المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فتنتا الشبهات والشهوات] - كشف الكربة في وصف أهل الغربة

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌[فتنتا الشبهات والشهوات]

[تحول الإسلام من ضعف إلى قوة]

فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة.

وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

[فتنتا الشبهات والشهوات]

ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه.

فأما فتنة الشبهات: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف في الروايات في عدد الزيادات على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم.

وأما فتنة الشهوات: ففي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم

ص: 317

أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال: أو غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون» .

وفي " صحيح البخاري " عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» .

وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضا.

ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال: إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في " مسند الإمام أحمد بن حنبل " عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن» . وفي رواية: «ومضلات الفتن» .

فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فتقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.

ص: 318