المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌(فصل في منزلة الفقر:

(اللهم يا عزيز يا غفور ارحم غربتنا في القبور وما فيها من الدواهي والأمور تحت الجنادل والصخور وحوِّل ظلمتها إلى نور، وآمنَّا يوم البعث والنشور، ووفقنا لفعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور وعملٍ متقبلٍ مبرور، إنك سبحانك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

(اللهم يا عليُّ يا كبير يا من لا يظلم الفتيل والنقير تجاوز عن الخطأ والتقصير والطُف بنا فيما جرت به المقادير، إنك سبحانك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعونا أن لحمد لله ر العالمين.

(اللهم يا فالق الحب والنوى ويا مُنشيء الأجساد بعد البِلى وفقنا لحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وأن نتذكر الموت والبلى فنستحي من الله حق الحيا.

(اللهم يا ذا القوة المتين يا رجاء السائلين ويا مجيب دعوة المضطرين اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك المتقين وآمنَّا من الفزع الأكبر يوم الدين واغفر لنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

(اللهم يا فعَّالاً لما تريد يا ذا الحبل الشديد والأمرِ الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة دار الخلود مع المقربين الشهود الرُكَّعِ السجُود الموفين بالعهود يا غفور يا ودود.

(اللهم وفق الرعاةَ والرعية وأصلح لهم النية ونجهم من كلِ بلِّية، اللهم وفقهم بتوفيقك وأيدهم بتأييدك، اللهم اهدهم بهداك واجعل عملهم في رضاك، وقيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على مصالح العباد والبلاد، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءاً رخاءاً وسائر بلاد المسلمين ووفقهم للعمل بالدين يا قوي يا متين.

‌(فصلٌ في منزلة الفقر:

[*] (عناصر الفصل:

(منزلة الفقر من منازل السائرين إلى رب العالمين:

(أقوال السلف في الفقر:

(تعريف الفقر:

(بيان فضيلة الفقر:

(هل الفقر أفضل أم الغنى؟

(بيان آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال:

(آداب الفقير المضطر فيه:

(الاستعفاف عن المسألة:

(ذم من سأل الناس تكثراً وعنده ما يغنيه:

وهاك تفصيل ذلك في إيجازٍ غيرِ مُخِّل:

(منزلة الفقر من منازل السائرين إلى رب العالمين:

((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفقر

ص: 530

هذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم وأعلاها وأرفعها بل هي روح كل منزلة وسرها ولبها وغايتها وهذا إنما يعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة أخص من معناه الأصلي فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع:

(أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الآية [البقرة: 273] أي الصدقات لهؤلاء كان فقراء المهاجرين نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله فكانوا وقفا على كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله وقيل: حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل: لما عادوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى: أحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش فلا يستطيعون ضربا في الأرض.

والصحيح: أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربا في الأرض ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء.

(والموضع الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60] (والموضع الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]

فالصنف الأول: خواص الفقراء والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامهم والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم: غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجدة ومن ليس محصرا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعففا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني والصنف الثاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجدة ويدخل فيهم المتعفف وغيره والمحصر في سبيل الله وغيره والصنف الثالث: لا مقابل لهم بل الله وحده الغني وكل ما سواه فقير إليه

(ومراد القوم بالفقر: شيء أخص من هذا كله وهو «تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة» .

هذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا بل هو حقيقة العبودية ولبها وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية.

(وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال: «حقيقته أن لا يستغني إلا بالله» ورسمه: عدم الأسباب كلها يقول: عدم الوثوق بها والوقوف معها وهو كما قال بعض المشايخ: شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه ويسوقه إلى من يريده.

ص: 531

(وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله وهذا إنما يحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها.

(وسئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه فقال: ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له: وكيف ذاك فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له، وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم وهو «أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه» فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول ثم فسر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر وهذا الفقر الذي يشيرون إليه: لا تنافيه الجدة ولا الأملاك فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم كإبراهيم الخليل كان أبا الضيفان وكانت له الأموال والمواشي وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام وكذلك كان نبينا كان كما قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم «فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال» وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالا وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:

«والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي»

(أقوال السلف في الفقر:

((قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين:

وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب أكثر إشارات القوم إليها كقول بعضهم: الفقير لا تسبق همته خطوته يريد: أنه ابن حاله ووقته فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه (وقيل: أركان الفقر أربعة: علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه.

(وقال الشبلي: حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيء دون الله.

(وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه.

(وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال.

ص: 532

(وقيل: من حكم الفقر: أن لا تكون له رغبة فإذا كان ولابد فلا تجاوز رغبته كفايته.

(وقيل: الفقير من لا يملك ولا يملك وأتم من هذا: من يملك ولا يملكه مالك.

(وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا و الفقر له بداية ونهاية وظاهر وباطن فبدايته: الذل ونهايته: العز وظاهره: العدم وباطنه: الغنى كما قال رجل لآخر: فقر وذل فقال: لا بل فقر وعز قال: فقر وثراء قال: لا بل فقر وعرش وكلاهما مصيب واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله فلا معنى لسؤال من سأل: أي الحالين أكمل الافتقار إلى الله أم الاستغناء به فهذه مسألة غير صحيحة فإن «الاستغناء به هو عين الافتقار إليه» وسئل عن ذلك محمد بن عبد الله الفرغاني فقال: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أفضل: الافتقار أم الاستغناء لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.

وإما كلامهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه فعند أهل التحقيق والمعرفة: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها فإن التفضيل: عند الله تعالى بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولم يقل أفقركم ولا أغناكم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول: ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول: {رَبِّي أَهَانَنِ كَلَاّ} [الفحر: 15 - 16] أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته: أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت: أكون قد أهنته فالإكرام: أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة: أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية «ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى» فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة سمعته يقول ذلك وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر.

ص: 533

وقال غيره: هذه المسألة محال من وجه آخر وهو أن كلا من الغني والفقير لابد له من صبر وشكر فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم من صبر من يصبر عن عجز ويكون شكر الفقير أتم لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني فكلاهما «لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر»

مسألة: ما هو أنواع الفقر؟

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

الفقر فقران: فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروج لبرّ ولا فاجر عنه، وهذا لا يقتضى مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً ومصنوعاً.

والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين: أَحدهما معرفة العبد بربه، والثاني معرفته بنفسه.

فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أَنتجتا له فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أَخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كما له أَمراً مشهوداً محسوساً لكل أَحد، ومعلوم أَن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إِلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إِلى بارئه وفاطره.

(فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((أَصلح لي شأني كله، ولا تكلني إِلى نفسي طرفة عين 00)) كما في الحديث الآتي:

(حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لفاطمة رضي الله تعالى عنها: ما يمنكِ أنْ تسمعي ما أُوصيكِ به؟ أنْ تقولي: إذا أصبحتِ وإذا أمسيتِ يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيثُ، أصلحْ لي شأنيَ كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طَرفةَ عين.

ص: 534

وكان يدعو: ((يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبي عَلَى دينك)). يعلم صلى الله عليه وسلم أَن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} * [الإسراء: 74]، فضرورته صلى الله عليه وسلم إِلى ربه وفاقته إِليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أَمر إِنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أَقرَبَ الخلق إِلى الله وسيلة وأَعظمهم عنده جاهاً وأَرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إِلى ربه تعالى، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله إياها كما في الأحاديث الآتية:

(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله.

(حديث عمر في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله و رسوله.

(حديث أبي مسعود رضي الله عنه الثابت في صحيح ابن ماجه) قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه فقال له هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد.

(القديد): هو اللحم المملح المجفف في الشمس

وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أَشرف مقاماته، «مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدي» ، فقال:{سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً} * [الإسراء:1]، وقال:{وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ} * [الجن: 19]، وقال:{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} * [البقرة: 23]، وفى حديث الشفاعة:((إِنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ لَهُمْ [يوم القيامة]: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ))، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له، فتأَمل قوله تعالى في الآية:{أَنْتُمُ الفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ} * [فاطر: 15]، [فعلق الفقر إليه باسمه] دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإِنه كما تقدم نوعان:

(تعريف الفقر:

مسألة: ما هو تعريف الفقر؟

ص: 535

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه طريق الهجرتين:

الفقر فقر إِلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأَسرها، وفقر إِلى أُلوهيته وهو فقر أَنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إِليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إِليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكل أَخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير، قال شيخ الإِسلام الأنصاري:«الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة» ، وهو على ثلاث درجات:

الدرجة الأُولى: فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أَو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه.

الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال، ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات.

والدرجة الثالثة: صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداءِ قيد التجريد وهذا فقر الصوفية)).

ص: 536

فقوله: ((الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة)) يعنى أَن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله.

ص: 537

بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلى فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة في يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه:((والله إني لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت))، فهو متصرف في تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإِمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عز وجل، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى:{ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} * [يونس: 14]، وحقيق بهذا الممتحن أَن يوكل إِلى ما ادعته نفسه من الحالات والمَلَكات مع المالك الحق سبحانه، فإِن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إِليها، «ومن وُكِلَ إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب» ، وأَغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإِن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إِلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إِلا على الحرمان.

ص: 538

وقوله: ((البراءَة من رؤية الملكة)) ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له في الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغي لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، عليهم الصلاة والسلام وكذلك أَغنياءُ الصحابة، «فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم» فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما في أَيديهم لله عارية ووديعة في أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم.

(بيان فضيلة الفقر:

قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)[الحشر: 8]

و قال تعالى: (لِلْفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ)[البقرة: 273]

ساق الكلام في معرض المدح ثم قدم وصفه بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقير.

وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى: منها ما يلي:

(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم و رُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه)

فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه: أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً، فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر.

ولعل أبرز أدلة النقل الصحيح الصريح الدال على فضل الفقر الحديثين الآتيين:

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.

قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.

(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا)

وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع.

ص: 539

وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم.

وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه: ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك.

وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما من أحد إلا وفي عقله نقص وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص.

وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك.

وقيل: كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه: إذا قام فجئني به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم: أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع قال: نعم قال: فشبعت قال: نعم قال: ثم نمت طيباً قال: نعم فقال إبراهيم في نفسه: فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر.

ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً فقال له: يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا فقال: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا قال: بلى قال: من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.

وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول: من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.

وقال الحسن رحمه الله: لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ " وفي السماء رزقكم وما توعدون ورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ".

وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له: أتجلس بين هؤلاء والله ما في البيت هفة ولا سفة فقال: يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مخف وقال ذو النون رحمه الله: أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له.

وقيل لبعض الحكماء: ما مالك فقال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس.

وقد قيل في هذا المعنى أيضاً:

يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه

مقدراً أي باب منه يغلقه

مفكراً كيف تأتيه منيته

أغادياً أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له

يا جامع المال أياماً تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه

ما المال مالك إلا يوم تنفقه

فالعرض منه مصون ما يدنسه

والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها

لم يبق في ظلها هم يؤرقه

ص: 540

(هل الفقر أفضل أم الغنى؟

[*] (قال الغزالي رحمه الله تعالى في إحياء علوم الدين:

اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر.

ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة.

(ثم قال رحمه الله تعالى:

فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين: أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال.

والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص المقام الأول فقير صابر ليس بحريص على الطلب أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه

فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع وقد يشهد له ما روي في الخبر: أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال عليه السلام: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".

(بيان آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال:

ينبغي أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور: نفس المال وغرض المعطي وغرضه في الأخذ.

أما نفس المال فينبغي أن يكون حلالاً خالياً عن الشبهات كلها فإن كان فيه شبهة فليتحرز من أخذه وقد ذكرنا في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه وما يستحب.

وأما غرض المعطي فلا يخلو: إما أن يكون غرضه تطبيب قلبه وطلب محبته وهو الهدية أو الثواب وهو الصدقة والزكاة والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجاً ببقية الأغراض.

ص: 541

أما الأول ـ وهو الهدية ـ فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ينبغي أن لا يكون فيها منة. وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال:(خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)

فإن كان فيها منة فالأولى تركها فإن علم أن بعضها مما تعظم

فيه المنة فليرد البعض دون البعض فقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمن وأقط وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من بعض الناس ويرد على بعض. وفعل هذا جماعة من التابعين.

وحمل إلى الحسن البصري كيساً ورزمة من رقيق ثياب خراسان فرد ذلك وقال: من جلس مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليس له خلاق.

وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد في قبول العطاء.

وقد كان الحسن يقبل من أصحابه.

وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم المئين فلا يأخذها.

وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئاً يقول: اتركه عندك وانظر إن كنت بعد قبوله في قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرني حتى آخذه وإلا فلا وأمارة هذا أن يشق عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه في قبول صديقه هديته فإن علم أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين.

وقال بشر: ما سألت أحداً قط شيئاً إلا سرياً السقطي لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عوناً له على ما يحب.

وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال: أفرقه على الفقراء فقال: ما أريد هذا.

قال: ومتى أعيش حتى آكل هذا قال: ما أريد أن تنفقه في الخل والبقل بل في الحلاوات والطيبات فقبل ذلك منه فقال الخراساني: ما أجد في بغداد أمن علي منك فقال الجنيد: ولا ينبغي أن يقبل إلا من مثلك.

الثاني: أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق للزكاة فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة.

ص: 542

وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفاً لمعصية في السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه.

الثالث: أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد.

وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أراد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.

(وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر: أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه فإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ كما في الحديث الآتي:

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاءَ، فأقولُ أعطهِ من هو أفقر مني فقال:(خذه، إذا جاءك من هذا المال شيءٌ، وأنت غير مشرفٍ ولا سائل، فخُذهُ، وما لا، فلا تُتْبعِه نفسك)

وقال بعض العلماء: من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ.

وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة فقال له السري: يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد: أعد علي ما قلت! فأعاده فقال أحمد: ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي.

وقد قال بعض العلماء: يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره فأما إذا كان ما أتاه زائداً على حاجته فلا يخلو: إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء فإن كان مشغولاً بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة فإن ذلك محض إتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان: أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة.

ص: 543

والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج منه أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في العلانية.

وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره فإن في ذلك آفات وأخطاراً والورع يكون حذراً من مظان الآفات إذا لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه.

(آداب الفقير المضطر فيه:

اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات وورد فيه أيضاً ما يدل على الرخصة كما في الحديث الآتي:

(حديث حواء بنت السكن رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ردوا السائل و لو بظلف محرق.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

(ردُّوا السائل ولو بظلف) بكسر فسكون

(محرق) لو للتقليل والمراد الرد بالإعطاء والمعنى تصدقوا بما تيسر كثر أو قل ولو بلغ في القلة الظلف مثلاً فإنه خير من العدم وقال أبو حيان: الواو الداخلة على الشرط للعطف لكونها لعطف حال على حال محذوفة يتضمنها السابق تقديره ردوه بشيء على حال ولو بظلف وقيد الإحراق أي النييء كما هو عادتهم فيه لأن النييء قد لا يؤخذ وقد يرميه آخذه فلا ينتفع به بخلاف المشوي وقال الطيبي: هذا تتميم لإرادة المبالغة في ظلف كقولها " كأنه علم في رأسه نار " يعني لا تردوه ردَّ حرمان بلا شيء ولو أنه ظلف فهو مثل ضرب للمبالغة والذهاب إلى أن الظلف إذ ذاك كأن له عندهم قيمة بعيد عن الاتجاه.

الشاهد: ولو كان السؤال حراماً مطلقاً لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة، فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة.

{تنبيه} : (وإنما كان الأصل في السؤال التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.

ص: 544

الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول. الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة.

(الاستعفاف عن المسألة:

(حديث حكيم ابن حزام الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخيرُ الصدقةِ عن ظهرِ غنى، ومن يستعفف يُعفَّه الله، ومن يستغن يغنه الله)

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة و التعفف و المسألة (اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليدُ العليا هي المنفقة، و اليد السفلى هي السائلة)

(حديث أَبِي سَعِيدٍ الثابت في الصحيحين) أَنّ نَاساً مِنَ الأنْصَارِ سَأَلُوارسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ، ثُمّ سَألُوه فَأَعْطاهُمْ، حتى نَفِد ما عنده فقال: َ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يستعفف يُعِفّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبّرْ يُصَبّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءاً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصّبْرِ)

(حديث المقدام بن معد يكرب الثابت في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحدٌ طعامٌ قط، خيرٌ من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكلُ من عمل يده)

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حَبْله، فيحتطبَّ على ظهره، خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسألَه، أعطاهُ أو مَنَعه)

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان زكرياء نجاراً)

ص: 545

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكينُ الذي يطوفُ على الناس ترده اللقمةُ واللقمتان والتمرةُ والتمرتان، إنما المسكينُ الذي لا يجدُ غنىً يغنيه ولا يفطنُ به فيتصدق ولا يقومُ فيسأل الناس)

وفي رواية (إنما المسكين الذي يتعفف، اقرأوا إن شئتم (لا يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً)

(حديث ثوبان الثابت في صحيح أبي داوود) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يكفلْ لي أن لا يسألَ الناس شيئاً وأتكفلُ له بالجنة فقال ثوبان أنا فكان لا يسألُ الناس شيئا)

(حديث ابن عباس الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليستغن أحدكم عن الناس بقضيب سواك)

(حديث ابن مسعود الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدْ فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى إما بموتٍ عاجلٍ أو غنى عاجل)

(ذم من سأل الناس تكثراً وعنده ما يغنيه:

كان صلى الله عليه وسلم يأمر كثيراً بالتعفف عن السؤال ويحذر أيما تحذير عن مسائلة الناس وعنده ما يغنيه، وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يزالُ الرجلُ يسألُ الناس، حتى يأتي يوم القيامةِ ليس في وجهه مُزْعَةُ لحم)

(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر)

ص: 546