الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد
رئيس مجلس القضاء الأعلى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وبعد:
فقد قرأ عليَّ فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري مؤلفه القيم الذي سماه (فتح المعبود في الرد على ابن محمود).
أجاد فيه وأفاد وأوضح فيه مذهب أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر وما عليه المحققون من الفرق بين الإيمان والإسلام وبين النبي والرسول بالبراهين الواضحة، وبين غلط الشيخ ابن محمود في القضاء والقدر حيث زعم ابن محمود أن الكتابة في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض، هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا قدر الله وما شاء فعل وهذا خطأ بين فإن كتابة الشيء غير سابق علم الله فقد جاءت الأحاديث الكثيرة بأن أول ما خلق الله القلم ف له: أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. ولم يقل أحد من أهل السنة فيما علمت أن كتابة المقادير هي العلم القائم بذاته سبحانه وتعالى، فعلى هذا لا معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الخلائق
قبل أن يخلق السموات والأرض
…
» الحديث لكونه فسر الكتابة بسابق علم الله، ولا يخفى فساد هذا.
قال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب:
الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.
الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض.
الثالثة: مشيئة المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه.
الرابعة: خلقه لها، وإيجاده وتكوينه؛ فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق.
ثانيا: زعم ابن محمود أن القدر هو خلقه للأشياء بنظام واتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وهذا مخالف لما في الأحاديث الصحيحة.
فتقدير الله للأشياء هو علمه بمقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذين دلت عليه البراهين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وما عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع
عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكون لو كان كيف يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون.
ولابن محمود عدة أخطاء في رسالته المردود عليها التي سماها الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر كما أشار إلى ذلك الشيخ حمود جزاه الله خيرا، وبارك فيه وفي علومه.
والذي نحبه لأخينا الشيخ ابن محمود أن تكون كتاباته معالجة لمشاكل العصر. والرد على فرق الضلال المنتشرة في كل مكان؛ كالماسونية والبهائية والشيوعية وأمثالها.
وتحذير المسلمين من هذه الموجة الإلحادية التي طار شررها، وعظم خطرها دون الكتابة في الفرق بين النبي والرسول وأمثال ذلك.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وسلم ..
رئيس مجلس القضاء الأعلى
عبد الله بن محمد بن حميد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فقد اطلعت على رسالتين للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس المحاكم القطرية، سمى إحداهما (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر)، وسمى الأخرى (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) وقد رأيت في هاتين الرسالتين عدة مواضع أخطأ فيها فرأيت من الواجب التنبيه عليها لعل الله يمن على الكاتب بالرجوع إلى الصواب فإن الرجوع إلى الصواب نبل وفضيلة، كما أن التعصب للأخطاء نقص ورذيلة.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قام على المنبر فنهى الناس عن المغالاة في مهور النساء فقامت امرأة فعارضته واحتجت عليه بآية من القرآن فرجع إلى قولها، وقال وهو على المنبر:«إن امرأة خاصمت عمر فخصمته» رواه ابن المنذر بإسناد حسن، ورواه الزبير بن بكار وقال فيه: فقال عمر رضي الله عنه: «امرأة أصابت ورجل أخطأ» ورواه أبو يعلى الموصلي وقال فيه فقال: «اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر» قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.
ولم ينقص اعتراف عمر رضي الله عنه بالخطأ على رءوس الملأ من قدره بل زاده ذلك شرفا ورفعة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وروى ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي رضي الله عنه: أصبتَ وأخطأتُ {وفوق كل ذي علم عليم} .
قال ابن عبد البر: وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين قال: اختلف ابن عباس وزيد في الحائض تنفر، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، فقال ابن عباس: سل نسياتك أم سليمان وصويحباتها، فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت.
وروى ابن عبد البر أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ذاكرت عبيد الله بن الحسن القاضي بحديث وهو يومئذ قاص فخالفني فيه فدخلت عليه وعنده الناس سماطين، فقال لي ذلك الحديث كما قلت أنت وأرجع أنا صاغرا.
قال ابن عبد البر وأخبرني غير واحد عن أبي محمد قاسم بن أصبغ قال لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم قوم من مضر
مجتابي النمار فقال لي: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت له: إنما هو مجتابي النمار هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس وبالعراق فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا، ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ، لشيخ كان بالمسجد فإن له بمثل هذا علما فقمنا إليه وسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار كما قلت، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم، والنمار جمع نمرة، فقال بكر بن حماد وأخذ أنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف.
قال ابن عبد البر: وذكر الحسين بن أبي سعيد في كتابه (المعرب عن المغرب) قال: حدثنا عبد الله بن سعيد بن محمد الحداد عن أبيه قال: سمعت سحنون يقول: سمعت عبد الرحمن ابن القاسم قال لمالك: ما أعلم أحدا أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال له مالك: وبم ذلك؟ قال: بك، قال: فأنا لا أعرف البيوع فكيف يعرفونها بي؟!
قال ابن عبد البر: وروينا عن الشعبي أنه قال: ما رأيت مثلي ما أشاء أن أرى أعلم مني إلا وجدته.
قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه؛ الإنصاف فيه ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم.
وقال أيضا: ومن أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه ونبذ حب الرياسة عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله» . انتهى.
وقد ذكر الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه (المسائل الكافية) قصة عجيبة في التواضع والاعتراف بالخطأ على رءوس الملأ وبالفضل لمن حصل منه التنبيه على الخطأ، فقال ما نصه:(المسألة السابعة والخمسون) ينبغي
لأهل الفضل أن يقدروا قدر من له قدر ويعرفوا الفضل لأهله ولا يبخسوا الناس مقاماتهم ويترفعوا عليهم بالإفك والبهتان، انظر هذه المسألة وتأمل فيها تعرف الفرق بين أهل زماننا وبين من مضي زمنهم.
قال العلامة ابن العربي في أحكامه: أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة، قال: وصلت الفسطاط فجئت مجلس أبي الفضل الجوهري فكان مما قال أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وظاهر وآلى، فلما خرج تبعته حتى بلغ منزله في جماعة فجلس معنا في الدهليز وعرفهم غيري فإنه رأى شارة الغربة فلما انفض عنه أكثرهم، قال لي: أراك غريبا، هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه، فقاموا فقلت له: حضرت المجلس متبركا بك وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت وطلق وصدقت وظاهر ولم يكن ولا يصح أن يكون لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي، وقال: أنا تائب من ذلك، جزاك الله من معلم خيراً، ثم انقلبت عنه وبكرت في الغد إليه فألفيته قد جلس على المنبر فلما دخلت الجامع ورآني ناداني بأعلى صوته مرحبا بمعلمي، أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إليَّ وتحدقت الأبصار نحوي - وتعرفني يا أبا بكر؟ يشير إلى عظيم حيائه فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه بكلام خجل وأحمر كأن وجهه طُلي بجلنار - قال: وتبادر الناس إلي يرفعونني على الأيدي ويتدافعونني حتى بلغت المنبر وأنا لعظيم الحياء لا أعلم في أي بقعة أنا والجامع غاص بأهله وأسال الحياء بدني عرقا وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي، لما كان بالأمس قلت لكم كذا وكذا فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي فاتبعني إلى منزلي وقال لي: كذا وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب من قولي بالأمس راجع عنه
إلى الحق فمن سمعه ممن حضر فلا يعود إليه ومن غاب فليبلغه من حضر فجزاه الله خيرا وجعل يحتفل لي في الدعاء والخلق يؤمنون.
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأ من رجل ظهرت رياسته واشتهرت نفاسته لغريب مجهول العين لا يعرف من هو؟ ولا من أين؟ واقتدوا به ترشدوا. انتهى.
وما أعظم الفرق بين ما فعله أبو الفضل الجوهري مع الرجل الذي نبهه على خطئه وبين ما يفعله بعض المنتسبين إلى العلم في زماننا، فإن بعضهم إذا نبهه بعض العلماء على أخطائه اشمأز وتحامل على الذي نبهه ورماه بالجهل والتعصب، وغير ذلك مما يرى أنه يشينه، ولا شك أن هذا من الكبر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الكبر بطر الحق وغمط الناس» بطر الحق رده وغمط الناس احتقارهم.
ومن أعظم ما يبتلى به المرء إعجابه بنفسه وترفعه على أقرانه وبني جنسه، قال ابن عبد البر: وقال ابن عبدوس: كلما توقر العالم وارتفع كان العجب إليه أسرع إلا من عصمه الله بتوفيقه وطرح حب الرياسة عن نفسه.
وروى ابن عبد البر عن كعب أنه قال لرجل رآه يتتبع الأحاديث: اتق الله وارض بالدون من المجلس ولا تؤذ أحدا فإنه لو ملأ علمك ما بين السماء والأرض مع العجب ما زادك الله به إلا سفالا ونقصانا.
وروى ابن عبد البر أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم أن تهلكوا فيه ثلاث خلال: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» .
وروى ابن عبد البر أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، والثلاث المنجيات: تقوى الله في السر والعلانية ،وكلمة الحق في الرضا والسخط، والاقتصاد في الغنى والفقر» .
قال ابن عبد البر: وقال إبراهيم بن الأشعث: سألت الفضيل بن عياض عن التواضع، فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه.
وروى ابن عبد البر أيضا عن مسروق أنه قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه، قال أبو عمر: إنما أعرفه بعمله، قال: وقال أبو الدرداء: علامة الجهل ثلاث: العجب، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه، وأن ينهي عن الشيء ويأتيه. وقالوا العجب يهدم المحاسن، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: الإعجاب آفة الألباب، وقال غيره: إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله، ولقد أحسن علي بن ثابت حيث يقول:
المال آفته التبذير والنهب
…
والعلم آفته الإعجاب والغضب
وقالوا: من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر.
وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحبَّ الرياسة إلا حسد وبغى وتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير، وقال أبو نعيم: والله ما هلك من هلك إلا بحب الرياسة، وقال آخر:
حب الرياسة داء لا دواء له
…
وقلَّ ما تجد الراضين بالقسم
وروى ابن عبد البر أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:«قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين» .
وروى أيضا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني؛ إذا قلت في كتاب الله بغير علم).
وروى أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحوه.
وروي أيضا عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري فلما ولى الرجل قال نعما قال عبد الله بن عمر: سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به، قال وقال وهب: سمعت مالكا يحدث عن عبد الله بن زيد بن هرمز قال: إني لأحب أن يكون من بقايا العالم بعده لا أدري ليأخذ به من بعده.
وروى أيضا عن مجاهد قال: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن فريضة من الصلب فقال لا أدري: فقيل له ما يمنعك أن تجيبه فقال: سئل ابن عمر عما لا يدري فقال: لا أدري.
وروي أيضا عن أيوب قال: تكاثروا على القاسم بن محمد يوما بمنى فجعلوا يسألونه فيقول: لا أدري ثم قال: إنا والله ما نعلم كل ما يسألونا عنه ولو علمنا ما كتمناكم ولا حل لنا أن نكتمكم.
وروى أيضا عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سئل سعيد ابن جبير عن شيء فقال لا أعلم ثم قال: ويل للذي يقول: لما لا يعلم إني أعلم.
قال وذكر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أردها على الكبد، فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه الله أعلم.
قال وذكر الحسن بن علي الحلواني وساق بإسناده عن القاسم قال: يا أهل العراق أنا والله لا نعلم كثيرا مما تسألونا عنه ولأن يعيش المرء جاهلا لا يعلم ما افترض عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله مالا يعلم.
قال وقال الحسن: حدثنا نعيم بن حماد، قال: سمعت بعض أصحاب ابن عون أظنه حسين بن حسين عن ابن عون، قال: كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي؛ وكثرة الناس حولي؛ والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.
وروي أيضا عن مالك قال: سأل عبد الله بن نافع أيوب السختياني عن شيء فلم يجبه فقال له لا أراك فهمت ما سألتك عنه قال: بلى، قال: فلم لا تجيبني، قال: لا أعلمه.
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل فقال له: يا أبا عبد الله جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسالك عنها، قال: سل فسأله الرجل عن المسألة، فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم، قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن.
قال: وذكر ابن وهب في كتاب المجالس، قال: سمعت مالكا يقول: ينبغي للعالم أن يألف فيما أُشْكِل قول لا أدري فإنه عسى
أن يهيأ له خير، قال ابن وهب: وكنت أسمعه كثيرا ما يقول لا أدري، وقال في موضع آخر: لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح، قال ابن وهب: وسمعت مالكا وذكر قول القاسم بن محمد لأن يعيش الرجل جاهلا خير من أن يقول على الله مالا يعلم، ثم قال: هذا أبو بكر الصديق وقد خصه الله بما خصه به من الفضل يقول لا أدري.
قال ابن وهب: وحدثني مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي. وذكر عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بعض هذا، وفي روايته هذه الملائكة قد قالت:(لا علم لنا).
قال: وذكر أبو داود في تصنيفه لحديث مالك حدثنا عباس العنبري، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: قال مالك: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وفي رواية إذا ترك العالم لا أعلم فقد أصيبت مقاتله.
وقال: وحدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: سمعت مالكا يقول: سمعت ابن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
وروى ابن عبد البر عن عقبة بن مسلم قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما أربعة وثلاثين شهراً فكان كثيراً ما يسأل فيقول لا أدري ثم يلتفت إليَّ فيقول: أتدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم.
قال: وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قول الرجل فيما لا يعلم لا أعلم نصف العالم.
وقال الراجز:
فإن جهلت ما سُئلت عنه
…
ولم يكن عندك علم منه
فلا تقل فيه بغير فهم
…
إن الخطأ مزرٍ بأهل العلم
وقل إذا أعياك ذاك الأمر
…
مالي بما تسأل عنه خبر
فذاك شطر العلم عند العلما
…
كذاك ما زالت تقول الحكما
وقال غيره:
إذا ما قتلت الأمر علما فقل به
…
وإياك والأمر الذي أنت جاهله
وروي أيضا عن أبي الذيال قال: تعلم لا أدري ولا تعلم أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري.
وروي أيضا عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (أن من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون) قال الأعمش فذكرت ذلك للحكم بن عتيبة فقال: لو سمعت هذا منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كل ما أفتي.
وروي أيضا عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن عينية يقول: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما.
وروى أيضا عن يزيد بن أبي حبيب قال: إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع، قال: وفي الاستماع سلامة وزيادة في العلم والمستمع شريك المتكلم، وفي الكلام
تهون وتزين وزيادة ونقصان، قال: ومن العلماء من يرى أنه أحق بالكلام من غيره ومنهم من يزدري المساكن ولا يراهم لذلك موضعا، ومنهم من يخزن علمه ويرى أن تعليمه ضعة، ومنهم من يحب أن لا يوجد العلم إلا عنده، ومنهم من يأخذ في علمه مأخذ السلطان حتى يغضب أن يرد عليه شيء من قوله أو يغفل عن شيء من حقه، ومنهم من ينصب نفسه للفتيا فلعله يؤتي بأمر لا علم له به فيستحي أن يقول لا علم لي فيرجم فيكتب من المتكلفين، ومنهم من يروي كل ما سمع حتى يروي كلام اليهود والنصارى إرادة أن يغزر علمه.
قال أبو عمر: روي مثل قول يزيد بن أبي حبيب هذا كله من أوله إلى آخره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه من وجوه منقطعة يذم فيها كل من كان في هذه الطبقات من العلماء ويتوعدهم على ذالك بالنار انتهى ما ذكره ابن عبد البر مخلصا.
فليتأمل ما ذكره عن أهل الورع من الإحجام عن القول بغير علم، والابتعاد عن التكلف الذي قد وقع فيه كثير من الناس في زماننا حتى آل الأمر ببعضهم إلى قبول البدع والضلالات، والإكثار من التخرصات والجهالات، ومخالفة أهل السنة والجماعة في بعض المعتقدات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(فصل)
وقد جعلت التنبيهات على رسالتي ابن محمود في فصلين.
الأول: فيما يتعلق بالقضاء والقدر.
والثاني: فيما يتعلق بالرسالة والنبوة، فأما ما يتعلق بالقضاء والقدر فالتنبيه عليه يتلخص في خمسة أشياء: الأول في بيانه لمعنى القضاء والقدر، والثاني في تغليطه للمفسرين الذين قالوا في قول الله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أنها نزلت في القضاء والقدر.
والثالث في نفيه لكتابة المقادير وزعمه أنها عبارة عن سبق علم الله.
والرابع في زعمه أن الحديث في احتجاج آدم وموسى من مشكل الآثار، والخامس في تخليطه في الكلام على حديث ابن مسعود رضي الله عنه في كتابة ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه.
فأما الأول: فقال في صفحة 9 ما ملخصه:
(حقيقة القدر) ونحن وإن قلنا: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وأنه يرجع إلى قدرة الله وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، أو أنه يرجع إلى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون فكل هذه من الصفات الداخلة في قدر الله، وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه وسبق علمه بكل شيء وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد، ولما سئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلا:(القدر قدرة الرحمن).
وأقول أما القدر الذي جاء ذكره في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره من الأحاديث التي يذكر فيها
وجوب الإيمان بالقدر وأنه ركن من أركان الإيمان، فالمراد به ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته وفرغ من كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرة، منها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» رواه الأمام أحمد والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد رواه مسلم في صحيحه ولفظه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» .
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بإسناد صحيح ولفظه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فرغ الله عز وجل من مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» ورواه أيضا بنحو رواية مسلم وإسناده صحيح أيضا.
وروى الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» وقد رواه أبو داود الطياليسي، وابن حبان في صحيحه، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه، وزاد ابن حبان قال سراقة: فلا أكون أبدا أشد اجتهادا في العمل مني الآن.
وروي الإمام أحمد أيضا بإسناد صحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلا من جهينة أو من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم واتخذت عليهم به الحجة قال:«بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال: فلمَ يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: «من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين بهيئة لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» وقد رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح، ومسلم بنحوه وفيه عند مسلم قصة لأبي الأسود الدؤلي مع عمران بن حصين رضي الله عنهما وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وروي الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير سورة (والشمس وضحاها) بعد إيراده لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تصديق ما أخبر به من القضاء قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه، وهذا إنما تنكره غالية القدرية. وأما الذي في القرآن فهو خلق الله أفعال العباد وهذا أبلغ فإن القدرية المجوسية تنكره، فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم مصدقا له انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى صفحة 232 ج 16 مجموع الفتاوى.
وروي الإمام أحمد أيضا والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» قال الهيثمي: رجاله ثقات.
وروي الطبراني أيضا عن أبي الأسود الدؤلي أنه سأل عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب عن القدر فقال: إني قد خاصمت أهل القدر حتى أحرجوني فهل عندكم من علم فتحدثوني؟ فقالوا: (لو أن الله عز وجل عذب أهل السماء والأرض عذبهم وهو غير ظالم، ولو أدخلهم في رحمته كانت رحمته أوسع من ذنوبهم، ولكنه كما قضى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، فمن عذب فهو الحق ومن رحم فهو الحق، ولو كان لك مثل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره) ثم قال عمران: لأبي الأسود حين حدثه الحديث سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه معي عبد الله - يعني ابن مسعود - وأبي بن كعب فسألهما أبو الأسود فحدثاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين ورجال هذه الطريق ثقات.
وروي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» قال الترمذي: هذا حديث غريب، قال: وفي الباب عن عبادة وجابر وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
وروي الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة واللفظ له عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري فأتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر فخشيت علي ديني
وأمري فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني به فقال: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لك مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك أن مت على غير هذا دخلت النار» ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله فأتيت عبد الله فسألته فذكر مثل ما قال أبي وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قالا، وقال: ائت زيد بن ثابت فاسأله فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبا أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار» وقد رواه ابن حبان في صحيحه مختصراً.
وسيأتي نحو ذلك في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وروي مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، والبغوي في تفسيره عن طاوس أنه قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (كل شيء بقدر) قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» .
وروي البخاري في تاريخه وأبو بكر الآجري بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك).
وروي عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ذكر عنده القدر يوما؛ فأدخل أصبعيه السبابة والوسطى في فيه وأخذ بهما من ريقه فرقم بهما في ذراعه ثم قال:«أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب» .
وسيأتي ذكر الأحاديث في القلم الذي كتبت به المقادير في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
ومما تقدم ذكره من الأحاديث وما سيأتي في التنبيه الثالث يعلم ما في تعريف ابن محمود لحقيقة القدر من التخليط بالنقص والزيادة، فأما النقص ففي إعراضه عن إثبات كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وهذا في الحقيقة إعراض عن الإيمان ببعض مراتب القدر إذ لابد في الإيمان به من الإيمان بعلم الله تعالى بجميع الكائنات بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، ثم كتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وبيان أن من لم يؤمن بكتابة القدر في اللوح المحفوظ فقد وافق غلاة القدرية.
وأما الزيادة ففي قوله: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وإتقان، وقوله أيضا: وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه.
فلم يفرق بين صنع المخلوقات بنظام وإتقان وبين تقدير المقادير وكتابتها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وجعل الجميع شيئا واحدا، وهذا في الحقيقة تخليط وتلبيس.
وأما الإيمان بأن الله على كل شيء قدير وفعال لما يريد وأنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون؛ فهو من الإيمان بالقدر؛ ولكن لا يكفي عن الإيمان بتقدير الله لجميع الأشياء وكتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فالكل يجب الإيمان به.
وكذلك الإيمان بما أخبر الله به من صنع خلقه وتقديره للأشياء بنظام وإتقان هو من الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق الذي أوجد جميع الكائنات وأتقنها، ولا يكفي الإيمان بذلك عن الإيمان بكتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وقد كان مشركو قريش مقرين بأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء كما أخبر الله بذلك عنهم في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وكانوا مع إيمانهم بأن الله تعالى هو الخالق لجميع الأشياء يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر كما سيأتي بيان ذلك في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد توعدهم الله على تكذيبهم بالقدر بأنهم سيسحبون في النار على وجوههم ويقال لهم: ذوقوا مس سقر، ولم ينفعهم إيمانهم بالخلق وإتقان الأشياء وتنظيمها عن الإيمان بالقدر السابق.
وأما قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى (القدر قدرة الله) فمعناه أن تقدير الرب تبارك وتعالى لكل ما هو كائن قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم إيجاده للكائنات على وفق ما قدره وقضاه يدل على قدرته العظيمة، فمن أثبت
قضاء الله وقدره السابق فقد أثبت قدرة الله ومن أنكر قضاء الله وقدره السابق فقد أنكر قدرة الله، فهذا معنى قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى القدر قدرة الله.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة الاحتجاج بالقدر: والقدر هو قدرة الله كما قال الإمام أحمد: وهو المقدر لكل ما هو كائن. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل):وقال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها، وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم. انتهى.
وقد أورد ابن محمود في الصفحة التي أشرنا إليها قول الشاعر:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
…
سعي الفتي وهو مخبوء له القدر
ونسبه لزهير وقد غلط في ذلك فإن هذا البيت لابنه كعب بن زهير رضي الله عنه ولا خلاف في ذلك عند أهل السير والأخبار، وقد ذكروا مع هذا البيت بيتين وهما:
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
…
فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل
…
لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
وقد صرح كعب رضي الله عنه في هذه الأبيات الحسان بالإيمان بالقدر وأن المرء قد يسعى في الأمور فلا يدركها لأنها
لم تقدر له، وهذا كما قال الله تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك» .
وقال ابن محمود في صفحة 11 و 12 و 13 ما ملخصه:
أن القدر يدل بمنطوقه ومفهومه على قدرة الرب سبحانه وعلى تقديره للأشياء بنظام وإتقان وإحكام، وكل من تتبع نصوص القرآن يجدها تدور على هذا البيان، فالقضاء في سائر استعمالاته هو بمعنى الفراغ من الشيء، فالقضاء والقدر معناهما أن الله سبحانه قد أوجد هذا العالم مقدرا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل وأنه قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} .
يقول الله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير منظمة متقنة محكمة كقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ومنه قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئا بطريق الصدفة ولا الطبيعة، ونظير هذه الآية قوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي بقدر حاجة الناس ليس بالكثير المنهمر المستمر فيهلك حرثهم ومواشيهم ولا قطعة واحدة فيضر البنيان، ونظيره قوله:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} ، وقوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} هو نظير قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} لفظا ومعنى، وهو يرجع إلى قوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير متناسبة ثابتة: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، نظيره قوله:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي جعلناه ذا مقادير ينزل كل
ليلة منزلة منها لا يتخطاها ولا يقصر عنها، ومنه قوله:{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي على موعد قدرنا مجيئك فيه، ومثله قوله:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} وقرئ قدّرنا بالتشديد، أي قدرنا ذلك تقديراً متقنا فنعم القادرون، وقرئ بالتخفيف من القدرة أي قدرنا على خلقه وتصويره في أحسن صورة فنعم القادرون، فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن، ومنه قول الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
وأما القضاء فإنه الفراغ من صنع هذه المخلوقات وقد اجتمعا في قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فذكر القضاء في قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} كما ذكر القدر في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
…
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} فهذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وهذا معنى ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا، قدر الله وما شاء فعل، قدر الله أي وسابق علم الله.
هذا كلام ابن محمود في القضاء والقدر وقد صرح أن معناهما إيجاد هذا العالم مقدرا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل وأن الله قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وكلامه على الآيات التي تقدم ذكرها كله من باب واحد وهو أن القضاء والقدر معناهما خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه. وقد صرح أيضا في أول صفحة 13 أن القضاء هو الفراغ من صنع هذه المخلوقات وأن القدر هو ما ذكر في قوله:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} وفي قوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ثم قال: فهذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه.
وأقول: إن كلام ابن محمود الذي ذكرنا ليس فيه إيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر وإنما فيه الإيمان بخلق الله للأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير.
وهذا القول موافق لقول الكافر القصيمي في أغلاله فإنه قال في صفحة 252 من كتابه الأغلال ما نصه وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} ، القضاء هنا هو القضاء الذي يقرن مع القدر.
قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس رحمه الله تعالى في الرد عليه:
الجواب: كلا، فإن القضاء هاهنا هو التمام والفراغ ولا معنى لأن يكون هو الكتابة.
ثم قال الملحد الخبيث في صفحة 253 ما نصه: (وإذا فالأقدار هي النظام).
قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس رحمه الله تعالى في الرد عليه:
الجواب: أنه يرى أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان هو النظام وهذا مخالف للأديان وللكتاب والسنة والإجماع فإن القدر هو تقدير الله للأشياء قبل وجودها، وهذا ما يعرفه المسلمون. انتهى.
وليعلم المطلع على كلام ابن محمود الذي تقدم ذكره في تعريف القضاء والقدر أن ابن محمود قد اعتمد على كلام عدو الله القصيمي في كتابه الأغلال ونقل بعضه بالنص وبعضه ببعض التصرف، وأنا أذكر هاهنا ملخص كلام القصيمي لتعرف مطابقته لكلام ابن محمود:
قال القصيمي في صفحة 247 من كتابه الاغلال ما نصه: (أما القدر فهو في مادته مأخوذ من التقدير أي جعل الشيء ذا مقادير أي ذا حدود يقال هذا الشيء قدر هذا أي محدود بحدوده).
ثم استدل القصيمي بآيات من القرآن منها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، وقد استدل ابن محمود بهذه الآيات الثلاث على نحو ما قاله القصيمي فقال في قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن كل شيء بحسبه وقال في قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي جعله ذا مقادير منظمة متقنة محكمة. وقال في قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ،أي جعلناه ذا مقادير، ثم قال بعد سياقه لهذه الآيات وغيرها ما نصه:(فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن) وقال القصيمي في أول كلامه: (أما القدر فهو في مادته مأخوذ من التقدير أي
جعل الشيء ذا مقادير) فانظر إلى مطابقة كلام ابن محمود لكلام القصيمي. وقد استشهد القصيمي على ما ذهب إليه بقول الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
وقد استشهد به ابن محمود تبعا للقصيمي.
وقال القصيمي أيضا في صفحة 249 من كتاب الأغلال ما نصه: (فالقدر بجملته وجملة استعمالاته يراد به التقدير أي جعل الشيء ذا مقادير معلومة، أي يراد به جعل الشيء منظما في كمه وكيفه، فقدر الله معناه أن الله جلت قدرته قد أوجد هذا الوجود، السماويات منه والأرضيات مقدرا بمقادير محكمة - إلى أن قال - ولهذا جاء هذا العالم منظما صالحاً للانتفاع وللحياة وللاستقرار فيه وعليه).
وقد استدل القصيمي في صفحة 250 من كتاب الأغلال على ما ذهب إليه في معنى القدر بقول الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} وقد استدل بها ابن محمود تبعا للقصيمي.
واستدل القصيمي أيضا في صفحة 251 من كتاب الأغلال بقول الله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، ثم قال ما نصه، فقوله:{وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يراد به القدر الذي ضل فيه الناس
وصيروه عامل ركود وانحطاط مع أنه هو القوة والوثوب والنشاط).
وقال في صفحة 259 من كتاب الأغلال ما نصه: (فالقضاء والقدر معناهما أن الله قد أوجد هذا العالم مقدرا بمقادير مضبوطة محكوما بسنن لا تقبل التغيير وأنه تعالى قد فرغ من ذلك فراغا لا يعقبه تبديل ولا تعديل ولا زيادة أو نقصان) وقد نقل ابن محمود هذا الكلام بعينه في تعريفه للقضاء والقدر كما تقدم ذكره في أول كلامه.
ومن جعل أقوال عدو الله القصيمي وأمثاله من الزنادقة عمدة له في باب القضاء والقدر فغير مستبعد منه أن يتأثر بهم فيما سوى ذلك من أقوالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة، نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال:
ومن يكن الغراب له دليلا
يمر به على جيف الكلاب
وقد رد الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح رحمه الله تعالى على صالح الأغلال ردا وافيا في كتابه (بيان الهدى من الضلال، في الرد على صاحب الأغلال) فليراجع فإنه مهم جدا، وكذلك قد رد عليه الشيخ عبد الله بن علي بن يابس والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ورده مختصر جدا، وكل منهم قد أجاد وأفاد رحمهم الله تعالى.
وإذا علم ما ذكرنا من انحراف ابن محمود في باب القضاء والقدر فليعلم أيضا أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره قريبا.
ويؤمنون أن الله تعالى أوجد الخلائق بعد كتابة المقادير بخمسين ألف سنة على وفق ما قدره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ -وهو أم الكتاب-، وكذلك كل كائن إلى يوم القيامة فهو مما قدره وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل) في الكلام على قول الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} :قال ابن عباس رضي الله عنهما في اللوح المحفوظ المقري عندنا، قال مقاتل: إن نسخته في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ. وأم الكتاب أصل الكتاب، وأم كل شيء أصله. والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .
وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فتبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب انتهي.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في (العقيدة الواسطية): وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق. فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ما أكتب، قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة،
فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه ولا يكون في ملكه مالا يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته.
وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق
قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. انتهى.
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابة (جامع العلوم والحكم): الإيمان بالقدر على درجتين إحداهما الإيمان بأن الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من هل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
والدرجة الثانية أن الله خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة وتنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد وغيره، وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء، وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام. انتهى.
وأما قول ابن محمود في بيان معنى حقيقة القضاء والقدر أنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان كل شيء بحسبه، وأن هذا معنى ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن بخلق السموات والأرض» .
ففيه خطأ من وجهين أحدهما في نسبته الحديث إلى الصحيحين وإنما هو من أفراد مسلم ولم يخرجه البخاري.
والثاني زعمه أن خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت هو معنى كتابة المقادير، وهذا يقتضي أن تكون كتابة المقادير وخلق الأشياء شيئا واحدا، ولا يخفي ما في هذا القول من إلغاء نص الحديث على أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي هذا النص الصريح أبلغ رد على ما زعمه ابن محمود في بيان معنى حقيقة القضاء والقدر أنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت.
وأما قوله: إن هذه الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله، فهو خطأ ظاهر وسيأتي بيان ذلك في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
التنبيه الثاني: قال ابن محمود في صفحة 12 ما نصه:
ومنه قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي بتقدير ونظام متقن، كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئا بطريق الصدفة ولا الطبيعة، قال ابن جرير في التفسير: إنا كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه، وبعض المفسرين يغلطون في تفسير هذه الآية حيث يحملون تفسيرها على القضاء والقدر ثم يتوسعون في سياق الآثار الواردة في القضاء والقدر كأن الآية سيقت لذلك وهو خطأ فانه لا تعلق للآية بالقضاء والقدر الذي يعنونه.
وأقول قد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن جرير وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة والبغوي في تفسيره وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
قال النووي في شرح مسلم: المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته، وفي هذه الآية الكريمة والحديث تصريح بإثبات القدر وإنه عام في كل شيء فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم لله مراد له. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل): والمخاصمون في القدر نوعان أحدهما من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كالذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، والثاني من ينكر قضاءه وقدره السابق، والطائفتان خصماء الله، قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام إن الله تبارك وتعالى قدر أقدارا وخلق الخلق بقدر وقسم الآجال بقدر وقسم الأرزاق بقدر وقسم البلاء بقدر وقسم العافية بقدر وأمر ونهى. انتهى.
وروي ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: من كذب بالقدر فقد كذب بالحق خلق الله خلقا وأجل أجلا وقدر رزقا وقدر مصيبة وقدر بلاء وقدر عافية، فمن كفر بالقدر فقد كفر بالقرآن.
وروى ابن أبي حاتم أيضا بإسناد حسن عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت
أسافل ثيابه فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها، قلت: نعم، قال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أولئك شرار هذه الأمة فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين، ورواه ابن المنذر وابن مردويه بنحوه ذكره السيوطي في الدر المنثور.
قال: وأخرج الطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في القدرية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
قال: وأخرج البزار وابن المنذر بسند جيد من طريق عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: ما أنزلت هذه الآية {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلا في أهل القدر.
قال: وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن شاهين وابن منده والخطيب في تالي التلخيص وابن عساكر عن زرارة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه تلا هذه الآية {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: في أناس من أمتي في آخر الزمان يكذبون بقدر الله» .
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: (إني أجد في كتاب الله قوما يسحبون في النار على وجوههم، يقال لهم ذوقوا مس سقر لأنهم كانوا يكذبون بالقدر، وأني لا أراهم فلا أدري أشيء كان قبلنا أم شيء فيما بقي).
وروي عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة بإسناد حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: نزلت هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} في أهل القدر، وفي رواية قال: نزلت تعييرا لأهل القدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقد رواه ابن جرير وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طرق عن محمد بن كعب القرظي.
وروى ابن جرير أيضا بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما نزلت هذه الآية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل أفي شيء نستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى» .
قال ابن جرير وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} يقول تعالى ذكره: أنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه، وفي هذا بيان أن الله جل ثناؤه توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم بالقدر مع كفرهم به، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، وقد اختصر ابن محمود كلام ابن جرير ليوهم أنه موافق لقوله في القدر.
وقال الرازي في تفسيره: أكثر المفسرين اتفقوا على أنها نازلة في القدرية. انتهى.
وقال الزجاج: معنى (بقدر) أي كل شيء خلقناه بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، ذكره ابن الجوزي في تفسيره.
وقال البغوي في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. انتهى.
وقال ابن كثير في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} كقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وكقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبعوا في أواخر عصر الصحابة. انتهى.
ومما ذكرته من الأحاديث في هذا التنبيه يعلم أن المفسرين لم يغلطوا ولم يخطئوا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} حيث قالوا: إنها نزلت في إثبات القدر السابق والوعيد الشديد للقدرية، ومن زعم أنهم قد غلطوا وأخطئوا فهو الغالط المخطئ في الحقيقة، وما أبشع القول الذي يتضمن تغليط أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وما أسوأ القول الذي يتضمن تخطئتهم.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وهل يظن الذي يغلطهم ويخطئهم أنه أعلم بكتاب الله من أبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، أو أنه أعلم من الإمام أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم من الأئمة الذين خرجوا أحاديثهم واعتمدوا عليها، أو أنه أعلم بالتفسير من محمد بن كعب القرظي وابن جرير الطبري والبغوي وابن الجوزي وابن كثير وأمثالهم من الأئمة المعروفين بالتقدم في علم التفسير، كلا فليس المتخرصون مثل الجهابذة الحفاظ، ولا شك أن ما جاء عن هؤلاء الأئمة في
تفسير الآية من سورة القمر هو المقبول وما خالفه من أقوال المتخرصين فهو مردود، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى
…
يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل
التنبيه الثالث: قال ابن محمود في صفحة 13 بعد سياقه للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» قال: وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله وهو معنى قول أحدنا، قدر الله وما شاء فعل، قدر الله أي وسابق علم الله.
وقال في صفحة 15 ما نصه (كتابة المقادير) ثبت في الكتاب والسنة كتابه المقادير كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسمائة عام» .
هكذا قال ابن محمود بخمسمائة عام وهو غلط، والصواب بخمسين ألف سنة كما تقدم بيانه في حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما.
ثم قال ابن محمود وحديث «أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وإننا عندما نقرأ أو نسمع ما ثبت عن الله ورسوله في كتابة المقادير يجب أن نفهم بأن هذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا ولا على القلم الذي نكتب به، بل هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها فانه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون، فهي بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله عبر عنها سبحانه بالكتابة كما يقول الرجل لصاحبه حاجتك مكتوبة في صدري إذا أراد الاعتناء بها - إلى أن قال - وكتابته للأشياء إشارة إلى علمه بسائر المعلومات لا تخفي عليه خافية من أمر خلقه، فهي كالمكتوب المضبوط في علمه إذ ليس عندنا وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه - إلى أن قال في صفحة 16 - وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها، وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها.
وأقول: إن في كلام ابن محمود عدة أخطاء، أحدها التناقض وذلك أنه أثبت كتابة المقادير في أول كلامه واستدل لذلك بثلاث آيات من القرآن وحديثين صحيحين، وقال: إن هذه الكتابة من عالم الغيب فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا ولا على القلم الذي نكتب به، ثم رجع فنقض قوله وزعم أن الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله، وهذا في الحقيقة نفي للكتابة بالكلية، وحاصل قوله: إن الكتابة اسم لا مسمى له ولفظ لا معنى له.
الخطأ الثاني: زعمه أن الله تعالى عبر عن علمه بالكتابة وهذا من القول على الله بغير علم، ويلزم على هذا القول إلغاء ما جاء في القرآن من النصوص الدالة على كتابة المقادير وعلى
اللوح المحفوظ - وهو أم الكتاب، والإمام المبين، والكتاب المبين - وإلغاء النصوص ليس بالأمر الهين، ومن ألغى نصا من نصوص القرآن فهو على شفا هلكة.
الخطأ الثالث: القول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على كتابة المقادير وعلى القلم الذي كتبت به المقادير في أحاديث كثيرة وهي نصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ومن زعم أن هذه النصوص عبارة عن العلم القائم بذات الله تعالى وعلى سبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله فقد صرف النصوص عن ظاهرها، وقال على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. وقد ورد الوعيد الشديد لمن قال على الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
الخطأ الرابع: تحريف الكلم عن مواضعه فإن من صرف نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة عن ظاهرها وتأولها على غير ما يراد بها فقد حرف الكلم عن مواضعه وتشبه بالأمة المغضوب عليها.
الخطأ الخامس: ما وقع منه من التغيير في متن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقد تقدم التنبيه عليه.
الخطأ السادس: ضربه المثل لعلم الله تعالى بالمقادير وكتابتها بقول الرجل لصاحبه حاجتك مكتوبة في صدري، وقد قال الله تعالى:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ثم أن المثل الذي ذكره - أو على الأصح ابتكره - ليس بصحيح في نفس الأمر فان الصدر ليس بمحل للكتابة حتى يضرب المثل بالكتابة فيه وإنما هو محل للحفظ كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
وقد ذكر ابن محمود السبب الحامل له على ضرب هذا المثل المبتكر وهو أنه ليس عنده وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه.
وأقول كان ينبغي أن يسعه ما وسع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والجماعة من الإيمان بما جاء في نصوص الكتاب والسنة من إثبات كتابة المقادير، وإثبات القلم الذي كتبت به المقادير، وإثبات اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه المقادير وإمرار النصوص كما جاءت وترك البحث والتنقيب عما أخفى علمه من الأمور الغيبة وأن لا يتعرض لها بالتأويل وضرب الأمثال.
الخطأ السابع: ما يلزم على قوله في كتابة المقادير إنها عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها مع إيراده لحديث «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض» أن يكون الله غير عالم بالأشياء في الأزل وإنما علم بها قبل خلق السموات والأرض بخمسمائة على حد ما جاء في تعبير ابن محمود. وهذا موافق لقول غلاة القدرية الذين نبغوا في آخر عصر الصحابة ورد عليهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم وتبرؤا منهم، ومن اعتقد هذا المعتقد الباطل فقد وصف الرب تبارك وتعالى بالجهل قبل كتابته للمقادير، وهذا من أقبح الأقوال وأشنعها وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمة الله تعالى في جواب له أن هذا القول مهجور باطل مما اتفق على بطلان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين، بل كفّروا من قاله، والكتاب والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده انتهى من مجموع الفتاوى ج 8 صفحة 491.
فإن قال ابن محمود: إنه يعتقد أن علم الله قديم وأن الله لم يزل عالما بجميع الأشياء في الأزل.
قيل له يلزمك على هذا القول مع قولك أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها أن تكون الكتابة أزلية أيضا، ويلزم على هذا تكذيب ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» وتكذيب ما جاء في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض» وتكذيب الأحاديث الثابتة في خلق القلم وأمره بكتابة المقادير من حين خلقه الله، وسيأتي ذكر الأحاديث في ذلك في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
ويلزم أيضا على القول بأن الكتابة أزلية أن يكون القلم واللوح المحفوظ أزليين وهذا موافق لقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، والقول بقدم العالم كفر بلا نزاع.
والمقصود هنا بيان أن أحد الأمرين لازم لابن محمود، أما أن يقول: إن علم الله حادث وكائن وقت كتابة المقادير، أو أن يقول: إن كتابة المقادير قديمة أزلية، وكل من الأمرين باطل وخطير.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الجزء الثامن من الفتاوى أن غلاة القدرية أنكروا علم الله القديم وكتابه السابق، قال: وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة ورد عليهم الصحابة وسلف الأمة وتبرؤا منهم انتهى من صفحة 59.
وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر في صفحة 449 من المجلد الثامن: مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ وهو أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء ألا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها.
وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف أي مستأنف.
وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين بني أمية في أواخر عصر عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤا منهم وأنكروا مقالتهم كما قال عبد الله بن عمر لما أخبر عنهم، إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني
برئ منهم وأنهم برءاء مني، وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن المنكرين لعل الله المتقدم يكفرون انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر: والقرآن والسنة تثبت القدر وتقدير الأمور قبل أن يخلقها وأن ذلك في كتاب وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في مسائل العلم والإرادة، فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره» ، وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة من المكذبين بالقدر. انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضا في تفسيره لسورة (سبح اسم ربك الأعلى): وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما. انتهى.
وقد تضافرت النصوص من الكتاب والسنة على إثبات كتابة والمقادير وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث على ذلك، وأنا أذكر من النصوص ما تيسر وبالله المستعان.
فأما النصوص من القرآن ففي آيات كثيرة، منها قوله تعالى في سورة الحج:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} قال ابن
الجوزي في تفسيره: (أن ذلك) يعني ما يجري في السماوات والأرض (في كتاب) يعني اللوح المحفوظ، وقال البغوي:(في كتاب) يعني اللوح المحفوظ، وقال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه أنه محيط بما في السموات وما في الأرض فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ - ثم ذكر حديث «إن الله قدر مقادير الخلائق» وحديث «أول ما خلق الله القلم» وسيأتي ذكرهما مع الأحاديث إن شاء الله تعالى، وذكر أيضا ما رواه ابن أبي حاتم عن أبن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب، فقال القلم: وما أكتب، قال علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: «ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض» قال ابن كثير: وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره، وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما وهو سهل عليه يسير لديه ولهذا قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . انتهى.
وقد فرق الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين العلم والكتابة فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فهذه الجملة فيها إثبات العلم، ثم قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} هذه الجملة فيها إثبات الكتابة، وفي هذه الآية أبلغ رد على ابن محمود حيث جمع بين ما فرق الله بينه فزعم أن الكتابة عبارة عن العلم القائم بذات الله.
الآية الثانية قوله تعالى في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} :يعني قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار {ولا في أنفسكم} من الأمراض وفقد الأولاد {إِلَّا فِي كِتَابٍ} وهو اللوح المحفوظ {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: نخلقها يعني الأنفس {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل انتهى، وفي تفسير البغوي وابن كثير نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة.
قال ابن كثير: وهذه الآية العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله، وقوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وقوله تعالى:{لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي: أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي أعطاكم، أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن
ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس، ولهذا قال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} . انتهى.
الآية الثالثة قوله تعالى في سورة النمل: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} : أي وما من جملة غائبة {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} يعني: اللوح المحفوظ. انتهى.
وقال البغوي في تفسيره {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ} : أي جملة غائبة من مكتوم سر وخفي أمر وشيء غائب {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي: في اللوح المحفوظ. انتهى.
وقال القرطبي في الكلام على هذه الآية: أي ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده فكيف يخفي عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه، وقيل أي كل شي هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه، والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته. انتهى.
الآية الرابعة قوله تعالى في سورة هود: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال البغوي: أي كل مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها، قال ابن الجوزي: وهذا قول المفسرين.
الآية الخامسة قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال: ابن جرير يقول: ولا شيء مما هو موجود أو مما سيوجد ولم يوجد بعد إلا وهو مثبت في اللوح
المحفوظ مكتوب ذلك فيه ومرسوم عدده ومبلغه والوقت الذي يوجد فيه والحال التي يفني عليها، وقال البغوي: يعني الكل مكتوب في اللوح المحفوظ.
الآية السادسة قوله تعالى في سورة يونس: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} قال ابن الجوزي في تفسيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو اللوح المحفوظ، وقال البغوي في تفسيره: هو اللوح المحفوظ.
الآية السابعة قوله تعالى في سورة فاطر: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قال البغوي في تفسيره: قال سعيد بن جبير: مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره، وقال ابن الجوزي في تفسيره: المعنى ما يذهب من عمر هذا المعمر يوم أو ليلة إلا وذلك مكتوب - ثم قول سعيد بن جبير الذي تقدم ثم قال - وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس وبه قال عكرمة وأبو مالك في آخرين، فأما الكتاب فهو اللوح المحفوظ. انتهى.
الآية الثامنة قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} : ما تركنا شيئا إلا قد كتبناه في أم الكتاب رواه ابن جرير، وعن عبد الرحمن بن زيد نحو ذلك رواه ابن
جرير أيضا، وقال البغوي في قوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} : أي في اللوح المحفوظ.
الآية التاسعة قوله تعالى في سورة طه: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} قال البغوي: يعني في اللوح المحفوظ، وكذا قال ابن الجوزي وابن كثير.
الآية العاشر قوله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال البغوي: أي أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يُبدل ولا يُغير، وقال ابن الجوزي: قال المفسرون: وهو اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما يكون ويحدث.
الآية الحادية عشرة قوله تعالى في سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} قال ابن كثير: أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البغوي وابن الجوزي {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}: وهو اللوح المحفوظ.
الآية الثانية عشرة: قوله تعالى في سورة الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} قال ابن كثير: {وإنه} أي: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي: اللوح المحفوظ قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، وقال البغوي:{وإنه} يعني: القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} في اللوح المحفوظ قال قتادة: {أُمِّ الْكِتَابِ} أصل الكتاب وأم كل شيء أصله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب بما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} فالقرآن مثبت عند
الله في اللوح المحفوظ كما قال: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وكذا قال ابن الجوزي القرآن مثبت عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ.
الآية الثالثة عشرة قوله تعالى في سورة الواقعة: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} قال البغوي: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} مصون عند الله في اللوح المحفوظ، وقال ابن الجوزي:{فِي كِتَابٍ} فيه قولان أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله ابن عباس والثاني: أنه المصحف الذي بأيدينا قاله مجاهد وقتادة.
الآية الرابعة عشرة قوله تعالى في سورة (ق): {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} قال ابن الجوزي أي: حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ قد أثبت فيه ما يكون، وقال البغوي في قوله تعالى:{وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ. انتهى.
الآية الخامسة عشرة قولة تعالي في سورة البروج: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قال البغوي: هو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان، وقال ابن الجوزي نحو ذلك، وقال ابن كثير: أي هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل. انتهى.
الآية السادسة عشرة قوله تعالى في سورة النبأ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} قال البغوي: أي وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ كقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وقال ابن الجوزي: قال المفسرون: وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ. انتهى.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن طاوس قال: كنت جالسا مع ابن عباس رضي الله عنهما في حلقة فذكروا أهل القدر فقال: أفي الحلقة منهم أحد فآخذ برأسه ثم أقرأ عليه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ثم اقرأ عليه آية كذا وآية كذا - آيات في القرآن، إسناد كل منهما صحيح على شرط الشيخين.
وهذه الآية من سورة الإسراء هي الآية السابعة عشرة من الآيات الدالة على كتابة المقادير على أحد القولين فيها. قال البغوي: قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} أي أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يعني وقضينا عليهم فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ انتهى وذكر ابن الجوزي في تفسيره نحو ذلك.
الآية الثامنة عشر: قوله تعالى في سورة الأنفال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال أبو جعفر ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يقول لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله مُحل لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. انتهى.
وقال البغوي في تفسيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم وكانوا إذا أصابوا شيئا من الغنائم جعلوه للقربان فكانت تنزل نار من السماء فتأكله، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء فأنزل الله عز وجل {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يعني: لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يُحل لكم الغنائم.
وقال ابن كثير في تفسيره: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} يعني: في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. انتهى.
أما النصوص من السنة على إثبات كتابة المقادير فهي كثيرة جدا وقد تقدم منها ثلاثة أحاديث، أولها حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء» رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة والآجري في كتاب الشريعة وهذا لفظ مسلم وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير فإن ذلك أزلي لا أول له. انتهى.
الثاني: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيم جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.
وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه عن جابر رضي الله عنه أن سراقة بن جعشم قال: يا رسول الله أخبرنا عن أمرنا كأننا ننظر إليه أبما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير أو بما يستأنف قال: «بل بما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير» قال: ففيم العمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل ميسر»
قال: سراقة فلا أكون أبداً أشد اجتهادا في العمل مني الآن.
قال النووي في شرح مسلم: قوله: «جفت به الأقلام» أي: مضت به المقادير وسبق علم الله تعالى به وتمت كتابته في اللوح المحفوظ وجف القلم الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان، قال العلماء: وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه والصحف المذكورة في الأحاديث كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك وصفته فعلمها إلى الله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والله أعلم. انتهى.
الثالث حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلا من جهينة أو من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضى عليهم أو مضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم واتخذت عليهم به الحجة قال: «بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم» قال: فلم يعملون إذا يا رسول الله؟ قال: «من كان الله عز وجل خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم.
وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه وهو الحديث الرابع.
الحديث الخامس عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال: «اقبلوا البشري يا بني تميم» ، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من أهل اليمين فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم» ، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض» رواه البخاري بهذا اللفظ والترمذي مختصرا وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقد رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح ولفظه عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قال: قالوا: قد بشرتنا فأعطنا قال «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن» قال: قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال: فيه «كان الله عز وجل ولم يك شيء وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض» .
الحديث السادس عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني قال: يا بني أنك لن تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حقه حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره، قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» يا بني؛ إن مت ولست على ذلك دخلت النار، رواه الإمام أحمد.
وقد رواه أبو داود السجستاني بنحوه وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: له اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» وفي رواية لأحمد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله تبارك وتعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: فاكتب ما يكون وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة» .
ورواه أبو داود الطيالسي وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، فقال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد» .
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلقه الله عز وجل القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: أكتب القدر فجرى تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
ورواه الترمذي من طريق أبي داود الطياليسي حدثنا عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد أن أهل البصرة يقولون في القدر قال: يا بني أتقرأ القرآن قلت: نعم، قال: فاقرأ الزخرف، قال: فقرأت:
{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فقال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات وقبل أن يخلق الأرض فيه أن فرعون من أهل النار وفيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ما كان وصية أبيك عند الموت قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله خيره وشره، فإن مت على غير هذا دخلت النار إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب، القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
الحديث السابع: عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد» رواه رزين.
الحديث الثامن: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره أن يكتب كل شيء» رواه البزار قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما خلق الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون» رواته كلهم ثقات.
الحديث التاسع: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة» رواه الطبراني قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلق الله عز وجل القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون وما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة» رواه الآجري في كتاب الشريعة.
الحديث الحادي عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه الإمام احمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
الحديث الثاني عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني رجل شاب وأخاف العنت ولا أجد ما أتزوج به ألا أختصي فسكت عني ثم قلت له؛ فسكت عني ثم قلت له؛ فسكت ثم قال: «يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاق فاختص على ذلك أو ذر» رواه البخاري والنسائي.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله: «جف القلم بما أنت لاق» أي نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ فبقي القلم الذي كتب به جافا لا مداد فيه لفراغ ما كتب به.
وقال الحافظ أيضا في الكلام على هذا الحديث (جف القلم):أي فرغت الكتابة إشارة إلى أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم، وقال الطيبي: هو من إطلاق اللازم على الملزوم لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم عن مداده، قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن كتابة ذلك انقضت من أمد بعيد. وقال عياض: معني جف القلم أي لم يكتب بعد ذلك شيئا، وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان به ولا يلزمنا معرفة صفته. انتهى.
وقوله: «فاختص على ذلك أو ذر» قال الحافظ ابن حجر: ليس الأمر فيه لطلب الفعل بل هو للتهديد وهو كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} والمعنى إن فعلت أو لم تفعل فلابد من نفوذ القدر وليس فيه تعرض للخصاء، ومحصل الجواب أن جميع الأمور بتقدير الله في الأزل فالخصاء وتركه سواء فإن الذي قدر لابد أن يقع. انتهى.
الحديث الثالث عشر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل» رواه الإمام أحمد والترمذي والبزار والطبراني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الهيثمي: رجال أحد إسنادي أحمد ثقات، وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: صحيح قد تداوله
الأئمة وقد احتجا بجميع رواته ثم لم يخرجاه ولا أعلم له علة، وقال الذهبي: في تلخيصه على شرطهما ولا علة له.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ويقال: إن عبد الله بن طاهر أمير خراسان للمأمون سأل الحسين بن الفضل عن قوله تعالى {:كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} مع هذا الحديث، فأجاب هي شئون يبديها لا شئون يبتديها فقام إليه وقبل رأسه. انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وإسناده صحيح على شرط البخاري.
وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «إن أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب عنده ثم قرأ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ورجاله ثقات.
وعن أيضا رضي الله عنه أنه قال: «أول ما خلق الله القلم قال: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة» رواه ابن جرير بإسناد صحيح على شرط الشيخين، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه وزاد في آخره «وكان عرشه على الماء» وإسناده صحيح على شرط الشيخين وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية الآجري وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «أول ما خلق الله القلم خلقه من هجاء قبل الألف واللام فتصور قلما من نور فقيل له أجر في اللوح المحفوظ قال: يا رب بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة فلما خلق الله الخلق وكل بالخلق حفظة يحفظون عليهم
أعمالهم فلما قامت القيامة عرضت عليهم أعمالهم وقيل {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ثم عرض بالكتابين فكانا سواء. قال ابن عباس: ألستم عربا هل تكون النسخة إلا من كتاب؟» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعنه أيضا رضي الله عنه أنه قال: «إن الله جل ذكره خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره أن يجري بإذنه فقال القلم: بما يا رب أجري؟ قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أو نبات أو نفس أو أثر يعني به العمل أو رزق أو أجل، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش» رواه ابن أبي حاتم والطبراني.
وعن مجاهد قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن هاهنا قوما يقولون في القدر فقال: «إنهم يكذبون بكتاب الله عز وجل لآخذن بشعر أحدهم فلأنصونه، إن الله عز وجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، ثم خلق فكان أول ما خلق القلم ثم أمره فقال: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، وإنما تجري الناس على أمر قد فرغ منه» رواه الآجري في كتاب الشريعة.
قوله فلأنصونه أي أخذ بناصيته.
وهذه الآثار عن ابن عباس رضي الله عنهما لها حكم المرفوع لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا وإنما يقال عن توقيف:
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:
واذكر حديث السبق للتقدير والـ
…
توقيت قبل جميع ذي الأعيان
خمسين ألفا من سنين عدها الـ
…
مختار سابقة لذي الأكوان
هذا وعرش الرب فوق الماء من
…
قبل السنين بمدة وزمان
والناس مختلفون في القلم الذي
…
كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده؟
…
قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه
…
قبل الكتابة كان ذا أركان
وكتابة القلم الشريف تعقبت
…
إيجاده من غير فصل زمان
لما براه الله قال اكتب كذا
…
فغدا بأمر الله ذا جريان
فجرى بما هو كائن أبدا إلى
…
يوم المعاد بقدرة الرحمن
ومما ذكرته من نصوص الآيات والأحاديث على كتابة المقادير وعلى القلم الذي كتبت به المقادير وعلى الكتاب المبين الذي كتبت فيه المقادير أبلغ رد على ابن محمود فيما زعمه من أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله.
وقد تقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى من إجماع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب.
وتقدم أيضا ما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون بخلق الله لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان،
وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون، وفي هذا أبلغ رد على ابن محمود.
وأما قوله: وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن.
فجوابه: أن يقال ليست رسالة ابن محمود في القضاء والقدر مما يقرب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن، وإنما هي مما يقرب الأذهان إلى الإذعان بقول غلاة القدرية الذين ينكرون كتابة المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد تبعهم ابن محمود على قولهم الباطل حيث زعم في صفحة 13 وصفحة 15 أن كتابة المقادير عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء فبل وقوعها وأن ذلك بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله عبر عنها سبحانه بالكتابة هذا كلامه وهو صريح في نفي الكتابة كما تقدم بيان ذلك.
وأما قوله فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها، وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها.
فقال: إن المصائب كلها بقضاء وقدر وأسبابها بقضاء وقدر فالكل معلوم للرب تبارك وتعالى في الأزل ومكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. ومن زعم أن المصائب تقع بالأسباب وحدها ولم تكن بقضاء وقدر سابق فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة.
التنبيه الرابع: قال ابن محمود في صفحة 17 و 18 ما نصه:
وهنا حديث يجادل به أهل الجدل من أهل القدر وهو في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِلْتقى آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء فبما أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم: أنت موسى رسول الله وكلمك الله تكليما وقد قرأت التوراة أفلا وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى) وذلك قبل أن أخلق بأربعين عاما، قال: بلى قال: فلم تلومني على أمر قدره عليَّ، قال: فحج آدم موسى» .
وهذا الحديث من مشكل الآثار، وقد ألحق به ابن حجر في فتح الباري عدة إشكالات كثيرة، أهمها أنه مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله:{وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وفي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} فلم يحتج آدم على ربه بكتابة المقادير بل اعترف بذنبه ولجأ بالتوبة إلى ربه، ومنها أنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة، ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية؟ إلى غير ذلك مما ذكر ج 11 ص 406.
وأقول: إن في كلام ابن محمود عدة أخطاء، أحدها قوله: إن هذا الحديث من مشكل الآثار، وهذا يقتضي الطعن في صحة الحديث والتوقف عن قبوله وهو قول القدرية كما سيأتي بيانه، فأما أهل السنة والجماعة فإنهم قد تلقوا هذا الحديث بالقبول والتسليم واتفقوا على صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث ثابت بالاتفاق رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى من رواية الأئمة الثقات الأثبات. انتهى. وقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري صفحة 407 ج 11 الطبعة الأولى سنة 1325هـ.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: من كذب بهذا الحديث فمعاند لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك به عدالة وحفظا وإتقانا. انتهى.
وسيأتي كلام ابن القيم في ذكر الاتفاق على صحة هذا الحديث.
ونقل الحافظ ابن حجر في صفحة 410 ج 11 من فتح الباري عن ابن عبد البر أنه قال: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعده. انتهى.
وقال الحافظ في صفحة 413 ج 11 وفيه حجة لأهل السنة في إثبات القدر وخلق أفعال العباد. انتهى.
وما أحسن ما فعله هارون الرشيد مع من استشكل حديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى فقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه من طريق يعقوب بن سفيان قال: سمعت علي بن المديني يقول: قال محمد بن خازم: كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح علي أمير المؤمنين هارون فكلما قلت: قال رسول الله، قال: صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرت حديث «التقى آدم وموسى» فقال عمه - وسماه علي
فذهب علي - فقال: يا محمد أين التقيا؟ قال: فغضب هارون، وقال: من طرح إليك هذا؟ وأمر به فحبس ووكل بي من حشمه من أدخلني إليه في محبسه، فقال: يا محمد والله ما هو إلا شيء خطر ببالي، وحلف لي بالعتق وصدقة المال وغير ذلك من مغلظات الأيمان ما سمعت ذلك من أحد ولا جرى بيني وبين أحد في هذا كلام وما هو إلا شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام، قال: فلما رجعت إلى أمير المؤمنين كلمته قال: ليدلني على من طرح إليه هذا الكلام فقلت: يا أمير المؤمنين قد حلف بالعتق ومغلظات الأيمان أنه إنما هو شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال: فأمر به فأطلق من الحبس وقال لي: يا محمد ويحك إنما توهمت أنه ألقى إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه فيدلني عليهم فأستبيحهم، وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق، قال هذا أو نحوه من الكلام. انتهى.
وروى أبو عثمان الصابوني في عقيدته بإسناده عن محمد ابن حاتم المظفري قال: كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة «احتج آدم وموسى» فقال عيسى بن جعفر: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟، قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟ قال: فما زال يقول حتى سكت عنه.
قال: الصابوني هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف على طريق الإنكار له، والابتعاد عنه ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.
الخطأ الثاني: قوله: إن ابن حجر ألحق به إشكالات كثيرة في فتح الباري، وليس الأمر كما زعمه ابن محمود فان الحافظ ابن حجر لم يلحق به إشكالات من قبل نفسه ولا عن أحد من أهل السنة، وإنما ذكر الإشكالات عن القدرية فهم سلف من استشكل هذا الحديث الصحيح.
قال في فتح الباري صفحة 411 ج 11 الطبعة الأولى سنة 1325 هـ ما نصه:
وقد أنكر القدرية الحديث لأنه صريح في إثبات القدر السابق وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به وشهادته بأنه غلب موسى، فقالوا: لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه وقد قتل هو نفسا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له. ثانيها لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذي فرغ من كتابته على العبد لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها فيحتج بالقدر السابق، ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص والحدود ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له، ثم ذكر الحافظ الجواب عن قول القدرية من أوجه فليراجع ذلك في صفحة 411 ج 11 وما بعدها.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد اختلفت مسالك الناس في هذا الحديث فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر السابق، واحتج به قوم من الجبرية وهو ظاهر لهم بادئ الرأي حيث قال: فحج آدم موسى لما احتج عليه بتقدم كتابه - ثم ذكر قول من قال من العلماء: إن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على المصيبة لا المعصية.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل): وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن، ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة - ثم ذكر أمثلة مما رده أهل البدع من الأحاديث الصحيحة إلى أن قال: إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المصيبة التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية ولهذا قال له: أخرجتنا ونفسك من الجنة. وفي لفظ خيبتنا، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي. والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي أتلومني على المصيبة
قدرت عليَّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة، هذا جواب شيخنا رحمه الله يعني شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية.
قال ابن القيم: وقد يتوجه جواب آخر وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بنفع في موضع ويضر لي موضع فينفع إذا احتج بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمرا ولا نهيا ولا يبطل به شريعة بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة.
يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا على قبل أن أخلق، فإذا أذنب الرجل ذنبا ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول هذا أمر كان قد قدر على قبل أن أخلق، فانه لم يدفع بالقدر حقا ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلا محرما أو يترك واجبا فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره فيبطل بالاحتجاج به حقا ويرتكب باطلا كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو من أحسن الأجوبة عن احتجاج آدم بالقدر.
الخطأ الثالث: قوله عن الإشكالات التي نسبها إلى الحافظ ابن حجر أن أهمها أنه - أي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله:
…
{وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وفي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} .
والجواب: أن يقال أولا ليس هذا الكلام في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ ابن حجر.
ويقال ثانيا ليس في الحديث ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه وإنما هو موافق للقرآن لما فيه من إثبات القدر السابق، وقد تقدم قول ابن عبد البر أنه أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وقول الحافظ ابن حجر أنه صريح في إثبات القدر السابق وقول ابن كثير أنه قد تضمن إثبات القدر السابق.
الخطأ الرابع: قوله: إنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة.
وجوابه: أن يقال: أولا ليس هذا الكلام بهذه العبارة في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ بن حجر.
ويقال: ثانيا: إن ابن حجر لم يقل إن هذا الحديث يقوي مذهب الجبر وإنما نقل عن ابن عبد البر أنه قال: ليس فيه حجة للجبرية وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم، وقال ابن حجر أيضا في آخر الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لما كان المراد به الرد على القدرية الذين ينكرون سبق القدر اكتفى به معرضا عما يوهمه ظاهره من تقوية مذهب الجبر لما تقرر من دفعه في مكانه.
الخطأ الخامس: قوله: ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية.
وجوابه: أن يقال: أولا: ليس هذا الكلام بهذه العبارة في فتح الباري فلا تصح نسبته إلى الحافظ ابن حجر.
ويقال: ثانيا: إن ابن حجر ذكر اختلاف العلماء في وقت احتجاج آدم وموسى وذكر فيها احتمالات لبعض العلماء لا دليل على شيء منها، وأقربها ما جزم به ابن عبد البر والقابسي أنهما التقيا في البرزخ بعد وفاة موسى، ويؤيد ذلك قوله في إحدى روايات مسلم:«احتج آدم وموسى عند ربهما» وقد ترجم البخاري على ذلك في كتاب القدر فقال: (باب، تحاج آدم وموسى عند الله).
وأحسن ما يسلك في ذلك إمرار الحديث كما جاء مع الإيمان به، ولو كان في تعيين وقت التقائهما فائدة تعود على المكلفين لبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
وأيضا فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم ممن روي حديث احتجاج آدم وموسى أنهم تعرضوا لذكر الاحتمالات في وقت التقاء آدم وموسى، ولو كان في ذلك فائدة دينية لكانوا إليها أسبق وعليها أحرص.
وقد قال ابن الجوزي فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم، وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلا انتهى صفحة 407 و 408 ج 11.
التنبيه الخامس قال ابن محمود في صفحة 19 و 20 و 21 ما ملخصه:
وأما الحديث الثاني الذي يحتج به القدرية من أمثال هؤلاء فهو في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فو الذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
إن هذا الحديث كثيرا ما يجادل به الجهلة من خاصة الشباب الذين لم يعرفوا حقيقة القدر لظنهم أنهم مجبورون على أفعالهم الخيرية والشرية فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل وآخرون مكتوب لهم الشقاوة مهما عملوا من عمل، فيظنون إن هذا القدر المكتوب هو عبارة عن الجبر وسلب الاختيار، والتحقيق أن الكتابة نوعان، كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وان الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم، فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل، وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة فهي كسبهم ويترتب الجزاء على ذلك.
وأما قوله: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان وذلك أن الرجل يولد مؤمنا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته وتجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته، وليس سبق الكتاب الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه.
وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فهو رجل يولد كافراً ويعيش كافرا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك، وفي حديث أبي سعيد مرفوعا «إن الرجل يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ثم يموت كافرا، وإن الرجل يولد كافرا ويعيش كافرا ثم يموت مؤمنا» رواه الإمام أحمد، وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته انتهى كلام ابن محمود.
وأقول: هذا الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه من أدلة إثبات القدر السابق وفيه الرد على من أنكر كتابه المقادير وعلى من زعم أن الكتابة عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وذلك لما فيه من النص على الكتابة وهو نص صريح لا يحتمل التأويل.
قال النووي في شرح مسلم: المراد بجميع ما ذكر من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة والعمل والذكورة والأنوثة أنه يظهر ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته وإلا فقضاء الله تعالى سابق على ذلك وعلمه وإرادته لكل ذلك موجود في الأزل قال: وفي هذا الحديث تصريح بإثبات القدر. انتهى.
وسيأتي في كلام ابن القيم أن حديث ابن مسعود وما في معناه كلها تدل على إثبات القدر السابق.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في ذكر فوائد حديث ابن مسعود رضي الله عنه: وفيه أن الأعمال حسنها وسيئها أمارات وليست بموجبات وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء قاله الخطابي.
وقال الحافظ أيضا: وفيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق فالسابق ما في علم الله تعالى واللاحق ما يقدر على الجنين في بطن أمه، كما وقع في هذا الحديث، وهذا هو الذي يقبل النسخ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى.
وقال الحافظ أيضا: وفي الحديث أن الأقدار غالبة والعاقبة غائبة فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة. انتهى.
وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» .
وروى مسلم أيضا عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» .
وروى ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمن أهل الجنة» وهذه الأحاديث تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على إثبات القدر السابق.
أما قول ابن محمود فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل وآخرون مكتوب لهم الشقاء مهما عملوا من عمل.
فيقال له: وما تنكر من ذلك وقد أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أن السعادة أو الشقاوة تكتب للإنسان وهو في بطن أمه، فمن كان من أهل السعادة ختم الله له بعمل أهل السعادة ولو عمل قبل ذلك أي عمل من أعمال أهل النار، ومن كان من أهل الشقاوة ختم الله له بعمل أهل الشقاوة ولو عمل قبل ذلك أي عمل من أعمال أهل الجنة.
ولم ينفرد ابن مسعود رضي الله عنه برواية ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد ثبت ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
منها ما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكل الله بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ومسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة - وقال سفيان مرة: أو خمس وأربعين ليلة - فيقول: يا رب، ماذا أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله تبارك وتعالى فيكتبان فيقولان: ماذا أذكر أم أنثى؟ فيقول الله عز وجل فيكتبان فيكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص» هذا لفظ أحمد وإسناده إسناد مسلم، ولفظ مسلم قال:«يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» .
وفي رواية لمسلم عن عامر بن واثلة رضي الله عنه أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص» .
وفي رواية لمسلم أيضا عن أبي الطفيل - وهو عامر بن واثلة رضي الله عنه قال: دخلت على أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتصور عليها الملك قال زهير - وهو أبو خيثمة أحد رواته -: حسبته قال الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أو أنثى؟ فيجعله الله ذكرا أو أنثى، ثم يقول: يا رب أسوي أو غير سوي؟ فيجعله لله سويا أو غير سوي، ثم يقول: يا رب ما رزقه ما أجله ما خلقه؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا» .
ومنها ما رواه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يوما وأربعين ليلة بعث الله إليها ملكا فيقول: يا رب ما أجله فيقال له فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيعلم فيقول: شقي أو سعيد فيعلم» قال الهيثمي: فيه خصيف وثقه ابن معين وجماعة وفيه خلاف وبقية رجاله ثقات.
ومنها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يخلق نسمة قال ملك الأرحام معرضا: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره ثم يقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها» . وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: عن ابن عمر رضي الله عنهما ثم قال: رواه أبو يعلي والبزار ورجال أبي يعلي رجال الصحيح، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ومنها ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وأبو بكر الآجري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الله عز وجل حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول: أي رب ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية؟ أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول: شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: أي رب وما رزقه؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: ما خلقه ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم» ورواه البزار قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
ومنها ما رواه البزار والطبراني في الصغير، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطنها» قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح.
ومنها ما رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله عز وجل يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا» ورواه الطبراني بمثله قال الهيثمي: وإسناده جيد.
ومنها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم وأبو داود السجستاني، والترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرق أبويه طغيانا وكفرا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وهذه الأحاديث الصحيحة تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على أن السعادة أو الشقاوة تكتب للإنسان وهو في بطن أمه. وهذه الكتابة غير الكتابة التي كانت في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
قد قال شارح العقيدة الطحاوية بعد ما ذكر حديث جابر وحديث ابن عباس رضي الله عنهم في ذكر الأقلام وكتابة المقادير؛ قال: وقد جاء الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة فدل ذلك على أن للمقادير أقلاما غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ، والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة: القلم الأول العام الشامل لجميع المخلوقات وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ. القلم الثاني خبر خلق آدم وهو قلم عام أيضا لكن لبني آدم. ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق أبيهم. القلم الثالث حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
القلم الرابع الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم كما ورد ذلك في الكتاب والسنة، وإذا علم العبد أن كلا من عند الله فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (شفاء العليل) بعد أن ساق حديث ابن مسعود وما في معناه كحديث أنس وحديث حذيفة بن أسيد وغيرها من الأحاديث التي فيها النص على كتابة رزق الجنين وأجله وذكورته أو أنوثته وشقاوته أو سعادته؛ قال: فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته أو سعادته وهو في بطن أمه واختلفت في وقت هذا التقدير. وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السموات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم. ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم. وحديث أنس غير مؤقت. وأما حديث حذيفة بن
أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوماً، وفي لفظ بأربعين ليلة، وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ بثلاثة وأربعين ليلة. وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله، وأن لملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حين يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة. وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنقطة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود: ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات. وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير. فاتفقت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر السابق ومراتب التقدير. انتهى.
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الله تعالى قضى بالسعادة لبعض الناس قبل أن يخلقهم وقضى بالشقاوة لبعض الناس قبل أن يخلقهم وفي بعضها أنه كتب ذلك؛ وهي تؤيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتدل على كتابة القدر السابق وسأذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
الحديث الأول عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «فرغ الله إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط قال الهيثمي: وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات، ورواه عبد الله بن الإمام
أحمد في كتاب السنة، وإسناده حسن، وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فرغ الله إلى كل عبد من خمس من رزقه وأجله وعمله وأثره ومضجعه» .
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال: «اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأهل السنن إلا النسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال النووي في الكلام على هذا الحديث مشيرًا إلى جميع طرقه التي ساقها مسلم: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها، قال الله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء ولا اعتراض على المالك في ملكه، قال: وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره ومن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعملهم كما قال: فسنيسره لليسرى وللعسرى وكما صرحت به هذه الأحاديث. انتهى.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله العمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف قال: (بل على أمر قد فرغ منه) قال: قلت: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني قال الهيثمي، وقال: عن عطاف بن خالد حدثني طلحة بن عبد الله وعطاف وثقه ابن معين وجماعة وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات إلا أن في رجال أحمد رجلا مبهما لم يُسم.
قلت: وما يأتي من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال: للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت ما نعمل فيه أقد فرغ منه أو في شيء مبتدأ أو أمر مبتدع قال: «فيما قد فرغ منه» فقال: مر رضي الله عنه ألا نتكل فقال: «اعمل يا ابن الخطاب فكل ميسر أما من كان من أهل السعادة فيعمل للسعادة وأما أهل الشقاء فيعمل للشقاء» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن علي وحذيفة بن أسيد وأنس وعمران بن حصين رضي الله عنهم.
قلت: وقد تقدم ذكر أحاديثهم.
وفي رواية للترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله فعلى ما نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه قال: «بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله أرأيت ما نعمل أشيء فرغ منه أم شيء يستأنف قال: «بل شيء قد فرغ منه» قال: ففيم العمل؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه البزار قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله نعمل في شيء نأتنفه أم في شيء قد فرغ منه قال: «في شيء قد فرغ منه» قال: ففيم العمل؟ قال: «يا عمر لا يدرك ذاك إلا بالعمل» قال: إذا نجتهد يا رسول الله ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحو رواية ابن حبان وإسناده صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه قال: «بل لأمر قد فرغ منه» قال: ففيم العمل إذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عامل ميسر لعمله» رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن جابر أيضا رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك ابن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة، وابن حبان في صحيحه، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة. وزاد ابن حبان قال سراقة: فلا أكون أبدا أشد اجتهادا في العمل منى الآن.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه أم أمر نستأنفه قال: «بل أمر - قد فرغ منه» قالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله: قال: «كل
امرئ مهيأ لما خلق له» رواه الإمام احمد وابنه عبد الله بسند حسن.
وعن ذي اللحية الكلابي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أنعمل في أمر مستأنف أو في أمر قد فرغ منه؟ قال: «بل في أمر قد فرغ منه» قال: ففيم نعمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد والطبراني. قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله أنعمل فيما جرت به المقادير وجف به القلم أو شيء يأتنفه؟ قال: «بل بما جرت به المقادير وجف به القلم» قال: ففيم العمل؟ قال: «اعمل فكل ميسر لما خلق له» رواه الطبراني والبزار بنحوه إلا أنه قال في آخره فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذا. قال الهيثمي: ورجال الطبراني ثقات.
وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أنعمل شيئا قد فرغ منه أم نستأنف العمل؟ قال: «بل لعمل قد فرغ منه» فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر له عمله» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن الجد الآن الجد» رواه الطبراني قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح وقد رواه ابن ماجه بنحوه مختصرا.
وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا بيكون ظلما قال: ففزعت من ذلك فزعا
شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك ألا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: «لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}» رواه مسلم، وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي بدون قصة أبي الأسود مع عمران رضي الله عنه وتقدم ذكره.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال عياض: أورد عمران على أبي الأسود شبهة القدرية من تحكمهم على الله ودخولهم بآرائهم في حكمه، فلما أجابه بما دل على إثباته في الدين قواه بذكر الآية وهي حد لأهل السنة. وقوله كل شيء خلق الله وملكه يشير إلى أن المالك الأعلى الخالق الآمر لا يعترض عليه إذا تصرف في ملكه بما يشاء وإنما يعترض على المخلوق المأمور. انتهى.
وعن يحي بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قالا: لقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فذكرنا القدر وما يقولون فيه - فذكر الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن وقت الساعة وأشراطها. قال: وسأله رجل من جهينة أو مزينة فقال: يا رسول الله فيما نعمل أفي شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يستأنف الآن؟ قال: «في شيء قد خلا أو مضى» فقال -أو بعض القوم-: يا رسول الله فيما نعمل؟ قال: «أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة وأهل
النار ييسرون لعمل أهل النار» رواه الإمام أحمد وأبو داود وإسناد كل منهما صحيح. وقد ساق مسلم إسناده ولم يذكر لفظه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أَعُلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: فقال: «نعم» قال: قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: «كل ميسر لما خلق له» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأبو داود السجستاني وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري قال رجل يا رسول الله أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: «نعم» قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: «كل يعمل لما خلق له أو لما ييسر له» .
قوله أعلم قال الحافظ ابن حجر: بضم العين والمراد بالسؤال معرفة الملائكة أو من أطلعه الله على ذلك. انتهى.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يراد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال: «فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» رواه الإمام أحمد
والترمذي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح قال: وفي الباب عن ابن عمر.
وعن هشام بن حكمي بن حزام رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفه فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار» رواه البزار وابن جرير والطبراني وابن مروديه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، قال الهيثمي: وإسناد الطبراني حسن.
وعن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار ويعمل أهل النار يعملون» فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» رواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن عبد الرحمن بن قتادة السلمي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله آدم ثم أخذ الخلق من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر» رواه الإمام أحمد قال الهيثمي: ورجاله ثقات. ورواه ابن حبان في صحيح والحاكم في مستدركه وقال فيه «على موافقة القدر» وقال: صحيح قد اتفقا على الاحتجاج برواته عن آخرهم إلى الصحابة ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم حين خلقه وضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم فقال للذي في يمينه إلى الجنة ولا أبالي وقال للذي في كفه اليسرى إلى النار ولا أبالي» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله والبزار والطبراني، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وعن أبي بصرة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي فقالوا: ما يبكيك ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ من شاربك ثم أَقِرَّهُ حتى تلقاني» قال: بلى ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى وقال: هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا» رواه الإمام أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القبضتين: «هذه في الجنة ولا أبالي وهذه في النار ولا أبالي» رواه البزار، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير نمر بن هلال وثقه أبو حاتم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القبضتين: «هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه» قال: فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر، رواه البزار والطبراني في الصغير قال الهيثمي: ورجال البزار رجال الصحيح.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال: «أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي.
وهذه الأحاديث تؤيد حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره وتدل على إثبات القدر السابق، وفي بعضها أن الله تعالى ميز بين السعداء والأشقياء من حين خلق آدم، وهذا مما يجب الإيمان به.
وكثير من العصريين ينكرون هذا ويكذبون بالأحاديث الواردة فيه وما ذاك إلا لجهلهم بالكتاب والسنة وإعراضهم عن الأخذ منهما. وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
فإن قيل فما الجمع بين ما تقدم ذكره من الأحاديث التي فيها النص على فراغ الرب تبارك وتعالى من أمر العباد وإن كلا ميسر لما خلق له وبين قول الله تعالى:
…
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} .
فالجواب: أن يقال أما ما جاء في الأحاديث التي تقدم ذكرها فهي نصوص لا تحتمل التأويل وليس في معناها اختلاف بين أهل السنة والجماعة، وأما ما جاء في الآية الكريمة فهو مجمل. وقد اختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره وذكرها غيره من المفسرين، أحدها أنه عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة وهذا مذهب عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وأبي وائل والضحاك وابن جريج.
والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ، روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد، وقال ابن قتيبة (يمحو الله ما يشاء) أي: ينسخ من القرآن ما يشاء (ويثبت) أي: يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم.
والثالث: أنه يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ودليل هذا القول ما رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك الموكل أذكر أم أنثى؟، فيقضي الله تعالى ويكتب الملك فيقول أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله ويكتب الملك فيقول عمله وأجله، فيقضي الله يكتب الملك ثم تطوى الصحيفة فلا يراد فيها ولا ينقص منها» .
والرابع يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة لا يغيران قاله مجاهد.
والخامس يمحو من جاء أجله ويثبت من لم يجئ أجله قاله الحسن.
والسادس يمحو من ذنوب عباده ما يشاء فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها روي عن سعيد بن جبير.
والسابع يمحو ما يشاء بالتوبة ويثبت مكانها حسنات قاله عكرمة.
والثامن يمحو من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب قاله الضحاك وأبو صالح. وقال ابن السائب: القول كله يكتب حتى إذا كان في يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب مثل قولك أكلت شربت دخلت خرجت ونحوه وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب انتهى كلام ابن الجوزي.
وأولى هذه الأقوال بالصواب ما وافق الأحاديث التي تقدم ذكرها وهو ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت، ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم لا تعارض بأقوال غيره من الناس كائنا من كان لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله تعالى من غيره وهو الذي يبين مراد الله من كتابه كما قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . فلو كانت الآية التي تقدم ذكرها تدل على وقوع المحو في السعادة والشقاوة والحياة والموت لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يقل بخلافه والله أعلم.
فان قيل فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» ، وروى البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» .
وروي الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مكتوب في التوراة من سره أن تطول حياته ويزاد في رزقه فليصل رحمه» صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وروى الحاكم أيضا عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد الله في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» .
وروى الحاكم أيضا عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أن يمد في عمره ويبسط في رزقه فليصل رحمه» وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر» صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه، وروى البخاري في الأدب المفرد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بر والديه طوبى له زاد الله عز وجل في عمره» وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، «صلة الرحم وحسن الجوار أو حسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» .
فالجواب: أن يقال: إن ظاهر هذه الأحاديث يوافق قول من قال أن المحو والإثبات يقع في الرزق والأجل وهو ظاهر ما تقدم ذكره عن مجاهد، وللعلماء في تأويل هذه الأحاديث
أجوبة ذكرها النووي في شرح مسلم وابن حجر العسقلاني في فتح الباري، فأما النووي فقال في شرح حديث أنس الذي تقدم ذكره: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» ينسأ مهموز أي يؤخر، والأثر الأجل لأنه تابع للحياة في أثرها وبسط الرزق توسيعه وكثرته، وقيل البركة فيه، وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .
وأجاب العلماء بأجوبة الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة وصيانتها عن الضياع في غير ذلك. والثاني أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه فإن وصلها زيد له أربعون وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك وهو من معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فبالنسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدره لا زيادة بل هي مستحيلة وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث، والثالث أن المراد بقاء ذكره الجميل بعده فكأنه لم يمت حكاه القاضي وهو ضعيف أو باطل والله أعلم. انتهى.
وأما الحافظ ابن حجر فقال في شرح حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما: قوله: «وينسأ» بضم أو له وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر، قوله:«في أثره» أي في أجله وسمى الأجل أثرا لأنه يتبع العمر، قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} والجمع بينهما من وجهين أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب
التوفيق للطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضي من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل فكأنه لم يمت، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية عليه والخلف الصالح.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلا: إن عمر فلان مائة إن وصل رحمه وستون إن قطعها. وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك، ويقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق، والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب فإن الأثر ما يتبع الشيء فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور، وقال الطيبي: الوجه الأول أظهر وإليه يشير كلام صاحب الفائق، قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقى أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم، ولما انشد أبو تمام قوله في بعض المراثي:
توفيت الآمال بعد محمد
…
وأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر، ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام: «واجعل لي لسان صدق
في الآخرين» وقد ورد في تفسيره وجه ثالث فأخرج الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال: «إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده» وله في الكبير من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما زيادة العمر ذرية صالحة» الحديث. وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله وقال غير في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك. انتهى.
وقد روى ابن أبي حاتم حديث أبي مشجعة ابن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله فقال: «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر» .
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع برزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها
غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها». فيه أن السعيد قد يشقى وأن الشقي قد يسعد لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة. وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير، وفيه أن الاعتبار بالخاتمة، قال ابن أبي جمرة: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم، وفيه أن عموم مثل قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} الآية مخصوص بمن مات على ذلك، وأن من عمل عمل السعادة وختم له بالشقاء فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس، وما ورد مما يخالفه يؤول إلى أن يؤول إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية وتمسك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسك الحنفية بمثل قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وأكثر كل من الفريقين الاحتجاج لقوله. والحق أن النزاع لفظي وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله.
انتهى.
وقد جاء في حديث صحيح أن ما سبق به القضاء والقدر من الرزق والأجل لا يتغير ولا يتبدل، فروى مسلم في صحيحه عن المعرور بن سويد عن عبد الله قال: قالت أم حبيبه زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا عن حله ولو كنت سألت
الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل».
قال النووي في شرح مسلم: هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله تعالى وعلمه في الأزل فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك، وأما ما ورد في حديث صلة الرحم تزيد في العمر ونظائره فقد سبق تأويله في باب صلة الأرحام واضحا، قال المازري: هنا قد تقرر بالدلائل القطعية أن الله تعالى أعلم بالآجال والأرزاق وغيرها وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه، فإذا علم الله تعالى أن زيدا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها أو بعدها لئلا ينقلب العلم جهلا، فاستحال أن الآجال التي علمها الله تعالى تزيد وتنقص فيتعين تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملك الموت أو غيره ممن وكله الله بقبض الأرواح وأمره فيها بآجال ممدودة فإنه بعد أن يأمره بذلك أو يثبته في اللوح المحفوظ ينقص منه ويزيد على حسب ما سبق به علمه في الأزل وهو معنى قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} وعلى ما ذكرناه يحمل قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} .
واعلم أن مذهب أهل الحق أن المقتول مات بأجله وقالت المعتزلة: قطع أجله، فإن قيل ما الحكمة في نهيها عن الدعاء بالزيادة في الأجل لأنه مفروغ منه وندبها إلى الدعاء بالاستعاذة من العذاب مع أنه مفروغ منه أيضا كالأجل، فالجواب أن الجميع مفروغ منه لكن الدعاء بالنجاة من عذاب النار ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة، وقد أمر الشرع بالعبادات فقيل ألا نتكل على كتابنا وما سبق لنا من القدر فقال:«اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وأما الدعاء بطول الأجل فليس عبادة وكما لا يحسن ترك الصلاة والصوم والذكر اتكالا على القدر فكذا الدعاء بالنجاة من النار ونحوه والله أعلم. انتهى.
وقد سئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الحديث الذي ورد «إن الله قبض قبضتين فقال: هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي» فهل هذا الحديث صحيح والله قبضها بنفسه أو أمر أحدا من الملائكة بقبضها؟ والحديث الآخر في «إن الله لما خلق آدم أراه ذريته عن اليمين والشمال ثم قال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وهذا في الصحيح.
فأجاب رحمه الله تعالى نعم هذا المعنى مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة مثل ما في موطأ مالك وسنن أبي داود والنسائي وغيره عن مسلم بن يسار وفي لفظ عن نعيم بن ربيعه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية - فذكر الحديث وقد تقدم ذكره قريبا - قال وفي حديث الحكم بن سفيان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قبض قبضة فقال: إلى الجنة برحمتي وقبض قبضة فقال: إلى النار ولا أبالي» .
وهذا الحديث ونحوه فيه فصلان أحدهما القدر السابق وهو أن الله سبحانه علم أهل الجنة من أهل النار من قبل أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل قد نص الأئمة كما لك والشافعي وأحمد أن من جحد هذا فقد كفر بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك وأخبر به قبل أن يكون كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين
ألف سنة وكان عرشه على الماء» وذكر الشيخ أيضا حديث عمران بن حصين الذي فيه «كان الله ولم يكن شيء غيره وكتب في الذكر كل شيء» وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته» الحديث، وذكر أيضا حديث ميسرة الفجر قلت: يا رسول الله متى كتبت نبيا؟. وفي لفظ متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» .
وذكر أيضا حديث ابن مسعود رضي الله عنه فيما يكتب للجنين وهو في بطن أمه وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا حديث علي بن أبي طالب الذي فيه «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» وقد تقدم ذكره، وذكر أيضا الحديث الذي فيه أنه قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار فقال:«نعم» فقيل له ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله علم أهل الجنة من أهل النار وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلموا على هذا الكتاب ويدعو العمل كما يفعله الملحدون وقال: كل ميسر لما خلق له، وأن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا من أحسن ما يكون من البيان، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه وهو قد جعل للأشياء أسبابا تكون بها فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا إذا علم الله أنه يولد لي فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق أن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء، وكذلك إذا علم أن هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب فلو قال إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر كان جاهلا ضالا لأن
الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل وهذا يروى بالشرب وهذا يموت بالقتل فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها، وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدا في الآخرة وهذا يكون شقيا في الآخرة قلنا ذلك لأنه يعمل بعمل الأشقياء، فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل هو شقي وإن لم يعمل كان باطلا لأن الله لا يدخل النار أحدا إلا بذنبه كما قال تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه، ومن ابتع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله.
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يعني إن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا. وقد روي أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية.
وكذلك الجنة خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته فمن قدر أنه يكون منهم يسره للإيمان والطاعة، فمن قال أنا أدخل الجنة سواء كنت مؤمنا أو كافرا إذا علم أني من أهلها كان مفتريًا على الله في ذلك فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان فإذا لم يكن معه إيمان لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنا بل كافرا فإن الله يعلم أنه من أهل النار لا من أهل الجنة.
ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر كان مخطئا أيضا لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه، وإذا قدر
للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.
ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لابد من ريح مربية بإذن الله، ولابد من صرف الآفات عنه، فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يوجد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع، وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة بل هي سبب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وقد قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهذه الباء باء السبب، أي بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم باء المقابلة كما يقال اشتريت هذا بهذا، أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات.
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس، فريق آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة وهؤلاء يؤول بهم الأمر
إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه، وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به. ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه كما قال:«يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن العالمين.
فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فعليها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} - إلى أن قال - فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ناظرًا إلى القدر فقد ضل، بل المؤمن كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فنعبده اتباعا للأمر ونستعينه إيمانا بالقدر، فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته كما يزعم القدرية والمجوسية فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة وخلقه لكل شيء.
ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد ويسر له ذلك كان محمودًا سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده واستحق من غضبه وعقابه أعظم مما يستحقه الأول، فإن العبد قد يريد ما يرضاه ويحبه ويأمر به ويقرب إليه، وقد يريد ما يبغضه الله ويكرهه ويسخطه وينهى عنه ويعذب صاحبه، فكل من هذين قد يسر له ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل
أهل الشقاوة»، ولما كان العبد ميسرا لما لا ينفعه، بل يضره من معصية الله والبطر والطغيان وقد يقصد عبادة الله وطاعته والعمل الصالح فلا يتأتى له ذلك أمر في كل صلاة أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والعبد له في المقدور حالان حال قبل القدر وحال بعده فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك. وإن كان ذنبا استغفر إليه من ذلك.
وله في المأمور حالان حال قبل الفعل وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر ولا يتحسر على الماضي بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب والاستغفار عند المعائب قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال علقمة وغيره: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم انتهى كلامه ملخصا.
وقال شيخ الإسلام أيضا في جواب آخر: وأما الإقرار بتقديم علم الله وكتابه لأفعال العباد فهذا لم ينكره إلا الغلاة من القدرية وغيرهم وإلا فجمهور القدرية من المعتزلة وغيرهم يقرون بأن الله علم ما العباد فاعلون قبل أن يفعلوه ويصدقون
بما أخبر به الصادق المصدوق من أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وذكر الشيخ أيضا حديث عمران بن حصين «كان الله ولم يكن شيء قبله وكتب في الذكر كل شيء» وحديث ابن مسعود «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه» وقد تقدم ذكرهما ثم قال: فهذا يقرُّ به أكثر القدرية وإنما ينكره غلاتهم كالذين ذكروا لعبد الله بن عمر في الحديث الذي رواه مسلم في أول صحيحه بحيث قيل له «قبلنا أقوام يقرءون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برءاء» ولهذا كَفَّرَ الأئمة كمالك والشافعي وأحمد من قال: إن الله لم يعلم أفعال العباد حتى يعملوها، بخلاف غيرهم من القدرية انتهى من صفحة 429 و 430 ج8 مجموع الفتاوى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الباب السابع من كتابه (شفاء العليل): يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال وأن ما قضاه الرب سبحانه وقدره لابد من وقوعه فتوسط العمل لا فائدة
فيه، وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى.
ثم ذكر ابن القيم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فيه «اعملوا فكل ميسر» وحديث جابر في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم، وحديث عمران بن حصين الذي فيه «أعلم أهل الجنة من أهل النار» وحديثه أيضا في سؤال الجهني أو المزني، وحديث ابن عمران عمر رضي الله عنه قال: يا نبي الله فعلى ما نعمل. وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبا فلتراجع، ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد، ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال ما كنت أشد اجتهادا مني الآن.
وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب، فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه. وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل زمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه، وإذا قدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح أو التسري والوطء، وإذا قدر له أن يستغل من أرضه من المغل كذا وكذا لم ينله إلا بالبذر وفعل أسباب الزرع، وإذا قدر الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب المحصلة لذلك من الأكل والشرب، وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن طل العمل اتكالا على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالا على ما قدر له.
وقد فطر الله سبحانه عباده على الحرص على الأسباب التي بها مرام معاشهم ومصالحهم الدنيوية، بل فطر الله على ذلك سائر الحيوانات فهكذا الأسباب التي بها مصالحهم الأخروية في معادهم فإنه سبحانه رب الدنيا والآخرة وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهادا في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال ما كنت أشد اجتهادا مني الآن.
فإن العبد إذا علم أن سلوك هذا الطريق يفضي به إلى رياض مونقة وبساتين معجبة ومساكن طيبة ولذة ونعيم لا يشوبه نكد ولا تعب كان حرصه على سلوكها واجتهاده في السير فيها بحسب علمه بما يفضي إليه
…
إلى أن قال: فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتضٍ لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم، من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة، الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر فأبى المنحرفون إلا القدح بإنكاره في أصل التوحيد أو القدح بإثباته في أصل الشرع ولم تتسع عقولهم التي لم يلق الله عليها من نوره للجمع بين ما جمعت الرسل جميعهم بينه وهو القدر والشرع والخلق والأمر، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والنبي
صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على جمع هذين الأمرين للأمة، وقد تقدم قوله:«احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزنَّ» وإن العاجز من لم يتسع للأمرين. انتهى.
وأما قول ابن محمود والتحقيق أن الكتابة نوعان كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل.
فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال ليس ما ذكره بتحقيق وإنما هو في الحقيقة تخليط وتلبيس كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني أن ما ذهب إليه من تنويع الكتابة فيما يتعلق بالجنين لا أصل له ولم يسبقه أحد إلى هذا التنويع الباطل.
يوضح ذلك الوجه الثالث وهو أن العلم القائم بالذات لا يسمى كتابة وإنما يسمى علما فقط، ولا أعلم أحدا سبق ابن محمود إلى القول بأن العلم القائم بالذات يسمى كتابة ولا أظن أن عاقلا يوافقه على هذه التسمية المحدثة.
الوجه الرابع أن ابن محمود زعم أن الكتابة نوعان ولم يذكر سوى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وزعم أنها تسمى كتابة الأزل ولم يذكر النوع الثاني فصار أحد نوعيه باطلا والآخر معدوما.
الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم نص في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على أن الملك يرسل إلى الجنين إذا تم له مائة وعشرون يوما فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات
يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ونص أيضا في حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن الملك يقول: يا رب أشفي أو سعيد فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص، وفي رواية أن الملك يقول: يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول: ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص.
وفي النصوص على كتابة الملك لما يقضي الله في الجنين وعلى طي الصحف وخروج الملك بها في يده وأنه لا يزيد على ما أمر به ولا ينقص أبلغ رد على ما ابتدعه ابن محمود وخالف به أهل السنة والجماعة حيث زعم أن هذه الكتابة عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم.
الوجه السادس أن يقال لا شك أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها وأنه يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وعلمه تبارك وتعالى بجميع الأشياء صفة من صفاته، وأما الكتابة فهي فعل الملك يكتب ما أمره الله به من أمر الجنين ثم يطوي الصحيفة التي كتب فيها ويخرج بها في يده فلا يزيد على ما أمر به ولا ينقص، وفعل الملك مخلوق وصحيفته مخلوقة ومع ذلك فقد زعم ابن محمود أن كتابة الملك لما يتعلق بالجنين هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها فجعل المخلوق صفة من صفات الله وهذا غاية التخليط والتلبيس.
الوجه السابع أن يقال: إن الأزلي هو القديم الذي لم يزل، قال ابن منظور في لسان العرب: الأزل بالتحريك القِدم قال أبو منصور: ومنه قولهم هذا شيء أزلي أي قديم وذكر بعض أهل العلم أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار فقالوا يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف فقالوا أزلي. انتهى.
وإذا علم أن الأزل هو القدم وأن الأزلي هو القديم الذي لم يزل فلا يخفى ما في قول ابن محمود من الخطأ والتخطيط حيث زعم أن كتابة الملك لما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه تسمى كتابة الأزل.
الوجه الثامن أن يقال: إن كتابة المقادير ليست بأزلية وإنما كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقد تقدم ذكره، وهذه الكتابة هي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ، وإذا كانت الكتابة السابقة على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ليست أزلية فمن باب أولى نفي الأزلية عن كتابة ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه.
الوجه التاسع أنه يلزم على القول بأن كتابة المقادير أزلية أن يكون القلم واللوح المحفوظ أزليين وأن تكون الصحيفة التي يكتب فيها الملك ما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه أزلية، وهذا موافق لقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، والقول بقدم العالم كفر بلا نزاع.
وأما قول ابن محمود؛ وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة فهي كسبهم ويترتب الجزاء على ذلك.
فجوابه: أن يقال: إن جميع ما يفعله العباد من خير أو شبر وما يعملونه من أعمال صالحة أو سيئة فكل ذلك قد سبق به القضاء والقدر وكتب في اللوح المحفوظ وكتبه أيضا الملك الذي يرسله الله إلى الجنين وهو في بطن أمه، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وكل ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاوة. ومن زعم أن العباد يعملون على أمر مبتدأ لم يسبق به القضاء والقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ ولم يكتبه الملك الموكل بالجنين فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة.
وأما قوله فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان.
فجوابه: من وجهين أحدهما أن يقال: أما قوله: إن سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان فهو خطأ ظاهر لما يلزم عليه من إلغاء النص الصريح في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله تبارك وتعالى يرسل الملك إلى الجنين فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإلغاء ما جاء في حديث حذيفة ابن أسيد رضي الله عنه أن الملك يقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص وفي رواية ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص، ففي هذا الحديث الصحيح النص على الكتابة وعلى الصحف التي يكتب الملك فيها ما يقضي الله في الجنين وأنها تطوى ويخرج الملك بها في يده.
وعلى قول ابن محمود تكون كتابة الملك والصحف التي يكتب فيها ثم يطويها ويخرج بها في يده اسما لا مسمى له ولفظا لا معنى له، وأن تكون النصوص على الكتابة والصحف
وطيها وخروج الملك بها في يده لغوا لا فائدة في ذكره، وما لزم عليه ما ذكرنا فهو قول سوء يجب اطراحه ورده.
الوجه الثاني: أن يقال: لا شك أن الله عالم بخاتمة حياة كل إنسان، وعلمه بذلك أزلي لا أول له، وأما كتابة الملك لما يتعلق بالجنين وهو في بطن أمه فكان أولها حين حملت حواء بأول أولادها ولا تزال مستمرة لكل جنين إلى يوم القيامة، ومن جعل هذه الكتابة وعلم الله الأزلي شيئا واحدا فقد جمع بين ما فرق الله بينه وتأول كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما يراد به.
وأما قوله عن الذي يختم له بسوء الخاتمة أنه الرجل يولد مؤمنا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته ويجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته، وليس سبق الكتاب الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه.
فجوابه: أن يقال: ليس من شرط الذي يختم له بسوء الخاتمة أن يولد بين أبوين مؤمنين كما قاله ابن محمود، بل قد يولد بين أبوين كافرين ثم يسلم وقد يولد بين أبوين أحدهما مسلم والآخر كافر ويكون هو مسلما وقد يولد بين أبوين مسلمين وينشأ على الإسلام ويعمل بعمل أهل الجنة فإذا كان في آخر عمره عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإنما يسير في جميع أحواله وأعماله الصالحة والطالحة منذ نشأته
إلى حين موته على وفق ما سبق به القضاء والقدر وكتب في اللوح المحفوظ ثم كتبه الملك الموكل به وهو في بطن أمه، فما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وليس معنى هذا أنه مجبر على شيء من أعماله وإنما هو يعمل باختياره ورغبته، وأعماله الاختيارية تؤدي به إلى موافقة القضاء والقدر.
وقد روى البزار والطبراني في الصغير والكبير عن العرس ابن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليعمل البرهة بعمل أهل النار ثم تعرض له الجادة من جواد الجنة فيعمل بها حتى يموت عليها وذلك لما كتب له وإن الرجل لعمل بعمل أهل الجنة البرهة من دهره ثم تعرض له الجادة من جواد أهل النار فيعمل بها حتى يموت عليها وذلك لما كتب له» قال الهيثمي: رجالهم ثقات.
وأما قوله: وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها فهو رجل يولد كافرا ويعيش كافرا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك.
فجوابه: أن يقال: ليس من شرط الذي يختم له بحسن الخاتمة أن يولد كافرا ويعيش كافرا بل قد يولد بين أبوين مسلمين وينشأ على الإسلام والأعمال الصالحة ثم يخالف ذلك إلى العمل بأعمال أهل النار فإذا كان في آخر عمره عمل بأعمال أهل الجنة فدخل الجنة، وقد يكون كافرا في أول عمره ثم يسلم ثم يرتد عن الإسلام أو يعمل أعمالا توجب له النار فإذا كان في آخر عمره عمل بأعمال أهل الجنة فدخل الجنة، وإنما
يسير في جميع أحواله وأعماله على وفق ما سبق به القضاء والقدر كما تقدم تقريره، فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان ولا يكون العبد مؤمنا حتى يؤمن بالقدر خيره وشره.
وأما قوله وفي حديث أبي سعيد مرفوعا «إن الرجل يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ثم يموت كافرا وإن الرجل يولد كافرا ويعيش كافرا ثم يموت مؤمنا» رواه الإمام أحمد.
فجوابه: أن أقول قد تصفحت أحاديث أبي سعيد رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد فلم أجد هذا الحديث فيه ولا أدري من أين جاء به ابن محمود؟!!، وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد يولد مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا وإن العبد يولد كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا، والعبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ثم يدركه ما كتب له فيموت كافرا والعبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيدا» رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار قال الهيثمي: وفيه عمر بن إبراهيم العبدي وقد وثقه غير واحد وقال ابن عدي: حديثه عن قتادة مضطرب، قال الهيثمي: وهذا منها. انتهى.
ومع ما في هذا الحديث من الضعف في إسناده ففي بعض منه نظر وذلك في قوله: «إن العبد يولد كافرا» . ومثله في الحديث الذي ذكره ابن محمود، وهذا مخالف للحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}» رواه مالك
وأحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان وأبو داود السجستاني والترمذي، وقال: هذا حديث صحيح، وفي رواية لأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يولد مولود إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه» . وروى الإمام أحمد أيضا عن الأسود بن سريع وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وروى ابن حبان في صحيحه حديث الأسود ابن سريع رضي الله عنه.
وفي الفطرة أقوال للعلماء أقر بها ما وافق قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية الإمام أحمد: «لا يولد مولود إلا على هذه الملة» وفي حديث الأسود بن سريع عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا على فطرة الإسلام حتى يعرب» ولو صح حديث ابن مسعود الذي فيه أن العبد يولد كافرا لم يكن معنا مخالفا لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من كون المولود يولد على الفطرة لأن معنى قوله يولد كافراً أنه قد سبق في علم الله أنه يكون كافرا وأن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وأما قول ابن محمود وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته.
فجوابه: أن يقال: إن كل ما يفعله بنو آدم باختيارهم ورغبتهم فقد سبق به القضاء والقدر وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكتبه الملك الموكل بالجنين وهو في بطن أمه، فلا يؤمن أحد إلا بقضاء وقدر ولا يكفر أحد إلا بقضاء وقدر، فجميع الأمور