المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة رب يسر وأعن برحمتك الحمد لله نستعينه ونستغفره، - شرح مقدمة التفسير لابن تيمية - العثيمين

[ابن عثيمين]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌المقدمة رب يسر وأعن برحمتك الحمد لله نستعينه ونستغفره،

بسم الله الرحمن الرحيم

‌المقدمة

رب يسر وأعن برحمتك

الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً.

الشرح

هذه الخطبة تسمي خطبة الحاجة، يخطبها الإنسان عندما يريد أن يتكلم عن حاجة يريدها، سواء كانت زواجاً أو أي شيء مما يحتاجه من أمور دينه ودنياه، ولهذا تسمي خطبة الحاجة، وهذه الخطبة ننبه على فقرات فيها.

فقوله: (مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فلا مضل له) أي من يقدر له الهداية فلا أحد يستطيع أن يضله، وكذلك لا أحد يستطيع أن يخرجه من الهداية إذا هدى هداية التوفيق.

وقوله: (ومَنْ يُضْلِلِ فَلا هَادِيَ لَهُ) أي: من يقدر له الضلالة فلا أحد يهديه، سواء كان في الضلالة وأراد أحد أن ينتشله منها أم لا.

وقوله: (أَشْهَدُ) مع أن الأفعال التي قبلها لضمير العظمة: (إن الحمد لله نستعينه ونسنغفره) قالوا: لأن الإفراد يناسب التوحيد (وأشهد أن لا إله إلا الله) ، هذا توحيد لله عز وجل، فالأنسب أن يوحد

ص: 5

لفظ الفعل (أشهد) ولا يؤتي بالنون الدالة على العظمة، أو على المتكلم ومعه غيره.

فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كليه، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه والتمييز - في منقول ذلك ومعقوله- بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل.

الشرح

يعني المؤلف (1) بهذا الكلام أن تأليفه للكتاب له سبب، وسببه سؤال بعض الإخوان أن يكتب له في هذا الموضوع، والتأليف قد يكون ابتدائيا من المؤلف، حين يرى حاجة الناس إلي موضوع معين، فيكتب فيه، وقد يكون له سبب مثل سؤال بعض الناس له أن يكتب في هذا الموضوع المعين، فالأول يكون مسؤولاً بلسان الحال، والثاني يكون مسؤولاً بلسان المقال.

فإن العالم إذا رأى الناس محتاجين إلي شيء وألفَ فيه، فإن حال الناس تستدعي أن يبين لهم هذا الأمر الذي وقعوا فيه، حتى يعرفوا حكمه، ويتعبدوا لله فيه على بصيرة، وكذلك قد يسأل عن أمر معين.

يقول المؤلف: (قواعد كليه) ، القواعد جمع قاعدة، وهي أساس الشيء، ومنها قواعد البيت أي أساساته، فهي الأساسات

(1) هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن الإمام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن على بن عبد الله بن تيمية الحراني، ولد في 661هـ، وتوفي في 728هـ.

ص: 6

التي تعين على فهم القرآن، وحينئذ نعرف أن هذه القواعد قواعد في التفسير؛ لتفسير القرآن، لأن فهم القرآن أحد الأمور الثلاثة التي قصدت بإنزال القرآن.

فالقرآن الكريم نزل لأمور ثلاثة: التعبد بتلاوته، وفهم معانيه والعمل به، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها، وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.

أما لفظ القرآن فلا يكاد يشكل على أحد، أو يعسر عليه؛ لأنه يقرؤه العامي والعالم والمتعلم، وأما فهمه فهو الذي يحتاج إلي تعلم وتفكر وتدبر، وأما العمل به فهو أشد على النفوس وأعظم؛ لأن النفس تحتاج إلي مجاهدة في إلزامها بما تقتضيه الحال؛ من تصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب النهي. وتأمل قوله تعالي:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ)(صّ: 29) حتى يتبين لك أنه لا بد من فهم القرآن، ولابد من العمل به.

وقول المؤلف رحمه الله في هذا المقام: (ومعرفة تفسيره ومعانيه) كل هذا من باب عطف التفسير أو عطف المترداف، كقول الشاعر:

فألفى قولها كذباً ومينا

وذلك لأن فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه أمور متقاربة، وإن كان فهم القرآن يتضمن فهم معناه، وفهم حكمه وأسراره، لأن القرآن له معاني، ولهذا المعاني والأحكام حكم واسرار، ثم قد يقال: إن التفسير غير المعنى، فالتفسير تفسير اللفظ، والمعنى هو ما يراد

ص: 7

بالكلام، وسيأتي من ذلك أمثلة إن شاء الله.

فالتفسير هو تفسير اللفظ فقط، كأن يفسر هذه الكلمة كما فسرها صاحب القاموس، فمثلاً قوله تعالي:(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا)(الأنعام: 158)، تفسيرها اللفظي أن تقول: يوم يأتي شيء من آيات الله الدالة على قدرته مثلا والمراد بها طلوع الشمس من مغربها، فهنا صار فرق بين المعني اللفظي، أي: التفسير اللفظي والتفسير المعنوي الذي يراد، ولهذا فالقرآن يفسر على الناحيتين تفسيراً لفظياً مطابقاً للفظ فقط، وتفسيراً معنوياً، وهو ما يراد به، ثم قد يتوافقان وقد يختلفان.

فالمهم أننا إذا أردنا أن نجعل العطف في كلام المؤلف على التأسيس لا التوكيد والترداف، فنقول: إن فهم القرآن يريد به الحكم والأسرار التي يتضمنها، ومعرفة تفسيره، يعني اللفظ فقط، ومعانيه، أي: معرفة المراد به.

وقوله: (والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل) أفاد المؤلف- رحمه الله أن تفسير القرآن نوعان: نقلي وعقلي، ولكن يجب أن يكون التفسير العقلي غير مخالف للتفسير النقلي؛ لأن التفسير النقلي مقدم عليه، وذلك لأن العقول يلحقها من الشبهات والشهوات ما يحرمها الوصول إلي معرفة الحق بخلاف المنقول، ومع ذلك ففي المنقول شيء من الباطل، ففيه إسرائيليات كثيرة أدخلت في التفسير، وفيه أحاديث موضوعه وضعيفة أدخلت أيضاً في التفسير، فاحتاج الإنسان إلي أن يعرف ما يميز بين الحق وأنواع الأباطيل.

وقوله: (والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل)، أي: سواء

ص: 8

كان الدليل نقلياً أم عقلياً؛ لأنه يجب أن نعتبر الدليل العقلي في القرآن ما لم يخالف المنقول، وإلا فالعقل لا شك أن له مدخلاً كبيراً في فهم القرآن ولهذا يأمرنا عز وجل بالتفكير في كثير من آيات القرآن الكريم، بل إن التدبر في قوله تعالي:(لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه)(صلي الله عليه وسلم: 29) ، يدخل فيه المعنى العقلي الذي يدركه الإنسان بعقله.

* * *

فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين.

والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.

الشرح

(العلم الحقيقي هو إما نقل مصدق عن معصوم) وهو الرسول صلي الله عليه وسلم وإما قول عليه دليل معلوم، يعني قول لبعض من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لكن عليه دليل معلوم من المعقول أو المنقول، ولهذا نحن نثبت دليل القياس، وهو من الدليل العقلي.

وهذه ينبغي أن نجعلها قاعدة لمعرفة العلم الحقيقي، فالعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم.

وما سوى ذلك فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود

ص: 9

في هذا الكلام سجع، والسجع إذا لم يكن متكلفاً فإنه لا شك يزين الكلام ويحببه إلي النفس، ولهذا يقع أحياناً في كلام الرسول عليه الصلاة والسلام لكن بدون تكلف.

والمؤلف يقول: (وما سوي ذلك) المشار إليه أي: النقل المصدق عن معصوم والقول الذي عليه دليل (فإما مزيف مردود) وهذا يكون في مقابل النقل المصدق، (وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود) يعني أننا نتوقف فيه.

فالأقسام حينئذ ثلاثة: ما علمت صحته وهو الأول، وما علم بطلانه وهو الثاني، وما يجب التوقف فيه وهو الثالث، الذي لا نعلم هل هو من النقل المصدق عن معصوم، أو من القول الذي عليه دليل معلوم، أو أنه مزيف ومردود، فلا نعلم هذا ولا هذا، فالأول مقبول، والثاني مردود، والثالث متوقف فيه.

والبهرج هو المغشوش، وبهرج النقود من الذهب والفضة هي المغشوشة، والمنقودة أي: السالمة من الغش.

* * *

وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثيرة الترديد ولا تنقضي عجائبه.

الشرح

هنا يقول المؤلف- رحمه الله: إن الناس محتاجون إلي فهم كتاب

ص: 10

الله، وهذا واضح، فحاجة الناس إلي فهم كتاب الله ظاهرة جداً، فإنهم في حاجة بل في ضرورة إلي فهم كتاب الله؛ لأنه الكتاب الذي أمروا باتباعه، والإنسان لو يؤمر باتباع كتاب مؤلف من المؤلفين احتاج إلي معرفته وشرحه فكيف بكتاب الله عز وجل.

ثم وصف المؤلف القرآن الكريم بعدة أوصاف، فقال عنه:((الذي هو حبل الله المتين)) حبل الله لأن الله تعالي هو الذي وضعه، والحبل في الأصل: ما يتوصل به إلي غيره، كالسبب تقريباً؛ ولهذا فسر قوله تعالي:(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)(الحج: 15)، أي: بحبل ووصف بأنه حبل الله لأنه موصل إلي الله عز وجل.

ووصفه بقوله: ((والذكر الحكيم)) وقد أخذ المؤلف- رحمه الله هذا الوصف من قول الله تعالي: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)(آل عمران: 58) ، فهو ذكر، لأنه مذكر، وهو ذكر، لأن فيه الذكري لمن تمسك به ورفع ذكره، كما قال تعالي:(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك)(الزخرف: 44) يعني رفعة وشرفاً. والحكيم: معناه المحكم أو المتضمن للحكمة البالغة في أحكامه.

وقوله: ((والصراط المستقيم)) الصراط معناه الطريق، والمستقيم معناه المعتدل الذي ليس فيه ميل.

وقوله: ((والذي لا تزيغ به الأهواء)) الزيغ: معناه الميل، ومنه: زاغت الشمس إذا مالت، يعني أن أهواء الناس مهما عظمت لا يمكن أن تزيغ به، بل إنه باق ثابت مهما سلط الناس عليه من الأهواء فإنها

ص: 11

لا تزيغ به لأنه هدى.

وقوله: ((ولا تلتبس به الألسن)) تلتبس: أي تختلط، لأنه بلسان عربي مبين فلا يمكن أن تختلط به الألسن، ولهذا حتى الإنسان الأعجمي لو قرأه يقرؤه بلسان عربي، ولهذا كان من غير الممكن أن يترجم القرآن ترجمة حرفية أبداً.

وقوله: ((ولا يخلق من كثرة الترديد)) معني يخلق: أي يبلى، فهو على جدته، مهما كرره الإنسان فكأنه لم يقرأه من قبل، لكن الإنسان إذا كرر أبلغ قصيدة من قصائد العرب- من المعلقات السبع أو غيرها- أو كرر أبلغ خطبة خطبها الخطباء كما يكرر القرآن لمل وسئم، لكن من القرآن ما نقرؤه في الصلاة الواحدة أكثر من مرة ومع ذلك لا نمل، وهذه من آيات الله عز وجل في هذا القرآن الكريم.

وقوله: ((ولا تنقضي عجائبه)) لا تنقضي عجائبه لمن أعطاه الله تعالي فهماً لكتابه، فإنه يتذوق فيه المعاني العظيمة الكثيرة، أما المعرض عنه فإنه قد لا يرى فيه عجباً واحداً، لكننا هنا نصف القرآن من حيث هو قرآن، بقطع النظر عن القارئ.

* * *

ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.

الشرح

كل هذه الأوصاف حق يعرفها المتأمل، فإن العلماء لا يشبعون

ص: 12

منه، وكلما كان الإنسان بالله أعلم وبشرعه أعلم كان لكتابه أحب، فتجده دائماً يفكر ويتدبر هذا القرآن، سواء كان في مجلس العلم، أو وهو يمشي، أو في أي مكان، فالإنسان لا يشبع منه أبداً.

وكذلك أيضاً: ((من قال به صدق)) لأنه قال قولاً هو أصدق الأقوال، فإذا قال قائل: إن الكافر في نار جهنم فقد صدق؛ لأنه قال بماء جاء به القرآن.

وقوله: ((ومن عمل به أجر)) يعني أثيب على عمله.

وقوله: ((ومن حكم به عدل)) من حكم به عدل سواء كان الحكم فصلاً بين الناس، أو كان هذا الحكم حكماً مطلقاً فمن قال: إن الميتة حرام، فقد عدل، ومن قال: إنه يجب العدل بين الزوجات مثلاً فقد عدل؛ لأن هذا الحكم في القرآن، ومن قال:(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(البقرة: 194) ، فقد عدل.

كذلك يقول: ((ومن دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم)) ، يعني هداه الله، فالإنسان إذا دعا إلى القرآن، فقد هدي إلي صراط مستقيم، أما إذا دعا إلي الهوي، وحرف القرآن من أجل هواه فإنه يضل، ولهذا قال:((ومن ابتغي الهدى في غيره أضله الله)) .

((ومن تركه من جبار قصمه الله)) ومعني قصمه: في الأصل يغني قطع ظهره، ولكن لا يرد علينا أننا نجد من الجبابرة الآن من ترك القرآن، لأننا نقول: إن القصم قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، فهذا إن فاته في الدنيا لم يفته في الآخرة.

ص: 13

* * *

قال تعالي: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه: 123-126) .

الشرح

قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) هذه الجملة جملة شرطية، لأن أصلها إن ما، وما زائدة للتوكيد، وفعل الشرط: يأتينكم، وجواب الشرط جملة:(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى) وهذه الجملة أيضاً جملة شرطية، فالجملة الشرطية الثانية- من فعل الشرط وجوابه- جواب للشرط الأول.

وقوله تعالي: (فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) أي: لا يضل في علمه، ولا يشقي في عمله، وقيل: لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة، والمعنيان متلازمان، لكن الغالب أن الضلال في مقابلة العلم والهدي، وأن الشقاء في مقابلة السعادة.

وقوله تعالي: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)(طه: 124) قيل: إن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وأنه يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.

وقيل: إن المراد بالمعيشة الضن معيشته في الدنيا، وأنه وإن كان في سرور ظاهر، فإن قلبه في ضيق وضنك، كما قال الله تعالى:

ص: 14

(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(الأنعام: 125) وكما قال تعالى:. (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(النحل: 97) ، فإن هذا يدل على أن من ليس كذلك فحياته غير طيبة.

وقوله تعالي: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وذلك حساً ومعني، ولهذا يقول:(رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً)(قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا) يعني تركتها ولم تعمل بها، (وَكَذَلِكَ الْيَوْم تُنْسَى) يعني تترك.

والشاهد أن هذا فيه دليل على أن التمسك بهذا القرآن سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، وأن المتمسك به لا يضل ولا يشقى، وأن الإعراض عنه سبب للشقاء في الدنيا والآخرة.

* *

وقال تعالي: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)(15)(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(المائدة: 15-16) .

الشرح

علم من هذا القرآن موحى به، وأنه سبب الهداية بإذن الله، وأن المهتدي به من اتبع رضوان الله، كما قال تعالي:(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: 2) وقال تعالي: (يَايُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ

ص: 15

مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 57) .

ثم يقول: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)(المائدة: 16) وسبل السلام مفعول ثان ليهدي، لأن ((يهدي)) فعل ينصب مفعولين؛ الأول: من اتبع، والثاني: سبل السلام.

وفي هذه الآية قال تعالي: ((يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) مع أن سبيل الله واحد كما قال الله تعالي: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(الأنعام: 153) والجمع بين الآيتين أن يقال: إن سبيل الحق واحد، لكن له فروع وشعب، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وجهاد، وبر، وصلة وما أشبه ذلك، فهذه سبل لكنها تجتمع كلها في سبيل واحد، وأيضاً لا يمكن أن تطلق سبل ويراد بها الإسلام، وإنما تضاف كما في قوله:(سُبُلَ السَّلامِ) فإذا كانت كلها مؤدية إلي السلام فهي الإسلام.

وقوله عز وجل: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه) أي: المعنوية؛ لأن القرآن هدايته معنوية، فيخرجهم من الظلمات أي: ظلمات الجهل، وظلمات القصد، وظلمات الجهل ألا يكون عند الإنسان علم، وظلمات القصد أن يكون عنده علم لكن لا يريد الحق ولا يؤمن به، إذاً فالنور نور العلم ونور العمل.

وقوله: (بِإِذْنِه) في الآية: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) قد يقول قائل: كيف قال الله تعالى يهدي به بإذنه مع أن الله تعالى لا يهدي إلا بعد

ص: 16

أن يريد؟ فيقال: إن قوله: (بِإِذْنِه) متعلق بقوله: ((مَنِ اتَّبَعَ)) يعني من اتبع رضوانه بإذنه؛ لأن الإنسان لا يستقل بعمله ولا رأيه، فهو لا يفعل إلا بإذن الله.

وقوله تعالي: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، هذا من باب عطف الصفة، لأن قوله (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) هو معني قوله تعالي:(وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلا أن تفسر الهداية الأولي بهداية التوفيق، والثانية بهداية الدلالة، ولهذا عديت الثانية بإلي وعديت الأولي بنفسها، ويكون المعني: أن من اهتدي بالإسلام زاده الله تعالي علماً، كما في قوله تعالي:(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً)(محمد: 17) .

* **

وقال تعالي: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (ابراهيم: 1-2) .

الشرح

هذا كالأول تقريباً لكن فيه فائدة، وهي صحة إضافة الشيء إلي سببه المعلوم لقوله: لِتُخْرِجَ يعني أنت، مع أن المخرج حقيقة هو الله، ولهذا قيده بقوله:(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، حتى لا يظن أن السبب مستقل، فإضافة الشي إلي سببه المعلوم أمر جائز، ولا أحد ينكره، فقد جاءت به السنة، وجاء به القرآن إذا كان السبب معلوماً، إما

ص: 17

بالشرع وإما بالحس والواقع، ولكن هذا السبب يجب إذا اعتقدت أنه يحصل به الشي فيجب أن تعلم أن هذا السبب ليس مؤثراً بنفسه، بل بإذن الله الذي جعله سبباً، ولهذا قال هنا:(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) .

وقوله: (الْحَمِيدِ) بوزن الفعيل، وهل هو بمعني فاعل أو بمعني مفعول أو بمعناهما؟ الجواب أنه بمعناهما، فهو محمود سبحانه وتعالى على أفعاله وصفاته، وهو حامد لعباده الذين يستحقون الحمد والثناء.

وقوله: (اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأرْضِ) لفظ الجلالة هنا بدل من العزيز.

* * *

وقال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ (52) مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (الشورى: 52-53) .

الشرح

قال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) ، (رُوحاً) أي القرآن، وسماه الله تعالي روحاً، لأن به الحياة المعنوية، وإن شئت فقل الحقيقية أيضاً، لأن من اهتدي به فإن له الحياة الكاملة في الدنيا وفي الآخرة.

وقوله (رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) يعني مما نأمر به ونوحي به، وبهذا

ص: 18

استدللنا على أن القرآن غير مخلوق، من قوله (ً مِنْ أَمْرِنَا) ووجه ذلك أن الله قال في آية أخري:(ِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر) فجعل الأمر قسيماً للخلق، والقرآن من الأمر لا من الخلق، فتبين بهذا أن القرآن غير مخلوق.

وقوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) فالفعل تدري ينصب مفعولين علقت بما الاستفهامية، وما: استفهام مبتدأ، والكتاب خبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب سد مسد مفعولي تدري؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي إليه.

وقوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) يعني: صيرنا هذا الروح الذي أوحينا إليك نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وكلمة (مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) عامة، ولا ندري من الذي يشاء الله أن يهديه بالقرآن، لكن إذا رجعنا إلي الآية التي قبلها صار الذي يهديه به الله من اتبع رضوانه من عباده.

وقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، قال هنا (نَهْدِي بِهِ) وفي نفس الآية:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) ..لكن بين الهدايتين فرق، (نَهْدِي بِهِ) هداية توفيق وهداية ولابة، ولهذا عديت بنفسها (تهدي به من) ، وأما (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهي هداية دلالة، فالرسول صلي الله عليه وسلم يهدي لله، ولا يهدي من، قال تعالى:(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت)(القصص: من الآية56) ، لكن (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط) فهو عليه الصلاة السلام يدل الناس، لكن ليس بيده هداية التوفيق.

يقول تعالي: (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض)

ص: 19

هنا أضيف الصراط إلي الله عز وجل وقد أضيف في سورة الفاتحة إلي غير الله، فقال تعالي (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ولا تعارض بين الإضافتين، فإن إضافته إلي الله باعتبار أنه هو الذي وضعه لعباده، وأنه موصل إليه، وإضافته إلي الناس في قوله:(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) باعتبار أنهم أهله وسالكوه، فالإضافة مختلفة، فلهذا صح أن تضاف إلي هذا تارة وإلي هذا تارة.

وقوله: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) الأمور هنا أي الشؤون، فكل الأمور الدنيوية والأخروية، الشرعية والكونية، كلها تصير إلي الله سبحانه وتعالي، ولهذا لا مرجع للخلق إلا ربهم سبحانه وتعالي، في جميع أحوالهم وشؤونهم الدينية والدنيوية، كما قال تعالي:(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)(الشوري: 10) وكذلك الأمور الكونية (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(88)(سَيَقُولُونَ لِلَّه)(المؤمنون: من الآية88-89) .

وتصدير الجملة بألا في قوله تعالي: (أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) للتنبيه الدال على الأهمية، وتقديم المتعلق يفيد الحصر، يعني: ألا إلي الله لا إلي غيره.

* *

وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد، والله الهادي

إلى سبيل الرشاد.

الشرح

يقول المؤلف: ((وقد كتبت هذه المقدمة)) ، والمقدمة يجوز فيها

ص: 20