الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر
وهي (إن) للتوكيد، و (لكن) للاستدراك، و (كأن) للتشبيه، وللتحقيق أيضًا على رأي، و (ليت) للتمني، و (لعل) للترجي، وللإشفاق، والتعليل، والاستفهام. ولهن شبهٌ بـ (كان) الناقصة في لزوم المبتدأ والخبر والاستغناء بهما، فعملت عملها معكوسًا ليكونا معهن كمفعولٍ قُدم وفاعلٍ أخر تنبيهًا على الفرعية، ولأن معانيها في الأخبار، فكانت كالعمد، والأسماء كالفضلات، فأعطيا إعرابيهما.
ويجوز نصبهما بـ (ليت) عند الفراء، وبالخمسة عند بعض أصحابه، وما اشتشهد به محمولٌ على الحال، أو على إضمار فعل، وهو رأي الكسائي.]-
ش: ذكر المصنف (الأحرف) لأنه جمع قلة، وهو أولى من قولهم (الحروف) وإن كان جائزًا، واعتذر عمن قال (الحروف) بأنها وإن كانت قليلة فإنه قد يُلحظ ما يعرض فيها من فتح (إن)، ومن لغات (لعل)، ومن تخفيف ما آخره نونٌ مشددة منها.
وذكرها خمسة، ولم يذكر (أن) اعتبارًا بالأصل لأن (أن) فرع المكسورة، واقتداء بـ (س) والمبرد في (المقتضب) / وابن السراج في (الأصول).
ثم أورد على نفسه اعتراضًا، فقال: "إذا كان تفريع أن سببًا لعدم الاعتداد بها فينبغي ألا يُعتد بكأن؛ فإن أصل كأن زيدًا أسدٌ: إن زيدًا كالأسد.
فالجواب: أن أصل كأن منسوخ لاستغناء الكاف عن متعلق به، بخلاف أن، فليس أصلها منسوخًا بدلالة جواز العطف بعدها على معنى الابتداء كما يُعطف عليه بعد المكسورة، فاعتُبرت فرعية أن لذلك دون كأن" انتهى.
وقال النحاس: "أنكر المبرد على س قوله (هذا باب الحروف الخمسة)، وقال: (هي ستة، والسادس أن؛ لأنها مع صلتها اسم). وهذا من أبي العباس تحامل، فينبغي أن يُنكر على نفسه إذ ذكرها في (المقتضب) خمسة".
وقوله الناصبة الاسم هذا لا خلاف فيه، وأنها هي العاملة النصب في الاسم.
وقوله الرافعة الخبر هذا مختلف فيه، فمذهب البصريين أنه هي الرافعة للخبر كما هي الناصبة للاسم، وأنها عملت عملين. ومذهب الكوفيين أنها لم تعمل في الخبر شيئًا، بل هو باقٍ على رفعه قبل دخولها.
ومن حُجتهم ما حكاه س عن العرب حين قال: "واعلم أن
ناسًا من العرب يغلطون، فيقولون: إنك وزيدٌ ذاهبان". جعل هذا غلطًا لأن من مذهبه أن خبر (إن) مرتفع بها، فإذا قلت (وزيدٌ) بالرفع فقد أعملت الابتداء في الخبر، ولا يعمل في اسم عاملان. والكوفيون لا يُغلطون العرب في مثل هذا، بل هو شاهد لهم، والمعنى: أنت وزيدٌ منطلقان.
قال السهيلي: "ومما يدل على صحة قولهم أنه لو كان مرفوعًا بها لجازي أن يليها كما يلي كل عامل ما عمل فيه، وإنما الممتنع ما عمل فيه غيره.
ومن حجتهم أن هذه الحروف أضعف من (كان) و (ظننت)؛ لأن تلك أفعال، فرفعت ونصبت كما تعمل الأفعال، وهذه حروف، والحروف إنما تعمل في اسمٍ واحد أو في فعلٍ خاصة، إلا أن حروف الشرط في عملها في الجواب نظر واختلاف" انتهى.
وقال أبو إسحاق الزجاج: إنما لم يل (إن) إلا المنصوب لأنهم قد فرقوا بين ما كان موضوعًا موضع الفعل مؤديًا عن معناه وبين ما ضُورع به الفعل من غير أن يكون في موضع الفعل؛ فالذي جُعل في موضع الفعل قولك: ما زيدٌ منطلقًا، فهذا في موضع: ليس زيدٌ منطلقًا، وهو مؤدً عن معناه. والذي ضورع به الفعل وليس موضوعًا موضعه: إن زيدًا منطلقٌ.
وقال علي بن سليمان: جُعل في الحروف ما في الفعل من العمل إلا موضعًا واحدًا ليكون للفعل فضيلة، فقيل: ما زيدٌ منطلقًا، كما قيل: ضرب زيدٌ عمرًا، وقيل: إن زيدًا منطلقٌ، كما قيل: ضرب زيدًا عمرٌ والذي فضل به الفعل لتصرفه: زيدًا ضرب عمرو.
وقوله وهي (إن) للتوكيد ولذلك أجيب بها القسم كما يجاب باللام في قولك: والله لزيدٌ قائمٌ.
وزعم ثعلب أن الفراء/ قال: (إن) مُقررة لقسمٍ متروكٍ، استغني به عنه، والتقدير: والله إن زيدًا لقائمٌ.
وقال في (البسيط): "مُطلق التأكيد لا يخص جنسًا من جنس؛ ألا ترى أن اللام لا تخص الاسم من الفعل، فتقول: لزيدٌ قائمٌ، كما تقول: ليقوم زيدٌ، بخلاف (إن)، فإنها خاصة بجمل الأسماء" انتهى.
ومن مُلح القول في (إن) ما ذكره في (الغرة) من أن (إن) لها عشرة أنحاء: للتحقيق. وبمعنى نعم. وأمرًا من الأنين. وماضيًا مبنيًا للمفعول من الأنين على لغة رد، تقول: إن في هذا الأنين. وأمرًا من الأين، تقول للنساء: إن، أي: اتعبن. وأمرًا للأنثى من وأي، لحقه نون التوكيد. وأمرًا للنساء من آن، أي: قرب، أي: اقربن. وإخبارًا عن المؤنث المجموع، أي: قربن. وإن قائمٌ، الأصل: إن أنا قائمٌ، فنقل وحذف. وعلى من أعمل (إن) قال: إن قائمًا.
وذكروا أن (أن) المفتوحة أيضًا معناها التوكيد. ولا يظهر لي هذا المعنى لأنها ينسبك منها مصدر، ولو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يكن ثم في النسبة توكيد، لو قلت في بلغني أنك منطلقٌ: بلغني انطلاقك، لم يكن فيه توكيد البتة.
وفي (البسيط): "قال النحويون: (أن) المفتوحة تكون للتوكيد، وتُفيد السبك. قلت: وعلى هذا إشكال، وهو أنها إذا كانت للتأكيد كان معناها تحقيق الخبر وتأكيد النسبة، وإذا كانت سابكة كان في ذلك إبطال الخبرية لأن سبكها يُبطل الخبرية؛ لأن في السبك عدم قبول الصدق والكذب.
والجواب: أن المفتوحة أصلها الكسر، والمؤكدة هي المكسورة ليس إلا، لكن فتحها يكون لصيرورتها في تأويل المفرد المؤكد ثبوته، فإذا قلت: إن زيدًا منطلقٌ، ثم قلت: علمت أن زيدًا منطلقٌ، فمعناه: علمت أن المؤكد الثابت، فعلى هذا لا تكون إلا علامة على السبك لا للتأكيد والسبك" انتهى.
وقوله و (لكن) للاستدراك زاد غيره: وللتوكيد. ومعنى الاستدراك الذي فيها أنك تنسب حكمًا لمحكوم عليه يُخالف الحكم الذي للمحكوم عليه قبلها، ولذلك لابد أن يتقدمها كلام ملفوظ به أو مقدر ولابد أن يكون الكلام الذي قبلها نقيضًا لما بعدها أو ضدًا، فإن كان خلافًا ففي وقوعها بين الخلافين خلاف، وإن كان وفاقًا فالإجماع على أنه لا يجوز. فمثال النقيض: ما هذا ساكنٌ لكنه متحركٌ. ومثال الضد: ما هذا أسود لكنه أبيض، ومثال الخلاف: ما هذا قائمٌ لكنه شاربٌ. ومثال الوفاق: ما زيدٌ قائمٌ لكن عمرًا قائمٌ.
وفي (البسيط): "معناها الاستدراك لخبرٍ تُوهم أنه موافق لما قبله في الحكم، فأتى به لرفع ذلك التوهم، أو تقريره، أو لتأكيد الأول وتحقيقه، نحو: ما قائمٌ زيدٌ لكن عمرًا قاعدٌ، لما قيل (ما قائمٌ زيدٌ) فكأنه
توهم أن عمرًا مثله لشبهٍ بينهما أو ملابسة، فرفعت ذلك التوهم، واستدركت في كلامك ذلك، ونحو: لو قام فلانٌ لفعلت لكنه لم يقم، فأكدت ما دلت عليه (لو)، وكأنها في المعنى مُخرجة لما دخل في الأول توهمًا، قال تعالى: / {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} ، ثم قال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي: ما أراكهم كثيرًا. وكذلك: ما قام زيدٌ ولكنه قعد، فيها معنى التأكيد لمضمون الجملة الأولى. فإن لم تتضمن مخالفة في المعنى، واللفظ مخالف، والمعنى يُمكن أن يوافق، نحو: ما قام زيدٌ لكن ما أتي يضحك، فقد يقال إنه لا يجوز لأنه لا فائدة في الاستدراك، فيضيع معنى لكن. وقد يقال هو جائز لأنه استدراك فائدة مخالفة الأول في الثبوت والنفي، فأشبهت الأول" انتهى، وفيه تلخيص وبعض زيادة.
واختلفوا أهي بسيطة أم مركبة: فذهب البصريون إلى أنها بسيطة، وأنها منتظمة من خمسة أحرف، وهي أقصى ما جاء عليه الحرف.
وذهب الفراء إلى أنها مركبة، وأن أصلها: لكن أن، فطرحت الهمزة من (أن)، وسقطت نون (لكن) حيث استقبلت ساكنًا، كما قال الشاعر:
فلست بآتيه، ولا أستطيعه ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
فحذف نون (لكن) لالتقائها ساكنة مع سين (اسقني).
ونقل صاحب (اللباب) عن الكوفيين أنها مركبة من (لا) و (إن) والكاف زائدة، والهمزة محذوفة، قال:"وهذا ضعيف جدًا".
وفي (البسيط): "قيل: هي غير مؤلفة، وهو مذهب الأكثرين. وقيل: هي مؤلفة من (لا) و (كأن)، والكاف للتشبيه، و (أن) على أصلها، ولذلك وقعت بين كلامين لما فيه من نفي لشيء وإثباتٍ لغيره، وهو رأي أي زيد - يعني السهيلي - فإذا قلت (قام زيدٌ لكن عمرًا قاعدٌ) فكأنك قلت: لا كأن عمرًا قاعدٌ، ويُتأول في المعنى: فعل زيدٍ لا كفعل عمرٍو، ثم رُكبت هذه الحروف الثلاث، فانتشر تغييرها، فكسرت الكاف، وحُذفت همزة (أن)، ولم يقع التغيير في الأول منها لأنه الصدر، والتغيير في الأواخر والأوساط. وقال أبو زيد - يعني السهيلي - (كُسرت الكاف للدلالة على المحذوف)، يعني أن الأصل (إن) المكسورة، وهو رأي بعض الكوفيين، فما دخلت الكاف فتحت، فلما حُذفت الهمزة غُيرت الكاف بالكسر لتدل على المحذوف لكثرة التغيير. وهذا المذهب لا دليل عليه" انتهى.
وقوله و (كأن) للتشبيه ذهب الخليل وس والأخفش وجمهور
البصريين والفراء إلى أنها مركبة من كاف التشبيه ومن (إن)، فأصل كأن زيدًا أسدٌ: إن زيدًا كأسدٍ، فالكاف للتشبيه، و (إن) مؤكدة له، ثم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذي عليه عقدوا الجملة، فأزالوا الكاف من وسط الجملة، وقدموها إلى أولها لإفراط عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوا الكاف على (إن) وجب فتحها لأن (إن) المكسورة الهمزة لا يتقدمها حرف الجر، ولا تقع إلا أولًا أبدًا، وبقي معنى التشبيه الذي كان فيها وهي متوسطة كحالة فيها وهي/ متقدمة.
وقال بعض البصريين: "هذا خطأ لأنه يلزم قائله أن يأتي بخبر الكاف" انتهى.
وقول ابن هشام: "لا خلاف في أنها مركبة من إن وكاف التشبيه" ليس بصحيح لوجود الخلاف فيها.
والأولى أن تكون (كأن) حرفًا بسيطًا وُضع للتشبيه كالكاف، وألا تكون مركبة من الكاف و (إن)؛ لأن التركيب على خلاف الأصل.
واختلف القائلون بالتركيب: هل تتعلق هذه الكاف بشيء أم لا؟ فقال أبو الفتح: "الكاف لما تقدمت بطل أن تكون متعلقة بفعلٍ ولا معنى فعلٍ لأنها فارقت الموضع الذي يُمكن أن تتعلق فيه بمحذوف، فزال ما كان لها من التعلق بمعاني الأفعال في حال توسطها".
قال: "وليست هنا زائدة لأن معنى التشبيه موجود فيها، وإن كانت قد تقدمت فأزيلت عن مكانها، وإذا كانت غير زائدة فقد بقي النظر في (أن) التي دخلت عليها، هل هي مجرورة بها أو غير مجرورة".
قال: "فأقوى الأمرين فيها عندي أن تكون مجرورة بالكاف.
فإن قلت: إن الكاف الآن ليست متعلقة بفعل.
فليس ذلك بمانع من الجر فيها؛ ألا ترى أن الكاف في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} غير متعلقة بفعل، وهي مع ذلك جارة".
قال: "ويؤكد عندك أن الكاف هنا جارة فتحهم الهمزة بعدها كما يفتحونها بعد العوامل الجارة وغيرها، وذلك نحو: عجبت من أنك قائمٌ، وأظن أنك منطلقٌ، وبلغني أنك كريمٌ".
وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن الكاف الجارة في موضع رفع، فإذا قلت "كأني أخوك" ففي الكلام عند حذف، وتقديره: كأخوتي إياك موجودٌ؛ لأن (أن) وما عملت فيه بتقدير مصدر، فلا تكون الكاف على هذا مقدمة من تأخير.
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر من جهة أن العرب لم تُظهر قط ما ادعى أبو إسحاق إضماره؛ ألا ترى أنه لا يُحفظ من كلامهم: كأني أخوك موجودٌ.
وقوله وللتحقيق أيضًا على رأي هو رأي الكوفيين والزجاجي، زعموا أنها تأتي للتحقيق والوجوب، وجعلوا من ذلك قول الشاعر:
فأصبح بطنُ مكة مقشعرًا كأن الأرض ليس بها هشام
وقول الآخر، وهو عمر بن أبي ربيعة:
كأنني حين أمسي لا تُكلمني متيمٌ يشتهي ما ليس موجودًا
المعنى عندهم: لأن الأرض ليس بها هشام، وإنني حين أمسي لا تُكلمني؛ إذ محال أن يقول الإنسان: كأن الأرض ليس بها هشام، على جهة التشبيه، وهشام ليس بالأرض. وفي بيت عمر لا يصح التشبيه؛ ألا ترى أن يشتهي كلامها، وهي لا تكلمه، وإذا/ كان كذلك فهو مُشتهٍ.
والصحيح أنها في البيتين للتشبيه: أما الأول فلأنه أراد أن بطن مكة قد كان ينبغي له ألا يقشعر لدفن هشام في أرضه وتضمنه أشلاءه، وهو قائم مقام الغيث، فكما أنه لا يُقشعر مع وجود الغيث فكذلك كان ينبغي ألا يقشعر لتضمنه أشلاء هشام، فلما اقشعر صارت أرضه كأنها ليس بها هشام.
وأما البيت الثاني فيرجع إلى التشبيه من جهة أنه يئس من أن تُكلمه مع اشتهائه كلامها وإن كانت موجودة، كما يوئس من الوصول إلى ما هو معدوم، فصار لذلك كأنه اشتهى ما لا وجود له أصلًا.
وقال المصنف في البيت الأول: "يُخرج على أن هشامًا وإن مات فهو باقٍ ببقاء من يخلُفه سائرًا بسيرته". قال: "وأجود من هذا أن تجعل الكاف من (كأن) للتعليل في هذا الموضع، وهي المرادفة للام، كأنه قال لأن الأرض ليس بها هشام".
وذهب الزجاجي والكوفيون إلى أن (كأن) إذا كان خبرها اسمًا جامدًا كانت للتشبيه، وإذا كانت مشتقًا كانت للشك بمنزلة ظننت وتوهمت. وإلى هذا ذهب ابن الطراوة وابن السيد، قال ابن السيد:"إذا كان خبرها فعلًا أو جملة أو ظرفًا أو صفة فهي للظن والحسبان". قال: "والنحويون يقولون: هي للتشبيه، وليس كذلك إلا إذا كان الخبر مما يُمثل به الأول إما أحط أو أرفع، نحو: كأني بك ملكٌ، فإذا قلت: كأن زيدًا قائمٌ، لم يستقم أن يكون تشبيهًا لأن الشيء لا يُشبه بنفسه".
وجعل أبو بكر بن الأنباري من ذلك قولهم: كأنك بالشتاء مُقبلٌ، أي: أظن الشتاء مقبلًا. ومن ذلك قول الشاعر:
فكأنني بكما إذًا قد صرتما لا في فرائضه ولا أشناقه
أي: أظن أنكما لا يبقي لكما ما تجب فيه فريضة ولا شنقٌ للغارة التي تُغار عليكما، والشنق: ما دُون الفريضة.
والصحيح أنها للتشبيه، فإذا قلت "كأن زيدًا قائمٌ" كنت قد شبهت زيدًا وهو غير قائم به قائمًا، والشيء يُشبه في حالةٍ ما به في حالة أخرى، قاله ابن ولاد.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: كأن هيئة زيد هيئة قائم، فحذف، فعلى هذا التقدير شبه هيئته في غير حال القيام بهيئته في حال القيام، قاله أبو علي. والتوجيه الأول أظهر لأنه لا يُحتاج معه إلى حذف.
وذهب الكوفيون إلى أن (كأن) تكون للتقريب، وذلك في نحو: كأنك بالشتاء مقبلٌ، وكأنك بالفرج آتٍ، وفي قوله:
فكأنني بكما إذا قد صرتما. البيت.
وقول الحسن البصري: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل". والمعنى على تقريب إقبال الشتاء، وتقريب إتيان الفرج، وتقريب ألا يبقى لكما ما تجب فيه فريضة ولا شنقٌ، وتقريب زوال الدنيا، وتقريب وجود الآخرة.
والصحيح/ أن (كأن) للتشبيه في هذا كله: فأما قولهم "كأنك بالشتاء مقبلٌ" فخرجه الفارسي على أن الكاف في (كأنك) للخطاب، والباء في (بالشتاء) زائدة، واسم (كأن) الشتاء، والخبر (مُقبلٌ)، والتقدير: كأن الشتاء مقبلٌ. وكذلك القول في "كأنك بالفرج آتٍ"، التقدير: كأن الفرج آتٍ. وكذلك قول الحسن، التقدير: كأن الدنيا لم تكن والآخرة لم تزل، فالضمير في (تكن) و (تزل) عائد على اسم (كأن).
وخرجه غيره على حذف مضاف، والتقدير: كأن زمانك بالشتاء مقبلٌ، وكأن زمانك بالفرج آتٍ، والكاف هي الاسم، و (مقبلٌ) الخبر، ولما كان الشتاء قريب الوقوع جُعل الزمان الحاضر في وقت الخطاب كأنه مقبل. وكذلك يُتأول قول الحسن على أن الكاف اسم (كأن)، و (لم تكن) خبر، و (بالدنيا) متعلق بالخبر، والتقدير: كأنك لم تكن بالدنيا، أي: في الدنيا، والضمير في (تكن) عائد على المخاطب، وكأنك لم تزل بالآخرة، أي: في الآخرة، والتشبيه في الحقيقة للحالين لا للذي له الحال، و (لم تكن) تامة. ويحتمل أن تكون ناقصة، وهذا أولى من تأويل أبي علي لأن فيه دعوى حرفية الكاف للخطاب، ودعوى زيادة الباء في (بالشتاء) و (بالفتح) و (بالدنيا).
وفي شرح الصفار البطليوسي ما نصه: "وتوجيهه أن المعنى: كأن الشتاء مُقبلٌ، وجعل المنتظر قريبًا، فشبه الشتاء وإن لم يكن مقبلًا به نفسه مقبلًا، والعرب تجعل القريب الوجود بمنزلة الموجود، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، فمراده: كأن الشتاء مقبلٌ، وكأنك راحلٌ، وأدخل الكاف للخطاب، كما تقول: أبصرك زيدًا، تريد: أبصر زيدًا، غير أن الكاف في (أبصرك) حرف وفي (كأنك) اسم، إلا أنها لما عملت فيها (كأن) لم يُمكن أن تعمل فيما بعدها، فبقيت الجملة في موضع الخبر، وإنما جعلنا الكاف اسمًا لقولهم: (كأني بك راحلٌ)، ولا يُمكن أن تكون الياء حرفًا، فهو يناجي نفسه، وزادوا الباء كما زادوها في (بحسبك)، فهذا تمام الانفصال عن مذهب الكوفيين" انتهى.
وفيه أن إسناد الإقبال في قولك: كأنك بالشتاء مقبلٌ، والرحل في
قولك: كأني بك راحل، إنما هو للكاف التي هي ضمير ولياء المتكلم، فلا يُجعلان لغوًا زائدًا، ويُجعل الإسناد للشتاء وللكاف في: بك راحلٌ، ومثل هذا لم يُعهد في لسان العرب.
ولابن عصفور تخريج مُلفق من قول أبي علي، وهو أنه قال:"الصحيح عندي أن (كأن) للتشبيه، وكأنك أردت أن تقول: كأن الفرج آتٍ، وكأن الشتاء مُقبلٌ، إلا أنك أردت أن تدخل الكاف، وألغيت (كأن) لزوال اختصاصها بالجملة الاسمية لما لحقها اسم الخطاب، كما ألغيت لما لحقتها (ما) في نحو (كأنما) لزوال الاختصاص، وكذلك تُلغى إذا لحقها ضمير المتكلم، نحو: كأني بك تفعل كذا؛ ألا ترى أنها إذ ذاك تدخل على الجملة الفعلية التي هي: تفعل كذا. والباء في (بالشتاء مقبلٌ) زائدة، وكأنه قال: كأنك الشتاء/ مقبلٌ، أرادا أن يقول: كأن الشتاء مقبلٌ، فألحق الكاف للخطاب، وألغى (كأن)، وزاد الباء في المبتدأ، كما زيدت في: بحسبك زيدٌ" انتهى.
وهذا تخريج عجيب، فيه دعوى إلغاء (كأن) للحاق كاف الخطاب، وفي دعوى لحاق كاف الخطاب لها، وفي دعوى زيادة الباء، وفي دعوى أنها تليها الجملة الاسمية والفعلية لزوال الاختصاص، والعجب دعواه إلغاءها، وقد اتصل بها ضمير المتكلم في نحو: كأني بك تفعل كذا، وهب أنه يدعي في كاف (كأنك) أنها حرف للخطاب، أتراه يدعي في ياء المتكلم في (كأني) أنه حرف للمتكلم، وأنه لا عمل لـ (كأن) فيها؟ وعلى قوله يكون قوله (بك) من قوله "كأني بك تفعل كذا" متعلقًا بـ (تفعل)، وذلك لا يجوز لما تقرر من امتناع: تمر بك وتتفكر فيك. وأما إذا
دخلت (كأن) على ياء المتكلم في نحو قوله "فكأنني بكما إذاً قد صرتما" و "كأني بك تفعل كذا"، وقول الحريري:
كأني بك تنحط ............................
فلا يُمكن أن يكون الفعل خبرًا لـ (كأن) لاختلاف مدلول ياء المتكلم وضمير المخاطب في: قد صرتما، وتفعل، وتنحط. ويتخرج ذلك على حذف الخبر، وإبقاء معموله دليلًا على حذفه، والتقدير: كأني عالمٌ بكما إذًا، أو مُلتبسٌ بكما، وكأني عالمٌ بك تفعل، أو مُلتبسٌ، وكذلك التقدير في "كأني بك تنحط"، والجملة من قوله: قد صرتما، وتفعل كذا، وتنحط، في موضع الحال من ضمير الخطاب المجرور بالباء. والدليل على أن هذه الجملة في موضع الحال صحة جواز دخول واو الحال عليها، فتقول: كأني بكما وقد صرتما كذا، وكأني بك وقد طلعت الشمس.
وذهب الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمرون الحلبي في قول الحسن: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل" إلى جواز أن يكون خبر (كأن) هو المجرور، والجملة من قولك "لم تكن" و "لم تزل" في موضع الحال.
ثم اعترض، فقال:
"فإن قيل: إن (بالدنيا) لا يتم به الكلام، والحال فضلة.
فالجواب: إن من الفضلات ما لا يتم الكلام إلا به، كقوله تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فـ {مُعْرِضِينَ} حال من الضمير المخفوض، ولا يستغني الكلام عنها؛ لأن الاستفهام في المعنى إنما هو عنها. ومما يبين ذلك قولهم: ما زلت بزيدٍ حتى فعل، لا يتم الكلام بقولك: بزيد. ويدل على صحة الحال قولك: كأنك بالشمس وقد طلعت، ونحوه ما حُكي عن بعضهم: كأنا بالدنيا لم نكن.
وعلى هذا يُحمل قول الحريري:
كأني بك تنحط ..................................
وخرجه المطرزي في (شرح المقامات): كأنين أُبصر بك، وترك الفعل لدلالة الحال. وما ذكرته أولى لأنه إضمار فعل وزيادة حرف جر لا يُحتاج إليه" انتهى كلامه، وهو تخريج حسن.
وقد تدخل (كأن) في التنبيه والإنكار والتعجب، تقول: فعلت كذا وكذا كأني لا أعلم، وفعلتم كذا كأن الله لا يعلم/ ما تفعلون، ومنه قوله تعالى {لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، (وي) في قول الخليل كلمة مفصولة، و (كأن) هي هذه، و (وي) كلمة تنبيه وتندم على أمر سبق، ووقع التشبيه بعده على أحد معنيين:
أحدهما: تأويل الخليل أنهم أوقعوا التشبيه على ما في علمهم وعرفهم، أو أُوقع لهم ذلك، فقيل: وقولوا: كأن الله يبسط الزرق، أي:
كأن الله يعطي الرزق من عنده بقدر منه لا بعلم الشخص وقوةٍ منه لما يرى من تبدل حاله، وكذلك {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي: كأن الأمر لا يُفلح الكافرون، وكأنه قيل: أما يُشبه هذا الأمر أن يكون هكذا؟
والمعنى الثاني: أن يكون التشبيه ليس على أصله، بل المراد به التحقيق، أي: إن الله يبسط الرزق، وإن الأمر لا يُفلح الكافرون، فكما يدخلها معنى التعجب فكذلك يرجع إلى التحقيق عند هذه الكلمة، كقوله:
ويكأن من يكن له نشب يحـ بب، ومن يفتقر يعش عيش ضر
لا يريد إلا التحقيق. وقيل: (ويك) كلمة واحدة. وقيل: الكاف للخطاب، و (أن) في القولين هي المفتوحة، وهي بإضمار، كأنه قال: هل تعلمون بهذا أن الله يبسط الرزق؟ وفسر المفسرون (ويكأن) على معنى: ألم تر أن الله، فيُمكن أن يكون تفسير المعنى. مقتضب من (البسيط).
وقوله و (ليت) للتمني ويقال (لت) بإبدال الياء تاء وإدغام التاء في
التاء. ويكون في المستحيل والممكن، تقول: ليت عمرًا قادمٌ، وليت الشباب عائدٌ. وقال المصنف في الشرح:"يكون في الممكن وغير الممكن" فقوله: "وغير الممكن" ليس بجيد لأن غير الممكن قسمان: واجب، ومستحيل، والتمني لا يكون في الواجب، لا تقول: ليت غدًا يجئ.
وقوله و (لعل) للترجي وللإشفاق يعني: للترجي في المحبوبات، ولإشفاق في المحذورات، نحو: لعل العدو يأتي. ويُعبر أصحابنا عن هذا بالتوقع، ولا تستعمل (لعل) إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود. ومن الإشفاق قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} وقول الشاعر:
أتوني، فقالوا: يا جميل تبدلت بثينة إبدالًا، فقلت: لعلها
وعل حبالًا كُنت أحكمت فتلها أتيح لها واشٍ رفيقٌ، فحلها
والترجي والتمني من باب الإنشاء، فيُشكل تعلقها بالماضي، وقد جاء الماضي خبرًا لهما، قال تعالى {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} ، وقال:
فليت اليوم كان غرار حول .....................
والتمني قد يقع لما مضى ندامة، وقال:
لعلك في حدراء لمت على الذي تخيرت المعزى على نجل غالب
ومنع وقوع الماضي خبرًا لـ (لعل) مبرمان.
وقال في (الغرة): تقول: أريد المضي إلى/ فلانٍ لعله خلا بنفسه وأمضي إلى داره التي اشتراها لعله سكن فيها. قلنا: هذه حكاية حال، يدل عليه أنك تعطف عليه المضارع، فتقول: لعله خلا بنفسه فأحدثه أو فيُحدثني، رفعًا ونصبًا، ولو قلت (فحدثته) كان خطأ، ولا أرى الماضي يمتنع من ذلك، وتقول: صفحت عن فلان، فيقال لك: لعله خدمك، ولا يحسن: لعله يخدمك. وكذلك تقول في الخبر يرد عليك: لعلي سمعت هذا. فالموضع لـ (كأن)؛ ألا ترى أن المعنى: كأني سمعت هذا.
وقد امتنعوا من الجمع بين (ليت) و (سوف)، فلا يقولون: ليت زيدًا سوف يقوم؛ لأن (ليت لما لم يثبت، وسوف لما ثبت. وقد جاءت مع (لعل)، قال الشاعر:
فقولا لها قولًا رفيقًا لعلها سترحمني من زفرةٍ وعويل
وحكي الأخفش: لعل زيدًا سوف يقوم.
وقوله وللتعليل والاستفهام لم يذكر أصحابنا لـ (لعل) هذين المعنيين، فأما التعليل فذكره المصنف، وتبع الكسائي والأخفش، قال الأخفش في المعاني:{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} نحو قول الرجل لصاحبه:
افرغ لعلنا نتغدى، والمعنى: لنتغدى، وتقول للرجل: اعمل عملك لعلك تأخذ أجرك، أي: لتأخد". قال المصنف: "وكقول الشاعر:
وقلتم لنا: كفوا الحروب لعلنا نكف، ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سرابٍ في الملا متألق"
وهذا عند أصحابنا (لعل) فيه، وفي قوله:{لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفي المثالين اللذين ذكرهما الأخفش، للترجي.
وأما الاستفهام فهو شيء قاله الكوفيون، ونص النحاس منهم على الفراء، وقال عنه وعن الطوال: إن لعل شك. وبتعهم في الاستفهام هذا المصنف، قال:"وتكون لعل أيضًا للاستفهام كقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}، وقال النبي لبعض الأنصار وقد خرج إليه مستعجلًا (لعلنا أعجلناك) "؟
وهي عندنا في {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} للترجي، وفي قوله "لعلنا أعجلناك" للإشفاق. وكون (لعل) للتعليل وللاستفهام وللشك خطأٌ عند البصريين. و (لعل) عندهم ترج. وقال أبو العباس: هو توقع.
وقوله ولهن شبهٌ بـ (كان) الناقصة إلى قوله فأعطيا إعرابيهما هذا كلام واضح، وهو على طريقة البصريين، وقد تقدم مذهب الكوفيين في أنها لم تعمل في الخبر شيئا. وشبهها بـ (كان) الناقصة هو قول الخليل.
وقال أبو إسحاق: استدللنا على أن (إن) مضارعة للفعل بأنا رأيناها تعمل في شيئين، وهذا للفعل، وفيها معنى التوكيد، والإضمار فيها كالإضمار في الفعل.
وقال ابن كيسان: أشبهت الفعل باللفظ والمعنى، فأما اللفظ فآخرها كآخر الفعل في فتحه، وأما/ المعنى فإنه بمعنى: ثبت عندي حديث زيد، ولما كان معناها للخبر وجب أن ترفعه لأنها مُحققة له، وهو أولى بها، والاسم مدخلٌ فيها، فكان المفعول به، فانتصب، وكان أولى بالتقديم لأنه لا يغير بناءها، وكنايته كظهوره.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور مما لخصناه من كلامه: "أوجب لها العمل عند المحققين شبهها بالأفعال في الاختصاص. وقيل: أشبهت الأفعال في أنها على ثلاثة أحرف فصاعدًا مثلها، وأنها مفتوحة الأواخر كالماضي، وأن معانيها معاني الأفعال من التأكيد والترجي والتشبيه والتمني، ولحاق نون الوقاية، واتصال ضمائر النصب بها، وطلبها اسمين طلب الفعل المتعدي لهما.
وهذا باطل لأن اتصال ضمائر النصب بها ونون الوقاية إنما اتصلت بها بعد العمل، وأما باقي وجوه الشبه فتُشاركها فيا (ثم) لأنها ثلاثيةٌ مفتوحة الآخر للعطف، كأنك قلت: عطفت، وهي مع ذلك لا تعمل وأما طلبها للاسمين طلب الفعل المتعدي لهما فإن أريد أنها تطلبهما على الاختصاص فذلك وحده مُوجب للعمل، ورفعت أحدهما ونصبت الآخر تشبيهًا بـ (ضرب)، وأيضًا فلا يُمكن فيها أكثر من ذلك، وذلك أنها لا تخلو من أن ترفعهما، وذلك باطل لأنه لم يوجد عامل واحد يعمل في اسمين رفعًا من غير أن يكون أحدهما تابعًا للآخر. أو تنصبهما، أو
تخفضهما، أو تنصب أحدهما وتخفض الآخر، وذلك باطل لأنه لم يوجد عامل يعمل نصبًا أو خفضًا من غير أن يكون مع ذلك يعمل رفعًا. أو ترفع أحدهما وتخفض الآخر، فهو باطل إذ لا خفض إلا بواسطة حرف".
قال أستاذنا أبو جعفر: "وهذا خلفٌ، فإنه في قوة أن لو أجاب من قال له: لم لا تخفض؟ فقال: لأنها لا تخفض".
قال الأستاذ أبو الحسن: "فلم يبق إلا أن ترفع أحدهما وتنصب الآخر"، ثم ذكر نحوًا من تعليل المصنف.
وقوله ويجوز نصبهما بـ (ليت) عند الفراء، وبالخمسة عند بعض أصحابه هذا نقل هذا المصنف، ونقل ابن أضبغ أن مذهب الجمهور أنه لا يجوز نصب الاسمين بعد شيء من هذه الحروف، قال:"وأجازه الفراء في كأن وليت ولعل، وأجازه الكسائي في ليت، وبعض المتأخرين في الستة".
وقال ابن عصفور: "زعم بعض النحويين أنه يجوز فيها أن تنصب الاسم والخبر معًا، وممن ذهب إلى ذلك ابن سلام في (طبقات الشعراء)، وزعم أنها لغة رؤبة وقومه".
وقال أستاذنا أبو جعفر: "حكي هذا المذهب أبو علي الشلوبين عن جماعة من المتأخرين، سمى منهم ابن الطراوة" انتهى. وممن ذهب إلى ذلك أبو محمد بن السيد البطليوسي.
فصارت المذاهب فيها ثلاثة: أحدها جواز النصب في جميعها. والثاني اختصاص/ ذلك بـ (ليت). الثالث جواز ذلك في كأن وليت ولعل.
ونحن نسرد ما أتى عن العرب شاهدًا على ذلك مما استدلوا به، فحكي عن بني تميم أنهم ينصبون بـ (لعل)، فيقولون: لعل زيدًا أخانا، وقال:
إن العجوز خبةً جروزا أكل كل ليلةٍ قفيزا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافًا، إن حراسنا أسدا
وقال أبو نخيلة:
كأن أذنيه إذا تشوفا قادمةً أو قلمًا محرفا
وقال آخر:
كأن مكاكيه بالجواء حول الدفاليس شربًا ثمالا
وقال آخر:
ليت الشباب هو الرجيع على الفتى والشيب كان هو البديء الأول
وقال آخر:
ليت هذا الليل دهرًا لا نرى فيه عريبا
وقال:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
وقال آخر:
يا ليته إذ لم يكن حمارا لؤلؤةً في الدار أو مسمارا
يريد: مسمارًا لمصحف. وقال آخر:
ألا يا ليتني حجرًا بوادٍ قام، وليت أمي لم تلدني
وقال آخر:
فيا ليتني إذ لم تجودي بنظرةٍ لما بي، وليت الحب شيئًا محرما
وقال آخر:
فليت اليوم كان غرار حولٍ وليت اليوم أيامًا طوالا
وقال آخر:
سئلت، وكان البخل منك سجيةً فليتك ذا لونين، يُعطي ويمنع
وقال آخر:
............... ....... وليت الحب شيئًا محرما
/ وحكي الكسائي: "ليت الدجاج مذبحًا".
وأما ما وجد في كتب بعض المتأخرين من قول الشاعر:
أتيناك زوارًا وسمعًا وطاعةً فليتك يا خير البرية داعيا
فتصحيف (فلبيك) بـ (فليتك).
وروي في الحديث "إن قعر جهنم لسبعين خريفًا". وحكي الكسائي عنهم: ليت الدجاج مذبحًا. وقد عمل على ذلك بعض المولدين، قال ابن المعتز:
مرت بنا سحرًا طيرٌ، فقلت لها: طوباك، يا ليتني إياك، طوباك
ذكره أبو القاسم الزجاجي في (الأمالي) له فيما ذكر لي.
وقوله وما استشهد به محمولٌ على الحال أو على إضمار فعل، وهو رأي الكسائي تأول المصنف "خبةً جروزا" على أنه حال من الضمير ي (تأكل)، و "إن حراسنا أسدا" على: يشبهون أسدًا، و"ليت الشباب هو
الرجيع" على تقدير: كأن الرجيع، فلما حذف (كان) انفصل الضمير الذي كان اسمها، قال: "ويُقوي ما ذهب إليه إظهار (كان) كثيرًا بعد ليت وإن". و"لسبعين خريفًا" على أنه ظرف، و (قعر) مصدر، وأخبر به عن المصدر. و (قادمةً) على: تخلفان.
وتأول غيره جميع ما أتى في (ليت) على أن خبر (ليت) في ذلك محذوف، وذلك المنصوب الذي زعموا أنه خبر هو منصوب على الحال أو على خبر (كان) مضمرة، وإن كان معرفة لم يجز فيه إلا أن يكون خبر (كان) مضمرةً، والتقدير: عادت رواجع، وعاد دهرًا، وعاد لؤلؤةً، وعدت حجرًا، وكان هو الرجيع، وكان شيئًا محرمًا، وعاد غرار حولٍ، وعاد أيامًا طوالًا، وعاد مذبحًا، وتحكيان قامةً، ويحكين شربًا، وتلفيهم أسدًا.
وروي ابن جني:
قادمتا أو قلما محرفا
على تقدير: قادمتان أو قلمان محرفان، فحذفت نون التثنية في الشعر.
وقال ابن عصفور: "وأما قول أبي نخيلة فإن الأصمعي وأبا عمرو لحناه بحضرة الرشيد، ولولا أنه غير فصيح لما جاز لهما ذلك".
وقال الأستاذ أبو علي الشلوبين: "هذه الحكاية لا تصح، وله محمل من التأويل من غير أن يحتاج إلى تلحين عربي" انتهى.
ومما يدل على بطلان الحكاية أن فيها "إن أبا عمرو لحنه بحضرة الرشيدة"، ولم يجتمع أبو عمرو مع الرشيد، وهو متقدم الوفاة.
وإنما سوغوا تأويل هذا الأبيات على حذف الخبر لأن أخبار هذه الحروف يجوز حذفها إذا دل عليها المعنى؛ لأنها أخبار للمبتدأ في الأصل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
-[ص: وما لا تدخل عليه (دام) لا تدخل عليه هذه الأحرف، وربما دخلت (إن) على ما خبره نهيٌ. وللجزأين بعد دخولهن ما لهما مجردين، لكن يجب هنا تأخير الخبر/ ما لم يكن ظرفًا أو شبهه، فيجوز توسيطه، ولا يُخص حذف الاسم المفهوم معناه بالشعر، وقلما يكون إلا ضمير الشأن، وعليه يُحمل "إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المُصورون" لا على زيادة (من)، خلافًا للكسائي.]-
ش: تقدم ما تدخل عليه (كان) وأخواتها من المبتدآت، وزادت (دام) أن خبرها لا يكون مفردًا طلبيًا، وهذه الأحرف كذلك، فلذلك أحالها على (دام).
وقوله وربما دخلت (إن) على ما خبره نهيٌ وأنشد على ذلك في الشرح:
إن الذين قتلتم أمس سيدهم لا تحسبوا ليلهم عن ليكم ناما
وأنشد غيره
ولو أصابت لقالت وهي صادقةٌ إن الرياضة لا تُنصبك للشيب
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور في شرحه الصغير لكتاب الجمل: "أما الجملة غير المحتملة للصدق والكذب ففي وقوعها خبرًا لهذه الحروف خلاف، والصحيح أنها تقع في موضع خبرها، ومن ذلك قوله.
إن الذين قتلتم. البيت.
فأوقع قوله (لا تحسبوا) موقع خبر (إن)، وهي جملة نهي" انتهى كلامه.
وينبغي أن يُخص الخلاف بـ (إن) وحدها؛ إذ هو مورد السماع، ولا يمكن أن يكون الخلاف في (ليت)، ولا في (لعل)، ولا في (كأن)؛ لأنه يمتنع أن تكون جملة النهي متعلقًا للترجي والتمني والتشبيه، وإن ألحق بـ (إن)(لكن) فيمكن ذلك.
والذي نختاره أن ذلك لا يجوز، وعليه نصوص شيوخنا، وتأولوا البيتين على إضمار القول، أي: أقول لكم لا تحسبوا، وكذلك: أقول لا
تُنصبك للشيب، وكثيرًا ما يُضمر القول، وكذلك تأوله الأستاذ أبو الحسن في شرحه الكبير للجمل.
وقوله وللجزأين بعد دخولهن ما لهما مُجردين يعني أن لهما من الأحوال والأقسام، فكما انقسم المبتدأ إلى اسم عين وإلى اسم معنى، وانقسم الخبر إلى الأقسام المذكورة في باب الابتداء، واستُصحبت الأحوال والشروط، كذلك هنا. ومن الشروط عود ضميرٍ من الجملة المخبر بها. ومن الأحوال جواز حذفه لدليل، قال الشاعر:
وإن الذي بيني وبينك لا يبنى بأرضٍ - أبا عمرٍو - لك الدهر شاكر
أراد: لا يني به أو من أجله، قاله المصنف، ولخصته منه.
وقوله لكن يجب هنا تأخير الخبر علة ذلك أن عملها بحق الفرعية فلم يتصرفوا فيها كما تصرفوا في باب (كان) لأن عملها بحق الأصالة لكونها أفعالًا، فأبقوا معموليها على ترتيبها الأصل، وباب المبتدأ أن يكون مقدمًا على الخبر.
وعلل أبو موسى ذلك بأن عملها هو بحق الفرعية والحمل على/ الفعل، والأصل في الفعل أن يُقدم المرفوع على المنصوب، وقد يخرج عن هذا الأصل، فيُقدم المنصوب على المرفوع، فلما كان عمل هذه الحروف فرعيًا، وتقديم منصوب الاسم على مرفوعه فرعيًا، جعلوا منصوب هذه الحروف قبل مرفوعها لتكون صورتها في العمل كصورة ما
هو فرع في الأفعال التي هذه الحروف محمولةً عليها. وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله "ليكونا معهن كمفعولٍ قدم وفاعلٍ أخر تنبيهًا على الفرعية".
وقوله ما لم يكن ظرفًا أو شبهه، فيجوز توسيطه مثال توسيطه ظرفًا: إن أمامك زيدًا، ومثاله مجرورًا: إن في الدار زيدًا. وينبغي أن يؤخذ قول المصنف "فيجوز توسيطه" على الجواز الذي هو يقابل الامتناع لا على الجواز الذي يقابله الامتناع والوجوب؛ لأن من مسائل الظرف والمجرور ما يجب فيه تقديمهما على الاسم، نحو: إن في الدار ساكنها، وإن عند هند أخاها، فإن أخذت الجواز على ما يقابل الوجوب والمنع خرجت هذه المسألة ونظائرها.
وفي (الغرة): "ويجب أن يُقدر العامل في الظرف بعد الاسم كيلا يُقدم الخبر وهو غير ظرف".
قال المصنف في الشرح: "جاز تقديمه لأنه في الحقيقة معمول الخبر، وكان حقه ألا يتقدم على الاسم كما لا يتقدم الخبر، إلا أن الظرف والجار والمجرور يُتوسع فيهما ما لا يُتوسع في غيرهما، ولذلك فُصل بهما بين المضاف والمضاف إليه، وبين (كان) واسمها وخبرها، وبين الاستفهام والقول الذي يعمل عمل الظن، ولم يُبطل علم (ما) تقديمهما على اسمها، واغتُفر تقديمهما على العامل المعنوي، نحو: أكل يومٍلك درهمٌ؟ وعلى المنفي بـ (ما)، نحو قول بعض الصحابة:
ونحن عن فضلك ما استغنينا
ومثله:
لم يكن غيرها خلةً لي ولها ما كان غيري خليل
ولو عومل غيرهما معاملتها في شيء من ذلك لم يجز" انتهى.
وقوله "ولو عومل إلى آخره" لا يصح على الإطلاق لأنه قد أجاز هو وغيره أن يُفصل بين المضاف إذا كان مصدرًا وبين المضاف إليه إذا كان فاعلًا بالمفعول به. وكذلك في الإقحام في النداء على مذهب س في: يا زيد عمروٍ. وكذلك أجاز المصنف في الاختيار الفصل بين المضاف إذا كان اسم فاعل والمضاف إليه الذي هو مفعول في المعنى بمفعول آخر.
قال المصنف في الشرح: "والأصل في الظرف الذي يلي (إن) أو إحدى أخواتها أن يكون ملغي، أي: غير قائم مقام الخبر، نحو، إن عندك زيدًا مقيمٌ، وكقول الشاعر:
فلا تلحني فيها، فإن بحبها أخاك مصاب القلب جمٌ بلابله
فأما القائم مقام الخبر فجدير بألا يليها لقيامه مقام ما لا يليها، لكن اغتفر إيلاؤه/ إياها التفاتًا إلى الأصل" انتهى.
وكلامه يدل على جواز أن يتقدم معمول الخبر المصرح به على الاسم، نحو قوله: إن عندك زيدًا مقيمٌ، ونحو البيت الذي أنشده.
ونص أصحابنا على أنه لا يلي (إن) وأخواتها إلا اسمها إن تقدم على الخبر، أو خبرها إن تقدم على الاسم، وكان ظرفًا أو مجرورًا، فلو تقدم معمول الخبر، وكان غير ظرف أو مجرور، نحو: إن طعامك زيدًا آكلٌ، فلا خلاف يُعرف في بطلان ذلك، وإن كان ظرفًا أو مجرورًا فقد جاء ما ظاهره يقتضي جواز ذلك، نحو البيت الذي أنشده المصنف، فإن ظاهره يقتضي أن يكون قوله (بحبها) متعلقًا بالخبر الذي هو (مُصاب) وقد تأوله أصحابنا بأن جعلوه متعلقًا بفعل محذوف، تقديره: أعني، كأنه قال: أعني بحُبها، وفُصل بهذه الجملة الاعتراضية بين (إن) واسمها، فيكون نحو قول الآخر:
كأن - وقد أتى حولٌ كميلٌ- أثافيها حماماتٌ مثول
فصل بين (كأن) واسمها بجملة الاعتراض التي هي: وقد أتى حولٌ كميلٌ.
وفي (الغرة): وقد منع الأخفش في (المسائل الكبير) أن يُفصل بينهما بما لا يُسمع، فقال: لو قلت: "إن بينك يومين زيدًا مقيمٌ" كان في القياس جائزًا، ولم يُسمع، ولا نُجيزه إلا في المسموع. وكذلك لم يُجز إن حتى اليوم زيدًا مقيمٌ؛ لأن (حتى) معناها الانتهاء، فلابد أن يتقدمها كلام، وقد منع تقدمها بلا إن، كما منع أن تتقدم على رب إن.
وقال المصنف: "وقد عاملوا الحال معاملة الظرف، فأولوها (كأن)، ومنه قول الشاعر:
كأن وقد أتى حولٌ كميلٌ. البيت" انتهى.
وقد ذكرنا قول أصحابنا إن قوله "وقد أتى حولٌ كميلٌ" جملة اعتراضية لا حالية، فعلى قولهم لم يعاملوا الحال معاملة الظرف، ولا أولها (كأن).
ومن غريب المنقول ما وقع في (النكت التي على إيضاح الفارسي) تأليف أبي على الحسن بن علي بن حمدون الأسدي المعروف بالجلولي، وهو ما نصه: "يجوز أن يُفرق بين (إن) واسمها بالحال لأنهم قد أجروا الحال مجرى الظرفن فإذا قلت (إن زيدًا قائمٌ ضاحكًا) جاز تقديم (ضاحكًا) على (زيد)، فتقول: إن ضاحكًا زيدًا قائمٌ.
فإن قيل: إذا قدمت (ضاحكًا) - وهو متعلق بقائم - صرت كأنك قدمت بعض الخبر.
قلت: لو امتنع هذا لامتنع تقديم الظرف، والنية به التأخير والتعلق بالخبر، نحو: إن في الدار زيدًا قائمٌ، و (في الدار) متعلق بقائم، وهذا عندهم جائز. ومنع قومٌ التفرقة بين (إن) واسمها بالحال" انتهى كلامه.
وتضمن هذا الذي ذكره أن النحويين اختلفوا في الفصل بين اسم (إن) وبينها بالحال، وأن الظرف إذا كان معمولصا للخبر المصرح به يجوز/ أن يُفصل به بين (إن) واسمها، وقد تقدم منع أصحابنا لذلك.
ويُشترط في الظرف والمجرور الواقعين خبرًا أن يكونا تامين، وقد تقدم ذلك في باب الابتداء.
وزعم الفراء ومن أخذ بمذهبه أنه يجوز أن يقع الظرف الناقص والمجرور الناقص خبرًا في اللفظ، وهو معمول لمتعلقة في المعنى ومتعلقة حال في اللفظ، وهو خبر في المعنى، نحو: إن زيدًا بالجارية كفيلًا، وإن زيدًا اليوم قائمًا.
وفي كتاب (الواضح): إن الكوفيين يحكون النصب مع الناقص عن العرب، إلا أنهم يقولون: النصب مع لتام أكثر في لسان العرب وأصح علة، أنشد أحمد بن يحي:
فلا تلحني فيها ........... البيت
رُوي بنصب (مُصاب) على الحال، وجعل الباء خبر (إن)، وما يتم الكلام بها دون (مُصاب)، وهذا متفرع على باب المبتدأ والخبر، ومبني على مسألة: عبد الله بالجارية كفيلٌ، فالرفع في (كفيل) واجب عند البصريين، وهو المختار عند الكوفيين، وزعموا أن من العرب من يقول: عبد الله بالجارية كفيلًا، بالنصب.
وقال أبوجعفر النحاس: لا حُجة في البيت لأنه إن كان مسموعًا بالنصب فإنه على قولك: أنا بالله وبك، على معنى الانقطاع والملازمة.
وقوله ولا يُخص حذف الاسم المفهوم معناه بالشعر قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "يجوز حذف أسماء هذه الحروف في فصيح الكلام إذا كان في الكلام ما يدل عليه، نحو قوله:
فلو كنت ضبيًا عرفت قرابتي ولكن زنجيٌ عظيم المشافر
يريد: ولكنك زنجيٌ. ومن ذلك قوله:
فليت دفعت الهم عني ساعةً فبتنا على ما خيلت ناعمي بال
يريد: فليتك".
وذكر أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي في (شرح المفصل) أن ذلك لا يجوز إلا ضرورة.
وقوله وقلما يكون إلا ضمير شأن قال المصنف: "ويجوز حذف الاسم إذا فهم معناه، ولا يخص ذلك بالشعر، بل وقوعه فيه أكثر، وحذفه وهو ضمير الشأن أكثر من حذفه وهو غيره، ومن وقوع ذلك في غير الشعر قول بعضهم: إن بك زيد مأخوذ، حكاه س عن الخليل، يريد: إنه بك زيد مأخوذ. وحكي الأخفش: إن بك مأخوذ أخواك، بحذف الاسم، وهو ضمير المخاطب، وجعل (مأخوذ) خبرًا مرتفعًا به (أخواك)، كما كان يرتفع بـ (يؤخذ)، وتقديره: إنك بك مأخوذ أخواك، ولا يجوز أن يكون التقدير: إنه بك مأخوذ أخواك؛ لأن الصفة المرتفع بها ظاهر بمنزلة الصفة المرتفع لها مضمر في أنها لا تسد مسد جملة، ولا يكون مفسر ضمير الشأن إلا جملة محضة مصرحًا بجزأيها.
ومن حذف الاسم في الشعر/ قول الشاعر:
فلو كنت ضبيًا ................. ..........................
وقوله:
فليت دفعت ............ .................
البيتين، التقدير: وكلنك زنجي، وفليتك. ويحتمل أن يكون التقدير: فليته. وكذا قول الآخر:
فلا تخذل المولى وإن كان ظالمًا فإن به تثأى الأمور، وترأب
التقدير: فإنه، والهاء إما للمولى وإما ضمير الشأن. ومما لا يكون المحذوف إلا ضمير الشأن قوله:
ولكن من لم يلق أمرًا ينوبه بعدته ينزل به وهو أعزل
ومثله قول الآخر:
فلو أن حق اليوم منكم إقامة وإن كان سرح قد مضى، فتسرعا
ومثله:
إن من لام في بني بنت حسا ن ألمه، وأعصه في الخطوب
وقال:
كأن على عرنينه وجبينه أقام شعاع الشمس، أو طلع البدر
وقال:
كأن في أظلالهن الشمس
وقال آخر:
ليت على رجلي تسعى سودا يا سود إن القوم قوم أعدا
وذكر س: أن إياك رأيت، وإن أفضلهم لقيت، ثم قال:(فأفضلهم منتصب بلقيت، وهو قول الخليل، هو في هذا ضعيف لأنه يريد: إنه إياك رأيت، فترك الهاء). وهذا تصريح بالجواز دون ضرورة" انتهى.
ولم يجزه الفراء لأنه لا يكون الاسم الواحد معمولًا لعاملين. قاله في البسيط.
وجوزوا أن يكون المحذوف من قوله "فلو أن حق اليوم" ضمير خطاب، أي: فلو أنكم.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "لا يجوز حذف الاسم وهو ضمير الشأن إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
إن من لام. البيت.
وإنما لم يجز حذف امس هذه الحروف إذا كان ضمير أمر وشأن لأن الجملة الواقعة خبرًا له هي مفسرة له، فأشبهت الجملة لذلك -وإن كانت في موضع الخبر- الجملة الواقعة صفة، فقبح حذفه وإبقاء الجملة، كما يقبح حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إذا كانت الصفة جملة، وأيضًا فإنه يستعمل في مواضع التعظيم، والحذف مناقض لذلك".
وقال الأستاذ أبو الحسن أيضًا: "ذهب جمهور البصريين إلى أنه يحسن حذفه في الشعر، ويقبح في الكلام، إلا أن يؤدي حذفه إلى أن يلي (إن) وأخواتها فعل، فإنه إذ ذاك يقبح في الكلام والشعر لأنها حروف طالبة للأسماء، فاستقبحوا لذلك مباشرتها للأفعال".
وذهب أبو الحسن إلى أن حذفه/ يحسن في الكلام وفي الشعر إذا لم يؤد الحذف إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، نحو: إن في الدار قائم زيد، ومن ذلك قوله:
كأن على عرنينه وجبينه أقام شعاع الشمس أو طلع البدر
وكذلك قوله:
فلا تشتم المولى ................... .............................
وقوله:
إن من يدخل الكنيسة ............... ...........................
وقوله:
ولكن من لا يلق ..................... ............................
الأبيات؛ لأن اسم الشرط لا يحسن عمل (إن) فيه.
فإن أدى حذفه إلى أن يكون بعدها اسم يصح عملها فيه لم يجز الحذف، نحو قولك: إن زيد قائم، لا يجوز عنده حذف هذا الضمير إلا أن يكون ذلك الاسم لفعل بعده، أو مبتدأ قد رفع ظاهرًا سادًا مسد خبره، فإنه إذ ذاك يجوز حذفه، نحو قولك: إن أفضلهم كان زيد، وإن في الدار جالس أخوك. وإنما ساغ ذلك مع إمكان أن تعمل (إن) فيما بعدها، فيقال: إن أفضلهم كان زيدًا، وإن في الدار جالسًا أخو؛ لأن المباشر في التقدير لـ (إن) في المسألة الأولى إنما هو (كان)؛ لأن النية بالخبر التأخير، وفي الثانية اسم قد عومل معاملة الفعل.
وذهب الكسائي والفراء إلى أن حذف الضمير لا يجوز إذا أدى ذلك إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، وسواء أكان الاسم
معمولًا لفعل متأخر أم مبتدأ قد رفع ظاهرًا سد مسد خبره أو لم يكن.
فإن وقع بعد (إن) وأخواتها فعل قد تقدم عليه معموله، وهو ظرف أو مجرور، نحو قولك: إن في الدار قام زيد، وإن عندك جلس عمرو، فذهب الكسائي إلى أن (إن) مبطلة في اللفظ عاملة في معنى الفعل، قال: لأنك إذا رددت الفعل إلى الدائم انتصب، فقلت: إن في الدار قائمًا زيد، وإن عندك جالسًا عمرو. وإنما لم يجز عنده أن يكون على إضمار الأمر لأن الأم إذا أتى به في مثل هذا إنما هو وقاية لـ (فعل) و (يفعل)، فلا يجوز إسقاطه لذلك، كما أن (ما) من قولك "إنما قام زيد" لا يجوز إسقاطها لأنها دخلت وقاية لـ (فعل) و (يفعل).
وقال الفراء: اسم (إن) في المعنى، وما ذكره من أن الضمير في مثل "إنه قام زيد" إنما أتى به وقاية ليس كذلك، بل أتى به لإرادة تعظي الأمر، فأبهم أولًا لأن التعظيم من توابع الإبهام، ثم بين بعد إبهامه.
ومما حذف منه الضمير -والحرف بعده اسم يصح عمله فيه- ما رواه الخليل من أن ناسًا يقولون: إن بك زيد مأخوذ، ومن ذلك قول جميل:
ألا ليت أيام الصفاء جديد ودهر تولى -يا بثين- يعود
في رواية من رفع الأيام.
وفي (الإفصاح): مذهب أبي علي أن هذا -يعني حذف ضمير الأمر إذا كان اسمًا لـ (إن) - يختص بالشعر. وأبو الحسن يجعله جائزًا في الكلام، ويقيسه، ويمثل به، وهو مذهب/ وهو عند س ضعيف في الكلام جائز في الشعر كثير فيه. وأجازه الجرمي في الكلام، وأجاز: إن فيها قائم أخواك، قال: تضمر لـ (إن) اسمًا، وقائم: مبتدأ، ويرتفع (أخواك) بفعلهما، وإن فيها قائمان أخواك، على أن يكون (أخواك) مبتدأ، وقائمان: خبر مقدم، وأضمرت الاسم. وقال: لا قائم في الدار إلا زيد، إن علقت (في الدار) بـ (قائم) لم يجز إلا رفع (زيد)، وإذا قلت (لا قائم إلا زيد) فإنما أردت: لا يقوم إلا زيد، ولا يجوز فيه إلا الرفع. قلت: قد يقال في هذا: لا يصح لأن (لا) لا تعمل في الفعل، فكذلك فيما جرى مجراه.
ومذهب البصريين أن جميع هذه الحروف في حذف ضمير الشأن سواء على ما قرر، والكوفيون إنما ذكروا ذلك في (إن)، ولم يعدوا ذلك إلى غيرها كـ (ليت) و (كأن).
وقوله وعليه يحمل إلى قوله خلافًا للكسائي قال المصنف في الشرح: "المصورون هكذا رواه الثقات بالرفع"، وجعله من قوله عليه السلام. وقال ابن عصفور:"وأما قول العرب: إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"، فجعل هذا الكلام من قول العرب. وتأوله
الكسائي على زيادة (من)، وعلى هذا ينبغي عنده أن يحمل ما حكاه أبو عبيد في (الأموال) له من أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى خزاعة:"أما بعد، فإن من أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحمًا أنتم ومن تبعكم". وكذلك أيضًا تأول ما حكاه من كلام العرب "إن هكذا الدهر" على أن يكون (هكذا) اسم (إن)، والدهر: الخبر. واستدل على أن (هكذا) تستعمل اسمًا بما حكاه عن بعض العرب من أنه قيل له: "كان هكذا وهكذا"، فقال:"ليس بهكذا"، فأدخل على (هكذا) حرف الجر.
وإنما ذهب الكسائي إلى زيادة (من) في "من أشد" و"من أكرم" لأن مذهبه أن حذف هذا الضمير لا يجوز إذا أدى ذلك إلى أن يكون بعد (إن) وأخواتها اسم يصح عملها فيه، و (المصورون) و (أنتم) يجوز أن تعمل (إن) في ذلك، فتقول:(المصورين) و (إياكم).
والصحيح أن يكون هذا مما حذف فيه الضمير لا على زيادة (من)، ويؤيده اللفظ والمعنى، فأما اللفظ فإن العرب لم تلحظ هذا الذي لحظه الكسائي، بل قالوا: إن بك زيد مأخوذ، وكان يجوز لـ (إن) أن تنصب زيدًا. وأما المعنى فإذا جعلتها زائدة كان المصورون أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وليس كذلك إذ غيرهم أشد عذابًا منهم، ممن هو أعظم جرمًا.
ص: وإذا علم الخبر جاز حذفه مطلقًا، خلافًا لمن اشترط تنكير الاسم. وقد يسد مسده واو المصاحبة والحال، والتزم الحذف في (ليت شعري) مردفًا باستفهام.
وقد يخبر هنا -بشرط الإفادة- عن نكرة بنكرة أو بمعرفة. ولا يجوز نحو: إن قائمًا الزيدان، خلافًا/ للأخفش والفراء، ولا نحو: ظننت قائمًا الزيدان، خلافًا للكوفيين.
ش: حذف خبر (إن) وأخواتها للعلم به فيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز، وهو مذهب س، وسواء أكان الاسم معرفة أم نكرة، قال س:"ويقول الرجل: هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم، فتقول: إن زيدًا وإن عمرًا، أي: إن لنا".
والثاني: مذهب الكوفيين، وهو أنه لا يجوز إلا إذا كان الاسم نكرة، نقله عنهم علي بن سليمان الأخفش.
والثالث: مذهب الفراء، زعم أنه لا يجوز، سواء أكان الاسم معرفة أم نكرة، إلا إن كان بالتكرير، نحو:
إن محلًا، وإن مرتحلًا .........................
ولا يجوز في غيره، نقله عنه أحمد بن يحيي. قيل: كررت (إن) ليعرف أن أحدهما مخالف للآخر عند من يظنهما [غير] مختلفين. وحكي الفراء أنه سمع أعرابيًا قيل له: الزبابة الفأرة، فقال: إن
الزبابة وإن الفأرة، قال: وتقديره: إن الزبابة زبابة، وإن الفأرة فأرة. قال ابن تقي: كأنه قال: إن الزبابة شيء، وإن الفأرة شيء آخر. قال الأستاذ أبو علي:"قال -يعني الفراء-: والخلاف الذي بين الاسمين يدل على أن الخلاف بين الخبرين والخلاف في البيت أن المحل خلاف المرتحل، وكأنه رد على من يزعم أنه ليس ثم إلا المحل الذي هو الدنيا، فقال: إن لنا محلًا، وإن لنا مرتحلًا مخالفًا للمحل" انتهى.
والصحيح من هذه المذاهب مذهب س للقياس والسماع:
أما القياس فإجماع النحويين على إجازة حذف الخبر إذا عرف معناه في غير باب (إن)، فينبغي أن يجوز ذلك في باب (إن) إذا عرف المعنى. وقال أبو العباس: حذف الخبر في المعرفة أولى لما يتعارف من أخبارها، وإن قولك "إن زيدًا" يعلم أنه رجل، فينبغي أن يجوز فيه ما جاز في (رجل).
وأما السماع فقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ، تقديره: معذبون، لدلالة قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ}، وقوله تعالى:{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ، وقول عمر بن عبدالعزيز لرجل ذكره بقرابته منه:"إن ذلك"، ثم ذكر له حاجة، فقال:"لعل ذلك"، أراد: إن ذلك حق، ولعل حاجتك مقضية، وقول الشاعر:
/أتوني، فقالوا: يا جميل تبدلت بثينة أبدالًا، فقلت: لعلها
أي: تبدلت. وقول الجعدي:
فأصبح عيشي قد سلا غير أنه وكل امرئ يلقى من الدهر قنطرا
أي: أنه هالك.
قال ابن خروف: النكرة في هذا الباب أكثر من الكلام مع حذف الخبر الذي هو الظرف والمجرور، وبابه الكثرة والافتخار، وتقديره مع النكرة مقدم لأجل الابتداء بالنكرة.
وقال الأستاذ أبو علي: "لا يجوز أن يقول القائل هذا مبتدئًا، وإنما يقوله حين يسأل، فيقال: هل لك أو هل عندك مال أو ولد؟ فيقول: إن مالًا وإن ولدًا، ويضمر (لنا) لأنه قد دل عليه ما تقدم" انتهى.
وقول الشاعر:
وما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا أناخ قليلا فوق ظهر سبيل
أراد: ولكن طالبًا منيخًا أنا. وقول الآخر:
ولو أن من حتفه ناجيًا لكان هو الصدع الأعصما
أي: لو أن على الأرض أو في الدنيا. وقول الآخر:
إن محلًا، وإن مرتحلًا وإن في السفر إذ مضوا مهلا
ذهب س في هذا البيت إلى أن المعنى: إن لنا محلًا في الدنيا ما كنا أحياء، ومرتحلًا إذا متنا. وقال أبو عمرو الشيباني: إن في الدنيا محلًا ومرتحلًا، أي: نعيمًا وبؤسًا. وقال:
سوى أن حيًا من قريش تفضلوا على الناس، أو أن الأكارم نهشلا
أي: تفضلوا. وحكاية س عن العرب "إن زيدًا وإنَّ عمرًا".
وزعم أحمد بن يحيي في هذه الحكاية أن (إن) بمعنى: نعم. وقال أبو جعفر الصفار: "إذا كانت إن بمعنى نعم لم تعمل". يريد بذلك الرد على ما تأوله أحمد بن يحيي.
ويمكن تأويل أحمد بن يحيي في حكاية س، ولا تكون (إن) بمعنى نعم عاملة، والنصب في "إن زيدًا وإن عمرًا" على إضمار فعل، لأنه لما قيل له: هل لكم أحد؟ إن الناس عليكم، كان معناه: هل تجدون أحدًا ينصركم؟ فأجابه بأن قال: نعم زيدًا، نعم عمرًا، أي: نجد زيدًا، نجد عمرًا. ونظير هذا قول بعض العرب: أما بمكان كذا وكذا وجذ؟ فقال المسئول: بلى وجاذًا، أي: نعرف به وجاذًا؛ لأن قوله "أما بمكان كذا وكذا وجذ" معناه: أتعرف بمكان كذا وكذا وجذًا؟ فقال: بلى وجاذًا، أي: نعرف.
فرع: "إن رجلًا وزيدًا" لا يجيزه الكوفيون لأنه قد اختلط بالنكرة المعرفة، ولا يجيزون حذف الخبر إلا مع النكرة. ويجوز ذلك على مذهب البصريين. فلو أبدلت فقلت:"إن رجلًا أخاك" على حذف الخبر لم يجزه الفراء لأن الاعتماد هو على البدل، وخبر المعرفة لا يضمر عنده. وأجاز هذا هشام على الترجمة. والجواز مذهب البصريين.
مسألة: "إن غيرها إبلًا وشاءً): قال س: "غيرها: اسم إن، وإبلًا وشاءً/ تمييز، والخبر محذوف، أي: إن لنا غيرها إبلًا وشاءً". ولا يجوز أن يكون (إبلًا وشاءً) اسم إن، و (غيرها) حال، والخبر محذوف تقديره: إن لنا إبلًا وشاءً في حال أنها غير هذه؛ لأنه لا عامل إلا (لنا)،
والمعاني لا تعمل مضمرة بإجماع إلا المبرد، فإنه أجاز ذلك في:
.............................. .... وإذ ما مثلهم بشر
ولا يجوز أن يكون (غيرها) اسم (إن)، و (إبلًا وشاءً) بدل، والتقدير: إن لنا غيرها إن إبلًا، أي: إن لنا إبلًا؛ لأنه متى اجتمع تابع ومتبوع فالباب أن يقدم الجامد منهما، وقد نص على ذلك س في قوله" فيها قائمًا رجل" حين عدل إلى النصب، ولم يجعل رجلًا بدلًا من قائم، فلهذا عدل هنا إلى النصب على التمييز.
مسألة: قول الشاعر:
صوبنه، ولا تميلن، واحذر إنه اليوم إنما هو نار
زعم بعض أصحابنا أن (إن) عاملة في الظرف، قال:"ولا يجوز أن يكون الخبر محذوفًا لدلالة ما بعده عليه، فيكون التقدير: إنه نار اليوم؛ لأن س منع: أنت ظالم فإن فعلت، ويحذف الجواب لدلالة (أنت ظالم) عليه؛ لأن الفاء تقطع، وكذلك (إن) أيضًا مستأنفة بمنزلة الفاء، فلا يجوز ذلك مع ما فيه من إعمال المعنى مضمرًا؛ لأنه لا يعمل (نار) إلا بما فيه من معنى الفعل، فلذلك لم يجد بدًا من إعمال (إن) فيه، كأنه قال: أؤكد هذا في اليوم" انتهى.
وما ذكره لا يجوز لأن (إن) حرف كـ (ما) النافية وهمزة الاستفهام، ويأتي الكلام في ذلك في (باب الحال) حيث ذكر عمل الحرف في
الحال. ويتخرج هذا البيت على أن (اليوم) منصوب بإضمار (أعني)، وتكون الجملة اعتراضية، وخبر (إن) الجملة بعده، وهو: إنما هو نار، كما خرجوا:
فلا تلحني فيها، فإن بحبها ...........................
وأما تمثيله إياه بمسألة "أنت ظالم فإن فعلت" فتمثيل فاسد، لم يتقدم في البيت شرط، ولا حذف جواب شرط، بل تركيب البيت مثل قولك: احذر زيدًا إنه شرير، وأكرم زيدًا إنه عالم، فإنما فيه من جهة المعنى تعليل.
وقوله وقد يسد مسده واو المصاحبة مثاله ما حكاه س من قول العرب: "إنك ما وخيرًا"، يريد: إنك مع خير، وما: زائدة، وقول الشاعر:
فدع عنك ليلى، إن ليلى وشأنها وإن ودعتك الوعد لا يتيسر
وأنشد س:
فمن يك سائًلا عني فإني وجروة لا ترود، ولا تعار
على معنى: مع، أي: مع جروة، أي: فمن يسأل عني فإني ملازم لجروة، يعني فرسة، ولا يريد أنه وجروة يفعلان شيئًا، ثم استأنف، فقال: هي لا ترود ولا تعار.
وزعم الفارسي أن هذا من قبيل قوله:
/إن شرخ الشباب والشعر الـ ـأسود ما لم يعاص كان جنونا
لما كان الشيئان متلازمين لا يفترقان أخبر عنهما إخبار الواحد، قال:"وكذلك عنترة لما كان لا ينفك عن فرسه وأنهما كالشيء الواحد أخبر عن أحدهما، فكان ذلك إخبارًا عنهما، فقوله (لا ترود ولا تعار) خبر عن جروة، وهو خبر عنهما في المعنى لأنهما كالشيء الواحد".
قال بعض أصحابنا: "وهذا حسن جدًا" انتهى. وليس بحسن لأن ذلك لا يجوز إلا حيث تصلح نسبة الخبر لكل واحد من المخبر عنهما، ولو قال: فإن عنترة لا يعار لكان خلفًا من الكلام؛ لأنه لم تجر العادة بإعارة عنترة ونحوه، بخلاف جروة فرسه، فإن الخيل مما جرت العادة بإعارتها، فمهوم س في البيت هو الصحيح. وحكي الكسائي:"إن كل ثوب لوثمنه" بإدخال اللام على الواو لسدها مسد (مع).
وقوله والحال قال المصنف: "قد يحذف أيضًا وجوبًا لسد الحال مسده، كما كان ذلك في الابتداء، فيقال: إن ضربي زيدًا قائمًا، وإن أكثر شربي السويق ملتوتًا. ومثله قول الشاعر:
إن اختيارك ما تبغيه ذا ثقة بالله مستظهرًا بالحزم والجلد"
وقوله والتزم الحذف في (ليت شعري) مردفًا باستفهام قال المصنف في الشرح: "لأنه بمعنى: ليتني أشعر، ولا بد بعده من استفهام يسد مسد المحذوف متصلًا بشعري أو منفصلًا باعتراض، فالمتصل كقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادْ، وحولي إذخر وجليل
والمنفصل باعتراض قول أبي طالب:
ليت شعري -مسافر بن أبي عمـ رو، وليت يقولها المحزون-
أي شيء دهاك أم غال مر آك، وهل أقدمت عليك المنون"
انتهى.
و (شعري) هنا مصدر حذفت منه التاء، قالوا: شعرة ودرية بالتاء، وهي هنا معلقة، والجملة الاستفهامية بعدها في موضع نصب بالمصدر، والخبر ملتزم الحذف، والتقدير: ليت شعري بكذا ثابت أو موجود أو واقع.
قال أبو علي الفارسي: "لو لم يكن المصدر مما يجوز أن يلغى فعله لم يجز أن تكون الجملة الاستفهامية في موضع نصب به" انتهى. ويعني بالإلغاء هنا التعليق، وسماه إلغاء لأنه فيه ترك العمل، ولا يمكن أن يريد الإلغاء المصطلح عليه الذي يراد به ترك العمل لغير موجب؛ لأن الفعل الملغي بهذا المصطلح لا يعمل لا في اللفظ ولا في التقدير، بخلاف/ الإلغاء الذي أريد به التعليق؛ ألا ترى في قوله "الجملة الاستفهامية في موضع نصب".
وحكى أبو علي عن الزجاج قولًا آخر في هذه المسألة، وهو أن خبر (ليت) في هذا النحو في المبتدأ والخبر، فموضع الجملة الاستفهامية رفع لأنها خبر (ليت)، كأنه قال: ليت علمي واقع بكيفية حادث وصلها، ثم حذف، وأضاف اتساعًا. انتهى. ويعني في قول الشاعر:
ألا ليت شعري كيف حادث وصلها وكيف تراعى وصلة المتغيب
وما ذهب إليه الزجاج هو مذهب المبرد. ولا يصح هذا المذهب لأنه يؤدي إلى وقوع الجملة غير الخبرية خبرًا لـ (ليت)، ولا يجوز ذلك لا في (ليت) ولا في أخواتها. وأيضًا فإن الجملة الواقعة خبرًا، وليست المبتدأ في المعنى، لابد فيها من رابط يربط المبتدأ بالخبر، ولا رابط، فلا يجوز أن تكون خبرًا.
قال ابن يسعون: و (شعري) على هذا ملغي إذ هو أضعف حكمًا في مراعاة عمله من الفعل الذي يلغى، وقد فصل بين (شعري) والاستفهام بمصدر، قال الشاعر:
ليت شعري ضلة أي شيء قتلك
وبالظرف، قال الشاعر:
يا ليت شعري عن نفسي أزاهقة نفسي، ولم أقض ما فيها من الحاج
وفي (الإفصاح): "شعري: معرفتي، والأصل: شعرت به، ولا يتعدى إلا بالباء، بخلاف (دريت)، فإنها تتعدى بنفسها وبالباء، ولا يستعمل (شعرة) إلا بالتاء، إلا مع (ليت)، فإنه يلزم معها حذف التاء. ونظير ذلك قولهم: أبو عذرها، والأصل: أبو عذرتها، ولا ينطق بها إلا بالتاء، إلا مع الأب فإنه بغير تاء.
والجملة الاستفهامية بعد (ِشعري) في موضع الخبر، كذا قال س. وتحقيقه أن (شعري) بمعنى: معلومي، فالجملة نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى ضمير. ومن الناس من جعل الجملة معمولة لـ (شعري)، وأضمر الخبر، أي: موجود وثابت. وقيل: الجملة معمولة لـ (شعري)، وسدت مسد الخبر. وتقول العرب: ليت شعري بزيد قائم، وليت شعري عن زيد أقائم، قامت (عن) مقام الباء لما في الشعور بالشيء من الكشف عنه، وليت شعري زيدًا أقام. قال الكسائي: العرب تقول: ليت شعري زيدًا ما صنع، وأنشد:
ليت شعري -مسافر بن أبي عمـ ـرو. البيت. انتهى.
ومن نصب فعلى إسقاط حرف الجر، والاسم مجرورًا أو منصوبًا معمول لـ (شعري)، وما بعده خبر (ليت)، أو جملة في موضع البدل من المنصوب أو المجرور على القول بان (شعري) يعمل في الجملة، وأن الجملة تكون بدلًا من المفرد إذا جاز أن يتسلط عليها العامل الذي
يعمل في المفرد، كما قيل ذلك في: عرفت زيدًا أبو من هو، وهو قول أبي العباس"/ انتهى ملخصًا.
وقوله وقد يخبر هنا -بشرط الإفادة- عن نكرة بنكرة أو بمعرفة مثال الأول قول امرئ القيس في رواية س:
وإن شفاء عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول
وحكي س: إن ألفًا في دراهمك بيض، وإن بالطريق أسدًا رابض. ومثال الإخبار عن نكرة بمعرفة قوله:
كأن درية لما التقينا بنصل السيف مجتمع الصداع
وقال آخر:
كأن طيرًا سودها وحمرها
وقوله:
وما كنت ضفاطًا، ولكن طالبًا أناخ قليلًا فوق ظهر سبيل
قال س: "أراد: ولكن طالبًا أنا". وقال الشاعر:
وإن عناء أن تفهم جاهلًا ....................................
وقال آخر:
وإن حرامًا أن أسب مجاشعًا بآبائي الشم الكرام الخضارم
وحكي س: إن قريبًا منك زيد، وإن بعيدًا منك زيد. وقال الجرمي في (الفرخ): يبتدأ بالنكرة ويخبر عنها في هذا الباب. وجاز لهم أن يجعلوا اسم (إن) نكرة والخبر معرفة لأنهم لا يقدمون خبر (إن) كما يتوسعون في (كان)، وأعطوا (إن) ما منعوا (كان)، وقدموا خبر (كان)، ومنعوا أن يكون اسمها نكرة وخبرها معرفة، فأعطوا كل واحد منهما ما منع صاحبه. وأجازوا في قوله:
فليت كفافًا كان خيرك كله ...................................
أن يكون (كفافًا) اسم (ليت). وقد منع هذا الوجه أبو علي في (التذكرة)، وقال:"يقبح الابتداء بالنكرة، ولأنه ليس في الجملة بعده ذكر يعود عليه، ولا هو هي".
قال ابن هشام: "وهذه غفلة من حبر، والتقدير: كأنه خيرك، ونظيره
أحد قولي س في: إن أفضلهم كان زيد، أي: كأنه زيد، وإضمار خبر (كان) لا يحصى، وحذفه كحذف سائر الضمائر إذا كان في حكم الموجود، ونصب هذه الحروف للنكرات لا ينحصر، ويخبر المعرفة، وهذا غريب لا يجوز في الابتداء ولا في (كان)، وقدر س: ولكن طالبًا منيخًا أنا.
وإنما جاز هذا عندي بأن تكون المعرفة خبرًا عن النكرة أن الأول لما كان الثاني كان المعنى واحدًا، وكان الاسم بها منصوبًا، فصار كأنه غير مسند إليه وفضلة، فجاز تنكيره، وكان الخبر معرفة لأنه لما كان مرفوعًا صار كأنه مسند إليه لا مسند، وكأن هذا من تتميم شبهه بالفاعل" انتهى كلام ابن هشام.
وهذه المسألة تكررت للمصنف هنا، فإنه ذكر في (باب كان) ما نصه/:"وقد يخبر هنا وفي باب إن بمعرفة عن نكرة اختيارًا". قال السهيلي: "هذا يجوز في (إن) إذا قدمن خبرها أن يرجع اسمًا لها، بخلاف (كان)، فإنك إذا قلت (كان حليم زيدًا) لم يجز لأن النكرة لا يخبر عنها، وذلك أن (كان) فعل يجوز الإخبار به، و (إن) ليست كذلك. وأيضًا فإن اسمها يعود منصوبًا مؤخرًا، وليس هذا حكم المخبر عنه، وأما (إن) فاسمها إذا قلت (إن قائمًا زيد) لم يخرج عن حكم الأسماء المحدث عنها لأنه عاد مرفوعًا، وهو الأصل فيه، فكان القلب في (إن) وأخواتها أحسن منه في كان" انتهى.
ولو قلت "إن قائمًا ويقعد أخواك" لم يجز عند الكوفيين لأن (قائمًا) لا يقع موقع (يقوم). وقال ابن كيسان: "وهذا عندي جائز لأن (إن) إنما لا تقع على الفعل لشبهها به وأن الفعل لا يعمل في الفعل، فإذا فرق بينهما جاز أن يرد الثاني إلى الفعل. وأيضًا فقد يقع في المعطوف ما لا يكون في المعطوف عليه، وليس يلزم أيضًا هذا -يعني جعله ملاصقًا لقوله (إن قائمًا) - إذا قدرت أن ذلك من وصف واحد؛ ألا ترى أنك لو قلت (إن ذاهبًا وجائيًا أخوك) لم يجز لك أن تقول: إن ذاهبًا أخوك وجائيًا؛ لأنك إنما تريد: إن رجلًا ذاهبًا وجائيًا -أي جامعًا هذين- أخوك، فالثاني من تمام الأول، فإن أردت أن يكونا من صفة اثنين جاز التأخير، كما تقول: إن زيدًا أخوك وعمرًا، تريد: وإن عمرًا أخوك، ولا يجوز (إن قائمًا أخوك ويقعد) لأن (يقعد) لا ينفصل من (قائم) لأنه لا يقوم مقام ما وصفه" انتهى كلام ابن كيسان.
والذي تقتضيه قواعد البصريين أنه لا يجوز: إن قائمًا ويقعد أخواك، كما ذهب إليه الكوفيون.
ولو قلت: إن قائمين أخواك فيها، وإن فيها قائمين أخواك قيامًا حسنًا، لم يجز عند الكوفيين لأن (قائمين) عندهم اسم لا ينصرف إلى فعل ويفعل، فلا يفرق بينه وبين صلته. وكذلك لا يجيزون: إن آكلًا زيد طعامك. قال الفراء: لا يخلو (آكل) من أن يكون اسمًا أو خلفًا، ولا يفرق بينه وبين صلته. قال أبو جعفر الصفار: وذا كله جائز عند البصريين، إلا أن تجعل (آكلًا) نعتًا أو يكون بمنزلة (رجل)، فلا يعمل شيئًا بحال من الأحوال.
وقوله ولا يجوز نحو (إن قائمًا الزيدان) خلافًا للأخفش والفراء جواز هذا متفرع من جواز (قائم الزيدان) دون استفهام ولا نفي، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في "باب المبتدأ" وترجيح المصنف جوازه وترجيحنا نحن منعه.
وفي (البسيط): "وتقول: إن قائمًا زيد، ترفع زيدًا بقائم، وهو ساد مسد الخبر، كما كان في قولك: أقائم زيد؟ وفي التثنية: إن قائمًا الزيدان، وهو قول البصريين، وأما الكوفيون فلا يجيزون إلا أن تقول: إن قائمين الزيدان، ولا يجوز إفراد اسم الفاعل لأن/ المفرد في قوة الفعل، و (إن) لا تلي الفعل" انتهى. وفي موضع آخر نقل بالعكس.
وقوله ولا نحو ظننت قائمًا الزيدان، خلافًا للكوفيين قال المصنف: "يلزم من أجاز (إن خبيرًا بنو لهب) من البصريين أن يجيز دخول (ظننت)، كما فعل الكوفيون، فيقول: ظننت خبيرًا بنو لهب. والصحيح أن يقال: إعمال الصفة عمل الفعل فرع إعمال الفعل، فلا يستباح إلا في موضع يقع فيه الفعل، فلا يلزم من تجويز (قائم الزيدان) جواز: إن قائمًا الزيدان، ولا: ظننت قائمًا الزيدان؛ لصحة وقوع الفعل موقع المتجرد من (إن) و (ظننت) وامتناع وقوعه بعدهما.
واستدل الكوفيون على (ظننت قائمًا الزيدان) بقول الشاعر:
أظنَّ ابن طرثوث عتيبة ذاهبًا بعاديتي تكذابه وجعائله
ولا حجة فيه لاحتمال أن يريد قائله: أظن ابن طرثوث عتيبة شخصه ذاهبًا، فحذف المفعول الأول للعلم به، كقوله تعالى:{ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم} ، الأثل: بخلهم هو خيرًا لهم، فحذف المفعول الأول، وترك الثاني" انتهى. وذكره مسألة (ظننت) هنا من باب الاستطراد.
وفي (الإفصاح): يجوز على مذهب أبي الحسن والكوفيين في (كان) و (إن) إذا أعملتهما أن يرفع اسم الفاعل، ويسد مسد الخبر، يعتمد اسم الفاعل عندهما على (كان) و (إن)، فيقولون: إن ضاربًا عمرو وزيد، وكان ضارب عمرو وزيد. ويجوز عندهم أن يضمر الأمر ويرفع لأنه في موضع الخبر، فاعتمد، كما تقول: زيد ضارب أبوه عمرًا، وجعلوا المفرد هنا يفسر الضمير لأنه بمنزلة الجملة الفعلية، وكذلك يقولون: ظننته ضارب زيد عمرًا. ويجيزون النصب بعد (ظننته) لأنه مفعول ثان، وسد مسد الجملة المفسرة. وهذا كله باطل، ولم يسمع منه شيء.
-[ص: فصل
يستدام كسر (إن) ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر، فإن لزم التأويل لزم الفتح، وإلا فوجهان.
فلامتناع التأويل كسرت: مبتدأة، وموصولًا بها، وجواب قسم، ومحكية بقول، وواقعة موقع الحال موقع خبر اسم عين، أو قبل لام معلقة.
وللزوم التأويل فتحت بعد (لو) و (لولا) و (ما) التوقيتية، وفي موضع مجرور، أو مرفوع فعل أو منصوبه غير خبر.]-
ش: قال المصنف في الشرح: " (إن) بالكسر أصل لأن الكلام معها جملة غير مؤولة بمفرد، و (أن) الفتح فيها فرع لأن الكلام معها مؤول بمفرد، وكون المنطوق به جملة من كل وجه أو مفردًا من كل وجه أصل لكونه جملة من وجه ومفردًا من وجه. ولأن المكسورة مستغنية بمعموليها عن/ زيادة، والمفتوحة لا تستغني عن زيادة، والمجرد من الزيادة أصل للمزيد، ولأن المفتوحة تصير مكسورة بحذف ما تتعلق به، كقولك في عرفت أنك بر: إنك بر، ولا تصير المكسورة مفتوحة إلا بزيادة، كقولك في إنك بر: عرفت أنك بر، والمرجوع إليه بحذف أصل للمتوصل إليه بزيادة، ولكون المكسورة أصلًا قلت: يستدام كسر إن" انتهى.
وقال غيره: الأصل المكسورة لأنها تفيد معنى واحدًا، وهو التأكيد، والمفتوحة تفيده، وتعلق ما بعدها بما قبلها، ولأنها أشبه بالفعل إذ كانت عاملة غير معمولة كما هو أصل الفعل، والمفتوحة عاملة ومعمول فيها كالمركب، والمكسورة كالمفرد، والمفرد أصل للمركب، ولأنها مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم إذ كانت وما عملت فيه بتقديره. وقال قوم: المفتوحة أصل للمكسورة. وقال آخرون: كل واحدة أصل بنفسها. والصحيح الأول.
وفي (البسيط): قيل: إن المفتوحة مغيرة من المكسورة، فتفتح دليلًا على اتصال العامل بما دخلت عليه، وهو قول الفراء. وتميم وقيس يبدلون من همزتها عينًا، فيقولون: أشهد عن محمدًا رسول الله.
وقوله ما لم تؤول هي ومعمولها بمصدر لما كانت (إن) و (أن) متقاربتين في اللفظ ومتفقتين في بعض الأحكام -ألا ترى دخولهما على المبتدأ والخبر واتفاقهما في معنى التأكيد- احتيج إلى قانون تميز به أماكن المكسورة من المفتوحة، فذكر أنها متى أولت هي ومعمولاها بمصدر لم تكسر. وما ذهب إليه المصنف من أنها إذا فتحت أولت بمصدر هو قول الأكثر من النحويين.
وإذا كان خبرها فعلًا أو اسمًا ملاقيًا للفعل في الاشتقاق من المصدر تقدرت بمصدر من لفظ الفعل أو ذلك الاسم، نحو: بلغني أنك تنطلق، أو أنك منطلق، فتقدر: بلغني الانطلاق.
فإن كان الخبر ظرفًا أو مجرورًا يقدر المصدر من لفظ الاستقرار العامل في الظرف أو المجرور، نحو: لغني أنك عند زيد، أو في الدار، يقدر: بلغني استقرارك في الدار، أو استقرارك عند زيد.
وإن كان اسمًا جامدًا، نحو: بلغني أن هذا زيد، فالتقدير: بلغني كون هذا زيد. وإنما ساغ ذلك لأن كل خبر جامد تصح نسبته إلى المخبر عنه بلفظ الكون، فتقول: هذا زيد، وإن شئت: هذا كائن زيدًا، فيكون معناه كمعنى قولك: هذا زيد.
وقال السهيلي: "قول كثير من النحاة (أن وما بعدها في تأويل مصدر) وتقديرهم: بلغني أنك منطلق، أي: انطلاقك، ليس كما زعموا إنما هي في تأويل الحديث، كذلك قال س، وإنما التي في تأويل المصدر (أن) الخفيفة الناصبة للفعل؛ لأنها أبدًا مع الفعل هي/ تدل على مصدره، وأما (أن) المشددة فقد يكون خبرها اسمًا محضًا، نحو: علمت أن الليث الأسد، فهذا لا يشعر بالمصدر لأنه لا فعل له" انتهى كلام السهيلي. وتلخص منه أن (أن) وما بعدها لا تتقدر بالمصدر، خلافًا لأكثر النحويين.
وقوله فإن لزم التأويل لزم الفتح، وإلا فوجهان يعني: إن لزم أن تؤول بالمصدر لزم فتح (أن).
وقال أبو علي الفارسي في ضبط المكسورة والمفتوحة: كل موضع يتعاقب عليه الاسم والفعل فـ (إن) فيه مكسورة، وكل موضع ينفرد بأحدهما فـ (أن) فيه مفتوحة. فالأول نحو: إن زيدًا قائم، يجوزُ: زيدٌ
قائم، ويقوم زيد. والثاني نحو: بلغني أن زيدًا قائم. والثالث نحو: لو أن زيدًا قائم.
قالوا: وهذا القانون ليس بصحيح لأنه ينكسر بـ (إذا) التي للمفاجأة، فإنه لا يليها إلا الاسم، وتكسر (إن) بعدها.
وقال س: كل موضع هو للجملة فـ (إن) فيه مكسورة، وكل موضع هو للمفرد فـ (أن) فيه مفتوحة.
قالوا: وهذا ينكسر بقولهم "لو أن زيدًا قائم" لوقوعها موقع الجملة الفعلية، ومع هـ 1 اهي مفتوحة، هذا على مذهب س على ما سيأتي بيانه. ومن النحويين من ضبط ذلك بتعداد المواضع.
وقوله فلامتناع التأويل كسرت مبتدأة أخذ المصنف في تعداد أماكن المكسورة، فذكر أنها تكسر إذا كان مبدوءًا بها لفظًا ومعنى، نحو: إن زيد قائم، أو معنى لا لفظًا، نحو: ألا إن زيدًا قائم.
وفي قوله (مبتدأة) إبهام لأن المبتدأ في الاصطلاح معروف، ولا يراد هنا إذ يلزم على ذلك الكسر في نحو: عندي أنك فاضل، ولا يجوز ذلك، وإنما أرد بقوله (مبتدأة) أي: أول الكلام.
وليس ما ذكر من أنها تكسر في ابتداء الكلام مجمعًا عليه؛ إذ قد ذهب بعض النحويين إلى جواز الابتداء بـ (أن) المفتوحة أول الكلام كما سبق في (باب الابتداء)، فتقول: أن زيدًا قائم عندي.
وقوله وموصولًا بها مثاله {وآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ} . فإن جاء ما ظاهره أنه فتحت فيه (أن) بعد موصول، نحو قولهم:"لا أصحبك ما أن في السماء نجمًا"، فإن صلة (ما) محذوفة، و (أن) معمولة لذلك المحذوف، تقديره: ما ثبت أن في السماء نجمًا، كذا قاله المصنف في الشرح.
وقال أبو علي الفارسي: "إذا وقعت بعد الاسم الموصول، كقولك: أعطيته ما إن شره خير من جيد ما معك" انتهى. وكذا يقول أصحابنا.
وعلى ما زعم س ليست (إن) صلة الاسم الموصول، بل (إن) عنده على إضمار قسم، والقسم وجوابه هو الصلة، و (إن) هو جواب القسم المحذوف. ولا يجيز س بعد القسم في (إن) إلا كسر/ همزتها.
وقوله وجواب قسم هذه المسألة -وهي: والله إن زيدًا قائم- فيها أربعة مذاهب:
أحدها: إجازة الكسر والفتح واختيار الفتح، وهو مذهب الكسائي
والبغداديين.
والثاني: إجازتهما واختيار الكسر.
والثالث: وجوب الفتح، وهو مذهب الفراء، وقال أبو جعفر الصفار:"قال الكسائي والطوال: تقول: والله أن زيدًا منطلق، بفتح أن".
والرابع: وجوب الكسر، وهو الذي صححه أصحابنا، وهو مذهب البصريين، وهو القياس÷ وبه ورد السماع، قال تعالى {حم (1) والْكِتَابِ المُبِينِ (2) إنَّا أَنزَلْنَاهُ} ، {الْحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا}. قال أبو الحسن بن خروف:"ولم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له في القياس" انتهى.
وقد سمع من لسان العرب "حلفت أن زيدًا قائم" بالفتح والكسر، فغلط سماع ذلك من أجاز الفتح والكسر في قولك: بالله إن زيدًا قائم؛ لأن التقدير: حلفت بالله إن زيدًا قائم، فكما يجوز الكسر والفتح مع
التصريح بالفعل فكذلك يجوز مع إضماره. وبيان الغلط فيه أن من كسرها بعد (حلفت) لم يجعل (حلفت) إلا قسماً، و (إن) وما بعدها جواباً لها، ومن فتحها بعد (حلفت) جعل (حلفت) إخباراً عن قسم متقدم ، ولم يجعلها قسماً وتكون (أن) وما بعدها في موضع معمول لها، ولا يتصور هذان التقدير إذا كانت (حلفت) مضمرة، لأن العرب لا تضمر (حلفت) وتريد بها غير القسم، بل إذا أضمرتها بل إذا أضمرتها كانت قسماً لا إخباراً عنه، فلذلك كسرت (إن) بعد (حلفت) المضمرة.
وقد خالف المصنف قوله هنا في أرجوزته حيث قال:
بعد (إذا) فجاءه أو قسم
…
لا لام بعده بوجهين نمي
فيعني بقوله (نمي) أن ذلك مروي، وليس كذلك بل السماع إنما ورد بالكسر.
وإلى جواز الفتح والكسر ذهب أبو القاسم السهلي من أصحابنا، كما ذهب إليه المصنف في الأرجوزة قال السهلي:" جواز فتحها وكسرها بعد القسم لأن القسم جملة تؤكد أخرى فإن كسرت (إن) فلأنها عليه، يعمل فيه أحلف وأقسم" انتهى.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن الضائع شيخنا:"إذا كانت جواباً للقسم في اللفظ كسرت، وهي في قولهم (حلفت أن زيداً منطلق) جواب في المعنى ومعمولة لفعل الحلف في اللفظ فلذلك تفتح".
وفي (البسيط): وأما القسم فذهب البصريون إلى أنه يكسر ليس إلا، وذهب غيرهم إلى الفتح وأصل هذا الخلاف أن جمليتي القسم والمقسم.
عليه هل إحداهما معمولة للأخرى فيكون المقسم عليه مفعولاً لفعل القسم أولا؟ فذهب بعضهم إلى أنه في موضع مفعول ففتح (أن) / بتقدير: أحلف على كذا. ومنهم من جعل القسم تأكيداً للمقسم عليه لا عاملاً فيه فانتفي ألا يكون به تعلق فكسر ليس إلا، ومن جوز الأمرين أجاز الوجهين.
وقوله ومحكيه بقول نحو: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} . ويأتي الكلام في فتحها بعد القول حيث تعرض لذلك المصنف في (باب ظننت) إن شاء الله.
وقوله وواقعة موقع الحال مثاله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وقال:
ما أعطياني ولا سألتهما
…
إلا وإني لحاجزي كرمي
وقوله وموقع خبر اسم عين مثاله: زيد إنه منطلق. وهذه مسألة خلاف ذهب البصريون إلى جواز ذلك، واستدلوا على صحة ذلك بقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وبقول الشاعر:
أراني- ور كفران بالله- إنما
…
أواخي من الأقوام كل بخيل
وقول الآخر:
إن الخليفة إن الله سربله
…
سربل ملك به ترجى الخواتيم
وقول الآخر:
منا الأناة وبعض القوم يحسبنا
…
إنا بطاء وفي إبطائنا سرع
وقال الفراء:" لا تقول في الكلام: إن أخاك إنه ذاهب". قال:" وإنما جاز في الآية لأن المعنى كالجزاء أي: من كان مؤمناً أو على شيء من هذه الأديان فالله يفصل بينهم" انتهى.
وما استدل به البصريون ليس هو في عين المسألة لأن الحكم هو أنه تكسر إذا وقعت خبر اسم عين، والمستدل به هو أنها كسرت إذا وقعت خبراً لـ (إن) وإن كان الاستدلال بما ذكر يستلزم جواز ذلك لأن (إن) و (أراني) و (يحسبنا) نواسخ للابتداء ، فيقال: كما جاز ذلك مع النواسخ يجوز غفي الابتداء، نحو: زيد إنه ذاهب، ويمكن أن يقال إنه تحدث مع النواسخ أحكام لا تكون مع الابتداء، فيمكن أن يكون هذا منها.
وقوله أو قبل لام معلقة مثاله قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} وقول الشاعر:
ألم تر إني وابن أسود ليلة
…
لنسري إلى ناريين يعلو سناهما
فلولا اللام لفتحت. وقد انتهت المواضع التي يجب فيها الكسر، وهي سبعة.
ونقصه موضع آخر وهو أنه يجب كسرها بعد (حيث) نحو: اجلس حيث إن زيداً جالس. وقد أولع عوام الفقهاء في قراءاتهم بفتحها يقولون: من حيث أنه، بالفتح.
وقوله وللزوم التأويل فتحت/ بعد (لو) أي: وللزوم تأويلها بالمصدر. ومثال ذلك بعد (لو) قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} .وقال الشاعر:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت
والتقدير: ولو صبرهم، ولو إنطاق لرماح قومي إياي، فموضع (أن) وما دخلت عيه رفع.
واختلفوا على ماذا ارتفع:
فذهب الكوفيون وبعض البصريين، منهم المبرد والزجاج وتبعهما الزمخشري وجماعة إلى أنه مبني على فعل محذوف.
قال ابن هشام: وقول الكوفيين عديم النظير لأن الفعل لم يحذف بعد (لو) قط إلا أن يكون مفسراً، نحو قوله تعالى:{لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ} وقولهم في المثل:" لو ذات سوار لطمتني".
قال:" وزعم البصريون أن الخبر لـ ـ (أن) بعد (لو) لم يجيء إلا فعلاً أو اسم فاعل ليكون بمعنى الجملة الاسمية، ولا يجوز: لو أن زيداً أخوك لأكرمتك" انتهى.
وليس مذهب البصريين بصحيح أن كان يصح نقله عنهم. فذهب البصريون إلى أنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، وهكذا ذكر الأستاذ أبو علي أنه مذهب البصريين.
وقال ابن هشام: مذهب س أن (أن) مع معموليها مبتدأه، والخبر محذوف، لا يجوز إظهاره، كحذفه بعد (لولا) ، وهو قول أكثر البصريين، وذهب بعضهم أنه مرفوع بالابتداء ولا خبر له لطوله وجريان المسند والمسند إليه في الذكر. قال ابن عصفور: وهذا الذي أحفظه عن البصريين. انتهى.
وقد جوز المبرد هذا الوجه والوجه الأول حكي عنه ابن السراج في كتاب (الأصول) أنه قال: إن (أن) المفتوحة بعد (لو) مع صلتها بتقدير مصدر، ووقوعها بعدها على ضربين:
أحدهما: أن المصدر يدل على فعله، فيجزي منه. قال: فإن قال قائل: إذا قلت" لو أنك أجبتني لأكرمتك" فلم لا تقول: لو إجابتك لأكرمتك؟ قيل: لأن الفعل قد لفظت به في صلى (أن) والمصدر ليس كذلك، ألا ترى أنك تقول: ظننت أنك منطلق فتعديه إلى (أن) وهي وصلتها اسم واحد لأنها قد صار لها اسم وخبر فدلت على المفعولين ، وغيرها من الأسماء لابد معه من مفعول ثان.
قال: والوجه الآخر أن الأسماء تقع بعد (لو) على تقدير تقديم الفعل الذي بعدها، فـ (لو) على كل حال، وإن كان ذلك من أجل ما بعدها، ولذلك وليتها (أن) لأنها اسم، وامتنعت المكسورة لأنها حرف جر جاء لمعنى التوكيد، فمما وليها من الأسماء قول الله عز وجل:{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} وكذلك: لو أنك جئتني، أي: لو وقع مجيئك.
والصحيح أن (أن) ومعموليها في موضع رفع بالابتداء وذلك أن في كل من المذهبين خروجاً لـ (لو) عما استقر فيها، لأن العرب لا تقول: لو زيد/ قائم لأكرمتك، ولا تقول: لو قيام زيد لأكرمتك، إنما تحذف الفعل بعدها ، وتجعل ما بعده معمولاً له إذا كان ثم ما يفسره، وهو مع ذلك قليل، وأن يليها الفعل هو الكثير ،فإذا جعلنا ذلك مبتدأ- ولا يحتاج إلى خبر لجريان المسند والمسند إليه في صلتها وإغناء ذلك عنه- كان أولى لأن هذا الوجه ليس فيه حذف ، والوجه الآخر يحتاج إلى تكلف حذف.
وما ذكره المبرد من أن السبب في ذلك جريان ذكر الفعل في صلة (أن) ليس بشيء لأن (أن) الواقعة بعد (لو) قد لا يكون خبرها الفعل، نحو قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}
وما ذكره الأستاذ أبو علي أنه مذهب البصريين أنه يقدر بمبتدأ محذوف الخبر فهو مرجوح لأنه إذا أمكن أن يحمل الكلام على أن لا حذف كان أولى من جمله على حذف. وقد ذكرنا أيضاً الكلام على (أنَّ)
بعد (لو) في كتاب (التكميل) في الفصل الثاني من (باب عوامل الجزم) وأمعنا الكلام في ذلك هناك، لكن فيما ذكرناه هنا مزيد فوائد.
وقوله و (لولا) مثاله قوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} ، وقول الشاعر:
لكم أمان ولولا أننا حرم
…
لم تلف أنفسكم من حتفها وزرا
وقوله و (ما) التوقيتية مثاله قول العرب فيما حكاه ابن السكيت: لا أكلمك ما أن في السماء نجما، وفيما حكاه الليحاني: لا أفعل ما أن حراء مكانه، التقدير: ما ثبت أن ما في السماء نجماً وما ثبت أن حراء مكانه.
وقوله وفي موضع مجرور، أو مرفوع فعل أو منصوبة غير خبر مثال ذلك: عجبت من أنك منطلق، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} و {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} وأنشد س:
تظل الشمس كاسفة عليه
…
كآبة أنها فقدت عقلا
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا} ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم}
واحترز بقوله"غير خبر" من نحو قوله: حسبت زيداً إنه قائم، فـ"إنه قائم" في موضع نصب، لكنه خبر في المعنى لأن (حسب) داخلة على المبتدأ والخبر.
-[ص: ولإمكان الحالين أجيز الوجهان بعد (أول قولي) ، و (إّا) المفاجأة وفاء الجواب.
وتفتح بعد (أما) بمعنى حقاً وبعد (حتى) غير الابتدائية وبعد (لا جرم) غالباً وقد تفتح عند الكوفيين بعد قسم ما لم توجد اللام.]-
ش: يعني بـ"إمكان الحالين" اعتبار التقدير بالمصدر واعتبار التقدير بالجملة، فباعتبار المصدر تفتح، وباعتبار الجملة تكسر.
وقوله أجيز الوجهان بعد (أول قولي) هذه مسألة ذكرها س، وهي قولهم: أول ما أقول/ إني أحمد الله، وأحالها المصنف إلى: أول قولي، فسبك من (ما) والفعل مصدراً وأضاف إليه (أول) وسيأتي احتمال (ما) أن تكون اسماً موصولاً وكما ذكرها س ذكرها أ [وعلي في (الإيضاح) ولم يسبك من (ما) والفعل مصدراً فمن فتح (أن) قدرها بالمصدر كأنه قال: أول ما أقول حمد الله فأول: مبتدأ و"أني أحمد الله" في موضع الخبر، و (ما) مصدرية كأنه قال: أول قولي حمد الله، وهذا إخبار بمعنى عن معنى لأن (قولا) مصدر، والمضاف إليه مصدر و (حمد) مصدر أخبر به عن مضاف لمصدر.
فإن قلت: أيجوز مع فتح "إني أحمد الله" أن تكون (ما) موصولة بمعنى (الذي) أو نكرة موصوفة بمعنى (شيء) والفعل بعدها صلة، أو
صفة، والعائد محذوف، وهو مفعول القول، ويكون التقدير: أول الألفاظ التي أقولها وأول ألفاظ أقولها حمد الله؟
قلت: منع ذلك بعضهم، قال: لأن" حمد الله" ليس من الألفاظ المقولة، فكيف يقع خبراً لما هو لفظ؟ والخبر إذا كان مفرداً فلا بد أن يكون المبتدأ، نحو: زيد أخوك، أو منزلا منزلته، نحو: زيد زهير، و"حمد الله" ليس أول الألفاظ ولا منزلاً منزلته.
وأجاز ابن خروف مع فتح (أني) أن تكون (ما) موصولة بمعنى (الذي) ونكرة موصوفة. وهذا لا يتصور إلا أن يجعل "حمد الله" من قبيل الألفاظ فكأنه يقول: أول ألفاظي هذا اللفظ أي: حمد الله.
ومن كسر، فقال: أول ما أقول إني أحمد الله فأول: مبتدأ و (ما) موصولة بمعنى (الذي) أو نكرة موصوفة أو مصدرية أريد بها المفعول كما قالوا: درهم ضرب الأمير، أي: مضروبة وكذلك هذا، تقديره: أول قولي. أي: مقولي. ومعمول (أقول) إذا كانت (ما) بمعنى (الذي) أو موصوفة محذوف كما قدرناه إذا فتحت (أن) والخبر عن المبتدأ الذي هو (أول): إني أحمد الله كما تقول: أول ما أقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} خبر عن (أول) ولا تحتاج هذه الجملة إلى رابط لأنها نفس المبتدأ في المعنى. هكذا فسر الناس كلام س في هذه المسألة، أغني أن "أول ما أقول" مبتدأ و"إني أحمد الله" خبر عنه فسره كذلك المبرد والزجاج والسيرافي وابن طاهر وأكثر مقرئي كتاب س بالأندلس.
ولأبي علي الفارسي فيه ارتباط وخبط، زعم أن" إني أحمد الله" معمول لـ (أقول) في قوله " أول ما أقول إني أحمد الله" فكسرت من أجل أنها معمولة للقول محكية به، فاحتاج من أجل ذلك إلى تقدير خبر للمبتدأ الذي هو (أول) فقدره (ثابت) فصار المعنى: أول قولي إني أحمد الله ثابت.
ورد الناس على أبي علي هذا التقدير وقالوا: يغير معنى الكلام، والكلام تام دون هذا التقدير. وممن رد عليه في هذه المسألة أبو الوليد الوقشي وأبو الحسين بن الطراوة وأبو الحجاج بن معزوز، وقالوا:/ هذا التقدير غير معقول لأنه يؤدي إلى أن يكون أول قوله: إني أحمد الله، وهو مثلاً قوله: إني موجود ويفهم من دليل الخطاب أن آخره غير موجود وهذا بلا شك لا يمكن أن يقصده عاقل.
وزعم بعض أصحابنا أن "إني أحمد الله" معمول لـ (أقول) لكنه خبر للمبتدأ من حيث المعنى، وسد المفعول مسد الخبر لأنه في معنى ما لا يحتاج إلى خبر، والتقدير: أقول قبل كل شيء إني أحمد الله، ونظير ذلك: أقائم الزيدان، فقد سد الفاعل مسد الخبر وأغنى عنه، فكذلك هذا، سد فيه المفعول مسد الخبر، وأغنى عنه.
وانفصل هذا الزاعم بهذا الذي قرره عما اعترض الناس به على أبي علي، وقال: لم يرد أبو علي أن هناك ثابتاً أو موجوداً وإنما أراد أن
" أول ما أقول إني أحمد الله" كله بمنزلته لو كان ثم (ثابت) أو (موجود)، قال: فذلك تمثيل منه وإن لم يتكلم به ليتحقق وجه الانفراد.
وهذا الذي ذهب إليه ليس بشيء، لأنه إنما سد في " أقائم الزيدان"لاجتماع المسند والمسند إليه في هذا الكلام ، فالمعنى متفق وإن اختلفت جهتا التركيب وأما في تلك المسألة فإن قوله"إني أحمد الله" جعله مفعولاً لـ (أقول) فضلة في الكلام، فلم يجتمع فيه مسند ومسند إليه ولم تكن الفضلة لتنوب عما هو أحد جزأي الكلام الذي يتوقف عليه معقولية المحكومة عليه والمحكوم به، ثم إن هذا التأويل الذي تأوله على أبي علي لا ينزل عليه لفظ أبي علي لأنه صرح بأن "أول ما أقول" مبتدأ محذوف الخبر، وزعم أن تقدير ذلك الخبر المحذوف (ثابت) أو (موجو) ولو أراد ما ذهب إليه هذا المنفصل لقال: و"أول ما أقول إني أحمد الله" مفرد بمنزلته لو كان هناك (ثابت) أو (مستقر) ملفوظاً به.
وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنه ليس"إني أحمد الله" معمولاً لـ (أقول) ولا كسرها لأجل كونها معمولة له، وإنما كسرها لأتنها بعد (أول) وهو قول من حيث أضيف إلى القول وقدر الخبر محذوفاً - أي ثابت- كما قدره الفارسي، قال: أترى أن معنى أول ما أقول إني أحمد الله ثابت أو موجود: قولي إني أحمد الله المتقدم على كل كلام ثابت أو موجود.
وهذا الذي ذهب إليه الأستاذ أبو علي خطأ لأن (إن) لا تكسر حكاية لفعل أو مصدر إلا وهي معمولة و (أول) لا يعمل وإن كان مصدراً في المعنى لأنه ليس بمصدر في اللفظ وإن كان في معناه ، ألا ترى أن المصدر إنما عمل لانحلاله إلى (أن) والفعل أو (ما) والفعل، و (أول) ليست كذلك لأنه لم يستعمل من لفظها فعل.
وذهب ابن عصفور إلى أنه يتخرج كلام أبي غلي على أن تكون (ما) مع الفعل بتأويل المصدر، كأنك قلت: أول قولي إني أحمد الله، والمصدر قد يراد به/ المرة الواحدة ، وقد يراد به أكثر كما أريد به في قوله تعالى {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} ، والحمير ليس لها صوت واحد وإنما لها أصوات فإّا أريد بالمصدر في المسألة المرة الواحدة لزم الفساد المتقدم فلم يبق إلا أن يراد التكثير وكأنه قال: أول أقوالي إني أحمد الله ثابت قبل، أي: ليس هذا بأول حمد حمدت الله تعالى بل لك أزل أحمده فيما تقدم.
وحكي عن الملك عضد الدولة بن بويه- وهو أحد من أخذ عن أبي علي الفارسي - أنه أجاز أن تكون (ما) من قوله "أول ما أقول" مصدرية ، و (أول) المضاف إليها مبتدأ وخبره محذوف والتقدير: أول ما أقول قولي إني أحمد الله و (إني) في صلى (قولي) المحذوف الذي هو خبر لـ (أول).
وارتضاه بعض شيوخنا، ورده بعضهم لأن فيه حذف الموصول وإبقاء ما هو من صلته، وهو معمولة وهذا بابه الشعر. ويجوز ذلك في قول البغداديين وينبغي ألا يمتنع هنا لأن القول قد كثر إضماره في كلام العرب حتى صار يجري مضمراً مجراه مظهراً لكنه بعد ذلك فيه مجاز الإضمار وإذا جعلت "إني أحمد الله" في موضع الخبر فلا إضمار وكلام س في هذه المسألة واضح جداً.
وتلخص من هذا كله أن كسر (إن) في هذه المسألة إما لكونها خبراً
عن (أول) وهو مذهب الجمهور والمتفهم من كلام س، أو عن (قولي) المضمرة معمولة له، وهو منسوب إلى عضد الدولة. أو لكونها معمولة لـ (أقول) والخبر محذوف وهو قول الفارسي. أول لـ (أول ما أقول) ، والخبر محذوف وهو قول الأستاذ أبي علي. أو لا يحتاج إلى الخبر لسد المعمول مسده، وهو قول بعض أصحابنا.
وتحقيق الكلام في هذه المسألة أن (القول) ينطلق على معنيين: أحدهما الحدث، وهو تأخيذ الصوت في أشخاص الكلام أو في بعض أشخاصه، والثاني أشخاص الكلام أنفسها ومثال ذلك: هذا ضربي، تشير إلى تأخيذ الحركات وهذا درهم ضرب الأمير ، تريد: مضروبة. فإذا أردت الحدث فتحت، وكان التقدير: أول تكلمي تحميد الله فوقعت موقع المفرد.
وإذا أردت المقول كسرت ، وكان التقدير: أول كلامي إني أحمد الله وذلك أن (أول) هي أفعل التي للمفاضلة بدليل أن مؤنثها (الأولى) كالأفضل والفضلى ، وأفعل التي يراد بها المفاضلة هي من جنس ما تضاف إليه، فهي كلام، وإذا كان كلاماً أخبرت عنه بما هو كلام ، لأن الخبر هو المخبر عنه في المعنى وإذا كان كذلك لزم كسر (إن) لأنها إذا كسرت كانت مع معمولها كلاماً وإذا فتحت كانت بتقدير المفرد، والمفرد ليس بكلام.
وقوله وبعد (إذا) الفجائية مثاله قول الشاعر:
وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً
…
إذا إنه عبد القفا واللهازم
روي بالكسر على عدم التأويل بالمصدر وبالفتح على تأويل (أن) ومعموليها بمصدر مرفوع بالابتداء. قال المصنف في الرشح:" والخبر محذوف والأول أولى لأنه لا يحوج إلى تقدير محذوف" انتهى.
وقد تقدم لنا أن مذهب أصحابنا أن الخبر هو (إذا) الفجائية فلا يكون الخبر محذوفاً فلا أولوية بل يكون الوجهان متساويين في الجودة أعني الفتح والكسر في (إن).
وقوله وفاء الجواب عبر عنها المصنف في غير هذا بفاء الجزاء. فإذا وقعت بعد فاء الجواب جاز فيها الفتح والكسر مقاله: من يقصدني فإني أكرمه، بالفتح والكسرة، قال تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ} قرئ بالفتح وقال تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} قرئ بالكسر، وقال تعالى:{أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قرئ بالفتح والكسر، فالفتح على تقديرها بمصدر وهو خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: من يحادد الله ورسوله فجزاؤه كينونة النار له، وكذلك: فجزاؤه الغفران. الكسر على أنها جملة باقية على أصلها، وهو أحسن في القياس لأن الفتح يؤدي إلى تكلف الإضمار، والكسر لا إضمار معه.
قال المصنف:" ولذلك لم يجئ في القرآن فتح إلا مسبوق بـ (أن) المفتوحة، فإن لم تسبق (أن) المفتوحة فكسر (إن) بعد الفاء مجمع عليه من القراء السبعة نحو {إِنَّهُ مَن يَاتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} و {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} انتهى.
وقال الزمخشري في قوله تعالى {أَلَمْ يَعْلَمُوا} الآية ما نصه: " ويجوز أن يكون {فَأَنّ} معطوفاً على {أَنَّهُ} على أن جواب {مَن} محذوفة، وتقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم". وقال:" وقيل: معناه فله، و (أن) تكرير لـ {أَنَّ} في قوله:{أَنَّهُ} توكيداً.
وهذا الذي جوزه الزمخشري والذي نقله عن غيره لا يجوزان:
أما الأول فلأنه قد تقرر في علم العربية أنه إذا حذف جواب الشرط لدلالة الكلام عليه لزم مضي فعل الشرط ، نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت ولا يجوز أن يأتي مضارعاً إلا في ضرورة الشعر، وهنا في الآية قد جاء مضارعاً وهو قوله:{يُحَادِدِ اللَّهَ} فلا يجوز إذا ذاك حذف الجواب، ويتعين أن يكون الجواب غير محذوف.
وأما الثاني فلا يجوز أن يكون {فَإِنَّ لَهُ} تكريرا لـ {أَنَّ} على سبيل التوكيد لوجوه:
الأول: أن الفاء تمنع من التوكيد لما فيها من التعقيب والتوكيد هو المؤكد فلا تعقيب بينهما/ ولا يمكن جعل الفاء زائدة لأنها لا تزاد إلا إن كان ذلك في شعر إن وجد.
الثاني: أن الحرف إذا كرر على سبيل التوكيد فلا يكرر إلا بما دخل عليه، ومتعلق {أَنَّهُ} غير متعلق {فَأَنّ} لأن تلك اسمها ضمير الشأن، وخبرها الجملة الشرطية وهذه اسمها {نَارَ جَهَنَّمَ} فلا يمكن أن تكون {فَأَنّ} توكيداً لـ {أَنَّهُ}
الثالث: أنه إذا جعلت {أَنَّ} كررت توكيداً لم تكن داخلة في جواب الشرط، وهي بلا شك داخلة فيه إذ ينسبك منها مع معموليها مصدر، فإذا تنسبك منها مصدر هو داخل في جواب الشرط لم تكن توكيداً، فتناقضا لأنها من حيث هي تكرير على سبيل التوكيد لا تكون داخلة في جواب الشرط، ومن حيث هي مصدرية هي داخلة فيه إذ هي جزء الجواب.
وقوله وتفتح بعد (أما) بمعنى حقاً روي س "أما إنك ذاهب" بكسر (إن) على أن (ما) للاستفتاح كـ (ألا) وبفتحها بمعنى حقاً، كذا قال المصنف في الشرح: إن (أما) بمعنى حقا. والذي شرح به أصحابنا كلام س هو أنك إذا كسرت فـ (أما) استفتاح كـ (ألا) أو فتحت الهمزة للاستفهام و (ما) بمنزلة حق، وذلك أن (ما) عامة، فتجعلها بمنزلة: شيء وذلك الشيء حق، فكأنك: أحقاً أنك ذاهب؟ وانتصابه على الظرف.
قال المصنف في الشرح:" وإذا وليت (أن)(حقا) فتحت لأنها حينئذ مؤولة هي وصلتها بمصدر مبتدأ و (حقا) مصدر واقع ظرفاً مخبراً به ومنه قول الشاعر:
أحقاً أن جيرتنا استقلوا
…
فنيتنا ونيتهم فريق
تقديره عند س:" أفي حق أن جيرتنا استقلوا فـ (أما) المفتوح بعدها (أن) كذلك".
قال المصنف في الشرح:" ويحتمل عندي أن يكونوا نصبوا حقاً نصب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بفعله، و (أن) في موضع رفع على الفاعلية، كأنه قال: أحق حقاً أن جيرتنا استقلوا وتكون (أما) مع الفتح للاستفتاح أيضاً، وما بعدها مبتدأ خبره محذوف كأنه قال: أما معلوم أنك ذاهب.
وقد يقع بين (أما) و (أن) يمين فيجوز أيضاً الفتح على مرادفه (أما)(حقا) والكسر على مرادفتها (ألا) ذكر ذلك س" انتهى كلامه.
وما ذهب إليه المصنف من جواز انتصاب (حقاً) نصب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بفعله، و (أن) في موضع رفع على الفاعلية لا يجوز لأنه ليس من المصادر التي يجوز نصبها على إضمار فعل، لأن ذلك إنما يكون إذا أريد به الأمر وما أشبهه، أو الاستفهام ويكون نكرة ولا يكون معرفة، وقد قالوا: ألحق أنك ذاهب؟ فدل على أنه منصوب على الظرف، وما بعده مبتدأ وكأنه قال: أفيما يحق هذا؟ وتكون ظرفاً مجازيا/ بمنزلة (كيف) لأن معناها في أية حال. والدليل على أنه نصبه نصب الظرف قول الشاعر:
أفي حق مواساتي أخاكم
…
مالي، ثم يظلمني السري
فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنه أسقط منه حرف الجر، والعامل فيه (كائن) فيكون أولى من جعل ما ليس بظرف ظرفاً فيكون المعنى: أكائن أو مستقر فيما يحق هذا؟ ثم أسقط الحرف ،
فصار: أحقاً أنك ذاهب؟
قلت: المعنى لا يعمل مضمراً ألا ترى أنا أبطلنا أن يكون (مثلهم) من قوله:
......................
…
....... وإذا ما مثلهم بشر
حالاً، والعامل فيه الخبر المحذوف كأنه قال: في الوجود وإنما يعمل مضمراً ومظهراً الفعل.
ويجوز أن تقول: أحق أنك ذاهب بالرفع وهو جيد قوي وهو الوجه لأنه ليس فيه جعل ما ليس بظرف ظرفاً وارتفاعه على أنه الخبر لأن (أن) تتنزل منزلة أعرف المعارف.
وأما تجويز المصنف في "أما أنك ذاهب" فتح (أنك) أن تكون (أما) للاستفتاح وما بعدها بتقدير مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: أما معلوم أنك ذاهب، فالشيء خالف فيه النحويين. ويبطله أنه لو كان على ما ذهب إليه لصرحت العرب بهذا الخبر الذي قدره في موضع ما مع (أن).
وتقول: أما والله أنك ذاهب، بفتح (أن) وكسرها قال ابن هشام:" إذا كسرت جعلتها جواب القسم وإذا فتحت فقدره س: أعلم
والله أنك ذاهب وقدره الفراء وأبو العباس وجماعة: أحلف بالله على أنك ذاهب أي: على ذهابك" انتهى.
وقالت العرب: شد ما أنك ذاهب وعز ما أنك منطلق، فقيل: تركب الفعل مع (ما) وغلب الحرف كما في (إذ ما) ووضع موضع المصدر المنصوب على الظرف كأنك قلت: حقا أنك ذاهب فهي بمنزلة (أما) لكنها مفتوحة أبداً.
ويحتمل أمراً آخر وهو أن يغلب الفعل فيصير بمنزلة (حبذا) و (نعم) كأنك قلت: نعم العمل أنك ذاهب قاله في (البسيط) وفيه: " فإذا قلت (أما حقا فإنك ذاهب) صح الكسر لأنه من مواضع (إن) لأنه جواب الشرط، والفتح هنا ضعيف لأنك لم تضطر إلى الظرف كالأول" انتهى. يعني بـ (الأول) أحقاً أنك منطلق.
وفي الشرح المنسوب لأبي الفضل الصفار ما ملخصه: الكسر هنا لا يجوز، ألا ترى أن (شد) و (عز) فعلان، فما بعدهما في موضع المعمول، و (ما) زائدة فالمعنى: عز ذهابك و (شق) و (شد) كذلك أي: شق لأنك الشيء إذا شد فقد شق. ويجوز أن تكون (ما) تمييزاً، وضمن (شد) معنى المدح و"أنك ذاهب" خبر مبتدأ ولا يجوز أن يكون مبتدأ لأن (أن) لا يبتدئ ويظهر من [قول] الخليل أن "شد ما" بمنزلة "حقا" ركب الفعل مع الحرف ، وانتصب ظرفاً والمعنى: عزيزاً ذهابك وشديداً ، أي: فيما يشق/ لأنه شبهها بـ (لو) حين جعلها بمنزلة (لولا) في أنه يبتدئ بعدها وإن لم تكن بمنزلتها وذلك أن (لو) لا يليها إلا الفعل ، و (لولا)
الامتناعية لا يليها إلا الاسم المبتدأ فأجروا (لو) مجرى (لولا) فيبتدئ بعدها، أي: لشبهها بـ (لولا) انتهى، وفيه بعض تلخيص.
وقوله وبعد (حتى) غير الابتدائية مقاله: عرفت أمورك حتى أنك فاضل فـ (حتى) تقدر بعدها مصدر، فإن كانت عاطفة كان في موضع نصب، وإن كانت جارة كان في موضع جر. واحترز بقوله " غير الابتدائية " ومن أن تكون ابتدائية، نحو قولك: مرض حتى إنه لا يرجى.
وقوله وبعد (لا جرم) غالباً اختلف في "لا جرم":
فذهب س إلى أنها بعل بمعنى (حق) قال س: "قال تعالى {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} و (جرم) عملت لأنها فعل، ومعناها: لقد حق أن لهم النار، ولقد استحق أن لهم النار.
وزعم الخليل أن (جرم) إنما تكون جواباً لما قبلها من الكلام، يقول الرجل: كان كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا، فتقول: لا جرم أنهم سيندمون أو سيكون كذا وكذا" انتهى كلام س.
فـ (أن) بعد (جرم) في موضع الفاعل بها، والوقف على (لا) عند س، ولا يجوز أن توصل بـ (جرم) لأنها ليست نفي (جرم).
وذهب الفراء إلى أن _جرم) بمعنى كسب، قال: وركبت (لا) مع (جرم) وصارت بمنزلة "لا بد" و"لا محالة" والتركيب يحدث معه أمر لم يكن. ولا يقف على (لا) لأنها جزء مما بعدها و (جرم) بمعنى كسب معروف في اللغة ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهض في رأس نيق
…
ترى لعظام ما جمعت صليبا
أي: أنها تكسب لفرخها الذي هو ناهض. وزعم أن قوله:
.....................
…
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
على هذا المعنى، أي: كسبت لهم الغضب، قال: وليس قول من قال" حق لفزارة الغضب" بشيء، لأن (جرم)(حق) لم يثبت من لسان العرب، ولو كان "أن يغضبوا" فاعلاً بـ (جرم) لما أنث، فكان يكون (جرم) وتفسير المفسرين {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} بمعنى: حقاً أن لهم النار، لا يثبت أن (جرم) بمعنى حق، لأنهم فسروا المعنى.
قال بعض أصحابنا: هذا الذي قاله حسن جداً.
وأقول: لا يلزم ما قاله الفراء في "جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا" من أنه يلزم أن يقول (جرم) ولا يؤنث، لأنه يكون أنث على معنى الغضبة، كما قال الشاعر:
........................
…
وقد عذرتني في طلابكم العذر
أي: المعذرة. (فزارة) في كلا القولين منصوب على إسقاط اللام.
وقال المصنف:" إذا وقعت (أن) بعد (لا جرم) فالمشهور الفتح، وبه قرأ القراء. قال الفراء: (لا جرم) كلمة كثر استعمالهم إياهم حتى صارت بمنزلة (حقاً) وبذلك فسرها المفسرون، وأصلها من جرمت أي: كسبت/ وتقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت، فتراها بمنزلة اليمين" قال المصنف في الشرح:" ولإجرائهم إياهم مجرى اليمن حكي عن بعض العرب كسر (إن) بعدها" انتهى.
ولقلة تصفحه كلام س جهل مذهب س في "لا جرم" وكلام الخليل فيها، ولم يبين موضع (أن) بعد " لا جرم" وقد ذكرنا أن مذهب س أنها في موضع رفع على الفاعل. وأما على مذهب الفراء فيظهر أن التقدير عنده: لا جرم من كذا كما تقول: لا بد أنك ذاهب، أي: من أنك ذاهب.
وقوله وقد تفتح عند الكوفيين بعد قسم ما لم توجد اللام قد تقدم لنا ذكر الخلاف (أن) بعد القسم في أوائل هذا الفصل.
وقال المصنف في الشرح:"ذكر ابن كيسان في نحو (والله إن زيداً قائم" بلا لام أن الكوفيين ويكسرون، والفتح عندهم أكثر.
وقال الزجاجي في جمله):وقد أجاز بعض النحويين فتحها بعد اليمين واختاره بعضهم على الكسر، والكسر أجود وأكثر في كلام العرب والفتح جائز قياساً) وهذه العبارة تقتضي أن يكون الفتح
مستعملًا في كلامهم استعمالاً أقل من استعمال الكسر. ثم أشار إلى أن الفتح جائز قياساً. وليس كما قال، فإن الفتح يتوقف على كون المحل مغنياً فيه المصدر عن العامل والمعمول، وجواب القسم ليس كذلك، والكسر كذلك يوجب لـ (إن) الواقعة فيه الكسر قياساً، ولذلك اجتمعت القراء على كسر {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} في أول الزخرف، و {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} في أول الدخان مع عدم اللام فإن ورد (أن) بالفتح في جواب قسم حكم بشذوذه وحمل على إرادة (على) وعلى ذلك يحمل قول الراجز:
لتقعدن مقعد القصي
…
مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي
…
أني أبو ذيالك الصبي
في رواية من رواه بالفتح كأنه قال: أو تحلفي على أني أبو ذيالك الصبي"
وأغفل المصنف وقوع (أن) بعد (مذ) و (منذ) فنقول: اتفق النحويون على فتح (أن) بعدهما، فتقول: ما رأيته مذ أن الله خلقني واختلفوا في جواز الكسر بعدهما: فمنهم من صرح بإجازته، وهو مذهب الأخفش. ومنهم من صرح بامتناعه ومنهم من صرح بجواز الفتح،
وسكت عن إجازة الكسر وامتناعه كـ (س) وابن السراج.
فحجة من أجاز الكسر أن (مذ) و (منذ) يجوز وقوع الجملة الاسمية والفعلية بعدهما نحو: ما رأيته مذ قام زيد، ومنذ زيد قائم، والموضع الصالح للجملتين تكسر فيه (إن).
وحجة مانع الكسر أن الجمل بعدهما تتقدر بمصدر والتقدير: منذ قيام زيد، ووضع الجملة موضع المصدر إنما جاء بعد أسماء الزمان أو (ذي) في قولهم:" اذهب بذي تسلم" أو (آية) في قولك: ائتني بآية يقوم زيد، ومن ذلك قوله:
بآية الخال منها عند مفرقها
…
وقول ركبتها قض حين تثنيها
ولا ينقاس فيما عدا ذلك، لا يجوز: بلغني يقوم زيد، ولا: عجبت من يقوم زيد، تريد: بلغني قيام زيد، ومن قيام زيد. فلما كان وضع الجملة موضع المصدر غير منقاس إنما يتبع فيه السماع امتنع من جواز وضع (إن) واسمها وخبرها موضع المصدر لأنه لم يسمع وقوعها موقع المصدر في موضع.
قال ابن عصفور: والصحيح عندي أن ذلك جائز، لأن وضع الجملة موضع المصدر بعد أسماء الزمان قد صار مطرداً فجاز لذلك أن يقاس في (إن) وإن لم يسمع ذلك فيها قياساً على غيرها من الجمل الاسمية.
وفي دخول (مذ) و (منذ) على الجمل الاسمية خلاف: ذهب س إلى أنهما اسما زمان، فجازت إضافتها إلى الجمل كسائر أسماء الزمان. وذهب الأخفش إلى أنه لا بد من تقدير اسم زمان محذوف لأن (مذ) و (منذ) لايدخلان إلا على أسماء الزمان ملفوظاً بها أو مقدراً.
والصحيح مذهب س من أنهما يضافان إلى الجمل تارة، ويدخلان على أسماء الزمان أخرى. وسيأتي الاستدلال لذلك عند ذكر المصنف الكلام على (مذ) و (منذ) في " باب المفعول المسمى ظرفاً" إن شاء الله.
والعجب للأخفش أنه يجبز كشر (إن) بعد (مذ) و (منذ) مع اعتقاده أن اسم الزمان محذوف قبلها، وإذا قدر اسم زمان قبل (إن) انبغى أن تكون مفتوحة لأن اسم الزمان مضاف إليها، فهي في تقدير مفرد، فتفتح.
وأغفل المصنف أيضاً وقوع (إن) بعد (أما) إذا جاء بعدها ظرف أو مجرور، نحو: أما في الدار فإن زيداً قائم، والكسر على تقدير: فزيد قائم، ويتعلق المجرور بما في (أما) من معنى الفعل، والفتح بتقدير: فقيامك ، والمجرور في موضع الخبر. ويمكن اندراج هذه المسألة تحت قوله"وفاء الجواب" فلا يكون المصنف أغفلها لأن (أما) في معنى الشرط، لكن التنصيص عليها أولى لأن المصنف لم ينص عليها.
-[ص: فصل
يجوز: دخول لام الابتداء بعد (إن) المكسورة على اسمها المفصول، وعلى خبرها المؤخر عن الاسم، وعلى معمولة مقدماً عليه بعد الاسم، وعلى الفصل المسمى عماداً. وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما. وربما دخلت على خبر (كان) الواقعة خبر (أن).]-
ش: قوله يجوز دخول لام الابتداء هذه اللام عند البصريين هي لام الابتداء في الأصل التي في قولك: لزيد/ أخوك وهي تؤكد الجملة، وأخرت لكونها للتأكيد و (إن) للتأكيد، فلو جعلوها في أول الكلام لأدى ذلك إلى الجمع بين حرفين لمعنى واحد، والعرب لا تجيء بشيء من ذلك في كلامها إلا في ضرورة نحو قوله:
فلا والله لا يلفي لما بي
…
ولا للما بهم أبداً دواء
فجمع بين اللامين، وهما بمعنى واحد وقول الآخر:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
…
أصعد في غاوي الهوى أم تصوبا
فجمع بين (عن) و (الباء) وهما لمعنى واحد بل إذا أرادوا تأكيد الحرفين فصلوا بينهما بما يدخل عليه الحرف، نحو: مررت بزيد به.
وربما فصلوا بينهما بأكثر من ذلك، ومنه {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} . فلما تعذر جعلها أول الكلام لهذه العلة أخروها.
والدليل على أنها لام الابتداء في الأصل أنها تعلق العامل عن عمله كما تعلقه لام الابتداء في نحو: علمت إن زيداً لقائم، وكان حقها أن تدخل أول الكلام فأخرت لما تعذر ذلك فيها لما ذكرناه. والدليل على ذلك أنك تقول: إن زيداً طعامك لآكل وإن في الدار زيداً لقائم فتقدم معمول الاسم الذي دخلت عليه اللام على اللام لأن اللام متقدمة في النية على ذلك المعمول، إذ لو كانت اللام واقعة في محلها لم يتقدم معمول ما بعدها عليها، ألا ترى أنك تقول: لمعطيك درهماً زيد، ولا يجوز: درهماً لمعطيك زيد، لأن اللام من حروف الصدر وقد وقعت موقعها فلو كانت لام (إن) واقعة موقعها لم يجز أن يتقدم عليها معمول ما بعدها عليها، كما لم يجز ذلك في اللام الداخلة على المبتدأ.
وقال الأخفش: وإنما بدأوا بـ (إن) لقوتها وقوتها أنها عاملة، واللام غير عاملة، فجعلوا الأقوى متقدماً في الفظ وأخروا اللام على معناها مبتدئة.
وقال ابن كيسان: التوكيد إنما هو لما بعد (إن) فجعلت اللام بعد ولم تجعل في الاسم- يعني المجاور لـ (إن) - لأنها إذا دخلت على أول الكلام قطعته عما قبله، فكان يبطل عمل (إن) فتكون (إن) غير عاملة في شيء.
وذهب الفراء إلى أن اللام للفرق بين الكلام الذي يكون جواباً وبين الكلام الذي يستأنف على غير جواب، فتقول: إن زيداً منطلق بغير
لام وتقول: إن زيداً لمنطلق ولا يكون إلا جواباً لكلام قد مضى وهو جواب جحد،
وذهب معاذ بن مسلم الهراء - وتبعه أحمد بن يحي -إلى أن قولك" إن زيداً منطلق" جواب: ما زيد منطلقاً و"وإن زيداً لمنطلق" جواب: ما زيد بمنطلق فـ (إن) بإزاء (ما) واللام بإزاء الباء.
وذهب هشام وأبو عبد الله الطوال إلى أن اللام جواب للقسم، واليمين قبل (إن) مضمرة. وحكي هذا أيضاً عن الفراء.
وقال المصنف في الشرح:" لام الابتداء هي المصاحبة للمبتدأ توكيداً نحو: لزيد منطلق وهي غير المصاحبة جواب القسم لدخولها على المقسم به في لعمرك وليمين الله، والمقسم به لا يكون جواب قسم، ولا استغنائها عن نون التوكيد في نحو {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} والمصاحبة جواب القسم لا تستغني في مثل (ليحكم) عن نون التوكيد إلا قليلاً في الشعر. ولما كان مصحوب اللام في الأصل المبتدأ وكان معنى الابتداء باقياً مع دخول (إن) اختصت بدخولها معها لذلك، ولتساويهما في التوكيد حسن اجتماع توكيدين بحرفين كما حسن اجتماعهما باسمين في نحو {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} موضعها في الأصل قبل (إن) لأنها تعلق أفعال القلوب وهي أقوى عملاً من (إن) فلو أخرت ولم ينو تقديمها لعلقت (إن) وإلا لزم ترجيحها على أفعال
القلوب وأزيلت لفظا عن موضعها الأصلي كراهية لتقديم مؤكدين مع أن حق المؤكد أن يؤخر عن المؤكد " انتهى كلامه، وفيه بعض مناقشة:
من ذلك في قوله" وهي غير المصاحبة جواب القسم". وهذا غير مسلم، بل اللام المتلقي بها القسم إما أن تكون داخلة على المبتدأ والخبر أو على الفعل فإن كانت داخلة على المبتدأ والخبر فهي لام الابتداء نحو: والله لزيد قائم، ولا يمنع دخولها على المقسم به في (لعمرك) و (ليمن الله) أن تدخل على جواب القسم. وإن دخلت على الفعل، نحو: والله لقام زيد، والله ليقومن بكر، فليست لام الابتداء
ومن ذلك قوله" وهي- أي اللام- أقوى عملاً من إن" وليس للام عمل في شيء البتة وإصلاحه: وهي أقوى تأكيداً من (أن) لأنها تعلق أفعال القلوب و (إن) إذا لم تكن معها اللام تكون مفتوحة لأجل فعل القلب قبلها.
وقوله على اسمها المفصول (المفصول) يشمل الفصل بالخبر، نحو {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً} أو بمعمول الخبر، نحو: إن فيك لزيداً راغب أو بمعمول الاسم نحو: إن في الدار لساكن زيد. فأما الأولى فلا خلاف فيها، وأما الثانية ففيها خلاف، وأصحابنا لا يجيزون ذلك بناء منهم على أن المسألة قبل دخول اللام لا تجوز، وأما الثالثة ففيها نظر، والذي يقتضيه القياس المنع لأن فيه إعمال ما بعد اللام فيما قبلها ويمكن القياس على: إن زيداً طعامك لآكل فكما جاز تقديم ما بعد اللام التي في الخبر على الخبر كذلك يجوز تقديم ما بعد اللام في الاسم على معموله. ودخولها على الاسم مشروط بالفصل.
/ وحكى الكسائي عن العرب دخولها على الاسم غير مفصول بشيء حكي عن العرب: خرجت فإذا إن لغراباً وهذا شاذ وينبغي أن يتأول على أن ثم فصلاً محذوفاً وهو خبر (إن) تقديره: خرجت فإذا إن بالمكان لغراباً.
وقوله وعلى خبرها المؤخر عن الاسم مثاله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ} وفي بعض النسخ" وعلى خبرها المثبت". وقال في الشرح: " بينت أن اتصالها بالخبر مشروط بكونه مثبتا" ولا يحتاج إلى هذه الزيادة-أعني المثبت- لأنه سيذكر في هذا الفصل أنها لا تدخل على حرف نفي إلا في ندور ، فيتقيد هذا بـ (المثبت) وسيأتي الكلام على الخبر إذا كان مصدراً بأداة نفي إن شاء الله. وشرط التأخير عن الاسم لأنه لو تقدم الخبر على الاسم لم يجز دخول اللام عليه، ولو قلت: إن لعندك زيداً وإن زيدا وإن غدا لعندنا زيداً لم يجز.
وأطلق المصنف في قوله" وعلى خبرها المؤخر عن الاسم" فدخل فيه الاسم المفرد والظرف والمجرور والمضارع والجملة الاسمية. فدخلت على الاسم المفرد لأنه هو اسم (إن) في المعنى وعلى الظرف والمجرور لأنهما قائمان مقام (كائن) أو (مستقر) وهو اسم (إن) في المعنى، وعلى المضارع لأنه مشابه لاسم الفاعل الذي هو اسم (إن) في المعنى، وعلى الجملة الاسمية غير المنفية لأن اللام إذ ذاك تكون داخلة في اللفظ على المبتدأ الذي حقها أن تدخل عليه. هكذا عللوا هذه الأشياء.
ثم قيد بعد ذلك أشياء من الخبر لا تدخل عليها، يأتي ذكرها إن شاء الله قال المصنف و"ولم أقيد تأخير بقرب ليعلم أبعده لا يضر كقول الشاعر:
وإنِّي على أن قد تجشمت هجرها
…
لما ضمنتني أم سكنٍ لضامن
وكقول الآخر:
وإن امرأً أمسى ودون حبيبه
…
سواس فوادي الرس فالهميان
لمعترف بالنأي بعد اقترابه
…
ومعذورة عيناه بالهملان
ويعمل ما بعد اللام فيما قبله، نحو قوله تعالى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، وقال طرفة:
وإن لسان المرء ما لم يكن له
…
حصاة على عوراته لدليل "
انتهى.
فرع: أن بك كفيلين لأخواك. أجاز ذلك الكسائي، ومنعه الفراء لأن الاسم مرفوع بالفعل، فلا يحول بينهما باللام، وأجاز ذلك البصريون على أن (أخويك) خبر (إن).
فرع: أجاز الفراء الجمع بين لامي توكيد وأن / تقول: إن زيداً للقد قام، وأنشد:
ولئن قوم أصابوا عزةً
…
وأصبنا من زمانٍ رفقا
للقد كانوا لدى أزماننا
…
بصنيعين لبأسٍ وتقي
وهذا خطأ عند البصريين، والرواية: فلقد.
وقوله وعلى معموله مقدماً عليه بعد الاسم قال المصنف: "قيدت دخولها على معمول الخبر بكونه مؤخراً عن الاسم مقدماً على الخبر لأن المعمول كجزء من العامل، فإذا قدم كان كالجزء الأول، فإذا أخر كان كالجزء الآخر، فلذلك جاز: إن زيداً لطعامك آكل، وامتنع: إن زيداً آكل لطعامك. ومثال (إن زيداً لطعامك آكل) ما أنشد الكسائي:
ولقد علمت فما أخاك سواء
…
إن الفتي لحتفه مرصود
وقول الآخر:
إن امرأً خصني عمداً مودته
…
على التنائي لعندي غير مكفور"
انتهى.
قال الأستاذ أبو علي: أتى س بالبيت شاهداً على: إن زيداً لفيها قائم، والعامل في (عندي) ما في "غير مكفور" كله من معنى الفعل، كأنه قال: معتمد عندي، ولا يكون العامل فيه (مكفور) وحده لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، ولا يصح تقديم العامل هنا لأنه مضاف إليه، وهو لا يتقدم على المضاف.
وحمله قوم على أن ما بعد المضاف عمل فيما قبله لأنه في تقدير
(لا)، كما تقول - في زعمهم - أنا زيداً غير ضارب؛ لأنه في تأويل: لا ضارب. ولا يصح ذلك في (مثل) إذا قلت "مثل ضارب" لأنها ليست في تقديره، فقالوا: هذا البيت على ذلك.
وقال ابن عصفور: قيل: وهذا إنما يجوز في الظرف والمجرور، كقوله:
.........................
…
بضرب الطلي والهام حق عليم
أي: عليم حقاً، فما كان من المضافات بتقدير المفرد جاز فيه ذلك إذا كان المعمول ظرفاً أو مجروراً، فإن كان مفعولاً صريحاً لم يجز.
وقال الأستاذ أبو علي: "وهذا كسر للباب المطرد، وإذا أبقيناه على أصله كان أحسن، فنقول: العامل في الظرف معنى قوله (غير مكفور) أي: معتمد، وهذا معنى صحيح، وأما مثالهم فلا يصح على هذا لأن المعنى لا يعمل في المفعول الصريح" انتهى.
وقال ابن الدهان: التقدير فيه: لعندي مشكور؛ لأن ما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله وإن كان قد أجيز في (غير).
قال الزجاج: أنا أجيز: أنا زيداً ضارب، ولا أجيز: أنا زيداً مثل ضارب / لأنه يقدر غيراً بـ (لا)، ويقدر مثلاً بالكاف.
وينبغي أن يتوقف في دخولها على المفعول به المتقدم على عامله الخبر، ولا يقاس على تقدم الظرف والجار والمجرور لأنه يتسمح فيهما مالا يتسمح في غيرهما، فلا يقال "إن زيداً لطعامك آكل" حتى يسمع نظيره من لسان العرب. وظاهر كلام المصنف وكلام غيره إطلاق معمول خبر ما يجوز دخول اللام عليه. وهذا الإطلاق ليس بصحيح لأن معمول الخبر إذا كان حالاً لم تدخل اللام عليه، نحو: إن زيداً لضاحكاً مقبل، فلا يجوز هذا، ولم يسمع من لسانهم، ونص الأئمة على منعه.
ويشمل معمول الخبر أن يكون مفعولاً به، وظرفاً، ومجروراً، وحالاً، ومصدراً، ومفعولاً من أجله، وفي بعض هذه الأشياء خلاف، ونحن نذكر ذلك:
أما الحال فقد ذكرنا حكمها، وأنها لا يجوز دخول اللام عليها وإن كان القياس يقتضيه، قال أبو بكر: لا يدخلون هذه اللام على الحال، ولا على صفة، ولا تأكيد، ولا بدل. وقال ابن ولآد: سألت أبا إسحاق: هل يجوز: إن زيداً في الدار لحاضراً قائم، فتدخل هذه اللام في الحال، وتقدم كما قدمت الظرف وهو ملغى؟ فسكت، ولم يجب. قال ابن ولآد: والجواب فيها أن اللام لا تدخل في الحال تقدمت أو تأخرت لأن الحال لا تكون خبراً وهي حال، كالظرف يكون خبراً وهو ظرف.
وهذا الذي قاله ابن ولآد لا يتوجه على قول من قال في "ضربي زيداً قائماً" إنها حال سدت مسد الخبر كالظرف، وهو أيضاً معترض بالمفعول، وهو "إن زيداً لطعامك آكل"، فقد دخلت على الفضلة لما توسطت، ويمكن أن هذا هو الذي أسكت أبا إسحاق؛ ألا ترى أن المفعول به لا يكون خبراً، والقياس هنا على المفعول به ممكن لأنها
بمنزلته وبمنزلة الظرف أيضاً، إلا أنه لم يسمع، والله أعلم، وقد منعه الأئمة. انتهى من الإفصاح.
وفي (البسيط): "وأما دخول اللام على الحال من الخبر ففيه خلاف، فمن راعى أنه فضلة كالظرف أجاز، ومن راعى أنه لا يكون خبراً بخلاف الظرف لم يجز، وينبغي ألا يجوز [في] المفعول " انتهى.
وقال ابن خروف: وأما إن عندي لفي الدار زيداً، وإن عندي لقائماً صاحبك، فقياسه أن يجوز لتعلق الظرف والحال بما قبل الاسم، وأما "إن زيداً قائماً في الدار" فلا سبيل إليه لا باللام ولا بسقوطها لتقدم الحال على العامل، وهو معنى. وأما إذا كان الحرف وما دخل عليه علة للفعل، نحو: أن زيداً كي يقوم معترض، وإن زيداً ألا تغضب يأتيك، فأجاز دخول اللام على (كي) وعلى (أن) البصريون، ومنع ذلك/ الفراء.
وفي (الغرة): "ذكروا أن هذا اللام لا تدخل على النواصب ولا الجوازم، وإنما تدخل على الحروف الملغاة فمنعوا من قولهم: إن زيداً لكي تقوم يعطيك، وأجازوا: إن زيداً كي تقوم ليعطيك، ولو تعرض لهذا بصري لأجاز هذه المسألة على قول من قال: كيمه؟ كما تقول: إن زيداً لفي الدار قائم، وتقول: إن زيداً لما لينطلقن، الأولى لـ (إن)، والثانية للقسم، وزيدت (ما) فيه فاصلة" انتهى.
وأما إذا كان الظرف (مذ) في نحو "إن عبد الله مذ يومان غائب" فمنع ذلك الفراء، قال: لأن الفعل ليس بواقع على (مذ). ولا يجيز: إن عبد الله لمذ يومان غائب.
وقال الكسائي: إذا كان الفعل آخذاً للوقت الذي بعد (مذ) كله.
أدخلتُ اللام في (مذ) وفي الفعل الذي بعدها، فأقول: إن عبد الله لمذ يومان سائر؛ لأنه يسير اليومين، ولا أقول: إن عبد الله لمذ يومان غائب؛ لأني أقول: هو مذ يومان يسير، ولا أقول: هو مذ يومان يغيب.
قال الفراء: يلزمه أن يقول: إن عبد الله لحتى القيامة أخوك، ولا يقول: إن عبد الله لحتى القيامة مسيء لأن الأخوة تتصل به وهو ميت، ولا تتصل به الإساءة.
وقال الفراء أيضاً: قبيح أن تقول: إن عبد الله لليوم خارج، اليوم وقت، والفعل ليس بواقع على المواقيت كوقوعه على الأسماء لأنها في تأويل الجزاء، فلذلك قبح، وهو جائز.
ولا يجيز الفراء إدخال اللام على (حتى) ولا (مذ) ولا (إلى)، لا يجيز: إن سيرك لحتى الليل، ولا: لإلى الليل. وأجاز ذلك هشام والبصريون.
وأجاز س والبصريون: إن زيداً لفيها قائم، جعل (فيها) ملغاة. ومنعه الكوفيون، قالوا: لأن (فيها) لو كانت لغواً لم تؤكد. واحتج س بقول العرب: إن زيداً لبك مأخوذ.
وأما إذا كان المعمول مصدراً أو مفعولاً من أجله صراحاً، نحو: إن زيداً لقياماً قائم، وإن زيداً لأحسانا يزورك، فهو يندرج في عموم قولهم إنها تدخل على معمول الخبر.
وفي (البسيط): "وتدخل على الخبر وفضلته، نحو: إنَّ زيداً لفي
الدار لقائم، ولا يجوز عند الكوفيين، وأجازه الزجاج، ولا تدخل على غيرهما" انتهى.
وينبغي أن يتوقف في دخولها على المصدر والمفعول من أجله، ولا يقدم على جواز ذلك إلا بسماع.
وإذا تأخر معمول الخبر، وأدخلت اللام على الخبر، لم يجز دخول اللام على المفعول، نحو: إن زيداّ لقائم في الدار. وأجاز ذلك الزجاج، وأجاز: أن زيداً لقائم لفي الدار. ومنع ذلك المبرد. وهو الصحيح لأن ذلك لم يسمع، ولمنعه وجه من القياس، وذلك أنك إذا كررت اللام فقد وكدتها وإن كان المقصود بهما توكيد الخبر، والعرب لا تؤكد الحرف إلا بما يدخل عليه، أو بضميره، نحو: / مررت بزيد، أو به، وهنا ليس كذلك. وإذا أجاز الزجاج ذلك قياساً على قوله:{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} اعتقد أن اللامين جواب القسم، وليس كذلك لأن الأولى هي لام (إن)، والثانية لام جواب القسم المحذوف.
فرع: زعم الفراء أنه لا يجوز: إن زيداً لأظن قائم، ولا: إن زيداً لغير شك قائم، وإن زيداً لئن شاء الله قائم.
وقال ابن كيسان: لأنه كلام يعترض به من إخبارك عن نفسك كيف وصفت الخبر عن زيد شكاً كان عندك أو يقيناً، والتوكيد إنما هو لخبر زيد لا لخبرك عن نفسك لأن (إن) لا تتعلق بخبرك عن نفسك، وهي متجاوزة إلى الخبر.
وقوله وعلى الفصل المسمى عماداً مثاله قوله تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} . قال المصنف: "وجاز أن تدخل عليه لأنه مقو للخبر، فرفعه يوهم السامع كون الخبر تابعاً، فنزل منزلة الجزء الأول من الخبر، فحسن دخولها عليه لذلك، ومع ذلك لا يتعين لإمكان جعله مبتدأ". وقال ابن عصفور: "تدخل على الفصل لأنه هو اسمها في المعنى".
وقوله وأول جزأي الجملة الاسمية المخبر بها أولى من ثانيهما مثال دخولها على أول تلك الجملة قوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} ، وقول الشاعر:
إن الكريم لمن ترجوه ذو جدةٍ
…
ولو تعذر أيسار وتنويل
ومثال دخولها على ثانيهما قول الشاعر:
فإنك من حاربته لمحارب
…
شقي، ومن سالمته لسعيد
ومثله:
إن الألي وصفوا قومي لهم فأصخ
…
وعذبهم تلق من عاداك مخذولا
قال المصنف في الشرح: "وقدا شذ دخولها على ثاني جزأي الجملة الاسمية". وهذا يخالف ظاهر قوله في الفص "أولى من ثانيهما" لأن الأولوية تشعر بالجواز إشعاراً حسناً دون شذوذ. وحكي أبو الحسن: أن زيداً وجهه لحسن. قال في (البسيط): وهو شاذ. وإنما كان صدر الجملة الاسمية أولى والقياس لأنها كصدر الجملة الفعلية، ومحل اللام من الفعلية صدرها، فكذلك من الجملة الاسمية.
وفي (البسيط): أما دخولها على فضلة خبر المبتدأ إذا تقدم، أو الخبر إذا تقدم، نحو: إن زيداً لآتيه أبوه، أما الأول فجائز لأنه صار في مرتبة المبتدأ كما كان في حالة الابتداء، نحو: لطعامك زيد آكل، وأما الثاني فلكونه نفس الخبر، وهو ممنوع / فيه.
وهل يصح أن تدخل على التأكيد، نحو: إن زيداً لنفسه قائم؟ لم يتعرض له، وفيه نظر.
وقوله وربما دخلت على خبر (كان) الواقعة خبر (إن) مثاله ما ثبت في بعض نسخ البخاري من قول أم حبيبة رضي الله عنها: "إني كنت عن هذا لغنية"، قاله المصنف. وهذا من استدلال المصنف بما نقل في
الآثار، وقد أطلْنا الكلام معه في الاستدلال بذلك في كتابنا (التكميل)، فيوقف عليه هناك.
-[ص: ولا تدخل على أداة شرط، ولا على فعلٍ ماضٍ متصرفٍ حالٍ من (قد)، ولا على معموله المتقدم، خلافاً للأخفش، ولا على حرف نفي إلا في ندور، ولا على جواب الشرط، خلافاً لابن الأنباري، ولا على واو المصاحبة المغنية عن الخبر، خلافاً للكسائي. وقد يليها حرف التنفيس، خلافاً للكوفيين، وأجازوا دخولها بعد (لكن)، ولا حجة فيما أوردوه لشذوذه وإمكان الزيادة، كما زيدت مع الخبر مجرداً أو معمولاً لأمسى، أو زال، أو رأى، أو أن، أو ما. وربما زيدت بعد (إن) قبل الخبر المؤكد بها، وقبل همزتها مبدلة هاءً مع تأكيد الخبر أو تجريده. فإن صحبت بعد (إن) نون توكيد أو ماضياً متصرفاً عارياً من (قد) نوى قسم، وامتنع الكسر.]-
ش: إذا كان الخبر جملة شرطية لم يجز دخول اللام على الأداة، لا يجوز أن تقول: إن زيداً لئن يكرمني أكرمه، ولا: إن هند لمن يكرمها تكرمه، نص على منعه أصحابنا والفراء والكسائي؛ لأن الخبر إذ ذاك ليس هو المبتدأ ولا مشبهاً لما هو المبتدأ في المعنى.
وقال المصنف في الشرح: "المانع من دخولها على أداة الشرط خوف التباسها بالموطئة للقسم، لأنها تصحب أداة الشرط كثيراً، نحو {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فلو لحقت لام الابتداء أداة الشرط لذهب الوهم إلى أنها الموطئة، وحق المؤكد ألا يلتبس بغير مؤكد" انتهى.
وكذلك لو اعترض الشرط بين اسم (إن) وخبرها، نحو: إن زيدًا- لئن أتاك أو لئن يأتك- محسن، لا يجوز دخول اللام على الشرط، نص عليه الفراء.
وقوله ولا على فعل ماٍض متصرٍف خاٍل من (قد) احترز بقوله (متصرف) من الجامد، وبقوله:"خال من قد "من المصحوب بها، فإنه إن كان الفعل مصحوبًا بـ (قد)، أو غير متصرف، دخلت عليه اللام، نحو: إن زيدًا لقد قام، وإن زيدًا لنعم الرجل.
قال المصنف في الشرح: "ولا تدخل هذه اللام على فعل ماض إلا أن كان مقرونًا بـ (قد)، أو كان غير متصرف، وذلك لأنها في الأصل للاسم، فدخلت على الفعل المضارع لشبهه به، ولم تدخل على الماضي لعدم الشبه، فإن قرن بـ (قد) قربته من/ الحال، فأشبه المضارع، فجاز أن تدخل عليه، نحو: إنك لقد قمت. وإن كان الماضي غير متصرف كـ (نعم) جاز أن تلحقه لأنه يفيد الإنشاء، والإنشاء يستلزم الحضور، فيحصل بذلك شبه المضارع، فجاز أن يقال: إن زيدًا لنعم الرجل "انتهى كلامه.
وقال ابن عصفور: "إذا كان ماضيًا غير متصرف أشبه الإسم في عدم تصرفه، فدخلت عليه، أو متصرفًا لم يجز دخول اللام عليه إذا لم تدخل عليه (قد)، فإن دخلت عليه (قد) جاز دخولها عليه لأنها تقربه من الحال، فأجري في دخول اللام عليه مجرى الحال "انتهى كلامه.
وهكذا أورد هذان الشيخان حكم الماضي في جواز دخولها عليه ومنعه، ولم يذكروا في ذلك خلافًا، وفي كلتا المسألتين خلاف:
أما إذا كان ماضيًا متصرفًا غير مصحوب بـ (قد) فذهب س والفراء إلى أنه لا يجوز أن تدخل اللام عليه، فلا يقال: إن زيدًا لقام. وأجاز ذلك الكسائي وهشام على إضمار (قد).
قالوا: وحجة س في منعه أن حكم اللام أن تكون في أول الكلام، فلما أخرت وجب ألا تقع إلا على الاسم كما أن أول الكلام للأسماء، فوقعت على المضارع. وحجة الفراء أن (قام) فعل منقطع، ومعنى: إن عبد الله ليصوم ويصلي: إنه ليديم الصلاة والصوم، وليس هذا في الماضي. وأجاز أبو إسحاق: إن زيدًا لقام، على أنها لام قسم.
وذهب خطاب بن يوسف الماردي صاحب كتاب (الترشيح) إلى أن هذه اللام لا تدخل على الفعل الماضي سواء أكان مصحوبًا بـ (قد) أو غير مصحوب بها، وأنه إذا وجد في كلامهم: إن زيدًا لقام، أو: إن زيدًا لقد قام، فإن هذه اللام لام القسم لا لام الابتداء. وعلل المنع بأن الفعل الماضي ليس له معنى اسم الفاعل. قال: وهذا مما يضرب عنه لدقته.
والنحويون كالمجمعين على أن قولك "إن زيدًا لقد قام "اللام فيه هي اللام التي تصحب الخبر لا لام القسم إلا ما ذهب إليه خطاب. وفي (الغرة): منع الكوفي والبصري من قولهم: إن زيدًا لقام، على أن تكون لام الابتداء لبعد الماضي عن التعرب.
وأما إذا كان الفعل جامدًا، نحو نعم وبئس وعسى فذهب س إلى أنه لا يجوز دخول اللام عليه، فلا يجوز: إن زيدًا لنعم الرجل، ولا: إن زيدًا لعسى أن يقوم.
وذهب الأخفش والفراء إلى إجازة: إن زيد لنعم الرجل. وحجة الأخفش أن (نعم) لا يتصرف، فأشبه الأسماء. وحجة الفراء أن (نعم) في مذهبه اسم. قال الفراء: تقول: إن نعم رجلاً زيد. وهذا لا يجوز عند البصريين ولا عند غير الفراء من الكوفيين إلا أن تأتي بالهاء.
قال الفراء:/ ويجوز أن تقول: إن عبد الله لعسى أن يقوم. لأن (عسى) بمنزلة يعسي؛ ألا ترى أنها تطلب المستقبل، فلذلك لم ينطق العرب منها بـ (يفعل) إذ كان فعل منها ويفعل بمعنى واحد. وحكي أحمد بن يحيي أن الكسائي حكي: أعس بأن يفعل، وبالعسي أن يفعل.
والمنقول عن الكوفيين جواز دخول هذه اللام على الفعل الجامد، وهو قول كثير من أصحابنا. وممن نص على أن مذهب س منع ذلك أبو جعفر الصفار وأبو محمد بن السيد.
وينبغي أن يرجع عند الاختلاف إلى السماع، فإن وجد في كلامهم: إن زيدًا لنعم الرجل، ولعسى أن يقوم، قلناه، وإلا فلا. وفي كتاب أبي
الفضل الصفار أن الأخفش حكي: إن زيدًا لنعم الرجل، ولبئس الرجل. قال:"لأن هذا غير متصرف، فأشبه الاسم ". وينبغي أن يتثبت فيما حكاه عن الأخفش حتى يصح السماع من العرب.
وقوله ولا على معموله المتقدم أي: معمول الفعل الماضي المتصرف الخالي من (قد)، مثال ذلك: إن زيدًا لطعامك أكل، لا يجوز ذلك، خلافًا للأخفش والفراء، فإنهما يجيزان ذلك.
والصحيح المنع لأن دخول اللام على معمول الخبر فرع عن دخولها على الخبر، فلو دخلت على معموله مع أنها لا تدخل عليه لزم من ذلك ترجيح الفرع على الأصل.
وقوله ولا على حرف نفي إلا في ندور قال المصنف في الشرح: "لو كان الخبر منفيًا لم يجز اتصالها به لأن أكثر النفي بما أوله لام، فكره دخول لام على لام، ثم جرى النفي على سنن واحد، فلم يؤكد بلام خبر منفي "انتهى.
ونقول: أصل هذه اللام أن تدخل على الاسم المبتدأ، وإذا كان الاسم المبتدأ قد دخل عليه حرف النفي لم تدخل هذه اللام عليه ولا (إن) أيضًا، فإذا قلت: ما زيد منطلق، أو: لا رجل في الدار ولا امرأة، فلا يجوز أن تدخل لام الابتداء على هذا المبتدأ، فكذلك إذا كان الخبر منفيًا لا تدخل عليه هذه اللام.
وقوله إلا في ندور إشارة إلى ما أنشده أبو الفتح:
وأعلم إن تسليمًا وتركًا
…
للا متشابهان ولا سواء
قيل: شبه (لا) بـ (غير).
وقوله ولا على جواب الشرط، خلافًا لإبن الأنباري قال المصنف في الشرح:"لما كان الجواب غير صالح للتوطئة أجاز ابن الأنباري أن تلحقه لام الابتداء، إلا أن ذلك غير مستعمل، فالأجود ألا يحكم بجوازه " انتهى.
فقوله (والأجود) عبارة غير جيدة، وإنما ينبغي أن يقول "فلا يحكم بجوازه "لأن العرب إذا لم تدخل عليه اللام فلا ندخلها نحن.
ومثال دخولها على الجواب: إن زيدًا من يأته ليحسن إليه. ونص الكسائي والفراء على منع ذلك.
وقوله ولا على واو/ المصاحبة المغنية عن الخبر، خلافًا للكسائي مثاله: إن كل ثوب لو ثمنه، وإن كل ثوب لو قيمته. وهذا خطأ عند البصريين.
وقوله وقد يليها حرف التنفيس، خلافًا للكوفيين أجاز البصريون: إن زيدًا لسوف يقوم، ولم يجزه الكوفيون، وهو غلط قبيح عند البصريين لأن هذه قد دخلت على (سوف) للتوكيد في قوله تعالى:{ولَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} .
وقال بعض أصحابنا: وأما السين فامتنعت العرب من إدخال اللام
عليها وإن كانت كحرف من حروف الفعل، ولذلك لا يفصل بينها وبين الفعل كراهية توالي الحركات في لسيتدحرج مضارع تدحرج، ثم حمل على ذلك ما لا تتوالى فيه الحركات.
وقوله وأجازوا دخولها بعد (لكن)، ولا حجة فيما أوردوه لشذوذه وإمكان الزيادة نقل المصنف وابن عصفور أن الكوفيين أجازوا دخول اللام بعد (لكن)، قال المصنف: "اعتبارًا ببقاء معنى الابتداء معها كما بقي مع إن، واحتجاجًا بقول العرب:
................................
…
ولكنني من حبها لعميد
ولا حجة لهم في ذلك، أما الأول فلأن اللام لم تدخل بعد (إن) لبقاء معنى الابتداء فحسب، بل لأنها مثلها في التوكيد، و (لكن) بخلاف ذلك. ولأن معنى الابتداء مع (لكن) لم يبق، فإنه مفتقر إلى كلام قبله، فأشبهت (أن) المفتوحة المجمع على امتناع دخول اللام بعدها، واللام تقطع عن كل سابق، حتى إنها تعلق الأفعال القوية. وأما:
................................
…
ولكنني من حبها لعميد
فلا حجة فيه لشذوذ إذ لا يعلم له تتمة ولا قائل ولا راو عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته، والاستدلال بما هو هكذا في غاية الضعف، ولو صح إسناده إلى من يوثق بعربيته لوجه بجعل أصله: ولكن
إنني، ثم حذفت همزة (إن) ونون (لكن)، وجيء باللام في الخبر لأنه خبر (إن)، أو حمل على ان لامه زائدة "انتهى كلامه.
وقال أبو جعفر النحاس: "واعلم أن اللام لا تدخل على شيء من أخوات (إن) إلا على قول الفراء، فإنه أجاز أن تدخل اللام في خبر (لكن)، وأنشد:
................................
…
ولكنني من حبها لعميد
قال: وإنما جاز دخولها في (لكن) لأن معناه: لكن إن، فخففت نون (لكن)، وتركت الهمزة من (إن)، وسقطت نون (لكن) حيث استقبلت ساكنًا، كما قال:
فلست بآتيه، ولا أستطيعه
…
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل "
انتهى نقل أبي جعفر:
فبين النقلين تخالف، وهو أن المصنف وابن عصفور نقلا ذلك عن الكوفيين، والنحاس نقله عن الفراء وحده، وهما نقلا دخول اللام بعد (لكن) /، فيظهر من ذلك أنه يجوز دخولها على اسم (لكن) وعلى الخبر والمعمول على التفصيل الذي تقدم، والنحاس نقل دخولها على الخبر.
وفي (البسيط): لا نقول اتفاقًا: لكن عندي لزيدًا، وكذلك في الخبر.
وفي كلام المصنف مناقشات:
الأولى: أنه قال "إن الكوفيين أجازوا ذلك احتجاجًا بقول بعض العرب ". فقد أقر أنه قول بعض العرب. ثم قال: "ولا حجة فيه إذ لا
يعلم له تتمة ولا قائل ". وهذا لا يقدح في الإحتجاج، بل متى روي أنه من كلام العرب فليس من شرطه تعيين قائله. وأما كونه لا تتمة له فلا يقدح في ذلك لأنه إنما وقع الإعتناء بمكان الشاهد، فلا حاجة إلى معرفة ما قبله ولا ما بعده إذ لا شاهد فيه. وأما قوله "ولا عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته "فكفي بذلك نقل الكوفيين أو الفراء وإنشادهم إياه عن العرب، وفي كتاب س أبيات استشهد بها لا يعرف قائلها، ولا تروى إلا من (الكتاب)، واكتفينا بنقل س إياها واستشهاده بها.
الثانية: قوله "فأشبهت أن المفتوحة المجمع على امتناع دخول اللام بعدها ". وليس كما ذكر، بل فيه خلاف شاذ عن المبرد، وهو مسموع من كلام العرب، قرا بعض القراء:{إلَاّ إنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ} بفتح الهمزة، وقال الشاعر:
ألم تكن حلفت بالله العلي
…
أن مطاياك لمن خير المطي
وأنشده قطرب:
ألم تكن أقسمت بالله العلي
وحكي قطرب أيضًا أن بعضهم قال: "فإذا أني لبه ". وأنشد ابن دريد عن أبي عثمان:
فنافس أبا الغبراء فيها ابن زارع
…
على أنه فيها لغير منافس
روي بفتح همزة (أن). وينبغي أن يحمل ذلك على زيادة اللام، ولا يقاس على ما ورد من ذلك.
الثالثة: قوله: ولو صح إسناده إلى من يوثق بعربيته وجه "إلى آخر كلامه. وهذا هو قول الفراء في توجيه دخول اللام في خبر (لكن)، إلا أن المصنف أخذه وتبره، والفراء جوده، ويظهر ذلك من كلاميهما.
وقد أغفل المصنف مما ذكره أصحابنا مواضع:
أحدها: أن يكون الخبر جملة قسمية، فلا يجوز دخول اللام عليها، نحو: إن زيدًا لو الله ليقومن؛ لأن الخبر إذ ذاك ليس المبتدأ في المعنى ولا مشبهًا بما هو المبتدأ في المعنى.
الثاني: أنها لا تدخل على واو الحال السادة مسد الخبر، وأجاز ذلك الكسائي، فأجاز: إن شتمي زيدًا لو الناس ينظرون، كما أجاز إدخالها على واو (مع)، نحو: إن كل ثوب لوقيمته.
الثالث: أنها لا تدخل على الحال/ الصريحة التي تسد مسد الخبر، نحو: إن أكلي التفاحة نضيجة. وأجاز ذلك الكوفيون، فأجازوا: إن أكلي التفاحة لنضيجة.
وقوله كما زيدت مع الخبر مجردًا يعني مجردًا من (إن) في نحو قوله:
أم الحليس لعجوز شهربة
…
ترضى من اللحم بعظم الرقبة
وقد تقدم لنا أن الكسائي قال: وربما جاؤوا بها في الخبر وليس
في الكلام (إن). وأنشد هذا البيت، وهي عنده لام توكيد للخبر.
قال المصنف: "وأحسن ما زيدت في خبر المبتدأ المعطوف بعد (إن) المؤكد خبرها بها، كقول الشاعر:
إن الخلافة بعدهم لذميمة
…
وخلائف طرف لمما أحقر"
وقوله أو معمولاً لأمسى، أو زال، أو رأى، أو أن، أو ما مثال ذلك قول الشاعر:
مروا عجالى فقالوا: كيف سيدكم
…
فقال من سألوا: أمسى لمجهودا
وقول الآخر:
وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها
…
لكالهائم المقصى بكل مراد
وقول الآخر:
رأوك لفي ضراء أعيت، فثبتوا
…
بكفيك أسباب المنى والمآرب
وحكي قطرب: أراك لشاتمي، وقال تعالى {إلَاّ أنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ
الطَّعَامَ} في قراءة مَن فتح (أنَّ)، وقولُ الشاعر:
أَمْسَى أَيانُ ذَليلاً بعدَ عِزَّتِهِ وما أَبانُ لَمِنْ أَعْلاجِ سُودانِ
وقال الكوفيون: اللام بمعنى إلا، التقدير: وما أَبانُ إلا مِن أَعْلاجِ سُودان. فعلى تقدير المصنف نفي أن يكون أَبانُ مِن أَعلاجِ سُودان، وعلى تقدير الكوفيين أَثبتَ أنه منهم على طريق الحصر.
ويَتحمل عندي أن يكون قوله (وما أَبانُ) استفهاماً على سبيل التحقير، ويكون قوله (لَمِنْ أَعلاجِ سُودان) على إضمار (هو) أي: لَهُوَ مِنْ أَعلاجِ سُودان، واللام لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، ويكون المعنى على تحقير شأن أَبان، كما أنه كذلك في تقدير الكوفيين جُملة، وفي تقديرنا جُملتان.
وقوله وربَّما زيدتْ بعدَ (إنَّ) قبلَ الحبرِ الموكَّد بِها هذه مسألة خلاف: ذهب المبرد إلى أنه يَجوز دخول هذه اللام على معمول الخبر المقدَّم وعلى الخبر، فتقول: إنَّ زيداً لَطعامَك لآكلٌ، تعاد اللام توكيداً. وذهب الزجاج إلى منع ذلك.
نَقل هذا الخلافَ ابنُ عصفور، وقال ابن عصفور: (المنع الصحيح لأنَّ الحرف إذا وُكِّدَ فإنما يُعاد مع ما دخل عليه أو مع ضميره، وأمّا أن يُعاد من غير إعادة ما دخل عليه فلا يَجوز إلا في الضرورة،
فينبغي إذا أُعيدت اللام أن يقال: إنَّ زيداً لَفي الدار قائمٌ [لَفِي الدارِ قائمٌ]) انتهى.
والصحيح جواز ذلك لوجوده في لسان العرب نثراً ونظمًا:
أمّا النثر فما رواه الكسائي والفراء أنَّ من كلام العرب: إنِّي لَيحَمْدِ اللَّهِ لَصالِحٌ، وحكي قطرب عن يونس: إنَّ زيداً لَببكَ لَواثِقٌ.
وأما النظم فقولُه:
إنِّي لَعِندَ أَذَى المَوْلَى لّذُو حَنَقٍ يُخْشَى، وحِلْمي إذا أُوذيتُ مُعْتادُ
قال المصنف: (وذكر السيرافي أنَّ المبرد كان لا يرى تكرار اللام، وأنَّ الزجاج أجاز ذلك، واختار السيرافي قول المبرد، وليس بِمختار للشواهد المذكورة) انتهى.
فقد اختلف نقلُ ابن عصفور ونقلُ السيرافي على ما نَقل عنه المصنف عن المبرد والزجاج، ويَمكن أن يكون لكل واحد منهما قولان.
وقوله وقبل همزتها مبدلةً هاءً مع تأكيدِ الخبرِ أو تَجريدهِ مثاله مع توكيد الخبر قولُ الشاعر:
لَهنَّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمةٌ على هَنَواتٍ كاذِبٍ مَنْ يَقُولُها
هكذا أنشده المصنف، وأنشده أحمد بن يحيى:
....................... على هَنواتٍ، شانُها مُتتابِعُ
وأنشده أبو زيد:
لَهِنِّي لأَشْقَى الناسِ إنْ كُنتُ غارِمًا لدُومةَ بكْراً ضيَّعَتْهُ الأَراقِمُ
وقولُ الآخر:
أَبائنةٌ حُبَّي، نعمْ وتُماضِرٌ
…
لَهِنَّا لَمَقْضِيٌّ علينا التهاجُرُ
وقول الآخر:
وأمَا لَهِنكَ مِنْ تَذَكُّرِ عَهدِها لعَلى شفَا يَاسٍ وإنْ لَمْ تيْأَسِ
وقولُ الآخر:
......................... لَهِنَّكِ فِي الدنيا لَباقِيةُ العُمْرِ
ومثالُها مع تَجَرُّد الخبر قولُ الشاعر:
ألا يا سَنا بَرْقٍ على قلَلِ الحمَى لَهِنَّكَ مِنْ بَرْقٍ عليَّ كَريمُ
وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدهما: أنَّ اللام لام الابتداء، وجاز دخولها عليها لأنه قد أُبدل من همزتِها هاء، فتغير لفظها بالبدل، فجاز الجمع بينهما تنبيهًا بها على موضعها الأصلي. وإلى هذا ذهب بعض النحويين والمصنف.
ورُدَّ ذلك بأنَّ إبدال همزة (إنَّ) هاء لا يُزيل عنها معنى التأكيد، وإذا لم يُزل عنها معنى التأكيد فلا يَجوز الجمع بينهما لِما في ذلك من الجمع بين حرفين لمعنّى واحد. ونَحا نَحوَ هذا المذهب أبو الفتح، فزعم أنَّ اللام في (لَهِنَّك) لام الابتداء، وزعم أنَّ الثانية زائدة كما زيدت في خبر (أنَّ) المفتوحة.
الثاني: ما ذهب إليه س وابن السراج وجماعة، وقد نسب إلى
الفارسي، وهو أنَّ هذه اللام هي التي تدخل في جواب القسم لا لام (إنَّ). واستدلوا على ذلك بدخول اللام على الخبر، فدخولها على الخبر يدل على أنَّها ليست اللام الداخلة على الخبر، وإنما هي جوابٌ لقسم محذوف. قال س:(وهذه كلمة تَتَكلم بِها، وتقول: لَهِنَّك لَرَجُلُ صِدْقٍ، فهي (إنَّ)، ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف، ولَحقت هذه اللام (إنَّ)، فاللام الأُولَى في (لَهِنَّك) لام اليمين، والثانية لام إنَّ).
ورُدَّ هذا المذهب بأنَّ لام القسم معناها التأكيد، فلا ينبغي أن تجتمع مع (إنَّ) لأنَّ في ذلك جَمعًا بين حرفين لمعنَى واحد.
الثالث: ما ذهب إليه قطرب والفراء والمفضل بن سلمة والفارسي، وهو أن يكون الأصل: لَهِ إنَّك، فهما كلمتان، ومعنى لَهِ: واللَّهِ، و (إنَّ) جواب القسم. ويدل على ذلك أنَّ أبا زيد حكي أنَّ أبا أدهم الكلابي قال: لَهِ رَبِّي لا أقولُ ذلك، يريد: واللَّهِ رَبِّي لا أقولُ ذلك، وحذفت همزة (إنَّ) تخفيفاً، كما حُذفت في قوله:
يا با المُغِيرةِ ....................... .............................
وقراءةِ مَنْ قرأ: (إنَّها لَحْدي الكُبَرِ). وحكي قطرب أنَّهم يقولون (لَهْ) بالإسكان، فعلى هذا يَجوز أن يكون الأصل: لَهْ إنَّك، فأُلقيت على الهاء حركة الهمزة، وحُذقت الهمزة، على حد قولهم في مَنْ آمَنَ: مَنَ امَنَ. وهذا المذهب اختاره الأستاذ أبو الحسن بن عصفور.
وفيه شذوذ من وجوه:
أحدهما: حذف حرف القسم وإبقاء الخبر من غير عوض.
والثاني: حذف (أل) من لفظ (اللَّه).
الثالث: حذف الألف التي بعد اللام.
الرابع: حذف همزة (إنَّ).
ويُضَعِّفه أيضًا أنه لم يَجئ ذلك مع إقرار همزة (إنَّ)، ولو كان على ما زعموا لجاء في موضع (لَهِ) إنَّك) بإثبات الهمزة.
ويجوز دخول اللام على كأنَّ، قال الشاعر:
قُمْتَ تَعْدُو لَكَأَنْ لَمْ تَشْعُرِ
وقوله فإن صَحِبَتْ بعدَ (إنَّ) نونَ توكيدٍ، أو ماضيًا متصرفًا عاريًا من (قد)، نُوي قَسَمٌ، وامتنع الكسر مثال ذلك: إنَّ زيداً لَيَقومَنَّ، وإنَّ زيداً
لَقامَ، فهذه اللام جوابٌ لقسمٍ محذوف، التقدير: واللَّه لَيقومَنَّ، ووَاللَّهِ لَقامَ.
ويعني بقوله وامتنع الكسر أي: إذا تقدم على (إنَّ) ما يَطلب موضعها فإنَّها تُفتح إذ ذاك، ولا تُكسَر، نحو: عَلِمتُ أنَّ زيداً لَقامَ، ولا يعني أنه يَمتنع الكسر على الإطلاق. وإنَّما فُتحت (أنَّ) لأنَّها إذا كانت اللام جواب القسم وقعت موقعها، ولم يُنْوَ بِها التقديم قبل (إنَّ) بخلاف اللام في نحو: عَلَمتُ إنَّ زيداً لَمُنطلقٌ، فإنَّ (إنَّ) تُكسر معها، ويُعَلَّق الفعل عن فتح (أنَّ) لأنها مُقَدَّمة في النية على (أنَّ)، وإنَّما أُخِّرت للعلة التي تقدر ذكرها، وهذه اللام تُزيل شَبهَ عَلِمتُ بأَعطيتُ، وإذا زال الشَّبَهُ حُكم لما بعدها بحكم الجملة لا بحكم المفرد، و (إنَّ) إذا وقعت في موضع هو للجملة كانت مكسورة، ولا يُمكن أن تقدر هذه اللام بعد (إنَّ) لأنَّها لو كانت في التقدير في ذلك الموضع لَلَزِمَ أن يَبطُل عمل (إنَّ) كما بَطَلَ بِها عملُ (عَلِمتُ)، فلَمّا أعملوها دَلَّ ذلك على أنَّ النية بِها أن تكون قبل (إنَّ) لا بعدها.
-[ص: فصل
تُرادف (إنَّ)(نَعَمْ)، فلا إعمال، وتُخَفَّف فَيبطل الاختصاص، ويَغلِبُ الإهمال، وتلتزم اللام بعدها فارقةً إنْ خيفَ لَبْسٌ ب (إنِ) النافية، ولم يكن بعدها نفي. وليست غيرَ الابتدائية، خلافاً لأبي علي، ولا يليها غالباً من الأفعال إلا ماضٍ ناسخٌ للابتداء، ويقاس على نحو (إنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِماً) وفاقاً للكوفيين والأخفش، ولا تَعمل عندهم ولا تؤكَّد، بل تُفيد النفي، واللام للإيجاب.
وموقع (لكنَّ) بين مُتنافَيينِ بوجهٍ ما، ويُمنَع إعمالُها مُخففةً، خلافًا ليونس والأخفش. وتَلي (ما)(ليتَ)، فتُعمَل وتُهمَل. وَقَلَّ الإعمال في (إنَّما)، وعُدم سماعُه في (كأنَّما) و (لعلَّما) و (لكنَّما)، والقياس سائغ.]-
ش: اختُلف في (إنَّ) هل تأتي بمعنى (نَعَمْ) حرفَ جواب، غلا يكون لها إذ ذاك عمل، أو لا تكون بمعنى (نَعَمْ) البتة؟ فذهب بعضهم إلى إثبات ذلك، وهو قول س والأخفش واختيار المصنف. وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك، وهو قول أبي عبيدة واختيار ابن عصفور.
وزعم المصنف أنَّ الشواهد قاطعة بذلك من لسان العرب، فمِمّا أنشد قولُ حسان:
يَقولونَ: أَعْمَى، قُلتُ: إنَّ، ورُبَّما أَكونُ، وإنِّي مِنْ فَتّى لَبَصيرُ
وقولُ بعض طيئ:
قالوا: أَخِفتَ، فقلتُ: إنَّ، وخِيفتِي ما إنْ تَزالُ مَنُوطةً بِرَجاءِ
وما أنشده أحمد بن يحيى:
ليتَ شِعْري هل لِلْمُحِبِّ شِفاءٌ مِنْ جَوَى حُبِّهِنَّ؟ إنَّ، اللِّقاءُ
وقال ابن الزًّبِير الأسدي لعبدِ اللَّهِ بن الزُّبَير: لَعَنَ اللَّه ناقةً حَمَلَتْنِي إليك. فقال ابن الزُّبَير إنَّ وراكِبَها. وأنشد غير المصنف:
قالوا: غَدَرتَ، فقلتُ: إنَّ، ورُبَّما نالَ المُنَى وشَفي الغَليلَ الغادرُ
وقوله:
بَكَرَ العَواذلُ في الصَّبًو
…
حِ يَلُمْنَنِي وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ: شَيبٌ قد علا
…
كَ، وقد كَبِرتَ، فقلتُ: إنَّه
وقال الأخفش في قوله تعالى {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} : إنَّ بِمعنى نَعَمْ.
وما ذكروه لا ينهض أن يكون دليلاً على مرادفة (إنَّ) ل (نَعَمْ) إذ يحتمل أن تكون هي العاملة.
فأمَّا قوله (فقُلتُ إنَّه) فهو من حذف خبر (إنَّ)، وقد تقدم أنه يَجوز لفهم المعنى، التقدير: إنَّه كما قُلْتنَّ.
وأمّا قوله (إنَّ اللِّقاءُ) فهو من حذف الاسم لفهم المعنى، وقد تقدم أنه يَجوز، كما قال:
.................................... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظيمُ المَشافرِ
والتقدير: إنَّه اللقاء، أي: إنَّ الشِّفاءَ اللقاءُ.
وأما قوله:
يَقولونَ: أَعْمَى، قُلتُ: إنَّ ............. .........................
و:
قالوا: أَخِفْتَ؟ فقُلتُ: إنَّ ............. .......................
وقولُ ابن الزُّبَير (إنَّ وصاحِبَها)، و:
قالوا: غَدَرْتَ، فقُلتُ: إنَّ ............. ........................
فهو مِمّا حُذف فيه الاسم والخبر لفهم المعنى، ولا يَجوز حذفهما معاً إلا في (إنَّ)، والتقدير: قلتُ إنَّ عَمايَ واقعٌ، وإنَّ خوفي واقعٌ، وإنَّها مَلعونةٌ وصاحبَها، وإنَّ غَدْري نافعٌ.
وهذا المذهب أولَى لأنه قد تقرر فيها أنَّها تنصب الاسم وترفع الخبر، ولم يستقر فيها أن تكون بمعنى (نَعَمْ).
فإن قلت: حَذْفُ الجملة حتى لا يبقى منها إلا حرف واحد-وهو أنَّ-إخلالٌ بِها.
فالجواب: أنّ العرب قد فعلت مثل ذلك، نحوُ قوله:
أَفِدَ التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا
…
لَمّا تَزُلْ بِرِحاِلنا، وكأنْ قَدِ
يريد: وكأنْ قد زالت، فحذف لفهم المعنى. ومن كلامهم: قارَبتُ المدينةَ ولَمّا، ومثلُه قول الشاعر:
قالتْ بَناتُ العَمّ: يا سَلْمَى وأن
…
كانَ غَبِيّاً مُعْدِماً؟
قالتْ: وأن حَذَفَ فعل الشرط وجوابه لفهم المعنى، وأبقى الأداة وحدها، والتقدير: وإنْ كان غَبِيّاً مُعْدِماً تَمَنَّيتُه.
فأمّا قولُ الشاعر:
إذا قالَ صَحْبِي: إنَّك اليومَ رائحٌ
…
ولم تَقْضِ منها حاجةً قلتُ: إنَّ لا
فقيل: إنَّ التقدير: إنه لا تَتِمُّ لي حاجة. وقيل: (إنَّ) بِمعنى (نَعَمْ).وكذلك ما أنشد الكسائي:
أنَّ لا خَيرَ فيه أَبْعَدَهُ الله
…
لَيُزْري بِنَفسِهِ ويَرِي
قال الكسائي: (أنَّ) فيه بمعنى (نَعَمْ).
وأُوَّلَ على حذف الاسم، ويدل على ذلك وجود اللام في (لَيُزْري).
وقوله وتُخَفَّفُ فيَبْطُلُ الاختصاصُ، ويَغْلِبُ الإهمالُ يعني بِبُطْلِ الاختصاص أنَّها لا تَختص بالجملة الابتدائية كما كانت وهي مشددة، بل تليها الجملة الاسمية والجملة الفعلية على ما سيُبًيَّن إن شاء الله.
فإذا خُفت جاز إعمالها على قلة، وحالها إذا أعملت كحالها وهي مشددة إلا أنَّها لا تعمل في الضمير إلا ضرورة بخلاف المشددة، تقول"إنك قائمٌ" بالتشديد، ولا يَجوز "إنْكَ قائمٌ" بالتخفيف. وأمّا في دخول اللام وغير ذلك من الأحكام فهي كالمشددة سواء، تقول: إنْ زيداً منطلقٌ، ولَمُنطلقٌ، وإنْ في الدار لَزيداً، إلى غير ذلك من الأحكام.
ومنع الكوفيون إعمال (إنِ) المخففة، وهم محوجون برواية س والأخفش ذلك عن العرب، وعليه قراءة نافع:{وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} .
ويدل على أنَّها بمعنى المشددة قراءة ابن كثير وأبى عمرو الكسائي: {وإنَّ كُلاًّ لَّمَّا} بالتشديد. وقال س:"حدثنا مَن نثق أنه سمع من العرب مَن يقول: إنْ زيداً لَمُنطلقٌ، وهي مثل {إنَّ
كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} يُقرأ بالنصب والرفع".
وملخص مذهب الكوفيين أنَّ (إنَّ) لا يَجوز تخفيفها وإعمالها، ولا يَجوز تخفيفها وإهمالها؛ لأنَّهم زعموا أنَّ (إنِ) المخففة هي (إنِ) النافية، أو بمعني (قد) على ما نبينه، إن شاء اللَّه.
فالمخففة عند البصريين هي ثلاثية الوضع، وهي عند الكوفيين ثنائية الوضع، فلم يرد الخلافِ على (مَحَزِّ) واحد، فلا ينبغي أن يقال: اختلفوا في (إنَّ) إذا خففت هل يَجوز إعمالها أو لا؛ لأنَّ الكوفيين لا يذهبون إلى أنَّها إذا وليتها الجملة الاسمية أو الفعلية ولزمت اللام هي المخففة من الثقيلة، بل هي حرفِ ثنائي الوضع، وهى نافية.
ويعني بِغَلَبة الإهمال أنه يكثر فيها، وإذا غلب الإهمال دل على أنَّ الإعمال قليل.
وقوله وتَلزَمُ اللاُم بعدًها فارقهً إنْ خِيفَ لَبْسٌ بِ (إنِ) النافية، ولم يكن بعدها نفي كان ينبغي أن يبين محل لزوم اللام فيقول "في ثاني الجزأين"، فتقول: إنْ زيدٌ في الدار لَزيٌد. وشَرَطَ في لزوم هذه اللام شرطين:
أحدهما: أن يُخاف اللبس بِ (إنِ) النافية، قال المصنف في الشرح: "فلا تلزم مع الإعمال لعدم الالتباس، وكذلك لا تلزم في
الإهمال في موضع لا يصلح للنفي، كقول الطرماح:
أنا ابنُ أُباةِ الضَّيمِ مِنْ آل مالكٍ
…
وإنْ مالكٌ كانت كِرامَ المَعادنِ"
انتهى. فلم يدخلها على (كانت) لأنه يقتضي البيت المدح، فلا تلبس (إنْ) فيه بـ (إنِ) النافية لأنه إذ ذاك يكون هجواً، فيُضادُّ أولُ البيت آخره.
الشرط الثاني: ألا يكون بعدها نفي، نحو: إنْ زيدٌ لن يقوم، وإنْ زيدٌ لم يقم، أو ليس قائماً، أو ما يقوم، فهذا كله لا يَجوز دخول اللام عليه.
وهذا الشرط الثاني غير محتاج إليه البتة لأنه إذا كان الخبر منفياً لم يدخل حرف النفي، فلا تالتبس فيه (إنِ) التي للتوكيد المخففة/ من الثقيلة بِ (إنِ) ، النافية، فينبغي أن يُكتفي بالشرط الأول، وهو: إن خيف لبس بِ (إنِ) النافية.
ثم قول المصنف"وتلزم" إلى آخره يدل علي إنه إذا خيف لبس أو كان يعدها نفي لا تلزم، وتحت هذا المفهوم شيئان: أحدهما الجواز. والآخر المنع. فكان ينبغي أن يبين محل الجواز، ومحل المنع، فمحلُّ المنع إذا كان الخبر منفياً، فلا تدخل اللام عليه أصلاً' ومحل الجواز إذا كانت عاملة، أو كانت في مثل بيت الطر ماح، أو فيما روى"إن كان رسولُ اللَّهِ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ"، المعنى على الإثبات، ولا يحتمل النفي لأنه قد عُلم من حاله صلى الله عليه وسلم.
وقوله وليستْ غيرَ الابتدائية، خلافاً لأبي علي اختلف النحويون في هذه اللام:
فذهب س والأخفش سعيد بن مَسْعَدة والأخفش علىُّ بن سليمان وأكثر نحاة بغداد ومن أئمة بلادنا أبو الحسن بن الأخضر إلى أنَّها لام الابتداء التي كانت مع المشددة، لَزِمت للفرق ، وهو اختيار ابن عصفور وهذا المصنف.
وذهب الفارسي ومن أئمة بلادنا أبو عبد اللَّه بن أبي العافية والأستاذ أبو علي، واختاره من شيوخنا أبو الحسين بن أبي الربيع، إلى أنَّها ليست لام (إنَّ) المشددة التي لابتداء، بل هي لام أخرى اجتُلبت للفرق.
واستدل أبو علي علي أنَّها ليست لام (إنَّ) بأنَّ لام (إنَّ) حكمها أن تدخل على (إنَّ) حتى تكون متقدمة على اسم (إنَّ) الذي هو مبتدأ في الأصل، فأُخرت للخبر لئلا يجتمع تأكيدان؛ إذا كان الخبر هو المبتدأ في المعنى أو ما هو واقع موقعة أو راجع إليه، وقد بُيِّنَ ذلك، و (إنْ) هذه تدخل علي الفعل، نحو قوله تعالى:{وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} ، والفعل ليس مبتدأ في الأصل.
وأيضاً فإنَّها يعمل ما قبلها فيما بعدها؛ ألا ترى أنَّ (وَجَدَ) نصب (فاسقين) ، ولام (إنَّ) لا يعمل ما قبلها فيما بعدها، لو قلت"إنَّك قَتَلتَ لَمُسلِماً"لم يَجز.
وأيضاً فإنَّها تدخل علي ما ليس مبتدأ ولا خبراً في الأصل ولا راجعاً إلى الخبر؛ ألا ترى أنَّها قد دخلت علي الفاعل في "إنْ يَشينُك لَنَفسُك"، وعلي المفعول في قوله:
.... إنْ قَتَلتَ لَمُسلِماً
…
................
ولام (إنَّ) لا تدخل علي شيء من ذلك. فإذا لم تكن لامَ الابتداء، ولا هي لام القسم، لأنَها لا تدخل على الاسم إلا إن كان مبتدأ، نحو: لَزيدٌ قائمٌ، فلم يبق إلا أن تكون لاماً اجتُلبت للفرق، وإذا كانت مُجتلَبة للفرق، ولم تكن اللام التي توجب التعليق، لم يمنع مانع من فتح (إنْ) إذا وقعت بعد (علمت). قال:"وإذا فُتحت لم تَحتج إلي اللام لأنَّها إذ ذاك لا تالتبس بـ (إنِ) النافية فتحتاج إلى الفرق".قال:"وإن شئت أَثبتَّ اللام على طريق التأكيد".
واستدل ابن أبي/ العافية أيضًا بدخولها على الماضي، نحو: إن
زيداً لَقامَ. وسيأتي في ذكر دليل القول الآخر إنكار: إنْ زيدٌ لَقامَ، وأنه غير مسموع من العرب.
وحكي ابن جني أنَّ أبا علي قال: ظننت فالناً انه نحوي مُحسِن حتى سمعتُه يقول: اللام التي تصحب (إنِ) الخفيفة هي لام الابتداء. قال: فقلت له: أكثرُ نَحْوِيِّي بغداد علي هذا.
وقد استُدل للمذهب الأول بأنَّها لا تدخل في فصيح الكلام إلا علي ما هو خبر مبتدأ في الأصل؛ ألا ترى دخولها علي خبر (كان) وثاني معمولي (ظَنَّ)، ولا يوجد من كلامهم: إنْ نظن زيداً رجلاً لَعاقلاً؛ لأنَّ عاقلاً ليس بخبر مبتدأ في الأصل، ولذلك منع النحويون"إنْ ظننتُ زيداً لَفي الدار قائماً" إن جعلت"في الدار" من صلة (قائم) ، فإن جعلته في موضع المفعول الثاني، وجعلت قائماً حالاً، جاز.
وكذلك أيضاً منع الأخفش: إن زيدٌ ذهبَ، أدخلتَ اللام علي (ذَهَبَ) أو لم تدخلها؛ لأنك إن لم تدخلها التبس بـ (إنِ) النافية، وإن أدخلتها لزم أن تدخل لام (إنَّ) علي الخبر، وهو فعل ماضٍ متصرف، وذلك لا يَجوز، ولو كانت فارقة ولم تكن لام (إنَّ) لم يَمتنع دخولها على (ذهب) ، فعدم وجود مثل"إنْ زيدٌ لَذَهَبَ" في كلامهم دليل علي ما ذكرناه من أنَّها لام (إنَّ) ألزمت الكلام للفرق، ولزم تثقيل (إنَّ) في: إنَّ زيداً ذَهب، وإعمالها.
وعوملت معمولات النواسخ التي هي أخبار للمبتدأ في الأصل معاملة أخبار (إنَّ) ، كما عوملت النواسخ في دخول (إنَّ) عليها معاملة المبتدأ والخبر. وإذا ثَبَتَ بِما ذكرناه أنَّها لام (إنَّ) لزم تعليقها الفعل عن (إنَّ) فإذا عَلَّقَتْه بقيت على كسرها بعده.
ومن دخول (علمت) علي (إنِ) المخففة من الثقيلة ما جاء في الحديث المشهور من قوله صلى الله عليه وسلم "قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لَمُؤْمِناً" بكسر (إنْ) علي مذهب أبي الحسن، وبفتحها علي مذهب أبي علي، والصحيح الكسر لِما ذكرناه.
وقال س في باب عِدّه ما يكون عليه الكلم: "و (إنَّ) توكيد لقوله: زيدٌ منطلقٌ، فإذا خففت فهي كذلك تؤكد ما تكلم به، وتثبت الكلام، غير أنَّ لام التوكيد تلزمها عوضاً مما حذف منها" انتهى كلامه. ولام التوكيد عنده عبارة عن لام الابتداء.
وقال الأخفش في كتاب (المسائل الكبير) نصاً: "إنَّ اللام الواقعة بعد المخففة هي الواقعة بعد المشددة".
واستدل ابن الأخضر: بأنَّ لام الابتداء في الأصل لا تدخل إلا على المبتدأ، فلما أن صَحِبَت (إنَّ) جاز فيها ما لم يَجز مع الابتداء المحض من دخولها علي الخبر وعلي الفضلة المتوسطة وعلي الاسم مؤخراً، ولو قلت"في الدار لَزيدٌ"لو يَجز، فكذلك لا ينكر هنا دخولها علي الجملة الفعلية بحكم التتبع لـ (إنَّ) ،ولأنَّ ضرورة/ الفرق تفعل هنا أكثر مما تفعل مع (إنَّ) لذهاب الاسم.
وثمرة الخلاف دخولُ (علمت) وأخواتِها، فإن كانت للفرق لم
تُعَلِّق، وإن كان للابتداء عَلَّقَت، ولهذا اختلف ابن الأخضر وبن أبي العافية في الحديث المشهور"قد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لَمُؤْمِناً"،كما اختلف فيه الأخفش الصغير والفارسي. فقال الأخفش: لا يَجوز إلا الكسر. وقال الفارسي: لا يَجوز إلا الفتح، كما قال ابن أبي العافية. وقال ابن الأخضر: قد ثبتت اللام في الرواية بلا شك، وهي لا تكون مع (أنَّ) المفتوحة أصلاً كما لا تكون مع (إنْ) إذا عملت لأنه لا احتياج للفرق. وقال ابن أبي العافية: كسر (إنْ) هو الأصل، فلما فُتحت بسبب (علمت) أبقيت اللام إشعاراً بأصلها.
ورُدَّ عليه بأنَّ هذا بعيد لأنَّ (علمت) لا تدخل إلا علي ما كان قبلها في موضع الابتداء، فإذا دخلت غَيَّرَت ذلك، ولم يُشعروا علي الأصل بشيء، ونظير ما قال دخول اللام في: ظننت إنَّ زيداً لَقائٌم، ولا قائل به.
قال بعض أصحابنا: وهذا لا يلزمه لأنَّ (ظَننتُ) لا تدخل علي اللام إلا مُعلّقة، ولا يقال أذهبت اللام بعد ما دخلت.
وقد نوقض بأنَّ كل مفتوحة من مشددة أو مخففة أصلها الكسر، وإنما يفتحها العامل، وكان ينبغي أن تكون اللام مع كلِّ مفتوحة، ولم توجد مع المفتوحة. وهذا لا أراه يلزمه، يعتقد خلاص هذا المذهب، ولا حجة تقطع به.
واحتج بن أبي العافية أيضاً: بأنَّها إذا خُففت فهي حرف ابتداء بلا خلاف، بمنزلة إنَّما وكأنَّما ولعلَّما وسائر حروف الابتداء الداخلة علي الجملتين؛ ولا شيء هنا تدخل عليه لام الابتداء، فكذلك (إنْ) هاهنا.
وهذا لا يلزم عندي لأنَّ اللام من حروف الصدور، وتكون جواب القسم، فلا يتقدمها شيء كحرف النفي والجزاء والاستفهام والشرط في الصدر.
والمذهبان متكافئان لأنَّا إذا قلنا هي لام الابتداء كان ثباتُها واجباً. وإذا قلنا ليست لام الابتداء كان ثباتُها نوعا من المجاز والتوسع. والقول بالحقيقة أولىَ. وإذا قلنا إنَّها لام الابتداء قلنا دخلت علي الجمل الفعلية لوجهِ كذا، وهذا يَجوز. والقول إنَّها لم تدخل هو الحقيقة لأنَّ أصلها ألا تدخل هنا، وإنما قلنا بأنَّها خرجت عن أصلها في المشددة للسمع المقطوع به، فليس لنا أن نقول بخروج آخر لا دليل علية.
وقال الأستاذ أبوعلي: الوجه عندي ما قال ابن أبي العافية لِما ذكر من الحجج.
ثم قال: إذا قلت: "إنْ كنت لَقائماً" أشبه النفي، ولم يمكن سوق لام الابتداء/لأنَّ هذا ليس من مواضعها، فأتوا بلام فارقة، انتهى.
وهذا وجهه انه قول ثالث يؤول إلى التفريق، فيقال: إذا دخلت علي جمله ابتدائية لزمت اللام الابتدائية للفرق، وإذا دخلت علي جملة فعليه أدخلوا لاماً للفرق، لأنَّ لام الابتداء لا تدخل علي الجملة الفعلية، فعلى هذا يكون في اللام ثلاثة مذاهب: لام ابتداء لزمت سواء أدخلت علي الاسم أم علي الفعل. ولام فارقة ليست لام ابتداء سواء أدخلت على الاسم أم علي الفعل. والتفصيل بين أن تدخل علي الاسم فتكون لام الابتداء أُلزمت للفرق، أو على الفعل فتكون اللام الفارقة.
وقوله ولا يليها غالباً من الأفعال إلا ماض ناسخ للابتداء احترز بقوله"غالباً" من نحو:
........ إنْ قَتَلتَ لَمُسلِماً .................. واشترط المضي ليس بصحيح، بل قد يكون ماضياً، وقد يكون مضارعاً، فالماضي كقوله:{وإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} {وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ} ، والمضارع كقوله {وَإِن نَّظُنُّكَ لأَمِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} وفي قراءة أبي {وإنْ إخالُكَ يا فِرْعَوْنُ لَمَثْبُورًا} .
وقال المصنف: ((ولا يكون ذلك الفعل إلا بلفظ الماضي، فإن كان مضارعا حفظ، ولم يقس عليه)). ولا أعلم أحدا من أصحابنا وافقه، بل أجازوا ذلك مع الماضي ومع المضارع.
وأطلق المصنف في قوله ((ناسخ للابتداء)) ، وكان ينبغي أن يقيد ذلك بالمثبت غير الواقع صلة، فلا تدخل علي (ليس) ، ولا علي ما زال، وما انفك، وما فتئ، وما برح، ولا علي دام.
وقوله ويقاس علي نحو (إن قتلت لمسلما) وفاقا للكوفيين والأخفش أشار بقوله ((إن قتلت لمسلما)) إلي قول الشاعر:
شلت يمينك إن قتلت لمسلما وجبت عليك عقوبة المتعمد
ونحو ما روي الكوفيون من قول العرب: إن قنعت كاتبك لسوطا، وإن يزينك لنفسك، وإن يشينك لهيه، وقرأ ابن مسعود:{إنْ لَبِثْتُمْ لَقَليلاً} ، أدخل اللام علي مفعول (قتلت) ، ومفعول (قنعت) ،
وفاعل (يزين) وفاعل (يشين) ، وعلي {لَقَليلاً} معمول {لَبِثْتُمْ} وليست من نواسخ الابتداء.
وقال المصنف: ((في (إن يزينك لنفسك) شذوذان: أحدهما أن الفعل مضارع. والثاني أنه من غير النواسخ، وهذا عند البصريين غير الأخفش من القلة بحيث لا يقاس عليه)).
وجمعه بين الكوفيين والأخفش في قوله: ((وفاقا للكوفيين والأخفش)) ليس بجيد لأن المذكورين مختلفان، الأخفش يجيز ذلك علي أن (إن) هي المخففة من الثقيلة، واللام لام (إن) ، والكوفيون يجيزون ذلك علي أن (إن) هي النافية، واللام كان صالحا لزيد، وإن ضرب زيدا لعمرو، وإن ظننت عمرا لصالحا.
وقوله ولا تعمل عندهم ولا تؤكد، بل تفيد النفي، واللام للإيجاب ظاهر قوله (عندهم) أن يعود للمذكورين، وهم الكوفيون والأخفش، وليس كذلك، بل الأخفش يري إعمالها وإن كان الأكثر إهمالها، ويري أنها (إن) المخففة من الثقيلة، وأن اللام لام التوكيد علي ما نقل هذا المصنف يرون (إن) هي النافية، واللام بمعني (إلا).
وأما غير هذا المصنف من أصحابنا وغيرهم فنقلوا أن الفراء زعم
أن (إن) بمنزلة (قد) ، إلا أن (قد) تختص بالأفعال، و (إن) تدخل علي الأسماء والأفعال.
وهذا باطل بدليل نصبها الاسم ورفعها الخبر في إحدى اللغتين، ولو كانت بمنزلة (قد) لم تعمل شيئا.
ونقلوا أن الكسائي زعم أنها إن دخلت علي الأسماء كانت مخففة من الثقيلة ، كما ذهب إليه البصريون، بسبب إعمالها في إحدى اللغتين، وإن دخلت علي الفعل كانت (إن) عنده للنفي، واللام بمعني (إلا).
وهذا باطل لأن اللام لا تعرف في كلامهم بمعني (إلا)، فأما ما أنشدناه قبل:
......................... وما أبان لمن أعلاج سودان
وروي: لمن أعلاج سوداء، فلا يعرف قائله، وإنما ثبت في كتاب (العين) ، وكثير مما وقع فيه غير صحيح، وبتقدير ثبوته فقد ذكرنا تأويل المصنف فيه علي أن اللام زائدة. وتأولناه نحن علي أن (ما) استفهامية علي سبيل التحقير، و (لمن) علي إضمار مبتدأ، أي: لهو من أعلاج سوداء، علي حد ما ذهب إليه الزجاج في قوله:{لَسَاحِرَانِ} أي: لهما ساحران. وليس ما ذكره الفارسي من أن ذلك لا يجوز بشيء؛ لأنه زعم أن التأكيد بابه الإطالة والإسهاب، فهو من أجل ذلك مناقض للحذف فلا يجوز الحذف معه لأن هذا الذي ذكره إنما هو في التأكيد التابع، وأما الحروف التي وضعتها العرب للتأكيد فلا ينكر معها الحذف،
دليل ذلك قول العرب: إن مالا وإن ولدا، أي: إن لنا مالا وإن لنا ولدا، فحذفوا خبر (إن) مع أنها للتأكيد، فثبت إذا صحة مذهب أهل البصرة.
وقال المصنف في الشرح: ((ومذهب الكوفيين أن (إن) المشار إليها لا عمل لها، ولا هي مخففة من (إن) ، بل هي النافية، واللام بعدها بمعني (إلا) ، ويجعلون النصب في {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا} بفعل يفسره (ليوفينهم) أو بـ (ليوفينهم) بنفسه. وبه قال الفراء. وكلا القولين محكوم علي أصولهم بمنعه في هذا المحل أو بضعفه؛ ولا يفسر عاملا فيما قبلها، ولذلك قال الفراء في كتاب (المعاني):/ (وأما الذين خففوا (إن) فإنهم نصبوا (كلا) بـ (ليوفينهم) ، وهو وجه لا أشتهيه لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها علي شيء قبله، فلو رفعت (كلا) لصلح ذلك كما يصلح: إن زيد لقائم، ولا يصلح أن تقول: إن زيدا لأضرب؛ لأن تأويله كقولك: ما زيدا لا أضرب، وهذا خطأ في اللام وإلا) هذا نصه. فقد أقرأ بأن حمل القراءة علي جعل (إن) نافية واللام بمعني (إلا) خطأ، ولا شك في صحة القراءة، فإنها قراءة المدنيين والمكيين، ولا توجيه لها إلا توجيه البصريين)) انتهي. يعني من أنها عملت وهي مخففة من الثقيلة.
قال المصنف: ((وأما قولهم إن اللام بمعني (إلا) فدعوي لا دليل عليها، ولو كانت بمعني (إلا) لكان استعمالها بعد غير (إن) من حروف
النفي أولَى؛ لأنها أنص علي النفي من (إن)، فكان يقال: لم يقم لزيد، ولن يقعد لعمرو، بمعني: لم يقم إلا زيد، ولن يقعد إلا عمرو، وفي عدم استعمال ذلك دليل علي أن اللام لم يقصد بها إيجاب، وإنما قصد بها التوكيد كما قصد مع التشديد)) انتهي.
ومنع أبو علي أن يضمر في (إن) المخففة من الثقيلة ضمير الأمر والشأن؛ لأنه إذا ضعف في المشددة فأحرى في المخففة. وهو ظاهر قول س لما حكي أنهم قالوا في الدعاء: ((أما إن جزاك الله خيرا)) علي معني: ألا إنه جزاك الله خيرا. قال: إذا كان هذا جائزا ههنا فالمفتوحة أجوز لأنها التي تحذف في الكلام، وتعوض، ولم يجئ ذلك في المكسورة إلا في هذا الموضع. وهو قول المبرد.
وقد قال بعضهم: إذا دخلت علي الفعل فهي يضمر فيها. وهذا فاسد لأن اللام لا تدخل علي خبر (كان) ، بل علي خبر (إن) ، وقد صار خبرها (كان) وما بعدها، فتدخل عليه. وقد يقال في الجواب: كان الأصل هذا، لكن لما ولي (إن) فلو كان فيه اللام لاجتمع مع (إن) ، ولا يجتمعان، فأخر إلي معموله كما في الخبر. انتهي من البسيط.
وقوله وموقع (لكن) بين متنافيين بوجه ما قد تقدم من قولنا أن (لكن) إن كان ما بعدها يوافق ما قبلها لم يكن ذلك من كلام العرب، نحو: قام زيد لكن عمرو، وإن كان نقيضا أو ضدا جاز، وهو من كلام العرب، وإن كان خلافا نحو ((ما قام زيد لكن شرب عمرو)) فهي مسألة خلاف: من النحويين من أجاز ذلك، ومنهم من منع، وقال تعال: {وَمَا
كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ لشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ، وقال:{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} .
وقوله ويمنع إعمالها مخففة، خلافا ليونس والأخفش لم يسمع إعمالها مخففة عن العرب. قيل: وذلك لمبانية لفظها لفظ الفعل. علل بذلك المصنف. وقال أصحابنا: ألغيت لأنه زال/ موجب عملها - وهو الاختصاص - فصارت تليها الجملة الاسمية والفعلية. وحكي أبو القاسم بن الرمالك رواية عن يونس أنه يجيز إعمالها، وحكاه المصنف عن يونس والأخفش، وذلك قياس علي (أن) و (إن). وهو ضعيف. وحكي بعضهم عن يونس أنه حكي فيها العمل. وهذه الرواية لا تعرف عن يونس.
وقوله وتلي (ما)(ليت) ، فتهمل، وتعمل. وقل الإعمال في (إنما). وعدم سماعه في (كأنما) و (لعلما) و (لكنما) ، والقياس سائغ. إذا اتصلت (ما) غير الموصولة بهذه الحروف، نحو: إنما زيد قائم، ففي ذلك أربعة مذاهب:
أحدها: أنها تكفها عن العمل، ويرتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، إلا (ليت) ، فيجوز أن تتصل بها كافة، فلا تعمل كأخواتها، ويجوز أن
تتصل بها زائدة، فتعمل، وهذا منقول عن س والفراء، وهو مذهب الأخفش، وصححه أصحابنا.
المذهب الثاني: أنه يجوز فيها كلها أن تكون (ما) معها كافة، فلا تعمل، وزائدة فتعمل، وهذا مذهب الزجاجي والزمخشري، ونقل عن ابن السراج.
المذهب الثالث: أن (ليت) و (لعل) و (كأن) يجوز فيها الإلغاء والإعمال، نحو: ليتما زيدا قائم، ولعلما عمرا منطلق، وكأنما زيدا أسد. ولا يجوز في (إن) و (أن) و (لكن) إلا الإلغاء، وهو مذهب الزجاج، ونقل عن ابن السراج، وهو اختيار أبي الحسين بن أبي الربيع، ونسب في (البسيط) إلي الأخفش.
والمذهب الرابع: أنه لا يجوز كف (ليت) و (لعل) بـ (ما) ، بل يجب الإعمال. وهو منسوب إلي الفراء.
والسماع بالوجهين الإهمال والإعمال إنما ورد في (ليت)، قال المصنف ما معناه:((وهما جائزان فيها بالإجماع)) انتهى. وليس كما
ذكر؛ ألا ترى أن المذهب الرابع مذهب الفراء أنه لا يجوز في (ليتما) و (لعلما) إلا الإعمال، فليس جوازهما بالإجماع.
وزعم ابن درستويه في قوله:
.................. لعلما أضاءت ....................
أن (ما) اسم بمنزلة المضمر المجهول، والجملة تفسره. ويظهر إلحاق (إنما) وأخواتها في ذلك بـ (لعلما) ، فتكون (ما) عنده بمنزلة المضمر المجهول.
قال ابن هشام: ((ولم يتنزل من الأسماء شيء بمنزلة هذا المضمر فيكون مثله، وقد عد النحويون وجوه (ما) في الاسمية، ولم يذكروا هذا، ولا وجدوا له نظيرا، فالقول به باطل، ولا حجة بمحل النزاع)) انتهي.
وعادة أصحابنا المتأخرين أن يجعلوا (ما) في هذه الحروف إذا دخلت علي الفعل مهيئة وموطئة؛ لأنها هيأت هذه الحروف للدخول علي الفعل، وإذا دخلت علي المبتدأ والخبر جعلوها كافة؛ لأنها منعتها من العمل. وأما جعل (ما) في: إنما زيد قائم، وإنما قام زيد، نافية، و (إن) للإثبات/ دخلت علي النفي، فقول من لم يقرأ النحو، ولم يطالع قول أئمته.
وروي بيت النابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا .......................
بنصب (الحمام) علي الإعمال، ورفعه علي الإهمال. وأجاز س في هذا البيت أن تكون (ما) موصولة اسم ليت، وهذا: خبر مبتدأ محذوف، أي: ليت الذي هو هذا الحمام. وهو تأويل متكلف.
وروي الأخفش والكسائي عن العرب ((إنما زيدا قائم)) بالإعمال علي زيادة (ما).
وفي (العزة): ((بعضهم ينصب بليت ولعل و (ما) موجودة، وجوز الأخفش ذلك في كأن وإن وأن)) انتهي. فيكون للأخفش قولان: اختصاص ذلك بليت، والقول الثاني إلحاق كأن وإن وأن بهما.
وقال أبو القاسم الزجاجي في باب حروف الابتداء من (كتاب الجمل): ((من العرب من يقول: إنما زيدا قائم، ولعلما بكرا قائم، فيلغي (ما) ، وينصب بـ (إن) ، وكذلك سائر أخواتها)) انتهي.
وينبغي أن يحمل قوله ذلك علي أنه لما اقتضي القياس عنده ذلك نسبه إلي العرب؛ ألا تري أنه يجوز لك أن تقول: ((العرب ترفع كل فاعل)) وإن كنت إنما سمعت الرفع في بعض الفاعلين، لما اقتضي القياس عندك ذلك.
واستدل للمذهب الأول بأن (ليت) لما لحقتها (ما) بقي اختصاصها
بالجملة الاسمية، بخلاف أخواتها، فإنها يجوز أن تليها الجملة الاسمية والجملة الفعلية، نحو قوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَآؤُا} ، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} ، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} ، وقال الشاعر:
ولكنما أسعي لمجد مؤث .......................
في أحد الاحتمالات، وقول الشاعر:
أعد نظرا يا عبد قيس، لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا
قالوا: فلما بقيت علي الاختصاص بالجملة الاسمية لم يقو فيها أن تلغي البتة، بل جوزت العرب فيها الإعمال رعيا لقوة اختصاصها، والإلغاء اعتبارا لدخول (ما) وإلحاقا لها بأخواتها. هكذا علل أصحابنا والمصنف، أعني باختصاص (ليتما) بالجملة الاسمية.
ووقفت علي كتاب تأليف طاهر القزويني في النحو، فذكر فيه أن (ليتما) تليها الجملة الفعلية.
وقال الفراء: لعل وليت لم يجعلا حرفا واحدا بترك حمل معناهما إلي غيره، لا يجوز: ليتما ذهبت، ولعلما قمت. وتأول قوله:
أعد نظرا. البيت
علي أن المعني: لعل الذي أضاءت به لك النار الحمار المقيدا، فجعل (ما) ومصولة.
قال أبو جعفر الصفار: ((وهذا خطأ عند البصريين، لو كانت (ما) بمعني (الذي) لوجب أن يقول: الحمار المقيد)) انتهي.
وليس بخطأ؛ إذ يحتمل أن يكون/ خبر (لعل) محذوفا لفهم المعني. ويحتمل أن يكون خبر (لعل) منصوبا علي لغة بعض بني تميم، فيكون ((الحمار المقيدا)) خبر (لعل) ، والبيت للفرزدق، وهو تميمي، فيحتمل أن سلك به لغة بعض قومه. وممن ذكر أن ذلك لغة بعض تميم أبو البركات عبد الرحمن الأنباري في كتابه المسمي بـ (لمع الأدلة).
قال أبو جعفر: ((وقد أجاز البصريون الذي زعم الفراء أنه لا يجوز، أجازوا: ليتما ذهبت، ولعلما قمت، علي أن تكون (ما) كافة كما كانت في إنما)) انتهي كلامه. فهذا أبو جعفر ينقل عن البصريين أن ليتما ولعلما تليهما الأفعال، وتكون (ما) معهما كافة كـ (إنما). وأصحابنا والمصنف يزعمون أن (ليتما) تختص بالجملة الاسمة، ولا تليها الفعلية. وزعم الأخفش علي سعة حفظه أنه لم يسمع قط: ليتما يقوم زيد.
وقال المصنف: ((وهذا النقل - يعني: إنما زيدا قائم، بالنصب - عن العرب يؤيد ما ذهب إليه ابن السراج من إجراء عوامل هذا الباب على
سنن واحد قياسا وإن لم يثبت سماع في إعمال جميعها. وبقوله أقول في هذه المسألة، ومن أجل ذلك قلت: والقياس سائغ)) انتهي.
ووجه المذهب الثالث هو أنه لما جاز الوجهان في (ليتما) ، وهي مغيرة معني الجملة، جاز ذلك في (لعلما) و (كأنما) لاشتراكهما معها في تغيير معني جملة الابتداء، بخلاف (إنما) و (أنما) و (لكنما) ، فإنهن لا يغيرن معني الابتداء، فلم يقسن علي (ليت).
و (ما) اللاحقة لهذه الحروف حرف، فإذا لم يكن عمل كان حرفا كافا عن العمل، كما كف (إن)(ما) عن العمل، فإن وليه فعل كان حرفا مهيئا، وإذا كان ثم عمل كان حرفا زائدا، لا يعتمد به كما لا يعتد به بين حرف الجر والمجرور في نحو قوله {عَمَّا قَلِيلٍ} ، و {فَبِمَا نَقْضِهِم} .
وزعم أبو محمد بن درستويه وبعض الكوفيين أن (ما) مع هذه الحروف نكرة مبهمة بمنزلة الضمير المجهول لما فيها من التفخيم، والجملة التي بعدها في موضع الخبر ومفسرة له، كما أن الجملة التي في موضع الخبر للضمير المجهول مفسرة له، ولم يحتج إلي رابط يربط الجملة بـ (ما) لأن الجملة هي (ما) في المعني، كما لم يحتج في الجملة الواقعة خبرا للضمير المجهول إلي رابط يربطها بالضمير لما كانت هي الضمير في المعني.
ورد هذا المذهب بأنه لو كان الأمر علي ما زعموا لجاز استعمال (ما) معمولة لجميع نواسخ الابتداء، كما يجوز ذلك في ضمير الشأن.
وفي (البسيط): دخول (ما) علي هذه الحروف لا يغير معناها عما كان إلا في (إن) المكسورة والمفتوحة، فإن الكلام ينتقل فيها إلى معنى
التأكيد والحصر، وقد قال أبو علي الفارسي: إنها نفي. واستدل بقوله:
................. وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
ولذلك صح أن يكون/ الفاعل ضميرا منفصلا، وضمير المتكلم يكون مستترا.
وكل واحدة جارية علي ما كانت عليه، فالمكسورة المركبة تقع حيث يكون المفرد من الابتداء، كقولك: وجدتك إنما أنت صاحب كل حي، والمفتوحة المركبة تكون داخلة تحت فعل سابكة لما بعدها، وإنما يمتنع فيها العمل خاصة، كقوله تعالي:{إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ} . انتهي وفيه بعض تلخيص.
وما ذكره من انفصال الضمير في (إنما) ليس مذهب س، وقد أمعنا الكلام علي هذه المسألة في (باب المضمر) حين تعرض المصنف لانفصال الضمير وكونها تفيد الحصر.
-[ص: فصل
لتأول (أن) ومعموليها بمصدر قد تقع اسما لعوامل هذا الباب مفصولا بالخبر، وقد تتصل بـ (ليت) سادة مسد معموليها، ويمنع ذلك في (لعل) ، خلافا للأخفش.
وتخفف (أن) ، فينوي معها اسم لا يبرز إلا اضطرارا، والخبر جملة اسمية مجردة، أو مصدرة بـ (لا) ، أو بأداة شرط، أو بـ (رب) ، أو بفعل يقترن غالبا إن تصرف ولم يكن دعاء بـ (قد) ، أو بـ (لو) ، أو بحرف تنفيس، أو نفي.]-
ش: مثال وقوعها اسما لهذه العوامل قولك: إن عندي أنك فاضل، وكأن في نفسك أنك فاضل. وذكر المصنف في الشرح أنه يلزم الفصل بالخبر بين أحد هذه العوامل و (أن). وهذا مذهب س، قال س:((ألا تري أنك لا تقول: إن أنك ذاهب في الكتاب، ولا تقول: قد عرفت أن إنك منطلق في الكتاب؛ وذلك أن (أن) لا يبتدأ بها)).
وذهب الأخفش إلي أنه يجوز: لعل أنك منطلق، ولكن أنك منطلق، وكأن أنك منطلق. قال الجرمي: وهذا كله رديء في القياس لأن هذه الحروف إنما تعمل في المبتدأ، و (أن) لا يبتدأ بها.
وأجاز هشام: إن أن زيدا منطلق حق، بمعني: إن انطلاق زيد حق. وأجاز الكسائي والفراء إدخال (أن)، وأنشد الكسائي:
وخبرتما أن إنما بين بيشة ونجران أحوي، والجناب رطيب
قال الفراء: ((أدخل أن علي إنما)).
وقال الفراء: ((لو قال قائل (أنك قائم يعجبني) جاز أن تقول: إن أنك قائم يعجبني)). وهذا بناء من الفراء علي أن (أن) يجوز الابتداء بها، وقد تقدم ذلك من مذهبه ومذهب الأخفش وغيرهما في (باب الابتداء).
وقوله وقد تتصل بـ (ليت) سادة مسد معموليها مثاله قول الراجز:
يا ليت أنا ضمنا سفينة حتى يعود الوصل كينونه
وقول الآخر:
/ فيا ليت أن الظاعنين تلفتوا
…
فيعلم ما بي من جوي وغرام
وقول الآخر، أنشده أبو علي الهجري:
ألا ليت أني قبل بينك خيض لي ببعض أكف الشامتين سمام
وقول الآخر:
صغيرين، نرعي إليهم، يا ليت أننا إلي اليوم لم نكبر، ولم تكبر إليهم
وجاء بزيادة الباء في (أن)، قال:
ندمت علي لسان كان مني فليت بأنه في جوف عكم
ودخول (ليت) علي (أن) شاذ في القياس، لكنه كثير في السماع، قال الفراء: جاز ذلك لأن معناها: وددت. وسدت (أن) وصلتها مسد اسم (ليت) وخبرها، كما سدت مسد مفعولي (ظن)، كقوله تعالي:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} ، وكما سدت مسد المبتدأ والخبر في نحو:{ولَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} علي مذهب س.
وفي (البسيط): وفيه الخلاف الذي في: ظننت أن زيدا قائم، فرأي الأخفش أن الخبر محذوف، كما أن المفعول الثاني محذوف، ورأي س أنها سدت مسد المفعولين في (ظننت) ، فكذلك هنا.
وفي (الغرة): تكتفي (ليت) بـ (أن) مع الاسم، ولا تكتفي بـ (أن) مع الفعل عند المحققين، كذا نص ابن السراج، وهما مصدران، وذلك لظهور الخبر مع (أن).
وقوله ويمنع ذلك في (لعل)، خلافا للأخفش أجاز: لعل أن زيدا
قائم، بغير فصل بين (لعل) و (أن)، وقد تقدم أنه أجاز ذلك أيضا في (لعل) و (كأن). وقال المصنف وغيره: عامل الأخفش لعل معاملة ليت، ومباشرة ليت لـ (أن) شاذة، والقياس يقتضي المنع، لكنه جاء به السماع، فقبل، فلا يقاس عليه.
وقد أدخل بعضهم (أن) علي المضارع مفي خبر لعل، فقال: لعل زيدا أن يقوم، قال الشاعر:
لعلك يوما أن تلم ملمة عليك من اللائي تركنك أجدعا
فقيل: شبهت لعل بـ (عسي)، كما شبه ليت بـ (وددت). وقيل: في الكلام محذوف، تقديره: لعلك صاحب الإلمام. وقيل: جعل الجثة الحدث علي سبيل الاتساع، كما قال:
................. فإنما هي إقبال وإدبار
وقيل: الخبر محذوف، تقديره: لعلك تهلك لأن تلم ملمة، فحذف، و (أن) مفعول له.
وهذه الأقوال ليست بشيء، ولو كان لم يرد في ذلك إلا هذا البيت لتؤول، ولكن جاءت منه أبيات كثيرة جدا حتى يكاد ينقاس زيادة (أن) في المضارع الواقع خبرا لـ (لعل)، قال الشاعر:
/ فعلك أن تنجو من النار إن نجا مصر علي صهباء طيبة النشر
وقال:
علك أن تذهب بعض الذي بقلبها من طول هذا التحير
وقال الفرزدق:
لعلك يوما أن يساعفك الهوي ويجمع شعبي طية لك جامع
وقال آخر:
لعلك يوما أن تود لو انني قريب، ودوني من حصي الأرض مخفق
وقال:
لعلك أن تلوم النفس يوما وتذكرنا وقد علن الصخاب
وقد تعرض المصنف في الفص وشرحه لهذه المسألة في أثناء هذا الباب.
وقوله وتخفف أن كان المناسب أن يذكر تخفيف أن وكأن عند ذكره تخفيف إن ولكن.
وقوله فينوي معها اسم قال المصنف في الشرح: ((وتخفف (أن) فلا تلغي كما تلغي (إن) المخففة)) انتهي. ويوجد في بعض كتب النحو أن (أن) إذا خففت ألغيت، ولا يعنون بذلك إلا أنها لا يظهر لها عمل لا في
مظهر ولا في مضمر مثبت، بل في مضمر محذوف علي ما سيبين.
فإن قلت: ما الذي أحوج إلي تقدير اسم لها محذوف وجعل الجملة بعدها في موضع خبرها؟ وهلا ادعيتم أنها ملغاة، ولم تتكلفوا حذفا؟
فالجواب: أن سبب عملها الاختصاص بالاسم، فما دام لها الاختصاص ينبغي أن يعتقد أنها عاملة، وكون العرب تستقبح وقوع الأفعال بعدها حتى تفصل لأجل ذلك بينها وبين الأفعال بالحروف التي يأتي ذكرها إلا أن تكون تلك الأفعال مشبهة بالأسماء لعدم تصرفها دليل علي أنها عندهم باقية علي اختصاصها، ولذلك لما حذفوا الضمير استقبحوا مباشرة الأفعال لها، ففصلوا بينهما إلا في ضرورة أو في قليل من الكلام لا يلتفت إليه.
قال بعض أصحابنا: فإن قلت: لعل سبب الفصل جعل تلك الحروف عوضا من الضمير المحذوف.
فالجواب: أنه لو كان ذلك السبب لزم الفصل بينها وبين الجمل الاسمية، وهم لا يفعلون ذلك.
وقال ابن هشام: ((فتراهم إذا ذكروا الجملة الابتدائية لم يعوضوا من المحذوف، نحو: علمت أن زيد قائم. قيل: قد تكلم علي هذا س، وقال: (لأنهم لم يخلوا به ههنا؛ لأنهم ذكروا بعده المبتدأ والخبر، كما كانوا يفعلون لو شددوا، فأما/ إذا حذفوا وأولها الفعل الذي لم يكن يليها فكرهوا أن يجمعوا عليها الحذف ودخول ما لم يكن
يدخل عليها مثقلة، فجعلوا هذه الحروف عوضا). وبهذا استدل س علي أنها إذا خففت لم تدخل في حروف الابتداء لأن هذا التعويض إنما كان لحذف اسمها، فلو كانت ابتدائية لم يحذف لها اسم، فلم يكن تعويض كما لم يكن في (إن) المكسورة ولا في (لكن) ولا في سائر حروف الابتداء)) انتهي. ومما يبين لك أنها عاملة ظهور عملها في ضرورة الشعر علي ما سيأتي.
وأجاز س أن تلغي لفظا وتقديرا كما ألغيت (إن) إذا خففت، وتكون حرفا مصدريا، ولا تعمل شيئا كبعض الحروف المصدرية، قال س:((ولو خففوا (أن) ، وأبطلوا عملها في المظهر والمضمر، وجعلوها كـ (إن) إذا خففت، لكان وجها قويا)) انتهي.
وقوله لا يبرز إلا اضطرارا مثال ذلك قول الشاعر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق
وقول الآخر:
لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق، وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مريع وأنك هناك تكون الثمالا
وقال بعض شيوخنا: يجوز أن يظهر عملها إذا خففت على ضعف، نحو: علمت أن زيدًا قائم، قال: وأكثر ما يكون هذا في الشعر، وأطلق بعض أصحابنا جواز إعمالها مخففة في الاسم الظاهر من غير اضطرار ولا ضعف.
ونقل صاحب (رؤوس المسائل) منع إعمالها عن الكوفيين، قال: وأجازة البصريون، وينبغي أن يخصص هذا الجواز بما ذكروه من العمل في مضمر محذوف، ولا يلزم أن يكون ذلك الضمير المحذوف ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا، بل إذا أمكن عوده على حاضر أو غائب معلوم كان أولى، ولذلك قدره س في قوله:} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} كأنه قال: أنك قد صدقت، وفي قولهم: أرسل إليه أن ما أنت وذا؟ أي: بأنك ما أنت وذا؟ وفي قولك: كتبت إليه أن لا تقول ذلك، بالرفع، أي: أنك لا تقول ذلك.
وفي (البسيط): "وأما عملها في غير المضمر فلم يسمع، وأظن أنه قد قرئ في الشاذ:} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} حملًا على كأن"، وقال أيضًا: "وإذا كان اسمها غير ضمير الشأن فهل يكون الخبر معرفًا؟
فيه نظر" انتهى، يعني إذا حذف وكان غير ضمير الشأن.
وقوله والخبر جملة اسمية مجردة مثاله: علمت أن زيد قائم، وهذه الجملة الاسمية المجردة قد تصدر بالمبتدأ كما مثلنا به، قال المصنف: "نحو} وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين {، أو بخبر كقول الشاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يخفي وينتعل"
انتهى.
وقد نص س على أن قولك "قد علمت أن زيد منطلق" لا يكادون يتكلمون به بغير الهاء، بخلاف: قد علمت أن لا يقول، لأن (لا) عوض من الهاء، فعلى هذا يكون تمثيل أصحابنا "علمت أن زيد قائم" قليلًا جدًا.
وقوله أو مصدرة بـ (لا) أو بأداة شرط، أو بـ (رب) أمثلة ذلك قوله تعالى:} وَأَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ {، وقوله تعالى:} أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ {، وقول الشاعر:
فعلمت أن من تثقفوه فإنه
…
جزر لخامعة وفرخ عقاب
وقوله:
تيقنت أن رب امرئ خيل خائنًا أمين وخوان يخال أمينا
وقوله أو بفعل يقترن غالبًا إن تصرف ولم يكن دعاًء بـ (قد) مثاله:} وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا {، و} أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} في أحد التأويلين، وقال زهير:
دار لسلمى إذ هم لك جيرة وإخال أن قد أخلقتني موعدي
وقول الشاعر:
ألم تعلمي أن قد تجشمت في الهوى من أجلك أمرًا لم يكن يتجشم
وقوله أو بـ (لو) مثاله} تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ {،} أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} ، وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَة} ،} أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا {.
وقوله أو بحرف تنفيس مثاله:} عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى} وقوله أو نفي مثاله} أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ {،} أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ
عِظَامَهُ {،} أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) {.
وقد أطلق المصنف في قوله "أو بحرف نفي"، وقد مثلنا بورود ذلك في (لا) و (لن) و (لم) ، ولا يحفظ ذلك جاء في (ما) ولا في (إن) ولا في (لما) ، فينبغي ألا يقدم على جواز ذلك حتى يسمع، على أن بعض شيوخنا مثل جواز ذلك بـ (ما)، نحو: علمت أن ما يقوم زيد، وفي (الغرة): وقياس الماضي أن تنفيه بـ (ما) كيلا يلتبس بالدعاء، فتقول: علمت أن ما قام.
واحترز بقوله غالبًا مما ورد بغير فصل، وقد اختلف النحويون في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه لا يرد بغير فصل إلا في ضرورة الشعر، وقال بعضهم: الأحسن الفصل، وقال بعض شيوخنا: إنه يجوز في ضعيف من الكلام حذف قد والسين وسوف في الإيجاب، وقال س:"واعلم أنه ضعيف في الكلام أن تقول: علمت أن تفعل ذلك، أو: علمت أن فعل ذلك، حتى تقول: ستفعل، وقد فعل" انتهى.
قال بعض أصحابنا: "تضعيف س إنما هو ضعف قياس، ولم يجئ في كلامهم إلا ضرورة" انتهى.
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ترك الفصل إلا في ضرورة الشعر أو
قليل من الكلام ينبغي ألا يقاس عليه، ومن شواهد "علمت أن فعل" قوله:
وحدث بأن زالت بليل حمولهم كنخل من الأعراض غير منبق
وحكي المبرد عن البغداديين: أردت أن يقوم زيد، بلا عوض، وأما قوله تعالى:} لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّه عَلَيْنَا} فهي مصدرية، وقاله المازني، وزعم أبو علي الفارسي أنها مخففة من الثقيلة، استغنوا بـ (لا) قبلها عن العوض.
ومما جاء بغير فصل قوله:
علموا أن يؤملون، فجادوا
…
قبل أن يسألوا بأعظم سول
وقول الآخر:
يحسب حاديهم إذ ابترعوا
…
أن لا يجوزون وهم قد أسرعوا
وقول الآخر:
إني زعيم يا نويـ ـقة إن أمنت من الرزاح
ونجوت من عرض المنون
…
من الغدو إلى الرواح
أن تهبطن بلاد قوم،
…
يرتعون من الطلاح
وقول الآخر:
يا صاحبي، فدت نفسي نفوسكما
…
وحيثما كنتما لاقيتما رشدا
أن تحملا حاجة لي، خف محملها وتصنعا نعمة عندي بها ويدا
أن تقرآن على أسماء، ويحكما مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
وقول الآخر:
أبينا، ويأبى الناس أن يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح
وقول الآخر:
ونحن منعنا بين مر ورابغ من الناس أن يغزى، وأن يتكنف
وقول الآخر:
وإني لأختار القوا طاوي الحشا محاذرة من أن يقال: لئيم
روي بنصب (يقال) ورفعه، حكي الروايتين فيه أبو بكر بن الأنباري
في كتاب (الواضح) له، وقول الآخر:
إذا كان أمر الناس عند عجوزهم فلا بد أن يلقون كل بتوت
ومما جاء من ذلك في قليل من الكلام قراءة مجاهد:} لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} برفع} يُتِمُّ {.
وهذا الذي أوردناه من رفع الفعل بعد (أن) بلا فصل ما كان قبل (أن) فيه فعل قلبي فهي (أن) المخففة من الثقيلة، وما كان قبلها فعل غير قلبي فهي عند الكوفيين المخففة من الثقيلة، وعند البصريين هي الناصبة للمضارع، أهملت حملًا على (ما) أختها، وقد أطلنا الكلام على ذلك في كتاب (التكميل) في (باب إعراب الفعل وعوامله).
واحترز بقوله إن تصرف من الفعل الجامد، فإنه لا يفصل بينهما، نحو قوله تعالى:} وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {،} وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ {، وقال:
أن يعم معترك الجياع إذا خب السفير وسابيء الخمر
واحترز بقوله ولم يكن دعاء منه إذا كان دعاء، فإنه لا يفصل بينهما، مثاله {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} .
وقد تكرر للمصنف الكلام على (أن) المخففة، فذكره هنا، وذكره في "باب إعراب الفعل وعوامله"، قال في هذا الباب:"وينصب بأن ما لم تل علمًا أو ظنًا في أحد الوجهين، أو شرطية، أو مصدرة برب، أو فعل يقترن غالبًا -إن تصرف ولم يكن دعاء- بـ (قد) وحدها، أو بعد نداء، أو بـ (لو) ، أو بحرف تنفيس، أو نفي"، وزاد هنا "أو بعد نداء".
ونقص هنا عن ذلك "أن تكون مصدره بلا"، نحو {وَاَّن لَا إِلَاهَ إِلَّا هُوَ} ، وعذر المصنف في تكراره أنه لم يصل في الشرح إلى (باب إعراب الفعل) ، ولو وصل إليه لأسقط هذا الذي تكرر، والله أعلم.
ولابن هشام تفصيل في دخول (أن) الخفيفة من الثقيلة على الجملة، قال:"إذا حذف اسمها كان خبرها جملة اسمية أو فعلية لا مفردًا، إن كان اسمية ففي الإثبات على حالة: علمت أن زيد قائم، وفي النفي: علمت أن ما زيد قائم، وإن كان فعلية مصدره بماض مثبت لزمه (قد): علمت أن قد قام زيد، أو منفي لزمته (ما): علمت أن ما قام زيد، أو حال مثبت لم يتغير حكمه: علمت أن يقوم زيد، أو منفي فـ (ما): علمت أن ما يقوم زيد، أو مستقل موجب لزمته السين أو سوف، أو منفي لزمته (لا) ، وهذا اللزوم عوض ظهور الاسم، وقد رأى بعض النحويين أن هذا على الأكثر والأصح، ويظهر من كلام س" انتهى ملخصًا.
-[ص: وتخفف (كأن) فتعمل في اسم كاسم (أن) المقدر، والخبر جملة اسمية، أو فعلية مبدوءة بـ (لم) أو (قد) أو مفرد، وقد يبرز اسمها في الشعر وقد يقال:(أما إن جزاك الله خيرًا)، وربما قيل: أن جزاك، والأصل: أنه.
وقد يقال في لعل: عل، ولعن، وعن، ولأن، وأن، ورعن، ورغن، ولغن، ولعلت.
وقد يقع خبرها (أن يفعل) بعد اسم عين حملًا على (عسى) ، والجر بـ (لعل) ثابتة الأول أو محذوفته، مفتوحة الآخر أو مكسورته، لغة عقيلية.]-
ش: قوله كاسم أن المقدر يعني أنه لا يلزم أن يكون اسمها المحذوف ضمير الشأن.
وقوله والخبر جملة اسمية نحو قوله:
ووجه مشرق النحر كأن ثدياه حقان
وقول الآخر:
ويكأن من يكن له نشب يحبب، ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقوله أو فعلية مبدوءة بـ (لم) مثاله قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} ، وقول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
ووقع في شعر عمار الكلبي ابتداؤها بـ (لما) الجازمة في قوله من قصيدته الطويلة التي أولها:
مرحبًا بالشيب من جند هجم في سواد الرأس مني، فانهزم
بددت منها الليالي شملهم فكأن لما يكونوا قبل ثم
فابتدأ بالجملة بعد (كأن) بقوله (لما) إجراء لها مجرى (لم) ، وينبغي أن يتوقف في جواز ذلك حتى يسمع من العرب الذين كلامهم حجة.
وقوله أو قد مثاله:
أفد الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا، وكأن قد
وقوله أو مفرد هو معطوف على قوله (جملة) من قوله "والخبر جملة"، ومثال ذلك قوله:
ويومًا تواقينا بوجه مقسم كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
أي: كأنها ظبية، في رواية من رفع الظبية.
وقال المصنف: "وتخفف كأن، فلا تلغى، بل تعمل إعمال (أن) المخففة، إلا أن خبرها إذا قدر اسمها لا يلزم كونه جملة، بل قد يكون مفردًا، بخلاف خبر (أن) إذا قدر اسمها" فظاهر كلامه في الفص وفي الشرح أنه يجوز أن يحذف اسم كأن إذا خففت، ويكون خبرها مفردًا في فصيح الكلام، وكذلك إذا حذف وكان الخبر جملة ابتدائية كما سبق، والذي ذكر س أن ذلك يجوز في الشعر، قال س: "وروى الخليل رحمه الله أن ناسًا يقولون: إن بك زيد مأخوذ، فقال: هذا على قوله: إنه بك زيد مأخوذ، وشبهه بما يجوز في الشعر، نحو قوله:
ويومًا توافينا، البيت
وقال: أي: كأنها ظبية، وقال الآخر:
ووجه مشرق النحر، البيت".
ثم قال: "إنه لا يحسن ههنا إلا الإضمار"، يعني من حيث رفع (الظبية) ورفع (حقان) ، فظاهر كلام س أن إضمار اسم (كأن) وحذفه بعد التخفيف، وإخباره عنه بالمفرد أو بالجملة الابتدائية، يجوز في الشعر لا في الكلام، وهذا إذا كان الاسم غير ضمير الأمر.
وقوله وقد يبرز اسمها في الشعر مثاله:
.................... كأن ثدييه حقان
وقوله:
كأن وريديه رشاء خلب
وقوله:
....................... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
وظاهر كلام المصنف أن بروز اسمها يكون في الشعر لا في الكلام، وهو خلاف ظاهر كلام س، قال س: "وحدثنا من يوثق به أنه يسمع من العرب من يقول: إن عمرًا لمنطلق، وأهل المدينة يقرأون:{وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا} يخففون وينصبون، كما قالوا:
............................. كأن ثدييه حقان
وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل، فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل (لم يك) و (لم أبل) حين حذف" انتهى، فظاهر تشبيه س "إن عمرًا لمنطلق" بقوله "كأن ثدييه حقان" جواز ذلك في الكلام، وأنه لا يختص بالشعر.
ونقل صاحب (رؤوس المسائل) أن (كأن) إذا خففت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين، وأن البصريين أجازوا ذلك.
وفي (البسيط): كأن إذا خففت لا تلغى لقوتها في معنى الفعلية، إذ يدل على معنى الفعل من التشبيه، ولقوة معنى الفعل فيها نصب بها الظاهر، واعتبر فيها ما ليس قصة ولا شأنًا، فمن الظاهر:
...................... كأن وريديه رشاء خلب
و:
....................... كأن ظبية ............
وقد رُفع (ظبية) على الخبر، قال س:"على مثل الإضمار في: إنه من يأتنا نأته، أو يكون هذا المضمر هو الذي ذكر، كأنك قلت: كأنه ظبية، كما كان في المشددة" انتهى لفظ س.
وقال صاحب (البسيط): "وأما ما هو الأفصح فكقوله:
..................... كأن ثدياه حقان
ويجوز النصب، وقيل: إن غير الرفع لا يجوز إلا في الضرورة. وفيه نظر لأنها أقوى من (إن) ، وهو جائز في الكلام".
وفي كتاب أبي الفضل الصفار: "وأما (كأن) فإنما لزم عملها لأنه لم يحفظ ولايتها للفعل في موضع، وهي تعمل في الظاهر والمضمر مضمر الشأن وغيره؛ لأنها أقوى من (إن) في العمل لتغييرها معنى الابتداء، وإحداثها معنى لم يكن، وأشبهت الأفعال، فلهذا أعلموها، وأيضًا فإنها وإن اختلت بالحذف فالكاف زائدة فيها، كأنها عوض، فلم تختل بالجملة". انتهى.
وقال ابن خروف: "أنشد أبو زيد في حذف اسم كان وخبرها:
حتى تراها وكأن وكأن أعناقها مشددات في قرن"
انتهى، ولا دليل في ذلك إذ يجوز أن يكون من باب تأكيد الحرف.
وقوله ويقال: أما إن جزاك الله خيرًا، وربما قيل: أن جزاك، والأصل: أنه قال س: "وأما قولهم (أما جزاك الله خيرًا) فإنهم إنما
أجازوه لأنه دعاء، ولا يصلون ههنا إلى قد وإلى السين، ولو قلت (أما أن يغفر الله له) جاز لأنه دعاء"، قال: "وسمعناهم يقولون: أما إن جزاك الله خيرًا، شبهوه بأنه".
قال المصنف في الشرح: "و (أما) قبل (أن) المخففة المفتوحة بمعنى: حقًا، كما هي قبل المشددة، وهي بمعنى (ألا) قبل (إن) المخففة المكسورة، هذا هو مذهب س، ويجوز عندي أن تكون (أما) في الوجهتين بمعنى (ألا) ، وتكون (إن) المكسورة زائدة، كما في قوله:
ألا إن سرى ليلي فبت كئيبًا ......................
وفي المفتوحة على هذا وجهان:
أحدهما: أن تكون المخففة، وتكون هي وصلتها في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، كما تقرر في (أن) الواقعة بعد (لو) على مذهب س، ويكون التقدير: أما من دعائي أن جزاك الله خيرًا، ثم حذف الخبر للعلم به.
والثاني: أن تكون زائدة كما زيدت بعد (لما) ، وقبل (لو)، وبعد كاف الجر في قوله:
........................ كأن ظبية تعطو .............
على رواية الجر، وفي قوله:
جَمُومُ الشد شائلة الذنابي وهاديها كأن جذع سحيق
ويجوز أن تكون (إن) في قول الشاعر (ألا إن سرى) مخففة من (إن) ويكون الأصل: ألا إنه، ثم فعل به ما فعل بـ (أما إن جزاك الله خيرًا) في قول س".
وقال ابن الطراوة في قولهم: أما إن جزاك الله خيرًا: وتخريج س على أنه (إن) المخففة من الثقيلة، والجملة غير المحتملة للصدق والكذب لا تقع خبرًا لـ (إن).
قال في شرح أبي الفضل الصفار: "والذي سهل عندنا وقوعه دون فصل أن السين لا يمكن دخولها على هذه الصيغة، ولا (لا) لأنها نقيض المعنى؛ ألا ترى أن (لا) دعاء عليه، ولا (قد) لأنها لقوم ينتظرون الخبر، فمعنى (قد قام) أن الفعل الذي توقعته قد كان، والدعاء طلب فهي تناقضه.
وقال ابن الطراوة: أما: استفتاح، وأن: زائدة، وكأنه قال: ألا جزاك الله خيرًا.
وردوا عليه بأن (أن) لا تزاد بقياس إلا بعد (لما) ، وهي هنا زائدة بغير قياس، ونقول بحذف القول الذي تجعله خبرًا، والقول كثيرًا ما يضمر، نعم رده في: أرسل إليه أن قم، وأن ما أنت وذا حق؛ لأنه وإن ثبت كما قال س من كلامهم فـ (أن) بمنزلة (أي) ، فما الداعية إلى جعلها أن المخففة من الثقيلة" انتهى.
وما خرجوا / عليه ضعيف جدًا لأنهم قد حذفوا اسم (أن) ، ثم حذفوا القول الذي هو الخبر، وهذا إجحاف كثير إذ فيه حذف الاسم والخبر معًا، وليس في مذهب ابن الطراوة غير دعوى زيادة (أن) ، وهذا قريب، زادوها كما زادوا أختها (إن) بعد (ألا) للاستفتاح، قال:
ألا إن بليل بان مني حبائبي .........................
وقوله وقد يقال في لعل: عل إلى آخرها، ذكر فيها عشر لغات، فأما (عل) فحكاها س وغيره، وقال الكسائي: هي لغة بني تيم الله من ربيعة، وقال الشاعر:
لا تهين الفقير علك أن تركع يومًا والدهر قد رفعه
واختلف في لا (لعل) الأولى: فقيل: اللام للتوكيد، وقيل: حذفت لأن كل ما زاد على ثلاثة في الحروف ليس بأصل، كما أن ما زاد على أربعة في الأفعال وعلى خمسة في الأسماء ليس بأصل.
وقال السهيلي: "اللام الأولى أصل في (لعل) في أقوى القولين لأن الزيادة تصرف، والحرف وضع اختصارًا، والزيادة عليه تنافيه، ومجيئها بغير لام لغة، أو حذف الحرف الأصلي، والحذف من جنس الاختصار، فهو أولى من الزيادة". انتهى.
وفي (البسيط): "وأما لام (لعل) فهي أصلية عند الكوفيين وأكثر النحويين، وذهب قوم إلى زيادتها، وبعضهم إلى أنها لام الابتداء".
وفي شرخ الخفاف: " (لعل) مركبة لأنهم قالوا (عل) في معناها، فلا يخلو أن تجعل اللام من أصل الكلمة، وتجعل (عل) محذوفة منها، أو يدعى أن اللام زائدة، ضمت إلى (عل) ، فالأول لا ينبغي أن يقال به لأن الحروف لا يتصرف فيها، فلم يبق إلا أن تكون زائدة لغير معنى إلا لمجرد التكثير، ضمت إلى (عل) ، وهذا القدر ليس بتصرف لأنا لم نضمها إليها على أن تكون من الكلمة على حد اللام في عبدل، بل ركبناها معها كما ركبنا (بعل) مع (بك) ، وهذا ليس بتصرف لأنه ضم كلمة إلى كلمة" انتهى.
والذي اختاره أنها بسيطة، وقد تصرف فيها أنواعًا من التصرف إذ ذكروا فيها عشر لغات.
وأما قوله "إنها زيدت للتكثير" فهو ينافي قوله "إنه ضم كلمة إلى كلمة" لأن الكلمة إذا كانت حرفًا فلابد أن تدل على معنى في غيرها.
وأما (لعن) فحكاها الفراء، وقال الفرزدق:
ألستم عائجين بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام
وأنشد الباهلي:
ولا تحرم المولى الكريم فإنه أخوك، ولا تدري لعنك سائله
وقوله "لعنا نرى العرصات" أصله: لعننا، فحذف كما حذف في إنا، وأصله: إننا.
وأما (عن) فحكاها الكسائي، وأما (لأن) فقال امرؤ القيس:
عوجًا على الطلل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن حذام
وأما (أن) فحكاها الخليل وهشام، وجعلا منه قوله تعالى:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي: لعلها، وحكي الخليل من قول بعض العرب:"ائت السوق أنك تشتري لنا شيئًا".
واستشهد الأخفش على ذلك بقول الشاعر:
قلت لشيبان: اذن من لقائه أنا نغدي القوم من شوائه
وقال الكسائي: "سمعت رجلًا يقول: ما أدري أنه صاحبها، يريد: لعله صاحبها".
وأما (رعن) فيمكن أن تكون الراء بدلًا من اللام، كما قالوا في وجل وأوجل: وجر وأوجر، والنون بدل من اللام، كما أبدلت اللام منها في أصيلال، وأصله أصيلان.
وأما (رغن) و (لغن) فاختلفوا في الغين: فقيل: هي بدل من العين،
كما قالوا في ارمعل: ارمغل؛ لأنها قريبة منها، إذ هما من حروف الحلق، وإذ يجتمعان في القافية الواحدة، كقوله:
قبحت من سالفة ومن صدغ كأنها كشية ضب في صقع
وقيل: إنها لغتان، وليس الغين بدلًا من العين، وهو الأظهر لقلة وجود الغين بدلًا من العين.
وقال المصنف: "والأربعة - يعني المتأخرة- قليلة الاستعمال، وأقلها استعمالًا لعلت، ذكرها أبو علي في التذكرة"، انتهى.
وزاد بعض أصحابنا (غن) بالغين المعجمة والنون، وفي الغرة (رعل) بالراء بدلًا من اللام.
وقوله وقد يقع خبرها (أن يفعل) بعد اسم عين حملًا على عسى قال المصنف: "إذا كان الاسم في هذا الباب وغيره اسم معنى جاز كون الخبر فعلًا مقرونًا بـ (أن) كقولك: إن الصلاح أن يعصى الهوى، فلو كان الاسم اسم عين امتنع ذلك كما يمتنع في الابتداء، وقد يستباح في لعل حملًا على عسى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (لعلك أن تخلف حتى ينتفع
بك أقوام ويضر بك آخرون") انتهى. وقد تقدم كلامنا على هذه المسألة، وذكرنا أبياتًا شواهد على ذلك.
وقال آخر:
لعل الذي قاد النوى أن يردها إلينا، وقد يدنى البعيد من البعد
وهي لغة مشهورة كثيرة الوقوع في كلام العرب، حملوا (لعل) على (عسى) كما حملوا (عسى) على (لعل) في نصب اسمها ورفع الخبر في قوله:
فقلت: عساها نار كأس، وعلها ........................
وقوله:
يا أبتا علك أو عساكا
وذلك للمشاركة بينهما في الترجي، إلا أن الترجي في (عسى) مشروط بمعنى المقاربة، والمقاربة إخبار، فمن ثم كانت من الله -سبحانه- واجبة لأن الخبر منه واجب، والترجي لا يجوز على الله تعالى، إنما هو مصروف إلى المخاطب.
وقوله والجر بـ (لعل) إلى آخره، حكي الأخفش أن من العرب من يجر بـ (لعل) ، وروى أبو زيد أن بني عقيل يجرون بـ (لعل) مفتوحة
الآخر ومكسورته، ومن ذلك قوله:
لعل الله يمكنني عليها جهارًا من زهير أو أسيد
وقال آخر:
لعل الله فضلكم علينا بشيء أن أمكم شريم
أنشده يعقوب بكسر اللام والجر بعدها، وقال آخر:
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة لعل أبي المغوار منك قريب
وروى الفراء الجر بـ (عل)، وأنشد:
عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها
وفي (الإفصاح): "وزعم أبو زيد أن من العرب من يجر بـ (لعل) ، وهي لغة عقيل، ويبنونها على الكسر ليكون بناؤها على لفظ عملها، وقال أبو الحسن: ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام لعل مفتوحة في لغة من يجر
بها. وظاهر كلام أبي زيد أنها لغة، فهي على هذا حرف جر زائد، كالباء في: بحسبك زيد، وكـ (لولا) في لغة من يقول: لولاي ولولاك في مذهب س" انتهى.
وفي (البسيط): ويكون موضعها رفعًا، ولها محل، فتقل: لعل زيد قائم، كما تقول: بحسبك زيد، كأنك قلت: زيد قائم، كما لم تغير (إن) إلا اللفظ، بدليل الحمل عليها في العطف، وبقي الخبر مرفوعًا كما كان؛ إذ حرف الجر لا يعمل في اسمين، كما يقول الكوفي في أخواتها، فتكون على هذا زائدة، وأما إن لم تكن زائدة فتشكل.
ومن الناس من تأول ذلك على تقدير مضاف محذوف، والتقدير: لعل قضاء الله فضلكم، ولعل جواب أبي المغوار، ولعل قضاء الله يمكنني عليها، حذف المضاف، وأقام ما أضيف إليه على إعرابه، على حد قراءة من قرأ {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} .
وزعم الفارسي أن (لعل) خففت، وأعملت في ضمير الشأن محذوفًا، ووليها في اللفظ لام الجر مفتوحًا تارة ومكسورًا تارة، والجر به.
وتأول بعض أصحابنا قوله "لعل أبي المغوار" على أن في (لعل) ضمير الشأن، و"أبي المغوار" مجرور بلام محذوفة، أبقي عملها، و (قريب) صفة لـ (جواب) محذوف، والتقدير: لعله - أي: الشأن - لأبي المغوار منك جواب قريب.
ولا يخفى ما في هذه التخاريج من التكلف، وحكاية الأخفش وأبي زيد وغيرهم أنها لغة لبعض العرب مانع من هذه التأويلات، ومرجح جواز الجر بها على مذهب من منع ذلك، وهم الجمهور، وما أحسن قول الجزولي في ذلك:"وقد جروا بـ (لعل) منبهة على الأصل"، يعني أن القياس كان يقتضي لهذه الحروف أن تجر الأسماء بها لأنها مختصة بها، وقياس ما اختص بالاسم ولم يتنزل منزلة الجزء منه أن يعمل ما اختص بالاسم من الإعراب، وهو الجر.
ومن غرائب المنقول أن الفراء ذهب إلى جواز الخفض بـ (لعل) ، وإجازة نصب الخبر ورفعه، قال: والأصل: لعا لعبد الله، قال: فمن نصب قال: لا يكون الاسم مخفوضًا، وفعله مرفوع، ونصبه عنده على التفسير، كقولك: ما أظرفك رجلًا، ومن رفعه رفعه باللام، قال الفراء: فمن قال: لعا لعبد الله قائمًا، أو قائمًا، ثم كنى عن عبد الله، قال: لعله، فنصب لامه.
وهذا عند البصريين خطأ؛ لأنه إن أراد أن يخفض بـ (لعل) جاء بخلاف ما جاء به القرآن وما نقله أهل اللغة، وإن أراد (لعا) التي تقال لمن عثر، بمعنى: نعشك الله، ضد تعسًا، فلا معنى لها هنا، ولا لذكرها مع (إن) وأخواتها، وقال الأعشى:
........................... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
وقد قيل: لعا مقلوب من علا، وهو دعاء في موضع: أعلاه الله.
فلا يُنون على هذا لأنه فعل، ولا يدغم لأنه لا تنوين فيه.
-[ص: يجوز رفع المعطوف على اسم (إن) و (لكن) بعد الخبر بإجماع، لا قبله مطلقًا، خلافًا للكسائي، ولا بشرط خفاء إعراب الاسم، خلافًا للفراء، وإن توهم ما رأياه قدر تأخير المعطوف أو حذف قبله، و (أن) في ذلك كـ (إن) على الأصح، وكذا البواقي عند الفراء.]-
ش: ذكر أنه يجوز في قولك "إن زيدًا منطلق وعمرو" رفع (عمرو) بالعطف على اسم (إن) بالإجماع، وفي قوله مناقشة من وجهين:
أحدهما: قوله" رفع المعطوف على اسم إن"، واسم إن منصوب، فكيف يجوز عطف المرفوع على المنصوب، وقد صرح في ألفيته بأن المعطوف المرفوع هو بالعطف على منصوب اسم (إن) قال فيها:
وجائز رفعك معطوفًا على منصوب إن بعد أن تستكملا
وإصلاحه أن يقول: "على اسم إن ولكن باعتبار الموضع"، أو يقول:"على موضع اسم إن ولكن" لأن موضعه كان رفعًا قبل دخول إن ولكن.
والثاني: قوله "بالإجماع"، وليس بصحيح، بل العطف بالرفع على موضع اسم (إن) فيه خلاف، والصحيح أن ذلك لا يجوز، والرفع إنما هو على الابتداء، والخبر محذوف لدلالة الخبر قبله عليه، هذا هو المتفهم من كلام س، ونص عليه الجرمي في (الفرخ) ، وإليه ذهب أصحابنا.
وأيضًا فقد نقل النحاس عن الفراء والطوال أنه إنما يرفع الثاني بالعطف على الاسم المستتر في فعل الأول، فعلى هذا يكون الإجماع إنما هو على جواز رفع الاسم، أما على ماذا ففيه خلاف.
ونقول: الاسم الذي له موضع يخالف لفظه على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون ذلك الموضع لا يظهر في فصيح الكلام، نحو: مررت بزيد، فـ (زيد) وإن كان مخفوضًا بالباء هو في موضع نصب لأنه مفعول في المعنى، يدل على ذلك نصبه في الاضطرار، فهذا النوع لا يجوز فيه العطف على هذا الموضع، فإن جاء ما ظاهره ذلك حمل على أنه منصوب على إضمار فعل.
والثاني: أن يظهر في فصيح الكلام، نحو: ليس زيد بقائم، فيجوز (قائمًا) ، وسواء أكان حرف الجر زائدًا كهذا، أو غير زائد، نحو قوله:
فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ودون معد فلتزعم العواذل
فإنه يجوز فصيحًا: فإن لم تجد دون عدنان.
والثالث: أن يظهر في فصيح الكلام، لكنه ليس محرز، نحو: هذا ضارب زيد غدًا، فيجوز نصب (زيد) ، لكنه يحتاج إلى تنوين (ضارب)، فهذا النوع مختلف فيه: فمنهم من أجاز النصب في العطف على الموضع، ومنهم من نصب بإضمار فعل.
ومن هذا النوع عند أصحابنا هو المعطوف بالرفع في باب (إن)، نحو: إن زيدًا قائم وعمروا، لأن موضع (زيد) رفع؛ إذ يجوز أن تقول في إن زيدًا منطلق: زيد منطلق، لكن هذا الموضع لا محرز له؛ ألا ترى أن الرافع لـ (زيد) قد زال بدخول (إن) ، فعندهم أن رفع المعطوف إنما هو بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه.
وتلخص أن في العطف حالة الرفع مذاهب:
أحدها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف متعين ذلك فيه.
والثاني: أنه معطوف على موضع اسم إن؛ لأنه قبل دخول إن كان في موضع رفع، قال ابن خروف: وممن قال بالموضع أبو الحسن والمبرد، وأبو بكر، وأبو علي.
والثالث: أنه معطول على (إن) وما عملت فيه.
والرابع: أنه معطوف على الضمير المستكن في الخبر إن كان مما يتحمل الضمير.
وكل من قال بشيء من هذه الأقوال الثلاثة متفقون على جواز القول الأول، ومن قال بالإسناد أو بالعطف على الموضع قدر له خبرًا محذوفًا مثل خبر الأول؛ لأن حكمه كحكمه.
وعلى هذه المذاهب تفرع اختلافهم هل هذا العطف من قبيل عطف الجمل أم من قبيل عطف المفردات، فمن زعم أنه مرفوع بالابتداء والخبر محذوف اعتقد أنه من عطف الجمل، ومن زعم أنه معطوف على موضع اسم (إن) أو على (أن) وما عملت فيه اعتقد أنه من باب عطف المفردات، قال من نحا إلى هذا المذهب: الأصل في هذه المسألة من قبيل عطف الجمل، إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما تقدم عليه أنابوا حرف العطف منابه، ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا
يكون جمعًا بين العوض والمعوض منه، فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد، ويدل على أنه من قبيل عطف المفردات قول العرب: زيد منطلق لا عمرو، وإن زيدًا منطلق لا عمرو، ولا يتصور أن يكون من قبيل عطف الجمل لأن (لا) لا يعطف بها إلا المفردات، ولو كان ما بعد (لا) مرفوعًا بالابتداء، وكانت (لا) حرف نفي مستأنفًا ما بعدها، لزم تكرارها.
وقال ابن خروف في قولهم إن زيدًا منطلق لا عمرًا: يجوز فيه الوجهان المتقدمات في الرفع وإن لم يجز الابتداء بـ (لا)، ومن هنا وقع الخلاف؛ إذ لا يقال في الابتداء: لا عمرو قائم، فذكر (لا) هنا أوقع الخلاف بين النحويين في هذا المرفوع، وإنما دخلت (لا) هنا من حيث كان هذا الاسم بعدها بصورة المعطوف، فجاز فيه ما لا يجوز في الابتداء.
وقال الأستاذ أبو علي: هذا دليل قاطع على أن س يجمل على الموضع، لم يقل أن تفسير (لا) كتفسير الواو؛ لأن (لا) لا يجوز فيها الحمل على الابتداء المستأنف، فيكون التقدير: إن زيدًا فيها لا عمرو فيها، فهذا محال لأن (لا) لا تدخل على الجملة إلا مكررة، فهي ههنا على مذهب ابن أبي العافية غير معملة لا ومكررة، وهذا فاسد لأنك لا تقول مبتدئًا "لا زيد قائم" إلا بأن تكرر، فبهذا علمنا أن س يريد الحمل على الموضع مع الواو ومع (لا) ، فهذا دليل قاطع يدحض حجة ابن أبي العافية.
وقال الأستاذ أبو علي أيضًا: فهم ابن أبي العافية منه أنه معطوف
على (إن) لا على الموضع، فألزم أن (لا) دخلت على الجملة، ولم تكرر، فزعم أنها للعطف، فقيل له:(لا) العاطفة لا تعطف الجمل، فقال: لما كثر حذف الخبر هنا أشبه المفرد، وهذا أيضًا لازم لهم لأن العطف على الموضع بمنزلة عطف الجملة؛ لأن العطف على مخبر عنه مخبر عنه أيضًا، ولا انفصال إلا بما انفصل به ابن أبي العافية.
وقال من نحا إلى أنه من قبيل عطف الجمل -منهم ابن خروف- قال: من أقوى الأدلة على أن الحمل على الجملة لا على المفرد أنه لا يوصف على الموضع، ولا يؤكد عليه، ولا يبدل منه، ولا يحمل عليه عطف البيان، ولو كان لاسمها موضع لم يمتنع شيء من ذلك، كما لم يمتنع فيما له موضع، ومن الدليل أيضًا تغليط س العرب في قولهم: إنهم أجمعون ذاهبون، ولو كان المراعى الموضع لم يغلطهم، انتهى.
وقال غيره: الدليل على ذلك أنه لم يستعمل إلا بعد تمام الجملة أو تقدير تمامها، فتمامها: إن زيدًا قائم وعمرو، وتقدير تمامها {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} ، حمله س على التقديم والتأخير، التقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم إلى آخر الآية والصابئون والنصارى كذلك.
وحمله غير س على حذف الخبر، أعني خبر إن قبل قوله {وَالصَّابِئُونَ} ، التقدير: إن الذين آمنوا آمنون فرحون والذين هادوا والصابئون من آمن إلى آخره، ورجح هذا التقدير بأن حذف ما قبل
العاطف لدلالة ما بعده مقطوع بثبوته في كلام العرب قبل دخول (إن)، نحو قوله:
نحن بما عندنا، وأنت بما عندك راض، والرأي مختلف
وبعد دخول (إن)، نحو قول الآخر:
خليلي هل طب، فإني وأنتما وإن لم تبوحا بالهوى دنفان
التقدير: نحن بما عندنا راضون، وفإني دنف، وقد قال س في قول الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جني وأبي، فكنت وكان غير غدور
"ترك أن يكون للأول خبر حين استغنى بالآخر". انتهى.
ولو كان العطف من قبيل عطف المفرد لكان وقوعه قبل التمام أولى؛ لأن وصل المعطوف بالمعطوف عليه أولى من فصله، ولو كان من عطف المفردات لجاز رفع غيره من التوابع، ولم يحتج س إلى تأويل في قوله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} بأن جعل {عَلَّامُ} مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو بدلًا من الضمير في {يَقْذِفُ} .
وأيضًا فعمل الابتداء منسوخ بعد (إن) لفظًا ومحلًا كانتساخه بـ (كان) ، و (ظن) ، إلا أنها و (لكن) لما لم يتغير بدخولهما معنى
الجملة، وتغير بدخول باقي أخواتها، جاز أن يعطف بعد اسمهما وخبرهما مبتدأ مصرح بخبره، لازم الإثبات إن تباين الخبران، نحو {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، أو محذوفًا إن لم يتباينا، نحو: إن زيدًا قائم وعمرو، كما كان ذلك في الابتداء، نحو: زيد قائم وعمرو جالس، وزيد قائم وعمرو، وذلك بخلاف خبر كان وليت ولعل، فإنه مخالف لخبر المبتدأ المجرد بما حدث فيه من التشبيه والتمني والترجي، فلا يغني أحدهما عن الآخر.
وفي قول المصنف "يجوز رفع المعطوف" دلالة على أن ذلك ليس على سبيل الوجوب، بل يجوز عطفه على لفظ الاسم، فتنصبه قبل ذكر الخبر، نحو قوله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ، وبعد الخبر، نحو قوله:
إن الربيع الجود والخريفا يدا أبي العباس والضيوفا
أراد: إن الربيع الجود والخريف والضيوف يدا أبي العباس.
وجوزوا أيضًا الرفع من وجه آخر، وهو أن يكون معطوفًا على الضمير المستكن في الخبر إن كان الخبر مما يتحمل الضمير، لكن إذا
أريد هذا المعنى أكد ذلك الضمير، أو فصل بينه وبين المعطوف على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. فإذا جردت من التأكيد والفصل كان ارتفاعه على غير العطف على الضمير أحسن، ويضعف رفعه عطفًا على الضمير. كان العطف على الضمير أظهر من جهة أنه يلزم في الوجه الأول الحمل على المعنى، ولا يلزم في هذا، ومن جهة تأكيد الضمير المستكن في الخبر من غير عطف عليه قليل في كلامهم جدًا.
ومثاله العطف بالرفع على غير الضمير المستكن في الخبر قول الشاعر:
فمن يك لم ينجب أبوه وأمه فإن لنا الأم النجية والأب
وقول الآخر:
إن النبوة والخلافة فيهم والمكرمات وسادة أظهار
ومثال ذلك في (لكن) قول الشاعر:
وما زلت سابقًا إلى كل غاية بها يقتضي في الناس مجد وإجلال
وما قصرت بي في التسامي خؤولة ولكن عمي الطيب الأصل والخال
وفي كتاب (التجريد لأحكام كتاب س) ما نصه- وهو لفظ س"- "وما يكون محمولًا على (إن)، فيشارك فيها الاسم الذي وليها، ويكون محمولًا على الابتداء: إن زيد ظريف وعمرو، فيرتفع على وجهين،
فأحدهما حسن، وهو أن يكون محمولًا على الابتداء؛ لأن معنى إن زيدًا منطلق: زيد منطلق، و (إن) توكيد. والآخر ضعيف، وهو أن يكون محمولًا على المضمر، وأحسنه أن تقول: هو وعمرو، فإن شئت جعلت الكلام على الأول، فقلت: إن زيدًا منطلق وعمرًا. (ولكن) المثقلة في جميع الكلام بمنزله (إن).
وإذا قلت (إن زيدًا منطلق لا عمرو) فتفسيره كتفسيره مع الواو، وإذا نصب فتفسيره كنصبه مع الواو.
و (لعل) و (كأن) و (ليت) يجوز فيهن جميع ما جاز في (إن)، إلا/ أنه لا يرتفع بعدهن شيء على الابتداء، ومن ثم اختار الناس: ليت زيدًا منطلق وعمرًا، وضعف عندهم أن يحملوا عمرًا على المضمر حتى يقولوا (هو).
وتقول إن زيدًا فيها لا بل عمرو، وإن شئت نصبت، و (لا بل) تجري مجرى الواو" انتهى.
وفي (الإفصاح) ما مخلصه: "اختلفت عبارة النحويين وأغراضهم: فمنهم من يقول: هو معطوف على (زيد) المنصوب؛ لأنه في الأصل مرفوع، وبقي على معناه وحكمه، وإنما نصبته (إن) تجوزًا، ولم يتغير له موضع، فيعطف عليه بحكم الأصل، فتقول (وعمرو) كما تقول: ما زيد بقائم ولا قاعدًا.
ومنهم من قال: لا يشبهه لأن (إن) رفعت الابتداء، فلا يكون في موضع رفع، والرفع على موضوع (إن) وما عملت فيه؛ لأن (إن) أزالت
الاسم عن الابتداء، وهي وما عملت فيه في موضع ذلك الاسم إذا لم يدخل عليه ناسخ. وهذا الذي أشار إليه أبو علي في قوله في (الإيضاح):(فإن عطفت على إن وما عملت فيه).
وزعم الشلوبين أن مذهب س الحمل على (زيد) لأنه في المعنى مبتدأ، ويجوز ظهور المبتدأ معه إذا زالت إن. قال: ولذلك يجيز ضارب زيد وعمرًا، على هذا، وإنما ذكر العطف على جهة الأولى. وزعم أن ذلك متفهم من كلام س.
وقالوا قوم: إنما يعطف اسم على اسم، فيكون المعطوف محمولًا على العامل في ذلك الاسم، فإن كان له عاملان لفظي وتقديري حمل مرة على هذا ومرة على هذا، وإذا كانت (إن) في موضع الابتداء فلا يعطف اسم على حرف، ولا على حرف اسم، ولا على حرف ومعموله إذا كان أكثر من اسم، ولا حجة بمحل النزاع، ولا يحمل على شيء متوهم غير موجود، فإن فيه عملًا بلا عامل، وإن جاء منه شيء فموقوف على السماع ولا يقاس عليه. فقال هؤلاء: الرفع على الابتداء، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول لأن المعنى واحد.
وهذا الذي أخذته عن حذاق من قرأنا عليه، وهو مذهب ابن أبي العافية وابن الأخضر، وبه أخذ شيوخنا الذين حملوا هذا العالم عنهم أو عمن تحمله عنهم، وهو الذي تقرر عند المباحثة من كلام س، ولا يصح عنه غيره، وهو مذهب أبي الجرمي، نص عليه في (الفرخ) انتهى.
فرع: إن زيدًا اختصم وعمرًا: قال أبو جعفر الصفار: لم يجزها أحد من النحويين علمته إلا محمد بن يزيد وابن كيسان، فإنهما أجازاه
لأن الثاني يدخل في معنى الأول وإن أفرد الفعل. قال ابن كيسان: وإنما لم يجز "إن زيدًا اختصم" لأن الاختصام لا يكون إلا من اثنين،/ وأنت إن نصبت الاثنين فقد تم المعنى، فلا يلتفت فيه إلى إفراد الفعل. قال ابن كيسان: ويجوز: إن زيد اختصما وعمرًا.
وقوله لا قبله مطلقًا، خلافًا للكسائي يعني بقوله (مطلقًا) سواء أظهر فيه الإعراب أم لم يظهر، نحو: إن زيدًا وعمرو قائمان، وإن هذا وزيد قائمان. ووافق الكسائي على جواز ذلك أبو الحسن وهشام. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) الآية، وبما حكاه س عن العرب من قولهم: إنك وزيد ذاهبان. وحكي الأخفش في (مسائل الكبير): سمعت من العرب من يقول: إن زيدًا وأنت ذاهبان. وحكي الكوفيون الرفع في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ)، وهي قراءة محمد بن سليمان الهاشمي، فنقل أن الأخفش مضى إليه، فقال له: هذا لحن. فأعطاه، وحباه. فيكون للأخفش في المسألة قولان.
واحتج من منع ذلك بأنه محال أن يعمل في الخبر (إن) والابتداء يأتي تأويله.
فلو كان الخبر مفردًا، نحو "إن زيدًا وعمرو منطلق" فنقل أبو جعفر
النحاس الخلاف فيه، أجاز ذلك الخليل وس والكسائي وهشام، وأنشدوا قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة فإني وقيار بها لغريب
واحتجوا بأن معنى "إن زيدًا منطلق" و"زيد منطلق" واحد.
ومنع ذلك الفراء، قال: لأنهما اسمان قد وقعت عليهما أداة واحدة، وتبين فيها الإعراب، ولم يطل ما بينهما، فكرة أن يفرق بينهما بإعرابين مختلفين والمعنى فيهما واحد. وأجاز ذلك فيما لا يتبين فيه الإعراب كالمضمر والذي. قال: لأنه إنما يمتنع أن يجمع اسمان معربان يخالف بينهما.
ونقول: إجازة س والخليل في حكاية النحاس "إن زيدًا وعمرو منطلق" ليس عطفًا على موضع (زيد)، ولكنه على التقديم والتأخير، أو على حذف الخبر خبر (أن).
وقوله ولا بشرط خفاء إعراب الاسم، خلافًا للفراء دليله دليل الكسائي، وقال الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما حيينا في شقاق
ويشمل قوله "خفاء إعراب الاسم" أن يكون الاسم مبنيًا، وبه مثلوا،
وأن يكون معربًا لكن الإعراب فيه مقدر، كالمقصور والمضاف إليه ياء المتكلم، وهو يحتاج إلى نقل مذهب الفراء في ذلك.
وقوله وإن توهم ما رأياه قدر/ تأخير المعطوف يعني فيما أمكن فيه ذلك، نحو: إن زيدًا وعمرو قائم، التقدير: إن زيدًا قائمًا وعمرو. أو حذف قبله، أي: قبل المعطوف، وذلك فيما لا يمكن فيه نية التأخير، نحو: إنك وزيد ذاهبان، التقدير: إنك أنت وزيد ذاهبان، فأنت: مبتدأ وزيد: معطوف عليه، والخبر: ذاهبان، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع خبر (إن).
و (إن) وأخواتها تثبت قوة شبهها بالأفعال لفظًا ومعنى واختصاصًا، ولذلك لم يبطل عملها بالفصل بالخبر الظرف والمجرور، ولا بالفصل بهما معمولين للاسم، ولا بحذفها وإبقاء عملها، كقراءة من قرأ {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ} ، بخلاف (ما) المشتبهة بـ (ليس)، و (لا) المشتبه بـ (إن)، فإنهما ضعيفتا الشبه والعمل، ولذا لا تعمل (لا) في الخبر عند س، ويبطل عملها بالفصل بإجماع، ولضعفها لم تنسخ عمل الابتداء لفظًا ومحلًا، بل هو باقٍ تقديرًا بعد دخولها، ولهذا ينعت اسمها باعتبار المحل رفعًا، ولم يفعل ذلك باسم (إن). وإذا كان كذلك فهي كـ (كان) وأخواتها، فكما امتنع أن يكون لمعمولي (كان) إعراب باعتبار المحل فكذلك (إن). ولو جاز أن يكون اسم (إن) مرفوع المحل لجاز ذلك لخبر (كان) لتساويهما في أصالة الرفع وعروض النصب.
وقال المصنف في الشرح ما نصه: "غلط س من قال: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، فقال: (واعلم أن ناسا من العرب يغلطون، فيقولون: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيد ذاهبان، وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال: هم، كما قال:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئًا
وهذا غير مرضي منه- رحمه الله فإن المطبوع على العربية كزهير قائل هذا البيت لو جاز غلطة في هذا لم يوثق بشيء من كلامه، بل يجب أن يعتقد الصواب في كل ما نطقت به العرب المأمون حدوث لحنهم بتغير الطباع، وسيبويه موافق على هذا، ولولا ذلك ما قبل نادرًا كلدن غدوة، وهذا حجر ضب خرب" انتهى كلام المصنف.
وفهم من كلام س "أن ناسا من العرب يغلطون" حقيقة الغلط، وأنهم لحنوا في ذلك، ولا يوثق بهم في ذلك، ولا يبني عليه. ولم يرد س هذا المفهوم الذي فهمه المصنف، وإنما يريد أنه لم يشرك في الناصب، وكأنه لم يتقدم ناصب، بل ابتدأ بالاسم مرفوعًا، فأتبعه مرفوعًا، فصار كأنه لم يذكر الناصب، وسمي هذا غلطًا مجازًا لا على جهة الحقيقة.
وفي (البسيط): "سماه غلطًا لخروجه عن القياس لما فيه من إعمال عاملين في واحد، والكوفيون/ يقولون: إن الخبر ليس معمولًا لـ (إن)، فلا يلزمهم هذا، وكذلك من يجوز عمل العاملين" انتهى.
ونظيره في كلامه قوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)، يسمى س هذا عطفًا على التوهم، كأنه قال: أصدق وأكن، ولا يريد س التوهم حقيقة إذ يستحيل على الله تعالى، وإنما يريد أنه لم يتبع الثاني الأول في الإعراب/ وكأنه غلط في أن ذكر الناصب ومقصوده الرافع ومراعاته. ولم يفهم أحد من الشراح ولا الشيوخ المأخوذ عنهم هذا العلم عن س ما فهمه هذا المصنف، كما لم يفهموا عنه حقيقة التوهم، وإنما المعنى في الغلط والتوهم ما ذكرناه من أنهم لا يلحظون اشتراك الثاني مع الأول، وكأن ذلك الأول ما دخل عليه المعرب الذي كان ينبغي للثاني أن يشاركه فيه، وإنما يحمل هذه الأشياء على ظاهرها من لم يأخذ العلم عن المشايخ، ولم يعرف مقاصدهم، فينظر في العلم وحده، فيفهم خلاف ما فهموه.
وحكي لنا أستاذنا العلامة أبو جعفر بن الزبير- رحمه الله أنه كان بمدينة مالقة شخص قد نصب نفسه لإقراء النحو، يعرف بابن الفخار، وقد رأيته أنا بمقالة، وحضرت مجلسه، فحين علم بي أني من تلاميذ ابن الزبير أنس، وتحدث، وقطع مجلسه بالحديث معي، ولم يقرئ في ذلك المجلس أحدًا. قال الأستاذ أبو جعفر: فسمع عني أني أذكر العطف على التوهم في القرآن، فأنكر ذلك، وشنع، وقال: كيف يكون التوهم في القرآن، والله- تعالى- منزه عن التوهم؟ وذلك لجهله بمصطلح أهل الفن ونظره وحده دون شيخ، وقد قلت في ذلك:
يظن الغمر أن الكتب تجدي أخًا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من (توما) الحكيم
وقول المصنف (ولكن) يعني أن حكمها في العطف على موضع اسمها حكم (إن)، وذلك لأنها لك تغير حكم الابتداء، وإنما هي بمنزلة (بل).
وبعضهم منع العطف على موضع اسم (لكن) لما فيها من معنى الاستدراك. ومن أجاز قال: إذا قلت "ما زيد قائمًا لكن عمرًا منطلق" هو بمنزلة قولك: عمرو منطلق، وهو مذهب س
وقوله و (أن) في ذلك كـ (إن) على الأصح اختار المصنف جواز العطف بالرفع في نحو "علمت أن زيدًا قائم وعمرو" على اسم (أن)، كما جاز ذلك في (إن)، وقال بشر:
أبي لبني خزيمة أن فيهم قديم المجد والحسب النضار
قال ابن الدهان: "عطف على موضع (أن) الحسب".
وقال في الشرح: "ومثل (إن) و (لكن) في رفع المعطوف على معنى الابتداء (أن) إذ تقدمها علم أو معناه، فمعناه قوله {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وصريح العلم كقول الشاعر:
وإلا فأعلموا أنا وأنتم بغاة ما حيينا في شقاق
تقديره عند س: فأعلموا أنا بغاة وأنتك كذلك، حمله على التقديم والتأخير كما حمل آيه المائدة، فسوى بين (إن) و (أن)، فصح أن من فرق بينهما على الإطلاق مخالف لسيبويه، وجعل من هذا القبيل {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} .
وزعم قوم أنه إنما أورده بكسر الهمزة، وهي قراءة الحسن، وهو بعيد من عادة س، فإنه إذا استدل بقراءة تخالف المشهور لا يستغني عما يشعر بذلك، كما فعل إذ أورد {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} انتهى.
وما زعمه قوم من أنه كسر الهمزة هو مضبوط في كتاب س بكسر الهمزة مصححًا في نسخ الشيوخ المأخوذ عنهم الكتاب رواية ودراية. ويدل على ذلك أنه إنما ذكر س في هذه الأبواب الحروف الخمسة، ولم يذكر في (باب ما كان محمولًا على إن) سوى (أن) و (لكن)، وقال في آخر الباب:"ولكن منزله إن". فلو كانت (أن) بمنزله (إن) في ذلك لذكرهما كما ذكر (لكن)، إلا أنه ذكر في آخر هذه الأبواب قول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ............
وقال: كأنه قال: نحن بغاة ما بقينا وأنتم".
ووجدت بخط ابن خروف: "هذا يشير إلى تخريج س البيت، نص في المفتوحة أنه يحمل معها على الابتداء" انتهى.
وليس بنص؛ إذ يحتمل أن يكون من باب العطف على التوهم. ويحتمل أن يكون (وأنتم) معطوفًا على مبتدأ محذوف، تقديره: وإلا فأعلموا أنا نحن وأنتك بغاة، والجملة من قوله "نحن وأنتم بغاة" في موضع خبر (أنا)، كما تأولوا "إنك وزيد ذاهبان" على تقدير: إنك أنت وزيد ذاهبان.
وأما على قراءة من قرأ {أَنَّ اللَّهَ برئ} بفتح همزة (أَنَّ) فيكون (إن) فيكون {ورسوله} معطوفًا على الضمير المرفوع المستكن في (برئ)، وحسن ذلك الفصل بين الضمير والمعطوف بالجار والمجرور.
وفي هذا العطف بالرفع ثلاثة مذاهب:
أحدها: الجواز مطلقًا: وهو ظاهر كلام المصنف، والذي صححه. وجعل أبو الفتح والأستاذ أبو علي قول الشاعر:
فلا تحسبني أني تخشعت بعدكم لشيء ولا أني من الموت أفرق
ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم ولا أنني بالمشي في القيد أخرق
من قبيل ما عطفت فيه الجملة على (أن) وصلتها، فجعلوا قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" معطوفًا على (أن) وصلتها.
قال الأستاذ أبو علي: وسوغ ذلك كون (تحتسب) من العوامل التي يصلح وقوع الجمل بعدها.
ورد ذلك عليه بأن قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" لا يجوز وقوعه بعد (تحسبوا)؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: ولا تحسبوا أنا ممن يزدهيه، وإنما يجوز وقوع الجملة بعد (تحتسب) إذا كان فيها ما يوجب تعليق الفعل عنها، نحو: حسبت ما زيد منطلق.
ويخرج البيت على أن يكون قوله "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم" جملة اعتراض بين قوله "أني تخشعت" والمعطوف عليه الذي هو "ولا أنني بالمشي" إذ فيها تسديد وتأكيد؛ لأنه إذا كان لا يتخشع لشيء، ولا يفرق من الموت، ولا هو أخرق بالمشي في القيد، كان ولا بد ممن لا يزدهيه الوعيد.
وفي (الإفصاح): اختار ابن جني الجواز، واحتج برواية "ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم". ولا حجه فيه لأنه استئناف كلام. وهذا تخليط أوجبه عدم فهم كلام س، فقوله "فلا تحسبني ...... " البيت كلام تام، ثم استأنف:"ولا أنا ....... " البيت. وقوله "ولا أنني" استئناف آخر، أراد: ولا تحسبني أنني، فحذف لتقدم الذكر، وليس مما قال في شيء.
المذهب الثاني: المنع مطلقًا، فلا يجوز العطف فيها على معنى الابتداء عند أكثر المحققين؛ لأن المفتوحة وما عملت به تتقدر باسم مفرد، فإذا قلت "بلغني أن زيدًا قائم وعمرو" على أن يكون (عمرو) مبتدأ، والخبر محذوف، لم يجز أن تكون الجملة معطوفة على موضع (أن) وصلتها؛ لأنها بتقدير اسم مفرد مرفوع على أنه فاعل، فلو عطفت عليه الجملة لزم من ذلك أن تكون فاعلة بـ (بلغ) من حيث كان المعطوف شريك المعطوف عليه، وذلك غير سائغ.
وفي (البسيط): وأما (أن) فلا يعطف على موضعها عند المحققين كأبي علي الفارسي وغيره؛ لأنها لا بد لها من عامل آخر غير أن، فلا يبقى للابتداء فيها مساغ لدخول العامل اللفظي القوي، ولأن الفعل لا يتسلط إلا على ما عمل فيه (أن)، فلا تتدخل على المبتدأ، وأنت لو عطفت على الموضع لجعلت الجملة الابتدائية في موضع معمول الفعل، ولا يكون موضعه إلا بشرط دخول (أن)، فامتنع لذلك.
المذهب الثالث: التفصيل بين أن يكون الموضع الذي وقعت فيه يجوز/ وقوع المفرد فيه ووقوع الجملة أو يكون لا يقع فيه إلا المفرد:
فإن كان مما لا يقع فيه إلا المفرد فلا يجوز العطف على موضع (أن) وصلتها، نحو: بلغني أن زيدًا قائم وعمرو، فإذا ورد مثل هذا كان الخبر محذوفًا، والجملة من المبتدأ للخبر معطوفة على الجملة التي هي "بلغني أن زيدًا قائم" عطف جملة اسمية على جملة فعلية.
وإن كان الموضع يصلح للمفرد والجملة جاز العطف على موضع (أن) وصلتها، نحو قولك: أتقول أن زيدًا قائم وعمرو، تريد، وعمرو قائم؛ لأن (أتقول) يقع بعدها المفرد، نحو: أتقول أن زيدًا قائم، والجملة نحو: أتقول عمرو قائم. وهذا المذهب اختيار ابن عصفور.
وقال الأستاذ أبو علي: اختلفت في (أن) المفتوحة، هل يجوز العطف على موضعها، فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو الصحيح لأنها في تقدير المفرد، ولا تعطف جملة على مفرد؛ لأنها- وإن كانت مؤكدة- فقد غيرت المعنى بتغيير حكم الابتداء، وكذلك لا يجوز رفعه بالابتداء بعدها لأنه بمنزله العطف على الموضع سواء.
وخرجوا كلام س، فقال بعضهم: إنما احتج بالكسر على قراءة ابن محيصن، فكأنه قال: ومثله (إِنَّ اللَّهَ) فيمن كسر، وقد ثبت في بعض النسخ بالكسر، ولكن الناس فتحوا، فوهموا. وقال بعضهم:(أن) هنا بمعنى (أن)، يبتدأ بها. وهذا ليس بشيء لأن الابتداء يوجب كسرها.
وذهب ابن جنب إلى أنه يعطف على (أن) مطردًا لما كان بمعنى (إن)، وعليه حمل كلام س، واحتج بالبيت المتقدم، يعني:
وإلا فأعلموا أنا
…
وأنتم ............
وهذا قول حسن.
ثم قال الأستاذ أبو علي: لا حجة له في قوله "ولا أنا ممن يزدهيه" لأنه يكمن أن يكون جملة أخرى ليست معطوفة على (أني)، ولم تتكرر (لا) لأنها في معنى المكررة، كقوله:
................. حياتك لا نفع، وموتك فاجع
وتكون "ولا أني" الثانية معطوفة على فاعل (يزدهيه).
وقوله وكذا البواقي عند الفراء ذهب الفراء إلى أنه يجوز الرفع بالابتداء في العطف في كأن وليت ولعل، فأجاز: كأن زيدًا منطلق وعمرو، وليت زيدًا منطلق وعمرو، ولعل زيدًا قادم وبشر.
وهذا لا يجوز فيه إلا النصب باتفاق من أهل البصرة، ولا يجيزون الرفع على الموضع، ولا على الابتداء والخبر محذوف. وعلة امتناع الحمل على الموضع أن غير (إن) و (لكن) قد غيرت المعنى أو الحكم؛ ألا ترى أن كان زيدًا قائم، وليت زيدًا ذاهب، ولعل زيدًا قادم، ليس شيء منها في معنى الابتداء والخبر، وكذلك "يعجبني أن زيدًا قائم" في معنى: يعجبني قيام زيد، فقد بطل حكم الابتداء، والخبر جملة.
وأما امتناع الرفع على الابتداء والخبر محذوف فلأنك لا تحذف إلا ما هو مثبت، وهنا ليس كذلك لأن الجملة خبرها مشبه به أو متمني أو مترجي، والمحذوف ليس فيه شيء من ذلك، فلا يجوز كما لم يجز
"تبًا له وويح" على أن يكون (ويح) مبتدأ محذوف الخبر لدلالة (له) المتقدمة عليه؛ لأن (له) تبيين، وهذا خبر، فلم يوافق المثبت المحذوف.
وزعم الأستاذ أبو علي أن ذلك ممتنع من جهة أخرى، وهو أن الجملة التي بعد العطف مخالفة لمعنى الجملة التي قبل العطف من حيث كان الخبر في الجملة الأولى غير ثابت، وفي الثانية ثابت، قال: ولا يجوز عطف الجمل بعضها على بعض حتى تتفق معانيها.
وهذا الذي ذهب إليه من أن عطف الجمل مشروط فيه اتفاق المعاني هو مذهب جماعة من النحويين. وليس بصحيح، بل يجوز عطف الجمل بعضها على بعض من غير أن تتفق المعاني، ومن ذلك قول الشاعر:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معول
وقول الآخر:
تناغي غزالًا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسام بإثمد
وإلى جواز ذلك ذهب س، فأجاز أن تقول: جاءني زيد ومن أخوك، عطف الجملة على الجملة وإن لم يتفق معناهما، فثبت إذا أن المانع من ذلك ما ذكرناه من كون الخبر المثبت ليس في معنى المحذوف.
فإن قلت: هلا جاز العطف مع هذه الحروف على موضع الابتداء لأنك قد تقول: ليته زيد قائم، ولعله زيد قائم، وكأنه زيد قائم، وبلغني أنه زيد قائم، فيكون (زبد) في جميع ذلك مبتدأ، ويكون معنى الكلام مع لحاق الضمير كمعناه قبل لحاقه.
فالجواب: أن ذلك لا يسوغ لأنك إن حملت على الموضوع كان العطف من قبيل عطف المفردات، فيكون المعطوف في حكم المفرد، فلا يجوز حمله على الجملة المفسرة بضمير الشأن، وضمير الشأن لا يفسر بالمفرد. وأيضًا فالمعنى مع ضمير الشأن ليس كالمعنى مع عدمه لأنه يؤتى به للتعظيم، وإذا سقط لم يكن في الكلام تعظيم.
واستدل الفراء لمذهبه بقول الراجز:
يا ليتني وأنت يا لميس في بلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير والعيس
وبقول الآخر:
يا ليتني وهما نخلو بمنزله
…
حتى يرى بعضنا بعضًا ونأتلف
وهذا خطأ عند البصريين، وهو لا يجوز عندهم في (إن)، فهو في ليت وكأن ولعل أبعد .. وتأولوا هذا البيت على أن التقدير: يا ليتني وأنت معي، فحذف (معي)، وهو خبر/ (أنت)، والجملة حالية واقعة بيت اسم (ليت) وخبرها. ويحتمل أن يكون التقدير: يا ليتني أنا وأنت يا لميس، فيكون (أنا وأنت) مبتدأ، و (في بلدة) خبر، والجملة خبر (ليتني)، كما تأولوا "إنك وزيد ذاهبان" على معنى: إنك أنت وزيد ذاهبان.
وعلى مذهب الفراء يخرج قول أبي محمد بن حزم:
كأني وهي والكأس والخمر والدجا حيًا وثري والدر والتبر والسج
-[ص: والنعت وعطف البيان والتوكيد كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء. وندر: إنهم أجمعون ذاهبون، وإنك وزيدان ذاهبان.
وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي (ظن) إن خفي إعراب الثاني.]-
ش: يعني بقوله (كالمنسوق) أنه إن كان النعت وعطف البيان والتوكيد بعد الخبر جاز الرفع عند الجرمي والزجاج والفراء ويعني بعد (إن) و (لكن)، فتقول: إن زيدًا قائم العاقل، وإن زيدًا قائم نفسه، وإن زيدًا قائم بطنه.
وأما قبل الخبر فالذي يقتضيه مذهب الفراء جواز الرفع بشرط خفاء إعراب الاسم، نحو: إن هذا العاقل قائم، وإن هذا أخوك قائم، وإن هذا نفسه قائم. وأما مذهب الجرمي والزجاج فلا يجوز هذا عندهما لأنهما لا يريان العطف بالرفع قبل الخبر، فلا ريان إتباع الاسم بالنعت وعطف البيان والتوكيد.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "فإن أتبعت إن بتابع غير عطف النسق فالإتباع عند المحققين من أهل البصرة على اللفظ، نحو: إن زيدًا القائم منطلق، وإن زيدًا منطلق القائم، ولا يجوز غيره إلا أن يسمع فيحفظ، ولا يقاس عليه. وأما أهل الكوفة وبعض البصريين فالإتباع عندهم فيما عد (إن) و (لكن) على اللفظ ليس إلا لأنها حروف غيرت معنى الابتداء والخبر وحكمه.
وأما (إن) و (لكن) فإن أتبعت بعد الخبر جاز عندهم النصب على اللفظ، والرفع على المعنى. أو قبل الخبر فعلى مذهب الكسائي يجوز النصب على اللفظ، والرفع على الموضع، قياسًا على ما سمع من قولهم (إنهم أجمعون ذاهبون) بالرفع على موضع إن قبل دخولها. وعلى مذهب الفراء إن كان الاسم مبنيًا جاز النصب على اللفظ، والرفع على الموضع، نحو: إن هذا نفسه ذاهب، وإن كانا معربًا فالنصب على اللفظ ليس إلا، فقاس على قولهم (إنهم أجمعون) ما هو بمثله في البناء) انتهى.
وفد تأول "إنهم أجمعون ذاهبون" على حذف المبتدأ، والتقدير: إنهم هم أجمعون ذاهبون، فأجمعون توكيد لقوله (هم) المحذوفة. وينبني جواز هذا التأويل على جواز حذف المؤكد، وفيه خلاف سيذكر في بابه إن شاء الله.
وقوله وأجاز الكسائي إلى آخر الباب. مثاله: ظننت زيدًا صديقي وعمرو، هكذا مثل المصنف هذه المسألة. والذي حكاه الفراء عن الكسائي أنه أجاز: أظن عبد الله وزيد قاما/ وأظن عبد الله وزيد يقومان، وأظن عبد الله وزيد مالهما كثير، فيرفع زيدًا في كل ما كان خبره وخبر المنصوب مستويين، وكان لا يجيز: أظن عبد الله وزيد قائمين، ولا: قائمًا؛ لأن الرفع والنصب يستبين في (قائمتين). واحتج الكسائي بأن الخبر في (ظننت) كالمبتدأ إذا كان على هذه الجهات.
قال الفراء: وقد ذهب مذهب عالم إلا أني لا أجد بدا إذا قلا "أظن عبد الله وزيد" بموضع رفع أو نصب، ولا أقدر على أن أعطل (يقومان) بغير إعراب ظاهر فيهما ولا مضمر، فإن كان في موضع نصب دخل عليه أن يقول: أظن عبد الله وزيد قائمين، ولا يجوز أن ترفع زيدًا وتنصب خبره، وإن قضيت عليه أنه في موضع رفع قلت: أظن عبد الله
وزيد قائمان، فكان أيضًا خطأ أن تنصب عبد الله وترفع خبره، ورأيته يلزمه ألا يعطف (قائمين) على (يقومان)، فيمنع الكلام مما يجوز فيه، فيمنعني من أن أقول: أظن عبد الله وزيد يقومان وقاعدين، لا برفع ولا بنصب. انتهى كلام الفراء ورده على الكسائي.
والقول عند البصريين قول الفراء.
واتضح من هذه المسألة أن تصوير المسألة الذي صوره المصنف وتمثيله الذي مثله خطأ، وتصحيحها أن يقول: وأجاز الكسائي رفع المعطوف على أول مفعولي ظن إذا كان المسند إليهما لا يستبين فيه الإعراب.
وإذا عطفت الجملة على هذه الحروف ما عملت فيه فلا خلاف في جوازها، نحو: إن زيدًا قائم وعمرو منطلق، وكذا في ليت ولعل وكأن ولكن، لكن لا يكون داخلًا في معناها، فإذا قلت:"ليت زيدًا منطلق وعمرو قائم" لا يكون الانطلاق متمني، لكنه يضعف من جهة عطف غير مناسب.
وهذه مسائل من أبواب (إن):
الأولى: أجاز الأخفش: إن فيها جالسين أخويك/ بنصب (جالسين) على الحال. قال أبو العباس: وهذا خطأ. قال: ولا اعرفه للأخفش إلا في هذا الكتاب. يعني (الأوسط). وإنما جاز في الظرف لأن الحال في الظرف، فهو أعم.
وحكي الكسائي: إن ههنا يلعبون صبيانًا، يجعل (يلعبون) في موضع الحال. قال الكسائي: فقلت لأبي العباس: لم تكره هذا والفعل قبل
اسم (إن) أقبح من الاسم في الحال؟ قال: إنما كرهت ذلك لأن حال المنصوب لا تحسن؛ ألا ترى أنك تقول: ضربت يضحك زيدًا، وبقبح: ضربت ضاحكًا زيدًا؛ لأن الاسم يوهمك أنه مفعول، وهذا يوهمك الحال أنها اسم (إن).
وأجاز أبو العباس ذلك على أن (جالسين) اسم (إن) و (أخويك) بدل. وأجاز ذلك الكوفيون على أن يكون (أخويك) ترجمة.
والثانية: أجاز ابن كيسان: إن فيها قائمًا ويقعد أخويك. قال: كما أقول: رب رجل وأخيه، فيكون في المعطوف/ ما لا يكون في المعطوف عليه.
ومنع الكوفيون، قالوا: لأن (قائمًا) لا يقع موقعه هنا (يقوم)، فامتنع كما امتنع: سوف يقوم وقاعد عبد الله.
الثالثة: إذا قدمت الظرف أو المجرور، فقلت: إن فيها زيدًا قائمًا، وإن أمامك عمرًا جالسًا، اختار س والكوفيون النصب في قائم وجالس. فإن بدأت بالاسم، نحو "إن زيد فيها قائم" اختاروا الرفع. وزعم أبو العباس أن التقديم والتأخير في هذا سواء.
الرابعة: إذا تكرر الظرف، نحو "إن زيدًا في الدار واقفًا فيها" جاز الرفع والنصب عند البصريين، ولم يجز عند الكوفيين إلا النصب.
وحجه البصريين أنك إنما تجيء به مؤكدًا، فأن اختلف فهو يجرى هذا المجرى، نحو: إن عبد الله في الدار جالسًا في صدرها، وجالس، عند البصريين، وهذا زيد في الدار راغبًا في شرائها، كما قال:
والزعفران على ترائبها
…
شرقًا به اللبات والنحو
والفراء لا يجيز إلا النصب، ويجعل "اللبات والنحر" كأنهما معهما عائدًا على الترائب. قال ابن كيسان: والرفع عندي جائز. وإنما أرادوا: والزعفران على الترائب في حال شروق اللبة والنحر به، وإذا رفع أراد: والزعفران شرق في لبتها ونحرها على الترائب منها، فبين موضع شروقه، كأن موضع النحر واللبه شرق بالغفران على هذا الموضع الآخر، أعني الترائب.
الخامسة: أجاز الفراء أن يلي الفعل (ليت) لأنها بمعنى (لو)، فتقول: ليت زيد، وليت خرج عمرو، فلا يكون لها إذ ذاك عمل في شيء، كما أن (لو) لا عمل لها في شيء، وقد جاء في كلام العرب ما يدل على ظاهرة، نحو قوله:
فليت دفعت اللهم عني ساعة فبتنا على ما خليت ناعمي بال
ولا يجوز ذلك عند البصريين، وتأولوا ما ورد مما ظاهرة ذلك على أنه مما حذف فيه اسم (ليت)، إما على أن يكون ضمير الشأن، وإما على أن يكون ضمير الخطاب، أي: فليت، كما جاز الحذف في قوله:
.............. ولكن زنجي عظيم المشافر
أي: ولكنك زنجي
السادسة: إذا عطفت على اسم (إن) وأخواتها فالخبر على حسب المتعاطفين، تقول: إن زيدًا وعمرًا قائمان، ولا يجوز (قائم) إلا حيث سمع، نحو قوله:
فمن يك سائلًا عني فإني جروة لا ترود ولا تعار
وقوله:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلة فإني وقيارًا بها لغريب
ونحو قوله:
إن شرخ الشباب والشعر الأسـ ـود ما لم يعاص كان جنونًا
/ والوجه أن يكون: لا نرود ولا نعار، بالنون، ولغريبان، ما لم يعاصيا.
واختلف في تخريج هذه الأبيات:
فذهب الفارسي إلى أنهما لتلازمهما أخبر عنهما إخبار الواحد، فجعله من باب قوله:
لمن زحلوقة زل
…
بها العينان تنهل
وقوله:
ولو رضيت يداي بها، وضنت ...............
وخرجه أكثر النحويين على أنه من الحذف للدلالة، فحذف الخبر من الأول لدلالة الثانية عليه، فالتقدير: فإني لا أرود، وجروة لا ترود. ولما كان باب الحذف أن يكون من الثاني لدلالة الأول عليه، وكان هذا بالعكس، لم ينقس.
وأما الكوفيون فجعلوا مقيسًا على أن تكون الواو عندهم واو (مع)، ولو كانت للعطف للزمت المطابقة من الخبر للمتعاطفين. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:
فإنك والكتاب إلى علي كدابغة وقد حلم الأديم
ألا ترى أن (كدابغة) لا يكون إلا خبرًا عن الكاف، ولو أخبر عن المتعاطفين لقال: كدابغة ودبغها، فيشبه الكتاب بالدبغة وكتابه بالبدغ، لكنه لما لم يرد بالواو إلا معنى (مع) لم يخبر إلا عن الاسم الأول.
قال أصحابنا: ولا حجة في هذا لاحتمال أن يكون من حذف المعطوف، كقولهم: راكب الناقة طليحان، أي: والناقة طليحان.
قال بعض أصحابنا: والصحيح أن واو (مع) كالواو العاطفة في
التشريك في الخبر بدليل قول العرب: كأن زيد وعمرًا كالأخوين، فعلى تقدير أن تكون واو (مع) وجبت المطابقة.
السابعة: إذا جمعت بين ظرفين تام وناقص وقدمت التام، نحو: إن في الدار عبد لله بك واثقًا، أو إن زيدًا في الدار بك واثقًا، جاز الرفع والنصب.
وزعم محمد بن سعدان أن هذا لا يجوز لأن (بك) في صلة (واثق). قال: ولا يجوز: إن فيك زيدًا راغب.
وقال ابن كيسان: الرفع الاختيار لأن الحال في تقدير الأسماء، وتمامها يجب أن يكون بعدها، فلما قدمت (بك) - وهو من تمامها- اخترت إخراجها عن الحال لأن تجعلها خبرًا، وكذا: إن زيد في الدار عليك نازل، وفيك راغب.
فإن قدمت الناقص، فقلت: إن فيك زيدًا في الدار راغب، أو إن فيك في الدار زيدًا راغب، أو إن زيدًا فيك في الدار راغب، جاز الرفع والنصب.
والكوفيون لا يجيزون النصب لأنك حين بدأت بما هو من تمام الخبر قبل الظرف التام صرت كأنك بدأت بالخبر، أي كأنك قلت: إن عبد الله راغب فيك في الدار.
وهذا لا يلزم لأن الظرف إنما هو تبيين عن موضع الفعل، فكأنه في تقدمه مؤخر.
الثامنة: إن عبد الله في الدار طعامك آكل: أجاز أكثر النحويين
الرفع والنصب/. وقال ابن كيسان: لا يجوز عندي النصب لأن الظرف لاشتماله على الفعل تقديمه كتأخيره، والمفعول عندي إنما هو تمام الفعل كبعض حروفه، فليس هو قبله مثله بعده.
التاسعة: إن من خير الناس أو خيرهم زيد: فيها ثلاثة مذاهب:
أحدها: ما هذب إليه الكسائي وشيبه بن الوليد، وهو أنه برفع (خيرهم) وبنصب (زيد)، تجعل زيد اسم (إن)، و"من خير الناس" في موضع الخبر، و (خيرهم) مبتدأ محذوف الخبر، التقدير: إن من خير الناس زيدًا أو خيرهم هو. وجوازًا ارتفاع (خيرهم) على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: أو هو خيرهم، ففي التقدير الخبر أو المبتدأ محذوف لفهم المعنى، وفصل بين خبر (إن) واسمها بالجملة المعطوفة من الابتداء والخبر، فصار العطف قبل تمام معمول (إن).
وفي جواز مثل هذا نظر، وهو من عطف الجمل، ولا جائز أن يكون من الإعمال، ولا من باب عطف المفردات:
أما الإعمال فإنه لا يتأتى في الحروف ولا في المعاني لأن (إن) حرف، و"أو خيرهم" مرفوع بالابتداء، فيقال إن (إن) تطلي زيدًا منصوبًا، و"أو خيرهم" يطلبه مرفوعًا بما ذكرناه.
وأما كونه من باب عطف المفردات فلا يجوز لأنه إما أن تعطفه على موضع اسم (إن)، وهو زيد، أو على موضع "من خيرهم"، وهو الخبر:
لا جائز أن يكون معطوفًا على موضع اسم (إن) لأنه لم يذكر بعد، إنما جاء اسمها متأخر، فيكون قد عطف على ما أتى بعده، والعطف من التوابع، لا يجوز أن يتقدم على المعطوف (عليه) إلا في الشعر، وبشروط هي مذكورة في موضعها، وليس هذا منها.
ولا جائز أن يكون معطوفًا على الخبر الذي هو "من خير الناس" لأنه يلزم من ذلك تقدم الخبر الذي ليس بظرف ولا مجرور على اسم (إن)، وذلك لا يجوز بإجماع.
المذهب الثاني: ما ذهب إليه أبو أحمد البلخي، وهو رفع (خيرهم) ورفع (زيد)، فرفع (زبد) على الابتداء، و"من خير الناس" في موضع الخبر، و"أو خيرهم" معطوف على الخبر، واسم (أن) محذوف ضمير الأمر، وحذفه في مثل هذا قليل، حكي الخليل عن العرب "إن بك زيد مأخوذ"، التقدير: إنه من خير الناس أو من خيرهم زيد، والعطف هنا من عطف المفردات لأنه "أو خيرهم" معطوف على الخبر المتقدم. والكلام كله على هذا جملة واحدة، وعلى مذهب الكسائي يكون الكلام جملتين. وهذا المذهب حسن.
المذهب الثالث: ما ذهب إليه أبو محمد يحي بن المبارك اليزيدي، وهو نصب (خيرهم) ورفع (زيد)، فاسم (إن) محذوف لفهم المعنى ولدلالة ما بعده عليه، و (خيرهم) منصوب بإضمار (إن) لدلالة (إن)، التقدير: إن من خير الناس زيدًا أو إن من خير زيد، فحذف (زيدًا) لدلالة
(زيد) / الأخير بعده عليه، وحذف اسم (إن) لفهم المعنى جائز، فحذف من الجملة الأولى اسم (إن) للدلالة فيما بعده عليه، وحذف من الجملة الثانية (إن) للدلالة في الجملة الأولى عليها، وكل ذلك جائز، وقد أنشد أبو المطوق الإعرابي مثل هذا التركيب، وهو قول بعض المحدثين:
فإن من خيرهم وأفضلهم
…
خيرهم بتة أبو كرب
فوافق عليها، وأجازها، وكان أبو المطوق ممن تؤخذ عنه العربية لفصاحته.
العاشرة: أجاز س: إن زيدًا لفيها قائم، جعل (فيها) ملغاة. وهذا لا يجوز عند الكوفيين لأنها (فيها) لو كانت لغوًا لم تؤكد. والحجة لـ (س) قول العرب: إن زيدًا لبك مأخوذ.
الحادية عشرة: أجاز الكسائي: إن بك لكفيلين لأخواك. ومنعه الفراء لأن الاسم مرفوع بالفعل، فلا تحول بينهما اللام. وهو جائز عند البصريين على أن ارتفاع (أخويك) هو على الخبر لـ (إن).
الثانية عشرة: المعاني التي جاءت لها الحروف كلها لا تعمل في ظرف ولا حال، ولا يتعلق حرف جر. والدليل على ذلك أنك لو قلت "ليت زيدًا اليوم ذاهب غدًا" لم يجز، وذكر بعض أصحابنا في ذلك الإجماع.
وقد نص الزمخشري في (مفصله) على أن ليت ولعل وكأن
ينصبن الحال، بخلاف أخواتها، أما (كأن) فبالاتفاق عليها.
وقد علل منع ذلك الفارسي في (الحلبيات) بأنها في دلالتها على المعاني قصد بها غاية الإيجاز، فالألف تغني عن: أستفهم، و (ما) عن: أنفي، و (إن) عن: أؤكد، فلو أعلمت في الظرف والحال، ومكنت تمكين الفعل، لكان نقصًا لما قصد من الإيماء. انتهى.
وقال بعض أصحابنا: ليس من الحروف ما يعمل في ظرف أو حال إلا (كأن) وكاف التشبيه، قال:
كأنه خارجًا من جنب صفحته ود شرب نسوة عند مفتاد
وتقول: كأن زيدً اليوم أسد. والفرق بينهما وبين سائر الحروف أن كل حرف معناه معنى الفعل، فمعناه في نفس المتكلم، فالمتمني هو الناطق بـ (ليت)، والمستفهم هو الناطق بـ (هل)، والفعل بخلافه، معناه مسند إلى ما دخل عليه من الاسم، فإذا قلت "قام زيد" فالقائم (زيد) لا المتكلم، فهذا فرق ما بين الحرف والفعل. وأما (كأن) ففيها دلالة على التشبيه والشبه، فالتشبيه معنى في نفس المتكلم، فمن هذا الوجه هي كسائر الحروف، والشبه مسند إلى (زبد) إذا قلت "كأن زيدًا أسد" أي: أشبه زيد كذا، فشاركت الأفعال من هذا الوجه، فعمل ذلك المعنى الذي/ هو الشبه المسند إلى (زيد) في الحال والظرف، وتعلق به حرف
الجر، وليس ذلك في التمني ولا التأكيد ولا النفي ونحوها، فمن هنا فارقت (كأن) أخواتها، فعملت بلفظها كعمل أخواتها في الأسماء، وعمل معناها في الحال والظرف، وفارقتها أيضًا في وقوعها نعتًا للنكرة حالًا من معرفة وخبرًا لـ (كان) وأخواتها، قال:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ................
الثالثة عشرة: هل يجوز تعداد خبر هذه الحروف أم لا تقتضي إلا خبرًا واحدًا؟ اختلف في ذلك:
فالذي يلوح من مذهب س المنع؛ لأنه يزعم أنك إذا أتيت بالاسمين أتبعت الأول منهما، ثم رفعت الآخر، نحو: إن زيدًا الظريف منطلق، فإن لم تذكر الآخر رفعت، فنسب المنع إليه من حيث لم يذكر رفعهما، وهو الذي يدل عليه القياس، لا يقال: كما يجوز أن يكون للمبتدأ خبران يجوز لهذه الحروف؛ لأنها إنما شبهت بالفعل، فكما لا يقتضي الفعل مرفوعين فكذلك هذه، قيل: مع أنا لم نسمعه في موضع من المواضع فينبغي ألا يجوز.
الرابعة عشرة: إن زيدًا وإن عمرًا منطلقان: لا يجوز من جهة أن الخبر إذ ذاك يكوم معمولًا لعاملين، وهو لا يجوز.
الخامسة عشرة: أجاز الجمهور: إن زيدًا فيها قائمًا. ومنع ذلك ابن الطراوة لأنك إن جعلته خبرًا فلا اعتنيت به، وجعلته أولًا، ولا أخرته في موضعه جبريًا على مذهبه في منع: ضرب عمرًا زيد. انتهى. كذا هذه المسألة في (شرح أبي الفضل الصفار)، وينظر ذلك في (المقدمات) لابن الطَّراوة.
-[ص: باب (لا) العاملة عمل (إن)
إذا لم تكرر (لا)، وقصد خلوص العموم باسم نكرة يليها غير معمول لغيرها، عملت عمل (إن)، إلا أن الاسم إذا لم يكن مضافا ولا شبيها به ركب معها وبني علي ما كان ينصب به، والفتح في نحو (ولا لذات للشيب) أولي من الكسر. ورفع الخبر- إن لم يركب الاسم مع (لا) - بها عند الجميع وكذا مع التركيب على الأصح.]-
ش: (لا) علي أربعة أقسام: تكون للنهي، وتختص بالمضارع، نحو: لا تقم. وللدعاء، نحو: لا عذب الله زيدا. وزائدة، نحو {مَا مَنعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} . ونافية، فتنفي الفعل، ولا عمل لها فيه، وتدخل علي الاسم، فيجوز أن تهمل ويجوز أن تعمل، وإذا أعملت فتارة تعمل عمل (ليس)، فترفع الاسم، وتنصب الخبر، وتقدم ذلك في فصل (ما) بشروطه، وتارة تعمل عمل (إن) بشروطه التي تذكر.
فقوله باب (لا) يريد (لا) التي تنفي. وقوله/ العاملة احتراز من التي تهمل. وقوله عمل (إن) احتراز من التي تعمل عمل (ليس). وعملها عمل (إن) هو فرع فرع فرع؛ لأنها حملت على (إن)، فهي فرع، و (إن) حملت علي: ضرب زيدا عمرو، فـ (إن) فرع، و"ضرب زيدا عمرو" فرع
على: ضرب عمرو زيدا. وحمل (لا) علي (ليس) قوى في القياس لأنها نافية مثلها، وإذا جاز قياسها علي (إن) في العمل مع أنها نقيضتها فحملها علي نظيرتها أولي، لكن حمل (لا) علي (إن) في العمل أفصح وأكثر في الاستعمال.
فإن قلت: كيف عملت (لا) في الاسم النكرة وليست مختصة إذ تدخل علي الفعل؟
قلت: إذا دخلت علي الاسم النكرة اختصت به إذا كانت للنفي العام، فإذا قلت:"لا رجل في الدار" فقد نفيت القليل والكثير من جنس الرجال، ولذلك لا يجوز: لا رجل في الدار بل رجلان
وإنما يجوز ذلك في (لا) غير العاملة. وإذا ثبت أنها في النكرات للنفي العام ثبت أنها ليست الداخلة على الفعل؛ لأنها لا تنفي نفيا عاما بدليل أنك تقول: أنت لا تضرب زيدا ضربه، وأنت لا تضربه ضربتين، فلو كانت لنفي الضرب العام لم يسغ ذلك.
ولما اختصت بما دخلت عليه كان القياس أن تعمل جرا، فلم تجر لئلا يتوهم أن الجر بـ (من) المنويه؛ لأنها في حكم الموجودة لظهورها في بعض المواضع، نحو قوله:
فقام يذود الناس عنها بسيفه وقال: ألا لا من سبيل إلى هند
ولأن عامل الجر لا يستقل كلام به وبمعمولة، ولا يستحق التصدير، و (لا) المذكورة بخلاف ذلك.
ولم يكن عملها رفعا لأنه يوهم الرفع بالابتداء، ولئلا تلتبس بما لا يقتضى التنصيص علي العموم، وهو (لا) العاملة عمل (ليس)، فلذلك عملت نصبا. ولما لم تستغن عن جزء ثان عملت رفعا لأنه عمل لا يستغنى بغيره عنه في شيء من الجمل. وأيضا فإعمال (لا) هذه إلحاق لها
بـ (إن) لمشابهتها لها في التصدير والدخول على المبتدأ والخبر. قال المصنف في الشرح: "وإفادة التوكيد، فإن (لا) لتوكيد النفي، و (إن) لتوكيد الإثبات انتهى.
وليس كما ذكر من أن (لا) لتوكيد النفي، بل هي لتأسيس النفي إذ لم تدخل علي شيء مثبت، فأكدت ذلك الإثبات.
قال المصنف: " ولفظ (لا) مساو للفظ (إن) إذا خففت. وأيضا فإن (لا) تقترن بهمزة الاستفهام، ويراد بها التمني، فيجب إلحاقها بـ (ليت) في العمل، ثم حملت في سائر/ أحوالها علي حالها في التمني" انتهى.
وهذا ضعيف لأن غالب أحوالها أنها لا تدخل عليها همزة الاستفهام ويراد بها التمني، بل غالب أحوالها لمجرد النفي، وإذا دخلت عليها الهمزة فقد تبقى على النفي، نحو:
ألا طعان، ألا فرسان عادية ...................................
ولا تحمل الحال الغالبة علي الحال النادرة، بل الباب في نحو هذا العكس.
وقوله إذا لم تكرر عدم التكرار شرط في وجوب العمل لأنها إذا كررت جاز إلغاؤها وإعمالها، فمن أعملها فلعدم تغير حالها وحال مصحوبها، ومن ألغاها فلشبهها بالمكررة مع المعرفة، فتلك لا تعمل، فكذلك هذه.
وقوله وقصد خلوص العموم لأنه إذا لم يقصد خلوص العموم لم تعمل عمل (إن)، بل تعمل عمل (ليس)، أو يرفع ما بعدها بالابتداء، فتحتمل إذ ذاك نفي العموم، ونفي الوحدة، ونفي وصف الرجلة والنجدة، فإذا قلت"لا رجل: كان المعني النفي العام، أي: لا واحد من هذا الجنس ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف، وهي جواب لـ"هل من رجل"؟ وكما أن السؤال يقتضي العموم فكذلك الجواب.
وقوله باسم نكرة احتراز من المعرفة، وسيأتي دخولها علي المعرفة وعملها فيه عند ذكر المصنف لذلك إن شاء الله.
وقوله يليها احتراز من ألا يليها، وأنها إذ ذاك لا تعمل، نحو قوله تعالي {لا فِيهَا غَوْلٌ} .
وفي (البسيط): شرط بنائها ألا يفصل بينها وبين (لا) بشيء، فغن فصلت رفعت وكررت،
قال س: وإنما كان ذلك لوجهين: أحدهما: أنه صار بمنزلة خمسة عشر، فامتنع كما امتنع فيه. والثاني: أنه محمول علي السؤال، وأنت لا تقول فيه: هل من فيها رجل.
وذهب الرماني إلى أنه يجوز الفصل، ويرجع على النصب والعمل، ويبطل البناء لحصول الفصل، ويكون جوابا لمن قال: هل فيها من رجل؟
ويدل عليه قولهم: لا كذلك رجلا، ولا كزيد رجلا، و:
............. لا كالعشية زائرا ..................
أما الأول فعلى التمييز، كما تقول: لا مثله رجلا، والمنصوب بـ (لا) محذوف، أي: لا أحد كذلك رجلا، أو يكون محمولا علي المحذوف. وأما الثاني فقال س:"علي معنى: لا أرى كالعشية زائرا، كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلا" أي: ما رأيت رجلا كرجل رأيته اليوم.
وقوله غير معمول لغيرها احتراز من نحز قوله تعالي {لا مَرْحَبًا بِهِمْ} ، ولا يحتاج إلى احتراز من هذا ولا إلى ذكره؛ لأن {مَرْحَبًا} لم يل (لا) إلا في اللفظ؛ ألا ترى أنه منصوب بفعل محذوف، فالذي ولي (لا) غنما هو ذلك الفعل المحذوف لا هذا الاسم النكرة. ولأنه أيضا قد/خرج مثل هذا بقوله"وقصد خلوص العموم باسم نكرة"، وفي قوله {لا مَرْحَبًا} لم يقصد ذلك باسم نكرة، فلا يحتاج على أن يحترز منه لأنه لم يندرج فيما قبله لما ذكرناه.
وقوله عمل (إن) زاد غير المصنف شرطا آخر، وهو ألا تقع بين عامل ومعمول، نحو قولك: جئت بلا زاد؛ لأنها لك تكرر، وقصد بها قصد العموم بنكرة وليت (لا)، ومنع ذلك لا تعمل عمل (إن).
وقوله إلا أن الاسم إذا لم يكن مضافا ولا شبيها به ركب معها فالمضاف نحو: لا صاحب بر مذموم، والشبيه به نحو: لا راغبا في الشر محمود، منصوبان نصبا صريحا، والشبيه بالمضاف يسمى في الاصطلاح المطوَّل والممطول، من قولهم: مطلت الحديدة، أي: مددتها. والمطول في هذا الباب هو الاسم الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. فإذا لم يكن مضافا ولا شبيها به فهو المسمي عندهم بالمفرد، والمفرد في هذا الباب وباب النداء هو قسيم المضاف والمطول إذ المفرد يقال باصطلاحات.
وفي وقول المصنف: ركب معها دليل علي البناء، وقد ذكره بعد، فإذا قلت"لا رجل" فهذه الحركة فيها، وسيأتي الكلام مع من ذكر أنها حركه إعراب عند تعرض المصنف لذلك.
وذهب أكثر البصريين الأخفش والمازني والمبرد والفارسي إلى أنها حركة بناس، واختلفوا في موجب البناء:
فقيل: بنيت لتضمنها معنى (من)، كأن قائلا قال: هل من رجل في الدار؟ فقال مجيبه: لا رجل في الدار، ولأن (لا) نفي عام فينبغي أن تكون جوايا لسؤال عام، ولذلك صرح بـ (من) في بعض المواضع، وصححه ابن عصفور.
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الضائع:"كان يصح ما ذكر لو كان الاسم بعد (لا) هو المتضمن معنى الحرف، وليس كذلك. فيقال
له: (لا) هي المتضمنة معني (من) لا الاسم، فلا موجب لبناء الاسم، هذا إذا سلم أن الاستغراق في (لا) لنيابتها مناب (من)، بل قد قال السيرافي: إن (لا) لا تقتضي في النفي عموم النفي"
وقيل: بني لتركبه مع (لا)، وصارا كالشيء الواحد مثل خمسة عشر.
قال ابن عصفور:"والصحيح الأول لان ما بني من الأسماء لتضمنه معني الحرف أكثر مما بني لتركيبه مع الحرف، نحو قوله:
أثور ما أصيدكم أم ثورين
…
أم هذه الجماء ذات القرنين
وقال ابن هشام:" ويقوي البناء للتركيب بناء الاسم مع صفته، على ما سيأتي" وهو ظاهر كلام س.
وقال ابن هشام:"مذهب س والجماعة إن العرب ركبت (لا) مع الاسم، وجعلتها كلمه واحدة، فبنوا الاسم للتركيب كخمسة عشر. ودليل ذلك/ أنه فصل بينهما أعربوا الاسم، نحو: لا في الدار رجل ولا امرأة، وأن قوما من أهل الحجاز يقولون (لا رجل أفضل من زيد) في التزام التنكير وترك تقديم الخبر وعدم الفصل، وأن المعنى استغراق
الجنس وقد أعربوا، لكنهم لم يعتقدوا التركيب وفيها معنى (من) في هذه المواضع كلها لأنها تعطي الاستغراق" انتهى.
وزعم بعضهم أنه بني لتضمنه اللام التي لاستغراق الجنس. وهو فاسد بوصفه بالنكرة، ولو كان علي ما زعم لوصف بالمعرفة، كما قالوا: لقيته أمس الدابر.
وقوله وبني علي ما كان ينصب به يعني أنه عن كان مما ينصب بالفتحة بني على الفتحة، نحو: لا رجل في الدار، أو مما ينصب علي الياء بني عليها نحو المثنى، تقول: لا رجلين فيها، قال الشاعر:
تعز، فلا إلفين بالعيش
…
متعا ولكن لوراد المنون تتابع
ونحو المجموع جمع سلامة، تقول: لا مساعدين لك، وقال الشاعر:
يحشر الناس لا بنين ولا آباء إلا وقد عنتهم شؤون
وقوله والفتح في نحو (ولا لذات للشيب) أولى من الكسر يعني أن ما جمع بالألف والتاء المزيدتين لا يتعين أن يبني مع (لا) علي ما ينصب به -وهو الكسرة- بل يجوز فيه أن يبني علي الفتح، وهو أولي من الكسر.
وقوله (ولا لذات للشيب) قطعة من بيت لسلامة بن جندل، وقد أنشده المصنف:
إن الشباب الذي مجد عواقبة
…
فيه نلذ، ولا لذات للشيب
وقال:"يروى بكسر التاء وفتحها، والفتح أشهر". ورواه غيره:
أودى الشباب الذي مجد عواقبه ...........
"وبالوجهين أيضا أنشد قول الآخر:
لا سابغات ولا جأواء باسلة
…
تقي المنون لدي استيفاء آجال
وإذا ثبت عن العرب البناء علي الفتح وعلي الكسر ظهر بطلان قول من أوجب البناء علي الفتحة وقول من أوجب البناء علي الكسر.
وفرع بعض أصحابنا الفتح والكسر علي الخلاف في حركة" لا رجل"، فمن قال إنها حركة إعراب قال هنا"لا لذات" بالكسر، ومن قال هي حركة بناء: فالذي يقول إنه يبنى بجعله مع (لا) كالشيء الواحد قال"لا لذات" بالفتح، ولا يجوز عنده الكسر لأن الحركة ليست عنده لـ (لذات) خاصة، إنما هي لـ (لذات) و (لا). والذي يقول يبني لتضمنه معنى الحرف يقول في النصب"لا لذات" بالكسر. وحجته إن المبنى مع (لا) قد أشبه المعرب المنصوب، ولذلك نعت علي اللفظ، فكما الجمع بالألف والتاء في/حال النصب مكسور، فكذلك مع (لا)، وهو
الصحيح. قال هذا القائل:"وبه ورد السماع". ثم أنشد بيت ابن جندل، ونسبه لابن مقبل، وهو:
................... ........ ولا لذات للشيب
قال:"فإنه روي بكسر التاء".
وقال شيخنا أبو الحسن الضائع: "القياس يقتضى أن يبنى علي الكسر، ولابد؛ لأن هذا الجمع يفتح آخره معربا كان أو مبنيا،
ولذلك زعم النحويون أن من قال (هيهاة) فبناه علي الفتح فهو عنده مفرد، تقلب تاؤه هاء في الوقف علي اللغة الفصيحة، ويقوي ذلك أن ها الجمع يجري مجري جمع المذكر السالم، فكما يقال: لا زيدين، فيكون بناؤه علي صيغة المنصوب كذلك يبنى جمع المؤنث السالم علي اللفظ المنصوب" انتهى.
وقال أبو الحكم بن عذره: "اختلفوا في جمع المؤنث السالم: فمنهم من قال: يحكم له في حال البناء بما حكم له في الإعراب، فيجعل فتحه بالكسر كما كان نصبة، وهو قول الأكثر. وقال المازني والفارسي: ينبغي أن يفتح، فيقال: لا ورقات لك. قالا: لأن الحركة في حال الإعراب كانت للورقات نفسها، وهى الآن لمجموع المركب (لا) والاسم المنفي، وحركة المركبين الفتح. فأما س: فلا نص له علي أحد المذهبين أصلا. وما ذهب إليه المازني قياس جيد" انتهى.
ولما ورد الأستاذ أبو الحسن بن خروف الجزيرة الخضراء سأل طلبتها المشتغلين بالنحو، واستنهض منهم الأستاذ أبا عبد الله بن هشام الخضراوي، فقال: كيف تقول: لا مسلمات لك؟ قال: فقلت: أقول: لا مسلمات، بالخفض والتنوين؛ لأن هذه النون كنون (صالحين) بدليل {مِّنْ عَرَفَاتٍ} و:
............ أذرعات ........................
بالكسر والتنوين، فكما أقول "لا مسلمين لك" أقول "لا مسلمات". فقال ابن خروف: بهذا أجبت، وهو الحق.
واعترض ابن هشام هذا، وقال:"لم أر هذا التنوين يثبت حيث يحذف غيره إلا هنا، ورأيته يحذف في النداء في: يا مسلمات، كما تقول: يا زيد، وأنت تقول: يا مسلمون، فتثبت النون، وتحذفه مع اللام، فتقول (المسلمات) كما تقول (الرجل)، وفي الوقف إذا قلت: جاءني مسلمات، وتقول (المسلمون) في الوصل والوقف، فقد رأينا هذه النون تنوينًا لا يخالف غيره إلا في هذا الموضع، فإذا جهلنا السماع في موضع ما حملناه على الأكثر، وقد جرى هذا التنوين مجرى غيره في كل موضع، فكما أجريته مجرى نون (رجل) في كل ما ذكرته، فكذلك تجريه هنا، فتقول: لا مسلمات، كما تقول: لا رجل، وتبنيه على الكسر لأنه نظير الفتح هنا، وهو علامة النصب، فيكون علامة للبناء، كما قال س/ في هيهات: من قاله بالفتح فهو مفرد مبني على الفتح، ومن قال بالكسر فجمع هيهاة، بناه على الكسر لأن الكسر في الجمع نظير الفتح في المفرد" انتهى. وقد اعتذر ابن هشام عن صرف (عرفات) بما يوقف عليه من كلامه.
وقال أبو علي: من يعتقد الإعراب في "لا رجل" قال "لا مسلماتِ لك" بحذف التنوين، وكانت الكسرة عنده علامة نصب، ومن بني بناها على الكسر لأن الكسرة هنا نظير الفتحة، واللفظ واحد، والحكم مختلف.
وقال ابن جني في الخصائص: "لم يجز أصحابنا فتح هذه التاء إلا شيئًا قاسه أبو عثمان، فقال: أقول (لا مسلمات) بفتح التاء؛ لأن الفتحة الآن ليست لـ (مسلمات) وحدها، وإنما هي لها ولـ (لا) قبلها، وإنما يمتنع من فتح التاء ما دامت الحركة لها وحدها، فإذا كنت لها ولغيرها فقد زال طريق الحصر الذي كان عليها، فأقول (لا هيهات لك) بفتح التاء".
وقال أبو الفتح: "وغيره [يقول]: لا هيهات لك، بالكسر على كل حال بلا تنوين" انتهى.
وتلخص في "لا مسلمات" أربعة مذاهب:
أحدها: الكسر والتنوين، وهو مذهب ابن خروف، وقد سبقه إلى ذلك قوم من النحويين، قاله ابن الدهان في (الغرة).
والثاني: الكسر بلا تنوين، وهو مذهب الأكثرين.
والثالث: الفتح، وهو مذهب المازني والفارسي.
والرابع: جواز الكسر والفتح من غير تنوين في الحالين، وهو الصحيح إذ ورد به السماع، أعني الكسر والفتح من غير تنوين فيهما، ولو كانوا وقفوا على السماع ما اختلفوا.
وفي (البسيط) ما ملخصه: إن كان جمعًا على أصله لم يسم به ولم يضف بني على حركة إعرابه، وهي الكسرة. وقيل: ينبغي أن يفتح لأنه بناء للتركيب، فالحكم له لأنه حادث، وسببه (لا)؛ ألا تراه يشبه الإعراب، فيحمل على لفظه، وهذا البناء يكون على الفتح كخمسة عشر، فالحكم لهذا الحادث، وتلغى حالة الأصل، وبع قال الرماني والصقلي من المتأخرين. وقال ابن جني:"الكسر هو الوجه عند النحويين، وإنما قال ذلك بعضهم قياسًا".
وإن أضيف لفظًا أو تقديرًا، نحو "لا مسلمات زيد" أو "لا مسلمات لك" كسر على الأصل لأنه معرب اتفاقًا. فإن ركبته مع اسم آخر، فقلت "لا سرح مسلمات"، وتقدم الاسم على الجمع، فعلى رأي الصقلي تفتح التاء لأن هذه فتحة لبناء التركيب، فالحكم له. وعلى قياس الأكثر تكسر عملًا بالأصل. وقد يقال: القياس يقتضي التنوين إذا كان للمقابلة لأنه نظير النون في الجمع، وأنت تقول: لا زيدين، فتبنيه على الياء لأنه للنصب،/ ويثبت التنوين، فكذلك الكسرة والتنوين. وربما قال به ابن خروف فيما حكي عنه بعض الأشياخ.
فإن كان علمًا فعلى من جعل الإعراب في النون في الجمع حذف التنوين وفتح، فقال: لا مسلماتَ، وعلى من جعل الإعراب بالحروف كسر التاء، وحذف التنوين، وعلى قياس قول الرماني الفتح مطلقًا، وكذا على قول من لا يلاحظ التركيب الحادث، يكسر ليس إلا.
وقوله ورفع الخبر -إن لك يركب الاسم مع لا- بها عند الجميع مثال ذلك: لا آمرًا بمعروف مذموم، ولا صاحب خبث مأمون، فرفع (مذموم) و (مأمون) هو بنفس (لا)، عملت في الاسم النصب وفي الخبر
الرفع. وذكر الأستاذ أبو علي الشلوبين أنه لا خلاف في رفع الخبر بها عند عدم تركيبها.
والخبر في هذا الباب لا يكون إلا نكرة؛ لأنه إن كان معرفة أدى ذلك إلى الإخبار بالمعرفة عن النكرة، وذلك لا يجوز، وجاز ذلك على قلة في (إن) لأنها أقوى في العمل من (لا)، فعلى هذا لا يجوز: لا كريم أنت، ولا فاضل زيد، فأما ما حكاه الأخفش عن العرب من قولهم "لا موضع صدقة أنت" فـ (موضع) منصوب على الظرف لا على أنه اسم (لا)، وأنت: مبتدأ، وكان ينبغي تكرارها، لكنهم لم يكرروها لأن ذلك جرى في الكلام مجرى المثل، قاله المازني، والأمثال لا تغير؛ ألا ترى أنهم يقولون "وريت بك زنادي" لأنه مثل، ولا يقولون في الكلام إلا: ورت الزناد تري.
وقوله وكذا مع التركيب على الأصح هذا الذي اختاره المصنف هو مذهب الأخفش والمازني وأبي العباس وجماعة، ذهبوا إلى أن (لا) هي العاملة في الخبر الرفع إجراء لها مجرى (إن)، وأنه يجوز أن تقول: لا رجل في الدار وامرأة، فتعطف على الموضع، كما يجوز أن تقول: إن زيدًا قائم وعمرو، فتعطف على الموضع.
واعترض على هذا المذهب بأن الحرف الذي ينصب الاسم ويرفع الخبر إذا غير معنى الكلام الذي دخل عليه لم يجز الحمل فيه على الموضع، ولذلك لم يجز في ليت ولعل وكأن، فكان ينبغي على هذا ألا يجوز العطف على الموضع مع (لا) لأنها غيرت معنى ما دخلت عليه من الإيجاب إلى النفي.
فأجاب السيرافي عن ذلك بأن قال: (لا) حدث فيما دخلت عليه معنى النفي، ومعنى النفي لا يناقض الابتداء لأن حروف النفي يجوز دخولها على الابتداء، نحو قولك: لا رجل في الدرار ولا امرأة، وليست لعل وليت وكأن كذلك؛ لأنها لا يقع بعدها المبتدأ في شيء من كلامهم.
وذهب/ غيره من النحويين إلا أنها لم تعمل في الخبر شيئًا، بل النكرة مع (لا) العاملة فيها في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدها خبر للابتداء، كما أن النكرة مع (من) في قولك "هل من رجل قائم" في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدهما خبر للمبتدأ.
وهذا المذهب الأخير هو الظاهر من كلام س، وهو الصحيح. والدليل على ذلك أنه يجوز أن تحمل جميع توابعها على الموضع قبل أن تأتي بالخبر، كما يجوز أن تحمل توابع النكرة المجرورة بـ (من) في قولك "هل من رجل في الدار" على الموضع قبل الخبر، فتقول: لا رجل عاقل في الدار، ولا رجل وامرأة في الدار، كما تقول: هل من رجل عاقل في الدار؟ وهل من رجل وامرأة في الدار؟ فلولا أنهما مع (لا) محكوم لهما
بحكم اسم مبتدأ جاز الحمل على الموضع قبل الخبر، كما لم يجز الحمل على موضع (إن) قبل الخبر، بل من أجاز ذلك من البصريين في باب (إن) إنما يجيزه بعد الخبر.
وثمرة الخلاف تظهر في نحو قولك: لا رجل ولا امرأة قائمان، فعلى مذهب الأخفش لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى إعمال عاملين في معمول واحد، بيان ذلك: تقول: لا رجل في الدار، فالعامل عنده في الخبر (لا)، بمنزلة الخبر في (إن)، فإذا قلت "لا رجل ولا امرأة عاقلان" لزم أن يكون (عاقلان) يعمل فيه عاملان:(لا) من حيث هو خبر اسمها، وتعمل فيه (امرأة) من حيث هو خبرها، ولا يجوز ذلك. وعلى المذهب الآخر يجوز لأنهما اسمان مبتدآن معطوف أحدهما على الآخر، كما تقول: زيد وعمرو قائمان.
وأما إذا كان الخبر مما يصلح أن يكون لأحدهما، نحو قول الشاعر:
فلا لغو ولا تأثيم فيهما .........................
فـ (فيها) خبر عن الاسمين على ظاهر قول س، وخبر عن
أحدهما، وخبر الآخر محذوف على قول أبي الحسن.
وقال المصنف في الشرح ما نصه: "وغير ما ذهب إليه س أولى لأن كل ما استحقت (لا) به العمل من المناسبات السابق ذكرها باق، فليبق ما ثبت بسببه، ولا يضر التركيب كما لم يضر (أن) صيرورتها بفتح الهمزة مع معمولها كشيء واحد، ولو كان جعل (لا) مع اسمها كشيء واحد مانعها من العمل في الخبر لمنعها من العمل في الاسم؛ لأن أحد جزأي الكلمة لا يعمل في الآخر، ولا خلاف في أن التركيب لم يمنع عملها في الاسم، فلا يمنع عملها في الخبر. وأيضًا فإن عمل (لا) في الخبر أولى من عملها في الاسم؛ لأن تأثيرها في معناه أشد من تأثيرها في معنى الاسم، والإعراب إنما جيء به في الأصل للدلالة على المعنى الحادث في العامل. وإنما لم يكن خلاف في ارتفاع الخبر بـ (لا) غير المركبة لأنه مانع التركيب هو كون الاسم مضافًا أو/ شبيهًا به، وكلاهما صالح للابتداء مجردًا عن (لا)، كما أن اسم (إن) صالح للابتداء به مجردًا عن (إن)، وليس كذلك مصحوب (لا) المركب، فإن تجرده من (لا) يبطل الابتداء به لأنه نكرة لا مسوغ لها، فإذا اقترنت بـ (لا) كانت بمنزلة نكرة ابتدئ بها لاعتمادها على نفي" انتهى ما رجح به المصنف ما اختاره من مذهب الأخفش، وتقدم بطلانه.
وفي (الغرة): وقياس الكوفي أن يكون الخبر مرفوعًا بخبر الابتداء ظهر العمل في الاسم أو لم يظهر، كما يقول الكوفي ذلك في (إن).
وما ذهب إليه معظم النحويين من أن النكرة المبنية مع (لا) في موضع نصب بها نظير قولهم "يا بن أم"، و"يا بن عم"، فإنهم زعموا أنهما بنيا، وجعلا بمنزلة اسم واحد، وزعموا أن (عم) في موضع خفض بالإضافة، كما أن موضع الاسم النكرة نصب بـ (لا).
وهذا في كلتا المسألتين مشكل جدًا، وذلك أنهما من حيث التركيب صار كل منهما كجزء كلمة، وجزء الكلمة لا يعمل في الجزء الآخر، ومن حيث العمل لا يكون كجزء كلمة، فتدافعا. ولهذا الإشكال -والله أعلم- زعم بعضهم أن حركته حركة إعراب لا حركة بناء، وسيأتي ذكر هذا المذهب، وإنما اضطروا إلى دعوى العمل لأنهم وجدوا هذه النكرة تتبع قبل الخبر رفعًا ونصبًا، فتقول: لا رجل وامرأة عندك، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.
وليسوا مضطرين إلى دعوى ذلك في "يا بن أم"، و"يا بن عم"؛ إذ يجوز ألا يكونا مركبين، بل يكونان متضايفين، والأصل: يا بن أما، ويا بن عما، وقد سمع ذلك، وحذف الألف المنقلبة عن ياء الإضافة، واجتزئ بالفتحة عنها، وسيأتي تحرير ذلك في باب النداء إن شاء الله تعالى.
ص: وإذا علم كثر حذفه عند الحجازيين، ولم يلفظ به عند التميميين، وربما أبقي وحذف الاسم.
ولا عمل لـ (لا) في لفظ المثنى من نحو: لا رجلين فيها، خلافًا للمبرد. وليست الفتحة في نحو (لا أحد فيها) إعرابية، خلافًا للزجاج
والسيرافي. ودخول الباء على (لا) يمنع التركيب غالبًا، وربما ركبت النكرة مع (لا) الزائدة.
ش: قوله وإذا علم احتراز من ألا يعلم، ولا يدل عليه دليل، فلو قلت "لا رجل" في ابتداء الكلام، ولا دليل على حذف الخبر لا من لفظ سابق ولا من قرينة حالية، لم يكن كلامًا، بل يجب إثبات الخبر كقوله "لا أحد أغير من الله"، وقال الشاعر:
ورد جازرهم حرفًا مصرمة ولا كريم من الولدان مصبوح
فـ (مصبوح) عن س خبر.
وزعم ابن الطراوة أنه يمكن أن يكون صفة، والخبر محذوف، أي: ولا كريم مصبوح في الوجود. ورد عليه بأن الشاعر إنما يصف عامهم بالمحل/، أي: ورد جازرهم حرفًا، أي: ناقة كالحرف، لضمورها تشبه بالنون، ومصرمة: صيرها مصرمة الأخلاف ضنانة باللبن لئلا يرضعها الفصيل إن كان فيها لبن، ثم قال: ولا كريم مصبوح، أي: ليس من كريم مصبوح، أي: ليس من كريم من يصبح، أي: يسقى اللبن في الصباح؛ لأنه ليس ثم لبن، فإذا كان كريم الولدان ذو المال والرفه لا يصبح فما ظنك بمن ليس بكريم، فإنما نفي أن يصبح الكريم، والنفس إنما يتوجه على الخبر.
والذي قال ابن الطراوة يكون معناه: ليس في الوجود كريم مصبوح، فالمنفي هو "في الوجود" لا المصبوح إذ الصفة لا تنفي، ولو قلت "ما زيد العاقل قائم" كان نفيًا للقيام لا لزيد العاقل، وكذلك الكريم المصبوح ليس في الوجود، بل مات، فكأنه قال: الكرام المصبوحون فقدوا، أي: كان ثم كران مصبوحون وفقدوا. وليس هذا مقصد الشاعر، إنما يريد أن كريم الولدان من هؤلاء القوم لا يصبح وإن كان يبقي عليه ويشفق لصغره. انتهى.
فإذا علم بدلالة لفظ سابق أو قرينة حالية كثر حذفه عند الحجازيين، سواء أكان ظرفًا أم مجرورًا أم غير ذلك، وأكثر ما يحذفه الحجازيون مع (إلا)، نحو {لا إلَهَ إلَاّ اللَّهُ} . ومن حذفه دون (إلا) قوله {لا ضَيْرَ} ، {فَلا فَوْتَ} ، "لا ضرر ولا ضرار"، و"لا عدوى ولا طيرة". ومن حذفه للقرينة قولك للمريض: لا بأس، أي: لا بأس عليك.
وإنما كثر الحذف في الخبر بعد (لا) هذه لأمرين:
أحدهما: أنها مشبهة في العمل بـ (إن)، وخبر (إن) النكرة يكثر حذفه.
والآخر: أن (لا) وما دخلت عليه جواب استفهام عام، والأجوبة
يقع فيها الحذف والاختصار كثيرًا، ولذلك يكتفون بـ (لا)، وبـ (نعم) في الجواب، ويحذفون الجملة رأسًا بعدهما.
وقوله ولم يلفظ به عند التميميين ظاهر هذا أنه إذا علم الخبر لا يثبته التميميون مطلقًا، سواء أكان ظرفًا أم مجرورًا أم غيرهما. وقال في الشرح:"لا يلفظ به التميميون ولا الطائيون، بل الحذف عندهم واجب بشرط ظهور المعنى". قال: "ومن نسب إليهم التزام الحذف مطلقًا -يشير إلى الزمخشري- أو بشرط كونه ظرفًا -يشير إلى الجزولي- فليس بمصيب" انتهى.
وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: "بنو تميم يلتزمون حذفه إذا كان اسمًا يظهر فيه الرفع". وقال في مكان آخر: "والخبر لا يخلو أن يكون ظرفًا أو مجرورًا أو غير ذلك، فإن كان ظرفًا أو مجرورًا جاز لك فيه وجهان: إن شئت حذفته، وإن شئت أثبتته. وإن كان غير ذلك فبنو تميم يلتزمون الحذف، وأهل الحجاز يجيزون الحذف والإثبات".
فما ذكره/ ابن عصفور مخالف لما ذكره المصنف؛ لأن المصنف ذكر أن بني تميم يلتزمون الحذف مطلقًا إذا علم، وابن عصفور ذكر أنهم لا يلتزمون حذفه إلا إذا كان غير ظرف ولا مجرور.
وفي كتاب "البديع) ما يوافق كلام المصنف، قال فيه: "أهل الحجاز يظهرون خبر (لا)، فيقولون: لا رجل أفضل منك، ويحذفونه كثيرًا، فيقولون: لا أهل، ولا مال، ولا بأس، أي: لك، وعليك، وبنو تميم لا يثبتونه أصلًا".
وقال س: "والذي بني عليه في زمان أو مكان، ولكنك تضمره، وإن شئت أظهرته: لا رجل، ولا شيء، تريد: لا رجل في مكان، ولا شيء في زمان. والدليل على أن لا رجل في موضع اسم مبتدأ قول العرب من أهل الحجاز: لا رجل أفضل منك، كأنه قال: ما رجل أفضل منك، وهل من رجل خير منك؟ كأنه قال: هل رجل خير منك" انتهى.
وشرحه أصحابنا، فقالوا: يريد أن الخبر لهذا المبتدأ في السؤال أو الجواب يكون زمانًا أو مكانًا، أضمرته أو أظهرته، بحسب المبتدأ المنفي أو المسؤول عنه، إذ قد يكون شخصًا وغيره، وقد يكون الخبر غير طرف بدليل قول س بعد "لا رجل أفضل منك"، وإنما اقتصر أولًا على ذلك لأنه الأكثر، ولأن الكلام عليه أدل. وقول س "ولكنك تضمره" يعني في جميع اللغات. وقوله "وإن شئت أظهرته" يعني في لغة أهل الحجاز. ثم استدل على أنه في الموضعين مرفوع بظهور الخبر مرفوعًا، ومراده هنا أن يستدل على أن الاسم بعد (لا) ليس في موضع رفع بـ (لا) على لغة من يقول:
................................ ........................ لا براح
وقال "في لغة بني تميم" لأنهم لا يظهرون الخبر، فصار الأمر محتملًا أن يكون مرفوعًا بـ (لا)، والخبر محذوف.
وللخصم أن يقول: لو ظهر عندهم لكان منصوبًا، فاستدل بظهوره
في لغة أهل الحجاز. ووجه الدليل من ذلك أن بني تميم لم يعملوا (ما) البتة، وهي أقوى من (لا)، وإنما أعملها الحجازيون، وإذا كان أهل الحجاز يقولون "لا رجل أفضل منك" بالرفع وإبطال عمل (لا) فيما بعدها الرفع إذ لم ينصب بعدها الخبر فأحرى التميمي الذي لا يعمل بوجه ألا يعمل (لا) التي هي أضعف.
وفي (الغرة): بنو تميم كثيرًا ما يحذفون الخبر، وأهل الحجاز يظهرونه، وكذا السيرافي في تأويل ما قال س.
ومن حذف الخبر قولهم: لا أهل، ولا مال، ولا بأس، و"لا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار"، وكل العرب يقول {لا إلَهَ إلَاّ اللَّهُ} ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يضمرون: في الدنيا، أو: لنا، أو: في الوجود، وما أشبه ذلك في المعنى. ويجوز في ذي الفقار ونحوه الرفع على البدل/ من الموضع -وسيأتي الكلام في ذلك في باب الاستثناء- وعلى الصفة، ويجوز النصب على الاستثناء، فتقول: إلا ذا الفقار، وإلا اللهَ، بالنصب. ولا يجوز فيها كان معرفة نحو "إلا ذو الفقار" حالة الرفع أن يكون خبرًا لأنه معرفة، واسم (لا) نكرة، ولا خبر عن النكرة بالمعرفة، ولأن (لا) لا تعمل في المعارف، ولا تعمل في الموجب إذا فرعنا على قول من يقول إنها ترفع الخبر.
وزعم أبو عمر الجرمي في (الفرخ) أنه لا يصح في {لا إلَهَ إلَاّ
اللَّهُ} إلا الرفع، قال: لأنه لم يتم الكلام، وكأنك قلت: الله إله، وزيد رجل، وهذا غير بين؛ لأن الكلام تام بالإضمار، وقد ذكر س "لا أحد فيها إلا زيدًا" بالنصب، وأجاز ذلك في قول الشاعر:
.................... ولا أمر للمعصي إلا مضيعا
وبلا شك أن الكلام تام. وما جاز فيه الإتباع جاز فيه النصب.
وقوله وربما أبقي، وحذف الاسم أي: أبقي الخبر. قال س: "ونظير (لا كزيد) في حذفهم الاسم قولهم: لا عليك، وإنما يريد: لا بأس عليك، ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه".
وقال أيضًا س: "وتقول: لا كالعشية عشية، ولا كزيد رجل؛ لأن الآخر هو الأول، ولأن زيدًا رجل، وصار (لا كزيد) كأنك قلت: لا أحد كزيد، ثم قلت: رجل، كما تقول: لا مال له، ثم تقول: قليل ولا كثير، على الموضع، قال امرؤ القيس:
ويلمها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على ما ذكرت لك" انتهى.
وإنما قل حذف اسم (لا) لأن (لا) قد تنزلت من النكرة منزلة (من) منها في السؤال، فكما لا يجوز حذف النكرة وإبقاء (من) فكذلك لا يجوز حذف النكرة وإبقاء (لا)، بل ما سمع من ذلك حفظ، ولم يقس عليه.
وقوله ولا عمل لـ (لا) في لفظ المثنى من نحو (لا رجلين فيها)، خلافًا للمبرد في عبارة المصنف قصور لأنه قصر هذا الحكم على المثنى، والخلاف في الجمع الذي على حد التثنية كالخلاف في التثنية، فنقول: اختلفوا فيهما:
فذهب المبرد إلى أنه لا يجوز أن يبنيا مع (لا). واستدل على ذلك بأنهما لم يجعلا مع ما قبلهما اسمًا واحدًا، ولا وجد ذلك في كلامهم كما لم يوجد المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحد، وإذا لم يجعلا معها بمنزلة اسم واحد كانا معربين بعدها. ولم يجز عنده في نعتهما إلا وجهان: النصب على اللفظ، والرفع على الموضع.
وذهب س والخليل وأبو بكر وأبو إسحاق الفارسي وابن جني والجماعة إلى أنهما مبنيان مع (لا). واستدل الفارسي على ذلك
في (الحلبيات)، فقال: "قولك لا يدين بها لك بمنزلة لا رجل لك، و {لا قُوَّةَ إلَاّ/ بِاللَّهِ} ؛ ألا ترى أنه ليس مضافًا إلى شيء، وإذا لم يكن مضافًا كان في حكم الأسماء المفردة المبنية على الفتح في هذا الباب، وكون حرف التثنية فيه لا يمنه من بنائه مع (لا) وجعله معها بمنزلة اسم واحد؛ ألا ترى أن حرف التثنية ليس بشيء مضاف إليه كـ (رجل) من قولك: لا غلام رجل، وإنما هو بمنزلة تاء التأنيث وألفيه وكياءي النسب، فكما أنك لو قلت: لا كرسي لك، ولا بصري عندك، ولا جمعة لك، لم يمتنع أن تبنى هذه الأسماء مع (لا)، وتجعلها معها كاسم واحد، كذلك لا يمتنع ذلك في المثنى والجمع.
ومما يدل على جواز بناء ذلك مع (لا) أن آخر المجموع بمنزلة أواخر الكلم المعربة، فمن حيث جاز بناء سائر الكلم المعربة مع (لا) كذلك يجوز بناء المثنى والمجموع.
فأما كون النون في الآخر في التثنية والجمع فليس بمانع من ذلك للحاقها ما يلحق سائر المبنية، كما لم تمنع الميم اللاحقة لقولهم (اللهم) أن يجري البناء المطرد في النداء على حرف الإعراب الذي قبله. وإذا كان كذلك كان (لا يدين بها لك) مثل (لا غلام لك)، ووقعت الياء في التثنية من حيث كانت الفتحة بمنزلة النصبة، فساوتها في لفظ التثنية كما تساوتا في لفظ الإفراد. وليس قول من قال إنه لا يجوز ذلك لأنك لم تجد مثله بمستقيم في هذا لأن الشيء إذا دلت الدلالة على صحته لم يقدح في دلالته أن لا نظير له وإن كان في إيجاد النظير بعض الإيناس".
وقال ابن عصفور: "استدل أبو العباس على ذلك بأن قال: لم يوجد اسم مثنى مبني في كلام العرب، وأما (هذان) و (اللذان) وأشباههما فصيغ تثنية، وليست بمثناة على الحقيقة، وأيضًا فإنهما قد طالا بالنون، والاسم المطول في باب (لا) معرب".
ورد عليه بأنه وجد اسم مثنى مبني بدليل قولهم (اثنان) في العدد إذا لم يقصد الإخبار بل مجرد العدد، وبأنه لا طول بالنون لأنها هنا بمنزلة التنوين، فكما لا يطول به كذلك لا يطول بالنون. انتهى، وفيه بعض تلخيص.
أما قوله في (اثنان) لمجرد العدد (إنه مبني) فينبغي أن يزيد فيه "بلا عطفية"؛ لأنه قد زعم في (القرب) أنه إذا كانت عطفية، وكان لمجرد العدد، معرب، وأنه دخله لقب من ألقاب الإعراب.
وقال المصنف في الشرح: "خالف المبرد س في اسم (لا) المثنى، نحو: لا رجلين فيها، فزعم أنه معرب، واحتج بأمرين: أحدهما: أنه بزيادة الياء والنون أشبه المطول. والثاني: أن العرب تقول: أعجبني يومَ زرتني، فتفتح، وأعجبني يومُ زرتني، فتعرب.
وعورض في الأول بأن شبه (لا رجلين) بـ (يا رجلان) أقوى من شبهه بـ (لا خيرًا من زيد)، وقد سوي بين (يا رجلان) / و (يا رجل)، فليسو بين (لا رجلين) و (لا رجل).
ورد الثاني بأن بناء (يوم) وشبهه حين أضيف إلى الجملة إنما كان لشبهه بـ (إذ) لفظًا ومعنى، فلما ثني خالفه بلحاق علامة التثنية، وبكون (اليوم) إذا ثني يصير موقتًا، والمحمول على (إذ) إنما يكون مبهمًا، أي: صالحًا للقليل والكثير، فإذا ثني زال الإبهام، فلم يصلح أن يحمل على (إذ) للزوم إبهامها وصلاحيتها لكل زمان ماض".
وفي (البسيط): "قال أبو العباس: هما معربان بوجهين: [أحدهما] أنه لا يوجد مثنى ولا مجموع بني. والثاني: أنهما في معنى العطف، والعطف يمنع من البناء، ولأنه لو بني. لكان مركبًا مع (لا)، ولا يوجد في كلامهم مركب من شيئين يثني الآخر منهما ويجمع.
ورد الأول بأن التثنية إذا بنيت إنما تنزل [منزلة] ما ارتجل للتثنية، كـ (هذان) و (اللذان). وعن الثاني بأن العطف معنى لا لفظ. وعن الثالث بأن التثنية كانت قبل البناء لا بعده" انتهى، وفيه بعض حذف.
وقال في (الغرة): والمبرد يزعم أنه معرب، ويقول: المثنى لم يجعل مع غيره كالشيء الواحد. ورأيت أصحابنا يردون على المبرد من غير الوجه الذي قصده، وذلك أنهم يقولون عنه: إن المثنى والمجموع لا يكونان مبنيين؛ لأنه ما فيه النون بمنزلة ما فيه التنوين، وما فيه التنوين لا يكون مبنيًا. واعترضوا عليه بقولهم "يا زيدان"، وهو مبني، وفيه النون، لأن النون قد تكون بدلًا من الحركة حسب في قولك (الرجلان)، فيجوز أن تكون هنا بدلًا من الحركة حسب.
وليس هذا بلازم للمبرد؛ لأنه قال: المثنى والمجموع لا يكونان مع ما قبلهما بمنزلة شيء واحد، وليس (زيدان) و (زيدون) في النداء كذلك. ولكن الجواب عما قاله أن العلة الموجبة لبناء المفرد هي موجودة مع
التثنية؛ ألا ترى أنك تقول: هما خيرا اثنين في الناس، تريد: إذا فضل الناس اثنين اثنين.
وقوله وليست الفتحة في نحو (لا أحد) إعرابية، خلافًا للزجاج والسيرافي ذهبا إلى ما ذهب إليه الجرمي من أن حركة مثل (لا رجل) حركة إعراب، وتبعهما الرماني، وحذف التنوين منه تخفيفًا لا لأجل البناء، وزعما أن ذلك مذهب س بدليل قوله" فتنصبه بغير تنوين". واحتج الزجاج بقولهم: لا رجل وغلامًا لك، ولا رجل ظريفًا عندك، وقال: إنما شبهه س بـ"خمسة عشر"؛ لأنها تلزم ما تعمل فيه كلزوم "خمسة عشر".
وما ذهبوا إليه فاسد؛ لأنه لو كان حذف التنوين تخفيفًا لكان حذفه من النكرة المطولة أولى؛ لأن المطول أولى بالتخفيف مما ليس فيه طول، فلما قالت العرب: ل خيرًا من زيد، ولم تحذف التنوين، دل على أن سبب الحذف البناء لا التخفيف./ وتأويلهم ذلك على س باطل؛ لأنه تجوز في تسمية الفتح نصبًا، وكثيرًا ما تجد ذلك في كلامه من استعمال ألقاب الإعراب لألقاب البناء لما كانت الصورة واحدة، وقد نص على البناء في (باب المنفي بلام الإضافة)، فقال:"وأعلم أن المنفي الواحد إذا لك يل (لك) فإنما يذهب منه التنوين كما أذهب من آخر خمسة عشر، لا كما ذهب من المضاف". وهذا نص على أن حذف التنوين منه إنما سببه البناء لا التخفيف.
وثمرة هذا الخلاف تظهر فيجمع المؤنث السالم، فمن زعم أن الفتحة إعراب قال "لا ورقات لك" بالكسرة، ومن زعم أنها بناء لزمه أن يفتح لأنه مركب معها، وحركة آخر المركب المبني إنما هي الفتح، نحو: خمسة عشر.
وذهب الكسائي إلى أن السبب في نصب النكرات بعد (لا) أن النكرات يبتدأ بأخبارها قبلها لئلا توهمك أخبارها أنها صلات لها، فلما تقدم الاسم في باب (لا) التي للتبرئة، وتأخر الخبر، أرادوا أن يفصلوا بين ما ابتدئ بخبره وبين ما لا يكون خبره إلا بعده، فغيروه من الرفع إلى النصب، ونصبوه بغير تنوين لأنه ليس بنصب صحيح، إنما هو مغير، كما فعلوا في النداء حين خالفوا به نصب المضاف، فرفعوه بغير تنوين.
وذهب الفراء إلى أن السبب في نصب النكرة بعدها أنها خرجت عن بابها، وذلك أن بابها أن تكون بمعنى (غير) في الخبر، وتقديرها أن تكون هي وما بعدها كالتابعة لضمير قبلها، ويكون بعدها مضمر يحمل عليه الاسم، وذلك عند قولك: زيد لا عالم ولا جاهل، أي: زيد رجل غير عالم وغير جاهل، أو: زيد لا هو عالم ولا هو جاهل. قال: فلما جاءت في معنى (ليس) أخرجوها من معنى (غير) بالنصب لئلا يتوهم السامع أنها محمولة على شيء قبلها، فجعلوا هذا علمًا لما أرادوا من خروجهم من معنى إلى معنى.
وما ذهب إليه الكسائي والفراء باطل بدليل أن (لا) إذا وقعت بعدها النكرة، ولم يرد بها العموم، لم تنصبها (لا)، بل تكون مرفوعة على الابتداء، ويلزم تكرارها إذ ذاك، فتقول: لا رجل في الدار بل رجلان،
ولا امرأة بل امرأتان، مع أن النكرة مقدمة على خبرها، و (لا) أيضًا غير محمولة على شيء قبلها، ولو كان سبب النصب ما ذكراه للزم نصب النكرة في ذلك، فلما لم تنصب العرب النكرة بعدها إذا لم تكون عامة دل على أن سبب النصب هو ما ذكره البصريون من أنها نصبت لشبهها بـ (إن) من الجهات التي تقدم ذكرها.
وقال المصنف في الشرخ رادًا على الزجاج والسيرافي ما ملخصه: "لو لم يكن في كلام العرب ما يبطله لبطل بكونه مستلزمًا/ مخالفة النظائر، فإن الاستقراء قد أطلعنا على أن حذف التنوين لا يكون إلا لمنع صرف، أو إضافة، أو دخول أل، أو من علم موصوف بـ (ابن) مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، و (لا رجل) يتعين أن حذف التنوين منه لبناء؛ إذ ليس واحدًا مما قبل البناء، كيف وقد روي عن العرب (جئت بلا شيء) بالفتح وسقوط التنوين، كما قالوا: جئت بخمسة عشر، والجار لا يلغى، ولا يعلق، فثبت البناء بذلك".
ثم قال المصنف: "ومما يدل على أن الفتحة فتحة بناء لا فتحة إعرابها ثبوتها في:
.............................. ............. ولا لذات للشيب
في الرواية المشهورة. وتوجيه رواية الكسر على أن يكون (لذات) منصوبًا لكونه مضافًا أو مشبهًا بالمضاف على نحو ما يوجه به (لا أبا لك)، و (لا يدي لك).
وقال س: (واعلم أن التنوين يقع من المنفي في هذا الموضع إذا قلت (لا غلام لك) كما يقع من المضاف إلى اسم، وذلك إذا قلت: لا مثل زيد). فعلم بهذا أن فتحة ميم (لا غلام لك) كفتحة لام (لا مثل زيد) لأنهما عنده سيان في الإضافة، فعلى هذا تكون كسرة (لا لذات) كسرة إعراب لكونه مضافًا، واللام مقحمة".
وقوله ودخول الباء على (لا) يمنع التركيب غالبًا مثال ذلك: جئت بلا زاد، وجئت بلا شيء. واحترز بقوله (غالبًا) مما روي عن العرب من البناء في قولهم "جئت بلا شيء" بالفتح.
وفي (البسيط): وهذا الخبر هل تدخل عليه الباء للتأكيد كما تدخل في (ما)؟ فجوزه أبو علي في (التذكرة)، ومنعه بعضهم لأنها إنما دخلت في الخبر المنصوب، فلا يقاس عليه، وأما قولهم "لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجمة" فمن جوزه جعله الخبر، و (بعده النار) صفة للخبر، ومن لم يجوزه تكون الباء في معنى (في)، وهو جائز، ومجرور (في) موضع الخبر، و (بعده النار) صفة للاسم، والتقدير: لا خير بعده النار خير.
وقوله وربما ركبت النكرة مع (لا) الزائدة قال المصنف في الشرح: "وندر تركيب النكرة مع (لا) الزائدة، كقول الشاعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذا للام ذوو أحسابها عمرا
وهذا من التشبيه الملحوظ فيه بمجرد اللفظ، وهو نظير تشبيه (ما) الموصولة بـ (ما) النافية في قوله:
يرجى المرء ما إن يراه وتعرض دون أدناه الخطوب"
/ص: وقد يعامل غير المضاف معاملته في الإعراب ونزع التنوين والنون إن وليه مجرور بلام معلقة بمحذوف غير خبر، فإن فصلها جار آخر أو ظرف امتنعت المسألة في الاختيار، خلافًا ليونس. وقد يقال في الشعر: لا أباك. وقد يحمل على المضاف مشابهه بالعمل، فينزع تنوينه.
ش: قال المصنف في الشرح: "المشهور الوارد على القياس أن يقال في اسم (لا) إذا كان أبًا أو أخًا: لا أب له، ولا أخ لك، كما قال نهار اليشكري:
أبي الإسلام لا أب لي سواء إذا افتخروا بقيس أو تميم
وأن يقال فيه إذا كان مثنى أو شبهه كما قال الشاعر:
تأمل، فلا عينين للمرء صارفًا عنايته عن مظهر العبرات
وكما قال:
أرى الربع لا أهلين في عرصاته ومن قبل عن أهليه كان يضيق
وقد كثر في الكلام مع مخالفة القياس نحو: لا أبا لك، ولا أخا له، ولا غلامي لك، نحو قول الراجز:
أهدموا بيتك لا أبا لكا وزعموا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا
ومثال (لا غلامي لك) قول الشاعر:
لا تعنين بما أسبابه عسرت فلا يدي لامرئ إلا بما قدرا
ولم يرد هذا الاستعمال في غير ضرورة إلا مع اللام".
وقوله غير المضاف يشمل أبا وأخا، والمثنى، وكل ما وليه لام جر في: لا غلام لك، ولا بني لك، ولا بنات لك، ولا عشري لك، كذا قال المصنف. وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب:
أحدها: ما ذهب إليه هشام وابن كيسان، واختاره المصنف، من أن هذه أسماء مفردة ليست بمضافة، والمجرور باللام في موضع الصفة لها، فيتعلق بمحذوف، وشبه غير المضاف بالمضاف في نزع التنوين من المفرد، والنون من المثنى والمجموع على حده.
المذهب الثاني: ما ذهب إليه الجمهور من أنها أسماء مضافة إلى المجرور باللام، وأن اللام مقحمة لا اعتداد بها، وليست اللام متعلقة بشيء، لا بمحذوف ولا بغير محذوف، بل هي كاللام في قوله:
يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط، فاستراحوا
/والخبر على هذين المذهبين محذوف.
والمذهب الثالث: ما ذهب إليه أبو علي الفارسي في أحد قوليه، وأبو الحجاج بن يسعون وأبو الحسين بن الطراوة ومن أخذ بمذهبهما في "لا أبا لك" و"لا أخا لك"، وشبههما من أنها أسماء مفردة، والمجرور باللام هو في موضع الخبر، وأن قولهم: لا أبا لك، ولا أخا لك، جاء على لغة من قصر الأب والأخ في الأحوال كلها، فقال: جاء أباك وأخاك، ورأيت أباك وأخاك، ومررت بأباك وأخاك.
واستدل ابن يسعون على امتناع الإضافة بما وقع في (الكتاب) من قولهم "لا أخا -فاعلم- لك" من جهة أنه لا يسوغ عنده الفصل بين
المضاف والمضاف إليه، وزعم أن قولهم "لا يدي لك" إنما قاله النحويون بالقياس، وليس من كلام العرب.
واستدل ابن الطراوة بأن قال: لو كانا مضافين لكان الخبر محذوفًا وذلك الخبر المحذوف لا يكون إلا زمانًا أو مكانًا، وذلك باطل لأنك لم ترد أن تنفي الأب والأخ في مكان أو وقت فيكونا واجبين في غير ذلك المكان والوقت. قال: ويدل على أن ذلك خبر على كل حال قول سليمان بن عبد الملك وقد سمع أعرابيًا يقول:
رب العباد ما لنا وما لكا قد كنت تسقينا، فما بدا لكا
أمطر علينا الغيث، لا أبا لكا
فأخرجها سليمان أحسن مخرج، فقال:"أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد"، فبين في هذا ما قصد الأعرابي.
واستدل المصنف لمذهب هشام وابن كيسان -وهو الذي أختاره- بأن الإضافة المدعاة إن كانت محضة لزم كون اسم (لا) معرفة، وهو غير جائز، ولا عذر في الانفصال باللام؛ لأن نية الإضافة المحضة كافية في التعريف مع كون المضاف غير مهيأ للإضافة، نحو {وكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ} ، و {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، وما نحن بسبيله مهيأ للإضافة، فهو أحق بتأثير نية الإضافة فيه.
وإن كانت الإضافة المدعاة غير محضة لزم من ذلك مخالفة النظائر؛ لأن ذلك لا بد أن يكون فيما عمل عمل الفعل لشبهه به لفظًا ومعنى، نحو: هذا ضارب زيد، وحسن الوجه، أو معطوفًا على ما لا يكون إلا نكرة، نحو "رب رجل وأخيه"، والأسماء المشار إليها بخلاف ذلك.
وأيضًا لو كانت إضافتها غير محضة لم يلق/ أن يؤكد معناها إقحام اللام لأن المؤكد معتنى بع، وما ليس محضًا لا يعتني به فيؤكد، ولذلك قبح توكيد الفعل الملغى لأنه مذكور في حكم المسكوت عنه، وقول من قال:
يا بؤس الحرب ................... ...........................
وهو يريد "يا بؤس الحرب" سهله كون إضافته محضة.
على أن لقائل أن يجعل أصله "يا بؤسا للحرب"، ثم حذف الألف للضرورة، وهي مرادة، فلا إضافة، ولا إقحام.
وأيضًا فلو كانت إضافة الأسماء المشار إليها غير محضة مع (لا) لكانت كذلك مع غيرها؛ إذ لا شيء مما يضاف إضافة غير محضة إلا وهو كذلك مع كل عامل، ومعلوم أن إضافتها في غير هذا الباب محضة، فيجب أن يكون في هذا الباب، وإلا لزم عدم النظير.
ومما يدل على ضعف القول بكون الأسماء المشار إليها مضافة قولهم: لا أبا لي، ولا أخا لي، فلو كانوا قاصدين الإضافة لقالوا: لا أب لي، ولا أخ لي، فيكسرون الباء والخاء إشعارًا بأنها متصلة بالياء تقديرًا، فإن اللام لا اعتداد بها على ذلك التقدير، وإذ لم يفعلوا ذلك فلا
ارتياب في كونهم لم يقصدوا الإضافة، ولكنهم قصدوا إعطاء الأسماء المذكورة حكم المضاف إذا كانت موصوفة بلام الجر ومجرورها، ولم يفصل بينهما، وذلك أن الصفة يتكمل بها الموصوف كما يتكمل المضاف بالمضاف إليه، فإذا انضم إلى ذلك كون الموصوف معلوم الافتقار إلى مضاف إليه، وكون الصفة متصلة بالموصوف، وكونها باللام التي تلازم معناها الإضافة غالبًا، وكون المجرور صالحًا لأن يضاف إليه الأول، تأكد شبه الموصوف بالمضاف، فجاز أن يجري مجراه فيما ذكر من الحذف والإثبات، فمن ثم لم يبالوا بـ (فيها) أن يجري هذا المجرى، كقول الشاعر:
وداهية من دواهي المنو ن، يرهبها الناس، لا فا لها
فنصبه بالألف كما ينصبه في الإضافة. انتهى ما ذكره المصنف من الاستدلال لما اختاره في هذه المسألة.
فأما ما ذهب إليه الفارسي في أحد قوليه وابن يسعون وابن الطراوة من أن "لا أبا لك" و"لا أخا لك" جاء على لغة القصر، و (لك) في موضع الخبر، فيحتاج إلى إثبات أن قائل "لا أبا لك" و"لا أخا لك" إذا استعملوهما مفردين لم يحذفوا لاميهما، وذلك شيء لا يعرف أحد نقله عن أرباب هذه اللغة.
وأما استدلال ابن يسعون على امتناع الإضافة بقولهم "لا أخا -فاعلم- لك" من جهة الفصل بالجملة فلا دليل/ في ذلك؛ لأن الفصل بين المتضايفين بجملة الاعتراض سائغ، ومن ذلك ما حكاه أبو عبيدة من أنه سمع أبا سعيد -وهو أعرابي لقبه أو الدقيش- يقول: "إن الشاة
لتسمع صوت -علم الله- صاحبها، فتقبل إليه، وتثغو". بل الفصل في "لا أخا -فاعلم- لك" أسهل منه في قول أبي الدقيش لفصل اللام فيه بين الضمير وما أضيف إليه، فصار لذلك كأنه غير مضاف في اللفظ، وإذا ثبت ما حكاه الكسائي من قول بعضهم "أخذته بأري ألف درهم"، ففصل بين الباء والمجرور بجملة الاعتراض، فالفصل بين المتضايفين بها أسهل بكثير.
وأما ما زعم من أن "لا يدي لك" قاله النحويون بالقياس ولي من كلام العرب فباطل، بل نقلوه من العرب، وحكى ذلك سماعًا الدينوري والسيرافي، ومن ذلك قول الكميت:
وظاهر الكاشح الأقصى ليجعلني ردءًا له، لا يدي للصقر بالخرب
وقول الفرزدق:
فلو كنت مولى العز أو في ظلاله ظلمت، ولكن لا يدي لك بالظلم
وتقدم ما أنشده المصنف من البيت الذي عجزه:
................................... فلا يدي لامرئ إلا بما قدرا
وأما ما استدل به ابن الطراوة فليس التقدير كما ذكر، بل التقدير: لا أبا لك في الوجود، وإذا نفي أن يكون للمخاطب أب في الوجود كان معناه ومعنى "لا أبا لك" -إذا جعلت (لك) خبرًا- واحدًا. وأما تفسير سليمان قول الأعرابي على معنى الإخبار بالمجرور فلا يمنع من إجازة الوجه الآخر، بل حمل الكلام على أحد محتمليه.
وأما ما استدل به المصنف وترديده في الإضافة بين أن تكون إضافة محضة أو غير محضة فلا حاجة إلى هذا الترديد؛ لأن الذاهبين إلى أنها أسماء مضافة لم يذهب أحد منهم إلى أنها إضافة محضة، بل ذكروا أنها إضافة غير محضة، فكان ينبغي أن يرد عليهم مدعاهم أنها إضافة غير محضة.
وأما رده كونها غير محضة بأنه يلزم من ذلك مخالفة النظائر فمخالفة النظائر كثيرة في لسان العرب، ولا يبالى بلزوم مخالفة النظائر، ومخالفة النظائر لازمة له في مذهبه لأنه يزعم أن التنوين يسقط [من] الصفة المشبهة للإضافة، وقد قرر هو في رده على الزجاج والسيرافي في دعواهما أن حركة "لا رجل" حركة إعراب بأن التنوين لا يحذف إلا لمنع صرف، أو إضافة، أو دخول أل، أو من علم موصوف بـ (ابن) مضاف إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو لوقف، أو لبناء، وسقوطه لما ذكر ليس واحدًا من هذه التي عدها، فقد/ لزم من ذلك مخالفة النظائر. ويزعم أيضًا أن نون المثنى والمجموع على حده لا تسقط إلا للإضافة، أو تقصير صلة، أو للضرورة، وهنا قد أسقطها في "لا يدي لك" و"لا بني لك" لغير ما ذكر، فقد لزم من قوله مخالفة النظائر.
وأما حصره الإضافة غير المحضة فيما ذكر فليس كما ذكر؛ لأن لنا إضافة محضة غير ما ذكر، وهي إضافة (غيرك) و (مثلك) وأخواتها، وليست مما عمل عمل الفعل ولا معطوفًا على ما لا يكون إلا نكرة.
وأما قوله "لو كانت إضافتها غير محضة لم يلق أن يؤكد معناها بإقحام اللام؛ لأن المؤكد معتنى به، وما ليس محضًا لا يُعتني به فيؤكد" فممنوع قوله "وما ليس محضًا لا يُعتني به"، بل الإضافة غير المحضة يُعتني بها كما يُعتني بالإضافة المحضة، وكيف لا وهي قسيمة المحضة؟
وأما قوله "ومما يدل على ضعف القول بكون الأسماء المشار إليها مضافةً قولهم: لا أبالي، ولا أخالي" إلى آخره فلا يلزم ما ذكره من أنهم كانوا يقولون: لا أب لي، ولا أخ لي، بكسر الباء والخاء؛ لأن العامل في الضمير من نحو "لا أبا لك" الجر هو اللام لا الإضافة. وإنما كان عامل الجر هو اللام لا الإضافة لأمرين:
أحدهما: أنها مُجاورة له، فهي أحق بالعمل فيه.
والآخر: أنك إذا فعلت ذلك كان حرف الجر عاملًا في الضمير والمضاف عاملًا في موضع المجرور، كما عمل في موضع المجرور في قراءة الأعمش {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} ، أي: وما هم بضاري أحدٍ به، وإذا جعلته مجرورًا بالمضاف بقي حرف الجر لا معمول له، وحرف الجر لا يُقطع عن المجرور إلا في الضرورة، نحو قوله:
فخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المُثوب قال: يا لا
أي: يا لفلان، فحذف المجرور، وأبقى حرف الجر، وسهل ذلك
كون ألف الإطلاق قد صارت عوضًا منه. فإذا تقرر أن عامل الجر في الضمير إنما هو اللام لم يلزم كسر ما قبل اللام لأجل الياء لأن العمل إنما هو للام، فلم تُباشر آخر الأب والأخ بالإضافة حتى يلزم كسره.
وأما قوله "وذلك أن الصفة يتكمل بها الموصوف كما يكمل المضاف بالمضاف إليه"/ فليس بصحيح، وأين أحدهما من الآخر، المضاف إليه يقع من المضاف موقع التنوين أو النون، والصفة ليست كذلك.
وأما ما استدل به الجمهور، وهو أن قالوا: قالت العرب "لا يدي لك بكذا"، فلا وجه لحذف هذه النون إلا الإضافة، وقالت العرب:" لا فا لزيدٍ" حكاه ابن كيسان، فلولا أنه مضاف لعوض من العين الميم، والإضافة عندهم في "لا أبا لك" ونحوه إضافة غير محضة؛ ألا ترى أنك لا تَنفي في الحقيقة أباه، وإنما تُريد بذلك الذم، قاله أبو علي في (التذكرة).
وقال ابن التياني في (الموعب) له: زعم بعضهم أن قولهم (لا أبا لك) مدح، و (لا أم لك) ذم. وقيل: يكونان جميعًا في المدح والذم.
وقال أبو فيدٍ السدوسي: (لا أم لك)[دم]، أي: أنت لقيط لا تعرف أمك، و (لا أبا لك) مدح، أي: لا كافي لك.
وقال ابن جني: "يخرج مخرج الدعاء عليه، فإذا قلت (لا أبا
لك) فكأنك قلت: [أنت] أهل للدعاء عليك، وليس دعاء صريحًا؛ إذ لو كان دعاء صريحًا لما جاز أن يُقال لمن ليس له أب: لا أبا لك، كما لا يُقال للأعمى: أعماه الله، وقوله:
يا تيم تيم عدي، لا أبا لكم لا يُلقينكم في سوأةٍ عمر
أقوى دليل على ما ذكرناه؛ لأنه ليس لتيم كلها أب أحد، ولكن معناه: كلهم أهل للدعاء عليه".
وكذلك أيضًا "لا أخا لك" لم يُرد به نفي الأخ حقيقة، قال: "ويؤكد ذلك قول الشاعر:
أفي كل عامٍ بيضةٌ تفقؤونها وتترك أخرى فردةً لا أخا لها
ولم يقل: لا أخت لها".
فثبت إذًا بما ذكرناه أن المعنى ليس على ما يعطيه ظاهر اللفظ من نفي أب وأخ معينين؛ لأن المعنى ليس على ذلك، وإذا لم يُرد أبًا وأخًا مُعينين كانت الإضافة غير معرفة، فلم يزل من ذلك إعمال (لا) في اسم معرفة.
وزعم ابن السراج أن الأب إنما لم يتعرف بالإضافة لأن إضافته في نية الانفصال، وأن الأصل قبل الإضافة: لا أبًا لك، والمجرور الذي هو (لك) من تمام الأب، ولذلك نون لطوله به، والخبر مضمر، إلا أنهم حذفوا التنوين استخفافًا، وأضافوا، وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى،
قال: "وإنما فعل هذا في هذا الباب، وخص به".
قال بعض أصحابنا: "وهذا الذي ذهب إليه ابن السراج باطل؛ إذ لو كان (لك) معمولًا لـ (أب) ومن تمامه، كما زعم، لم تسغ إضافته إليه؛/ ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول: لا ناصح لزيدٍ في القوم" انتهى.
وأقول: إن قول ابن السراج "إن المجرور الذي هو (لك) من تمام الأول" ليس بصحيح؛ لأن (لك) من تمام الأول" ليس بصحيح؛ لأن (لك) لا يكون من تمام الأول إلا لو كان الأول مما يُمكن أن يتعلق به حرف الجر، و (الأب) ليس من هذا القبيل، وإن عنى بالتمام أنه صفة للأول فهو يتعلق بمحذوف، فليس من تمامه، ولا يكون الأول مطولًا بالصفة، وإلا كان يجوز أن تقول: لا رجلًا ظريفًا، وتقول طال (لا رجلًا) بالصفة، فنصب، وهذا لا يجوز.
فإن قلت: إذا كان الاسم نكرة، وإضافته غير محضة كما ذكرتم، فهلا قالت العرب (لا أباك) في فصيح كما يقولون: لا ضارب زيدٍ؟
فالجواب: أن الأب لما كان إذا أُضيف إلى عرفة في غير هذا الباب تعرف بها استقبحوا دخول (لا) النافية عليه، فلم يُدخلوها إلا بعد إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه إصلاحًا للفظ، وأعني بذلك أنه يجيء في اللفظ على صورة غير المضاف وإن كان مضافًا في التقدير، فهي معتدٌ بها من جهة أنها هيأت الاسم لعمل (لا) فيه، وغير معتد بها من جهة أنها لم تمنع الإضافة بدليل إثبات الألف التي لا تلحق الأب في حال نصبه في فصيح الكلام إلا في حال الإضافة، ولا يُقحمون بين المتضايفين في هذا الباب النداء نحو قوله:
................ يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام
من حروف الجر إلا اللام خاصة؛ لأنها مؤكدة لمعنى الإضافة في البابين على معنى اللام، فأقحموها لذلك. وأما قول الشاعر:
وقد علمت أن لا أخا بعشوزنٍ ولا جار إذا أرهقتها بالحوافر
فالأخ غير مضاف، وإنما جاء على لغة من يجعل أخاك بمنزلة عصاك، فلا يحذف لأمه أضيف أو لم يُضف.
فإن قلت: إذا كان (الأب) من قولهم (لا أبا لك) مضافًا إلى ما بعده فكيف ساغ للعرب أن تقول (لا أبا لي) بإثبات الألف، و (لا أخا لي) قال الأعشى:
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجةٌ وإن عرضت أيقنت أن لا أبا ليا
وقال آخر:
وما راعني إلا زهاء معانقي فأي عنيق بات لي، لا أبا ليا
/ وقال آخر:
وذي إخوةٍ قطعت أسباب بينهم كما تركوني مُفردًا لا أخا ليا
والأب والأخ إذا أُضيفا إلى ياء المتكلم لم تُرد فيه اللام المحذوفة.
فالجواب: أن الذي منع من رد اللام المحذوفة إذا قلت (أبي) إنما
هو ما يلزم في ذلك من ثقل التضعيف لأجل الإدغام في ياء المتكلم، إلا أنك لو رددتها -وهي الواو- لكسرته لأجل ياء المتكلم، وللزم أن تتبع حركة العين حركة اللام، فتقول (أبوي)، ثم تسكن الواو، وتقلبها ياء لانكسار ما قبلها، وتدغم الياء في الياء، فتقول (أبي)، فلما فصلت بين الألف وياء المتكلم اللام أمن التضعيف المستثقل، فأعادوا اللام المحذوفة كما يُعيدونها في حال الإضافة إلى غير ياء المتكلم. انتهى ما نُقل من كلام من ذهب إلى أن (لا أبا لك) وشبهه من الأسماء المضافة.
وفي (الغرة): "لم يفعلوا ذلك مع غير اللام من حروف الجر، فأما قوله:
وقد علمت أن لا أخا بعشرزنٍ .....................
فجاء بالباء، وهي شاذة" انتهى.
فرع: من قال (لا أبا لزيدٍ) لم يقل (لا أبا لزيدٍ وأخا لعمرٍو)، فيُقحم اللام بين المعطوف على اسم (لا) وبين ما أُضيف إليه، نص على ذلك الفارسي في (البصريات).
والسبب في امتناعه أن إقحامها بين المتضايفين خارج عن القياس، ولولا السماع لما قيل به، فلا ينبغي أن يُتعدى به موضع السماع، والأول في هذا الباب قد يختص بما لا يجوز في الثاني؛ ألا ترى أن اسم قد يُبنى معها، ولا يجوز ذلك في الاسم المعطوف عليه.
وقد قال أبو جعفر بن مضاء مؤلف كتاب (المشرق): "شذت مسألة، وذلك قولهم: لا أخا لك، ولا أبا لك، ولا يدي لفلان، وتقدم أن (لا) لا تعمل إلا في النكرات العامة، وهذه الألف لا تلحق الأسماء الستة المعتلة إلا في حال الإضافة، فإن جعلت هذه الأسماء مضافة إلى الضمير
واللام زائدة لم يجز نصبها بـ (لا)، وإن قدرنا اللام ثابتة والأسماء نكرات فلم دخلت الألف وسقطت النون، لكن هكذا سُمعت من العرب" انتهى.
واطرد إقحام اللام بين المتضايفين إذا كان المضاف إليه معرفة لكثرة ما جاء منه، فتقول: لا أبا لك، ولا حما لك، ولا يدي/ لك، ولا غلامي لك، ولا مُسلمي لك، ولا زيدي لك.
ويجوز في قولك (لا غلام لك) و (لا جارية لزيد) أن يكون من هذا الباب، ويكون الخبر محذوفًا. ويجوز أن يكونا غير مضافين، والمجرور في موضع الخبر، ويكون حذف التنوين إذ ذاك لأجل بنائه مع (لا).
قالوا: وتكون التثنية في هذا الباب من قبيل التثنية التي يُراد بها شفع الواحد، نحو (لبيك) و (حنانيك)؛ ألا ترى أن المراد بقولهم (لا غلامي لك) نفي ما قل وكثر من الغلمان؛ لأن (لا) النافية لا تعمل إلا إذا نُفي بها نفيٌ عامٍ، كما أن معنى (حنانيك) تحنن علينا حنانًا بعد حنان، و (لبيك) لزومًا لطاعتك بعد لزوم، وليس المراد حقيقة التثنية.
وإقحام اللام في هذا الباب لازم، فلا يجوز حذف اللام وإبقاء الإضافة فيه لا في الكلام ولا في الشعر، ولا جاء شيء من ذلك في كلامهم إلا مع الأب في ضرورة الشعر.
وقوله إن وليه مجرورٌ بلامٍ مُعلقةٍ بمحذوفٍ غير خبرٍ تقدم أن المُقحم لا يكون إلا اللام، وقال المصنف في الشرح:"بشرط كون اللام ومجرورها غير خبر، فإن كان هو الخبر تعين إثبات النون وحذف الألف بإجماع، وكذا إن لم تل اللام ومجرورها النكرة، أو كان في موضع اللام حرف غيرها". مثال ذلك (لا يدين لك) إذا كان (لك) هو الخبر،
و (لا أبا لك) و (لا غلامين ظريفين لك)، فلم تل (لك)(غلامين) إذ قد فُصل بينهما بالصفة، و (لا يدين بزيدٍ)، فالباء قد دخلت على المجرور، فهي في موضع اللام. فهذه المسائل كلها لا يجوز فيها إلا إثبات التنوين وبناء الاسم المفرد، نحو (لا غلام لك) على الفتح.
وقوله فإن فصلها - أي اللام - جار آخر - نحو: لا يدي بها لك - أو ظرفٌ - نحو: لا يدي اليوم لك، ولا غلامي عندك لزيدٍ - امتنعت المسألة في الاختيار، خلافًا ليونس، فإنه أجاز ذلك في الاختيار، وأشار س إلى جوازه في الضرورة، هكذا قال المصنف. وفي كتاب س أن يونس يفرق في الفصل بين الظرف الناقص والتام، فالناقص يُجيز الفصل به في فصيح الكلام، وكأنه عنده لما لم يستقل الكلام به لم يذكر، والتام لا يُجيز الفصل به.
ورد عليه س أنك لم تفرق بين الناقص والتام في الفصل بين (إن) واسمها، ولا في باب (كان)؛ ألا ترى أنك تقول: إن عندك زيدًا مقيمٌ، وإن اليوم زيدًا مسافرٌ، وكان عندك زيدٌ مقيمًا، على جعل/ (عندك) معمولًا للخبر، وكان اليوم زيدٌ مسافرًا، فإذا لا فرق بين الناقص والتام. وأجاز س الفصل بجملة الاعتراض، فقال: لا أبا - فاعلم - لك.
وقوله وقد يقال في الشعر (لا أباك) قال أبو علي في (الإيضاح):
"وربما حذف الشاعر هذه اللام للحاجة، والتقدير بها الثبات، قال الشاعر:
أبالموت الذي لا بد أني ملاقٍ لا أباك تُخوفيني"
فظاهر كلام أبي علي هذا يدل على أن الشاعر قد يحذف هذه اللام المُقحمة بين المضاف والمضاف إليه إذا اضطر إلى ذلك.
والصحيح أن ذلك لم يجئ في ضرورة ولا في غيرها إلا في (الأب) خاصة، وكذا قال المصنف في الشرح، قال: "ولا يُستغنى عن اللام بعدما أعطي حكم المضاف من الأسماء المذكورة إلا بعد الضرورة،
كقول الشاعر:
وقد مات شماخٌ، ومات مُزودٌ وأي كريمٍ لا أباك يُخلدُ
وقول الآخر:
أبالموت الذي لا بد أني ملاقٍ لا أباك تخوفيني
أراد: لا أبا لك، ولا أبا لك، كذا زعموا. وهو عندي بعيد؛ لأنه إن كان الأمر كذلك لم يخل من أن يكون (أب) مضافًا إلى الكاف عاملًا فيها، أو يكون مقدر الانفصال باللام، وهي العاملة في الكاف مع حذفها. فالأول ممنوع لاستلزامه تعريف اسم (لا)، أو تقدير عدم تمحض الإضافة فيما إضافته محضة. والثاني ممنوع لاستلزامه وجود ضمير متصل معمول
لعامل غير منطوق به، وهو شيء لا يُعلم له نظير، فوجب الإعراض عنه والتبرؤ منه.
والوجه عندي في (لا أبا لك) أن يكون دعاء على المخاطب لئلا يأباه الموت. وهذا توجيه ليس فيه من التكلف شيء" انتهى ما ذكره في (لا أباك) وتوجيهه إياه على أنه فعل ماض دخلت عليه (لا) للدعاء، وفاعله ضمير الموت المذكور في قوله:
أبالموت الذي لا بد أني .............................
وضمير المصدر المفهوم من قوله:
وقد مات شماخٌ ................. ..................
والذي ذكر النحويون أن اللام المحذوفة مقدرة، وإن كانت إذا أتى بها مقحمة زائدة؛ لأنهم لما استعملوها في حال الإضافة إصلاحًا للفظ، ورفضوا ترك الإتيان بها - وإن كان الأصل - صار الإتيان بها كأنه الأصل، فلما اضطر الشاعر إلى إسقاطها قدرها، ونواها لذلك،/ وإذا كانت مقدرة وجب أن يكون خفض الضمير بها لا بالإضافة؛ لأن المنوي المقدر بمنزلة الثابت الملفوظ به، وأنت إذا لفظت باللام كان الخفض بها.
ومما يبين أيضًا أن اللام منوية مقدرة قولهم (لا أباي)، حكي ذلك الأستاذ أبو بكر بن طاهر؛ ألا ترى أن اللام لو لم تكن مقدرة لقالوا (لا أبي) كما قالوا (لطمت في)، فلما لم تُكسر الباء في (لا أباي) دل ذلك على أن الكسرة التي توجبها ياء المتكلم ليست في اللام المردودة، وإنما هي في اللام المحذوفة المقدرة.
وأما تأويل المصنف (لا أباك) على أنه فعل ماضٍ، و (لا) للدعاء، والفاعل مضمر كما قرره، ففي غاية الفساد من وجوه:
أحدها: أن العرب قالت (لا أباك) حيث لم تذكر موتًا، فلا يكون دعاء بالموت، قال:
أمن أجل حبل - لا أباك - ضربته بمنسأةٍ، قد جر حبلك أحبلا
وقال ابن الدمينة:
فقلت لها: لا باك، هلا عذرتني لديها، فقد حانت علي ذنونب
فليست هنا للدعاء بالموت.
الثاني: أن العرب حذفت من الكلمة الهمزة في بيت ابن الدمينة، وحذفت مع الهمزة أيضًا الألف، فقالوا (لا ب شانيك)، يريدون: لا أبا لشانيك، ولو كان هذا فعلًا ماضيًا لم يجز حذف ذلك منه. وإنما جاز كثرة الحذف في (لا أبا لك) لكثرة دوره على ألسنتهم في هذا الباب.
الثالث: يدل على أن (أباي)، فو كان فعلًا ماضيًا لقال (لا أباني)، فتلحقه نون الوقاية، وهذا قاطع ببطلان تأويل المصنف.
وقوله وقد يحمل على المضاف مُشابهه بالعمل، فينزع تنوينه قال المصنف في الشرح: "لو تعلقت اللام بالاسم تعين الإعراب وتوابعه
غالبًا، نحو: لا واهبًا لك درهمًا. واحترزت بـ (غالبًا) من قول الشاعر:
أراني -ولا كفران لله أيةً لنفسي - قد طالبت غير مُنيل
أنشده أبو علي في (التذكرة)، وقال: إن أيةً منصوب بـ (كفران)، أي: لا أكفر لله رحمةً لنفسي. ولا يجوز نصب (أية) بـ (أويت) مضمرًا لئلا يلزم من ذلك اعتراض بين مفعولي (أرى)(أية) بـ (أويت) مضمرًا لئلا يلزم من ذلك اعتراض بين مفعولي (أرى) بجملتين، إحداهما (لا) واسمها وخبرها، والثانية (أويت)، ومعناه: رققت.
وإلى (ولا كفران لله أيةً) أشرت بقولي "وقد/ يُحمل على المضاف مُشابهه بالعمل". ويُمكن أن يكون من هذا قول النبي عليه السلام "لا صمت يومٌ إلى الليل" على رفع (يوم) بالمصدر على تقديره بـ (أن) وفعل ما لم يُسم فاعله" انتهى. ويعني بـ (مشابهه بالعمل) المُطول، نحو: لا خيرًا من زيدٍ عندك، ولا ضاربًا بكرًا في الدار، ولا حسنًا وجهه لك، ولا عشرين درهمًا عندك.
ولم يذكر المصنف في هذه المسألة في الفص ولا في الشرح خلافًا، أعني في جواز نزع التنوين من هذه المُثل ونحوها، وهذا مسألة خلاف:
ذهب الجمهور إلى أن الاسم الواقع بعد (لا) إذا كان عاملًا فيما بعده لزم تنوينه.
وذهب ابن كيسان إلى أنه يجوز فيه التنوين وترك التنوين، قال:"فإذا قلت (لا ضاربًا زيدًا) جاز أن تنون ضاربًا وألا تنونه". وترك التنوين عنده أحسن.
ووجه التنوين عنده أن زيدًا من تمام ضارب، فصار التنوين كأنه في وسط الاسم، فلم يُحذف لأن التنوين في هذا الباب إنما يُحذف من آخر الاسم المبني مع (لا).
ووجه ترك التنوين عنده أن المفعول لو أمسكت عنه لجاز الكلام بضارب وحده، فلم يعتد لذلك بالمفعول، فعومل لذلك معاملة الاسم المفرد، فبني مع (لا)، وحذف منه التنوين.
وكذلك أجاز في (لا خيرًا منك) التنوين وترك التنوين على التقديرين المذكورين، لكن التنوين في هذا أمثل منه في ضارب لأن تمام معناه إنما يحصل بـ (من).
وهذا الذي ذهب إليه باطل من جهة أن الاسم العامل فيما بعده لم يُجعل مع غيره كاسمٍ واحد في غير هذا الباب، فيُحمل هذا الباب عليه، بل يجب إذا سُمع من ذلك شيء قد تُرك منه التنوين ألا يُجعل مع ما بعده معمولًا له، فإذا قلت "لا آمر يوم الجمعة لك"، ولم تنون، انتصب (يوم الجمعة) بالخبر الذي هو (لك)، أو بفعل محذوف يفسره قولك (لا آمر لك بالمعروف، فقدمت، وأضمرت عاملًا، أي: يأمر بالمعروف.
والمصنف لم يأخذ بمذهب الجمهور ولا بمذهب ابن كيسان. أما مذهب الجمهور فلا يجوز نزع التنوين من المُطول تشبيهًا بالمضاف، وهو قد أجاز ذلك. وأما مذهب ابن كيسان فإن ترك التنوين عنده أحسن من
إثباته، والمصنف قال "وقد يُحمل على المضاف مُشابهُه بالعمل"،/ فدل لفظه على القلة في ذلك. وابن كيسان جعل نزع التنوين لأجل البناء وتركيب الاسم مع (لا)، والمصنف يدل ظاهر كلامه على أن الاسم معرب، فإن نزع التنوين منه إنما هو لمشابهته بالعمل للمضاف.
وأما ما أنشده أبو علي من قوله:
أراني ولا كُفران لله أيةً ...........................
وزعمه واحتجاج المصنف أن (أيةٍ) منصوب بـ (كفران)، وأنه نُزع منه تنوينه مع بقائه عاملًا في المفعول له، فتخريجه على غير ما ذكراه، إذ يجوز أن يكون منصوبًا بمحذوف يدل عليه (لا كفران لله)، أي: لا أكفر أيةً لنفسي، ودل على هذا المحذوف ما قبله، كما خرجوا قوله تعالى {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: لا عاصم يعصم اليوم.
وأما منع أبي علي انتصاب (أيةً) على (أويت) مضمرة لأن ذلك يؤدي إلى الفصل بين مفعولي (أوي) بجملتين للاعتراض فهو شيء بناه أبو علي على مذهبه من أنه لا تعترض جملتان بين مقتضٍ ومقتضي. وقد رده المصنف عليه في آخر (باب الحال)، فقال: "وقد يعترض جُملتان، خلافًا لأبي علي). وسيأتي الدليل على صحة مذهب غير أبي علي - إن شاء الله - حيث يعرض له المصنف.
وفي (البسيط): "معمولها -يعني معمول لا - إن كان عاملًا فيما بعده فيظهر العمل، ولا يصح البناء سواء كان مفردًا أم مثنى أم مجموعًا أم مشبهًا بالمجموع، نحو، لا عشرين درهمًا لك، والعاملُ عاملُ
خفضٍ كالمضاف، نحو: لا حسن وجهٍ، ولا مثل زيدٍ، ولا غلامي رجلٍ، ولا ضاربي قوم، وعاملُ نصب، نحو: لا ضاربًا زيدًا، ولا ضاربين عمرًا، ولا حسنًا وجهه، ولا مارًا بزيدٍ، وسواء أكان مفعولًا صريحًا أم ظرفًا أم مجرورًا أم فاعلًا.
وجوز البغداديون بناءها وإن كانت عاملةً في ظرف بعدها أو مجرور، كقوله {وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . والأول قول الخليل وس.
وإن كان غير عامل سواء أكان مفردًا أم مثنى أو مجموعًا فالجمهور على أن (لا) عاملة في الاسم على أنه مبني، وهو مذهب س. وقالت طائفة: هو معرب. ويُنسب إلى الزجاج والسيرافي وأهل الكوفة.
والقائلون بالبناء على طريقين:
أحدهما: أنه جوابٌ رُكب على السؤال، والسؤال مُستغرق بـ (من)، فالجواب مثله.
والثاني: أن ما بعد (لا) مُفتقر إلى (لا) في أنه لا يكون إلا بعد نفي متقدم، فصار كالحرف، والحرف مفتقر إليه، فبُنيا لذلك.
والقائلون بأنها لا تعمل/ على وجهين:
أحدهما: أن (لا) وما بعدها مركب، صارا كشيء واحد، وبعض الشيء لا يعمل في بعضه.
والثاني: أن الأصل (لا من كذا)، فموضعه رفع بمنزلة: هل من رجلٍ؟ وما من رجلٍ، فلما حذف (من)، وتضمنها الاسم، بقي مرفوعًا كحاله الأولى" انتهى، وفيه تلخيص.
وفي كتاب أبي الفضل الصفار: "وأجازوا - يعني الكوفيين - لا قائل قولًا حسنًا، ولا ضارب ضربًا كثيرًا، يبنون الاسم المُطول. وخرج هذا على إضمار: يقول قولًا حسنًا، ويضرب ضربًا كثيرًا، والإضمار للدلالة كثير".
فرع: الاسم المركب من قبيل المُشبه بالمضاف من جهة أنه لا يجوز تركيبه مع (لا) وجعلهما كاسمٍ واحد لما يلزم من جعل ثلاثة أشياء كشيء واحد، وذلك لا نظير له في المركب، كما لا خمسة عشر لك) فـ (خمسة عشر) في موضع نصب بـ (لا)، وليست مركبة مع (لا)، والفتحة التي في راء (عشر) هي الفتحة التي كانت فيها قبل دخول (لا) عليها، وليست حادثة بسبب (لا). ومما يبين ذلك أنك لو أدخلت (لا) على (عمرويه) على حد دخولها على (هيثم) في قوله:
لا هيثم الليلة للمطي
لقلت: لا عمرويه، فأبقيت الاسم على كسره، ولم تفتح الآخر بسبب (لا).
-[ص: فصل
إذا انفصل مصحوب (لا)، أو كان معرفةً، بطل العمل بإجماع، ويلزم حينئذٍ التكرار في غير ضرورة، خلافًا للمبرد وابن كيسان، وكذا التاليها خبرٌ مفردٌ أو شبهه. وأفردت في (لا نولك أن تفعل) لتأوله بـ (لا ينبغي). قد يؤول غير (عبد الله) و (عبد الرحمن) من الأعلام بنكرة، فيُعامل معاملتها بعد نزع ما فيه أو فيما أضيف إليه من ألفٍ ولام، ولا يُعامل بهذه المعاملة ضميرٌ ولا اسم إشارة، خلافًا للقراء.]-
ش: (لا) هذه أضعف في العمل من (ما) الحجازية؛ لأن (ما) جوزوا الفصل بينها وبين اسمها بالخبر إذا كان ظرفًا أو مجرورًا على خلاف فيه، وبمعمول الخبر إذا كان أحدهما، نحو: ما اليوم زيدٌ سائرًا، و (لا) لا يجوز فيها ذلك. وإنما كان ذلك لأن شبه (ما) بـ (ليس) أقوى من شبه (لا) بـ (إن). ومثال الانفصال قوله تعالى {لا فِيهَا غَوْلٌ} . وكذلك لو عملت عمل (ليس) أيضًا لم يجز الفصل بينها وبين اسمها، نص على ذلك س.
وقوله أو كان معرفةً إنما لم تعمل في المعرفة من قبل أن موضوع (لا) العاملة أنها/ تنفي نفيًا عامًا على سبيل النصية، و (لا) التي لا تنفي نفيًا عامًا لا خصوصية لها بالأسماء، وإذا لم تختص بالأسماء لم تعمل فيها؛ لأن الحرف إذا لم يختص فبابه ألا يعمل، ولهذه العلة لم تعمل
(لا) إذا دخلت على النكرة التي فيها معنى الفعل، نحو قولك: لا سلامٌ على زيدٍ، ومن ذلك قوله:
ونُبئت جوابًا وسكنًا يسبني وعمرو بن عفرا، لا سلامٌ على عمرو
يريد: لا سلم الله على عمرو.
فإن قلت: هلا عملت (لا) في المعرفة إذا كانت بـ (أل) الاستغراقية.
فقال المصنف: "لأنها بلفظ العهدية، فليس التنصيص بها على العموم كالتنصيص عليه بـ (من) الجنسية مذكورةً أو منوية".
وقوله بطل العمل بإجماع إن رجع قوله (بإجماع) إلى قوله (أو كان معرفة) صح عند البصريين إذ أجمعوا على ذلك.
وأجاز الكوفيون بناء الاسم العلم سواء أكان مفردًا، نحو: لا زيد ولا عمرو، أو مضافًا إليه، نحو: لا أبا محمد، ولا أبا زيد. وإن كان مضافًا إلى (الله) و (الرحمن) و (العزيز) أجازوا أن تعمل (لا) فيه، فيقولون: لا عبد الرحمن، ولا عبد الله، ولا عبد العزيز، وسيأتي الكلام في هذا.
وإن عاد إلى هذه المسألة والتي قبلها من انفصال مصحوب (لا) فليس بصحيح؛ إذ قدم تقدم لنا النقل عن الرماني أنه إذا فُصل بطل البناء، وجاز النصب.
وفي (البسيط): قال س: ولا تعمل إذا فُصل بينها وبين اسمها ناصبةً ولا رافعة، وذلك لضعفها عن درجة (إن) و (ما)، وذلك أبين في المبنى لأنه فصل بين الشيء وجزئه.
وأما الفصل فيما عداه فظاهر إطلاق س أنه لا يجوز، ولذلك قدر قوله:
................. لا كالعشية زائرًا ...................
على: لا أرى، ولم يُقدره على: لا زائرًا كالعشية.
وأما الفصل في (لا ضاربًا لك) - أعني بين العامل والمعمول - فيظهر أنه جائز وإن كان س قد شبه ذلك بـ (أفعل من كذا)، لكن من أجل اشتراط تعلق الثاني بالأول لا في جميع أحكامه، وسواء انفصل بالخبر وبالأجنبي.
فأما (لا أبا لك) فلا يجوز الفصل إلا في ضرورة؛ إذ يكون من باب الفصل بين المضاف والمضاف إليه، فلا تقول (لا أبا فيها لك) إلا على قوله:
كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج
وقوله ويلزم حينئذ - أي: حين إذ بطل العمل إما لأجل الفصل وإما لكون الاسم/ معرفة - التكرار في غير ضرورة هذا مذهب س
والجمهور. وعلة ذلك قال المصنف: "ليكون التكرار عوضًا مما فاتها من مصاحبة ذي العموم، إن في التكرار زيادة كما في العموم زيادة، ثم حُمل في لزوم التكرار المفصولة على التي تليها معرفة لتساويهما في وجوب الإهمال".
وقال غيره: يلزم تكرار (لا) غير العاملة إذا لم يكن الاسم الذي بعدها في معنى الفعل معرفةً كان أو نكرة؛ ولا يجوز أن تقول (لا زيدٌ عندك) حتى تكرر (لا)، فتقول (ولا عمروٌ). وسبب ذلك أن العرب جعلتها في جواب من سأل بالهمزة وأم، فكما أن السؤال بهما لابد فيه من العطف، فكذلك ما هو جواب له.
فإن قلت: ما المانع من أن يقال (لا زيدٌ في الدار) من غير تكرار في جواب من قال: هل زيدٌ في الدار؟
فالجواب: أن العرب جعلت في جواب من قال (هل زيدٌ في الدار)(ما زيدٌ في الدار) و (ليس زيدٌ في الدار)، واستغنوا بذلك عن (لا).
فإن كان الاسم في معنى الفعل لم يلزم تكرارها، نحو قولك (لا سلامٌ على زيد)؛ لأن معناه: لا سلم الله زيدًا، و (لا نولك أن تفعل)؛ لأنه صار بمنزلة: لا ينبغي لك أن تفعل، و (لا بك السوء)؛ لأنه في معنى: لا يسؤك الله، فحكموا لذلك بحكم ما هو في معناه، فلم يكرروها كما لم يكرروها في الفعل، كما حكموا لـ (يذر) بحكم (يدع) لما كان في معناه.
فإن قلت: لأي شيء لم تُكرر مع الفعل مع أنها غير عاملة فيه كما كُررت مع الاسم إذا لم تكن عاملة فيه؟
فذكر في الجواب: أنه إنما لم تُكرر مع الفعل لأنها تقع في جواب اليمين، واليمينُ قد تقع على فعل واحد. وأيضًا فإن (لا أفعل) نقيض (لأفعلن)، فمن حيث لم يجب ضم فعل آخر إلى (لأفعلن) لم يجب ذلك في نقيضه.
وزعم أبو العباس أن السبب في عدم لزوم تكرارها مع الفعل أن الأفعال بعدها وقعت موقع الأسماء النكرات التي بُنيت مع (لا)، فكما لا يلزم تكرار (لا) معها فكذلك لا يلزم تكرارها مع الفعل. قال:"ولو قدرتها تقدير (لا رجل في الدار ولا غلام) لقلت: لا يقعد زيدٌ ولا يقوم، ولصارت جوابًا لقوله: أيقوم زيدٌ أم يقعد".
وهذا الذي ذهب إليه باطل لأمرين:
أحدهما: أن (لا) الداخلة على الفعل لا تنفي نفيًا عامً، فلا يجوز أن تُقدر تقدير التي بُني معها الاسم.
وأيضًا فإن (لا) التي تنفي نفيًا عامًا لو جاز/ دخولها على الفعل لكانت غير مختصة، والحروف غير المختصة بابُها ألا تعمل.
وكذلك أيضًا لم تُكرر العرب (لا) - وإن كانت غير عاملة - في قولهم "لا سواءٌ" في جواب من قال "هذان سواءٌ" لأنها جُعلت عوضًا
من المبتدأ المحذوف، ولذلك لم يقولوا "هذان لا سواءٌ" فيجمعوا بين العوض والمعوض منه، فلما جعلوا (لا) عوضًا من المبتدأ المحذوف أجروها مُجرى المبتدأ، فكما أنه لا يلزم التكرار في قولك "هذان سواءٌ" فكذلك لم يكرروا (لا) في قولهم "لا سواءٌ".
وأما التي فُصل بينها وبين الاسم بخبر فامتنع إعمالها فيه من جهة أن (لا) العاملة تنزلت من الاسم الذي عملت فيه منزلة (من) الزائدة من الاسم الذي دخلت عليه في الجملة الاستفهامية التي وقعت (لا) جوابًا لها؛ فكما لا يجوز الفصل بين (من) الزائدة وما عملت فيه فكذلك لا يجوز الفصل بين (لا) وبين الاسم الذي عملت فيه، فوجب لذلك إذا فُصل بينهما ألا تعمل فيه، ويجب فيها أيضًا أن تُكرر لأن (لا) غير العاملة في الاسم إنما جعلتها العرب في جواب من سأل بالهمزة و (أم)، وقد تدخل على المعرفة، فيغني عن تكرارها حرف نفي غيرها، وهو قليل، قال الشاعر:
وكان طوى كشحًا على مُستكنةٍ فلا هو أبداها، ولم يتجمجم
وقوله في غير ضرورة مثال ما لم تُكرر فيه مع المعرفة قوله:
بكت أسفًا واسترجعت، ثم آذنت ركائبها أن لا إلينا رجوعها
ويروي: بكت جزعًا، وقوله:
أشاء ما شئت حتى لا أزال لما لما أنت شائيةٌ من شأننا شاني
ومثال ما لم تُكرر فيه مع الفصل قول الشاعر:
وقوله خلافًا للمبرد وابن كيسان أجاز المبرد وابن كيسان إذا فُصل بين (لا) وبين الاسم، أو جاء بعدها معرفة، ألا تُكرر، وذلك في السعة، ولا يختص ذلك بالضرورة، فأجازا: لا في الدار رجلٌ، وأجازا: لا زيدٌ عندك.
فإن قلت: إذا قال القائل: أزيدٌ في الدار؟ فقلت: نعم، أليس يجوز أن يقال: نعم في الدار؟ فما المانع من أن يقال في الجواب: لا زيدٌ في الدار، كما قيل: نعم زيدٌ في الدار؟
فالجواب: أن الجملة في قولك (نعم زيدٌ في الدار) تأكيد لما تضمنته (نعم)، وكأنك قلت: نعم نعم، ولا يكون/ ذلك في (لا لأن قولك (زيدٌ في الدار) إيجاب؛ لأن (لا) قد استقلت بالجواب، فليست داخلة على هذه الجملة بعدها فتنفيها، وإذا كانت إيجابًا فلا يؤكد بها النفي. ولا حجة لهما في قول العرب (لا نولك أن تفعل) و (لا بك السوء) لما ذكرناه من أن معنى الاسم فيه الفعل.
وقال السيرافي رادًا على المبرد ما نصه: فإن هذا الذي أورده: أغلامٌ عندك؟ جوابه: نعم، أو: لا، وأما أحد الاسمين فلا، إنما يُجاب بالاسم من سأل بالهمزة و (أم)، فحينئذٍ تقول: عندي غلامٌ، أو تقول: عندي جاريةٌ، أو تنفيهما، فتقول: لا هذا ولا هذا، فالتكرار لازم لـ (هذا)؛ ألا ترى أن الجواب بالاسم إنما يُرتب على من سأل بالهمزة و (أم).
قال بعض أصحابنا: وهذا الذي قاله السيرافي إذا حققته اضمحل، وذلك أن جواب من سأل بالهمزة خاصة إنما يكون بـ (نعم) أو بـ (لا) إذا كان السؤال ملفوظًا به، نحو: أغلامٌ عندك؟ فعندما تُجيب هذا تقول: نعم، أو: لا، وأما إذا قدرت سؤالًا فإنما يكون الجواب بالاسم؛ لأنه لا يدري أحد ما يُعني بـ (نعم) أو (لا)، فيتعين هنا الجواب بالاسم.
فهذا الذي ذكرناه للمبرد أن يقوله، وهو حق، وإنما يُرد عليه بأن العرب لم تقل قط (لا غلامٌ) وتلغي (لا) دون تكرار إلا شذوذًا، نحو:
................... .............. أن لا إلينا رُجوعها
فكونهم لا يقولون (لا زيدٌ) دليلٌ على أنهم قد عزموا على أن تكون هذه الملغاة جوابًا لمن سأل بالهمزة وأم، وإذا أرادوا جواب من سأل بالهمزة قالوا: ما زيدٌ عندي، أو: ما عمروٌ. فهذا الذي أراد س، فهو تعليل بعد السماع. فما ذهب إليه المبرد ساقط إذ لا سماع يعضده، ولا يُحفظ من كلامهم. انتهى.
وقوله وكذا التاليها خبرٌ مفردٌ أو شبهه مثال ما وليها خبر مفرد قولك: زيدٌ لا قائمٌ ولا قاعدٌ. وأفهم قوله (مفرد) أنه إذا وليها الخبر وهو جُملة فلا يلزم تكرارها، وليس كذلك، بل إن كانت فعلية كان ذلك، نحو: زيدٌ لا يقوم، وإن كانت اسمية فيلزم تكرارها إلا في ضرورة.
وشبه الخبر المفرد الحال والنعت، نحو: نظرت إليه لا قائمًا ولا قاعدًا، ومررت برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ، فيلزم تكرار (لا) في هذه المواضع إلا في ضرورة، نحو قول الشاعر:
وأنت امرؤٌ منا، خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ، وموتك فاجع
وسهل هذا هنا أن (وموتك فاجع) في معنى: ولا موتك يسر، وقول الآخر:
/ قهرت العدا لا مُستعينًا بعصبةٍ ولكن بأنواع الخدائع والمكر
وقول الآخر:
إني تركتك لا ذا عُسرةٍ تربًا فاستعففن، واكف من وافاك ذا أمل
وقوله وأفردت في (لا نولك أن تفعل) لتأوله بـ (لا ينبغي) النول من التنويل والنوال، وهو العطية، ضمن (لا نولك) معنى: لا ينبغي لك أن تفعل، فكما لا يلزم تكرار الفعل بعد (لا) كذلك لم يلزم تكريرها بعد ما هو في معنى الفعل.
قال ابن هشام: "وأن تفعل: فاعلٌ بـ (نولك)، سد مسد الخبر لما كان في معنى الفعل، ونظيره (أقائمٌ الزيدان)، و (ما قائمٌ الزيدان)، فاعل سد مسد الخبر لما كان المعنى: أيقوم الزيدان؟ وما يقوم الزيدان" انتهى.
والذي أذهب إليه أن (نولك) مبتدأ، و (أن تفعل) خبره، وليس مرفوعًا به رفع الفاعل؛ لأنه ليس اسم فاعل ولا اسم مفعول، وتقدم الكلام عليه في أوائل (باب الأفعال الرافعة الاسم الناصبة الخبر).
وقوله وقد يؤول إلى قوله من ألفٍ ولام ذكر المصنف أن العلم غير الاسمين اللذين ذكرهما - وهما عبد الله وعبد الرحمن - قد يؤول بنكرة، فيُبنى مع (لا)، أو يُنصب إن كان مضافًا، فإن كانت فيه ألف ولام نحو
(العزى) نُزعت منه، نحو قول الراجز:
إن لنا عزى، ولا عُزى لكم
أو فيما أضيف إليه نُزعت أيضًا منه، نحو قول عمر (قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها).
وأفهم قول المصنف "غير عبد الله وعبد الرحمن" أن هذين الاسمين لا يؤولا بنكرة، فيعاملان معاملتها، قال في الشرح:"للزوم الألف واللام في عبد الله، وكذا عبد الرحمن على الأصح؛ لأن الألف واللام لا يُنزعان منه إلا في النداء" انتهى.
وقال الفراء: "إنما أجزنا (لا عبدالله لك) لأنه حرف مستعمل، يقال لكل أحد عبد الله، ولا نجيز: لا عبد الرحمن، ولا عبد الرحيم، لان الاستعمال لم يلزم هذين كما لزم عبد الله" انتهي.
وكذلك سُمع: نعم عبد الله خالدٌ، وبئس عبد الله أنا إن كان كذا. ولا يجوز: نعم غلامٌ زيدٌ؛ لأن (عبد الله) ينطلق على كل أحد، فكأنه قال: نعم المرء خالدٌ.
وكان الكسائي يقيس على (لا عبد الله لك) لا عبد الرحمن، ولا عبد العزيز. وقد حكي الفراء عن العرب: قُتل عبد العزيز وعرقل، فلا عبد عزيز ولا عرقل/ ليه، بحذف الألف واللام من (العزيز)، كما حُذفت في (قضيةٌ ولا أبا حسنٍ).
وفي (الغرة): وقوم من الكوفيين يُجيزون (لا زيد لك)، وأجروا (عبد الله) مُجرى النكرة، وعبد العزيز وعبد الرحمن يجريان مجرى عبد الله، إلا أنهم يُسقطون منهما الألف واللام، فيقولون: لا عبد عزيزٍ ولا عبد رحمن، ولا يعرف هذا بصري.
وقوله فيعامل مُعاملتها يعني: فما كان مفردًا بُني على ما يُنصب به، وما كان منها مضافًا أو مُطولًا أعرب، فمما جاء من ذلك "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده"، وقول الراجز:
لا هيثم الليلة للمطي
وقول ابن الزبير الأسدي:
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ نكدن، ولا أمية بالبلاد
وقال الآخر:
تُبكي على زيدٍ، ولا زيد مثله سليمٌ من الحمى صحيح الجوانح
وتنكير المعرفة على قسمين:
أحدهما: أن يُجعل الاسم واقعًا في الحال على مسماه وعلى كل من أشبه مُسماه، فيكون إذ ذاك نكرة لعمومه، ومن هذا القبيل الأبيات التي تقدم ذكرها، أوقع (أمية) على الشخص الذي اسمه (أمية) وعلى كل من أشبهه، وكذلك (هيثم) و (زيد)، وإيقاع اسم الشخص على من أشبهه جائز في كلام العرب، نحو: زيدٌ زُهيرٌ، وعلى هذا الضرب تُنزع الألف واللام إن كانت فيه؛ لأن التنكير مع وجودهما غير جائز، ومنه (ولا أبا حسنٍ)، و (لا عبد عزيزٍ).
والضرب الثاني: أن يكون (مثل) مضافًا إليه في التقدير، فعلى هذا تقول (قضيةٌ ولا أبا الحسن) بإثبات (أل) في الحسن، تريد: ولا مثل أبي الحسن، وتكون على هذا قد نفيت أن يكون للقضية أبو الحسن أو من يشبهه، على حد قولهم: مثلك من يفعل كذا، يريدون: أنت وأمثالك تفعلون كذا. ومن هذا الضرب ما حكاه الكسائي من قول بعضهم (لا أبا حمزة لك)، وأبو حمزة ليس مُنكرًا على الطريق الأول بدليل منعه الصرف، وإنما هو مُنكر على الطريق الثانية، والتقدير: لا مثل أبي حمزة لك، فحُذف (مثل)، وأقيم ما أضيف إليه مُقامه، ورُوعي المعنى بعد الحذف.
وحكي الكسائي أيضًا (لا أبا محمد لك)، وكان القياس (لا أبا محمدٍ لك) على الضربين السابقين، فحمله بعض النحويين على أنه من قبيل/ الأسماء المركبة، نُقل من الإضافة إلى التركيب.
وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يكون ممنوع الصرف، وهو مما مُنع
لسبب واحد - وهو التعريف - نحو قوله:
أنا أبو دهبل وهبٌ لوهب
والتنكير على الضرب الأول أحسن من التنكير على الضرب الثاني؛ لأن العرب إذا حذفت المضاف وأقامت المضاف إليه مُقامه فإنما تجعل الحكم للملفوظ به، ولا تجعله للمحذوف إلا في قليل من الكلام، وبابه الشعر، نحو قوله:
تأتي المُقيم وما سعى حاجاته عدد الحصى، ويخيب سعي الطالب
نصب (عدد الحصى) على الحال، وهو معرفة في اللفظ، لما كان التقدير: مثل عدد الحصى.
فإن قلت: ما الدليل على أن هذه الأسماء المعارف مؤولة بنكرة؟ ولعلها عملت فيها (لا) وهي باقية على تعريفها على سبيل الشذوذ، كما عملت (لا) في المعرفة عمل (ليس) على طريق الشذوذ، كما عملت (لا) في المعرفة عمل (ليس) على طريق الشذوذ.
فالجواب: ما ذكره الفراء من أن من قال (لا أمية لك)، ثم نعت نعته بنكرة وإن كان له لفظ التعريف بترك إجرائه، فقال (لا أبا أمية عاقلًا لك)، ولا يقال (العاقل) لنيابته عن النكرة.
وفي (الغُرة): فأما قول الشاعرك
لا هيثم الليلة للمطي
وقولهم (قضية ولا أبا حسنٍ) ففيه وجهان:
أحدهما: أنه جعل من جماعةٍ كل واحد منهم هيثم، فتنكر، كما تقول: زيدين.
والآخر: أنه فيه حذف، تقديره: لا مثل هيثم. وقالوا على هذا (أما البصرة فلا بصرة لكم)، و (أما بغداد فلا بغداد لكم). وعلى القول الثاني لا يجوز وصفه عند الأخفش لأنه في موضع نكرة، فلا يجوز وصفه بالمعرفة، ولا يجوز وصفه بالنكرة وهو معرفة، فبطل الوصف.
وقال المصنف في الشرح: "قدر قوم العلم المعامل بهذه المعاملة مضافًا إليه (مثل). وقدره آخرون بـ (لا مُسمى بهذا الاسم)، أو بـ (لا واحد من مسميات هذا الاسم). ولا يصح واحد من التقديرات الثلاثة على الإطلاق:
أما الأول فممنوع من ثلاثة أوجه:
أحدها: ذكر (مثل) بعده، نحو:
تُبكي على زيدٍ، ولا زيد مثله .........................
فتقدير (مثل) قبل (زيد) مع ذكر (مثل) بعده وصفًا أو خبرًا يستلزم وصف الشيء بنفسه، أو الإخبار عنه بنفسه، وكلاهما ممتنع.
الثاني: أن المتكلم بذلك إنما يقصد نفي مُسمي العلم المقرون بـ (لا)، فإذا قدر (مثل) لزم خلاف المقصود؛ لأن نفي مثل الشيء لا تعرض فيه لنفي/ ذي المثل.
الثالث: أن العلم المُعامل بها قد يكون انتفاء مثله معلومًا لكل أحد، فلا يكون في نفيه فائدة، نحو: لا بصرة لكم، ولا أبا حسنٍ لها، و "لا قريش بعد اليوم".
وأما التقدير الثاني والثالث فلا يصح اعتبارهما مطلقًا، فإن من الأعلام المُعاملة بذلك ما له مُسميات كثيرة، كأبي حسنٍ وقيصر، فتقدير ما كان هكذا بـ (لا مُسمى بهذا الاسم)، أو بـ (لا واحد من مُسمياته) لا يصح لأنه كذب، فالصحيح ألا يُقدر هذا النوع بتقدير واحد، بل يُقدر ما ورد منه بما يليق به، وبما يصلح له، فيُقدر (لا زيد مثله) بـ: لا واحد من مُسميات هذا الاسم مثله، ويُقدر (لا قريش بعد اليوم) بـ: لا بطن من بطون قريش بعد اليوم، ويُقدر (لا حسنٍ لها) و (لا كسرى بعده، ولا قيصر بعده) بـ: لا مثل أبي حسنٍ، ولا مثل كسرى، ولا مثل قيصر، وكذلك: لا بصرة، ولا أمية، ولا عزى. ولا يضر في ذلك عدم التعرض لنفي ذي المثل؛ فإن سياق الكلام يدل على القصد".
وقوله ولا يُعامل بهذه المعاملة ضميرٌ ولا اسم إشارة، خلافًا للفراء لم تقل العرب (لاك) ولا (لا إياك لنا). وأجاز الفراء (لا هو) و (لا هي) على أن يكون الضمير اسم (لا) محكومًا بتنكيره ونصبه.
وهذا في غاية الضعف، فإن سُمع ذلك مع العرب كان تأويله على خلاف ما أجازه الفراء، فيكون (هو) مرفوعًا على الابتداء، وحُذف الخبر لدلالة المعنى عليه، ولم تتكرر (لا) على سبيل الشذوذ.
وفي كتاب أبي الفضل الصفار: وأجازوا - يعني الكوفيين - دخول
(لا) على المضمر، وتكون بمنزلة (إن)، وبمنزلة (ليس)، فأجازوا في (لا هو) على الوجهين، وحكوا: إن كان أحدٌ سلك هذا الفج فلا هو بهذا.
وفي (الغرة): وأجازوا - يعني قومًا من الكوفيين - دخولها على المضمر الغائب، وحكوا: إن كان واحدٌ في هذا الفج فلا هو. ولا يعرف هذا بصرىٌ وأنشد الفارسي:
ولا هي إلا أن تُقرب وصلها علاةٌ كناز اللحم ذات مشاورة
وأجاز الفراء أيضًا: لا هذين لك، ولا هاتين لك، على أن يكون اسم الإشارة اسم (لا) محكومًا بتنكيره. وما أجازه في اسم الإشارة منقول عن العرب، لكنه من الشذوذ والقلة بحيث لا يُقاس عليه.
ص: ويُفتح أو يُرفع الأول من نحو (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فإن فُتح فُتح الثاني أو نصب أو رفع، وإن رفع الثاني أو فتح. وإن سقطت (لا) الثانية فُتح الأول ورُفع الثاني/ أو نُصب، وربما فتح منويًا معه (لا).
وتنصب صفة اسم (لا) أو تُرفع مطلقًا، وقد تُجعل مع الموصوف كـ (خمسة عشر) إن أُفردا واتصلا، وليس رفعها مقصورًا على تركيب الموصوف، ولا دليلًا على إلغاء (لا)، خلافًا لابن برهان في المسألتين.
وللبدل الصالح لعمل (لا) النصب والرفع، فإن لم يصلح لعملها تعين رفعه. وكذا المعطوف نسقًا.
وإن كرر اسم (لا) المفرد دون فصلٍ فُتح الثاني أو نُصب.
ش: مسألة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وما أشبهها فيها خمسة أوجه:
[الأول]: لا حول ولا قوة، الفتح في (حول) وفي (قوة) على البناء، فتكون (لا) الثانية كالأولى، ومن ذلك {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} .
الثاني: لا حول ولا قوةً، الفتح في (لا حول) على البناء، والنصب في (قوةً) على العطف على لفظ اسم (لا)، و (لا) الثانية زائدة لتأكيد النفي، مثلها في قولهم: ليس زيدٌ ولا أخوه عندك، ومن ذلك قول الشاعر:
لا نسب اليوم ولا خُلةً إتسع الخرق على الراقع
وقوله:
رعت إبلي برمل عتود إذ لا مقيل بها ولا شربًا نقوعا
وفي (الغرة): "النصب بالتنوين في المفرد المعطوف على المبني مع (لا) لا يُجيزه يونس وجماعة من النحاة إلا على الضرورة، كما لا
يُجيزون تنوين المنادى المفرد المعرفة، وغيرهم يُجيزه مع (لا)، يجعل (لا) الثانية زائدة مؤكدة، كما تقول: ليس زيدٌ قائمًا ولا عمروٌ منطلقًا، فتكون (لا) مؤكدة، يدلك على ذلك قولهم: ليس زيدٌ ولا عمروٌ ذاهبين. ولما اطرد في الأولى أن يكون المفرد بعدها مبنيًا على الفتح تنزلت منزلة المُحدث للفتحة، فحُمل الثاني على لفظ الأول، ولم يُبن الاسم الآخر على الفتح لأنه اعتُقد أن (لا) الثانية زائدة. وليس بصحيح أن يُبنى مع الأولى أيضًا لأجل عطف العطف، ولئلا تكون ثلاثة أشياء واحدًا، وهذا نظير (يا زيد والحارث) في عطف معرب مرفوع على معطوف منصوب الموضع؛ بخلاف المنادى لأنه مضموم اللفظ منصوب الموضع" انتهى.
الثالث: لا حول ولا قوةٌ، الفتح في (لا حول) على البناء، والرفع في (قوةٌ) من وجهين:
أحدهما: أ، يكون/ معطوفًا على موضع (لا) مع اسمها، و (لا) زائدة لتأكيد النفي، مثلها في قولهم: ليس زيدٌ ولا أخوه عندك.
والوجه الثاني: أن تكون (لا) بمنزلة (ليس)، والنكرة مرفوعة اسمها. وعلى العطف على الموضع قوله:
بها العين والآرام لا عد عندها ولا كرعٌ إلا المغرات والربل
وقوله، وهو جرير:
بأي بلاءٍ يا نُمير بن عامرٍ وأنتم ذنابى، لا يدين ولا صدر
وقول الآخر:
هذا - وجدكم - الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
أنشده س وأبو علي على ذلك، وعدلوا إليه، ولم يذهبوا إلى أن (لا أب) ارتفع فيه (أب) على أن تكون (لا) بمنزلة (ليس)، ويكون (أب) اسمها، لما يؤدي إليه ذلك من كثرة الحذف؛ إذ يلزم حذف خبر ليس، وحذف شرط آخر، وحذف جوابه بتقدير جعل (لا) بمنزلة (ليس) لأنها مستأنفة، فيصير من عطف الجمل، ولا يريد انتفاء الأب على الإطلاق، بل انتفاءه على تقدير شرط، وهو: إن كان ذاك ولا أب. وفي الوجه الأول ليس فيه إلا حذف جواب الشرط الذي هو: إن كان ذاك، و (لا أب) من عطف المفردات، فلذلك رجحا حمل البيت على ما ذكرناه.
الرابع: لا حولٌ ولا قوةٌ، نحو قوله {لَاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} ، وقول الشاعر:
وما هجرتك حتى قلت معلنةً لا ناقةٌ لي في هذا ولا جمل
ولا يخلو النفي من أن يكون عامًا أو غير عام، إن كان غير عام لم تعمل (لا) شيئًا، وكان ارتفاع الاسمين على الابتداء. وإن كان عامًا جاز أن تكون (لا) الأولى و (لا) الثانية بمنزلة (ليس)، والنكرتان مرتفعتان بهما، وجاز أن تكون الأولى بمنزلة (ليس)، والثانية زائدة لتأكيد النفي في العطف، والنكرة بعدها معطوفة على النكرة قبلها.
الخامس: لا حولٌ ولا قوة، يرفعون الأول لأن (لا) بمنزلة (ليس)، ويُفتح الثاني لأنها بمنزلة (إن)، وعلى هذا الوجه الخامس قوله:
فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها وما فاهوا به لهم مُقيم
ولا يجوز أن تقول (لا حولٌ ولا قوةً) برفع الأول ونصب الثاني منونًا، ولا (لا حولًا ولا قوة) بنصب الأول وتنوينه إلا إن اضطر شاعر فنون، / نحو قوله:
متى ما تزرنا تلقنا لا محالةً بقرقرةٍ ملساء ليست بقردد
وقوله وإن سقطت (لا) الثانية فُتح الأول، ورُفع الثاني أو نُصب رفع الثاني على الموضع، ونصبه على اللفظ، ومنه قوله:
فلا أب وابنًا مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
وقوله وربما فُتح منويًا معه (لا) حكى أبو الحسن أن من العرب من يُسقط التنوين من المعطوف، فيقول: لا رجل وامرأة، وذلك على نية (لا)، وكأنه قال: ولا امرأة، فحذف (لا) لدلالة ما قبلها عليها، وأبقى الحكم على ما كان عليه، كما حذفوا في: ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمةً، حذفوا (كلا) لدلالة ما قبلها عليه، وأبقوا أثرها، وهو الخفض، وعلى هذا حمل أبو الحسن ما حكاه، وهي لغة ضعيفة. ولم يجز أن يجعل ذلك من باب التركيب كخمسة عشر، كما ركبوا في الصفة، لحجز حرف العطف بينهما، ولم يجز أن يُجعلا مع حرف العطف بمنزلة اسم واحد لأنه لا يوجد في الأسماء المركبة ما هو مركب من ثلاثة ألفاظ.
وقوله وتنصب صفة اسم (لا) أو تُرفع مطلقًا مثال النصب: لا رجل ظريفًا عندك، ولا رجل ضارب زيدٍ في الدار، ولا رجل ضاربًا زيدًا في الدار. وهذا الوجه أكثر في الكلام وأحسن قياسًا على سائر المبنيات التي هي في موضع نصب بالعوامل الداخلة عليها؛ ألا ترى أن رجلًا من قولك (لا رجل) مبنيٌ في موضع نصب بـ (لا)، كما أن (هذه) من قولك (رأيت هذه) مبنية في موضع نصب بـ (رأيت)، فكما تقول: رأيت هذه العاقلة، فتنصب الصفة، فكذلك تقول: لا رجل عاقلًا لك، فتنصب الصفة.
ومثال الرفع: لا رجل ظريفٌ عندك، ولا رجل ضارب زيدٍ، ولا رجل ضاربٌ زيدًا، فتجري الصفة على الموصوف في موضعه لأن موضع (لا) مع (رجل) رفع لأنه مبتدأ، فتجريه على الموضع.
ويعني بقوله (مطلقًا) أي: لتركيب وعدمه، وفي اتصال الصفة وانفصالها، وفي كونها مفردة أو مضافة أو مُطولة.
ووقع لبعض أصحابنا وهم، وهو أن اسم (لا) إذا كان معربًا فلا يُتبع إلا على لفظه. وهو شبيه بما ذهب إليه ابن برهان، وسيأتي مذهبه. ووهم آخر، وهو أن النعت إذا كان مضافًا أو مطولًا فلا يجوز الإتباع فيه/ إلا على لفظ اسم (لا)، نحو: لا رجل صاحب دابةٍ في الدار، ولا رجل خيرًا من زيدٍ.
وفي (البسيط) ما ملخصه: الظاهر أن اسم (لا) لا موضع له من الإعراب لفقدان الطالب؛ فكل ما دخل على الجملة الابتدائية للعمل أبطل معنى الابتداء، فارتفع حكمه، فلا موضع، إلا أن النحويين قالوا: إن زيدًا قائمٌ وعمروٌ، عطف على موضع (إن)؛ لأن هذا العامل ضعيف لم ينسخ معنى الابتداء، فكأنه لم يرتفع، بخلاف ليت ولعل وكأن، وفي حكم (إن)(لا) لأنها عامل ضعيف، لا يقال إنها تُغير معنى الابتداء لضعفها، فلا يكون لها موضع؛ لأنا نقول: النفي لا يُغير معنى الخبر إذ هو والإيجاب نوعان للخبر، بخلاف التمني والتشبيه، وإذا كان لها موضع فهو رفع، وهو على وجهين: إما (لا) وما بعدها في موضع مبتدأ، كما في (بحسبك)، وهو ظاهر كلام س. وإما أن يكون ما بعدها، أي: ما (لا) في موضع مبتدأ بمنزلة (إن زيدًا)، ولما كانت عاملةً النصب، ومنع
من ظهوره البناء، صارت عاملة في المحل بمنزلة: إن هذا قائمٌ، فصار لها محل، ولأن هذا الاسم صارت حركة بنائه بمنزلة حركة الإعراب، فصار له لفظ، كما في باب النداء في: يا زيد العاقل. فحصل من هذا أن الرفع له وجهان، والنصب وجهان.
وقوله وقد تُجعل مع الموصوف كـ (خمسة عشر) إن أفردا واتصلا مثاله: لا رجل ظريف، جعل المنفي ونعته بمنزلة اسم واحد، كما جعل المنادى ونعته في قولك (يا زيد بن عمرو) بمنزلة اسم واحد؛ لأن باب النفي بـ (لا) شبيه بباب النداء من جهة أن علامة البناء في البابين شبه الإعراب لاطرادها.
وسهل ذلك في هذا الباب كون بناء الاسم مع الاسم أكثر في كلام العرب من بناء الاسم مع الحرف؛ لأن تركيب الاسم مع الاسم قد جاء في هذا الباب وفي غيره كثيرًا، وتركيب الحرف مع الاسم إنما جاء في هذا الباب، ولم يجيء في غيره إلا قليلًا، ومنه:
أثور ما أصيدكم أم ثورين
فجعل (ما) مع (ثور) بمنزلة اسم واحد، ولذلك حذف التنوين، وتركيب الصفة مع الموصوف دون (لا)؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء كشيء واحد، ولا يكون هذا التركيب بدون (لا) مع الوصف.
وعلة البناء كون الوصف من تمام اسم (لا)، واسم (لا) وجب له البناء لتضمنه معنى الاستغراق، وهذا من تمامه، فصارا كأنهما تضمنا معنى (من)؛ ألا ترى/ أن غير المبني إذا كان مفتقرًا إلى مبني ليُتمه
اكتسب منه البناء، كظروف الزمان إذا أُضيف إلى الظروف المبنية.
وقد يقال: لا يبعد أن يُحمل على لفظه في الإعراب لأنه أشبه حركة الإعراب، ولا يلزم من الحمل عليه أن يُبنى المحمول؛ لأنك لما جعلت الأول في حكم الإعراب ارتفع البناء حكمًا.
وقد قيل: يجوز أن يُتبع بحذف التنوين، وتكون الفتحة إعرابًا، وحذف التنوين للمُشاكلة. فعلى هذا يكون محمولًا على محله وعلى لفظه.
وفي (الغرة): "ويجوز أن تبني الصفة مع الموصوف، وتفك (لا) من البناء، فتقول: لا رجل ظريف. وإنما فككتها منه لئلا تجعل ثلاثة أشياء شيئًا واحدًا.
ورأيت كلام الفارسي يدل على أن ثلاثة أشياء قد جُعلت شيئًا واحدًا، ذكره في كتاب (الإغفال)، قال: لأن فتحة فاء ظريف فتحة تركيب نائبة عن فتحة البناء مع (لا) النائبة مناب نصبه، وإنما فعلوا ذلك لشدة اتصال الصفة بالموصوف" انتهى.
وشرط الإفراد في الموصوف وفي الصفة، فلو كان الموصوف مضافًا أو مُشبهًا بالمضاف فلا بناء. وشرط أيضًا الاتصال، فلو فُصل بينهما بشيء فلا بناء. وإنما لم يجز البناء مع المُطول والمضاف لأن العرب لم تُركب واحدًا منهما مع اسم آخر في موضع من المواضع لطولهما. ولم يجز البناء مع الفصل لحجز الفاصل بينهما. ولو قلت (لا رجل ظريفًا عاقلًا في الدار) لم يُبن (عاقلًا) مع (رجل) لحجز الوصف الأول بينهما، ولم تُركب الصفتان مع (رجل) لأن العرب لا تركب ثلاثة ألفاظ وتجعلها بمنزلة لفظ واحد في موضع من المواضع.
وقوله وليس رفعها مقصورًا على تركيب الموصوف أي: ليس رفع الصفة مقصورًا على تركيب الموصوف مع (لا)، بل يجوز الرفع سواء أكان الاسم مُركبًا مع (لا) أم مضافًا أو مُطولاً، فتقول: لا مثل زيدٍ ظريفٌ عندنا، ولا ضاربًا زيدًا ظريفٌ عندنا، كما تقول: لا رجل ظريفٌ عندنا.
وقوله ولا دليلًا على إلغاء (لا) بل يكون الرفع مع الإلغاء ومع الإعمال كما مثلنا.
وقوله خلافًا لابن برهان في المسألتين قال المصنف في الشرح: زعم ابن برهان أن صفة اسم (لا) لا تُرفع إلا إذا كان الموصوف مُركبًا مع (لا)، فإن رفعها دليل على إلغاء (لا). وحمله على ذلك أن العامل في الصفة هو/ العامل في الموصوف، والاسم الموصوف لا يعمل الابتداء فيه، فلا عامل له في صفته. والاسم المبني على الفتح إن نصبت صفته دل ذلك عنده على الإعمال، وإذا رفعت دل ذلك عنده على الإلغاء.
وما ذهب إليه غير صحيح لأن إعمال (لا) المشار إليها عند استكمال شروطها ثابت بإجماع العرب، فالحكم عليها بالإلغاء دون نقصان الشروط حكمٌ بما لا نظير له.
وقوله "لا عمل للابتداء في الاسم المنصوب" غير مُسلم، بل له عمل ي موضعه، كما له بإجماع عملٌ في موضع المجرور بـ (من) في نحو: هل من رجلٍ في الدار؟ فصح ما قلناه، وبطل ما ادعاه" انتهى كلام المصنف.
وقوله وللبدل الصالح لعمل (لا) النصب والرفع مثال ذلك: لا أحد
فيها رجلٌ ولا امرأةٌ، بالرفع والنصب، وسواء أكان البدل مفردًا أم مضافًا أم مُطولًا، نحو: لا أحد فيها صاحب دابةٍ، بنصب (صاحب) ورفعه، ولا أحد فيها خيرًا من زيدٍ، بنصب (خير) ورفعه. ولا يجوز أن يُجعل المبدل منه والبدل بمنزلة اسم مركب، كما جاز ذلك في النعت؛ لأنه على نية تكرار العامل، فبينهما حاجز مقدر.
وقوله فإن لم يصلح لعملها تعين رفعه مثاله: لا أحد فيها زيدٌ ولا عمروٌ، فلا يجوز في زيد ولا عمرو إلا الرفع حملًا على الموضع، ومنه {لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} .
وقوله وكذا المعطوف نسقًا مثاله: لا غلام فيها ولا زيدٌ، لا يجوز في (زيد) إلا الرفع عطفًا على الموضع؛ لأن المعارف لا تعمل فيها (لا) الناصبة، وهذا بناء على أن المعطوف يحل محل المعطوف عليه. ومن لم يقل ذلك، وقال (كل شاةٍ وسخلتها بدرهمٍ)، قال: لا غلام ولا العباس، ولا رجل عندنا ولا أخاه. انتهى من البسيط.
وقال س ما معناه: إنك إذا قلت: لا غلام، ثم جئت باسم علم أو مُعرف فلا سبيل إلا أن تحمله على الموضع؛ لأن (لا غلام) في موضع اسم مبتدأ، فيعمل في المعطوف الابتداء، ولو كانت (لا) بمنزلة (ليس) لم يجز الحمل أصلًا لأنه لا موضع ثم، فإنما كان يكون محمولًا على لفظ الاسم، فتكون (لا) عاملة، ولا تعمل في معرفة أصلًا، فلهذا يمتنع الا يُحمل على الموضع. ومن قال (كل شاةٍ وسخلتها) فحمل على محل المعرفة، وهي لا تدخل عليه، قال هنا: لا غلام لك ولا أخاه. وسوغ له التشريك أن دخل الثاني ما دخل الأول.
وقوله وإن كرر اسم (لا) المفرد دون/ فصل فتح الثاني أو نُصب قال المصنف في الشرح: "إذا كرر اسم (لا) المركب معها دون فصلٍ جازن تركيب الأول والثاني كما يُركب الموصوف والصفة، وجاز فيه النصب، وذلك كقولك: لا ماء ماء باردًا لنا، ولا ماء ماءً باردًا لنا" انتهى.
ولم يبين المصنف إعراب هذا الاسم الثاني. وإنما قال "المفرد" احترازًا من المضاف والمُطول. وقال "دون فصل" لأنه إذا فُصل امتنع التركيب. وذكر وجهين: أحدهما البناء، والثاني نصب الثاني، وترك وجهًا ثالثًا، وهو الرفع، فتقول: لا ماء ماءٌ باردٌ.
وتكرير النكرة هنا جرى مجرى النعت، وتكررت توطئة للنعت، كما جاءت توطئة للحال في قوله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا}. وجعل س تكرير الاسم بمنزلة الموصوف في: لا ماء ماءً باردًا، قال س:"ولابد من تنوين بارد لأنه وصفٌ ثانٍ". وقال ابن طاهر: "أراد به تأكيدًا - يريد التأكيد اللفظي - والصحيح أنه يوصف بالاسم إذا وُصف، نحو: مررت برجلٍ رجلٍ عاقلٍ".
وإنما تجوز هذه الأوجه الثلاثة إذا قُدرت هذه النكرة توطئة للنعت، فإن قُدرت بدلًا من النكرة قبلها لم يجز البناء وجعلهما كاسمٍ واحد؛ لأن البدل على نية تكرار العامل، فيمنع ذلك العامل المقدر من بنائها وجعلها كاسم واحد.
ص: ولـ (لا) مقرونةً بهمزة الاستفهام في غير تمنً وعرضٍ ما لها مجردةً، ولها في التمني من لزوم العمل، ومنع الإلغاء، واعتبار الابتداء، ما لـ (ليت)، خلافًا للمازني والمبرد في جعلها كالمجردة.
ويجوز إلحاق (لا) العاملة بـ (ليس) فيما لا تمني فيه من جمع مواضعها إن لم تُقصد الدلالة بعملها على نصوصية العموم.
ش: إذا دخلت همزة الاستفهام على (لا) كانت على معانٍ:
أحدها: أن يراد صريح الاستفهام عن النفي المحض دون تقرير ولا إنكار ولا توبيخ، خلافًا للأستاذ أبي علي إذا زعم أنها لا تقع لمجرد الاستفهام المحض عن النفي دون إنكار وتوبيخ. ورد على أبي موسى الجزولي إجازة ذلك.
والصحيح وجود ذلك في كلام العرب، ولكنه قليل، ومنه قول العرب: أفلا قُماص بالعير، وقول الشاعر:
ألا اصطبار لسلمى أم لها جلدٌ إذا ألاقي الذي لاقاه أمثالي
/ وظاهر كلام س أنه لا يشترط ما زعمه الأستاذ أبو علي.
الثاني: أن يكون الاستفهام على طريق التقرير والإنكار والتوبيخ، نحو قول الشاعر، وهو حسان:
ألا طعان، ألا فُرسان عاديةً إلا تجشؤكم عند التنانير
وقول الآخر:
ألا ارعواء لمن ولت شبيبته وآذنت بمشيبٍ، بعده هرم
وحكم (لا) في هذين المعنيين حكمها لو لم تدخل عليها الهمزة من جواز إلغائها، وإعمالها إعمال (إن)، وإعمال (ليس)، بجميع أحكامها في ذلك كله.
وفي (البسيط): وقال أبو العباس: علل س البناء بكونه جوابًا لسؤال عام، فيلزم أن يكون هذا جوابًا لسؤال آخر متضمنًا لـ (من)، والسؤال لا يكون جوابًا عن سؤال.
وهذا لا يلزم، فإن البناء قد وجب للكلمة قبل دخول الهمزة بالعلة المتقدمة، ولم تُغيره الهمزة، بل دخلت لمعنى زائد، وهو تقدير هذا الجواب، أو على سؤال عنه، كقوله:
ألا طعان .............. البيت.
وقد تدخل الفاء بينها، نحو: أفال قُماص بالعير، يُضرب مثلًا للعاجز الذي لا حراك به، فكذلك تدخل على (لا) غير العاملة، نحو: ألا رجلٌ في الدار.
الثالث: أن تصير الكلمة بمجموعها للتخصيص، وعبر المصنف عن هذا المعنى بالعرض. فهذه إن جاء بعدها حُمل على إضمار فعل، وإن كان الاسم مما يُنون نون، وعلى هذا حمل الخليل قول الشاعر:
ألا رجلًا، جزاه الله خيرًا يدل على محصلةٍ تبيت
زعم أنه ليس على التمني، ولكنه بمنزلة قول الرجل: فهلا خيرًا من ذلك، كأنه قال: ألا تُرونني رجلًا جزاه الله خيرًا. وزعم يونس والأخفش أنه نون مضطرًا.
وظاهر كلام النحويين أن (ألا) التي للتخصيص مركبة من همزة الاستفهام و (لا) التي للنفي، ودخلها معنى التخضيض.
والذي أذهب إليه أنها بسيطة، وُضعت لمعنى التخضيض، كما هي بسيطة إذا كانت للتنبيه والاستفتاح، وليست مركبة.
الرابع: أن يدخلها معنى التمني: فمذهب س والخليل والجرمي أنها لا تعمل إلا عمل (إن) في الاسم خاصة، فيبنى الاسم معها إن كان مفردًا، ويُعرب إن كان مضافًا أو مطولًا، ولا يكون لها/ خبر لا في اللفظ ولا في التقدير، ولا يُتبع اسمها إلا على اللفظ خاصة دون الموضع، ولا تُلغى بحال، ولا تعمل عمل (ليس)، تقول: ألا غلام لي، وألا ماء باردً، وألا ماء بارد، وألا أبا لي، وألا غُلامي لي، وألا غلامين لي أو جاريتين، وألا ماء أو لبنًا، وألا ماء وعسلًا باردًا حلوًا، هذه مثل س في كتابه. وقال س:"ومن قال لا غلام أفضل منك لم يقل في ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب؛ لأنه دخل فيه معنى التمني، وصار مُستغنيًا عن الخبر" انتهى.
وقوله ولها في التمني من لزوم العمل يعني عمل (إن) لا عمل (ليس).
وقوله ومنع الإلغاء يعني أنها لا تُلغى البتة. ولا يحتاج لقوله (ومنع الإلغاء) لأن قوله (لزوم العمل) يدل على منع الإلغاء؛ لأنه إذا لزم أن تعمل عمل (إن) لم يكن إلغاء.
وقوله واعتبار الابتداء هو معطوف على قوله (الإلغاء)، أي: ومنع اعتبار الابتداء، وليس معطوفًا على (منع) لئلا يلزم من ذلك أنه يعتبر الابتداء معها. ومذهب س أنه لا يُعتبر الابتداء معها في التمني، ما لا يُعتبر في (ليت).
وقوله خلافًا للمازني والمبرد في جعلها كالمجردة يعني من الهمزة، فتكون وهي للتمني كهي لمحض النفي، فيكون لها خبر في اللفظ أو في التقدير، ويُتبع اسمها على اللفظ وعلى الموضع، ويجوز أن تعمل عمل (ليس) وأن تُلغى، فتكون أحكامها مرادًا بها التمني كأحكامها وهي تكون للنفي. قال المازني:"اللفظ يكون على ما كان عليه وإن دخله خلاف المعنى، كباب: غفر الله لزيدٍ، وحسبك، رفع بالابتداء، والمعنى معنى النهي".
قال الأستاذ أبو الحسن: "وهذا - يعني مذهب المازني - باطل سماعًا وقياسًا:
أما السماع فلم يُسمع من العرب (ألا رجل أفضل من زيدٍ) برفع (أفضل)، فلو كان لها خبر لسُمع ولو في بعض المواضع، ولو كان للاسم بعدها موضع لرُفعت صفته في بعض المواضع.
وأما القياس فإن الهمزة لا تخلو من أن تُقدرها داخلة على (لا) وحدها أو على الجملة، فإن قدرتها داخلة على الجملة لم يجز ذلك لأنا لم نجد جُملة يدخلها بجملتها معنى التمني، وقد وجدنا من الحروف ما له معنًى، فإذا رُكب كان له معنًى خلاف الذي كان له قبل التركيب، نحو (هلا) و (لولا). وإن قدرتها داخلة على (لا) وحدها، وحدث فيها معنى التمني، لم تحتج إلى خبر لأن المراد التمني نفسه. وإن كانت نافية/ لم يكن بُدٌ من خبر؛ لأن المنفي في المعنى إنما هو الخبر، ولا يُتصور نفي (الرجل). فثبت إذًا ما ذهب إليه س" انتهى رده على المازني.
والفرق بين المذهبين من حيث المعنى أن في مذهب س يكون التمني واقعًا على الاسم، وفي مذهب المازني على الخبر، والمازني جعل (ألا) في التمني بمنزلة (ليت)، فتعمل عملها، فلها خبر مرفوع، وبمنزلة (إن) لفظًا، فيُتبع اسمها على اللفظ وعلى الموضع.
ومثال ورودها في التمني قول الشاعر:
ألا عمر ولي مستطاعٌ رجوعه فيرأب ما أثاث يد الغفلات
فنصب (يرأب) لأنه جواب تمن مقرون بالفاء
فإن قلت: قد زعمت أن الاسم مع (ألا) التي للتمني لا يجوز أن يُحمل النعت فيه إلا على اللفظ، وظاهر هذا البيت أنه حُمل على الموضع؛ ألا ترى إلى قوله (مُستطاعٌ رُجوعه) كيف رفع مستطاعًا، ولو كان حملًا على اللفظ لنصب، فقال: مُستطاعًا رجوعه.
فالجواب: أن قوله (مُستطاعٌ رجوعه) جملة من مبتدأ وخبر، قدم فيها الخبر على المبتدأ، والجملة بأسرها في موضع نصب على الصفة و (ألا) التي للتمني مركبة من الهمزة ومن (لا) التي للنفي، واستُعملت في معنى التمني لأن التمني مفقود، كما أن النفي كذلك.
وإنما ادعينا التركيب في هذا لأن بعض أحكام (لا) وُجدت في (ألا) على رأي س، وجميع أحكامها على رأي المازني، فقد اتفقت (ألا) و (لا) من حيث المعنى ومن حيث الحكم، بخلاف (ألا) التي للتخضيض؛ لأنها وإن وافقت (لا) من حيث إن المحضوض عليه مفقود لم توافق من حيث الحكم، ألا ترى أنه لا عمل لها، وأن مُتعلق التحضيض الفعل لا الاسم، والنفي والتمني متعلقهما في اللفظ الاسم.
وفي (البسيط): فإن قيل: كيف يصح معنى التمني مع البناء، والبناء يكون للجواب العام، والتمني إنشاء وابتداء، فيلزم أن يكون الابتداء لا ابتداء، ويعرب مع التمني، وأنت تقول: ألا ماء باردًا، على البناء؟
فالجواب: أن البناء هنا ليس هو لأجل التضمن للاستغراق، بل من أجل الحمل بالشبه على التضمن، كما حُملت (حذام) على (نزال)، فلما كان معنى التمني معنى داخلًا في الاستفهام لا تغيير معه، كان هذا كذلك، وأيضًا فمعناه من الاستغراق باقٍ، فإنه/ يتمنى أي رجل كان.
وقوله ويجوز إلحاق (لا) العاملة بـ (ليس) إلى آخره. قال المصنف في الشرح: "ويجوز إجراء (لا) مُجرى (ليس) فيما لا يُقصد به تمن من مواضع إعمالها إن لم يُقصد التنصيص على العموم بلفظ ما وليها، فعند ذلك لا يجوز إجراؤها مُجرى (ليس)، لأنها إذا جرت مجرى (ليس) جاز أن يكون العموم مقصودًا وغير مقصود" انتهى كلامه.
وإذا عملت عمل (ليس) فمذهب أكثر النحويين أن خبرها لا يكون إلا منصوبًا كخبر (ليس). وذهب الزجاج إلى أنها تعمل في الاسم الرفع، ولا تعمل في الخبر شيئًا، كما لا تعمل الناصبة فيه شيئًا، بل النكرة مع (لا) العاملة فيها الرفع في موضع رفع على الابتداء، والاسم المرفوع بعدها خبر للمبتدأ، وزعم أن ذلك مذهب س، وقد نص على ذلك في شرحه مستغلق كتاب س.
قال ابن عصفور: "والصحيح عندي أنها لا تعمل في الخبر شيئًا؛ لأن (لا) تنزلت من النكرة التي رفعتها منزلة (من) منها في الاستفهام، كما تنزلت (لا) الناصبة منها منزلتها، ولذلك لم يجز الفصل بين (لا) وما عملت فيه رافعةً كانت أو ناصبة، كما لا يجوز الفصل بين (ما) وما عملت فيه، فكما أن (قائمًا) من قولك (هل من رجلٍ قائمٌ) خبر للاسم المجرور بـ (من) لأن موضعه مع (من) رفع بالابتداء، فكذلك يكون (قائم) من قولك (لا رجل قائمٌ) خبرًا للاسم الذي عملت فيه؛ لأنه مع (لا) في موضع رفع على الابتداء" انتهى كلامه.
وهذا الذي استدل به أبو الحسن بن عصفور ليس بصحيح؛ لأن (لا) لم تتنزل من النكرة التي رفعتها منزلة (من)، كالناصبة؛ إذ لو كانت كذلك لم يُجيزوا (لا رجلٌ في الدار بل رجلان)، ولسووا بين هذا وبين (لا رجل في الدار) بجامع ما اشتركا فيه من أن (لا) إذا عملت عمل (إن) أو عمل (ليس) كانت جوابًا لقولك: هل من رجلٍ في الدار؟ فكانت تكون في حاليها وُضعت للنص على العموم لأنها جواب نص على العموم، فكون النحويين فرقوا بينهما، فجعلوا العاملة علم (إن) نصًا في العموم، والعاملة عمل (ليس) محتملة للعموم، دليل على اختلاف الأحكام.
ومما يشهد بصحة مذهب الجمهور وبطلان مذهب الزجاج واختيار/
ابن عصفور أن السماع ورد بنصب خبر (لا) العاملة عمل (ليس)، نحو قوله:
تعز، فلا شيءٌ على الأرض باقيا ولا وزرٌ مما قضى الله واقيا
وقد أنشدنا غير ذلك في (باب ما) مما يوقف عليه هناك. وإنما كررنا هذه المسألة لأن فيها مزيد فائدة، والله أعلم.
تم بحمد الله - تعالى - وتوفيقه
الجزء الخامس من كتاب "التذييل والتكميل"
بتقسيم محققه، ويليه - إن شاء الله تعالى -
الجزء السادس، وأوله:
"باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر"