المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[العِلْم النافع] (*) فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص - فضل علم السلف على علم الخلف - جـ ٣

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌ ‌[العِلْم النافع] (*) فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص

[العِلْم النافع]

(*)

فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلل بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد عَلَى تمييز صحيحه من سقيمه أولاً، ثم الاجتهاد عَلَى الوقوف عَلَى معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل.

ومن وقف عَلَى هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه، أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا اعلم ثمرته الخاصة به وهي خشية الله، كما قال عز وجل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

قال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً (1). وقال بعض السَّلف: ليس العِلْم بكثرة الرواية ولكن العِلْم الخشية.

وقال بعضهم: من خشي الله فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل. وكلامهم في هذا المعنى كثير جدًّا.

وسبب ذلك أن هذا العِلْم النافع يدل عَلَى أمرين:

أحدهما: عَلَى معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة، وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته، ومهابته ومحبته

(*) كل عنوان بين معقوفتين ليس في الأصول ووضع لتنبيه القارئ.

(1)

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(ص 15)، وأحمد في "الزهد"(ص 158)، والطبراني في "الكبير"(9/ 8927).

ص: 26

ورجاءه والتوكل عليه، والرضا بقضائه والصبر عَلَى بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال.

فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إِلَى ما فيه محبة الله ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه؛ فإذا أثمر العِلْم لصاحبه هذا فهو علم نافع، فتى كان العِلْم نافعًا ووقر في القلب لله، فقد خشع القلب وانكسر له وذل هيب وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيمًا ومتى خشع القلب لله وانكسر له وذل قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا، وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدُّنْيَا. وكل ما هو فإن لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند الله من نعيم الآخرة وإن كان كريمًا عَلَى الله كما قالا ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروى مرفوعًا.

وأوجب ذلك أن (تكون)(*) بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة، فإن سأله أعطاه، وإن دعاه أجابه، كما قال في الحديث الإلهي:"وَلَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ -إلى قوله- فلَئِنْ سَأَلَنِى لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأعِيذَنَّهُ"(1) وفي رواية (2): "وَلَئِنْ دَعَانِي لِأُجِيبَنَّهُ".

وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، وتَعَرَّفْ إِلَى اللَّهَ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"، (3) فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريبًا منه يستأنس به في خلوته ويجد

(*) يكون: "نسخة".

(1)

أخرجه البخاري (6502).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 256). وقال الهيثمي في "المجمع"(10/ 269): رواه البزار وأحمد والطبراني في الأوسط وفيه عبد الواحد بن قيس وقد وثقه غير واحد وضعفه غيرهم، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني في "الأوسط" رجال الصحيح غير شيخه هارون بن كامل.

(3)

أخرجه أحمد (1/ 307).

ص: 27

حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته، ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته، كما قيل لوهيب بن الورد: أيجد حلاوة الطاعة من عصى؟ قال: لا، ولا من هم.

ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة؛ فإذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه، كما قالت شعوانة لفضيل: أما بينك وبين ربك ما إذا دعوته أجابك؟ فغشي عليه.

والعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدُّنْيَا وفي البرزخ وفي الموقف؛ فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه الله ذلك كله، وهذا هو المشار إِلَيْهِ في وصية ابن عباس بقوله صلى الله عليه وسلم "تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"(1).

وقيل لمعروف: ما الَّذِي هيجك إِلَى الانقطاع؟ وذكره الموت والقبر والموقف والجنة والنار، فَقَالَ: إن ملكًا هذا بيده إذا كانت بينك وبينه معرفة كفاك هذا كله.

فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه (ودل)(*) عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحيا من قربه وعبده كأنه يراه، ولهذا قالت طائفة من الصحابة (2): إن أول علم يرفع من الناس: الخشوع.

وقال ابن مسعود: إن أقوامًا يقرءون القرآن لا يجاور تواقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.

وقال الحسن: العِلْم علمان، فعلم عَلَى اللسان فذاك حجة الله عَلَى ابن آدم، وعلم في القلب فذاك العِلْم النافع. وكان السَّلف يَقُولُونَ: العُلَمَاء ثلاثة:

(1) سبق تخريجه.

(*) ودله: "نسخة".

(2)

منهم: شداد بن أوس كما في مسند أحمد (6/ 26)، وعبادة بن الصامت عند الترمذي. (2653) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وحذيفة عند الحاكم (4/ 516) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ص: 28

عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمره، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله.

وأكملهم الأول، وهو الَّذِي يخشى الله ويعرف أحكامه، فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم عَلَى ربه فيعرفه؛ فإذا عرفه ربه فقد وجده منه قريبًا، ومتى وجده منه قريبًا قربه إِلَيْهِ، وأجاب دعاءه كما في الأثر الإسرائيلي:«ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» ". وَكَانَ ذُو النُّونِ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ بِاللَّيْلِ:

اطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِثْلَ مَا وَجَدْتُ أَنَا

قَدْ وَجَدْتُ لِي سَكَنًا لَيْسَ فِي هَوَاهُ عَنَا

إِنْ بَعَدْتُ قَرَّبَنِي أَوْ قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا

وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول عن معروف: معه أصل العِلْم: خشية الله.

فأصل العِلْم: العِلْم بالله الَّذِي يوجب خشيته، ومحبته والقرب منه والأُنس به والشوق إليه، ثم يتلوه العِلْم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد.

فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علماً نافعًا، وحصل له العِلْم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع، ومن فاته هذا العِلْم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم وصار علمه وبالا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنّه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدُّنْيَا، بل ارداد عليها حرصًا ولها طلبًا، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه، هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به، وهو المتلقى عن الكتاب والسنة؛ فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به، بل ضوء أكثر من نفعه.

***

ص: 29