ قَائِمٌ، نقول: هذا ما يصح. لماذا؟

لأنك أكدت لخال الذهن، وخال الذهن الذي لا يتصور الخبر من أصله، حينئذٍ لا يؤكد. إذًا إن كان ابتدائيًّا وصفة الابتدائي أن المخاطب يكون خالي الذهن، ذهنه صافي من ماذا؟ من الحكم ومن التردد فيه، (فَلَا يُؤَكَّدُ) يعني له الخبر لتمكن الحكم في الذهن حيث وجده خاليًا، وخالي الذهن من الحكم بإثبات أحد طرفي الخبر الآخر أو نفيه عنه، وذلك بأن لا يكون عالمًا بوقوع النسبة أو لا وقوعها، يعني: ما يدري لم يتصور الطرفين، لم يخطر بباله لا زيد ولا لفظ قائم.

وأما المتردد في أن النسبة هل هي واقعة أم لا؟ تصور زيد وتصور قائم لكن لا يدري هل ثبت القيام لزيد أم لا؟ مات زيد شاع ولا يدري تصور الموت ويتصور زيد لكن لم يتثبت هذا يسمى ماذا؟ متردد ولذلك سمعت أنا بالخبر لكن لست جازمًا هذا يسمى مترددًا، وإذا لم تسمع أصلاً يسمى خالي الذهن، والمتردد في أن النسبة هل هي واقعة أم لا، وذلك بأن يكون متصورًا لطرفي الخبر والنسبة، مترددًا في كيفية استناد أحدهما إلى الآخر طالبًا لها، يعني: يريد التأكيد، فلا يؤكد الخبر لخال الذهن من الحكم والتردد فيه بشيء من المؤكدات وهي: إن، واللام، واسمية الجملة، وتكريرها، ونون التوكيد .. وغير ذلك من المؤكدات، كقولك: زَيْدٌ قَائِمٌ. لمن هو خال الذهن من ذلك ليتمكن في ذهنه لمصادفته خاليًا، لأن خلو الذهن عن الشيء يوجب استقراره، يعني: لا يحتاج ليس هناك ما يُدَافِعُهُ يعني: الذي عنده شيء إذا سمع الخبر عنده منازعة يحتاج إلى تعطيه مؤكِّدًا أو مؤكديْنِ، أما خالي الذهن الذي لا يتصور هذا ما يحتاج ليست عنده منازعة، فهذا هو الضرب الأول من أضرب الكلام وهو الخبر وهو الابتدائي وسمي به لأنه لم يسبق عليه من المخاطَب بشيء من الطلب والإنكار فقد ألقي ابتدائيًّا.

ص: 7

(أَوْ طَلَبِيًّا) أو كان المقام (طَلَبِيًّا) نسبة إلى الطلب كما أن ابتدائيًّا نسبة إلى الابتداء، بأن تخاطب من كان متردِّدًا في الحكم يعني: تصور الطرفين والنسبة، تصور زيد وتصور قيام زيد ونسبة القيام لزيد، لكن شك في وتردد في هل النسبة واقعة بالفعل أم لا، أليس كذلك؟ حينئذٍ يسمى متردِّدًا، بأن تخاطب من كان متردِّدًا في الحكم بأن حضر في ذهن طرفا الحكم والنسبة وتحير في أن الحكم بينهما وقوع النسبة أو لا وقوعها، وكان طالبًا للحكم ليعلمه هل هو سلب أم إيجاب (فَهْوَ فِيهِ يُحْمَدُ) الفاء وقع في جواب الشرط، ومرجع الضمير التوكيد المفهوم من قوله:(يُؤَكَّدُ). يجوز أو لا يجوز؟

يجوز من باب {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]{اعْدِلُواْ هُوَ} أي: العدل. (فَلَا يُؤَكَّدُ) هو (فَهْوَ) أي: التوكيد (فِيهِ) في الطلب لهذا النوع (يُحْمَدُ) أي: محمود. أي: حسن كما يعبر البيانيون، (فَهْوَ) الفاء وقع في جواب الشرط ومرجع الضمير التوكيد المفهوم من قوله:(يُؤَكَّدُ)، من باب {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، (فِيهِ) أي: في المقام الطلبي الضمير يعود إلى مقام الطلب يُحْمَدُ أي: يَحْسُنُ. هذا عبارة البيانيين يَحْسُنُ، (يُحْمَدُ) أي: توكيده. أي: يحسن توكيد بمؤكد واحد، واحد فقط، تأتي بمؤكد واحد بأن تدخل في كلامك إن أو اللام أو غيرهما ليزيل ذلك التأكيد تردد المخاطب ويتمكن الحكم في ذهنه، فحينئذٍ لو كان عنده شيء من التردد لا يصلح أن تقول له: زَيْدٌ قَائِمٌ. فلو قلت له: زَيْدٌ قَائِمٌ. وعنده شيء من التردد نقول: هذا لم يطابق مقتضى الحال ليس كلامًا بليغًا، وإنما تقول له: إِنَّ زَيْدًا قَائمٌ. حصل ماذا؟ هل ثَمَّ فرق بين قولك: زَيْدٌ قَائِمٌ. وقولك: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ؟ تقول: نعم. الأول خالي عن التأكيد فيلقى لخال الذهن، والثاني مؤكَّدًا بمؤكِّد واحد فإذا كان المخاطَب متردِّدًا في الحكم طالبًا له فحينئذٍ صار (طَلَبِيًّا). وقول الناظم:(يُحْمَدُ). يفهم منه أن التأكيد في هذه الحالة ليس بواجب إنما محمود وحسن، والأمر ليس كذلك، اللهم إلا أن يقال: إن قوله (يُحْمَدُ) شاملٌ للوجوب وغيره فلا يدل على الوجوب بخصوصه، هذا كالشرع الواجب محمود، والمندوب كذلك محمود، الواجب حسن وكذلك المندوب حسن، فاللفظ فيه إجمال، فقوله:(يُحْمَدُ). مراد به أنه واجب، فالمراد أن تقوية هذا المقام في هذه الحالة واجب لكنه لم يعبر بالوجوب لأنه عبر في قوله:

ص: 8

(وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الأِنكَارِ). وعبر بقوله: (يُحْمَدُ). ليدل على أن هذا وجوبه أقل من وجوب الإنكار، فلذلك عدل عن التعبير بالواجب، وإلا الأصل أن يقول: وطلبيًّا فهو فيه يجب. يجب فهو واجب، لكن لما كان وجوبه أقل من وجوب التأكيد الإنكاري عَبَّر عنه بـ (يُحْمَدُ)، فالمراد أن تقوية في هذه الحالة واجب وجوبًا ما غير بالغ إلى الغاية لكن عبر عنه بـ (يُحْمَدُ) تنبيهًا على أن هذا الوجوب ليس بالقوة كوجوبه إذا كان الكلام مع المنكِر، وذلك كقولك لمن يتردد في قيام زيد: لزيد قائم إن زيدًا. تأتي بمؤكد ولو كررت كذلك لا بأس زيد قائم زيد قائم، أكدت بالتكرار وهو نوع من أنواع التوكيد، فهذا هو الضرب الثاني من ضروب الكلام وهو الطلب، سُمِّيَ به إذ هو مسبوق بطلب المخاطَب بلسان الحال أو المقال.

(وَوَاجِبٌ بِحَسَبِ الإِنكَارِ) هذا النوع الثالث، إن كان المخاطب منكِرًا للحكم يعني:[يعتقد](1) تصور الطرفين والنسبة واعتقد مدلول ما تخاطبه بعكسه، يعني: تصور قيام زيد، زَيْدٌ قَائِمٌ واعتقد خلافه، هذا يُسمَّى ماذا؟ منكِرًا للحكم حاكمًا بخلافه، وهذا وَجَبَ توكيده، ولذلك قال:(وَوَاجِبٌ). يعني: توكيده (بِحَسَبِ الإِنكَارِ)، (وَوَاجِبٌ) يعني: وجب توكيد (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) قوة وضعفًا، يعني: إذا قوي الإنكار جئت بمؤكدَيْنِ، إن ازداد الإنكار جئت بمؤكد واحد [$ هل فيه شيء هنا $ 32.55]، إن ضعف الإنكار جئت بمؤكد واحد، إذًا (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) يعني: قوة وضعفًا لأن الجملة قد يجتمع فيها مؤكِّدان فأكثر، وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم كم مؤكد؟ والله، إن، ل اللام زيدًا قائم جملة اسمية أربع مؤكدات، متى هذا تقول: وَاللهِ إِنَّ زَيْدًا لَقَائِم؟ إذا بلغ الإنكار غايته بمعنى أنه إذا بلغ قوة يحتاج إلى الزيادة في التوكيد، (بِحَسَبِ الإِنكَارِ) قوة وضعفًا، أي: بحسب رسوخه في اعتقاد المخاطب وعدمه فإن ضعف إنكاره بحيث يمكن إزالته بسهولة، حينئذٍ يكتفي بمؤكد واحد، فإذا أكَّده بمؤكِّد واحد حينئذٍ استوى مع الطلب، [نعم] والذي يُمَيِّزُ هذا عن ذاك حال المخاطَب فإن كان الكلام مؤكَّدًا بمؤكِّد واحد قال قائل: إِنَّ زَيْدًا قَائم. هذا يحتمل أنه طلبي ويحتمل أنه إنكاري، ما الذي يميز هذا عن ذلك؟

المخاطَب، فإن كان المخاطب مترددًا في الحكم فهو طلبي، وإن كان منكِرًا للحكم حاكمًا بخلاف فهو إنكاريٌّ، لكن إِنَّ زيدًا لقائم، هذا إنكاري قطعًا لأن المؤكِّدَيْنِ فأكثر إنما يكون في الإنكار، فحينئذٍ إذا ضَعُفَ الإنكار اكْتُفِيَ بمؤكِّدٍ واحد، وإن توقع ذلك #34.57 جئت له بمؤكِّدَيْنِ .. وهكذا، كلما ازداد في الإنكار زدت في التوكيد إزالة له.

لو قال قائل: أنا صادق، إني صادق، إني لصادق، والله إني لصادق.

أنا صادق. لمن؟ لخالي الذهن.

إني صادق هذا مؤكد بكم؟ مؤكِّد واحد وهو: إن. إني صادق يجوز أن يكون لمتردد ولمنكر ضعيف الإنكار.

إني لصادق كم مؤكد؟ إن واللام، هذا للمنكر لكنه وسط.

(1) ((سبق.

ص: 9

والله إني لصادق، هذا لشديد الإنكار، وإذا زدت والله الذي لا إله غيره [ها ها] حينئذٍ تؤكد له ومن ذلك قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} انظر هنا إنكاري {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا} يعني: الرسل. {إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس: 13، 14] كم مؤكد؟ {إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} كم مؤكد؟

مُؤَكِّدِيْنِ، أتى بمُؤَكِّدِيْنِ، الأول {إِنَّا} والثاني اسمية الجملة، {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} بعد ما أكدوا لهم بمؤكدين زاد الإنكار {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 15، 16] ماذا زاد عن الجملة الأولى؟ {رَبُّنَا يَعْلَمُ} قالوا: هذا - كما قال الزمخشري - فيه قوة القسم، كأنهم قالوا: والله. {يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} زادوا اللام، لما تَكَرَّرَ منهم الإنكار زادوا لهم يعني الرسل في المؤكدات فقوله:{رَبُّنَا يَعْلَمُ} جاري مجرى القسم في التأكيد كما ذكره الزمخشري في كشافه، وإنا واللام واسمية الجملة، وذلك لمبالغة المخاطبين في الإنكار، فهذا هو الضَّرْبُ الثالث من ضُرُوبِ الخبر وهو الإنكار أو الذي يسمى الإنكاري وهو الملقى إلى المنكر، سُمِّيَ به إذ هو مسبوق بإنكار المخاطَب. هذه أنواع وأَضْرُب الخبر.

(إِنْ ابْتِدَائِيًّا فَلَا يُؤَكِّدُ) إن كان ابتدائيًّا خال الذهن فالحكم أنه لا يؤكد له مطلقًا، فإن أُكِّدَ له حينئذٍ خرج عن حد البلاغة.

(أَوْ طَلَبِيًّا فَهْوَ فِيهِ) يعني: في هذا الطلب (يُحْمَدُ) يعني: يجب، لكن الوجوب هنا أقل من الإنكار.

(وَوَاجِبٌ) يعني: واجب تأكيده للمخاطَب بمؤكِّد واحد فأكثر

(بِحَسَبِ الأِنكَارِ) قوة وضعفًا.

إخراج الكلام على هذه الوجوه - إذا طبقنا الأحكام السابقة - يسمى إخراجًا على مقتضى الظاهر، إخراج الكلام من المتكلم عندما تكلم بأنا صادق، إني صادق، والله إني لصادق، إذا أخرجته باعتبار المخاطَب يعني: هل هو خالي الذهن، متردِّد، وعاملت كل شخص بما هو أهله يُسمَّى إخراجًا للكلام على مقتضى الظاهر من خلوه من التأكيد في الأول الابتدائي، والتقوية بمؤكد استحسانًا على جهة الايجاب في الثاني، ووجوب التوكيد (بِحَسَبِ الأِنكَارِ) في الثالث.

قد يُخَالَف نعكس، نخاطِب خالي الذهن بمؤكِّد، نعامل المنكر معاملة خالي الذهن لكن لنكتة لفائدة، إذا لم يكن لفائدة أو لنكتة مقصودة فهو منتفٍ، يعني: وصف البلاغة عنه منتفٍ، قد نعامل خالي الذهن معاملة المنكِر، وقد نعامل المنكِر معاملة خالي الذهن، فإذا عاملنا خالي الذهن معاملة المنكِر أكَّدنا له .. # 39.28، وإن كان الأصل أنه لا يُؤَكَّد له، قد يعامل المنكِر معاملة خالي الذهن فلا يؤكد له، هذا متى؟ إذا خرج الكلام على غير مقتضى الظاهر، واضح هذا؟

ص: 10

الأضرب الثلاثة السابقة بالأحكام السابقة إن أكدنا للمنكِر أو المتردِّد لا إشكال فيه، تركنا التأكيد لخالي الذهن هذا هو الأصل، قد نعكس ونعامل خالي الذهن بمعاملة المنكِر أو بالعكس هذا يسمى خروجًا عن مقتضى [أو على مقتضى الظاهر](1) على غير مقتضى الظاهر، إذًا قد يُخَالَف ويخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كما ذكره الناظم بقوله:(وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ). أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) جمع غَير يعني بغيره، يعني: تبدل الخطاب لخالي الذهن بالخطاب للمنكر، وَتُبْدِل أو تُبَدِّل الخطاب للمنكِر بالخطاب لخالي الذهن، وهذا كثير حتى في القرآن

(وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ) أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) أي: بغير ما يقتضيه الظاهر، فحينئذٍ يُورِدُ الكلام الملقى إلى خالي الذهن عن النسبة كما يلقى إلى المتردِّد فيها، فيَصُبُّ أو يُصَبُّ لها الكلام في قالب واحد، فيلقى الكلام مؤكدًا إلى خال الذهن كما يلقى للمتردّد، وذلك إذا قدَّم له ما يُلَوّح بالخبر فتستشرف له نفسه استشراف المتردد الطالب حينئذٍ يحسن له أن يؤكد، بمعنى أن المؤكد إذا قدَّم قرينة تشير إلى أن خالي الذهن إذا أُلْقِيَ إليه الكلام فحينئذٍ يكون مترددًا في قبوله، فحينئذٍ يحسن التأكيد، بالمثال المشهور عند النحاة في قوله تعالى:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} . هذا خُوطِب به نوح عليه السلام {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} هذا يشير إلى ماذا؟ يُشير إلى أمر ما أنه سيقع هل سيقع عذاب أم لا؟ هل سيقع إغراق أم لا؟

إذًا خالي الذهن من الكلام إذا أُلقي إليه مثل هذه القرينة حينئذٍ يستلزم شيئًا آخر ولذلك جاء ما بعده {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} ، وهنا أُلْقِيَ قوله:

{إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} . إلى خالي الذهن ومع ذلك أكَّدَه لماذا؟ لأنه لَمَّا قال له أولاً {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كأن المخاطَب قد استحدث في نفسه شيئًا وتشوقت نفسه إلى معرفة شيء وهو هل سيحل بهم العذاب أم لا؟ وهذا شأن متردِّد فلما أُلْقِيَ إليه الخطاب حينئذٍ أُكِّد بمؤكِّد واحد. هنا عومل خالي الذهن معاملة المتردِّد لوجود القرينة الدالة على ذلك، {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: لا تدعوني يا نوح في شأن قومك. فهذا الكلام يلوح بماذا؟ يلوح بالخبر تلويحًا ويُشعر بأنه قد حقَّ عليهم العذاب فصار المقام مقام أن يتردّد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أو لا؟ صار عنده تردّد فقيل: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالتأكيد.

إذًا هنا لو قيل: نوح عليه السلام خالي الذهن لأنه ما يدري ما يعلم فقال الله تعالى: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} . لماذا أكد والأصل في خطاب خالي الذهن أنه ابتدائي فلا يؤكد له نقول: هنا نُزِّلَ خالي الذهن مُنَزَّلَة المتردّد لماذا؟ لكون ثَمَّ قرينة تدل على أن في نفسه قد وقع استشرافًا لشيء ما هل هم مغرقون أم لا؟ واضح هذا؟

وقد يُجْعَل المقر كالمنكِر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار فيؤكد له الكلام تأكيد المنكِر نحو ماذا؟ قول الشاعر:

(1) سبق مستدرك من الشيخ.

ص: 11

جاء شقيق عارض رمحه

إن بني عمك فيهم رماح

جاء شقيق رجل مجيئه هكذا مدلاً بشجاعته قد وضع رمحه بعارضه كأنه ليس أحد معه سلاح، فقوله: إن بني عمك. هذا الكلام أُلْقِيَ لخالي الذهن وأكده مع كون المخاطب خالي الذهن لكونه نَزَّلَ نفسه أو المخاطَب مُنَزَّلَة المنكِر، وهنا أُكِّدَ له بمؤكِّد واحد لأن الإنكار هنا بالقوة ويحمل على أقل ما يمكن أن يكون، فهذا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بين عمه أحد كأنهم كلهم عُزْلٌ ليس مع أحد منهم سلاحه، فهو لا ينكر أن في نبي عمه سلاح هو مقر لكن قوله: إن بني عمك. إن بني عمك نقول: إن هنا للتوكيد أفادت ماذا؟ أفادت في الأصل أن المخاطب منكِر للحكم نقول: لا، ليس الأمر كذلك، لكن لما كان مع خالي الذهن معه أمارة تدل على أنه ليس منكِرًا للحكم، وإنما هو في قوة المنكِر لأن الذي يأتي بالسلاح ويشهره كأن غيره لا يملك السلاح كأنه منكِر لغيره من إثبات السلاح له، حينئذٍ أكده وهو مقر لكونه مُنَزّل مُنَزّلة المنكِر، وقد يجعل العكس المنكِر كالمقر إذا كان معه دلائل وشواهد لو تأملها ارتدع عن إنكاره، فلا يؤكد له كقولك لمنكر الإسلام: الإسلام حق. هو يُنكر الإسلام، الإِسلام حق لأن الإسلام لو تأمله بشواهده لارتدع وعرف أن إبطاله للإسلام هو مُبْطَلٌ في نفسه فأدنى ما يمكن أن يُتأمل من أحكام الإسلام يصل إلى أنه حق، هنا عومل المنكر معاملة خالي الذهن فألقي إليه الخطاب دون توكيد.

الإسلام حق بلا تأكيد لأن مع المنكر دلائل دالة على حقيقة الإسلام، قال في ((الإيضاح)): هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي. يعني: الكلام كله في الأضرب الثلاثة كما يكون في الإثبات يكون كذلك في النفي، وأورد أمثلة تُرْجَعْ إليها.

إذًا (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ) بمعنى أنه يؤكد لخالي الذهن، ولا يؤكد للمتردد أو المنكر بحسب القرائن التي تحيط به.

ثم أورد المصنف مسألة تتعلق بالإسناد وهي تقسيمه إلى إسناد [حقيقي عقلي](1) حقيقة عقلية، ومجاز عقلي.

فالإسناد ينقسم إلى نوعين، الإسناد السابق ضُمّ كلمة إلى أخرى على الحد السابق ينقسم إلى قسمين:

حقيقة، ومجازي.

وكلاهما منسوب إلى العقل.

ثم أورد الناظم مبحث الحقيقة والمجاز العقليين نظرًا إلى أنهما من أحوال الإسناد كالتأكيد والتجريد عنه، ثم لفظ الحقيقة والمجاز له استعمالان، يعني سيأتي معنا في علم البيان الحقيقة والمجاز، وهنا كذلك يأتي لفظ الحقيقة والمجاز ما المراد؟

المراد هنا المعنى الذي هو الإسناد، ولذلك وصف بالعقل، وسيأتي في مبحث البيان المجاز والحقيقة لكن اللغوي، فهنا مجاز لغوي ومجازي علقي، اللغوي يبحث في علم البيان، والعقلي يبحث في علم المعاني، كذلك الحقيقة اللغوية تبحث في علم البيان، والحقيقة العقلية تبحث في علم المعاني، ثم لفظ الحقيقة والمجاز تارة يقصد بهما الألفاظ وذلك سيأتي في علم البيان وهو معناهما الاصطلاحي، وتارة يُستعملان في المعاني وهو تجوز في الإسناد وعدمه، وهو المقصود هنا في علم المعاني.

قال الناظم:

وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ

لِمَا لَهُ فِي ظَاهِرٍ ذَا عنْدَهُ

(1) سبق.

ص: 12

حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ وَإِنْ إِلَى

غَيْرِ مُلَابِسٍ مَجَازًا أَوَّلَا

أُوِّلا يجوز الوجهان.

إذًا الحقيقة العقلية عرَّفها بقوله: (الْفِعْلُ) بأنواعه الثلاثة، الفعل الماضي والفعل المضارع وفعل الأمر، (وَالْفِعْلُ) المراد به هنا الفعل الاصطلاحي، [ما دل على كلمة] (1) ما دل على معنى في نفسه واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة (وَالْفِعْلُ أَوْ) للتنويع (مَعْنَاهُ) يعني: معنى الفعل. وهو ما يكون فيه رائحة الفعل كاسم الفاعل مصدر (أَوَّلَا) واسم الفاعل (مَعْنَاهُ) عرفنا مراد معناه يعني: معنى الفعل، ما فيه معنى الفعل، رائحة الفعل، كالمصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول والصفة المشبهة، واسم التفضيل، والظرف، هذه كلها في معنى الفعل، فقد ترفع ما بعدها، وقد تنصب ما بعدها، فهي تعمل عمل الفعل، المصدر وما عطف عليه يعمل عمل الفعل ولذلك هي في قوة الفعل في معنى الفعل، (الْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ) أي: المتكلِم.

(لِمَا لَهُ) يعني: لما اللام هنا بمعنى إلى، وما بمعنى شيء (إِنْ أَسْنَدَهُ) عرفنا الإسناد # 50.13

أو نسبة (إِنْ أَسْنَدَهُ) المتكلم أسند الفعل أو ما في معنى الفعل أسنده إلى أي شيء؟

إلى ما أي شيء هو له، أي لذلك الشيء، والمقصود هنا من باب الاختصار والإيضاح أن الفعل أو ما في معنى الفعل له ملابسات شتى، قد يلابس الفاعل وقد يلابس المفعول به المرفوع وهو نائب الفعل، وقد يلابس غير هذين الشيئين الفاعل والمفعول به المرفوع يعني: نائب الفاعل. (إِنْ أَسْنَدَهُ) الفعل أو ما في معنى الفعل إلى فاعله حينئذٍ نقول: هذا حقيقة عقلية، (إِنْ أَسْنَدَهُ) الفعل وما في معنى الفعل إلى نائب الفاعل المفعول المرفوع فهو إسناد حقيقي، حقيقة عقلية، إن أسند الفعل إلى ما هو له يعني: الذي أحدثه بالفعل والذي يُحدث الفعل وما في معنى الفعل ما هو؟ الفاعل، تقول: صَامَ زَيْدٌ، صَائِمٌ زَيْدٌ، أَصَائِمٌ زَيْد، زيدٌ هذا أحدث الصيام في الموضعين صَامَ زَيْدٌ، زيد هو الذي أحدث الصوم، أَصَائِمٌ زَيْدٌ، زيد هو الذي أحدث الصوم، إذًا إذا أسند الفعل وما فيه معناه إلى الفاعل فهو حقيقة عقلية، إن أسند إلى المفعول المرفوع يعني: نائب الفاعل فهو حقيقة عقلية، إن أسند إلى غير هذين كالزمن [والمصدر نعم] (2) كالزمن والمكان فحينئذٍ نقول: هذا إسناد الشيء إلى غير ما هو له. هذا الفرق بين النوعين واضح هذا؟

إن أسند الفعل أو ما في معنى الفعل إلى الفاعل والمفعول المرفوع شيئين فقط محصورَيْنِ، فالإسناد حقيقة عقلية وإن لم يسند إليهما بل أسند إلى غيرهما فالإسناد مجاز عقلي.

نَهْرٌ جَارٍ، جار هو أي: النهر. أي: الماء. هذا ليس إسنادًا حقيقيًّا إنما هو إسناد مجازي.

إذًا (إِنْ أَسْنَدَهُ) أي: المتكلِم، إذًا الفعل أو معناه، احترز بالفعل أو معناه عما لا يكون فيه فعل ولا معنى الفعل، وهذا اختلفوا فيه هل هو موجود أم لا؟

لكن ذكره البيانيون، حينئذٍ الحيوان جسم عندنا إسناد هنا أليس كذلك؟

أسندت جسم إلى الحيوان، هل الحيوان هنا فعل؟

لا، هل هو في معنى الفعل؟ لا.

(1) ((سبق مستدرك من الشيخ.

(2)

سبق مستدرك.

ص: 13

إذًا ليس بحقيقة ولا مجاز، لأن الحقيقة العقلية والمجاز العقلي هو إسناد للفعل أو معناه إلى ما هو له في الأول، وإلى غير ما هو له في الثاني.

إذًا لا بد من إسناد الفعل أو معناه في الموضعَيْنِ الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.

فإذا لم يكن عندنا إسناد فعل أو في معنى الفعل فلا يُسمى حقيقة عقلية ولا مجازًا. إذًا احترز به عن ما لا يكون المسند فيه فعلاً أو معناه كقولنا: الحيوان جسم. فإنه لا يوصف بحقيقة ولا مجاز على قول، أو في الفعل أو معناه للتنويع،

(إِنْ أَسْنَدَهُ) أي المتكلم (لِمَا) أي: إلى، ما أي شيء هو له أي: لذلك الشيء، كالفاعل فيما بني للفاعل، ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا هنا ليس الكلام في المفردات، ليس في ضَرَبَ هل استعمل في معناه أو لا، وزيد هل استعمل في معناه أو لا؟ ليس هذا الكلام هذا سيأتي في علم البيان، نحن نتكلم هنا في الإسناد ضم كلمة إلى أخرى، ضَرَبَ زَيْدٌ، مُسْنَد ومُسْنَد إليه، ليس بحثنا في المسند والمسند إليه، هل استعمل في معناه اللغوي، هذا بحثه فيما يأتي، أما الكلام هنا في الإسناد ضم كلمة إلى أخرى، ضَرَبَ زَيْدٌ هنا أسندت ضَرَبَ وهو فعل إلى زيد على وجه ماذا؟ على وجه الفاعلية فهو إسناد حقيقي، ويسمى حقيقة عقلية، ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وللمفعول به فيما بُنِيَ للمفعول به نحو ضُرِبَ عَمْرٌ هنا أسندت ضرب إلى عمرو فإن الضاربية لزيد والمضروبية لعمرو هذه ثابتة بدلالة اللفظ، أما نحو نهاره صائم، صَائم هذا اسم فاعل ويرفع فاعل أين الفاعل؟

نَهَارُهُ صَائم هو أي؟ تجيبون أنتم، نَهَارُهُ صَائِمٌ هُوَ أي؟ النهار، هل النهار يصوم؟ لا. إذًا أسندت ما في معنى الفعل إلى غير ما هو له، يعني لم يحدثه وإنما سبب الملابسة هنا [كون الصيام](1) كون النهار محلاً للصوم زمانًا له يقع فيه، إذًا ثَمَّ ملابسة، لأن الحدث المصدر لا بد له من مكان ولا بد من له من زمن، وقد يكون ثَمَّ سبب خارج عنه، نَهَارُهُ صَائِمٌ، نهاره مبتدأ صائم، زَيْدٌ نَهَارُهُ صَائِم، نهاره مبتدأ صائم خبر، صائم في معنى الفعل رفع فاعلاً، هنا عندنا إسناد ليس إسناد صائم إلى نهار، لا، وإنما إسناد صائم إلى الفاعل الذي بعده الذي هو الضمير المستتر، فهنا الإسناد هل أسندت صائم الذي هو الحدث إلى ما هو له أو لغير ما هو له؟

لا شك الثاني، لأنك إذا قلت: أنه إسناد الشيء إلى ما هو له. يعني النهار يصوم النهار يصوم؟ ما يصوم قطعًا، النهار لا يصوم، لا يُحْدِثُ الصوم لأنه حَدَثٌ والنهار كذلك حَدَث، والحدث لا يحدث حدثًا، إذًا نهاره صائم نقول: أُسند ما في معنى الفعل إلى فاعل هنا، لكنه ليس هو فاعل حقيقة، فيكون المجاز ويكون الإسناد هو مجازًا عقليًّا، لَيْلُهُ قَائِم، قائمٌ هو أي: الليل. هل الليل يقوم؟

الجواب: لا، فالقول فيه كالقول السابق، فإن الصوم ليس للنهار، بل هو ظرف له، والقيام ليس لليل، بل هو ظرف له.

(1) سبق.

ص: 14

قال: (فِي ظَاهِرٍ). لما هو له (فِي ظَاهِرٍ ذَا) أي: الإسناد المذكور، أي: إلى ما يكون الفعل أو معناه له (عنْدَهُ) أي: عند المتكلم. يعني: لنا الكلام فحسب بمعنى الظاهر فيما يظهر لنا، أما اعتقاده فلا عبرة به البتة، لأنه بهذا الاعتبار قد يوافق وقد يخالف، وباعتبار المطابقة للخارج قد يطابِق وقد لا يطابِق، الأقسام الأربعة كما سيأتي.

إذًا (فِي ظَاهِرٍ) يعني: في ظاهر الكلام. لو تكلم متكلم قال: خَلَقَ زَيْدٌ الْجِدَارَ. دعك من كونه مطابق للواقع أو لا؟ حقيقة عقلية أم لا؟ حقيقة عقلية لماذا؟ لأنه في ظاهر الكلام نثبته له أليس كذلك؟ فنقول: خَلَقَ زَيْدٌ الْجِدَارَ. أو خَلَقَ زَيْدٌ الذُّبَابَ. باعتبار نفسه نقول: هذا الإسناد إسناد حقيقي لماذا؟

لأنه أَسند الشيء والأصل فيما إذا أسند الشيء إلى شيء آخر أنه يَعْتَقده سواء دلّ على ذلك قرينة ينصبها للتأكيد أو لا، لأنه إذا تكلم مثل هذا الكلام قد ينصب قرينة تدل على أنه يريد بظاهر الكلام ظاهره، وهذا أكد أنه حقيقة، وقد ينصب قرينة تدل على أن ظاهر الكلام ليس بمراد وداخل في المجاز - كما سيأتي -، وقد لا ينصبه. (فِي ظَاهِرٍ) أي: في ظاهر حاله إذا لم ينصب قرينة تدل على أنه أراد المجاز حينئذٍ يصرف على ظاهره، (فِي ظَاهِرٍ ذَا) أي: الإسناد المذكور

أي: إلى ما يكون الفعل أو معناه له عنده أي عند المتكلم فيما يُفهم من ظاهر كلامه هذا هو العبرة ويظهر من حاله، وذلك بأن لا توجد قرينة دالة على أنه غير ما هو له في اعتقاده، يعني: إذا أراد بظاهر الكلام ما لا يعتقده لا بد أن ينصب قرينة، إذا تكلم بكلامه في الظاهر إنه لا يطابق الواقع، فإذا أراد أنه لا يطابق اعتقاده لا بد أن ينصب قرينة تدل على ذلك وإلا اعتُبر حقيقةً، ومعنى كونه له أن معناه قائمًا به ووصفٌ له وحقه أن يُسند إليه، كقولك قام زيدٌ فالقيام وصفٌ له فنسبة القيام إليه حينئذٍ ثابتة وهي حقيقة، بمعنى أن العرب إنما وضعت قام بفعل العبد الصادر عنه هذا هو الأصل، لو قلت قام زيد حينئذٍ العرب وضعت قام للدلالة على أن الفاعل قد أحدث هذا الحدث وهو القيام، (حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ) كلام الناظم (وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ) .. إلى آخره. (حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ)، (وَالْفِعْلُ) هذا مبتدأ و (حَقِيقَةٌ) خبره يجوز العكس، فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر، هذا عبارة صاحب ((الإيضاح)) و ((التلخيص)) وأوردها الناظم كما هي.

قوله: في الظاهر ليشمل ما لا يطابق اعتقاده، يعني: اللفظ لا يطابق الاعتقاد مما يطابق الواقع وما لا يطابق الواقع، حينئذٍ أقسام الحقيقة أربعة يعني: دخل في قوله: (فِي ظَاهِرٍ) أربعة أقسام، لأنه إما أن يطابق الاعتقاد وعندنا ثلاثة أشياء:

قولٌ مدلوله والاعتقاد والواقع.

على تقسيم السابق اعتقاد قولٌ جملة لها مفهوم مطابقة الواقع، اللفظ هذا إما أن يطابق الاثنين، مدلول اللفظ الوسط هذا اعتقاد لفظٌ واقع، اللفظ له مدلول إما أن يطابق الاثنين الاعتقاد والواقع، إما أن لا يطابق الاثنين، إما أن يطابق الاعتقاد لا الواقع أو العكس، يطابق الواقع الاعتقاد كم؟ أربعة من يعيدها؟

إما أعد

أي

ص: 15

يطابقه معًا

نعم

أو بالعكس.

الأول: ما يطابق الواقع والاعتقاد جميعًا، كقول المؤمن الموحد أنبت الله البقل، إسناد الإنبات إنبات الزرع عمومًا إلى الله عز وجل، أنبت الله البقل، المؤمن مؤمن يعتقد أن هذه بفعل الله عز وجل، في الواقع كذلك أو لا؟ إذًا مدلول اللفظ الذي هو إسناد الإنبات إنبات البقل إلى الله عز وجل مدلول اللفظ طابق الاعتقاد لأنه موحد مؤمن وطابق الواقع، شفى الله المريض، أسند الشفاء إلى الله عز وجل وهو مطابق للاعتقاد أنه مؤمن ومطابق للواقع، إذًا هذان مثالان مما طابق فيه الاعتقاد والواقع.

الثاني: ما يُطابق الواقع دون الاعتقاد، طابق الواقع فقط دون الاعتقاد، مثَّلًوا البيانيون أو مثل البيانيون بقول المعتزلي لمن لم يعرف حاله يخفيها: خالق الأفعال كُلُّهَا أو كُلِّهَا خالق الأفعال كُلَّهَا هو الله عز وجل، هذا طابق ماذا؟ معتزلي ماذا يعتقد أن أفعال العباد مخلوقةٌ لهم، أليس كذلك هذه عقيدتهم؟ وهي عقيدة كفرية إذا قال المعتزلي لشخصٍ ما وهو لا يعرف أنه معتزل يتخفى كالعقلانين الآن يتخفى أنه معتزل قال: خالق الأفعال كلها الله عز وجل. يكون هذا الكلام حقيقة أو مجاز؟

حقيقة عقلية طيب، طابق الواقع؟ طابق الواقع، نعم، الله عز وجل هو خالق الأفعال كلها، والاعتقاد؟ خالف الاعتقاد، إذًا هذا مما طابق الواقع دون الاعتقاد.

الثالث: ما يطابق اعتقاده فقط دون الواقع. عكس الثاني طابق الاعتقاد دون الواقع، كقول الجاهل قول الجاهل يقصد به الكافر الذي ينسب الأفعال إلى العباد: شفى الطبيبُ المريضَ، معتقدًا شفاء المريض من الطبيب طابق الواقع؟ لا، ما طابق الواقع، طابق الاعتقاد؟ نعم طابق الاعتقاد، شفى الطبيبُ المريضَ معتقدًا بهذا القيد لو كان من باب السببية شيءٌ آخر معتقد أن الطبيب هو الذي شفى بذاته المريض نقول: في الواقع لا، لكنه طابق معتقده.

الرابع: ما لا يطابق الاثنين، لا الواقع ولا الاعتقاد. كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب، هذا الذي يكذب، يقول: جاء زيد. هو يعلم يعتقد أن زيد ما جاء ولم يأت زيد بعد، قال: جاء زيدٌ. مدلول اللفظ مجيء زيدٍ طابق الواقع؟ لا، لم .. ، طابق الاعتقاد؟ لا. وكل كذاب يكون داخلاً في هذا القسم، جاء زيدٌ مع كون هذا القول واقعًا مع فقد وعدم المجيء الذي نسبته إليه في نفس الأمر وفي علمك، سميت حقيقة عقلية لأن الحاكم بذلك هو العقل دون الوضع، لأن إسناد الكلمة شيءٌ يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة، فلا يصير ضرب خبرًا عن زيدٍ بوضع اللغة هذا الذي نعبر عنه دائمًا في النحو بأن الوضع نوعان:

وضعٌ شخصي.

ووضعٌ نوعي.

ص: 16

وضع النوعي هو وضع التراكيب، وضعت العرب ضَرَبَ زيدٌ عمرًا مثلاً، ضَرَبَ فعلٌ، وزيدٌ يذكر كمثالٍ لكون فاعلاً بمعنى أن ضَرَبَ قد يُسْنَدُ إلى زيد وقد يسند إلى عمرو وقد يختلف باختلاف الأزمان والإعصار، فالعرب وضعت ضرب للدلالة على أن فاعل قد أحدث هذا الحدث، وأما كونه زيدًا أو عمرًا أو خالدًا هذا لم تضعه العرب، وإنما التركيب يكون بقصد المتكلم، فلا يصير ضرب خبرًا عن زيدٍ بوضع اللغة، بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وإنما الذي يعود إلى وضع اللغة أن ضرب لإثبات الضرب لا لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمنٍ ماضٍ دون المستقبل، فأما تعيين من ثبت له فإنه يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين. إذًا الذي يُسند ضَرَبَ إلى الفاعل نقول الفاعل هذا يختلف من شخصٍ إلى شخصٍ آخر، ماذا صنعت العرب؟ وضعت ضرب للدلالة على الضرب بعينه الحدث الخاص لا الخروج ولا الأكل ولا الشرب ولا غيره. وثانيًا: للدلالة على أن هذا الحدث قد وقع في الزمن الماضي.

ثم التركيب بمعنى أنك تقدم الفعل على الفاعل، وبمعنى أن الفعل أَثَّرَ في الفاعل فأحدث فيه ضَمًّا هذا هو النوع القاعدة العامة وهذا تركه بعض البيانيين.

إذًا هذا حد الحقيقة العقلية (وَإِنْ إِلَى غَيْرِ مُلَابِسٍ) عين ملابسٍ (مَجَازٌ أَوَّلَا)(وَإِنْ إِلَى) من يُقَدِّر؟

أُسْنِدَ الفعل أو معناه إلى غيرٍ يعني: غير الفاعل والمفعول المرفوع (مُلَابِسٍ) بشرط أن يكون ملابسًا للفعل، ملابسات الفعل تختلف (مَجَازٌ)، إذًا إذا فهمت الحقيقة العقلية فهمت المجاز العقلي، ملابسات الفعل مختلفة إن أُسْنِدَ الفعل إلى الفاعل يعني: الذي فعله بالفعل وهو وصفٌ له فهو حقيقةٌ عقلية، وكذلك المفعول المرفوع ما عدا هذا إن كان ثم ملابسة وهذا شرط في المجاز فحينئذٍ يكون مجازًا عقليًا، وإن أُسند الفعل أو معناه إلى غيرٍ، هكذا في النسخة التي موجودة معكم، وفي ((دفع المحنة)) إلى عين ملابسٍ، يعني: ذات، فسرها بذات إلى عين ملابَسٍ الأصل بفتح الباء، الفعل هو الملابِس، والملابَس هو المتعلق به، أي: ذاتٌ أي: ذات ملابِسٍ غير ما هو له أو في معناه.

قال في الشرح: ووجد في النسخ بدل عين (غَيْرِ) بالراء وهو سهوٌ من الناظم أو تحريفٌ من الناسخ، يعني: يرى أن هذه النسخة التي معنى (غَيْرِ) هي عين، وضعت النقطة وجعلت النون راء، ويقول: هذا سهوٌ من الناظم - إن صح نسبته إلى الناظم - أو تحريفٌ من الناسخ. إذ لا كلام في غير الملابس، غير الملابس بالفعل وما في معنى الفعل ليس بالمجاز لماذا؟

ص: 17

لأن الذي يقال فيه مجازٌ ما له أدنى ملابسةٍ بالفعل، إن كان على وجه الفاعلية والمفعولية فهو ملابسٌ وهو حقيقة عقلية، إن كان ملابسًا له وليس واحدًا من اثنين بأن كان زمنًا له نهاره صائمٌ قلنا هنا: الصيام مع النهار فيه ملابسة أو لا؟ توجد ملابسة؟ الصيام أين يقع؟ في النهار إذًا ثم ملابسة يعني: علاقة ارتباط أدنى ارتباط، فالحدث الذي هو الصيام لا بد له من محل وهو النهار، إذًا نهاره صائمٌ أُسند الصيام إلى النهار لملابسةٍ بين الحدث الذي هو الصيام وكونه محلاً للصيام، ليله قائمٌ كذلك القول فيه، غير الملابس لا علاقة له به لا يمكن أن يقال بأنه مجازٌ، ففهم الشارح أن قوله:(غَيْرِ مُلَابِسٍ). بالإضافة (غَيْرِ مُلَابِسٍ) وإن أُسند الفعل أو معناه (إِلَى غَيْرِ مُلَابِسٍ)، غير الملابس لا دخل له هنا لأنه ليس بمجاز ولا حقيقة، وإنما يُسند الفعل أو معناه إلى ملابس وإلا لا يُسمَّى كلامًا، فـ (غَيْرِ مُلَابِسٍ) قال: هنا سهوٌ من الناظم أو تصحيفٌ من الناسخ إذ لا كلام في غير ملابَسٍ لأنه يقال: ملابسٌ غير ما هو له ويقال (غَيْرِ مُلَابِسٍ) فتأمل، هكذا قال الشارح.

وفيه نظر لأن غيرٍ إذا نونت حينئذٍ فككنا من أورده الشارح، غيرٍ إلى غيرٍ يعني: غير الفاعل والمفعول المرفوع (مُلَابِسٍ) شرطٌ في أن يكون هذا الغير ملابَس، إذًا لا إيراد، قد يكون التصحيف عنده هو، عين هي المصحفة، لذلك لا وجود لها، يعني: لم يعبر البيانيون في هذا الموضع بعين ملابسٍ، هذا لم يَرِدْ هنا، وإنما تعبيره (غَيْرِ مُلَابِسٍ) إلا إذا قيل الملابس نوعان:

ملابسٌ مباشرةً.

وملابسٌ ليس بمباشرةٍ.

الأول: الفاعل والمفعول.

والثاني: غير ملابس ما عدا الفاعل والمفعول. لا إشكال فيه. فإذا قيل (غَيْرِ مُلَابِسٍ) وعُنِيَ به غير الملابس مباشرةً. احترزنا به عن الفاعل و .. يحتمل هذا.

(وَإِنْ إِلَى غَيْرِ) أي: غير ما هو له أي: غير الفاعل والمفعول المرفوع ملابسٍ للفعل أو معناه بوجهٍ ما ن هذا تقدير الكلام، وإن أسند الفعل أو معناه إلى غير - كما ذكرنا - ما هو له؟ أي: لذاك الملابَس عند المتكلم في الظاهر، يعني: بأن لا يُسند إلى الفاعل فيما بُنِيَ للفاعل، وإلى المفعول فيما بُني للمفعول، بل يسند لملابَسٍ غير هذين الأمرين، أي متعلقٍ له غيرهما، سواءٌ كان ذلك الغير غيرًا في الواقع أو عند المتكلم في الظاهر. (مَجَازٌ) أي: فهو مجازٌ عقليٌ يعني يسمى بهذا العنوان.

ص: 18

الفعل وما في معناها له ملابساتٌ شتى، يلابس الفاعل تارة، والمفعول به تارة، والمصدر والزمان والمكان والسبب، أما المصدر فلكونه جزءًا من الفعل أو ما في معنى الفعل، وأما السبب قد يكون خارجًا لكنه له تأثيرٌ في الإحْدَاث، أما الزمان والمكان فهو واضح، فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيًا له حقيقة كما سبق، وكذا إذا المفعول إذا كان مبنيًا له واحترز عنهما بقوله: غير ما هو له. وإسناده إلى غيرهما لمضاهته لما هو له في ملابسة الفعل مجازٌ - على ما ذكرناه - كقوله في المفعول به {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] راضيةٌ هي أي: العيشة، راضيةٌ وليس مرضيٌ بها وليست راضية، الراضي هو الصاحب أليس كذلك؟ {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} راضيةٌ هي أَسْنَدَ راضية إلى الضمير، ومرجع الضمير العيشة، والعيشة راضيةٌ أو مرضيٌ بها؟

مرضيٌ بها، حينئذٍ أسند الشيء إلى غير ما هو له، فإن راضية مسندةٌ إلى ضمير العيشة فقد جعلت يعني: الـ {عِيشَةٍ} فاعلاً، قال:{رَّاضِيَةٍ} هي جعلت فاعلاً وهي ليست بفاعل وإنما هي مفعولٌ في المعنى لأنها مرضيٌ بها والراضي إنما هو صاحبها، فقد سلخ عنها معنى المفعولية وجعل مرضي به راضيًا، ومثله ماءٌ دافقٌ، دافقٌ اسم فاعل هو أي: الماء ماء دافق فاعل أو مفعول؟ مفعول أي: ماءٌ مدفوقٌ وواضحٌ هذا؟ وبعكسه سيلٌ مفعمٌ، سيلٌ مفعم، مفعم اسم مفعول هو السيل مُفْعِل مالئٌ أو مملوءٌ، مفعَم يعني: مملوء، طيب السيل مالئ أو مملوء، مالئٌ هنا أُسْنِدَ الشيء إلى غير ما هو له، والأصل أن يقول: سيلٌ مفعِمٌ. اسم مفعول من أُفْعِم، أُفْعِمت الإناء يعني: مُلِئَتْ، فالمملوء هنا هو الوادي، والسيل مفعِمٌ بالكسر لأنه مالئٌ لا مملوء، إذًا السيل مفعَمٌ هذا اسم مفعول والأصل أن يقول مفعِمٌ بالكسر لكنه أسنده إلى غير ما هو له، والمصدر شعرٌ شاعرٌ، شاعرٌ هو أي: الشعر هذا مثال الإيضاح وانتقد عليه. لكن المراد هنا المثال، وفي الزمان نهاره صائم، وليله قائم - كما مر معنا -.

وفي المكان طريقٌ سائرٌ، سائر الطريق هو أي: الطريق، الطريق يسير؟ لا، لا يسير، وهو مسيرٌ فيه، إذًا طريقٌ سائر تقول: هذا مجازٌ.

ونهرٌ جارٍ. النهر لا يجري الماء وإنما هو محل، وفي السبب بنى الأمير المدينة إذا كان آمرًا لعماله بنى الأمير، ما بنى وإنما أمر عماله هو سببٌ في البناء.

وقول الناظم: (مَجَازٌ أَوَّلَا [أُوِّلا]) يجوز الوجهان أُوِّلَا أي: هو، أي: الإسناد، أي: بتأولٍ، يعني: بنصب قرينةٍ صارفةٍ عن أن يكون الإسناد إلى من هو له، أو إلى ما هو له، يجوز الوجهان.

ص: 19

حينئذٍ الأصل في الكلام أن يُحمل على حقيقته، فإن قصد المتكلم أنه أراد بإسناد الشيء إلى غير ما هو له إذا قصد المجاز لا بد من نصب قرينة، يعني: الحكم على إسناد الشيء الفعل أو معناه إلى غير ما هو له أنه مجاز متى؟ إن وجدت قرينة، وإن لم توجد قرينة فحينئذٍ هو حقيقة عقلية؛ لأن الحقيقة العقلية عممناها، سواءٌ طابق الواقع أو لا، طابق الاعتقاد أو لا، حينئذٍ نقول: لو قال: خلق زيدٌ ذبابة. ويعتقد هذا، نقول: هذا حقيقة عقلية، لكنه كذب، فرق بين أن نُصَدّق ونكذّب، لا، هو كذب قطعًا لماذا؟ لكون الخبر لا واقع له. يعني: لم يطابق فهو كذبٌ، نقول: أنت كاذب لكنه حقيقةٌ عقلية، واضحٌ هذا؟

إذًا أي بنصب قرينةٍ صارفةٍ عن أن يكون الإسناد إلى ما هو له، فخرج نحو قول الجاهل: شفى المريض الطبيب. قلنا: هذا باعتبار الواقع كذب؛ لأن الشافي هو الله عز وجل إلا إذا قلنا بأنه سبب - هذه مسألةٌ أخرى - أما إذا اعتقد أن الشافي بذاته هو الطبيب فهذا كذبٌ، ولكنه لما وافق اعتقاده حينئذٍ صار حقيقةً عقلية، وحملناه على الحقيقة العقلية لا المجاز لكونه لم ينصب قرينة بأن هذا الكلام الذي أَسْنَدَ الشيء إلى غير ما هو له فأسند الشفاء إلى الطبيب وهذا إسناد الشيء إلى غير ما هو له، ولم ينصب قرينة [حملناه على القرينة](1) حملناه على الحقيقة العقلية، فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأولٍ ومثله أنبت الربيع البقل، فإن هذا الإسناد وإن كان إلى غير ما هو له في الوقع لكن لا تأول فيه لأنه مراده ومعتقده وخرجت الأقوال الكاذبة فإنها لا تأول فيها، يعني: كل ما لم يطابق الواقع أو الاعتقاد وأُسند الشيء إلى غير ما هو له إن لم ينصب قرينة فهو حقيقةٌ عقلية، فإن نصب قرينة تدل على أن ظاهره غير مراد فهو مجازٌ عقلي، وهذا واضحٌ بين.

وعليه فكل تركيبٍ إسنادي لا يحمل على المجاز. هذه النتيجة. كل تركيبٍ إسنادي لا يحمل على المجاز حتى يَظُنّ أو يعلم يعني: المخاطَب أن قائله لم يُرِدْ ظاهره بأن يؤوله فإن شُكَّ في ذلك فيحمل على الحقيقة لأنها الأصل.

إذًا نشترط في الحكم بكون الإسناد مجازيًا إذا أسند الفعل أو معنى الفعل إلى غير ما هو له أن ينصب قرينة، إما لفظية، وإما حالية. ولذلك قالوا: إذا تكلم الموحد قال: شفى الطبيب المريض. هذا صارت قرينة لأنه موحد يعتقد أن الله تعالى هو الشافي والاشتراط القرينة لم يحمل قول الشاعر:

أشاب الصغير وأفنى الكبير

كَرُّ الغداة ومر العشي

على المجاز، لم يحمل على المجاز مع أنه ماذا؟ أسند كر الغداء أشاب الصغير، كَرُّ الغداة ومر العشي هذا من أجزاء الزمان، كر الغداة أشاب الصغير، أليس كذلك؟ وأفنى الكبير إذًا أسند الشيء إلى غير ما هو له. يأتي هذا التركيب البيت هل هذا حقيقة عقلية أو مجازٌ عقلي؟

(1) سبق.

ص: 20

أولاً: تنظر أشاب هذا مُسند إلى ماذا؟ كَرُّ الغداة، إذًا أَسند شيء إلى الزمن، والزمن لا يحدث شيئًا، إذًا أسند الشيء إلى غير ما هو له هذا أولاً، هل نصب قرينةً تدل على أن الظاهر يخالف معتقده أم لا؟ أين القرينة؟ لا قرينة. إذًا تقول: هذه حقيقة عقلية مع كونه أسند الشيء إلى غير ما هو له، فليس كل تركيبٍ فيه إسناد الشيء إلى غير ما هو له تحكم عليه مباشرة أنه مجاز، لا، ليس هذا المراد، وإنما لا بد من نصب القرينة، فالاشتراط القرينة في ذلك نحمل هذا الكلام من الشاعر على أنه أراد به الحقيقة، يعني: يعتقد أن الذي أحدث وأفنى أشاب وأفنى هو كَرّ الغداة ومر العشي، هذا لا نحمله على المجاز، بل هو حقيقةٌ عقلية، فَكَرُّ الغادة ومر العشي هما من أجزاء الدهر وهو الزمن حيث أسند أشاب وأفنى إلى الكَرّ والمَرِّ، وحملناه على الحقيقة العقلية لعدم قيام القرينة المفيدة للعلم أو الظن منا بأن قائله لم يتعقد ظاهره، بل الأصل أن من تكلم بكلامٍ أنه يعتقد ذلك الظاهر لاحتمال أن يكون معتقدًا له ويكون حقيقة، وحملنا قول الشاعر:

.....................

مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ

جذب الليالي أبطئِ أو أسرعي

......................

على المجاز العقلي، هنا ماذا؟ أسند ميَّزَ، هذا الْمَكْنِيّ به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي، ميَّزَ جذب الليالي كسابقه، لكن أسند الشيء إلى غير ما هو له، حقيقة أو لا؟

الأصل هنا باعتبار هذا البيت تقول: هذا حقيقة. لكن دلت القرينة على أنه موحد ويعتقد أن الله عز وجل هو المحدِث ولذلك قال في نفس القصيدة:

أفناه قيل الله للشمس اطْلُعِي

حتى إذا وراكِ أفقٌ فارجعي

فدل على أن قوله: ميَّز جذب الليالي، لم يرد به الحقيقة وإنما أراد به المجاز العقلي، لأنه ثبت عندنا أن معتقده يخالف ذلك، فحينئذٍ يكون قرينةً صارفةً للفظ عن ظاهره. إذًا نحمل قوله:

...................

مَيَّزَ عَنْه قُنْزُعًا عَنْ قُنْزِعٍ

جذب الليالي ..............

......................

على المجاز العقلي حيث أسند ميَّز المكني به عن الشيب في الرأس إلى جذب الليالي أي: مضيها، ووجدت القرينة الدالة على أنه لم يرد بها الإسناد ظاهره، بل هو معتقِدٌ خلافه كقوله للبيت الذي ذكرناه سابقًا.

إذًا نقول: الأصل في التركيب أنه يُحمل على الحقيقة إلا إذا دلت القرينة الظاهرة اللفظية أو الحالية على أنه أراد غير ذلك، يعني: يعتقد غير ذلك، فالقرينة حينئذٍ في هذا المجاز تدور مع اعتقاد المتكلم، فإن عُلِمَ يعني: من جهة السامع أو ظُنَّ أن المتكلم موحد حينئذٍ حُمِلَ قوله: على المجاز وصَدَّقَهُ، وإن عَلِمَ أو ظُنَّ أو عُلِمَ أو ظُنَّ أنه دُهُريٌّ مثلاً حمّله على الحقيقة وكذب قائله.

ص: 21

(وَالْفِعْلُ أَوْ مَعْنَاهُ إِنْ أَسْنَدَهُ لِمَا لَهُ فِي ظَاهِرٍ) يعني: في ظاهر الكلام من حاله (ذَا عنْدَهُ)، (عنْدَهُ) الضمير يعود إلى المتكلم، يعني: في الظاهر من كلامه لئلا يكون قرينة على خلاف قول حقيقة عقلية، وإن أسند الفعل أو معناه إلى غيرٍ، وهذا الغير مراد به غير الفاعل والمفعول به بشرط أن يكون هذا الغير ملابَس بالفعل أو ما في معناه (مَجَازٌ) أي: عقليٌ (أُوِّلَا) هذا شرطٌ في الحكم بكونه مجازًا عقليًا وهو القيام قرينة اللفظية أو الحالية، والله أعلم.

وصلََّ الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

على كلٍّ درس التفسير هذا إن شاء الله يأتي، بس نريد، لكن نريد الطلاب يكونوا بيِّنين، لأن التفسير سيطبق فيه إعراب وصرف وبيان واستعارة، وإذا الطالب ما كان متصور تبقى هنا الإشكال في الدرس، وفيه صعوبة، وأما ((إحكام الأحكام)) هذا ما أدري عنه، هل يستأنف أم لا؟

والله أعلم.

ص: 22