المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسالة الإمام ابن لب الغرناطي في مسألة تعيين محل دخول الباء - عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد - مجلة الجامعة الإسلامية - ٧٣ - ٧٤

[الجلال السيوطي]

الفصل: ‌رسالة الإمام ابن لب الغرناطي في مسألة تعيين محل دخول الباء

‌رسالة الإمام ابن لب الغرناطي في مسألة تعيين محل دخول الباء

[رسالة i الإمام ابن لبّ الغرناطي في مسألة تعيين محل دخول الباء]

وقد ألف في هذه المسألة الإمام أبو سعيد فرج بن قاسم بن لُبَ الغرناطي ii رسالة حسنة، ولا بأس بإيرادها هنا لتستفاد، قال:

الحمد لله الذي جعل العلوم الشرعية مناهل صافيةً تورد، ومصابيح نيِّرةً توقد، وقيّض لها حملة مجالسها عليهم تُعقد، وأحاديثها لديهم تنشد، وزيفها لديهم ينقد، وضالتها عليهم تنشد، والصلاة والسلام على نبيِّه ورسوله أفضل صلاة تامة، وأزكى سلام سرمديّ مؤبَّد.

وبعد فإني سئلت عن مسألة تعيين محل دخول الباء من مفعولي بدَّل وأبدل iii وما يراجع إليهما في المادّة. وكان الذي حمل السائل على السؤال عن ذلك أنه سمع بعض علماء اللسان ينكر مثل قول القائل: فعمّا قليل يبدّل العُسْرُ باليُسْر، يزعم أنه لحن، خارج عن كلام العرب، وأن صواب الكلام يبدّل اليُسر بِالعسر، أَي يجعل اليُسر بديل العُسْرِ وعِوَضه. قال: فإنما تدخل الباء بعد هذا الفعل أبدا على المتروك، ويجرّد الحاصل منها، فهو الذي يقام مقام الفاعل على اللزوم. فصوّبت للسائل ذلك المقال، وأنكرت ذلك الإنكار. فسألني تقييد المسألة ببسط وبيان، فقلت في الجواب، والله سبحانه المستعان:

i قام بتحقيق هذه الرسالة الأخ الدكتور عياد الثبيتي، ونشرها في مجلة معهد المخطوطات العربية بالكويت- المجلد التاسع والعشرون/ الجزء الأول ص – 163، لعام 405اهـ/ 1985، معتمداً على كتاب عقود الزبرجد للسيِوطي.

ii هو أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لبّ الغرناطي المالكي، من أكابر علماء المالكية، وقلَ من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته ومن مصنفاته: شرح جمل الزجاجي، شرح تصريف التسهيل، الباء الموحدهَ، القصيدة النونية، الفتاوى. توفي سنة 782 هـ. انظر: الإحاطة في أخبار غرناطة 4/ 233، الكتيبة الكامنه 67، نفح الطيب 5/ 512، بغية الوعاة 2/243، الديباج المذهب 2/ 139.

iii كان المرحوم عباس حسن، عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة قد قدم إلى لجنة الأصول، مذكرة عرض فيها لطائفة من أقوال اللغويين، التي تفيد عدم لزوم دخول الباء على المتروك، كما تقتضي القاعدة المشهورة، فكان قرار اللجنة ما يلي (ينص كثير من اللغويين على أن "باء البدل" لا تدخل إلا على المتروك

وهناك من ثقاتهم من يقول إنها كذلك تدخل على المأخوذ، كما جاء في المصباح المنير ومختار الصحاح وتاج العروس. وترى اللجنة أن "باء البدل " يجوز دخولها على المتروك أو على المأخوذ، والمدار في تعيين ذلك السياق) .

وعرض قرار اللجنة على مجلس المجمع بالجلسة الثانية والعشرين من الدورة الثامنة والثلاثين فلم ير المجلس داعياً لوضعه. انظر: كتاب الألفاظ والأساليب ص 36-37 الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة 1977 م.

وقد أشار المرحوم عباس حسن إلى هذه المسألة أيضاً في باب حروف الجر من كتاب النحو الوافي ج 2 ص 491 الحاشية.

ص: 77

إن لأفعال هذه المادة في الاستعمال أربعة أوجه i:

أحدها: أن يقصد بالتبديل أو الإبدال تغيير الشيء بنقله وتحويله، فيتعدى إلى اسمين منقول ومنقول إليه، ومحل دخول الباء في هذا الوجه إنما هو العوض الحاصل، ويجرّد المتروك لأنه المغيّر، فإنما تريد أخلفت هذا بذاك ونسخته به، وعلى هذا يصح ما أنكره المنكر. قال ثعلب:"التبديل تغيير الصورة إلى غيرها"ii

وقال الفراء: "كل ما غيّر عن حاله فهو مبدَّل، وقد يجوز التخفيف"iii

وقال ابن النحاس iv: "بدّلت خاتمي أي غيّرته"v

وقال الزمخشري في قوله تعالىِ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} vi: "التبديل هو التغيير، كقولك: بدّلتُ الحلْقة خاتما، إذا أذبتها وسويتها خاتما، فنقلتها من شكل إلى شكل، قال: فهو تغيير في الصفات. قال: وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلتُ الدراهم دنانير"vii.

وقال في قوله تعالى: {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} viii: "كأنهم غّيروا شكرها الواجب عليهم إلى الكفر، لما وضعوا الكفر مكانه"ix.

ومما يدخل تحت ترجمة التغيير قوله تعالى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} x {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} xi {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} xii {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} xiii {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} xiv {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} xv {أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} xvi.

i وانظر في استعمالات "بدّل" دراسات لأسلوب القرآن الكريم للمرحوم الشيخ عضيمة القسم الثالث ج2 ص 327 وما بعدها.

ii انظر قول ثعلب في تاج العروس مادة (بدل) . وفي إعراب القرآن للنحاس 1/228: قال أحمد بن يحيى: يقال بدّلت الشيء أي غيّرته ولم أزل عينه، وأبدلته: أزلت عينه وشخصه، كما قال: عزل الأمير للأمير المبدل. وانظر: تفسير القرطبي 1/ 410.

iii معاني القرآن للفراء2/ 529.

iv أحمد بن محمد بن إسماعيل، أبوجعفر النحاس، كان من أهل العلم بالفقه والقرآن، سمع من الزجاج وأخذ عنه النحو من مصنفاته: إعراب القرآن، تفسير كتاب سيبويه، التفاحة في النحو. توفي سنة 338 هـ. انظر أنباه الرواة 1/136.

v إعراب القرآن لابن النحاس 2/373.

vi سورة إبراهيم: آية 48.

vii الكشاف للزمخشري 2/ 384 طبعة الحلبي.

viii سورة إبراهيم: آية 28.

ix الكشاف 2/377.

x سورة الأنعام: آية 34.

xi سورة فاطر: آية 43.

xii سورة يونس: آية 64.

xiii سورة الفتح: آية 15.

xiv سورة يونس: آية 15.

xv سورة البقرة: آية 181.

xvi سورة غافر: آية 26.

ص: 78

ومما جاء من هذا مع دخول الباء على الحاصل قول حبيب:

بِسَيْبِ ابب العبّاسِ بُدّلَ ازلُنا

بخفْضٍ، وصِرْنا بَعْدَ جَزْرٍ إلى مَدِّ i

فأدخل الباء على الحاصل حين رفع المتروك. ومنه قول أبي الطيّب ii:

أبْلَى الأجِلَّةَ مُهْري عند غيرِكُمُ

وبُدِّلَ العُذْرُ بالفُسطاطِ والرَّسَنُ iii

يقول: طال مقامي عند غيركم لأنه أكرمني، ولم يسأم مثواي عنده، حتى بلي جُلُّ مهري بطول مكثه على ظهره، وتعوّض منزل الفسطاط من عذاره ورسنه.

وقوله أيضا من قصيدة يمدح بها كافورا iv، وكان أسود:

مَنْ لبيضِ المُلوكِ أنْ تُبْدل اللو

نَ بِلَوْنِ الأستاذ والَسَحْناءِ v

يقولَ: من للبيض من الملوك أن يُبدلوا ألوانهم بلون هذا الممدوح وسحنائه.

ومنه قول المعرّي:

يقولُ إنَّ زماناً يَسْتقيدُ لهم

حتى يُبَدَّل من بُؤْسٍ بنعماءِ vi

أي حتى يعوَّض من هذه بهذه. وقد يدخل هذا البيت في الوجه الثالث بعد هذا بتقدير حتى يبدلهم vii

i البيت لأبي تمام في ديوانه بشرح الخطيب التبريزي 2/ 064 السيب: العطاء. الأزل: الضيق.

ii أحمد بن الحسين، أبو الطيب المتنبي، الشاعر العربي المشهور، ولد بالكوفة ونشأ بالشام واتصل بسيف الدولة فمدحه وحظي عنده، ثم ذهب إلى مصر ومدح كافورا الإخشيدي، ثم رجع إلى العراق وزار بلاد فارس وقُتل وهو عائد سنة 354 هـ. له ديوان مطبوع اعتنى بشرحه كثير من العلماء.

iii الأجلة: جمع جُلّ وهو ما يتجلّل به الفرس. يقول لقد طال بمصر مقامي لإكرام مثواي حتى بليت أجلة فرسي وعذره ورسنه فبُدّل بغيرها. والبيت من قصيدة مشهورة في ديوانه 4/238 بشرح العكبري. هذا، وأنا أرى أن ابن لب لم يوفق في توجيه هذا البيت لمراده، لأن الباء في الفسطاط بمعنى "في" وليست باء البدل كما زعم، إذ كيف يعوض الفسطاط بدل العذار والرسن! هذا فضلاً عن أنه خالف الجمهور في الاحتجاج بأشعار المتأخريِن عن عصور الاحتجاج.

iv كافور الإخشيدي: والي مصر كان عبداً حبشيا اشتراه الإخشيدي ملك مصر سنة 312 هـ فنسب إليه وأعتقه ثم صار ملك مصر وكان ذكياً حسن السياسة. توفي سنة 357 هـ.

v البيت للمتنبي في ديوانه 1/ 35 والسحناء: الهيئة.

vi أحمد عبد الله بن سليمان، التنحي المعرّي، شاعر فيلسوف، كان عالما باللغة. مصنفاته الشعرية: اللزوميات، سقط الزند. ومن مصنفاته الأدبية: شرح ديوان المتنبي شرح ديوان البحتري، رسالة الغفران. توفي سنة 449 هـ.

vii اللزوميات لأبي العلاء المعرّي 1/57.

ص: 79

ومن هذا الوجه البيت الواقع في السِّير، وقصيدة عديّ بن زيد العبّادي i وهو قوله:

وبُدِّلَ الفَيْجُ بالزُّرافةِ والـ

أيامُ جُوْنٌ جَمٌّ عَجائِبُها ii

وذلك أن الفيج في البيت هو المنفرد في مشيه، والزّرافة الجماعة، يعني بها الكتائب التي ذكر في القصيدة قبل هذا في قوله:

ساقتْ إليها الأسبابُ جُنْدَ بني الـ

أحرار فُرسانُها مواكبُها

حتى رآها الأقوالُ من طَرَفِ الـ

مَنْقَلِ مُخْضرَّةً كتائِبُها iii

ويريد بالفيج سيف بن ذي يزن الحميرى iv، لأنه خرج بنفسه حتى قدم على قيصر فشكا إليه حال أهل اليمن، فلم يشكه، فأتى النعمان فذهب معه فأدخله على كسرى فشكا إليه، فأصحبه جيشا، كما ذكر صاحب السيَّر. فبدَّل الواحد بالجماعة.

وإنْ أراد بالفيج معنى الرسول، كما قال بعض اللغويين، فإن سيفاً كان رسول أهل اليمن.

ثم قد يأتي محل الباء مجرداً منصوباً وهو كثير، كقوله تعالى:{يَوْمَ تُبدَّلُ الأرْضُ غَير الأرْض} v وكقوله: {بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْرا} vi وقوله: {فأولئك يُبدِّلُ الله سَيّئاتِهم حَسنَات} vii.

قال الغزنوي viii في الآية الأولى: "غير" مفعول ثانٍ، أو يقدر بغير الأرض.

i عديّ بن زيد العبادي التميمي، شاعر من دهاة الجاهلية من أهل الحيرة، يحسن العربية والفارسية والرمي، اتخذه كسرى ترجماناً بينه وبين العرب، سجنه النعمان بن المنذر وقتله في سجنه بالحيرة، نحو سنة 35 قبل الهجرة. انظر الأعلام 4/ 220.

ii الأبيات لعدي بن زيد في ديوانه ص 47. وفي السيرة النبوية لابن هشام 1/62 خبر خروج سيف بن ذي يزن. وتروَى الأبيات ببعض اختلاف، ففي النسخ "والأيام صوب" وفي السيرة النبوية "جُوْن" أي سود.

iii الأقوال: الملوك. والمنقل: الطريق المختصر. وقوله من طرق المنقل أي من أعالي حصونها. ومخضرَّة كتائبها: يعني من الحديد. وفي النسخ المخطوطة "ساقت أليها الأحرار".

iv الملك سيف بن ذي يزن من ملوك العرب اليمانيين ودهاتهم، وكان الحبشة قد ملكوا اليمن وقتلوا أكثر ملوكها فنهض سيف وقصد قيصر ملك الروم، وشكا إليه ما أصاب اليمن فلم يلتفت إليه، فقصد النعمان بن المنذر عامل كسرى على الحيرة والعراق فأوصله إلى كسرى، فبعث معه جيشاً إلى اليمن، فقتلوا ملك الحبشة ودخلوا صنعاء، وبقي سيف بن ذي يزن ملكاً نحو خمس وعشرين سنة، ثم قتل بصنعاء نحو سنة 50 قبل الهجرة.

v سورة إبراهيم: آية 48.

vi سورة! إبراهيم: آية 28.

vii سورة الفرقان: آية 70.

viii لعلّه: عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي، تاج الشريعة، فقيه حنفي مفسر، أقام في حلب، من كتبه "تفسير التفسير" في مجلدين، قيل أبدع فيه. توفي سنة 382 هـ انظر. الأعلام 3/249.

ص: 80

وقد كثر هذا في استعمال النحاة، في كلام سيبويه وغيره. قال سيبويه: مصليق ومصاليق i، أبدلوا السن صادا. وقال في لغة من يقول في الفصد الفزد: إِن تحركت الصّاد لم تبدل ii فهذا مثل الآية: {ويَومَ تُبدَّلُ الأرْض} لكنه حذف الثاني اختصارا. وهو قد يحذف كما قيل في قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} iii قال مكي iv: "أن يبدّل دينكم بما أتاكم به". وفي قوله تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} v قال الغزنوي: أي أمثالهم ممن يكفر النعم بمن يشكرها. وهو أحد وجهي الآية.

الوجه الثاني:

أن يقصد بالتبديل أو الإبدال جعل شيء مكان شيء وبدلا منه. فأصل الاستعمال في هذا الوجه تجريد الحاصل ودخول الباء على المتروك، لأنك تريد جعلت هذا بديل هذا وعوضاً منه. فمن هذا قول امرىء القيس vi:

سَنُبْدِلُ إنْ أبْدلْتِ بالودّ آخَرَا vii

وقول معن بن أوس viii:

وكنتُ إذا ما صاحبٌ رامُ ظنّةً

وبدل سُوءاً بالذي كان يفْعلُ

قلبتُ لَهُ ظهْر المِجَنِّ ولَمْ أدُمْ

على ذاك إلا ريثما أتحوّلُ ix

والغالب على هذا الوجه في الاستعمال جرّ المتروك بمن، فتقول: أبدلت كذا من كذا. وعليه جرت عادة النحويين في باب البدل. أو يأتي بـ "مكان" أو "بعد" كقوله تعالى: {وَإِذَا

i الكتاب 4/478 وفيه "صويق ومصاويق".

ii الكتاب4/478.

iii سورة غافر: أية 26.

iv مكي بن أبي طالب الأندلسي القيسي، مقرئ عالم بالتفسير والعربية، له مصنفات كثيرة منها: مشكل إعراب القرآن، الكشف عن وجوه القراءات، التبصيرة في القراءات السبع. توفي في قرطبة سنة 437 هـ. الأعلام 7/286.

v سورة الإنسان: آية 28.

vi امرؤ القيس بن حُجْر الكندي، من أهل نجد، من الطبقة الأولى، أشعر شعراء الجاهلية، وصاحب المعلقة المشهورة التي مطلعها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

vii هدا عجز بيت لامرئ القيس، وصدره: أأسماء أمسى ودّها قد تغيرا.

وهو في ديوانه بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ص 61.

viii معن بن أوس صحابي، شاعر مجيد، من مخضرمي الجاهلية والإسلام. مات في المدينة سنة 64 هـ انظر: الحماسة لأبي تمام بتحقيق د. عسيلان 1/563. الأعلام 7/273.

ix البيتان من البحر الطويل من قصيدة لمعن بن أوس في حماسة أبي تمام 1/563-564، وفي خزانة الأدب 8/292 والرواية فيهما "رام ظنتي، وبلّ سوءاً بالذي كنت أفعلُ ". وقلب له ظهر المجن أي عاداه.

ص: 81

بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} i وقوله: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} ii. وقد يحذف اختصاراً كقوله تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} iii على أحد الوجهين فيها، أي أهلكناهم وجئنا بأمثالهم في الخلق غير عاصين، فالتقدير بدّلنا منهم أمثالهم.

الوجه الثالث:

أن ترد البنية مؤدّية معنى أعطى مُعطَى شيئا عوض شيء، وذلك المعطى هو محل تعاقب العوضين، فيطلب الفعل ثلاثة يتعدى إليها، إلى الآذن المأخوذ منه بنفسه، والى المعطى المأخوذ كذلك، وإلى المتروك بالباء. كقوله تعالى:{وبَدَّلْناهُمْ بِجنَّتيْهم جنَّتين} iv، وكقول القائل:

أبْدلكِ الله بلوْنٍ لَوْنينْ

سوادَ وَجْهٍ وبَياضَ عَيْنين

وقام مقام الباء في هَذا ما يؤدي معناها v كقوله تعالى: {وليُبدِّلنَّهم مِنْ بَعْد خَوْفِهم أمْنا} vi. ومنه قول القائل: وبُدّلتُ قرْحا دامياً بعد صحّةٍ

وقد تحذف الباء مع محلها اختصاراً لفهم المعنى، كقوله تعالى:{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا} vii. أي أن يبدلنا بها خيراً منها.

وقد يضمّن الفعل في هذا الوجه معنى النقل والتحويل، فيتعدى تعدّيه، ومنه قول حبيب بعد قوله:

بسيب أبي العباس............... البيت المتقدم.

غَنِيتُ بهِ عَمَّنْ سِواهُ وبُدِّلتْ

عِجافاً ركابي عن سُعَيْدٍ إلى سَعْدِ viii

أي نقلَت عن هذا إلى هذا. ولا يمتنع في هذا الوجه أن تقول: بدّلتك من كذا بكذا.

i سورة النحل: آية 101.

ii سورة النمل: آية 11.

iii سورة الِإنسان: آية 28.

iv سورة سبأ: آية 16.

v وهو كلمة (بعد) في الآية وبيت الشعر.

vi سورة النور: آية 55.

vii سورة القلم: آية 32.

viii قال الخطيب التبريزي في شرح ديوان أبي تمام 2/ 65: هذا مثل، أي تحوّل من هلكة إلى نجاة لقولهم في المثل: انًج سعد فقد هلك سُعيد. والعجاف: المهزولة.

ص: 82

فتدخل الباء على العوض الحاصل، أي جعلتك تتعّوض كما سيأتي في مثل: تَعَوَّضَ بالحِجارة مِنْ حُجورِ i.

وقد تقدم الكلام في بيت المعري:

حتى تبَّدل مِنْ بُؤسٍ بِنَعْماءِ

الوجه الرابع:

أن يقصد معنى التعوض أو الاستعاضة، فيكون المعنى أخذت كذا عن كذا أو استخذته، فيتعدى الفعل في هذا الوجه إلى شيئين ينصب أحدهما وهو الحاصل المأخوذ، ويجرّ المتروك بالباء وهو المأخوذ عنه. كقوله تعالى:{ومَنْ يتَبدَّل الكُفْرَ بالإِيمان} ii أي يتعوض، وكقوله:{ولا أنْ تبدَّلَ بهنَّ مِنْ أزواج} iii و"من" زائدة دخلت على المنصوب. وكقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} iv أي تستعيضون.

وقد يغني عن الباء ما يؤدي معناها، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} v وقد تحذف مع مجرورها، كقوله تعالى:{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} vi أي بكم. وربما جرّ الحاصل بالباء والمتروك بمن عند قصد التعوّض، ومنه قول المعري:

إذا الفتى ذَمَّ عَيْشاً في شَبيبتِه

فما يقولُ إذا عَصْرُ الشَّباب مضى

وقد تعوَّضْتُ مِنْ كُلً بمشبهه

فما وجدت لأيّامِ الصبا عوضا vii

ومنه قول القائل يرثي ابناً صغيراً.

تعوّضَ بالحجارَةِ مِنْ حُجُور

وبانَ عن الُّترْيبِ إلى الُّترابِ viii

i صدر بيت لم أهتد إلى قائله، وسيأتي ذكر البيت قريباً.

ii سورة البقرة: آية 108.

iii سورة الأحزاب: آية 52.

iv سورة البقرة: آية 61.

v سورة النساء: آية 20.

vi سورة محمد: آية 38.

vii البيتان لأبي العلاء المعري من البحر البسيط في ديوانه سقط الزند 2/655، من قصيدة مطلعها:

منكِ الصدود ُومني بالصدود رضا

مَن ذاَ علي بهذا في هوا كِ قَضَى

انظر: القصيدة في شروح سقط الزند 2/ 654

viii من البحر الوافر، لم أهتد إلى قائله، وفي النسخ المخطوطة "وبات" ولكن المعنى يقتضي ما أثبته "وبانَ".

ص: 83

ومن أبيات الحماسة:

وهَلْ هي إلا مِثْلُ عِرْسٍ تبَدّلتْ

على رَغْمِها مِنْ هاشمٍ في مُحارب i

يعني أنها نكحت في هاشم وفارقتهم فنكحت في محارب.

وجاء بـ"في" في موضع الباء لمقاربة ما بينهما، والفعل في هذا الوجه مطاوع الفعل في الوجه الذي قبله. تقول: أبدلت الشيء بالشيء، فتبدَّله.

فهذه أربعة أوجه على أربعة مقاصد، تتعيّن الباء في المقصد الأوّل المعوّض الحاصل، ويجوز دخولها عليه في بعض المواضع في الثالث والرابع على ما ظهر من التفصيل.

ثم قد يمكن ردّ ما ذكر من أمثلة الباء في الوجه الثاني إلى الوجه الثالث بحذف المفعول الأول، كأنه قال في بيت امرىء القيس: سنبدل محلك من نفوسنا إن أبدلت موضعنا من نفسك. وكأنه قال في بيت معن بن أوس:

وبدَّلَ سُوءاً بالذي كان يَفْعَلُ

ومما يحتمل التنزيل على الوجهين الأول والثاني قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ii. قال الزمخشري: أي وضعوا مكان "حطة" قولا غيرها iii. فأشار معنى الوجه الثاني. كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} iv. وقال الغزنوي: "قولا" مفعول ثانٍ، أو قالوا قولا. فأرشد بجعله مفعولا ثانيا إلى كونه داخلا في الوجه الأولّ، بحذف أول المفعولين اختصاراً. ويكون هذا الثاني على إضمار الباء أو دونها، أي بدّلوا القول الذيِ أمروا به بقول غيره، أو بدّلوا القول قولا غيره، كما قال تعالى:{بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} v.

وأرشد بجعله على إضمار فعل والقول إلى أنهما كلامان بتفصيل بعد إجمال، أي بدّلوا وغيّروا قالوا قولا غير الذي قيل لهم. فإن اطرد التأويل فيما يجد من أمثلة الباء في الوجه الثاني خرج ذلك عن مداخل الباء.

i البيت من البحر الطويل، لإسماعيل بن عمار الأسدي، وهو ثاني بيتين في ديوان الحماسة 2/ 210 بتحقيق د. عسيلان، وقبله قوله:

بكت دار ُبشرٍ شجوها إذ تبدَّلتْ

هلال بن مرزوقٍ ببشر ِبن غالب

i سورة البقرة: آية 59.

ii الكشاف 1/283.

iv سورة النحل: آية 101.

v سورة اإبراهيم: آية 28.

ص: 84

ثم يتعلق بهذه الأوجه مسألة في الإبدال والتبديل بالنظر إلى افتراقهما أو اتفاقهما في المعنى. وقد فرّق ثعلب بينهما فقال: الإبدال: تنحية جوهرة واستئناف أخرى. وأنشد لأبي النجم i:

عَزْلَ الأَمير لِلأْمير المُبْدَلَ ii

قال: ألا تراه نحّى جسماً وجعل مكانه آخر. والتبديل: تغيير الصورة إلى غيرها والجوهرة بعينها iii وهو نحو قول الفرّاء، قال في التفسير iv بدّلت معناه غيّرت، وكل ما غيّر عن حاله فهو مبدَّل، بالتشديد، وقد يجوز بالتخفيف، وليس بالوجه. وإذا جعلت الشيء مكان الشيء قلت أبدلته، كقولك: أبدل هذا الدرهم، أي أعطني مكانه، وبدّلْ جائز فهما متقاربان.

قال الفارسي: "بدّل وأبدل متقارِبان كنزّل وأنزل. وقال في تفرقة من فرَّق ليست بشيء. قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فالخوف ليس بقائم في حال الأمان، يريد على قراءة التثقيل. وقد تأوّلها الفراء على معنى: يجعل سبيل الخوف أمنا.

وقال الزمخشري في قوله تعالى: {بدَّلوا نِعْمةَ اللهِ كُفْراً} أي شُكْر نعمة الله لما وضعوا الكفر مكان الشكر الذي وجب عليهم، فكأنهم غيّروا الشكر إلى الكفر وبدّلوه تبديلا v. يعني إنّ ما يقوم مقام الشيء بأن يجعل محله كأنه هو بضرب من التغيير.

وذكر المطرّز vi عن ثعلب عن سلمة بن عاصم النحوي عن الفراء: أبدلت الخاتم

i أبو النجم العجلي هو الفضل بن قدامة، كان ينزل بسواد الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، وهو من الرجّاز الفحول، وكانت وفاته آخر دولة بني أمية.

ii ديوان أبي النجم العجلي- ص 304، صنعه علاء الدين آغا، منشورات الناجي الأدبي بالرياض.

iii في النسخ المخطوطة "بغيرها" والصواب ما أثبته لأن المصنف سيذكره بعد قليل، وانظر: كلام ثعلب أيضاً في تاج العروس للزبيدي (مادة بدل) .

iv قال الفراء في قوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} : قرأها عاصم بن أبي النجود والأعمش "ولِيُبدَلنَهم" بالتشديد، وقرأ الناس "وليُبْدِلنهَّم" خفيفة، وهما متقاربان. وإذا قلت للرجل قد بُدّلت فمعناه غُيّرت وغُيرّت حالك ولم يأت مكانك آخر، فكل ما غير عن حاله فهو مبدّل بالتشديد. وقد يجوز مُبْدَل بالتخفيف، وليس بالوجه، وإذا جعلت الشيء مكان الشيء قلت:

قد أبدلته، كقولك: أَبْدلْ لي هذا الدرهم، أي أعطني مكانه، وبدِّل جائزة. فمن قال {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} فكأنه جعل سبيل الخوف أمنا، ومن قال "وليُبْدلنهّم " بالتخفيف قال: الأمن خلاف الخوف، فكأنه جعل مكان الخوف أمنا، أي ذهب بالخوف وجاء بالأمن. وهذا من سعة العربية. وقال أبو النجم: عزل الأمير للأمير المبدلِ. انظر: معاني القرآن للفراء2/258-259.

v تفسير الكشاف 2/ 377.

vi محمد بن عبد الواحد أبو عمر الزاهد غلام ثعلب، من مصنفاته: اليواقيت، شرح الفصيح، غريب مسند أحمد

مات ببغداد سنة 345 هـ. انظر بغية الوعاة 1/164.

ص: 85

بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذا مكانه. وبدّلت الخاتم [بالحلقة] ، إذا أذبته وسويته [حلقة]، وبدّلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتماً. قال ثعلب: وحقيقته أن بدّلت إذا غيّرت الصورة إلى صورة غيرها والجوهرة بعينها. وأبدلت إذا نحيت الجوهرة وجعلت مكانها جوهرة أخرى، ومنه قوله:

نحَّى السَّديس وانْتحى لِلْمعدلِ

عَزْلَ الأمير للأمير المُبْدَلِ i

قال: ألا ترى أنه قد نحّى جسما وجعل مكانه جسماً غيره.

قال المطرّز: عرضت الكلام على المّبرد ii فاستحسنه. وقال لي: قد بقيت لي عليه فاصلة أخرى على أحمد بن يحي. قلت: وماهي؟ أعزّك الله. قال: هي أن العرب قد جعلت بدّلت بمعنى أبدلت، وهو قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} iii [ألا ترى أنه قد أزال السيئات وجعل مكانها حسنات] . قال: وأما شرط أحمد بن يحي فهو معنى قوله تعالى: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} iv. فهذه [هي] الجوهرة بعينها، وتبديلها تغيير صورتها إلى غيرها، لأنها كانت ناعمة فاسودّت بالعذاب فردّت صورة جلودهم الأولى كلما نضجت تلك الصورة، فالجوهرة واحدة والصور مختلفة v.

وفي كلام الفراء في ما مثّل به دخول الباء على الحاصل، وتوجّه الفعل على المتروك، كما جعله أبو النجم مبدلا.

انتهى الكلام على أقسام المسألة، والحمد لله وحده.

وقد وقفت على فصل في هذا الغرض لأثير الدين أبي حيّان مجتلب من شرحه لتسهيل ابن مالك، رأيت تقييده هنا، وبيان ما فيه، بحول الله تعالى.

وساق كلام أبي حيان الذي قدّمته أوّل الحديث برّمته، ثم قال:

i لأبي النجم العجلي، وقد سبق ذكره قريباً.

ii أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي المعروف بالمبرد، إمام العربية ببغداد في زمنه وأحد أئمة الأدب والأخبار. من مصنفاته: الكامل، المذكر والمؤنث، المقتضب. مات ببغداد سنة 286 هـ.

iii سورة الفرقان: آية 70.

iv سورة النساء: آية 56.

v انظر كلام ثعلب والمطرز في تاج العروس للزبيدي/ مادة بدل.

ص: 86