الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبوي
وما صار إليه في عهد عمر
تبيَّن ممّا تقدم أن أصل قيام الليل في رمضان وغيره يحصل بمطلق الصلاة بعد العشاء وراتبتها، [ص 8] وأن له مكمِّلاتٍ يَعظُم بها الأجرُ، ويتضاعف الفضل، وكان الغالب في العهد النبوي تمكُّن الناس من المكمِّلات ومحافظتهم عليها، وأكثر ما كان يعرض لهم ممّا يخالف ذلك هو خوف عدم الاستيقاظ بعد النوم في الوقت المتّسع، فلذلك كان كثير منهم يَدَعون المكمِّلَين الأوّلَين ــ وهما: كون القيام بعد النوم، وكونه بعد نصف الليل ــ، وربّما كان يتفق أن يوجد جماعة منهم يريدون القيام وليس معهم كثير من القرآن يحصِّلون به المكمِّل الرابع ــ وهو كثرة قراءة القرآن في القيام ــ على وجهه، فيريدون أن يعتاضوا عن القراءة بالسماع، فيلتمسون من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم في المسجد.
وبذلك يترك المأمومون والإمام المكمِّلَينِ الأخيرينِ، وهما: كون القيام فُرادَى، وكونه في البيت. أمّا المأمومون فلعدم تمكُّنِهم من ذلك، مع سماع كثير من القرآن، وأمّا الإمام فيرجو أن يكون في معونته لهم على العبادة، وما يُرجَى من انتفاعهم بسماع القرآن ما يُعوِّضه.
لكنّ هذا لم يكثر في العهد النبويّ، ولا اتصل في جميع ليالي رمضان؛ لحرص المهاجرين والأنصار على حفظ القرآن، ونشاطهم في الخير، وضعف رغبة الوافدين من الأعراب في النوافل، كقيام الليل.
فلمّا كان في عهد عمر رضي الله عنه كثُر الواردون من الآفاق، ممن
ليس معهم كثير من القرآن، ولهم مع ذلك رغبة في القيام؛ لتمكُّنِهم في الإسلام، ووُجِد في شبّان أهل المدينة جماعة لا يَنْشَطون للقيام الطويل في البيوت، فكان جماعة من الفريقين يقومون في المسجد: مَنْ كان معه قرآن قام وحدَه، ومن لم يكن معهم التمسوا من بعض القرَّاء أن يؤمَّهم، يرون أن لهم أسوةً بمن كانت حاله في العهد النبوي شبيهةً بحالهم. ولكثرة هؤلاء واستمرار عذرهم استمرَّ قيامهم في المسجد في جميع ليالي رمضان، ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان في ذلك حجة على صحّة اجتهادهم، وعلى أنه لو اتّفق مثلُ ذلك في العهد النبوي لما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم .
وبهذا خرج ذاك العمل المتصل عن البدعة. فإنه إذا قام الدليل على أن الحكم مشروع، وتُرِك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعدم مقتضيه، ثم وُجِد المقتضي بعده؛ فالعمل به حينئذٍ سنةٌ لا بدعة. فلمّا شاهد عمر رضي الله عنه حالَهم عرفَ عذرَهم، وصوَّبَ اجتهادَهم، لكنه رأى أنه قد نشأ من عملهم مفاسدُ، منها: ظاهرة التفرّق والتحزُّب التي يكرهها الشرع، ومنها: تشويش بعضهم على بعض.
وفي "مسند أحمد"
(1)
و"سنن أبي داود" و"المستدرك" وغيرها
(2)
، بسندٍ على شرط الصحيحين "عن أبي سعيد الخدريّ، قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قُبّةٍ له، فكشفَ
(1)
ج 3 ص 94 [المؤلف].
(2)
أخرجه أحمد (11896) وأبو داود (1332) والنسائي في "الكبرى"(8092) وابن خزيمة (1162) والحاكم (1/ 310، 311) والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 11). وصححه الحاكم. وهو حديث صحيح.
الستورَ، وقال:"ألا إن كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِينَّ بعضُكم بعضًا، ولا يرفعنَّ بعضُكم على بعضٍ [ص 9] بالقراءة ــ أو قال: في الصلاة ــ".
هؤلاء كانوا ــ والله أعلم ــ ممّن المسجدُ بيته: معتكفين، أو من أهل الصّفّة، أو من الفريقين. وكانوا يُصلُّون فُرادى، ويجهرون بالقراءة، فيُشَوِّشُ بعضُهم على بعضٍ، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى المخافتة.
ولا يجيء مثل هذا في القائمين بالمسجد في عهد عمر؛ لأن كثيرًا منهم كانوا يُصلّون جماعاتٍ؛ ليسمع المأمومون القرآن، كما تقدم، فلو أُمِروا بالمخافتة لفات المقصود من تلك الجماعات كما لا يخفى.
ومنها: أن بعضهم كانوا يتحرَّون الاقتداء بمن يُعجِبهم صوتُه، وإن كان غيره أقرأَ منه وأجدرَ أن يُقْتَدى به.
أنكر عمر رضي الله عنه ــ بحقٍّ ــ هذه المفاسد، ولم يجد ما يدفعها بدون إخلالٍ بالمقصود إلّا أن يجمعهم على إمامٍ واحد، مقدِّرًا أنه لو اتفق مثل ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأمر بذاك.
وبهذا خرج العمل عن أن يكون بدعة، كما يُعْلَم ممّا مرّ.
فأمّا ما في "صحيح البخاري"
(1)
من قول عمر: "نِعْمتِ البدعةُ هذه، والتي ينامون عنها أفضل"= فإنّما أراد البدعة لغةً، على أنّ في "طبقات ابن سعد"(ج 5 ص 42)
(2)
بسندٍ صحيح عن نوفل بن إياس الهذلي قال: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فِرَقًا في المسجد في رمضان، ههنا وههنا،
(1)
رقم (2010).
(2)
(7/ 63) ط. الخانجي.
فكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتًا، فقال عمر: ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغانِيَ؟ أما والله لئن استطعتُ لأغيِّرنَّ هذا. قال: فلم يمكث إلا ثلاثَ ليالٍ حتى أمر أُبيٍ بن كعب فصلَّى بهم. ثم قام في آخر الصفوف فقال: لئن كانت هذه بدعةً فنعمتِ البدعةُ هي". فهذا ــ والله أعلم ــ من باب قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]
(1)
.
والظاهر أن الذين كانوا يصلّون فرادى دخلوا في الجماعة؛ لئلّا يُشوِّش عليهم قارئُ الجماعة، وقد يكون بقي منهم من يُصلِّي على الانفراد.
وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96)
(2)
: "شعبة عن أشعث بن سليم: أدركتُ أهلَ مسجدنا يُصلِّي بهم إمام في رمضان، ويُصلُّون خلفه، ويُصلِّي ناس في نواحي المسجد لأنفسهم فرادى، ورأيتهم يفعلون ذلك في عهد ابن الزبير في مسجد المدينة.
شعبة عن إسحاق بن سويد: كان صفُّ القرّاء في بني عديّ في رمضان: الإمامُ يصلّي بالناس، وهم يصلّون على حِدَةٍ.
وكان سعيد بن جبير يصلي لنفسه في المسجد، والإمامُ يصلي بالناس.
وكان ابن أبي مُليكة يصلي في رمضان خلف المقام، والناسُ بَعْدُ في سائر المسجد من مصلٍّ وطائفٍ بالبيت.
وكان يحيى بن وثّاب يصلِّي بالناس في رمضان، وكانوا يصلّون لأنفسهم وُحدانًا في ناحية المسجد.
(1)
الزيادة من "فهذا" إلى هنا من النسخة اليمنية.
(2)
من طبعة الهند. والنصوص الآتية كلها منه.
وعن إبراهيم: كان المجتهدون يصلّون في جانب المسجد، والإمامُ يصلي بالناس في رمضان.
وكان ابن مُحَيريز يصلّي في رمضان في مؤخر المسجد، والناس يصلّون في مُقَدَّمه للقيام".
هذا، وقد عُلِم حالهم بالنظر إلى أكثر المكمِّلات، فأمّا الباقي، وهي الثالث ــ أن يستغرق القيام ثلث الليل ــ، والخامس ــ وهو أن يكون القيام مثنى مثنى، والوتر ركعة، وفي بعض الليالي ثلاث ــ، والسادس ــ وهو أن لا يزيد على إحدى عشرة، وفي بعض الليالي: ثلاث عشرة ــ= فإنهم حافظوا عليها حتى ضعفوا عن المحافظة على الثالث والسادس معًا، فاختاروا الثالث لكثرة العبادة.
روى مالك في "الموطأ"
(1)
عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميمًا الدّاريّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنّا نعتمد على العِصِيّ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر".
وفي "فتح الباري"
(2)
أن سعيد بن منصور رواه من طريق محمد بن إسحاق "حدثني محمد بن يوسف عن جده السائب بن يزيد قال: كنّا نصلي في زمن عمر في رمضان ثلاث عشرة".
(1)
(1/ 115).
(2)
(4/ 254).
وحُمِلَ هذا على بعض الليالي، والغالبُ إحدى عشرة، كما في رواية مالك.
وعُلِم من رواية مالك وغيرها أن القوم كانوا يقومون ثلث الليل أو أكثر، فيشُقُّ عليهم طولُ الوقوف كما مرّ.
فروى مالك في "الموطأ"
(1)
عن يزيد بن رومان أنه قال: "كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين".
وفي "سنن البيهقي"
(2)
بسندٍ صحيح [ص 10] عن يزيد بن خُصَيفة عن السائب بن يزيد قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة
…
".
قال البيهقي: "يمكن الجمع بين الروايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث، والله أعلم".
وفي القسطلاني
(3)
: "ذكر في النوادر عن ابن حبيب: أنها كانت أولًا إحدى عشرة ركعة، إلّا أنهم كانوا يطيلون القراءة، فثقُلَ عليهم ذلك، فزادوا في أعداد الركعات وخفّفوا في القراءة
…
".
أقول: ولم يلتزموا ذلك، وفي "مختصر كتاب الوتر" لمحمد بن نصر
(4)
(1)
(1/ 115).
(2)
ج 2 ص 496 [المؤلف].
(3)
"إرشاد الساري"(3/ 426).
(4)
(ص 91، 92).
و"فتح الباري"
(1)
أعداد مختلفة:
1 -
إحدى عشرة.
2 -
ثلاث عشرة.
3 -
ست عشرة، والوتر.
4 -
إحدى وعشرون.
5 -
ثلاث وعشرون.
6 -
أربع وعشرون، والوتر.
7 -
خمس ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة ست ترويحات.
8 -
ست ترويحات، إلى عشرين ليلة، ثم في العشر الأخيرة سبع ترويحات.
9 -
مثله، ويوتر بسبع.
10 -
أربع وثلاثون، والوتر.
11 -
ست وثلاثون، والوتر ثلاث.
12 -
ثمان وثلاثون، والوتر واحدة.
13 -
إحدى وأربعون.
14 -
أربعون، والوتر سبع.
15 -
ست وأربعون، والوتر ثلاث.
(1)
(4/ 253، 254).
وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر
(1)
: "قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: كم من ركعة يُصلَّى في قيام رمضان؟ فقال: قد قيل فيه ألوان نحوًا من أربعين، إنما هو تطوُّع".
ثم قال: "الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعًا وثلاثين ركعة. قال: وأحبُّ إليَّ عشرون. قال: وكذلك يقومون بمكة. قال: وليس في شيء من هذا ضيقٌ ولا حدٌّ يُنتهَى إليه؛ لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأقلُّوا السجودَ فحسنٌ وهو أحبّ إليّ، وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن".
أقول: أمّا الحدّ المحتّم فلا، وأمّا الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلّا إذا شقَّ عليهم إطالتُها حتى يستغرقَ الوقتَ الأفضلَ، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم
(2)
، وعلى هذا
(3)
[ص 11] جرى عمل السلف كما مرَّ.
* * * *
(1)
(ص 92).
(2)
الكلمتان الأخيرتان لم تظهرا في التصوير، وكذا استظهرتهما.
(3)
كلمة لم تظهر في التصوير من الأصل، وهو واضح في النسخة اليمنية.