الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جارية على وفق القضاء والقدر، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ومن زعم أن أحدًا من بني آدم يؤمن أو يكفر باختياره ورغبته ولم يسبق بذلك القضاء والقدر ولم يكتب في اللوح المحفوظ ولم يكتبه الملك الموكل بالجنين وهو في بطن أمه فهو من القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة وهم الذين يزعمون أن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به القضاء والقدر، وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من القدرية وصرح الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة بتكفير غلاتهم وهم الذين ينكرون العلم والكتاب، وقد تقدم بيان ذلك في عدة مواضع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن سلك سبيل القدرية فهو ملحق بهم في كل ما ذكرنا، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من موافقتهم لئلا ينسلخ من دينه وهو لا يشعر.
وقد روى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كل بني آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون»
قال الترمذي: هذا حديث غريب وصححه الحاكم وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح على لين.
وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على رسالة ابن محمود التي سماها (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر).
وليعلم أن الكلام في القدر مزلة أقدام ومضلة أفهام لا يسلم فيه إلا من تمسك بنصوص الكتاب والسنة وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم
بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم، ولولا أني أخشى أن يغتر بعض الناس بعنوان رسالة ابن محمود فيظن أنها على طريقة أهل السنة والأثر مع أنها على طريقة غلاة القدرية الذين ينكرون كتابة لمقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وينكرون كتابة الملك الموكل بالجنين لما يقضي الله فيه من ذكورة أو أنوثة وسعادة أو شقاوة ورزق وأجل، وأن يغتروا أيضا بما قرره في رسالته من نفي كتابة المقادير وزعمه أنها عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وما قرره أيضا في معنى القضاء والقدر مما أخذه من كلام عدو الله القصيمي في أغلاله، فلولا خشية الاغترار بما ذكرته من كلام ابن محمود لما كتبت في الرد عليه شيئا.
والمقصود من هذا الرد نصيحة المردود عليه ثم نصيحة غيره لئلا يغتروا بكلامه.
والله المسئول أن يريني وإياه وإخواننا المسلمين الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل.
(فصل)
وأما الرسالة الثانية لابن محمود وهي التي سماها (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) فالتعقيب عليها يتلخص في ثلاثة عشر شيئا:
الأول: في زعمه أن كل نبي فإنه رسول وأنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الإسلام والمسمى واحد.
والثاني: قوله أن ابن كثير هو أسبق من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي.
والثالث: قوله أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في كتاب النبوات فرقا بين الأنبياء والرسل.
الرابع: زعمه
أن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين.
الخامس: قدحه في الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه ورميه بسوء الحفظ.
السادس: قوله: إن حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألف مخالف لصريح القرآن.
السابع: قوله عن الأحاديث التي وردت في عدد الأنبياء أن بعضها من قول كعب الأحبار.
الثامن: ما نسبه إلى المحققين من السلف أنهم قالوا: إن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله، وقوله أيضا: إنهم خطَّئوا من عد الأنبياء والرسل.
التاسع: تغليطه من فرق بين الأنبياء والرسل.
العاشر: قوله: إن ابن الجوزي وغيره من العلماء ذكروا حديث أبي ذر في الموضوعات.
الحادي عشر: نفيه الرسالة عن آدم.
الثاني عشر: زعمه أن من فرق بين الرسول والنبي فقد فرق بين الأنبياء في الإيمان.
الثالث عشر: زعمه أن كل مسلم مؤمن وأنه لا فرق بين المسلم والمؤمن.
فأما الأول: وهو قوله في صفحة (4):إن كل نبي فإنه رسول وأنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد.
فجوابه: من وجهين أحدهما أن يقال: قد دل القرآن والسنة على التفريق بين الرسول والنبي، وكفى بالقرآن والسنة حجة على كل مبطل.
فأما الدليل من القرآن فقد قال الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية فقد فرق تبارك وتعالى بين الرسول وبين النبي وعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: وعطف الشيء على الشيء في القرآن وسائر الكلام يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم الذي ذكر لهما. انتهى.
وسيأتي قول الرازي أن عطف النبي على الرسول يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص. انتهى.
وإدخال حرف (لا) بين واو العطف والمعطوف صريح في التفريق بين الرسول والنبي كقوله تعالى: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} وقوله تعالى: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} وقوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} وأمثال هذه الآيات.
وقد جاء في (تنوير المقباس من تفسير ابن عباس) ما نصه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} يا محمد (من رسول) مرسل (ولا نبي) محدث ليس بمرسل {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} قرأ الرسول أو حدث النبي {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} في قراءة الرسول وحديث النبي. انتهى.
وقال ابن جرير في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية: فتأويل الكلام ولم يرسل يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبي محدث ليس بمرسل إلا إذا تمنى. انتهى.
وقال القاضي عياض: المعنى وما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي وليس بمرسل إلى أحد. انتهى.
وقال الثعلبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} : الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته إياه شفاها، والنبي الذي تكون
نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. انتهى.
وقال الواحدي في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ:} الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومحاورته شفاها، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: وهذا معنى قول الفراء: الرسول النبي المرسل، والنبي المحدث الذي لم يرسل، انتهى منقولا من (تهذيب الأسماء واللغات) لأبي زكريا النووي.
وقال البغوي في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا {وَلَا نَبِيٍّ} وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. انتهى.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} دليل بين على تغاير الرسول والنبي. انتهى.
وقال الرازي في تفسير هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، المسألة الأولى من الناس من قال الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولا وهو قول الكلبي والفراء، وقالت المعتزلة: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما - ثم ذكر الرازي- إن هذه الآية دالة على أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: لأنه عطف على الرسول وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على
الخاص، وقال في موضع آخر:{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} وذلك يدل على أنه كان نبيا فجعله الله مرسلا وهو يدل على قولنا. انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره عند قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، وقال الفراء: الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا، والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال المهدوي -وهذا هو الصحيح-:إن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وكذا ذكر القاضي عياض في كتاب الشفاء، قال والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا واحتج بحديث أبي ذر وأن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة سبعمائة وعشر في تفسيره في الكلام على قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} هذا دليل بين علي ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض أنهما واحد. انتهى.
وقال ابن جزي الكلبي الغرناطي في تفسيره في الكلام على قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية، النبي أعم من الرسول فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فقدم الرسول لمناسبته لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول. انتهى.
وفي تفسير مجاهد عند قول الله تعالى في سورة مريم: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} قال: النبي هو الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل، والرسول هو الذي يرسل.
وقد قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، وروى ابن جرير عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه قال: فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله.
وعلى هذا فقول مجاهد في تفسير الآية من سورة مريم يحتمل أنه مما أخذه عن ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسير سورة الأعراف عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية، قال: والرسول والنبي اسمان لمعنيين فإن الرسول أخص من النبي وقدم الرسول اهتماما لمعنى الرسالة وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال: «وبرسولك الذي أرسلت» فقال له: «قل بنبيك الذي أرسلت» خرجه في الصحيح، وأيضا فإن في قوله وبرسولك الذي أرسلت تكرير الرسالة وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه بخلاف ونبيك الذي أرسلت فإنهما لا تكرار فيهما وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا لأن الرسول والنبي اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في أمر وهي الرسالة فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم. انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب عند قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس. انتهى.
وقال ابن كثير أيضا في تفسير سورة المدثر بعد ما قرر أن أول ما نزل من القرآن أول سورة (اقرأ) قال: وقوله تعالى: (قم فأنذر) أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول النبوة. انتهى.
وأما الدليل من السنة ففي عدة أحاديث أحدها ما رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت؛ مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول» فقلت: استذكرهن وبرسولك الذي أرسلت قال: (لا، ونبيك الذي أرسلت) وفي رواية الترمذي قال البراء: فقلت وبرسولك الذي أرسلت قال: فطعن بيده في صدري ثم قال: «وبنبيك الذي أرسلت» .
وهذا الحديث صريح في التفريق بين الرسول والنبي وقد استدل به غير واحد من أكابر العلماء على التفريق بينهما، وقد تقدم كلام القرطبي في ذلك قريبا.
وقال الخطابي: والفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو المأمور بتبليغ ما أنبئ وأخبر به، والنبي هو المخبر ولم يؤمر بالتبليغ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، قال: ومعنى رده على البراء من رسولك إلى نبيك أن الرسول من باب المضاف فهو ينبئ عن المرسل والمرسل إليه فلو قال ورسولك ثم قال الذي أرسلت لصار البيان مكررا معادا، فقال ونبيك الذي أرسلت إذ قد كان نبيا قبل أن يكون رسولا ليجمع له الثناء بالاسمين معا ويكون تعديدا للنعمة في الحالين وتعظيما للمنة على الوجهين انتهى وقد نقله عنه ابن الأثير في جامع الأصول وأقره.
وقال النووي في شرح مسلم: في الكلام على قول مسلم في أول صحيحة «وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين» وقد ينكر على مسلم في هذا الكلام قوله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، فيقال إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه لدخولهم في الأنبياء فإن الرسول نبي وزيادة، ولكن هذا الإنكار ضعيف، ويجاب عنه بجوابين
أحدهما أن هذا سائغ وهو أن يذكر العام ثم الخاص تنويهًا بشأنه وتعظيما لأمره وتفخيما لحاله.
والجواب الثاني: أن قوله والمرسلين أعم من جهة أخرى وهو أنه يتناول جميع رسل الله سبحانه وتعالى من الآدميين والملائكة قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ولا يسمى الملك نبيا فحصل بقوله والمرسلين فائدة لم تكن حاصلة بقوله النبيين والله أعلم انتهى كلام النووي، وقد أشار إليه في الكلام على حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما في كتاب الذكر والدعاء فقال وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله وبرسولك الذي أرسلت قال: «لا وبنبيك الذي أرسلت» قال القرطبي تبعا لغيره: هذا حجه لمن لم يجز نقل الحديث بالمعنى وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع فإن النبوة من النبأ وهو الخبر، فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفا، وإن أمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول وإلا فهو نبي غير رسول، وعلى هذا فكل رسول نبي بلا عكس، فإن النبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترقا في الرسالة فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما فيه حتى يفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وضع له وليخرج عما يكون شبه التكرار في اللفظ من غير فائدة. انتهى.
قال الحافظ: وأما الاستدلال به على منع الرواية بالمعنى ففيه نظر لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبي والرسول متغايران لفظا ومعنى فلا يتم الاحتجاج بذلك. انتهى.
وقد ذكر بعض العلماء في صفة الرسول أن يكون له كتاب. وقال بعضهم: لا يشترط ذلك فكل نبي أوحي إليه بأمر يقتضي تكليفا وأمر بتبليغه إلى غيره فهو رسول ولو لم ينزل عليه كتاب وهذا هو الصحيح والله أعلم.
الحديث الثاني: قال ابن حبان في صحيحه: أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني والحسين بن عبد الله القطان بالرقة وابن سلم واللفظ للحسن قالوا: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جدي عن أبي إدريس
الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده - فذكر الحديث بطوله وفيه - قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وعشرون ألف» قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» قلت: يا رسول الله من كان أوله قال: «آدم عليه السلام» قلت: يا رسول الله أنبي مرسل قال: «نعم؛ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا» قال الهيثمي بعد ما ساقه في موارد الظمآن: فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال أبو حاتم وغيره: كذاب. . انتهى.
وقال الذهبي في الميزان في ترجمة إبراهيم بن هشام وهو صاحب حديث أبي ذر الطويل انفرد به عن أبيه عن جده قال الطبراني: لم يرو هذا عن يحيى إلا ولده وهم ثقات، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج حديثه في الأنواع، ثم ذكر عن أبي حاتم أنه قال: هو كذاب وذكر ابن الجوزي أنه قال: أبو زرعه كذاب، وقد علق الحافظ ابن حجر على موارد الظمآن فقال: انفرد أبو حاتم الرازي بتضعيف إبراهيم بن هشام وقواه غيره وللحديث شواهد، منها ما رواه ابن جرير في أول تاريخه عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عبد الله بن وهب عن الماضي بن محمد بن أبي سليمان عن القاسم بن محمد عن أبي إدريس الخولاني، قال بطوله.
وقال الحافظ ابن حجر أيضا في تعليقه على موارد الظمآن: وفي الحديث أشياء مفرقة من روايات متنوعة إلى أبي ذر، منها من طريق عبيد بن خشخاش عنه، وفيها من طريق أخرى قد ذكرتها في الهامش أولا. انتهى.
قلت: الذي ذكره في الهامش أولا هذا نصه (قال ابن أبي عمر: حدثنا هشام بن سليمان حدثنا أبو رافع عن يزيد بن
رومان عمن أخبره عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وحده، قلت: أنظر إليه وهو لا يراني وأقول ما خلا هكذا وحده إلا وهو على حاجة أو على وحي فجعلت أؤامر نفسي أن آتيه فأبت نفسي إلا أن آتيه فجئت فسلمت ثم جلست فجلست طويلا لا يلتفت إليَّ ولا يكلمني قال: قلت: قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالستي ثم التفت إليَّ فقال: (يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: أركعت اليوم؟ قلت: لا، قال: قم؛ فاركع) الحديث بطوله وسياق الأصل أتم انتهى ما علقه الحافظ ابن حجر على موارد الظمآن.
وحاصل ما تقدم أن إبراهيم بن هشام قد اختلف فيه فوثقه ابن حبان والطبراني وتكلم فيه أبو زرعة وأبو حاتم الرازي، ولحديثه شواهد تقويه.
منها ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا المسعودي عن أبي عمرو الشامي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست إليه - فذكر الحديث مختصرا وفيه - قلت: فأي الأنبياء كان أول يا رسول الله؟ قال: (آدم) قلت: أو نبي كان قال: (نعم نبي مكلم) قلت: كم كان المرسلون يا رسول الله؟ قال: «ثلاثمائة وخمس عشرة جما غفيرا» وقد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن المسعودي فذكره بمثله مختصرا، ورواه البزار والطبراني في الأوسط مختصرا، قال الهيثمي: وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وقد روى النسائي في كتاب الاستعاذة من سننه طرفا منه من طريق المسعودي، وروى الحاكم في مستدركه في فضل آية الكرسي طرفا منه من طريق المسعودي وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
ومن شواهده أيضا ما رواه محمد بن أبي عمر في مسنده وقد تقدم ذكر إسناده في كلام الحافظ ابن حجر، وقد ذكره الحافظ أيضا في (المطالب العالية) مطولا وقال فيه قلت: يا رسول الله كم كان الأنبياء؟ قال: (كانوا مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا) قلت: يا رسول الله وكلهم كانوا رسلا؟ قال: (لا، كان الرسل منهم خمسة عشر وثلاثمائة رجل) قلت: يا رسول الله فأيهم كان أول؟ قال: (كان أولهم آدم) قلت: أنبي كان آدم؟ قال: (نعم جَبَل الله تربته وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا).
ومن شواهده أيضا ما رواه ابن جرير في أول تاريخه وقد تقدم ذكر إسناده في كلام الحافظ ابن حجر وقال فيه قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: قلت: يا رسول الله كم المرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» يعني: كثيرا طيبا، قال: قلت: يا رسول الله من كان أولهم قال: (آدم) قال قلت: يا رسول الله وآدم نبي مرسل قال: (نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا).
ومن شواهده أيضا ما رواه الحسن بن عرفة في مسنده حدثني يحيى بن سعيد السعيدي البصري حدثنا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد - فذكر الحديث وفيه - قال: فقلت: يا رسول الله كم النبيون؟ قال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي» قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) وقد رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه من طريق الحسن بن عرفة، قال الذهبي: السعيدي ليس بثقة.
قلت: وهذا الحديث قد تعددت طرقه وصححه ابن حبان وصحح الحاكم ما رواه منه من طريق المسعودي ووافقه الذهبي
على تصحيحه وقال الشوكاني في كتابه (إرشاد الثقات): أخرجه ابن حبان والبيهقي بسندين حسنين انتهى، وقد اعتضد بما يأتي من حديث أبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهما، وعلى هذا فأقل الأحوال فيه أن يكون صالحا للاستشهاد به والله أعلم.
الحديث الثالث عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد جالسا وكانوا يظنون أنه ينزل عليه فأقصروا عنه حتى جاء أبو ذر فأقحم فأتى فجلس إليه فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، منها قال: قلت: يا نبي الله فأي الأنبياء كان أول؟ قال: «آدم عليه السلام» قال: قلت: يا نبي الله أو نبي كان آدم؟ قال: «نعم نبي مكلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قبلا» قال: قلت: يا نبي الله كم عدد الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألف، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير قال الهيثمي: ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.
وقد روي الطبراني في الأوسط طرفا منه بإسناد صحيح ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم» قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: «عشرة قرون» قال: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم، معلم مكلم» قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قالوا: يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمس عشرة جما غفيرا» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه
ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا، ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبيا كان آدم؟ قال: «نعم» قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: «عشرة قرون» قال ابن كثير في البداية والنهاية: وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ورواه ابن جرير في أول تاريخه ولفظه قلت: يا نبي الله أنبيا كان آدم؟ قال: «نعم كان نبيا كلمه الله قبلا» .
وفي هذا الحديث الصحيح شاهد لما تقدم قبله من حديث أبي ذر وأبي أمامة رضي الله عنهما.
الحديث الرابع: عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه - قلت: يا رسول الله فأي الأنبياء كان أول؟ فقال: «آدم» فقلت: أو نبيا كان؟ قال: «نعم نبي مكلم» قلت: يا رسول الله وكم الأنبياء؟ فقال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» فقال: كم المرسلون منهم؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» ذكره الحافظ ابن حجر في (المطلب العالية) ونسبه لإسحاق بن راهويه.
وهذا الحديث والحديثان قبله يشد بعضها بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة عن أبي أمامة رضي الله عنه.
الحديث الخامس: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما» رواه الترمذي وابن ماجه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي، ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه
وسلم فأقبل أبو بكر وعمر فقال: (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين) قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم.
الحديث السادس: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.
الحديث السابع: عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين» رواه ابن ماجه بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه.
الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، رواه البزار والطبراني.
الحديث التاسع والعاشر: عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضا رواهما الطبراني.
وهذه الأحاديث الستة يشد بعضها بعضا وفيها أوضح دليل على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي، وفيها مع ما تقدم قبلها من الأحاديث أبلغ رد على من زعم أنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد.
الوجه الثاني: أن يقال: مما يدل على الفرق بين الرسول والنبي وأن مسمى الرسول ومسمى النبي مختلف في المعنى أن اسم الرسول يدخل فيه الرسل من الملائكة والرسل من بني آدم كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ
النَّاسِ} والرسل من الملائكة لا يسمون أنبياء وإنما يسمى بذلك الأنبياء من بني آدم والرسل منهم، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود في قوله أنه لا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم والمسمى واحد لكان جبريل وغيره من الملائكة يسمون أنبياء، وهذا ظاهر البطلان، وبهذا يتبين الفرق بين الرسول والنبي، وقد تقدم قول الحافظ ابن حجر أنهما متغايران لفظا ومعنى.
وأما الثاني وهو قوله في صفحة (3) أن ابن كثير هو أسبق من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي.
فجوابه: أن يقال: إن أول من تكلم بالتفريق بين الرسول والنبي هو الله تبارك وتعالى في قوله جل ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية.
وأول من تكلم بذلك من هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها، ومن أصرحها رواية محمد بن أبي عمر التي ذكرها الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية) وفيها أن أبا ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله كم كان الأنبياء؟ قال: «كانوا مائة ألف وأربعة وعشرين ألف» قلت: يا رسول الله وكلهم كانوا رسلا؟ قال: (لا، كان الرسل منهم خمسة عشر وثلاثمائة رجل).
وتقدم أيضا ما ذكرنا من تفسير ابن عباس ومجاهد أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وقال ابن قتيبة في كتاب (المعارف) ذكر وهب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(كانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي، الرسل منهم ثلاثمائة نبي وخمسة عشر نبيا).
وتقدم أيضا ما ذكره الرازي عن الكلبي والفراء أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وذكره الواحدي أيضا عن الفراء.
وتقدم أيضا عن ابن جرير والثعلبي والواحدي والبغوي والزمخشري والرازي والقرطبي والنسفي وابن جزي الكلبي أنهم فرقوا بين الرسول والنبي، وهؤلاء المفسرون كلهم كانوا قبل ابن كثير سوى ابن جزي فقد كان معاصرا لابن كثير ومات قبله.
وتقدم أيضا ما ذكره القرطبي عن المهدوي والقاضي عياض أنهما فرقا بين الرسول والنبي، وتقدم عن الخطابي والنووي مثل ذلك.
وممن فرق بين الرسول والنبي من المتقدمين مسلم بن الحجاج وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وأبو عبد الله الحاكم وأبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي وأبو محمد بن حزم وأبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي والقاضي عياض والخطيب البغدادي.
فأما مسلم فقال في مقدمة صحيحه ما نصه: (وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين).
وأما عبد الله بن مسلم بن قتيبة فقال في كتاب (المعارف) ما نصه: (عدد الأنبياء والرسل منهم صلى الله عليهم) ثم ذكر ما تقدم قريبا عن ابن عباس في عدد الأنبياء والرسل.
وأما الحاكم فقال في مستدركه ما نصه: (كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين).
أما أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي فقال في كتابه (أصول الدين): كل رسول لله عز وجل نبي وليس كل نبي رسولا له.
وأما ابن حزم فقال في أول المحلى ما نصه: (مسألة، وبعد هذا فإن أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا خلاف فيه).
وقال أيضا: (مسألة، والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم يكن يعلمه قبل، والرسالة هي النبوة وزيادة وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما، هذا ما لا خلاف فيه. انتهى.
وأما أبو اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي فقال في كتابه (أصول الدين): الرسول لا يكون إلا نبيا والنبي قد لا يكون رسولا - إلى أن قال - ويبقى الرسول بعد موته رسولا وكذلك النبي بعد موته نبيا لأن الرسول بالرسالة صار شريفا مكرما عند الله تعالى وكذا النبي إلا أنه دونه، وكذا المؤمن إلا أنه دونهما، وذلك الشرف يبقى لهم بعد الموت. انتهى.
وأما القاضي عياض فقال في كتاب (الشفا) ما نصه: (والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا). انتهى.
وأما الخطيب البغدادي فقال في كتابه (الكفاية في علم الرواية): وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة معا. انتهى.
وممن فرق بين الرسول والنبي أيضا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى، فأما
شيخ الإسلام فقال في كتاب الإيمان بعد أن ذكر أن الإحسان يدخل فيه الإيمان وأن الإيمان يدخل فيه الإسلام، قال: وهذا كما يقال في الرسالة والنبوة فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، فالأنبياء أعم، والنبوة نفسها جزء من الرسالة فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة. انتهى.
وقال الشيخ أيضا في جواب له بعد ذكره عصمة الأنبياء ما نصه: وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة فإن النبي هو المنبأ عن الله، والرسول هو الذي أرسله الله تعالى، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين.
وقال الشيخ أيضا في جواب آخر ما نصه: فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيها يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب. والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه، ولهذا كان كل رسول نبيا وليس كل نبي رسولا وإن كان قد يوصف بالإرسال المقيد في مثل قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وقال الشيخ أيضا وذكر حديث بدء الوحي وفيه ذكر نزول سورة (اقرأ) ثم قال: وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيا ثم أنزل عليه سورة المدثر وبها صار رسولا لقوله: (قُمْ فَأَنذِرْ).
وقال الشيخ أيضا في تفسير سورة (اقرأ): إن ما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ} نزلت عليه وهو في غار حراء وأن (المدثر) نزلت بعد، وهذا هو الذي ينبغي فإن قوله:(اقرأ) أمر بالقراءة لا بتبليغ الرسالة وبذلك صار نبيا، وقوله:{قُمْ فَأَنْذِرْ} أمر بالإنذار وبذلك صار رسولا منذرا.
وقال الشيخ أيضا: فسورة (اقرأ) هي أول ما نزل من القرآن ولهذا لما أمر بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر لأجل التبليغ فقيل له {قُمْ فَأَنْذِرْ} فبالأولى صار نبيا وبالثانية صار رسولا. انتهى.
وكلامه رحمه الله تعالى في التفريق بين الرسول والنبي كثير جدا وفيما ذكرته هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.
وأما ابن القيم رحمه الله تعالى فقال في كتابه (زاد المعاد): وكذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف واختياره سبحانه الرسل منهم وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، واختياره أولي العزم منهم وهم الخمسة المذكورون في سورة الأحزاب والشورى في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال ابن القيم أيضا في كتابه (طريق الهجرتين) ما ملخصه: مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها وهم
ثمان عشرة مرتبة، الطبقة الأولى وهي العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم وهم المذكورون في قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق.
الطبقة الثانية من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيل بعضهم على بعض، الطبقة الثالثة الذين لم يرسلوا إلى أممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة فاختصوا عن الأمة بإيحاء الله إليهم وإرساله ملائكته إليهم، واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأمة يدعونهم إلى الله بشريعته وأمره واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وممن فرق بين الرسول والنبي من أهل اللغة ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب ومرتضى الحسيني في تاج العروس، فأما ابن الأثير فقال في النهاية ما نصه: ومن الأول حديث البراء قلت: ورسولك الذي أرسلت فرد عليَّ وقال ونبيك الذي أرسلت، إنما رد عليه ليختلف اللفظان ويجمع له الثنائين معنى النبوة والرسالة ويكون تعديدًا للنعمة في الحالين وتعظيما للمنة على الوجهين، والرسول أخص من النبي لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسول. انتهى.
وأما ابن منظور وصاحب تاج العروس فذكرا كلام ابن الأثير وأقراه.
وأما قول ابن محمود في آخر صفحة (4) وأول صفحة (5) ما نصه: والله يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} فوصف الأنبياء بالتبشير والإنذار الذي هو وظيفة الرسل بلا خلاف كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فوصف الرسل بالتبشير والإنذار كما وصف بذلك الأنبياء على حد سواء.
فجوابه: أن يقال: إن المراد بالأنبياء المذكورين في الآية من سورة البقرة الرسل بدليل قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} والكتب إنما أنزلت على الرسل لا على عموم الأنبياء كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فهذه الآية من سورة الحديد تبين ما أُجْمِلَ في الآية من سورة البقرة والله أعلم.
وأما الثالث وهو قوله في صفحة (5):إن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يذكر في كتاب (النبوات) فرقا بين الأنبياء والرسل.
فجوابه: أن يقال: بل قد ذكر ذلك في صفحة 172 وما بعدها من كتاب (النبوات) وهذا نص كلامه.
والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ} وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فذكر إرسالا يعم النوعين وقد خص أحدهما بأنه رسول فإن هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف الله كنوح، وقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس وقبلهما آدم كان نبيا مكلما، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم كما يكون أهل الشريعة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمه الله في قضية معنى يطابق القرآن كما فهم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود، فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنباهم الله به من الخبر والأمر والنهي فإن أرسلوا إلى كفار يدعونهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ولابد أن يكذب الرسل قوم قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وقال: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} فإن الرسل ترسل إلى مخالفين فيكذبهم بعضهم، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} فقوله: {قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} دليل على أن النبي مرسل ولا يسمى رسولا عند الإطلاق لأنه لم يرسل إلى قوم بما لا يعرفونه بل
كان يأمر المؤمنين بما يعرفونه أنه حق كالعالم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» وليس من شرط الرسول أن يأتي بشريعة جديدة فإن يوسف كان رسولا وكان على ملة إبراهيم، وداود وسليمان كانا رسولين وكان على شريعة التوراة.
قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
والإرسال اسم عام يتناول إرسال الملائكة وإرسال الرياح وإرسال الشياطين وإرسال النار قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} وقال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} فهنا جعل الملائكة كلهم رسلا، والملك في اللغة هو حامل الألوكة وهي الرسالة، وقد قال في موضع آخر:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} فهؤلاء الذين يرسلهم بالوحي كما قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} لكن الرسول المضاف إلى الله إذا قيل رسول الله فهم من يأتي برسالة من الله من الملائكة والبشر كما قال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وقالت الملائكة: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} .
وأما عموم الملائكة والرياح والجن فإن إرسالها لتفعل فعلا لا لتبلغ رسالة قال تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} فرسل الله الذين يبلغون عن الله أمره ونهيه هي رسل الله عند الإطلاق، وأما من أرسله الله ليفعل فعلا بمشيئته وقدرته فهذا عام يتناول كل الخلق كما أنهم كلهم يفعلون بمشيئته وإذنه المتضمن لمشيئته، لكن أهل الإيمان يفعلون بأمره ما يحبه ويرضاه ويعبدونه وحده ويطيعون رسله، والشياطين يفعلون بأهوائهم وهم عاصون لأمره متبعون لما يسخطه وإن كانوا يفعلون بمشيئته وقدرته انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وأما الرابع: وهو زعمه في صفحه (5) أن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين.
فجوابه: أن يقال: قد تقدم ذكر التفريق بين الرسول والنبي في تفسير ابن عباس ومجاهد والكلبي والفراء وابن جرير وغيرهم من أكابر العلماء المتقدمين فليراجع ذلك ففيه كفاية في الرد على ابن محمود، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه، وفي هذا أيضا رد على ابن محمود.
وأما الخامس: وهو قدحه في الصحابي الجليل أبي ذر رضي الله عنه ورميه بسوء الحفظ وذلك في صفحة (5) حيث قال مشيرا إلى حديث أبي ذر رضي الله عنه «وهو حديث طويل جدا لا يتحمل أبو ذر حفظه مع طوله» .
فجوابه: أن يقال: يا لها من كلمة ما أسوأها وأبشعها ..
ولا أعلم أحدا رمي أبا ذر رضي الله عنه بسوء الحفظ قبل ابن محمود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وقال الترمذي: هذا حديث حسن، قال: وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهما.
وروى الترمذي أيضا وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم عليه السلام» فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله: أفنعرف ذلك له؟ قال: «نعم فاعرفوه له» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر» رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني والحاكم في مستدركه قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد وقد وثق وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات، ورواه الحاكم أيضا ولم يتكلم عليه وقال الذهبي: سنده جيد.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: قال أبو إسحاق السبيعي عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه أنه قال: «أبو ذر وعاء ملئ علما ثم أوكئ عليه» أخرجه أبو داود بسند جيد، قال الحافظ: وكان يوازي ابن مسعود في العلم. انتهى.
وقد ترجم له الحافظ الذهبي في تذكرة الحافظ وقال: كان رأسا في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة والإخلاص وكان يوازي ابن مسعود في العلم، ومناقبه شهيرة، منها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:«ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» . انتهى.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: كان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق. انتهى.
وفيما ذكرته من الأحاديث وأقوال الأئمة الحفاظ أبلغ رد على من رمى أبا ذر بسوء الحفظ.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده نحو مائتين وسبعين حديثا لأبي ذر رضي الله عنه، وروى له أهل الصحاح والسنن والمسانيد أحاديث كثيرة مما رواه الإمام أحمد ومما لم يروه، ومن كان يحفظ هذا العدد الكثير من الأحاديث كيف يقال: إنه لا يتحمل حفظ الحديث الطويل الذي فيه عدد الأنبياء والمرسلين، إنها لجراءة على صحابي جليل قد عده أهل المعرفة بمراتب العلماء في أعلى طبقات الحفاظ وقالوا: إنه كان يوازي ابن مسعود في العلم.
وأما السادس: وهو قوله في صفحة (6):إن حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا مخالف لصريح القرآن فإن الله يقول: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
فجوابه: أن يقال: ليس في حصر الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه، فأما قوله تعالى في سورة النساء {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وقوله في سورة المؤمنين:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} فليس المراد بالقصص ذكر عددهم كما قد توهم ذلك ابن محمود وإنما المراد بالقصص ذكر أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم، قال ابن كثير في تفسير سورة المؤمنين: أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة. انتهى.
والقصص رواية الأخبار نص على ذلك أهل اللغة، قال الجوهري في الصحاح: القصة الأمر والحديث وقد اقتصصت الحديث رويته على وجهه وقد قص عليه الخبر قصصا، والاسم أيضا القصص بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب. انتهى.
وقال ابن الأثير في النهاية: القص البيان والقصص بالفتح الاسم وبالكسر جمع قصة والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. انتهى.
وقال ابن منظور في لسان العرب: والقصة الخبر وهو القصص وقص عليّ خبره يقصه قصا وقصصا أورده، والقصص الخبر المقصوص بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجهه، وقص عليه الخبر قصصا، وفي حديث الرؤيا لا تقصها إلا على واد، يقال: قصصت الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها أقصها قصا، والقص البيان والقصص بالفتح الاسم، والقاص الذي يأتي بالقصة على وجهها كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. انتهى.
وقال الراغب الأصفهاني: القصص الأخبار المتتبعة، قال:{لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} ، {فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} ، {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ، {نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} ، {يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} . انتهى.
وقد ذكر الله تعالى في سورة آل عمران قصة زكريا وقصة مريم وقصة عيسى مع قومه ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} وقال تعالى في أول سورة الأعراف: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ثم ذكر في السورة قصة آدم ثم قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مع قومهم وقصة موسى مع فرعون وقصته لما جاء لميقات ربه وقصته لما اختار سبعين رجلا لميقات ربه وقصة أصحاب السبت وقصة الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ثم قال تعالى بعد ذلك: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى في سورة هود بعد ما ذكر قصة نوح وهود وصالح مع قومهم وقصة إبراهيم مع الملائكة وقصة لوط وشعيب مع قومهما وقصة موسى مع فرعون ثم قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} وقال في آخر السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقال تعالى في أول سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ثم ذكر ما جرى ليوسف مع أبيه لما قص عليه الرؤيا وقصته مع إخوته في أول الأمر وقصته مع العزيز وامرأته وقصته مع الفتيين وقصته مع رسول الملك وقصته مع الملك وقصته مع إخوته في آخر الأمر وقصته حين اجتمع بأبويه وإخوته ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآيات إلى قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} الآية.
وفي هذه الآية الكريمة أبلغ رد على ابن محمود لأن الله تعالى أخبر أن في قصص المرسلين عبرة لأولي الألباب والعبرة لا تكون في عددهم وإنما تكون في أحبارهم وما جرى لهم مع قومهم، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود لكان معنى الآية إن في عدد المرسلين عبرة لأولي الألباب وهذا مما ينزه عنه كلام الله تبارك وتعالى.
وقال تعالى مخبرا عن أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} وقال تعالى في سورة طه بعد ما ذكر قصصا كثيرة لموسى عليه الصلاة والسلام: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} وقال تعالى في أول سورة القصص: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} وقال تعالى مخبرا عن موسى وعن الرجل الصالح: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
والمقصود مما ذكرنا أمران أحدهما بيان معنى القصص الذي قال الله تعالى فيه: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} وقوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وأن المراد بذلك ذكر أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم، الثاني بيان غلط ابن محمود فيما ذهب إليه من حمل القصص على ذكر عدد الأنبياء وبيان أنه لا دليل على ذلك لا من القرآن ولا من السنة ولا من لغة العرب وما كان هكذا فينبغي أن لا يلتفت إليه.
أما السابع: وهو قوله في صفحه (6):وقد وردت عدة أحاديث في عدد الأنبياء يخالف بعضها بعضا وكلها من الضعاف التي لا يحتج بها وقد ساقها ابن كثير في التفسير من آخر سورة النساء وبعضها من قول كعب الأحبار.
فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث التي ذكرها ابن كثير في
تفسير سورة النساء في عدد الأنبياء ليس فيها شيء من قول كعب الأحبار وإنما الذي ذكره عن كعب الأحبار هو في تكليم الله لموسى عليه الصلاة والسلام، فما قاله ابن محمود وهم وغلط.
وأما الثامن: وهو قوله في صفحة (6) والذي عليه المحققون من السلف أن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله، وقالوا: إن من عد الأنبياء فقد أخطأ وتكلف ما لا علم له به، ومثله قوله في عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.
فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال: لا يخفى ما في هذا القول من المجازفة والقول على السلف بما لم ينقل عن أحد منهم فيما أعلم.
الوجه الثاني: قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه (أصول الدين): أجمع أصحاب التواريخ من المسلمين على أن عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، كما وردت به الأخبار الصحيحة.
أولهم أبونا آدم عليه السلام وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على أن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر - إلى أن قال - وإذا صح لنا أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر قلنا: إن خمسة منهم من أولي العزم المذكورين في القرآن وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وخمسة منهم من العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم السلام. انتهى.
وفيما ذكره من إجماع أصحاب التواريخ من المسلمين على عدد الأنبياء والرسل أبلغ رد على ابن محمود.
الوجه الثالث: أن يقال: قد تقدمت الأحاديث عن أبي ذر وأبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهم في عدد الأنبياء والمرسلين، وأحاديثهم يشد بعضها بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة في إثبات نبوة آدم عليه الصلاة والسلام وعدد الرسل، وتقدم أيضا ما ذكره ابن قتيبة في كتاب (المعارف) عن ابن عباس رضي الله عنهما في عدد الأنبياء والرسل وهو موافق لما جاء في الأحاديث الثلاثة عن أبي ذر وأبي أمامة وعوف ابن مالك رضي الله عنهم، وعلى هذا فهل يأمن ابن محمود أن يكون قد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه: إنه قد تكلف ما لا علم له به، وأن يكون أيضا قد خطأ حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وقال فيه: إنه قد تكلف ما لا علم له به، ولا يخفى أن هذا المحذور ليس ببعيد من ابن محمود.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الوجه الرابع: أن يقال: قد تقدم ما رواه الطبراني والحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه في عدد الرسل وأنهم كانوا ثلاثمائة وخمسة عشر قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال الهيثمي في إسناد الطبراني: رجاله رجال الصحيح.
وهذا الحديث لا يرده إلا جاهل أو مكابر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه ورددنا على الله أمره قال الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وروي القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة من طريق أبي بكر الآدمي المقري حدثنا الفضل بن زياد القطان قال: سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة.
وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة الحسن بن علي بن خلف أبي محمد البربهاري - وهو من أعيان العلماء في آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع من الهجرة - أنه قال في كتابه (شرح السنة): ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئا من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام وقال البربهاري أيضا: من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ومن رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم.
وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا أنه قال: من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردها فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت. انتهى.
وإذا علم هذا ففي الحديث الذي ذكرنا في عدد الرسل أبلغ رد على ابن محمود في تخطئته من عد الرسل وزعمه أن من عدهم فقد تكلف ما لا علم له به، وما يدري هدانا الله وإياه ووفقنا جميعا لاتباع الحق أن كلامه هذا يتناول النبي صلى الله عليه وسلم، وما أعظم ذلك وأبشعه وأشد الحكم فيه، فالواجب عليه أن يبادر إلى التوبة من هذا الزلة العظيمة.
وأما التاسع: وهو تغليطه من فرق بين الأنبياء والرسل فقد صرح بذلك في آخر صفحة (5) وفي أثناء صفحة (6) وهذا ملخص كلامه، قال: ويترجح أن هذا الاعتقاد في قولهم أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أنه إنما دخل على الناس من عهد قريب حيث أنه ليس معروفا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين - إلى أن قال - فهذه الغلطة في التفريق بين الرسول والنبي يظهر أنها إنما دخلت على الناس من طريق حديث موضوع رواه ابن مروديه عن أبي ذر - إلى أن قال - وكأن هذا منشأ الغلط في التفريق بين الأنبياء والرسل وأن النبي غير الرسول إذ النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فليس كل نبي رسولا بزعمهم، وهذا التفريق لم نجد له أصلا قطعا.
والجواب: عن هذا من وجوه أحدها أن يقال: قد تقدم الجواب عن قوله: إن التفريق بين الرسول والنبي ليس معروفا عند الصحابة والتابعين والسلف السابقين فليراجع.
الوجه الثاني: أن يقال قد تقدم ما ذكره أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي عن أصحاب التواريخ من المسلمين أنهم أجمعوا على أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وأن عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه، وهذا يقتضي أن التفريق بين الرسول والنبي متفق عليه بين أهل السنة والجماعة، وتقدم أيضا ما ذكره الرازي عن المعتزلة أنهم قالوا: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما، وإذا علم هذا فنقول: إن الغالط في الحقيقة هو من خالف أهل السنة والجماعة واتبع أهل البدعة والضلالة من المعتزلة ومن قال بقولهم الباطل!
الوجه الثالث: أن يقال: إن الأصل في التفريق بين الرسول والنبي هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر الأدلة منهما على ذلك، وإذا كان هذا الأصل قد خفي على ابن محمود ولم يجده فقد ظهر ذلك لغيره من العلماء ووجدوه صريحا في الكتاب والسنة، وقد ذكرت أقوال المفسرين وشراح الأحاديث وغيرهم من أكابر الأئمة في ذلك فليراجع.
وأما العاشر وهو قوله في صفحة (6):إن ابن الجوزي وكثيرا من العلماء ذكروا حديث أبي ذر في الموضوعات.
فجوابه: أن يقال: قد جاء في آخر تفسير سورة النساء من تفسير ابن كثير بعد ذكر رواية ابن مردويه لحديث أبي ذر رضي الله عنه ما نصه، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم وقد وسمه بالصحة وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم انتهى ما جاء في تفسير ابن كثير، والظاهر أن ابن محمود قال ما نسبه إلى ابن الجوزي تقليدا لما جاء في تفسير ابن كثير، وقد تصفحت كتاب الموضوعات لابن الجوزي من أوله إلى آخره وتتبعته حديثا؛ حديثا فما وجدته ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه ولا أشار إليه، وتصفحت أيضا عدة كتب مما صنف في الموضوعات فما وجدتهم ذكروا حديث أبي ذر رضي الله عنه ولا أشاروا إليه، وهذا مما يثير الشك فيما جاء في تفسير ابن كثير فلعله مقحم فيه وليس من كلام ابن كثير والله علم.
وإذا علم هذا فحديث أبي ذر رضي الله عنه قد رواه ابن حبان في صحيحه مطولا، وروى الحاكم في مستدركه طرفا منه في فضل آية الكرسي وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقد روي بعضه من حديث أبي أمامة وعوف بن مالك رضي الله عنهما، وروى الطبراني والحاكم طرفا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه في ذكر نبوة آدم وعدد الرسل، قال الهيثمي: ورجال الطبراني رجال الصحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى ابن حبان في صحيحه طرفا منه
في ذكر نبوة آدم وقال فيه ابن كثير في (البداية والنهاية): وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، وهذا الرواية الصحيحة تشهد لحديث أبي ذر رضي الله عنه وتقويه.
وعلى هذا فالحكم عليه بالوضع فيه نظر لا يخفى، وكذلك اتهام إبراهيم بن هشام به فيه نظر لا يخفى لأن إبراهيم بن هشام لم ينفرد بروايته بل قد روي من طرق متعددة ليس فيها إبراهيم بن هشام وقد تقدم ذكرها فلتراجع ففيها دليل على براءة إبراهيم بن هشام مما اتهم به والله أعلم.
وأما الحادي عشر وهو قوله في آخر صفحة (6) ومثله قوله في آدم وأنه أول الرسل والصحيح أن أول الرسل نوح.
فجوابه: أن يقال: قد تقدم ما رواه الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: (نعم) الحديث قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ورواه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ وقال فيه ابن كثير في (البداية والنهاية): وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه أن رجلا قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: «نعم معلم مكلم» الحديث قال الحاكم صحيح: على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من نفى نبوة آدم عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث أبي ذر الطويل قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا» قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدم عليه السلام» قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا» رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه ابن جرير في أول تاريخه بنحوه وقال فيه قلت: يا رسول الله وآدم نبي مرسل؟ قال: «نعم» الحديث.
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أو نبي كان آدم؟ قال: «نعم نبي مكلم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم قال له: يا آدم قبلا» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، ورواه ابن جرير في أول تاريخه بنحوه.
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن أبا ذر رضي الله عنه جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث فيه - قلت: يا رسول الله فأي الأنبياء كان أول؟ فقال: (آدم) فقلت: أو نبيا كان؟ قال: (نعم نبي مكلم) الحديث ذكره الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية) ونسبه لإسحاق بن راهويه، وهذا الحديث والحديثان قبله يشد بعضهما بعضا وتشهد لها الرواية الصحيحة عن أبي أمامة رضي الله عنه، وفيها الرد على من نفى نبوة آدم عليه الصلاة والسلام.
وقد قال ابن قتيبة في كتاب (المعارف) ذكر وهب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أول المرسلين آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير في تاريخه وكان آدم مع ما كان الله عز وجل قد أعطاه من ملك الأرض والسلطان فيها قد نبأه الله وجعله رسولا إلى ولده وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة
كتبها آدم عليه السلام بخطه علمه إياها جبرائيل عليه السلام، وقيل: إنه كان مما أنزل الله تعالى على آدم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة. انتهى.
وقال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه (أصول الدين): أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن قال - وقد كان آدم عليه لسلام مرسلا إلى جميع ولده الذين أدركوه. انتهى.
وقال القاضي عياض في كتابه (الشفا) والصحيح والذي عليه الجم الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، وأول الرسل آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفيما ذكره عبد القاهر بن طاهر من إجماع المسلمين على أن أول الرسل آدم عليه السلام أبلغ رد على من نفى نبوته.
وأما ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه المتفق على صحته في ذكر الشفاعة أن الناس إذا طلبوا من آدم الشفاعة يقول لهم: (ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) وكذلك ما في حديث أبي هريرة المتفق على صحته في ذكر الشفاعة أن الناس يقولون لنوح: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض).
فقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقال في ذكر نوح من أحاديث الأنبياء، أما كونه أول الرسل فقد استشكل بأن آدم كان نبيا وبالضرورة تعلم أنه كان على شريعة من العبادة وأن أولاده أخذوا ذلك عنه فعلى هذا فهو رسول إليهم فيكون هو أول رسول، فيحتمل أن تكون الأولية في قول أهل الموقف لنوح مقيدة بقولهم إلى أهل الأرض لأنه في زمن آدم لم يكن للأرض أهل، أو لأن رسالة آدم إلى بنيه كانت كالتربية
للأولاد، ويحتمل أن يكون المراد أنه رسول أرسل إلى نبيه وغيرهم من الأمم الذين أرسل إليهم مع تفرقهم في عدة بلاد، وآدم إنما أرسل إلى بنيه فقط وكانوا مجتمعين في بلدة واحدة.
وقال الحافظ أيضا في شرح (باب صفة الجنة والنار) من كتاب الرقاق ما ملخصه، وقد استشكلت هذه الأولية بأن آدم نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح، ومحصل الأجوبة عن الإشكال المذكور أن الأولية مقيدة بقوله:(أهل الأرض) لأن آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، ومن الأجوبة أن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد. انتهى.
ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض ما ملخصه أن آدم وشيث رسالتهما إلى من معهما وأن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفارا، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. انتهى.
وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية المنقول من كتاب النبوات نحو ذلك.
وأما الثاني عشر وهو زعمه أن من فرق بين الرسول والنبي فقد فرق بين الأنبياء في الإيمان، قال في صفحة (9) ما نصه:
ويجب تنزيه الأنبياء عن هذا الاعتقاد الذي هو تفريق بينهم - إلى أن قال - ولا شك أن وصف أحدهم بأنه نبي وليس برسول لكونه أوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه وبعضهم نبي رسول أن هذا هو حقيقة التفريق بينهم إذ فيه إزالة
وصف الرسالة التي هي أعلا المراتب عن بعضهم لأنه وإن فسر هذا التفريق بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فإن الخطاب محتمل لهذا وذاك إذ كلا الأمرين تفريق بينهم والقرآن يوجب على المؤمنين أن يؤمنوا بجميع الأنبياء بدون تفريق.
فجوابه: من وجوه أحدها أن يقال: إن القول بوجوب تنزيه الأنبياء عن التفريق بين الرسول منهم والنبي قول أحدثه ابن محمود لم يسبقه إليه أحد ولا قال أحد قبله أن التفريق بين الرسول والنبي من الإيمان ببعض الأنبياء والكفر ببعضهم.
وقد قيل:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى قد فرق بين الرسول والنبي في كتابه وفرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث تقدم ذكرها، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التفريق بين الرسول والنبي لا يجوز وإنه يجب تنزيه الأنبياء عنه.
الوجه الثالث: إذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بين الرسول والنبي فهل يقول ابن محمود: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بين الأنبياء وأنه قال قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه، أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه؟
الوجه الرابع: قد ذكرت فيما تقدم قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد في التفريق بين الرسول والنبي وذكرت أيضا أقوال كثير من المفسرين وغيرهم من أكابر العلماء في ذلك وهم الذين كانوا في أول القرن الثامن فما قبله، وتركت ما قاله كثير من المتأخرين في ذلك فلم أذكره وهم الذين كانوا في آخر
القرن الثامن فما بعده، وكل من ذكرت أقوالهم فيما تقدم ومن أشرت إليهم هاهنا ولم أذكر أقوالهم يكونون على زعم ابن محمود قد قالوا قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه وفرقوا بين الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم، ولا يخفى ما في هذا القول المحدث من المجازفة السيئة والتحامل الذميم، ولا شك أنهم هم المصيبون في تفريقهم بين الرسول والنبي وأن الخطأ لازم لمن شذ عنهم وخالف قولهم كالمعتزلة ومن نحا نحوهم وقال بقولهم الباطل في المنع من التفريق بين الرسول والنبي.
الوجه الخامس: إننا ننزه ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهدا وجميع الذين صرحوا بالتفريق بين الرسول والنبي مما زعمه ابن محمود من كونهم فرقوا بين الأنبياء في الإيمان وأنهم قالوا قولا يجب تنزيه الأنبياء عنه.
الوجه السادس: أن يقال: ليس التفريق بين الرسول والنبي من التفريق الذي يجب تنزيه الأنبياء عنه وإنما هو من التفضيل الذي قال الله تعالى فيه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ففضل بعض الأنبياء بالرسالة كما فضل بعض الرسل على بعض ففضل أولي العزم على سائر الرسل فضل إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم على الجميع بالخلة، وفضل آدم بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وفضل موسى عليه الصلاة والسلام بالتكليم، فضل عيسى عليه الصلاة والسلام بأنواع من التفضيل، ولم يقل أحد أن تفضيل بعض الرسل على بعض من التفريق بينهم فكذلك يقال في تفضيل بعض الأنبياء على بعض بالرسالة.
قال القاضي عياض في كتابه (الشفا) بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في النهي عن التفضيل بين الأنبياء وذكر أقوال العلماء في تأويلها - إلى أن قال - الوجه الرابع منع
التفضيل في حق النبوة والرسالة فإن الأنبياء فيها على حد واحد إذ هي شيء واحد لا يتفاضل وإنما التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب والألطاف، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما التفاضل بأمور أخر زائدة عليها ولذلك منهم رسل ومنهم أولو عزم من الرسل ومنهم من رفع مكانا عليا ومنهم من أوتي الحكم صبيا وأوتي بعضهم الزبور وبعضهم البينات ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات قال الله تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} الآية وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية، قال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا وذلك بثلاثة أحوال أن تكون آيته ومعجزاته أبهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه وتحف ولايته واختصاصه. انتهى.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} لا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي العزم منهم أفضل وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وفي الشورى في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ولا خلاف أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور. انتهى.
وأما الثالث عشر وهو قوله في صفحة (8) ما نصه:-
فإن قيل في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ} فعطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة فكأن النبي غير الرسول، ثم أجاب بأن هذا يقع كثيرا في القرآن والسنة يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول كما في قوله:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فغاير بينهما بحرف العطف ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون والمؤمنين هم المسلمون فلا يقال فلان مسلم وليس بمؤمن ولا أنه مؤمن وليس بمسلم وإنما هو تنوع اسم والمسمى واحد، نظيره قوله:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فعطف بجبريل وميكال على الملائكة وهما منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» ، مثله قول أحدنا:«لا حول ولا قوة إلا بالله» وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول.
فالجواب عنه من وجوه: أحدها أن يقال: إن كلام ابن محمود ينقض بعضه بعضا لأنه قرر أن الله تعالى عطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة وأنه تعالى غاير بين المسلمين والمؤمنين بحرف العطف، ثم نقض ذلك بقوله أنه يقع كثيرا في القرآن والسنة يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول، وبقوله أيضا ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون إلى آخر كلامه.
الوجه الثاني: أن يقال: إن وقوع المغايرة بين الشيئين لابد أن يكون من أجل فارق بينهما، ومن زعم أنه لا فرق بين الرسول والنبي ولا بين المسلم والمؤمن فقد أبطل فائدة المغايرة.
الوجه الثالث: أن الفرق بين الرسول والنبي ثابت بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة وقد تقدم بيان ذلك، وتقدم
أيضا قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغيرهما من أكابر العلماء في ذلك، وتقدم أيضا ما ذكره أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي عن أصحاب التواريخ من المسلمين أنهم أجمعوا على أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وأن عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وتقدم أيضا قول ابن حزم في التفريق بين الرسول والنبي أنه لا خلاف فيه فليراجع كل ما تقدم ذكره ففيه أبلغ رد على من أبطل فائدة المغايرة بين الرسول والنبي.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الإسلام والإيمان حين سأله جبريل عنهما وصدقه جبريل على ذلك، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فاخبرني عن الإيمان، قال:«أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال صدقت. الحديث وفي آخره ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل» قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقد رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ببعض
الأسانيد التي ساقها مسلم في صحيحه ولم يسق لفظها وفيه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما الإسلام قال: «الإسلام أن تسلم وجهك لله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت» قال فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال: «نعم» قال: صدقت قال: فقلنا انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه، قال: وقال: يا رسول الله ما الإحسان قال: «تخشى الله كأنك تراه أو تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك» قال: صدقت، قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه، قال: فقال: يا رسول الله ما الإيمان قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله وبالموت وبالبعث وبالجنة وبالنار وبالقدر كله» قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال: «نعم» قال: صدقت قال: قلنا انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه.
ورواه ابن حبان في صحيحه وقال فيه: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وأن تتم الوضوء وتصوم رمضان» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم قال: «نعم» قال: صدقت قال: يا محمد ما الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن قال: «نعم» قال: صدقت، ورواه الدارقطني في سننه بنحو رواية ابن حبان وقال: إسناده ثابت صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحو حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم وأهل السنن إلا الترمذي.
ومنها حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما بنحو حديث عمر رضي الله عنه وفيه أن جبريل قال: يا محمد أخبرني
ما الإسلام قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان» قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت قال: «نعم» قال: صدقت، قال: يا محمد أخبرني ما الإيمان قال: «الإيمان بالله وملائكته والكتاب والنبيين وتؤمن بالقدر» قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم» قال: صدقت. رواه النسائي.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحو حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما رواه الإمام أحمد وأبو داود والآجري في كتاب الشريعة.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من زعم أن مسمى الإسلام والإيمان واحد، قال النووي رحمه الله تعالى في شرح الأربعين له بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه الذي تقدم: وقد غاير الله تعالى بين الإيمان والإسلام كما في الحديث قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} .
وقال النووي في شرح مسلم عن أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: إن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وإن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، قال وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. انتهى.
الوجه الخامس: أن يقال: ما صرح به ابن محمود في الإسلام والإيمان أنهما واحد هو قول الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم وهو قول مخالف لظاهر القرآن وللأحاديث الصحيحة ولما عليه جمهور أهل السنة والجماعة كما سيأتي بيان ذلك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن رجب، وهذه المسألة قد
تكلم فيها شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره من أكابر العلماء بما فيه كفاية في بيان الحق ورد الباطل، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان الكبير، قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان ومسمى الإحسان فقال:«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» وقال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» .
والفرق مذكور في حديث عمر الذي انفرد به مسلم وفي حديث أبي هريرة الذي اتفق البخاري ومسلم عليه، وكلاهما فيه أن جبرائيل جاءه في صورة إنسان أعرابي فسأله، وكذلك فسر الإسلام في حديث ابن عمر المشهور قال:«بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان» ، وحديث جبرائيل يبين أن الإسلام المبني على خمس هو الإسلام نفسه ليس المبني غير المبني عليه، بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات أعلاها الإحسان وأوسطها الإيمان ويليه الإسلام، فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مؤمن محسنا ولا كل مسلم مؤمنا - إلى أن قال - وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الإسلام علانية والإيمان في القلب» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب» فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس، فعلم أن القلب إذا صلح بالإيمان صلح الجسد بالإسلام وهو من الإيمان، يدل على ذلك أنه قال في
حديث جبرائيل: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاثة مسلم ثم مؤمن ثم محسن.
كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة بخلاف الظالم لنفسه، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع تصديق القلب لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد، وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين - إلى أن قال - فلما ذكر الإيمان مع الإسلام جعل الإسلام هو الأعمال الظاهرة؛ الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج وجعل الإيمان ما في القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهكذا في الحديث الذي رواه أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الإسلام علانية والإيمان في القلب» .
وإذا ذكر اسم الإيمان مجردا دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة - إلى أن قال في أثناء الكتاب - وقد أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} وقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم رهطا وترك فيهم من لم يعطه وهو أعجبهم إلي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله أني لأراه مؤمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مسلما» أقولها ثلاثا ويرددها علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، ثم
قال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله على وجهه في النار» فهذا الذي نفى عن أهله دخول الإيمان في قلوبهم هل هو إسلام يثابون عليه أم هو من جنس إسلام المنافقين؟ فيه قولان مشهوران للسلف والخلف أحدهما أنه إسلام يثابون عليه ويخرجهم من الكفر والنفاق وهذا مروي عن الحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر وهو قول حماد بن زيد وأحمد بن حنبل وسهل بن عبد الله التستري وأبي طالب المكي وكثير من أهل الحديث والسنة والحقائق.
والقول الثاني: أن هذا الإسلام هو الاستسلام خوف السبي والقتل مثل إسلام المنافقين.
قالوا وهؤلاء كفار فإن الإيمان لم يدخل في قلوبهم ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو كافر، وهذا اختيار البخاري ومحمد ابن نصر المروزي - ثم ذكر الشيخ عن الخوارج والمعتزلة أنهم يخرجون أهل الكبائر من اسم الإيمان والإسلام وأن الإيمان والإسلام عندهم واحد فإذا خرجوا عندهم من الإيمان خرجوا من الإسلام، ولكن الخوارج تقول هم كفار والمعتزلة تقول لا مسلمون ولا كفار ينزلونهم منزلة بين المنزلتين - وذكر الشيخ الدليل على أن إسلام الأعراب إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين وأطال الكلام في تقرير ذلك إلى أن قال: وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال، قيل هو الإيمان وهما اسمان لمسمى واحد، وقيل هو الكلمة، لكن التحقيق ابتداء هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام والإيمان ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الشيخ أيضا أنه يجب رد ما تنازع الناس فيه إلى الله ورسوله، قال والرد إلى الله ورسوله في مسألة الإسلام
والإيمان يوجب أن كلا من الاسمين وإن كان مسماه واجبا لا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمنا مسلما، فالحق في ذلك ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل؛ فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات أولها الإسلام وأوسطها الإيمان وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا فقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمنا، وهكذا جاء القرآن فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه.
وقال أبو سليمان الخطابي: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة فأما الزهري فقال الإسلام الكلمة والإيمان العمل واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد واحتج بقول:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شيء منها.
قال الشيخ والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما كأبي جعفر وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي وهو قول أحمد بن حنبل وغيره ولا علمت أحدا من المتقدمين خالف هؤلاء فجعل نفس الإسلام نفس الإيمان، ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي، وكذلك
ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني وابنه محمد شارح مسلم وغيرهما أن المختار عند أهل السنة أنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن كما دل عليه النص - إلى أن قال - قال الميموني: قلت: يا أبا عبد الله تفرق بين الإسلام والإيمان قال: نعم، قلت: بأي شيء تحتج قال: عامة الأحاديث تدل على هذا، ثم قال:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» وقال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} قال: وحماد بن زيد يفرق بين الإسلام والإيمان، قال: وحدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك: وذكر قولهم وقول حماد بن زيد، فرق بين الإسلام والإيمان، قلت لأبي عبد الله فتذهب إلى ظاهر الكتاب مع السنن قال: نعم، قلت: فإذا كانت المرجئة يقولون: إن الإسلام هو القول قال: هم يصيرون هذا كله واحدا ويجعلونه مسلما ومؤمنا شيئا واحدا على إيمان جبريل ومستكمل الإيمان، قلت: فمن هاهنا حجتنا عليهم قال: نعم، قال الشيخ: فقد ذكر عنه الفرق مطلقا واحتجاجه بالنصوص.
وقال صالح بن أحمد: سئل أبي عن الإسلام والإيمان، قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام القول والإيمان العمل، قيل له ما تقوله أنت قال: الإسلام غير الإيمان وذكر حديث سعد وقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ: فهو في هذا الحديث لم يختر قول من قال الإسلام القول بل أجاب بأن الإسلام غير الإيمان كما دل عليه الحديث الصحيح مع القرآن، وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله قلت: قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» قال: قد تأولوه فأما عطاء فقال يتنحى عنه الإيمان وقال طاووس: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان، وروي عن الحسن قال: إن رجع راجعه الإيمان وقد قيل يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، وروي هذه المسألة صالح وسأل أباه عن هذه
القصة فقال فيها هكذا يروي عن أبي جعفر قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام فالإيمان مقصور في الإسلام فإذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، قال الزهري - يعني - لما روى حديث سعد «أو مسلم» فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، قال أحمد: وهو حديث متأول والله أعلم.
فقد ذكر أقوال التابعين ولم يرجح شيئا وذلك والله أعلم لأن جميع ما قالوه حق وهو يوافق على ذلك كله كما قد ذكر في مواضع أخر أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام ونحو ذلك، وأحمد وأمثاله من السلف لا يريدون بلفظ التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، بل التأويل عندهم مثل التفسير وبيان ما يؤول إليه اللفظ كقول عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:«سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن، وإلا فما ذكره التابعون لا يخالف ظاهر الحديث بل يوافقه، وقول أحمد يتأوله أي يفسر معناه وإن كان ذلك يوافق ظاهره لئلا يظن مبتدع أن معناه أنه صار كافرا لا إيمان معه بحال كما تقوله الخوارج فإن الحديث لا يدل على هذا، والذي نفى عن هؤلاء الإيمان كان يجعلهم مسلمين لا يجعلهم مؤمنين - إلى أن قال - والمقصود هنا أن هنا قولين متطرفين قول من يقول الإسلام مجرد الكلمة، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإسلام، وقول من يقول مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم انتهى المقصود من كلامه مخلصا.
وقال ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب، قوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دليل على أن
الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وفي الصحيحين: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين فدل على أنه أخص منه.
وقال ابن كثير أيضا في تفسير سورة الحجرات: يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادَّعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قولهم بعد: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه، ثم ذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد والشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقال سعد رضي الله عنه: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم فلم أعطه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» قال ابن كثير: فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام، ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لأنه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين وإنما
هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير، وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا: في قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} أي استسلمنا خوف القتل
والسبي، وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة، وإنما قيل لهؤلاء تأديبا {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. انتهى.
وذكر ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) عن المحققين من العلماء أنهم قالوا: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق القلب به تحقيقا تاما مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفا، ويدل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} الآية ، يعني لا ينقصكم من أجورها فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما قال له: لم تعط فلانا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو مسلم» يشير إلى أنه لم يتحقق مقام الإيمان فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر
ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضا، لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئا من واجباته كما في قوله:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد، وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وفيما ذكرته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن رجب كفاية في الرد على ابن محمود في زعمه أن مسمى الإسلام والإيمان واحد وأن المسلمين هم المؤمنون فلا يقال فلان مسلم وليس بمؤمن.
الوجه السادس: أن يقال: في الآية التي أوردها ابن محمود وهي قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية أوضح دليل على رد قوله أن مسمى الإسلام والإيمان واحد لأن الله تعالى وصف المؤمنين والمؤمنات في الآية الكريمة بحفظ الفروج كما وصفهم بذلك في سورة المؤمنين حيث يقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يزني الزاني وهو مؤمن» متفق عليه فنفى الإيمان عن الزاني حين يزني ولم ينف عنه الإسلام فدل على أنهما متغايران، وقد تقدم ما ذكره الإمام أحمد عن عطاء أنه قال: يتنحى عنه الإيمان، وعن طاوس أنه قال: إذا فعل ذلك زال
عنه الإيمان، وعن الحسن أنه قال: إن رجع راجعه الإيمان، وقد قيل يخرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام، وعن أبي جعفر قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وقال: في رسالته التي كتبها لمسدد، ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحدا بها انتهى، وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان فإن لام نفسه وراجع راجعه الإيمان.
وروى عبد الله أيضا عن عثمان بن أبي صفية قال: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لغلمانه يدعو غلاما؛ غلاما يقول: ألا أزوجك ما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الأعمش عن مجاهد قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يسمى غلمانه تسمية العرب ويقول لا تزنوا فإن الرجل إذا زنى نزع منه نور الإيمان، وروى أيضا عن مجاهد عن أبي عباس رضي الله عنهما أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه فإنه لا يزني زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد وأبو بكر الآجري عن الحسن أنه قال: يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان، وروى عبد الله أيضا عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: هذا الإسلام ودور دائرة وفي وسطها أخرى وهذا الإيمان التي في وسطها مقصور في الإسلام قال: فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» يخرج
من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام فإذا تاب؛ تاب الله عليه قال: رجع إلى الإيمان، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه وزاد في رواية ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك ثم قال الآجري: ما أحسن ما قال محمد بن علي رضي الله عنهما وذلك أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والإسلام لا يجوز أن يقال يزيد وينقص؛ وقد روي عن جماعة ممن تقدم - أي من السلف - أنهم قالوا إذا زنى نزع منه الإيمان، فإن تاب رد الله تعالى إليه الإيمان، كل ذلك دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، والإسلام ليس كذلك، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر» . انتهى.
وقد عقد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (روضة المحبين) فصلا ذكر فيه أن الزنى يجمع خلال الشر كلها ثم ذكر أنواعا مما فيه من الشر - إلى أن قال- ومنها أنه يسلبه اسم المؤمن كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فسلبه اسم الإيمان المطلق، وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان، وسئل جعفر بن محمد عن هذا الحديث فخط دائرة في الأرض وقال: هذه دائرة الإيمان ثم خط دائرة أخرى خارجة عنها، وقال: هذه دائرة الإسلام فإذا زنى العبد خرج من هذه ولم يخرج من هذه، ولا يلزم من ثبوت جزء ما من الإيمان له أن يسمى مؤمنا كما أن الرجل يكون معه جزء من العلم والفقه ولا يسمى به عالما فقيها، ومعه جزء من الشجاعة والجود ولا يسمى بذلك شجاعا ولا جوادا، وكذلك يكون معه شيء من التقوى ولا يسمى متقيا ونظائره، فالصواب إجراء الحديث على ظاهره ولا يتأول بما يخالف ظاهره والله أعلم. انتهى.
ويلزم على قول ابن محمود أحد أمرين أما إثبات الإيمان للزاني حين يزني وهذا يعارض الحديث الصحيح الذي تقدم
ذكره، ويوافق قول المرجئة الذين يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وأما نفي الإيمان والإسلام معا عن الزاني حين يزني وهذا يوافق قول الخوارج والمعتزلة الذين يخرجون أهل الكبائر من اسم الإيمان والإسلام، لأن الإيمان والإسلام عندهم واحد فإذا خرجوا من الإيمان خرجوا من الإسلام، فقول ابن محمود لا يخلو من موافقة المرجئة أو موافقة الخوارج والمعتزلة، فليختر ما يناسبه من القولين إن كان لا يزال مصرا على قول الباطل.
الوجه السابع: أن ابن مسعود رضي الله عنه عاب على الذين ادعوا لأنفسهم الإيمان، قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي حدثنا يحيي حدثنا شعبة حدثني مغيرة عن أبي وائل قال: قال رجل عند عبد الله: أني مؤمن قال: قل أني في الجنة، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا يحيى حدثنا شعبة حدثني سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله أني مؤمن، قال: قل إني في الجنة ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقال عبد الله أيضا حدثني أبي حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن لقيت ركبا فقلت: من أنتم فقالوا: نحن المؤمنون قال عبد الله: أفلا قالوا نحن أهل الجنة، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقال عبد الله أيضا: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن مغيرة قال: قال رجل لأبي وائل سمعت ابن مسعود يقول: «من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة» قال: نعم، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وروى أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن ،قال: فقيل له يا أبا عبد الرحمن يزعم أنه مؤمن قال: فاسألوه أهو في الجنة أو في النار؟ قال: فسألوه فقال: الله أعلم فقال: ألا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى.
وهذا القول من ابن مسعود رضي الله عنه ظاهر في التفريق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان لأنه عاب على الذين قالوا: إنهم مؤمنون، ولم ينقل عنه ولا عن غيره من العلماء أنهم عابوا على من قال: إنه مسلم فدل على أن الإسلام والإيمان متغايران.
وقد كان كثير من علماء السلف يرون الاستثناء في الإيمان ويعيبون على من لا يستثني، قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي حدثنا علي بن بحر سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، قال: وكان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثنى وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة عن أبي نصر محمد بن كردي عن المروذي عن الإمام أحمد فذكره بمثله.
وقال عبد الله أيضا قرأت على أبي جعفر حدثنا مهدي بن جعفر الرملي حدثنا الوليد يعني ابن مسلم سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول أنا مؤمن ويأذنون في الاستثناء أن أقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وروى عبد الله أيضا وأبو بكر الآجري عن الحسن بن عبيد الله قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل أرجو إن شاء الله تعالى.
وروى عبد الله والآجري أيضا عن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت؟ قال: أرجو؛ إن شاء الله تعالى.
وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن محمد ابن الحسن بن هارون بن بدينا قال: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن الاستثناء في الإيمان، فقال: نعم قد استثنى ابن مسعود وغيره وهو قول الثوري استثناء على غير شك مخافة واحتياطا للعمل، قال أبو عبد الله قال الله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} قال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله» .
وذكر القاضي أبو الحسين أيضا في ترجمة عيسى بن جعفر الوراق؛ قال عيسى: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان فقال: أذهب فيه إلى قول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} فقد علم أنهم داخلون واستثنى، وإلى قوله عز وجل:{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين؛ وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لاحق بهم واستثنى.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ثم روى حديث عائشة رضي الله عنها في ذلك وحديثها أيضا أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «أما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسئلون» فذكر الحديث وفيه «ويقال على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله» قال أبو نصير: الاستثناء على العمل لأن القول قد جئنا به.
وقال عبد الله أيضا حدثني أبي سمعت يحيى بن سعيد يقول ما أدركنا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء، قال يحيى وكان سفيان الثوري ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الإمام أحمد.
وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي سمعت سفيان بن عيينة يقول: إن قال: إن شاء الله ليس يكره وليس بداخل في الشك، ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق الإمام أحمد.
وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن نكون كذلك ولا ندري ما حالنا عند الله، ورواه أبو بكر الآجري عن جعفر الصندلي حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أحمد قال: حدثنا وكيع فذكره بمثله.
وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن شماس سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قيل له كيف تقول أنت؟ قال: أقول مؤمن إن شاء الله.
وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي قال سليمان بن داود: أخبرنا خالد بن عبد الرحمن بن بكر السلمي قال: كنت عند محمد وعنده أيوب فقلت: له يا أبا بكر الرجل يقول لي مؤمن أنت؟، أقول مؤمن فانتهرني أيوب فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وروى عبد الله أيضا وأبو بكر الآجري عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟! فقل: {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} .
وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن إبراهيم قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟! فقل: لا إله إلا الله.
وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن إبراهيم قال: سؤال الرجل؛ الرجل أمؤمن أنت؟! بدعة.
وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن علقمة قال: تكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه فقال علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ قال: أرجو.
وروى عبد الله وأبو بكر الآجري أيضا عن هشام قال: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم ويهابان مؤمن.
وروى عبد الله أيضا عن ابن طاوس عن أبيه قال: كان إذا قيل له أمؤمن أنت قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله لا يزيد على ذلك، وروى أبو بكر الآجري عن إبراهيم نحو ذلك.
وروى عبد الله أيضا عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو قال رجل مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت، وقال: إذا قلت آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول أنا مؤمن وإذا قلت أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله، قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر وأنا مؤمن إن شاء الله، قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.
وقد روي الاستثناء عن عائشة رضي الله عنها رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة عن عبد الرحمن أبي
عصمة قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية بهدية، فقال: أرسل بها إليكِ أمير المؤمنين، فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله وهو أميركم وقد قبلت هديته.
قال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة: من صفة أهل الحق الاستثناء في الإيمان؛ لا على جهة الشك نعوذ بالله من الشك في الإيمان؛ ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟ وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سئلوا أمؤمن أنت؟! قال آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار وأشباه هذا، والناطق بهذا والمصدق به بقلبه مؤمن وإنما الاستثناء في الإيمان لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عز وجل به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق بالقلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون وبه يتناكحون وبه تجري أحكام ملة الإسلام ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بينا وبينه العلماء من قبلنا قال الله عز وجل:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} وقد علم الله عز وجل أنهم داخلون، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» .
قال محمد بن الحسين: وهذا مذهب كثير من العلماء وهو مذهب أحمد بن حنبل؛ واحتج أحمد بما ذكرنا واحتج بمسألة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما له فيقولان له: «على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله تعالى،
ويقال للكافر والمنافق على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله».
حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه، قال: أما أنا فلا أعيبه، قال أبو عبد الله: إذا كنت تقول: إن الإيمان قول وعمل واستثناء مخافة ليس كما يقولون على الشك أفما تستثني للعمل قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل» قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان.
وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان فقال له رجل إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال أبو عبد الله فأين قوله تعالى:{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ؟ قال: وسمعت أبا عبد الله يقول إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك؟! فقال: معاذ الله؛ أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له:«وعليه تبعث إن شاء الله» فأي شك هاهنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» . انتهى.
فإن قيل: فقد روى ابن المبارك في الزهد عن معمر عن صالح ابن مسمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري: «يا حارث بن مالك كيف أصبحت؟» قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال:«إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك» قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني
أنظر إلى عرش ربي وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أسمع عواء أهل النار فقال: «مؤمن نور الله قلبه» .
وروى أبو أحمد العسكري من طريق أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا سليمان الداراني سمعت شيخا بساحل دمشق يقال له علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي فأعجبه سمتنا وهدينا قال: ما أنتم؟ قلنا: مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها وخمس أمرتنا أن نعمل بها وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فذكر الحديث بطوله، وقد ساقه ابن كثير في البداية والنهاية فقال: ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة والحافظ أبو موسى المديني من حديث أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي سويد بن الحارث فذكره، وقد أورد ابن محمود هذين الحديثين في بعض رسائله واعتمد عليهما في الجزم بالإيمان بدون استثناء، وقال في الكلام على حديث الحارث بن مالك الأنصاري فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم جزمه بإيمانه بدون استثناء، وقال في الكلام على حديث سويد بن الحارث إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على الجزم بالإيمان ولم ينكر عليهم.
والجواب: أن يقال: كل من الحديثين منكر لا يصلح للاستشهاد به، فضلا عن الاحتجاج به، فأما حديث الحارث بن مالك الأنصاري فقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: هو معضل، قال: ورواه البيهقي في الشعب من طريق يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا، قال البيهقي: هذا منكر وقال ابن صاعد: هذا الحديث لا يثبت موصولا. انتهى.
وقد وهم ابن محمود فجعل هذا الحديث عن حارثة بن النعمان، والصواب أنه الحارث بن مالك الأنصاري كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة.
وأما حديث علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي فهو أضعف مما قبله، قال الحافظ الذهبي في الميزان: علقمة بن يزيد بن سويد عن أبيه عن جده لا يعرف وأتى بخبر منكر فلا يحتج به، وكذا قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان.
وإذا علم سقوط الحديثين اللذين احتج بهما ابن محمود على الجزم بالإيمان بدون استثناء فليعلم أيضا أن المعتمد في هذا ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من أكابر العلماء؛ من إنكار الجزم بالإيمان بدون استثناء وليس مع من خالفهم دليل يصلح لمعارضتهم.
وأما الآية من سورة البقرة وهي قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فإن العطف فيها بالواو يفيد المغايرة بين جميع المذكورين في الآية الكريمة، ومن زعم أن الواو لا تفيد المغايرة وأنه يراد بالتالي نفس الأول فلازم قوله أن يكون ميكال نفس جبريل وأن تكون الرسل من بني آدم نفس الملائكة، وهذا من أبطل الباطل.
وإنما وقع النص على جبريل وميكال مع أنهما من الملائكة لشرفهما على سائر الملائكة وهو من باب عطف الخاص على العام.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» فإنما هو وارد في التحذير من دعوى الجاهلية، وهو أن الرجل منهم إذا غلب خصمه نادى قومه بأعلى صوته يا آل فلان فيبتدرون إلى نصرته ظالما كان
أو مظلوما جهلا منهم وعصبية، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة أهل الجاهلية في حميتهم وعصبيتهم وعاداتهم السيئة وأمر المسلمين أن يدعوا بالأسماء التي سماهم الله بها في كتابه، وليس في الحديث ما يعارض الأحاديث الصحيحة التي جاء فيها التفريق بين الإسلام والإيمان لأنها تفسر ما أجمل في غيرها والله أعلم.
وأما قول ابن محمود مثله قول أحدنا لا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول.
فجوابه: أن يقال: إن القوة ليست نفس الحول كما توهم ذلك ابن محمود بل بينهما فرق يدل على ما بينهما من المغايرة التي من أجلها وقع العطف بينهما بالواو، وقد نقل ابن منظور في لسان العرب عن الأزهري، قال: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا الهيثم يقول: عن تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: الحول الحركة تقول حال الشخص إذا تحرك وكذلك كل متحول عن حاله فكأن القائل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله يقول لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئته، ونقل ابن منظور أيضا عن الكسائي أنه قال: يقال لا حول ولا قوة إلا بالله ولا حيل ولا قوة إلا بالله وورد ذلك في الحديث لا حول ولا قوة إلا بالله وفسر بذلك المعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله تعالى. انتهى.
وقال ابن الأثير في النهاية: فيه لا حول ولا قوة إلا بالله الحول هاهنا الحركة، يقال حال الشخص يحول إذا تحرك، والمعنى لا حركة ولا قوة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل الحول الحيلة والأول أشبه. انتهى.
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: قوله لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال أبو الهيثم: الحول الحركة، يقال أحال الشخص
إذا تحرك ويقال استحل هذا الشخص أي انظر هل يتحرك أم لا؟ وكأن القائل يقول لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله عز وجل، وكذا قاله أبو عمر في الشرح عن أبي العباس قال: معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في درك خير إلا بالله، وقيل لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمته ولا قوة على طاعة الله إلا بعونه ويحكى هذا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: معنى لا حول ولا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة له على طاعة الله إلا بتوفيق الله، وقيل معنى لا حول لا حيلة ، وقال النووي هي كلمة استسلام وتفويض وأن العبد لا يملك من أمره شيئا وليس له حيلة في دفع شر ولا قوة في جلب خير إلا بإرادة الله تعالى. انتهى.
ومما ذكرته عن أهل اللغة وغيرهم من العلماء، يتضح ما بين الحول والقوة من التغاير ويتضح أيضا خطأ من زعم أنه يراد بالتالي نفس الأول والله أعلم.
ومما ذكره الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم قالوا: كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما، يتبين أن ابن محمود قد تبع المعتزلة في رسالته التي سماها (إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء) وخالف أهل السنة والجماعة الذين قالوا بالتفريق بين الرسول والنبي كما أنه قد تبع الخوارج والمعتزلة في زعمه أن مسمى الإسلام والإيمان واحد، وكذلك قد تبع غلاة القدرية في رسالته التي سماها (الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر) حيث كرر فيها إنكاره لكتابة المقادير وزعم أنها عبارة عن العلم القائم بذات الله وسبق علمه بالأشياء قبل وقوعها، وبئس السلف غلاة القدرية والمعتزلة والخوارج.
نسأل الله لنا وله الهداية والرجوع إلى الحق والصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وسلم تسليما كثيرا.
وقد كان الفراع من التعليق على رسالتي ابن محمود في 14/ 7/ 1397 هـ على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
* * *