الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فضل المدينة
وآداب سكناها وزيارتها
إعداد: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وخليلُه وخِيرتُه من خلقِه، أَرسلَه الله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنِه وسراجاً منيراً، فدلَّ أُمَّتَه على كلِّ خيرٍ، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه ومَن سَلَكَ سبيلَه واهتدى بهديِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مدينةَ الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم طَيْبةَ الطيِّبةَ مهبطُ الوحي ومتنزَّلُ جبريلَ الأمين على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي مأرزُ الإيمان، وملتقى المهاجرين والأنصار، وموطن الذين تبوؤوا الدارَ والإيمان، وهي العاصمة الأولى للمسلمين، فيها عُقدت ألويةُ الجهاد في سبيل الله، فانطلقت كتائبُ الحق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومنها شعَّ النور، فأشرقت الأرض بنور الهداية، وهي دارُ هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إليها هاجر، وفيها عاش آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وبها مات، وفيها قُبر، ومنها يُبعث، وقبره أول القبور انشقاقاً عن صاحبه، ولا يُقطع بمكان قبر أحد من الأنبياء سوى مكان قبره صلى الله عليه وسلم.
وهذه المدينة المباركة شرَّفها الله وفضّلها، وجعلها خير البقاع بعد مكة، ويدل لتفضيل مكة على المدينة قولُ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمّا أخرجه الكفار منها واتَّجه
إلى المدينة مهاجراً، قال مخاطباً مكة:"والله إنَّكِ لَخيْرُ أرضِ الله، وأَحبُّ أرضِ الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ"، رواه الترمذي، وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيحٌ.
وأمَّا الحديثُ الذي يُنسبُ إلى الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وهو:"أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعَا وقال: "اللَّهمَّ إنَّكَ أخْرَجْتَنِي مِن أَحَبِّ البلادِ إلَيَّ ـ يعني مكَّةَ ـ فَأَسْكِنِّي في أحبِّ البلادِ إليك ـ يعني المدينةَ ـ"، فهو حديثٌ موضوعٌ، ومعناه غيرُ مستقيم؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ الأحبَّ إلى الله غيرُ الأحبِّ إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والأَحَبّ إلى الرَّسول غير الأحبِّ إلى الله، ومِن المعلومِ أنَّ مَحبَّةَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم تابعةٌ لِمحَبَّة الله سبحانه وتعالى، ليس الأحب إلى الله غير الأحب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيتُ كتابةَ هذه الرسالةِ في فضل هذه المدينة المباركة وبيان آداب سُكناها وزيارتها، فأذكرُ فيها جملةً من فضائلِها، ثمَّ جملةً مِن آدابِ سُكناها، ثمَّ جملةً من آداب زيارتِها:
فمِن فضائلِ هذه المدينةِ المباركة: أنَّ الله تعالى جعلَها حَرَماً آمناً كما جعل مكَّةَ حَرماً آمناً، وقد جاء عن النَّبِيِّ الكريمِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مكَّةَ، وإنِّي حرَّمتُ المدينةَ"، رواه مسلم، والمقصودُ من هذا التحريمِ المضافِ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإلى إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم هو إظهارُ التحريم، وإلَاّ فإنَّ التَّحريمَ مِن الله عز وجل، وهو الذي جعل هذا حَرَماً، وجعلَ هذا حَرَماً.
واختصَّ الله عز وجل هاتيْن البلدَتَيْن بهذه الصِّفَةِ التي هي الحرمة دون سائر البلاد، ولَم يأتِ دليلٌ ثابتٌ يدلُّ على تحريمِ شيءٍ غير مكَّة والمدينة، وما شاعَ على أَلسِنَة كثيرٍ من النَّاسِ من أنَّ المسجدَ
الأقصَى ثالثُ الحَرمَيْن هو من الخطأ الشائعِ؛ لأنَّه ليس هناك للحرمين ثالثٌ، ولكنَّ التعبيرَ الصحيح أن يُقال: ثالث المَسجِدَيْن ـ أي المُشَرَّفيْن المُعظَّمَيْن ـ، والنبِيُّ صلى الله عليه وسلم جاء عنه ما يدلُّ على فضلِ هذه المساجدِ الثلاثة وعلى قصدِها للصلاةِ فيها، حيث قال عليه الصلاة والسلام:"لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَاّ إلى ثلاثةِ مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصَى"، رواه البخاري ومسلم.
ثمَّ إنَّ المقصودَ بالحَرَم في مكَّةَ والمدينة ما تُحيطُ به الحدود لكلٍّ منهما، هذا هو الحرَمُ، وما شاعَ من إطلاقِ الحرَمِ على المسجدِ النَّبَويِّ فقط فهو من الخطأ الشائع؛ لأنَّه ليس هو الحرمُ وحده، بل المدينة كلُّها حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْر، وما بين لابَتَيْها، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"المدينةُ حرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور"، رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّي حرَّمتُ ما بين لابَتَيْ المدينة أن يُقطَع عِضاهُها، أو يُقتل صيدُها"، رواه مسلم.
ومِن المعلومِ أنَّ المدينةَ قد اتَّسَعت في هذا الزَّمان حتَّى خرَجَ جزءٌ منها عن الحَرَم، ولِهذا لا يُقال: إنَّ كلَّ المباني الموجودةَ في المدينة من الحَرَمِ، ولكن ما كان داخلَ حدودِ الحرم منها فهو حرمٌ، وما كان خارِجَ حدود الحَرَم فإنَّه يُطلقُ عليه أنَّه من المدينة، ولكن لا يُقال إنَّه من الحرم.
وقد جاء عن النَّبِيِّ الكريمِ صلى الله عليه وسلم في بيان حدود حرَم المدينة أنَّ الحرَمَ ما بين اللَاّبتَين، أو ما بين الحرَّتين، أو ما بين الجَبلَين، أو ما بين عَيْرٍ إلى ثَور، ولا تنافيَ ولا اضطراب بين هذه الألفاظ؛ فإنَّ الأصغرَ داخلٌ في الأكبرِ، فما بين اللَاّبتين حَرَمٌ، وما بين الحرَّتين حَرَمٌ، وما بين عيْر إلى ثورٍ حرمٌ، وإذا اشتبه الأمرُ في شيءٍ يُحتمَل أن يكون من الحرَم، ويُحتمل أن يكون من
غيرِه، فإنَّ هذا أمثلُ ما يُقال فيه إنَّه من الأمور المشتبهات، والأمورُ المشتبهات بيَّن النَّبِيُّ الكريمُ عليه الصلاة والسلام الطريقةَ التي تُسلَكُ فيها، وهي أن يُحتاط فيها، كما قال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث النُّعمان بن بَشير المتفق على صحَّته:"فمَن اتَّقى الشُّبهات فقد اسْتبرَأَ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقع في الشُّبُهات وقعَ في الحرام".
ثمَّ إنَّ من الفضائلِ: التي جاءت في شأن هذه المدينة المباركةِ أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاها "طيبة"، و"طابة"، بل إنَّه ثبت في صحيح مسلم أنَّ اللهَ سَمَّاها "طابة"، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللهَ سَمَّى المدينةَ طابة"، وهذان اللَّفظان مُشتقَّان من الطيب، ويَدلَاّن على الطيب، فهما لفظان طيِّبان، أطلقَا على بُقعةٍ طيِّبة
ومِن فضائلِها: أنَّ الإيمانَ يَأْرِزُ إليها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الإيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينة كما تَأْرِزُ الحَيَّةُ إلى جُحرِها"، رواه البخاريُّ ومسلم.
ومعنى ذلك أنَّ الإيمانَ يتَّجِه إليها ويكون فيها، والمسلمون يَؤُمُّونَها ويَقصِدونها؛ يدفعُهم إلى ذلك الإيمانُ ومَحبَّةُ هذه البُقعةِ المباركةِ التي حرَّمها الله عز وجل.
ومِن فضائلها: ما جاء عن النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه وَصفَها بأنَّها قريةٌ تأكلُ القُرى، قال صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ بقريةٍ تأكل القُرى [يعني أُمرَ بالهجرةِ إلى هذه القريةِ التي تأكلُ القُرى] يقولون لها: يَثْرِب، وهي المدينة"، رواه البخاري ومسلم.
فقولُه عليه الصلاة والسلام: " تأكُلُ القُرى" فُسِّرت بأنَّها تنتصرُ عليها، وتكون الغلبَةُ لَها على
غيرِها من القُرى، وفُسِّرت بأنَّها تُجلَبُ إليها الغنائم التي تَحصُلُ في الجهاد في سبيل الله، وتُنقَلُ إليها، وكلٌّ من هذين الأمرَين قد وَقَعَ وحَصَلَ، فحَصَلَ تغَلُّبُ هذه المدينة على غيرِها من المدن، بأَن انطلَقَ منها الهُداةُ المُصلِحون والغُزاةُ الفاتِحون، وأخرجوا النَّاسَ من الظُّلمات إلى النُّورِ بإذن ربِّهم، فدخل النَّاسُ في دِينِ الله عز وجل، وكلُّ خيرٍ حصل لأهل الأرضِ فإنَّما خرجَ من هذه المدينة المباركة، مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فكونُها تأكل القرى يصدُقُ على كون الانتصار لَها على غيرِها من المدن، كما حصل ذلك في الصَّدر الأول، ومع الرَّعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرَّاشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك أيضاً حصولُ الغنائم والإتيانُ بها
إليها، وهذا أيضاً قد حصلَ، فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أخبَرَ عن إنفاقِ كنوزِ كِسرى وقيصر في سبيل الله عز وجل، وقد حصل ذلك، فقد أُتِيَ بهذه الكنوز إلى هذه المدينة المباركة، وقُسِّمت على يدِ الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ومن فضائلها: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حثَّ على الصَّبرِ على لأوائِها وجَهدِها وقال: "المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون"، قال ذلك في حقِّ الذين فكَّروا في الانتقالِ من المدينة إلى الأماكنِ التي فيها الرَّخاء، وسَعَة الرِّزق، وكثرة المال، فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال:"المدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، لا يَدَعُها أحدٌ رغبةً عنها إلَاّ أبدَلَ اللهُ فيها مَن هو خيرٌ منه، ولا يثبُتُ أحدٌ على لأْوَائِها وجَهدِها إلَاّ كنتُ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة"، رواه مسلم.
وهذا يدلُّنا على فضلِ هذه المدينة، وفضلِ الصَّبرِ على الشدَّة واللأوَى والجَهد والضَنْك إذا حصلَ لأحدٍ، فلا يكون ذلك دافعاً له إلى أن ينتقلَ منها إلى غيرِها يبحَثُ عن الرَّخاءِ وعن سَعَة الرِّزقِ، بل يصبر على ما يحصلُ له فيها، وقد وُعِدَ بهذا الأجرِ العظيم، والثَّوابِ الجزيلِ من الله سبحانه وتعالى.
ومن فضائلها: أنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَيَّن عِظَمَ شأنِها وخطورةَ الإحداثِ فيها عندما بَيَّن حُرمتَها قال: "المدينةُ حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَور، مَن أَحدَث فيها حَدَثاً أو آوَى مُحدِثاً فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعين، لا يَقبلُ اللهُ منه صَرْفاً ولا عَدْلاً"،رواه البخاري ومسلم.
ومِن فضائِلِها: ما جاء عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الدُّعاءِ لَها بالبرَكَة، ومِن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهمَّ بارِك لَنا في
ثَمَرِنا، وبارِك لَنا في مدينَتِنا، وبارِك لنا في صاعِنا، وبارِك لَنا في مُدِّنا"، رواه مسلم.
ومِن فضائِلِها: أنَّها لا يدخُلُها الطَّاعونُ ولا الدَّجَّالُ، قال صلى الله عليه وسلم:"على أنقابِ المدينة ملائكةٌ، لا يَدخُلُها الطَّاعونُ ولا الدَّجَّالُ"، رواه البخاري ومسلم.
والأحاديثُ في فضلِ المدينة كثيرةٌ جدًّا، وهذا الذي ذكرتُ جُملةٌ منها مِمَّا في الصحيحين أو أحدِهما.
ومِن أحسنِ ما أُلِّف في فضائل المدينة الكتاب الذي أعدَّه الشيخ الدكتور صالِح بن حامد الرفاعي لنيل درجة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة بعنوان "الأحاديث الواردة في فضائل المدينة جمعاً ودراسةً"، وأُوصِي طلبةَ العلم بالرجوعِ إليه والاستفادةِ منه.
ومِمَّا اشتملت عليه هذه المدينةُ مسجدان عظيمان، هما: مسجد الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء.
أما مسجدُ الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد جاء في فضلِه أحاديثُ منها قولُه عليه الصلاة والسلام: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَاّ إلى ثلاثةِ مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، رواه البخاري ومسلم. ففي هذه المدينة أحدُ المساجد الثلاثة التي بناها أنبياء، وهي التي لا تُشَدُّ الرِّحال إلَاّ إليها.
وأيضاً جاء ما يدلُّ على فضل الصلاة فيه، وأنَّها خيرٌ من ألف صلاة، قال عليه الصلاة والسلام:"صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سِواه إلَاّ المسجد الحرام"، رواه البخاري ومسلم. فهذا فضلٌ عظيمٌ وموسِمٌ من مواسم الآخرة، الأرباح فيه مضاعفةٌ، ليست بالعشرات ولا بالمئات، ولكن أكثر من الألف.
ومن المعلومِ أنَّ أصحابَ التِّجارات الدُنيوية إذا عَرَفوا أنَّ سِلعَهم تَروجُ في مكانٍ ما في وقتٍ من الأوقات، فإنَّهم يستعدُّون ويتهيَّئون لذلك الموسم، ولو كان الرِّبحُ النصفَ أو الضعفَ، ولكن كيف وهنا الرِّبح في الآخرة ليس عشرة أضعاف، ولا مائة ضعف، ولا خمسمائة، ولا ستمائة، بل أكثر من ألف؟!
ومِمَّا يُنبَّه عليه حول هذا المسجد المبارَك أمورٌ:
الأول: أنَّ التضعيفَ لأجرِ الصلاة فيه بأكثرَ من ألف ليس مقيَّداً بالفرضِ دون النَّفل، ولا بالنَّفلِ دون الفرض، بل لَهما جميعاً؛ لإطلاقِ قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة"، فالفريضةُ بألف فريضة، والنَّافلةُ بألف نافلة.
الثاني: أنَّ التضعيفَ الواردَ في الحديثِ ليس مُختصًّا في البقعة التي هي المسجد في زمانه صلى الله عليه وسلم، بل لَها ولكلِّ ما أُضيفَ إلى المسجدِ من زياداتٍ، ويَدلُّ
على ذلك أنَّ الخليفَتَيْن الرَّاشدَين عمر وعثمان رضي الله عنهما زادا المسجد من الجهةِ الأماميَّة، ومِن المعلومِ أنَّ الإمامَ والصفوفَ التي تلِيه في الزيادة خارجُ المسجد الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فلولا أنَّ الزيادةَ لَها حكمُ المزيد لَما زاد هذان الخليفتان المسجدَ من الجهةِ الأمامية، وقد كان الصحابةُ في وقتِهما متوافِرِين ولَم يعتَرِض أحدٌ على فِعلِهما، وهو واضحُ الدِّلالةِ على أنَّ التضعيفَ ليس خاصًّا بالبُقعةِ التي كانت هي المسجد في زمنِه صلى الله عليه وسلم.
الثالث: في المسجد بُقعةٌ وَصَفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها رَوضَةٌ من رياض الجَنَّةِ، وذلك في قولِه صلى الله عليه وسلم:"ما بين بَيتِي ومِنبَري رَوضةٌ من رياض الجَنَّة"، رواه البخاري ومسلم، وتَخصيصُها بهذا الوصفِ دون غيرها من المسجدِ يدلُّ على فضلِها وتَميُّزِها، وذلك
يكون بأداء النَّوافِلِ فيها، وكذا ذِكر الله وقراءةُ القرآن فيها إذا لَم يَحصل إضرارٌ بأحدٍ فيها أو في الوصولِ إليها، أمَّا صلاةُ الفريضةِ فإنَّ أداءَها في الصفوفِ الأماميَّة أفضلُ؛ لقولِه صلى الله عليه وسلم:"خيرُ صفوفِ الرِّجال أوَّلُها وشرُّها آخرُها"، رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لو يَعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصفِّ الأولِ، ثمَّ لَم يَجِدوا إلَاّ أن يسْتَهِموا عليه لاسْتهَموا عليه"، رواه البخاري ومسلم.
الرَّابع: إذا امتلأ المسجدُ النبويُّ بالمصلين، فلِمَن جاء متأخِّراً أن يُصلِّيَ في الشوارِعِ بصلاةِ الإمامِ في الجهات الثلاث غير الجهة الأمامية، ويكون له أجر صلاة الجماعة، أمَّا التضعيف بأكثرَ من ألف فإنَّه خاصٌّ بِمَن كانت صلاتُه في المسجد؛ لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَاّ المسجد الحرام"، ومَن صلَّى في
الشوارع لَم يكن مُصلِّياً في مسجدِه، فلا يَحصُلُ له هذا التضعيف.
الخامس: شاع عند كثيرٍ من الناس أنَّ مَن قَدِمَ إلى المدينة فعليه أن يُصلِّي أربعين صلاةً في مسجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم لحديثٍ في مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"مَن صلَّى في مسجدي أربعين صلاةً لا تفوتُه صلاةٌ كُتبت له براءةٌ من النار ونَجاةٌ من العذابِ، وبَرِئَ من النفاق"، وهو حديثٌ ضعيفٌ لا تقومُ به الحُجَّةُ، بل الأمرُ في ذلك واسعٌ، وليس مَن قَدِمَ المدينةَ مُلزَماً بصلواتٍ معيَّنةٍ في مسجده صلى الله عليه وسلم، بل كلُّ صلاةٍ فيه خيرٌ من ألفِ صلاة، دون تحديدٍ أو تقييدٍ بصلواتٍ معيَّنة.
السادس: ابتُلِيَ كثيرٌ من المسلمين في كثيرٍ من الأقطارِ الإسلامية ببناء المساجد على القبورِ، أو دفن
الموتى في المساجد، وقد يتشبَّثُ بعضُهم لتسوِيغِ ذلك بوجود قبرِه صلى الله عليه وسلم في مسجدِه، ويُجابُ عن هذه الشُّبهةِ بأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى المسجدَ أولَ قدومِه المدينة، وبنى بيوتَه التي تسكنُها أُمَّهاتُ المؤمنين بجوارِ مسجِدِه، ومنها بيت عائشة الذي دُفِن فيه صلى الله عليه وسلم، وبقيت هذه البيوتُ كما هي خارج المسجد في زمن الخلفاء الرَّاشدين رضي الله عنهم وزمن معاوية رضي الله عنه، وزمن خلفاء آخرين بعده، وفي أثناء خلافة بني أُميَّة وُسِّع المسجدُ وأُدخلَ بيتُ عائشةَ الذي قُبِرَ فيه صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقد جاء عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثُ مُحكمةٌ لا تَقبَلُ النسخَ تدلُّ على تحريمِ اتِّخاذِ القبور مساجد، منها حديثُ جندب بن عبد الله البجليِّ رضي الله عنه الذي سمِعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاتِه بخمسِ ليالٍ قال فيه: سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يَموتَ بخمسٍ يقول: "إنَّي أبرَأ إلى الله أن يكون لي
منكم خليلٌ، فإنَّ اللهَ اتَّخذَنِي خليلاً كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلاً، ولو كنتُ متَّخَذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بَكر خليلاً، ألَا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألَا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ فإنِّي أنهاكم عن ذلك"، رواه مسلمٌ في صحيحه.
بل إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل به الموتُ حذَّرَ من اتِّخاذ القبور مساجد كما في الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالَا: "لَمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطرحُ خميصةً على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهودِ والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد، يُحذِّرُ ما صَنعُوا".
فهذه الأحاديثُ عن عائشة وابن عباس وجندب
رضي الله عنهم مُحكمةٌ لا تقبلُ النسخَ بحالٍ من الأحوالِ؛ لأنَّ حديثَ جندبٍ في آخر أيامه، وحديثَي عائشة وابن عباس في آخر لحظاتِه صلى الله عليه وسلم، فلا يجوزُ لأحدٍ من المسلمين أفراد أو جماعات تَركُ ما دلَّت عليه هذه الأحاديث الصحيحةُ المُحكَمة، والتعويلُ على عملٍ حصل في أثناء عهدِ بني أُمَيَّة، وهو إدخالُ القبر في مسجدِه صلى الله عليه وسلم فيستدلُّ بذلك على جواز بناءِ المساجد على القبور أو دفن الموتَى في المساجد.
وأمَّا مسجدُ قُباء، فهو ثاني المسجدَين اللَّذَين لهما فضلٌ وشأنٌ في هذه المدينة وقد أُسِّسَا على التقوى من أوَّلِ يوم، وقد جاء عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن فعلِه وقولِه ما يدلُّ على فضلِ الصلاة في مسجدِ قباء.
أمَّا فعلُه فعَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجدَ قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً فيُصلِّي فيه ركعتين"، رواه البخاري ومسلم.