المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ٧

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه

-[ص:‌

‌ باب المفعول المسمى ظرفاً ومفعولاً فيه

وهو ما ضمن من اسم وقت أو مكان معنى «في» باطراد لواقع فيه مذكور أو مقدر ناصب له. ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح، فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير «من» فمتصرف، وإلا فغير متصرف، وكلاهما منصرف وغير منصرف.]-

ش: ما ضمن جنس يشمل الحال، والظرف، والسهل والجبل من قول العرب: مطرنا السهل والجبل.

وقوله من اسم وقت أو مكان خرج بذلك الحال، كذا قال المصنف في الشرح؛ لأن الحال ليست مضمنة معنى في، إنما هي على معنى: في حال كذا، فإذا قلت جاء زيد راكباً فراكباً لم يتضمن معنى في.

/وقوله معنى في باطراد خرج بذلك السهل والجبل من قولهم: مطرنا السهل والجبل، فإنه لا يقاس على ذلك لا في الفعل ولا في الأماكن، فلا تقول: أخصبنا السهل والجبل، ولا: مطرنا القيعان والتلول، بل يقتصر على مورد السماع، ولا يزاد عليه إلا إن عضد بسماع ممن يوثق به، وذلك بخلاف ما ينتصب على الظرفية، فإنه يجوز أن يخلف الفعل والاسم غيرهما، تقول: جلست خلفك، فيجوز: قعدت خلفك، ويجوز: جلست أمامك.

ص: 248

قال المصنف في الشرح: «ويتناول أيضاً قولي ضمن معنى في ما نصب بدخل من مكان مختص. وخرج بذكر الاطراد، فإن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا باستعمال دون استعمال، فلو كان نصب المكان المختص بدخل على الظرفية لم ينفرد به دخل، بل كان يقال: مكثت البيت، كما يقال: دخلت البيت، وكان يقال: زيد البيت، فينتصب بمقدر كما يفعل بما تحققت ظرفيته؛ لأن كل ما ينتصب على الظرفية بعامل ظاهر يجوز وقوعه خبراً، فينتصب بعامل مقدر، ولذا قال س بعد أن مثل بقلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت: «وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف؛ لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه- لم يجز» هذا نصه، وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين، فزعم أن نصب المكان المختص بدخل عند س على الظرفية، وهذا عجيب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبين بعضها ببعض» انتهى كلامه.

وقوله ضمن من اسم الوقت أو المكان معنى في المفهوم منه أن الاسم يدل بالوضع على الزمان أو المكان، ويدل على معنى في بالتضمن، فيكون نظير أسماء الشرط والاستفهام، فإنك إذا قلت من يقم أقم معه فقد دلت من على شخص عاقل بالوضع، ودلت على ارتباط جملة بجملة وتوقفها عليها بتضمنها معنى إن الشرطية، ويلزمه على هذا أن يكون الظرف مبنياً؛ لأنه تضمن معنى الحرف،

ص: 249

وليس كذلك، والنحويون يقولون إن الظرف على تقدير في، وإنما فر المصنف من قول النحويين- والله أعلم- لأنه لا يلزمه من ذكر التضمين أن يجمع بين المتضمن والمتضمن، ووجد بعض الظروف لا يتقدر عنده، نحو عندك، فوقع في التضمين الذي يلزم منه بناء الظرف، ولا يلزم من قول النحاة إن الظرف يقدر بفي أنه يجوز دخول في عليه وأنه يتلفظ به، وكم من مقدر لا يلفظ به، نحو الفاعل في اضرب، فإنه مقدر، ونحو الفعل الناصب للمنادى في نحو: يا عبد الله، فإنه مقدر، وكلاهما لا يلفظ به. وقد ذكر المصنف في مكان آخر أن «المفعول فيه هو ما نصب من اسم زمان أو مكان مقارناً معنى في دون لفظها» ، وزعم أن ذكر المقارنة أعم من ذكر تقدير /في؛ لأن من الظروف ما لا تدخل عليه في، كعند ومع، وهما مقارنان لمعناها ما داما ظرفين. وهذا كله بناء منه على أنه يلزم من تقدير في أن تدخل عليه لفظاً، وقد بينا أن ذلك لا يلزم. والذي يقطع ببطلان التضمن أنه لو كان كما زعم ما جاز الجمع بين في والظرف؛ لأنه يلزم منه الجمع بين المتضمن والمتضمن، وذلك لا يجوز؛ ألا ترى أن من الشرطية أو الاستفهامية لا يجمع بينهما وبين أداة الشرط ولا أداة الاستفهام، وهذان يجوز الجمع بينهما، تقول: جئتك يوم الخميس، وفي يوم الخميس، وجلست مجلس زيد، وفي مجلس زيد، لا خلاف في ذلك، فدل على بطلان التضمن.

وقوله في الشرح: إن المكان المختص منصوب بدخلت نصب المفعول به لا نصب الظرف. ونقول: المذاهب في ذلك ثلاثة:

ص: 250

الأول: مذهب س والمحققين أنه منصوب على الظرف تشبيهاً للمكان المختص بالمكان غير المختص.

الثاني: مذهب أبي علي الفارسي ومن ذهب مذهبه أنها متعدية في الأصل بحرف الجر- وهو في- إلا أنه حذف حرف الجر اتساعاً، فانتصب على المفعول به.

الثالث: مذهب الأخفش وجماعة أنه مما تعدى تارة بنفسه وتارة بحرف الجر. وحجته أنك تقول: دخلت البيت، ودخلت في البيت، ودخلت في أمر فلان، ودخلت أمر فلان، وكثرة ذلك فيها تقضي بكون ذلك فيها أصلين إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك. وأيضاً لو كان دخل زيد الدار على تقدير إسقاط الحرف لوجب أن يكون أدخلت زيداً الدار على تقدير إسقاطه، وما حكمه كذلك لا يجوز أن يقام مقام الفاعل مع وجود ما ليس كذلك؛ ألا ترى أنه لا يجوز: اختير الرجال زيداً، بل: اختير زيد الرجال، ويجوز: أدخل الدار زيداً، وأدخل فوه الحجر، فدل على أنهما مفعولان صريحان، ليس الثاني منصوباً على إسقاط الحرف.

والجواب عن هذا أن قولهم: أدخل فوه الحجر لا حجة فيه؛ لأنه إنما جاز بعد القلب، والتقدير: أدخل فوه [في] الحجر، وقد ثبت استعمال القلب في أدخل في فصيح الكلام، حكى س عنهم أنهم يقولون: أدخلت القلنسوة في رأسي.

ص: 251

وحجة من ذهب إلى أنه حذف اتساعاً أو تشبيهاً للمختص بالمبهم أن دخلت في معنى غرت، وغرت يتعدى بفي، فوجب أن يعتقد ذلك في دخلت.

وأيضاً فإنهم نقلوه بالهمزة والباء، نحو أدخلته، ودخلت به، وما كان يتعدى تارة بنفسه وتارة بحرف جر كنصح لم يجز نقله، فأما قولهم أجاءه مع أنهم قالوا جئته وجئت إليه فإنما ساغ من جهة أن جاء لازمة،

وأن الأصل في جئته جئت إليه.

وأيضاً فتعديها بفي أعم من تعديها بنفسها؛ إذ تعديها بفي يكون في الأماكن وغيرها، وتعديها للمعاني لا يكون إلا بفي، / فدل على أن تعديها بفي هو الأصل، وذلك أن الدخول حقيقة لا يتصور إلا فيما له جوف كالدار والمسجد، وأما المعاني فالدخول فيها مجاز، وحذف حرف الجر مجاز، فكرهوا المجاز في المجاز.

وأيضاً فنقيضها خرج، وخرج لازم، فينبغي أن تكون هي لازمة؛ لأن الشيء يجري مجرى ما يناقضه؛ ألا ترى إلى جوعان وعطشان حملا على نقيضهما شبعان وريان، وقام وابيض لازمان، وقعد واسود كذلك، وجهل ومدح يتعديان، وعلم وذم كذلك.

وأيضاً مصدره الفعول، وفعول في الغالب للازم، وشكور قليل، فينبغي أن يحمل على الكثير.

وأيضاً فجعل دخل مما يكون يتعدى إلى سائر معمولاته على السواء أولى من الاختلاف في التعدي؛ لكونها في الأماكن من قبيل ما تعدى تارة بنفسه وتارة

ص: 252

بحرف الجر؛ وفي المعاني من قبيل ما تعدى بحرف جر، فيكون مرة من باب مررت بالنظر إلى بعض المعمولات، و [مرة] من باب نصحت بالنظر إلى بعضها، ومثل ذلك قليل جداً، لم يجئ منه إلا بعث عند أكثر اللغويين، قالوا: يتعدى بنفسه إذا دخل على ما يصل بنفسه، وبالباء إذا دخل على ما لا يصل بنفسه، تقول: بعثت زيداً، وبعثت بالكتاب، ولا تقول: بعثت بزيد، ولا: بعثت الكتاب؛ لأن زيداً يصل بنفسه، والكتاب لا يصل بنفسه، ولذلك لحن أبو الطيب في قوله:

فآجرك الإله على عليل

بعثت إلى المسيح به طبيبا

واعتذر عن أبي الطيب بأن العليل صار من الضعف بحيث لا يقدر أن يصل بنفسه.

وظاهر كلام المصنف أن دخل ينصب المكان بعدها انتصاب المفعول به، وليس أصله أن يتعدى بفي، واتسع فيه كما يقول الفارسي، ولا أن أصله أن يتعدى تارة بفي، وتارة بنفسه، كما يقوله الأخفش فيما نقلناه عنه.

وقد نقل عن الأخفش والجرمي أن قوله دخلت البيت مثل هدمت البيت، يعني أنه انتصب نصب المفعول به الصريح.

وقد فصل السهيلي في دخل تفصيلاً لم أر أحداً ذكره غيره، وهو أنه إن اتسع المدخول فيه حتى يكون كالبلد العظيم كان النصب لا بد منه؛ كقولك: دخلت العراق، ويقبح أن تقول: دخلت في العراق، وإن كان كالبئر والحلقة كان النصب بعيداً جداً؛ لأن الدخول قد صار ولوجاً وتقحماً، نحو: دخلت في البئر،

ص: 253

وأدخلت إصبعي في الحلقة، والإبرة في الثوب، وقال: فقس عليه. وسكت عن المتوسط. وقياس تفصيله يقتضي أنه يجوز فيه الوجهان: التعدي بنفسه، والوصول بوساطة في.

وأما ما استدل به المصنف من أن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا /باستعمال دون استعمال إلى آخره- فكلام صحيح، إلا أن قولهم إن دخل تتعدى إلى كل مكان مختص بنفسها دون وساطة «في» لا ينقض هذا؛ لأن ذلك عندهم جاء على سبيل الشذوذ، والاطراد ما ذكر.

وأما قوله «ولذا قال س بعد أن مثل بقلب زيد الظهر والبطن، ودخلت البيت: وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف؛ لأنك لو قلت: هو ظهره وبطنه، وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه لم يجز. هذا نصه» - فلا حجة له في ذلك على أنه ينتصب البيت بعد دخلت نصب المفعول به؛ لأن انتصاب الظهر والبطن ليس على تقدير في، إنما هو على تقدير على، والأصل قلب زيد على ظهره وبطنه، ولذلك قال في امتناع أن ينتصب على الظرف:«إنك لو قلت: هو ظهره وبطنه- وأنت تريد شيئاً على ظهره وبطنه- لم يجز» ، فجعل المحذوف على، ولم يجعل المحذوف في؛ لأن حذف على ووصول الفعل إلى الاسم المجرور بها فينصبه لا يكون نصبه على الظرف، إنما هو مثل: مررت زيداً، ولا ينقاس ذلك، ولم يمثل س بدخلت، وإنما معنى قوله «وليس المنتصب هنا» أي: في مسألة: قلب زيد الظهر والبطن، ولذلك مثل بقوله: هو ظهره وبطنه، وقد نص س على خلاف ما ادعاه المصنف عليه من أنه ينتصب بعد دخلت انتصاب الظرف، قال س بعد أن ذكر تعدي الفعل إلى اسم المكان وإلى ما اشتق من لفظه اسماً للمكان، ومثل بقوله: ذهبت المذهب البعيد، وجلست مجلساً، وقعدت المكان الذي رأيت، وذهبت وجهاً من الوجوه، قال:

ص: 254

«وقال بعضهم: ذهبت الشام، فشبهه بالمبهم إذ كان مكاناً، وكان يقع عليه المكان والمذهب، وهذا شاذ، ليس في ذهب دليل على الشام، وفيه دليل على المذهب والمكان. ومثل ذهبت الشام: دخلت البيت» انتهى. فهذا نص على أن انتصاب البيت بعد دخلت مثل انتصاب الشام بعد ذهبت، والشام ظرف مكان مختص، وقد نص س على الشذوذ في ذهبت الشام؛ إذ وصل ذهبت إلى ظرف مختص، وليس مما اشتق من لفظه، ولا هو من لفظ المكان. ثم قال:«ومثل ذلك دخلت» ، أي: مثله في الشذوذ ووصول دخلت إلى البيت، وهو ليس فيه دلالة على البيت؛ إذ ليس البيت مشتقاً من لفظ دخل، ولا هو لفظ المكان.

وقوله «وقد غفل عن هذا الموضع الشلوبين» لم يغفل عنه الأستاذ أبو علي كما زعم المصنف، بل رأى أنه لا حجة فيه. وقد بينا أنه لا حجة فيه.

وقوله «وهذا عجيب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها ببعض» ، ليس هذا بعجيب، بل العجيب غفلة المصنف عن نص /س إن دخلت البيت مثل ذهبت الشام في الشذوذ.

وأما قوله «مع اعتنائه بجميع متفرقات الكتاب» فإن الاعتناء بذلك هو الذي لم يجعله يقول بقول المصنف، ويغتر بما لا دليل فيه، ويترك النص الذي لا يحتمل تأويلاً، وأين المصنف من رجل يقال إنه ختم عليه كتاب س بحثاً ونظراً نحواً من ستين مرة، وأقرأ النحو نحواً من ستين سنة، ورحل إليه الناس من أقطار الأرض، ولم يكن في عصره بل في أعصار قديمة قبل عصره مثله، رحمه الله.

ص: 255

وقوله لواقع فيه مذكور أو مقدر ناصب له يعني أن الناصب له هو واقع فيه، فإذا قلت قمت يوم الجمعة فالقيام واقع في يوم الجمعة، وإذا قلت قمت أمامك فالقيام واقع في الأمام، وهذا العامل مذكور. والعامل المقدر مثل: زيد أمامك، والقتال يوم الجمعة، فالعامل فيهما كائن أو مستقر، وهو مقدر، وليس ملفوظاً به.

وهذا التقسيم الذي قسمه المصنف في المفعول فيه أنه اسم وقت ومكان لا يصح إلا على مذهب البصريين؛ لأنهم يسمون المفعول فيه ظرفاً.

وأما الكوفيون فلا يسمونه ظرفاً لأمرين:

أحدهما: أن العرب لم تسم اسم المكان ولا اسم الزمان في موضع من كلامها بالظرف.

والآخر: أن الظرف في اللغة اسم الوعاء، قالوا: والأوعية متناهية الأقطار، محاط بنواحيها، نحو الجراب والعدل، واسم المكان الذي يسمونه ظرفاً ليس متناهي الأقطار، نحو: زيد خلفك، وأمامك؛ ألا ترى أنه إذا كان كذلك لم ينتصب على الظرف، تقول: زيد في داره، وزيد في الحمام، ولا تقول زيد داره، ولا: زيد الحمام.

ولا يلزم ما ذكروه؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح، مع أنه إنما يسمى ظرفاً على سبيل المجاز تشبيهاً بالظرف الحقيقي من جهة اشتماله على الفعل، كما سمي بالزمام الكتاب لضبط ما فيه كما تضبط الدابة بالزمام.

وسمى الفراء وأصحابه المفعول فيه محلاً. والكسائي ومن أخذ بقوله يسمون الظروف صفات. ولا مشاحة في الاصطلاح.

ص: 256

وقد ذكر أصحابنا ظرف الزمان، فقالوا: هو اسم الزمان، نحو سرت اليوم، أو عدده، نحو: سرت عشرين يوماً، أو ما قام مقامه مما حذف قبله اسم الزمان وكان مضافاً إليه قبل حذفه، نحو: سرت قدوم الحاج، أي: وقت قدوم الحاج، وخفوق النجم، أي: وقت خفوق النجم، ونحو: لا آتيك معزى الفزر، ولا آتيك القارظ العنزي، أي: زمن تفرق معزى الفزر، وزمن فقد القارظ العنزي، أو كان صفة له، نحو: مشى عليه طويلاً، أي: زماناً طويلاً، فيجوز ذلك في صفة الظرف وإن لم تكن خاصة به ولا من الصفات التي استعملت استعمال الأسماء؛ كما جاز ذلك في الصفة المنتصبة على الحال أو ما شبه به، نحو قولهم: أحقاً /أنك قائم، قال:

ألا أبلغ بني جشم رسولاً

أحقا أن أخطلكم هجاني

وقولهم: أالحق أنك قائم؟ قال عمر بن أبي ربيعة:

أالحق أن دار الرباب تباعدت

أو انبت حبل أن قلبك طائر

ص: 257

فأن في موضع مبتدأ، وحقاً والحق ظرف لأنه في تقدير في. ويدل على الابتداء أنهم إذا أبدلوا من أن أتوا بالمصدر بدل أن ورفعوه، قال:

أحقا عباد الله جرأة محلق

علي، وقد أعييت عاداً وتبعا

والدليل على أن حقا منصوب على تقدير «في» تصريحهم بها في بعض الأماكن، قال:

أفي حق مواساتي أخاكم

بمالي، ثم يظلمني السريس

وفي التصريح بـ «في» دليل على بطلان ما ذهب إليه أبو العباس في قولك:

أحقا أنك قائم، من أن قولك أنك قائم في موضع رفع على الفاعلية. والصحيح ما ذهب إليه س من أن انتصابه على الظرف، وما بعده مبتدأ، فحق ليس اسم زمان، ولا عدده، ولا قائم مقامه، وإنما هو مشبه به من جهة أنه اسم معنى، كما أن اسم الزمان اسم معنى، وأنه مشتمل على المحقق كاشتمال الزمان على ما وقع. ويدل على أنه سلك به مسلك الزمان وقوعه خبراً عن المصادر لا عن الجثث.

ومثل حقا أنك قائم قولهم: غير شك أنك قائم، وجهد رأيي أنك قائم، وظنا مني أنك قائم. وهذا النوع استعماله ظرفاً موقوف على السماع.

أو ما أضيف إليه بشرط أن يكون إياه في المعنى، نحو: سرت جميع اليوم، أو بعضه، نحو: سرت بعض اليوم.

وشرط أن يكون على تقدير في، واحترز بذلك من أن يكون مرفوعاً أو مخفوضاً أو منصوباً على غير تقدير في، فإنه لا يكون ظرفاً.

ص: 258

وذكروا أيضاً ظرف المكان، فقالوا: هو اسم المكان، نحو: خلفك وأمامك. أو عدده، نحو: عشرين ميلاً. أو ما قام مقامه: إما صفته، نحو: قعدت قريباً منك وأمامك، وإما ما كان الظرف مضافاً إليه، نحو: تركته بملاحس البقر أولادها، فملاحس مصدر بدليل نصب أولادها به، وهو هنا ظرف مكان، تقديره: مكان ملاحس. أو ما شبه به، نحو: زيد فوق عمرو في الشرف، ودون زيد في العلم، فليسا اسمي مكان، ولكنهما شبها بفوق ودون المكان. من ذلك ما حكاه الأخفش من قول العرب: هم هيئتهم، فنصب على أنه ظرف مكان على تقدير في، أي: هم في هيئتهم، والهيئة ليست مكاناً، لكنها شبيهة بالمكان لاشتمالها على ذي الهيئة كاشتمال المكان على ما يحل فيه. ويدل على أنها ظرف مكان وقوعها خبراً عن الجثث، وهذا النوع يحفظ، ولا يقاس عليه. وما أضيف إليه بشرط أن يكون إياه في المعنى نحو: سرت /جميع الميل، أو بعضه، [نحو]: سرت نصف الميل.

وشرط أن ينتصب على تقدير «في» احتراز من رفعه أو جره أو نصبه لا على تقدير في، فإنه لا يكون ظرفاً.

وقوله ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح أي: للظرفية صالح، فيتعدى إليه الفعل، وينصبه نصب الظرفية، والسبب في جواز تعدي الفعل إلى جميع ظروف الزمان قوة دلالته عليها، كما أن السبب في تعديه إلى جميع ضروب المصادر قوة

ص: 259

الدلالة عليها من حيث يدل عليها من جهة المعنى واللفظ؛ فالفعل يدل على المصدر بلفظه لتضمنه حروفه، ويدل على الزمان بلفظه من حيث إن الزمان إنما يتبين من صيغة الفعل.

وفي البسيط: «حكي عن الكوفيين أنهم لا ينصبون المكان المطلق عن الفعل، فيقتضي القياس ذلك في الزمان، فلا تقول: قمت زماناً؛ لأنه مفهوم من الأول، فلا فائدة فيه، فإذا نصبت خصصت بالوصف.

وذهب بعض النحويين إلى أن ما كان من الظروف معطياً غير ما أعطى الفعل- كالظروف المعدودة والموقتة- فنصبها نصب المفعول، على تقدير نيابتها عن المصدر، كأنه قال: سرت سيراً مقدراً بيومين، ونحوه؛ لأنه لا دلالة للفعل عليه. وقيل: هو بمنزلة: ضربته سوطاً، أي: سير يومين، فحذف. والصحيح أنه تعدى إليه بعد حذف الجار، فنصبه، وهو في جميع أنواع الظروف الزمانية مبهماً وغير مبهم» انتهى ملفقاً.

وقال أيضاً ما معناه: «ينتصب المبهم على جهة التأكيد المعنوي؛ لأنه لا يريد على دلالة الفعل، بل دلالة الفعل أخص منه، ومن التأكيد ما جاء بعد فعل مخصص بزمان، نحو: ظللت نهاراً، وبت ليلاً، ومنه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}؛ لأن الإسراء لا يكون إلا بالليل، ولا ينكر التأكيد في الظرفين كما لا ينكر في المصدر والحال» انتهى.

وهذا التقسيم الذي ذكره المصنف في الزمان إلى مبهم ومختص هو الصحيح. وقسمه بعضهم إلى مبهم ومعدود ومختص، فجعل المعدود قسيم المبهم والمختص، وهو في الحقيقة قسم من المختص.

ص: 260

فالمبهم: ما وقع على قدر من الزمان غير معين، نحو: وقت، وحين، وزمان. والمختص قسمان: معدود، وغير معدود.

المعدود: ما له مقدار من الزمان معلوم، نحو: سنة، وشهر، ويومين، والمحرم، وسائر أسماء الشهور، والصيف، والشتاء. ولا يعمل في المعدود من الأفعال إلا ما يتكرر ويتطاول، لو قلت: مات زيد يومين- وأنت تريد الموت الحقيقي- لم يجز.

والمختص غير المعدود أسماء الأيام، كالسبت، والأحد، وما يخصص بالإضافة، نحو: يوم الجمل، وبأل، نحو: اليوم، والليلة، أو بالصفة، نحو: قعدت عندك يوماً قعد عندك /فيه زيد، وما أضافت إليه العرب لفظة شهر من أعلام الشهور، وهي: رمضان، وربيع الأول، وربيع الآخر، فقط وسيأتي ذكر ذلك في هذا الفصل إن شاء الله.

وقوله فإن جاز أن يخبر عنه أو يجر بغير من فمتصرف، وإلا فغير متصرف التصرف استعماله غير ظرف، كأن يكون فاعلاً أو مبتدأ، أو يرتفع خبراً، أو ينتصب مفعولاً، أو ينجر بغير من، نحو: سرني يوم الخميس، ويوم الجمعة مبارك، واليوم يوم الجمعة، وأحببت يوم الجمعة، و {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، ومعنى «وإلا» أي: وإلا يخبر عنه أو يجر بمن فغير متصرف. لم يحكموا بتصرف ما جر بمن وحدها نحو عند وقبل وبعد لأن من كثرت زيادتها، فلم يعتد بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف.

وقوله وكلاهما منصرف وغير منصرف فيكون أربعة أقسام.

ص: فالمتصرف المنصرف كحين ووقت، والذي لا يتصرف ولا ينصرف ما عين من سحر مجرد، والذي يتصرف ولا ينصرف كغدوة وبكرة علمين، والذي ينصرف ولا يتصرف بعيدات بين، وما عين من ضحى وضحوة وبكر

ص: 261

وسحير وصباح ومساء ونهار وليل وعتمة وعشاء وعشية، وربما منعت الصرف والتصرف.

وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان كصباح مساء، ويوم يوم. وألحق غير خثعم «ذا» و «ذات» مضافين إلى زمان. واستقبح الجميع التصرف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف.

ش: مثل المصنف المنصرف بحين ووقت، وفي الشرح بساعة وشهر وعام ودهر وحين وحينئذ ويومئذ، يقال: سير عليه حينئذ، ويومئذ، حكاهما س. أما الحين فإنه يقع على القليل والكثير من الزمان، قال:

تناذرها الراقون من سوء سمها

تطلقه حيناً، وحيناً تراجع

أنشده أبو علي شاهداً على ذلك. وعن الأصمعي استعمال الحين في الكثير أكثر من استعماله في القليل.

وقوله ما عين من سحر مجرد يعني بالتجريد تجريده من أل والإضافة، ويعني بالتعيين أن يكون من يوم بعينه، وسواء في ذلك أذكرت اليوم أو الليلة معه، نحو: أزورك يوم الجمعة سحر، أم لم تذكره، نحو: جئتك سحر، وأنت تريد ذلك من يوم بعينه، أو عرفت اليوم أو نكرته، نحو: جئت يوماً سحر، فإن نكر انصرف وتصرف.

ص: 262

وإنما لم يتصرف لخروجه عن نظائره من النكرات، وذلك أن نظائره من النكرات إذا عرفت أدخلوا عليها أل، أو أضافوها، فلما عرف هذا من غير أداة تعريف خالف نظائره، فلم يتصرفوا فيه لذلك، ولم يصرفوه أيضاً لعدله وتعريفه من غير أداة تعريف.

/واختلف النحويون في سحر هذا أهو مبني أو معرب:

فذهب بعضهم إلى أنه مبني لتضمنه معنى أل، كما بني أمس لتضمنه معناها، وهو مذهب صدر الأفاضل.

وذهب ابن الطراوة إلى أنه مبني، وعلة بنائه عدم التقار، لا لتضمنه معنى الحرف؛ ألا ترى أنه لا يقع سحر إلا على سحر يومك، فلا تقول خرجت سحر إلا في يومك الذي خرجت في سحره، ولا تقول سحر في سحر (أمس) إلا أن تقيده، فتقول: خرجت يوم الخميس سحر، فهذا هو الذي أوجب البناء. انتهى.

وتقدم الرد على القول بأن التقار علة للبناء في باب اسم الإشارة.

وذهب الجمهور إلى أنه معرب، واختلفوا في سبب منع التنوين منه:

فذهب بعضهم إلى أنه منوي فيه الإضافة، وهو معرفة بالإضافة؛ لأنك تريد سحر ذلك اليوم، فحذف التنوين كما حذف في أجمع وأكتع حيث كان مضافاً في المعنى.

ص: 263

وذهب السهيلي إلى أن حذف التنوين منه لأنه معرفة بنية الألف واللام؛ قال: «كأنك حين ذكرت يوماً قبله، وجعلته ظرفاً- أردت السحر الذي من ذلك اليوم، واستغنيت عن أل بذكر اليوم» وزعم أنه مذهب س.

وذهب الجمهور إلى أنه حذف التنوين منه لأنه لا ينصرف، فأحد علتيه العدل عن تعريفه بأل، والعلة الأخرى قيل: العلمية، جعل علماً لهذا الوقت. وقيل: التعريف المشبه لتعريف العلمية. وقيل: لم يصرفوه لعدله وتعريفه من غير أداة تعريف، بل بالغلبة على ذلك الوقت المعين، وليس تعريفه تعريف علمية؛ لأنه في معنى السحر، وتعريف العلمية ليس في رتبة تعريف أل.

ولا يجوز أن يكون تعريفه بأل التي عدل عنها؛ لأن أل التي يعدل عنها الاسم لا تعرفه؛ ألا ترى أنهم لما عدلوا أخر عن أل استعملوه نكرة؛ بدليل وصف النكرة في نحو: مررت بنسوة أخر، وإذا ثبت أنه غير متعرف بالعلمية ولا بأل التي عدل عنها لم يبق إلا أن يكون تعريفه بالغلبة كما ذكرنا؛ والتعريف بالغلبة في معنى التعريف بأل لاستعمالهم الأسماء الغالبة بأل تارة وبغير أل تارة، ومعناها في الحالين واحد، حكى ابن الأعرابي: هذا العيوق طالعاً، وهذا عيوق طالعاً، وكذلك سائر الأسماء الغالبة، ومن ذلك قول الشاعر:

ونابغة الجعدي بالرمل بيته

عليه تراب، من صفيح وجندل

وللنحويين كلام كثير في سحر هذا، تركناه؛ إذ ليس فيه إلا اختلاف في تعليل وتقدير تلك التعاليل، وتفريق بينه وبين أمس، ولا يتضمن أحكاماً يرجع

ص: 264

فيها إلى النطق إلا ما ذكروا من أنه لا ينتصب سحر ظرفاً إلا إذا كان اليوم الذي قبله انتصب /على الظرفية، فإن ارتفع على الفاعلية أو انتصب على أنه مفعول به لم يجز أن ينتصب سحر على الظرف؛ بل يكون بدلاً من اليوم مضافاً لضميره، أو معرفاً بأل، فتقول: كرهت يوم السبت سحره، أو السحر منه، لا بد من أحد هذين في البدل. ولو قلت: سير بزيد يوم الجمعة سحر، وجعلته مفعولاً على السعة- لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم، فإن أردت هذا المعنى فقل: سير بزيد يوم الجمعة سحره، أو السحر منه، حتى يرتبط به.

قال السهيلي: «لأنك لا تقدر أل إذا كان في الكلام ما يغني عنهما، وأما إذا كان اسماً متمكناً فلا بد من تعريفه كما تعرف الأسماء، أو تجعله نكرة، فلا يكون إذاً من ذلك اليوم.

فإن قلت: فقد أجازوا: سير بزيد يوم الجمعة سحر، برفع اليوم ونصب سحر، فلم لا يجوز بنصب اليوم ورفع سحر؟

قلنا: لأن اليوم- وإن اتسع فيه- فهو ظرف في معناه، وهو يشتمل على السحر، ولا يشتمل السحر عليه، فلا يجوز إذا أن يتعرف السحر تعريفاً معنوياً حتى يكون ظرفاً بمنزلة اليوم الذي هو منه؛ ليكون تقديم اليوم مع كونه ظرفاً بمنزلة اليوم مغنياً عن آلة التعريف» انتهى.

وقوله كغدوة وبكرة علمين قال المصنف في الشرح: «الذي يتصرف ولا ينصرف غدوة وبكرة علمين قصد بهما التعيين أو لم يقصد؛ لأن علميتهما جنسية، فيستعملان استعمال أسامة وذؤالة، فكما يقال عند قصد التعميم: أسامة شر السباع، وعند التعيين: هذا أسامة فاحذره- تقول عند قصد التعميم: غدوة وقت

ص: 265

نشاط، وقاصداً للتعيين: لأسيرن الليلة إلى غدوة، وبكرة في ذلك كغدوة. وقد يخلوان من العلمية فيتصرفان وينصرفان، ومنه قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} » انتهى.

وجعلت العرب بكرة وغدوة علمين لهذين الوقتين، ولم تفعل ذلك في نظائرهما كعتمة وضحوة ونحوهما. واختلف في تعريفهما: فقيل: هو من قبيل تعريف الجنس، كأم حبين وأسامة. وقيل: من قبيل تعريف العلمية لوقت بعينه من يوم معين. وكلا القولين يظهر من لفظ س في أبواب ما لا ينصرف من الأحيان.

وقال ابن طاهر: هما علمان إذا أردتهما من معين، فإن لم ترد ذلك فهما نكرتان.

والموضوع للنكرة هو غداة، نحو قولهم: نحن في غداة باردة، ونحن في غداة طيبة، ثم غيروا لفظ غداة إلى غدوة؛ لأن موضع التعريف بتغيير اللفظ، فيكون أول أحوال هذا اللفظ التعريف، ثم يجوز أن ينكر بعد ذلك. والدليل على ذلك أنا قد رأيناهم يضعون أسماء مشتقة موضوعة لمعارف لم تستعمل في شيء من النكرات، ولا تعرف معانيها/ منكورة، نحو سعاد وزينب وغير ذلك مما لا يحصى.

وإن عرف ما اشتقت منه فغدوة قد اشتقت للتعريف من غداة، كما أن سعاد اشتق من السعادة لأن يوضع لمعرفة.

والأصل في هذين الاسمين غدوة، وحملت بكرة عليها لاجتماعهما في المعنى وفي النية؛ كما حملوا يذر على يدع.

ص: 266

ويجوز أن تنكر اليوم وتعرف غدوة وبكرة، فتقول: رأيته يوماً غدوة؛ لأن غدوة وقتها من اليوم معروف، كأنك قلت: رأيته يوماً في هذا الوقت.

وزعم أبو الحسن أنه يجوز أن تقول: آتيك اليوم غدوة وبكرة، وتجعلهما بمنزلة ضحوة.

وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق به من العرب يقول: آتيك بكرة، وهو يريد الإتيان من يومه أو في غده، ومثله قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. قال السيرافي:«وهذا من تنكير العلم؛ لأن الأعلام يجوز تنكيرها بعد تعريفها، واللفظ واحد» .

قال الفراء في المعاني له: «قرأ أبو عبد الرحمن السلمي {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}، ولا أعلم أحداً قرأها غيره، والعرب لا تدخل الألف واللام في غدوة لأنها معرفة بغير ألف ولام، سمعت أبا الجراح يقول: ما رأيت كغدوة قط، يعني غداة يومه، وذلك أنها كانت باردة؛ ألا ترى أن العرب لا تضفيها، فكذلك لا تدخلها الألف واللام، وإنما يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة» .

وقول الفراء «إنه لا يعلم أحداً قرأ (بالغدوة) غير السلمي» قد قرأها كذلك أبو رجاء العطاردي، وعبد الله بن عامر من قراء السبعة.

ص: 267

وفي البسيط: «زعم يونس عن أبي عمرو أنك تقول: أتيته العام الأول بكرة، ويوماً من الأيام بكرة، ولا تنون، سواء أقصدت بكرة يوم بعينه أم لم تقصد. وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيه صرف بكرة وغدوة، قيل: حملاً على عشية وضحوة ونحوهما، إذا أردت وقت يوم بعينه، فتنكرهما تنكيراً أصلياً. وقيل: هذا تنكير بعد التعريف، كما تقول: جاءني يزيد ويزيد آخر، كذلك هذا، كأنه جعل الوقت أوقاتاً، كل واحد منها بكرة، وكأنه قال: سرت بكرة من البكرات، أي: وقتاً من ذلك الحين، كما تقول: جاءني يزيد من اليزيدين. وأما قوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقيل: لما أتى بها في سياق عشيا، وهو منون، وكان يجوز فيها التنوين وحدها- نونوا هنا للسياق» انتهى.

وقال الفراء أيضاً: «العرب تجري غدوة وبكرة، ولا تجريهما، وأكثر الكلام في غدوة ترك الجري، وأكثره في بكرة أن تجرى، فمن لم يجرها جعلها معرفة؛ لأنها اسم يكون أبداً في وقت واحد بمنزلة أمس وغد، وأكثر ما تجري العرب غدوة إذا قرنت بعشية، يقولون إني / لآتيهم غدوة وعشية، وبعضهم يقول غدوة، لا يجريها، وعشية، فيجريها، ومنهم من لا يجري عشية لكثرة ما صحبت غدوة» .

ص: 268

وقال الزجاج: «بكرة وغدوة إذا كانتا نكرتين صرفتا، وإذا أردت بهما بكرة يومك وغدوة يومك لم تصرفهما» .

وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، على الظرف فيهما جميعاً؛ لأنها بعض اليوم، وتقول: سير بزيد يوم الجمعة غدوة، كأنها بدل من اليوم، ولا تحتاج أيضاً إلى الضمير كما يحتاج في بدل بعض من كل؛ لأنها ظرف في المعنى، ولو قلت: كره يوم الخميس غدوة، على البدل- لم يكن بد من إضافة غدوة إلى ضمير المبدل منه؛ لأن اليوم ليس بظرف، فيصير كقولك: كرهت يوم الخميس سحره، إذا أردت البدل؛ لأن المكروه هو السحر دون سائر اليوم، وإنما تستغني عن ضمير يعود إلى اليوم إذا تركته ظرفاً على حاله؛ لأن بعض اليوم إذا كان لفعل كان جميع اليوم ظرفاً له.

وقوله بعيدات بين قال المصنف في الشرح: «أي: أوقاتاً غير متصلة» انتهى. وبعيدات جمع بعد مصغرة، [تقول: لقيته بعيدات بين]، ومعناه: لقيته مراراً متفرقة قريباً بعضها من بعض، وجمع بعد يدل على ما أريد من المرار، وتصغيرها يدل على ما أرادوه من تقاربها؛ لأن تصغير الظرف المراد به التقريب.

وقوله وما عين إلى قوله وعشاء هذه الأسماء نكرات أريد بها أزمان معينة، فوضعت موضوع المعارف وإن كانت نكرة، ولذلك لا تتصرف، وتوصف بالنكرة، يقولون: أتيتك يوم الخميس ضحى، فترفعه، ولقيتك يوم الجمعة عتمة متأخرة، وكذلك البواقي. ونظيرها في ذلك: لقيتك عاماً أول، وإنما تريد العام الذي يليه عامك، وكلها لا تتصرف إذا أريد بها زمان معين بلا خلاف.

ص: 269

وفي «الشيرازيات» عن الأخفش أنه قال: «ضحوة وعتمة إذا أريد بهما وقت بعينه أرفعه وأنصبه حتى أسمع العرب تركت فيه الرفع، فأقول: سير عليه عتمة وعتمة، وسير عليه ضحوة وضحوة» . ورواية س فيه النصب. وقال: «لم يستعملوه على هذا المعنى إلا ظرفاً» .

فإن لم ترد بضحى وسائر ما ذكر معه معيناً بل شائعاً تصرف، فتقول: سير عليه ضحوة من الضحوات.

وأجاز الكوفيون تصرف ما عين من عتمة وضحوة وليل ونهار، فتقول: سير عليه عتمة وضحوة، وسير عليه ليل ونهار، وتقدم ذكر هذا في باب النائب عن الفاعل.

ولا يقاس على هذه الظروف، فلو أردت بيوم أو غيره واحداً بعينه جاز لك التصرف فيه، ولا يعلل هذا.

وقوله وربما منعت الصرف والتصرف يعني عشية، فتصير إذ ذاك علماً، وينبغي على هذا ألا يقال: أتيتك عشية الخميس. وامتناعها الصرف للعملية والتأنيث، وعلميتها من جنس علمية / غدوة وبكرة، وامتناعها من التصرف كامتناعهما.

وفي البسيط: «وغدوة وبكرة علمان وإن تقدم ذكر اليوم معرفة أو نكرة، وقد سمع فيهما الرجوع إلى الأصل، وقد سمع أيضاً في عشية وضحوة العلمية، والأكثر التنكير» انتهى.

ص: 270

ونقل الأخفش أن ضحوة وعشية يكونان معرفتين لفرط اقتران إحداهما بالأخرى، فتقول: عشية وضحوة اتفق كذا، والمعروف استعمال العرب لهما نكرتين.

وجعل الفارسي فينة والفينة مما تعاقب عليه التعريفان العلمية والألف واللام، وليس فينة معدولاً؛ لأنهم يقولون الفينة.

وقوله وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان، كصباح مساء ويوم يوم احترز بقوله «ما لم يضف» من حالة الإضافة، فإنه إذا أضيف صدره إلى عجزه استعمل ظرفاً وغير ظرف، فمن استعماله ظرفاً قول الشاعر: ما بال جهلك بعد الحلم والدين

وقد علاك مشيب حين لا حين

أنشده س، وقال:«وإنما هو حين حين، ولا بمنزلة ما إذا ألغيت» . ومثاله غير ظرف قول الشاعر:

ولولا يوم يوم ما أردنا

جزاءك، والقروض لها جزاء

أنشده س.

واحترز بقوله «من مركب الأحيان» من أن يكون معطوفاً بالواو، نحو: فلان يتعهدنا صباحاً ومساءً، إذ العطف أصل الإضافة في: صباح مساء، فإذا أضافوا أرادوا معنى العطف، فكان من إضافة الشيء إلى ما اقترن به، كما يضاف الشيء إلى ما يصاحبه ويقترن به، ولو لم يكن الأصل العطف ما وقع الفعل إلا في الأول،

ص: 271

كما يقع الضرب في ضربت غلام زيد على الغلام لا عليه وعلى زيد. ومثال التركيب كخمسة عشر قولك: فلان يزورنا صباح مساء، ويوم يوم، أي: كل يوم، وكل صباح ومساء. وفي هذه الحالة- وهي التركيب- لا يستعمل إلا ظرفاً، وقال الشاعر:

ومن لا يصرف الواشين عنه

صباح مساء يضنوه خبالا

وقال آخر:

آت الرزق يوم يوم، فأجمل

طلباً، وابغ للقيامة زادا

وإذا ركب كان المعنى: صباح أيامه ومساءها، وجاز أن يضاف وأن يبنى، كما فعل ذلك ببعلبك. وعلة بنائه تضمنه معنى حرف العطف.

وقد اختلف فيه في العطف إذا قلت صباحاً ومساءً: فقال بعضهم: يعني واحداً غير معين؛ لأنه نكرة، أي: واحداً من هذا وواحداً من هذا، فمعنى العطف فيه غير معنى البناء والإضافة، وقول/س:«إنما معناه صباحاً ومساءً» لا يريد أن حرف العطف مضمر؛ لأنه قد قال في بابه: «إن حروف العطف لا تضمر» . وتأول بعض الناس جواز ذلك من هنا، وهو فاسد لما ذكرت من أن معنى الإضافة والتركيب غير معنى ظهور الواو، وإنما أراد أن الأصل ذلك، ثم حذفوا، ولم يريدوا العطف، بل حذفوا إما للبناء أو الإضافة.

وقال بعضهم: صباحاً ومساءً المراد به التكثير والمبالغة، وكل واحد فيه العموم بغير أداته، فلم يتمكن. وهذه الأسماء التي التزم فيها الظرفية لا يجوز فيها الاتساع.

ص: 272

وزعم الحريري صاحب المقامات أنه فرق بين قولك: زيد يأتينا صباح مساء، على الإضافة، ويأتينا صباح مساء، على التركيب، وأن الخواص يهمون في ذلك، فلا يفرقون بينهما، وأن الفرق هو أن المراد به مع الإضافة إليه: يأتي في الصباح وحده؛ إذ تقدير الكلام: يأتينا في صباح مساء، والمراد به عند تركيب الاسمين وبنائهما على الفتح أنه يأتي في الصباح والمساء، وكان الأصل: هو يأتينا صباحاً ومساءً، فحذفت الواو العاطفة، وركب الاسمان، وبنيا على الفتح لأنه أخف الحركات، كما فعل في العدد المركب من أحد عشر إلى تسعة عشر. انتهى ما ذكره في «درة الغواص» من تأليفه.

ورد عليه ذلك أبو محمد بن بري، وقال: هذا الفرق ليس مذهب أحد من النحويين البصريين.

قال أبو سعيد السيرافي: «يقال سير عليه صباح مساء، وصباح مساء، وصباحاً ومساءً، ومعناهن واحد» . ثم قال: «وليس سير عليه صباح مساء مثل قولك ضربت غلام زيد في أن السير لا يكون إلا في الصباح كما أن الضرب لا يقع إلا بالأول- وهو الغلام- دون الثاني؛ لأنك إذا لم ترد أن السير وقع فيهما لم يكن في مجيئك بالمساء فائدة» ، وهذا نص واضح. وقال س:«وتقول: إنه ليسار عليه صباح مساء، ومعناه صباحاً ومساءً» . وهذا أيضاً نص واضح في أنه لا فرق في المعنى بين أن يكون صباح في المعنى مضافاً إلى مساء أو مركباً معه.

وقوله وألحق غير خثعم ذا وذات مضافين إلى زمان يعني: وألحق جميع العرب ذا وذات مضافين إلى زمان بهذه الأسماء التي تقدمت في كونها ملتزماً فيها

ص: 273

النصب على الظرفية؛ ولا يتصرف فيها، إلا أن خثعم أجازت فيها التصرف، فتقول على لغة الجمهور: لقيته ذا صباح وذا مساء، وذات مرة، وذات يوم، وذات ليلة، وقال الشاعر:

إذا شد العصابة ذات يوم

وقال إلى المجالس والخصوم

وعلى لغة خثعم يتصرف فيها، فتقول: سري عليه ذات ليلة، برفع ذات، وأما /على لغة غيرهم فينصب لأنه ملتزم فيه الظرفية، وقال بعض الخثعميين، وهو أنس بن مدرك:

عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر ما يسود من يسود

وهذا الذي ذكره المصنف من أن ذا وذات المذكورين يتصرفان عند خثعم هو مذهب س والجمهور. وزعم السهيلي أن ذات مرة وذات يوم لا يتصرفان في لغة خثعم ولا في لغة غيرها، وأن ما أنشده س من قوله:

عزمت على إقامة ذي صباح ....................

لا حجة فيه؛ لأن ذا صباح يعني به اليوم؛ لأن كل يوم ذو صباح، فالتقدير: عزمت على إقامة يوم. قال: وقد وجدت في حديث قيلة بنت مخرمة- وهو حديث طويل وقع في مسند بن أبي شيبة- أن أختها قالت لبعلها: «إن أختي تريد المسير مع حريث بن حسان ذا صباح بين سمع الأرض وبصرها» . قال: «وهذا

ص: 274

يكون من باب ذات مرة وذات يوم، غير أنه ورد مذكراً لأنه يستثقل التأنيث مع الصاد وتوالي الحركات، فحذفوها، فقالوا: لقيته ذا صباح، وهذا لا يتمكن كما لا يتمكن ذات يوم وذات حين، ولا يضاف إليه مصدر ولا غيره».

وهذا الذي ذهب إليه من أن ذات هي التي لا تتصرف، وأن ذا يتصرف إلا أن يكون محذوفاً من ذات- باطل؛ لأن ذات صباح إنما جاء في كلامهم بمعنى صباح على ما ذكرناه، وحديث قيلة يدل على ذلك، وما ادعاه من أن الأصل ذات وحذفت التاء لما ذكره دعوى لا دليل عليها، وما ذكره من التعليل غير موجب لحذف التاء في كلام العرب، وإذا تبين أن ذا صباح قد استعمل بمعنى صباح وجب أن يجعل ذلك في بيت أنس، وكأنه قال: عزمت على إقامة وقت، أي: وقت مسمى بهذا الاسم، والوقت المسمى بهذا الاسم هو صباح، ولا يحمل على ما ذكره؛ لأنه لم يثبت من كلامهم أن ذا صباح يراد به اليوم، وما توهمه من أن س إنما ادعى جواز الرفع في ذات في لغة خثعم بسبب بيت أنس غير صحيح، بل حكى عنهم أنهم يرفعون ذات مرة، فيقولون: سير عليه ذات مرة.

وسبب التزام العرب الظرفية في ذات أنها صفة في الأصل لظرف محذوف، فالتقدير: لقيته قطعة ذات يوم، أو ذات مرة، وكذلك لقيته ذا صباح، أي: وقتاً ذا صباح، أي: صاحب هذا الاسم، فحذف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه. ولم يتصرفوا في الصفة بعد حذف الموصوف لأمرين:

أحدهما: أن الصفة إذا لم تكن خاصة لم يجز إجراؤها مجرى الموصوف، /وذو وذات بمعنى صاحب وصاحبة ليسا بخاصين بجنس الموصوف المحذوف؛ إذ قد يوصف بهما الزمان وغيره، فلم يجز لذلك أن يجريا مجرى الموصوف المحذوف

ص: 275

فيتصرف فيهما كما كان يتصرف فيه؛ كما أن صفة المصدر إذا لم تكن خاصة به وحذف موصوفها لم يجز إقامتها مقام المصدر، بل تبقى منتصبة على الحال.

والآخر: أن إضافة ذات إلى مرة ويوم، وإضافة ذي إلى صباح- من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم، وهي قليلة في كلام العرب، فلم يتصرفوا فيها لذلك، ولقيته صباحاً ويوماً ومرة في معنى: ذا صباح وذات يوم وذات مرة، استغني به عنه لما كان يؤدي معناه مع ما فيه من الاختصار.

وزعم أبو بكر بن الأنباري أن قولك لقيته ذات مرة معناه: حقيقة مرة، وكذلك قال في قوله تعالى {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} ، أي: غير حقيقة الشوكة.

قال ابن عصفور: «وهذا باطل؛ لأنه لا يوجد في كلام العرب ذات بمعنى حقيقة، ولذلك لحن الزبيدي من قال: الذاتي بمعنى الحقيقي، ولو ثبت الذات بمعنى الحقيقة لم يكن ذلك لحناً» انتهى. ومعنى [غير] ذات الشوكة أي: غير الطائفة ذات الشوكة، أي: صاحبة الشوكة.

وفي البسيط: ليس ذات مرة من أسماء الزمان، وإنما مرة مصدر من مر مرة، فنقل إلى الزمان، وذات هي في الأصل وضعت للمصدر، [تقول]: لقيته مرة، أي: واحدة، فلما صار مرة ظرفاً صارت ذات وصفاً لزمان، كأنك قلت: لقيته مدة ذات مرة، أي: واحدة، ثم حذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه.

ص: 276

وذهب ابن جني إلى أن ذات صارت ظرفاً لإضافتها إلى مرة بعد ما تأول فيه الظرف، وجعله من باب إضافة المسمى إلى الاسم، أي: ذات الذي يقال فيها مرة، كقوله:

إليكم- ذوي آل النبي- تطلعت ..........................

يريد: ذوي الذي يقال لهم آل النبي، والأصل: لقيته مرة، وإليكم آل النبي.

وقال أبو العباس: الذات هنا ليست تأنيث ذو، وإنما هي بمعنى النفس، كأنه قال: نفس مرة، ونفس يوم.

وقال أيضاً في البسيط: «وربما كان في بعضها عدم التمكن، كظلاماً. ومنه: لقيته مرة، تريد: زمناً واحداً؛ لأن الزمن الواحد يلازمه الفعل الواحد كالمرة الواحدة، فوضع هذا المصدر موضع الزمن الواحد؛ إذ التاء للتحديد فيه، فدل على ذلك في الزمان» .

وفي الإفصاح: ذات مرة، الأصل في ذي أن تكون صفة بمعنى صاحب، وتؤنث بالتاء كما تؤنث الصفات، فكان الأصل: لقيته ساعة ذات مرة، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، فضعف لذلك، ولم يستعمل إلا ظرفاً. هذا تعليل /الأستاذ أبي عبد الله بن أبي العافية، وهو موافق لكلام س؛ لأنه لا يجيء في صفات الأحيان إذا قامت مقام الموصوف إلا أن تكون ظروفاً.

قال: «ومما يختار فيه أن يكون ظرفاً، ويقبح أن يكون غير ظرف صفة الأحيان» . وذكر: سير عليه طويلاً، وحديثاً. ثم قال: «ولم يجز الرفع لأن الصفة لا

ص: 277

تقع مواقع الاسم، كما أنه لا تكون إلا حالاً، [نحو] قوله: ألا ماء ولو بارداً؛ لأنه لو قال ولو أتاني بارد كان قبيحاً». قال: «فكما لا تكون هذه الصفة إلا حالاً أو تجري على اسم كذلك هذه الصفات، لا تجوز إلا ظرفاً، ولم يجز أن تتمكن الصفة إلا أن تكون موصوفة على ضعف، نحو: سير عليه طويل من الدهر؛ لأنها إذا وصفت قربت من الأسماء، أو تكون صفة غلبت على الموصوف، وكثر استعمالها دونه، نحو: ملي من الدهر، وقريب» .

وقال غير ابن أبي العافية: الأصل في مرة أن تكون مصدراً، فلم تستعمل للحين إلا ظرفاً. والصحيح في مرة أنها تكون مصدراً وظرفاً، وقيل: ذات مرة من إضافة المسمى إلى الاسم، وهو قلب، ولم يجعلوه إلا ظرفاً، وقد ذكر س تمكن ذات في المكان، وقال:«تقول في الأماكن: سير عليه ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنك تقول: داره ذات اليمين وذات الشمال» ، فهذا يبطل تعليل أنها في الأصل صلة، أو أن العلة إضافة المسمى إلى اسمه؛ لأنها كذلك في المكان، وكأنه يقول إن مرة أصلها المصدر، وقد قال س إثر ذات مرة وذات ليلة وذات صباح:«فليس يجوز في هذه الأسماء التي لم تتمكن من المصادر التي وضعت للحين وغيرها من الأسماء أن تجرى مجرى يوم الجمعة وخفوق النجم» .

وقوله واستقبح الجميع إلى آخر المسألة: يعني جميع العرب، ومثال ذلك: سير عليه قديماً، أو حديثاً أو طويلاً، فهذه أوصاف عرض حذف موصوفها،

ص: 278

وانتصبت على الظرف، فلو تصرف فيها، فقيل: سير عليه قديم أو طويل- قبح ذلك. وأجاز الكوفيون فيها الرفع.

واحترز بقوله «عرض قيامها مقامه» من صفة لم يعرض قيامها مقامه، بل استعملت ظرفاً، وهي في الأصل صفة، نحو: قريب، وملي، فإنه يحسن إذ ذاك التصرف، فتقول: سير عليه قريب، وسير عليه ملي، وملي صفة استعملت استعمال الأبطح والأبرق، وهو يلي العامل، ومعنى ملي من النهار: قطعة من النهار.

واحترز بقوله «ولم توصف» من حالتها إذا وصفت، فإنه يحسن إذ ذاك فيها التصرف، تقول عليه: سير عليه طويل من الدهر؛ لأنه لما وصف ضارع الأسماء.

-[ص: ومظروف ما يصلح جواباً لـ «كم» واقع في جميعه تعميماً أو تقسيطاً. وكذا ما يصلح /جواباً لـ «متى» إن كان اسم شهر غير مضاف إليه شهر. وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام. وقد يقصد التكثير مبالغة، فيعامل المنقطع معاملة المتصل. وما سوى ما ذكر من جواب «متى» فجائز فيه التعميم والتبعيض إن صلح المظروف لهما.]-

ش: المظروف هو ما يقع في الظرف. والذي يصلح أن يقع جواباً لـ «كم» ولا يصلح أن يكون جواباً لـ «متى» هو ما كان موقتاً غير معرف ولا مخصص بصفة، نحو: ثلاثة أيام، ويومين؛ ألا ترى أن ذلك يقع جواباً لكم، تقول: كم سرت؟ فتجاب: ثلاثة أيام، أو يومين، فهذا النوع يكون العمل في جميعه، إما تعميماً وإما تقسيطاً، فإذا قلت: سرت يومين أو ثلاثة أيام- فالسير واقع في اليومين أو في الثلاثة من الأول إلى الآخر، وقد يكون في كل واحد من اليومين أو الثلاثة وإن لم يعم من أول اليوم إلى آخره، وهو الذي عنى المصنف بقوله «أو تقسيطاً» . ومثل التعميم

ص: 279

بقولك: صمت ثلاثة أيام، والتقسيط بقولك: أذنت ثلاثة أيام، قال:«وقد يكون العمل صالحاً لهما، فيجوز أن يقصد المتكلم ما شاء منهما، كقولك: تهجدت ثلاثة ليال، فيجوز أن تريد الاستيعاب، ويجوز أن تريد إيقاع تهجد في بعض كل واحدة منهن» انتهى. وإذا قلت سرت يومين فلا يجوز أن تكون إنما سرت في أحدهما.

وهذا النوع من الظروف لا يكون العامل فيه إلا ما يتكرر ويتطاول، ولو قلت: مات زيد يومين أو ثلاثة أيام، وأنت تريد الموت الحقيقي- لم يجز ذلك.

وقال في البديع: «متى كان الظرف جواباً لـ «كم» كان العمل مستغرقاً له؛ لأنها سؤال عن عدد، فلا يقع جوابه إلا بجميع ما تضمنه سؤاله، وإن أجيب ببعضه لم يحصل غرضه، فإذا قال: كم صمت؟ قلت: يومين، مثلاً، فلا يكون صومك دونهما، ولا أكثر منهما، ويكون الجواب نكرة كهذا، ومعرفة كاليومين المعهودين».

وأنكر ابن السراج أن يرد جواب كم معرفة، فقال:«ولا يجوز أن تقول: الشهر الذي تعلم؛ لأن هذا من جواب متى، ومتى كان الظرف جواب متى كان العمل مخصوصاً ببعضه؛ لأنها سؤال عن تعيين الوقت، فلا يجيء في جوابه إلا المخصوص، فإذا قال: متى قدمت؟ قلت: يوم الجمعة، ولو قلت يوماً لم يجز، ويجوز أن يقع معرفة باللام، فتقول: اليوم المعهود. فأما قولهم: سار الليل، والنهار، والدهر، والأبد- فهو- وإن كان لفظه لفظ المعارف- فإنه في جواب كم، ولا يجوز أن يكون في جواب متى؛ لأنه يراد به التكثير، وليس بأوقات معلومة محدودة، فإذا قيل: سير عليه الليل والنهار- فكأنه قيل: سير عليه دهراً طويلاً» .

ص: 280

وقوله وكذا ما يصلح جواباً لـ «متى» إن كان اسم شهر غير مضاف إليه /شهر مثال ذلك المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور، تقول: سرت المحرم، وسرت صفر، فالعمل يقع في جميع الشهر إما تعميماً أو تقسيطاً؛ لأن علم الشهر إذا أطلق هو بمنزلة الثلاثين يوماً، فتقول: اعتكفت المحرم، فهذا للتعميم، وتقول: أذنت المحرم، فهذا للتقسيط، فلا يمكن أن يخلو يوم منه من الأذان فيه.

وظاهر قول المصنف «إن كان اسم شهر» العموم في جميع أسماء الشهور الاثني عشر. وظاهر قوله «غير مضاف إليه شهر» أنه يجوز أن يضاف شهر إلى جميعها، فتقول: شهر المحرم، وشهر صفر، إلى آخرها، وليس الحكم كما يدل عليه ظاهر كلامه، ولم تستعمل العرب من أسماء الشهور مضافاً إليه شهر إلا رمضان وربيع الأول وربيع الآخر، وأما غير هذه الثلاثة من باقي أعلام الشهور فلا يضاف إليه شهر، لا يقال: شهر المحرم، ولا: شهر صفر، ولا: شهر جمادى، إلا أن في كلام س ما يخالف هذا، وهو أنه أضاف شهراً إلى ذي القعدة، قال س:«ولو قلت: شهر رمضان، أو شهر ذي القعدة- صار بمنزلة يوم الجمعة» ، ولهذا أخذ أكثر النحويين بجواز إضافة شهر إلى سائر أعلام الشهور، ولم يخصوا ذلك بالثلاثة التي ذكرناها.

والشهر في أصل اللغة ليس للثلاثين يوماً، ولا للوقت الذي يشتمل عليها، وإنما هو اسم للهلال، حكى ذلك أبو عبد الله بن الأعرابي وغيره من اللغويين، وأنشدوا شاهداً على ذلك قول الشاعر:

ص: 281

فأصبح أجلى الطرف، ما يستزيده

يرى الشهر قبل الناس، وهو ضئيل

قالوا: وإنما قيل للثلاثين يوماً شهر لطلوع الهلال فيها.

ودل كلام المصنف بمفهوم الصفة أنه إذا أضيف «شهر» إلى علم الشهر أنه لا يكون العمل في جميعه تعميماً ولا تقسيطاً؛ بل يجوز أن يكون العمل في جميعه، ويجوز أن يكون في بعضه، فتقول: صام زيد شهر رمضان، فيعم، وقدم زيد شهر رمضان، فيكون القدوم في بعضه، وسار زيد شهر رمضان، فيحتملهما.

وما ذكرناه من التفرقة بين «رمضان» و «شهر رمضان» هو مذهب الجمهور. وزعم الزجاج أنه لا فرق بين رمضان وشهر رمضان، فإنه يجوز أن يكون العمل في بعضه، وأن يكون في جميعه. وهو مخالف لما قال س، قال س:«ومما أجري مجرى الدهر والليل والنهار: المحرم وصفر وسائر أسماء الشهور إلى ذي الحجة؛ لأنهم جعلوهن جملة واحدة لعدة أيام، كأنهم قالوا: سير عليه الثلاثون يوماً، ولو قلت شهر رمضان كان بمنزلة يوم الجمعة والبارحة، ولصار جواب متى» انتهى كلام س، وقد فرق بين ذكر رمضان وشهر رمضان /كما ترى، فجعل المحرم في جواب كم، وجعل شهر رمضان في جواب متى. وهذه التفرقة إنما تكون بالاستقراء والسماع، وليس للقياس هنا مجال.

وفي الإفصاح: «ذكر س في أسماء الشهور كلها أنها لا تكون في كلامهم ظرفاً إلا بشرط أن يستوفيها الفعل، جعلوها أسماء لثلاثين يوماً موقتة، ومن غلط س في هذا فقد أساء؛ لأنه موضع سماع وإن أعطى القياس خلافه، وعليه أن يأتي من كلامهم بنحو: مات زيد رمضان، وقدم رمضان، وعمي رمضان، أو صفراً، أو المحرم، أو غيره من أسماء الشهور المعرفة» انتهى.

ص: 282

وقال بعض أصحابنا: «ومما يدل على أن شهر المحرم قد يكون العمل فيه كله وقد يكون في بعضه قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وإنزال القرآن إنما هو في بعضه؛ بدليل {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ} في قراءة من نصب، والصيام إنما هو في جميعه، بخلاف رمضان من غير إضافة شهر إليه، فإن العمل لا يكون إلا في جميعه، نحو قوله عليه السلام (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)؛ إذ فهموا أن هذا الثواب الجزيل إنما جعل في مقابلة القيام في جميع رمضان لا في بعضه» انتهى.

والسبب في أن كان العمل في جميع الشهر إذا أضيف إلى علم الشهر وفي بعضه أن الشهر بإضافته إلى الاسم العلم صار وقتاً عندهم؛ وخرج عن أن يكون معدوداً، وكأنه قال: سرت زمان رمضان، ووقت رمضان؛ لأن الشهر إذا أضيف إلى اسمه لم يرد به معنى العدد؛ لأن في اسمه معنى العدد؛ ألا ترى أن رمضان كما قدمناه بمنزلة قولك الثلاثين يوماً المسماة بالمحرم، فلو أضفت شهراً إليه مريداً به العدد كان بمنزلة: ثلاثي ثلاثين، وذلك لأنه لا وجه له، ولو أفردت شهراً، فقلت: سرت شهراً، أو سرت الشهر الذي تعلم- عم العمل جميعه؛ لأنه حالة الانفراد لا يراد به وقت، إنما هو بمنزلة الثلاثين يوماً إن كان معرفة، وبمنزلة ثلاثين يوماً إن كان نكرة.

ص: 283

وزعم ابن خروف أن الفرق بين «رمضان» و «شهر رمضان» من جهة أن رمضان علم، وشهر ليس كذلك، إنما هو معرفة بإضافته إلى رمضان، وكذلك سائر أسماء الشهور، والعلم واقع على الشخص بجميع صفاته، فكذلك أسماء الشهور كالأعلام، فلا يقع على بعض الشهر، قال:«وليس كالشهر لأنه واقع على جزء من الشهر منفرداً أو مجتمعاً» ؛ من جهة أنه ليس عنده علماً، فأجاز على هذا القول أن تقول: سرت الشهر، وأنت تريد أن السير في بعضه. وأجاز أن يعمل في الشهر ما لا يتطاول، نحو: لقيتك الشهر. وكذلك زعم في أعلام الأيام أنها كأعلام /الشهور، فإذا قلت: سرت السبت، أو سرت الخميس- لم يكن العمل إلا في جميعها؛ لأنها علمان، فإذا أضيف إليها يوم أو ليلة، فقلت: سرت يوم الخميس- جاز أن يكون السير في بعض اليوم أو في جميعه؛ لأن تعريفه إنما هو بالإضافة. وأجاز كذلك أن يعمل في اليوم المضاف إليهما ما لا يتطاول، نحو قولك: لقيتك يوم الخميس، ولم يجز إعماله في السبت والخميس وسائر أيام الأسبوع، لا يجوز عنده أن تقول: لقيتك السبت، ولا: لقيتك الخميس.

وهذا الذي ذهب إليه باطل؛ لأن الاسم يتناول مسماه بجملته نكرة كان أو غير نكرة، معرفة علماً أو غير علم، وإنما التفرقة بين المحرم وأسماء الشهور إذا أضيف إليها شهر وبينها إذا لم يضف إليها شهر؛ من جهة أنه إذا انفرد الشهر ولم يضف فالعمل في جميعه؛ لأنه يراد به ثلاثون يوماً، ولا يجوز أن يكون في بعضه كما زعم ابن خروف. وكذلك أسماء الأيام يجوز أن يكون في كلها وفي بعضها؛ لأنها من قبيل المختص غير المعدود، ويعمل فيه المتطاول وغيره، فسواء أضيف إليه يوم أو لم يضف، فتقول: مات زيد الخميس، ويوم الخميس، كما تقول: مات شهر رمضان، وصام زيد الخميس، ويوم الخميس، كما تقول: صام شهر رمضان.

ص: 284

وقوله وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام يعني أنها مثل رمضان إذا لم يضف إليه شهر يكون للتعميم، قال س:«ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلاً في الظرف كله قولك: سير عليه الليل والنهار، والدهر، والأبد» . ثم قال: «لا تقول: لقيته الدهر، والأبد، وأنت تريد يوماً فيه، ولا: لقيته الليل، وأنت تريد لقاءه في ساعة دون الساعات» انتهى.

وقوله وقد يقصد التكثير مبالغة، فيعامل المنقطع معاملة المتصل مثال ذلك: سير عليه الأبد، لا تريد التعميم، بل قصدت المبالغة مجازاً، وإن كان لم يقع السير في جميع الأبد، كما أنه إذا قال القائل: أتاني أهل الدنيا، لا يريد به الحقيقة، وإنما أتاه ناس منهم، نزلهم منزلة جميع أهل الدنيا على سبيل المبالغة والتجوز.

والصيف والشتاء والربيع واقعة على فصول من السنة معلومة، ولم يقصد بها العدد، وكل ما وقع على معين ليس بعدد جاز أن يكون العمل في كله وفي بعضه، فإذا كان في كله كان جواب كم، وإذا كان في بعضه كان جواب متى، فيجوز: انطلقت الصيف، فهذا في جواب متى؛ لأن الانطلاق من الأفعال التي لا تتطاول، ويجوز: سرت الصيف، وأنت تريد التعميم؛ لأن السير مما يمتد، ويكون جواب كم، ومن ذلك قوله:

فقصرن الشتاء بعد عليه

وهو للذود أن يقسمن جار

ص: 285

يريد: قصر ألبان /الذود عليه في جميع هذا الفصل، ولم يرد أنه قصرها عليه في بعض الفصل.

ومن استعمال الربيع ظرفاً قول الشاعر:

كأن قتودي على قارح

أطاع الربيع له الغرغر

وقوله وما سوى ما ذكر من جواب متى إلى آخره تقدم له مما يصلح أن يكون جواب متى أعلام الشهور غير المضاف إليها شهر، والأبد، والدهر، والليل، والنهار. ثم قال: وما سوى ما ذكر، وذلك نحو: اليوم، والليلة، ويوم الجمعة، وليلة الجمعة، وأسماء أيام الأسبوع، وأشباه ذلك، تقول: صام زيد اليوم، ولقيت زيداً اليوم، وسار زيد اليوم، فالأول يعم، والثاني وقع الفعل في بعضه، والثالث يحتمل أن يكون السير مستغرقاً لليوم، ويحتمل أن يكون وقع في بعضه؛ لأن المظروف الذي هو السير صالح للتعميم والتبعيض.

وكون ما يكون العمل في جميعه هو ظرف، وانتصب انتصاب الظروف- هو مذهب البصريين. وزعم الكوفيون أنه ليس بظرف، وأنه انتصب انتصاب المشبه بالمفعول؛ لأن الظرف عندهم ما انتصب على تقدير في، وإذا عم الفعل الظرف لم يتقدر عندهم فيه في؛ لأن في تقتضي عندهم التبعيض، فلا يجوز عندهم: صمت في يوم الجمعة، ولا: يوم الجمعة صمت فيه، ولا: سرت في ثلاثة أيام، إذا كان السير يستغرق الثلاثة الأيام، وإنما جعلوه مشبهاً بالمفعول لا مفعولاً به لأنهم رأوه ينتصب بعد الأفعال اللازمة.

ص: 286

وما ذهبوا إليه باطل؛ لأنهم بنوه على أن في تقتضي التبعيض، وهي إنما هي للوعاء، قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} ، فأدخل في على الأيام، والعمل متصل فيها؛ بدلالة قوله تعالى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} ، وقال تعالى {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} ، فأدخل في على ضمير الأيام والليالي مع أن الرؤية متصلة في جميعها.

وفي الإفصاح: «الكوفيون لا يجيزون: صمت في يوم الخميس، ولا: قرأت في يوم الخميس، إذا استوعبت، ويقولون: في تقتضي التبعيض، كما تقول: جلست في الدار. والكوفيون في ذلك على غير صواب؛ فإن العرب تقول: تكلمت في القوم أجمعين، وسرت في بعض النهار، وصمت النهار، فيستوعبه.

وقبل هذا القول منهم ابن الطراوة، وزاد: إنك إذا نصبت ما لا تدخل عليه «في» في مذهبهم فإنما تنصبه على أنه مفعول به، نحو: سرت ميلاً، وفرسخاً، وبريداً، ونحو: صليت المحرم. وهذا كله ليس بشيء؛ لأن المقصود بالظرفية الوقوع في الوقت استوعبه أو لم يستوعبه» انتهى.

وهذا تقسيم لظروف الزمان اختصرناه من كلام أصحابنا: ظرف الزمان ثلاثة أقسام:

قسم يقع جواب /كم لا جواب متى، وهو ما كان موقتاً غير معرف ولا مخصص بصفة، والعمل فيه جميعه لا بعضه، ولا يعمل فيه إلا ما يتكرر ويتطاول.

ص: 287

وقسم يقع جواب متى، وهو ما كان معرفاً أو مخصصاً، وهو قسمان: غير معدود: ويكون العمل فيه جميعه، وفي بعضه، ومنه شهر مضاف إلى أسماء الشهور، وأسماء أيام الأسبوع. ويعمل فيه ما يتطاول وما لا يتطاول. ومعدود: ولا يكون العمل إلا في جميعه، ومنه أعلام الشهور غير المضاف إليها شهر، ولفظ شهر نكرة أو معرفاً بأل.

وقسم لا يصح وقوعه جواباً لـ «كم» ولا جواباً لـ «متى» ، وهو ما كان غير موقت ولا مخصص، نحو: حين، ووقت. وهذا النوع من قبيل ما يقع العمل فيه كله؛ لأنه يراد به من الزمان القدر الذي وقع فيه الفعل.

وفي البسيط ما ملخصه: الظرف صالح للاتصال، وغير صالح له، ومحتمل الأمرين: الأول معدود ومفرد ومعطوف، المعدود كاليومين والشهرين وشهرا ربيع، وكذلك المجموع، لا تقول: لقيته يومين، ويصح: سرت يومين. والمفرد ما وضع للتكثير أو للعدد، والتكثير كالدهر والأبد، ويكون للاتصال حقيقة أو مجازاً. وللعدد أسماء الشهور كالمحرم، كأنه وضع لثلاثين يوماً، وكذلك الأسبوع. وقيل: منه أسماء الأيام، فلا تقول: لقيته الأربعاء؛ فإنه اسم لعدد الساعات، وتقول: سرت الأربعاء، فإن أردت عدم الاتصال قلت: لقيته يوم الأربعاء، وشهر رمضان لغير الاتصال، ورمضان للاتصال، خلافاً للزجاج؛ إذ ذهب إلى أن أسماء الشهور ليست للاتصال، بل هي كالسنة والعام، تكون لغير الاتصال، تقول: لقيته العام الأول، فكذلك هذه، فلا تفيد الاتصال إلا بالعطف، وقد ذكر س الاتصال في أسماء الشهور، فكان حجة على الزجاج. والمتسع فيه من هذا النوع لا يكون إلا للاتصال، نحو: القتال شهران. فأما {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فعلى حذف، كأنه

ص: 288

قال: مواقيت الحج، أو الحج حج أشهر. وقالوا: الحر شهران، والبرد شهران. وأما:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} فعلى الحذف، أي: مدة حمله وفصاله.

ومثل المحرم الشتاء والصيف، هو للاتصال المعطوف، [تقول]: سرت الليل والنهار، ولا تقول: لقيته الليل والنهار، والشتاء والصيف. ولا يلزم في هذه العطف؛ لأنه بانفراده دال على الاتصال، بخلاف الليل والنهار، فإن وقع ما لا يكون متصلاً يؤول، نحو:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} ، {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يريد: تمام ذلك العدد، أو: تتمة هذا، ومثله:

لقد أتى في رمضان الماضي

جارية في درعها الفضفاض

يريد: في شهر رمضان، ولذلك منع الزجاج أن يكون {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} منصوباً بـ {كُتِبَ} . /وأجازه الفراء وغيره، ومنه قولك: ولد لفلان الولد في ستين عاماً، أي: لاستكمال الستين. وقد يتجوز بالظرف على هذا المعنى كما قالوا: ولد له ستون عاماً.

ص: 289

وأما ما هو غير صالح للاتصال فالضيق من الزمان الذي لا يسع تكرار الفعل، كالآن والساعة والبكرة، وهذا يصح أن يقرن به فعل الاتصال، كسرت الساعة، وغير الاتصال، كلقيتك الساعة.

وأما المحتمل فكاليوم والشهر والسنة والعام، فيصح أن يقع الفعل فيه كله، وفي جزء منه، فتقول: سرت العام، ولقيتك العام، وسواء أقارن الظرف في أم لم تقارن.

فإن استغرق الفعل الظرف فالبصريون يجيزون فيه الظرف والتوسع، فتقول: الصوم يوم الخميس، رفعاً ونصباً. ومنع الكوفيون النصب، يعنون على الظرف.

وإن كان في بعضه جاز الرفع والنصب، نحو: رحيلنا يوم الخميس، لكن النكرة الرفع فيها الأكثر، قال تعالى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} .

وذكر بعضهم أن الاتساع للاتصال لا لغيره، فتقول: القتال اليوم، ولا تقول: اللقيا اليوم.

وجواب كم نكرة ومعرفة، يقول: كم سرت؟ فتقول: الشهر كله، أو: المحرم.

وزعم ابن السراج أن جواب كم نكرة. ويحمل على أنه أراد الأصل، فتكون المعرفة فيه فضلاً وزائداً على الحاجة، والزيادة لا تفسد، كما يأتي في جواب «أزيد عندك أم عمرو» بالاسم، وإن كان الأصل: نعم، أو: لا.

وجواب متى معرفة؛ لأن المراد التعريف بالوقت، بخلاف كم؛ لأن المراد العدد.

ص: 290

-[ص: فصل

وفي الظرف ظروف مبنية لا لتركيب، فمنها إذ للوقت الماضي لازمة الظرفية، إلا إن أضيف إليها زمان، أو تقع مفعولاً بها، وتلزمها الإضافة إلى جملة، وإن علمت حذفت، وعوض منها تنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر، خلافاً للأخفش. ويقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض. وتجيء للتعليل، وللمفاجأة. وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها، وكلاهما عربي. وتلزم بينا وبينما الظرفية الزمانية والإضافة إلى جملة، وقد تضاف بينا إلى مصدر.]-

ش: لما تكلم قبل في الظروف المعربة والمبنية أخذ في الكلام على الظروف المبنية، فذكر منها إذ. والدليل على اسميتها الإخبار بها، والإبدال منها، وتنوينها في غير ترنم، والإضافة إليها بلا تأويل، نحو: مجيئك إذ جاء زيد، ورأيتك أمس إذ جئت، ويومئذ، و {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} . وبنيت لافتقارها إلى ما بعدها من الجمل، أو لما عوض منها، وعلى رأي المصنف لوضعها على حرفين.

وقوله للوقت الماضي هذا أصل وضعها، وسيذكر المصنف خروجها عن هذا الوضع بمجيئها للتعليل وللمفاجأة /وبمعنى إذا الاستقبالية، إن شاء الله.

ص: 291

وقوله لازمة الظرفية يعني أنها لا تتصرف بأن تكون فاعلة أو مبتدأة.

وقوله إلا إن أضيف إليها زمان لما كانت تدل على مطلق الزمان الماضي أضيف إليها ما يحصل لها به تخصيص، نحو يوم وليلة وساعة، أو مرادفها، نحو حين، فيكون من إضافة الشيء إلى مرادفه لاختلاف اللفظين، وكأنها لم تخرج بذلك عن الظرفية.

وقوله أو تقع مفعولاً بها وكونها تقع مفعولاً بها جعله المصنف من الدلائل على اسميتها، ومثل ذلك بقوله تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} . وهذا الذي ذكره المصنف من أن إذ تقع مفعولاً بها ذهب إليه جماعة من البصريين، منهم الأخفش والزجاج، وخصوصاً فيما ورد من ذلك في القرآن، ولم يمكن عندهم أن ينتصب على الظرف؛ لأن اذكر مستقبل، ومحال وقوع المستقبل في الماضي.

وفي البسيط: «إنه مفعول باذكر» . قال: «ولا يريد تعيين الزمان، وإنما يريد الواقع فيه، واستغنى عن ذكر الواقع بكون إذ مضافة إليه» انتهى.

والذي أذهب إليه أن استعمال إذ مفعولاً بها لا يجوز؛ إذ لا يوجد من كلامهم نحو: أحببت إذ قدم زيد، ولا: كرهت إذ قدم، وإنما ذكروا ذلك مع اذكر لما اعتاص عليهم ما ورد من ذلك في القرآن، وتخريجه سهل، وهو أن تكون إذ معمولة لمحذوف يدل عليه المعنى، أي: واذكروا حالكم أو قصتكم أو أمركم، وقد

ص: 292

جاء بعض ذلك مصرحاً به، قال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} ، فـ «إذ» ظرف معمول لقوله:{نِعْمَةَ اللَّهِ} ، وهذا أولى من إثبات حكم كلي بمحتمل بل بمرجوح.

وقوله وتلزمها الإضافة إلى جملة الجملة تكون خبرية فعلية مصدرة بماض أو بمضارع في معنى الماضي، واسمية من مبتدأ وخبر، كقوله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} ، فأما قولهم:«قمت إذ ذاك» ، و «فعلت إذ ذاك» ، كما قال:

هل ترجعن ليال، قد مضين، لنا

والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا

فليست مضافة إلى مفرد بل إلى جملة، والتقدير: إذ ذاك كذلك، كما حذف الخبر في قوله:

أيام جمل خليلاً، لو يخاف لها

هجراً لخولط منه العقل والجسد

والتقدير: أيام جمل أكرم بها خليلاً. وإذا جاز هذا في أيام مع صحة إضافتها إلى المفرد فهو فيما لا يضاف إلا إلى الجملة أجدر؛ لأن الدلالة عليه أقوى.

ص: 293

ولا تضاف إلى الجملة الشرطية سواء أكانت فعلية، نحو قولك: أتذكر إذ إن تأتنا نكرمك، أو /اسمية، نحو قولك: أتذكر إذ من يأتك نكرمه، فإن اضطر شاعر جاز أن تليها الجملة الشرطية.

وقوله وإن علمت حذفت وعوض منها تنوين أي: وإن علمت الجملة حذفت. والذي يظهر من قواعد العربية أن هذا الحذف جائز لا واجب، فإذا حذفت عوض منها تنوين. والدليل على العوضية كونهما لا يجتمعان. قال المصنف في الشرح:«حق تنوين العوض أن يكون عوضاً من بعض كلمة، كتنوين يعيل مصغر يعلى، فإنه عوض من لام الكلمة، وكتنوين جندل، فإنه عوض من ألف جنادل، فلما كانت الجملة التي تضاف إليها إذ بمنزلة الجزء منها، وحذفت- عوملت في التعويض منها معاملة جزء حقيقي» .

وقوله وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر، خلافاً للأخفش وذلك أنهم لما عوضوا التنوين التقى الساكنان، هو وذال إذ، فكسر لالتقاء الساكنين، كما كسروا صه حين نونوه تنوين التنكير.

وزعم أبو الحسن أن هذه الكسرة كسرة إعراب، وأن إذ معربة إذ ذاك، لما أضيف إليها اسم الزمان وحذفت الجملة بعدها أعربت، وجرت بالإضافة. قال المصنف:«وأظن حامله على ذلك أنه جعل بناءها ناشئاً عن إضافتها إلى الجملة، فلما زالت من اللفظ صارت معربة» .

وقد رد مذهب الأخفش بوجوه:

ص: 294

أحدها: أنه قد سبق لإذ حكم البناء، والأصل استصحابه حتى يقوم دليل واضح على إعرابه.

الثاني: أن العرب قد بنت الظرف المضاف لإذ، ولا علة لبنائه إلا كونه مضافاً لمبني، فلو كانت الكسرة إعراباً لم يجز بناء الظرف.

الثالث: أن العرب قالت: يومئذاً، بفتح الذال منوناً، عدل في البناء إلى الفتح لطلب التخفيف، فلو كان إذ منجراً بالإضافة إعراباً لم يجز فتحه؛ لأنه إذ ذاك مخفوض بالإضافة، فتظهر فيه الكسرة، ولما كان مبنياً بنوه مرة على الكسر على أصل التقاء الساكنين، ومرة على الفتح طلباً للتخفيف.

الرابع: قول العرب: كان ذلك إذ، بغير إضافة شيء. وقال الشاعر:

نهيتك عن طلابك أم عمرو

بعاقبة، وأنت إذ صحيح

وتأوله الأخفش على تقدير مضاف محذوف، أي: وأنت حينئذ صحيح.

ورد هذا التأويل بأنه لا يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على إعرابه إلا بشرط أن يكون معطوفاً على مثله؛ نحو: ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك. فإن فات هذا الشرط /كان الحذف نادراً، نحو: رأيت التيمي تيم زيد، وقول

ص: 295

العرب «كان ذاك إذ» من الكلام الدائر في لسانهم، فلا ينبغي أن يحمل على النادر.

ورد أيضاً بأن إبقاء المضاف إليه على إعرابه من الجر إذا حذف المضاف إليه قليل بالنسبة إلى إعرابه بإعراب ما أضيف إليه، وله مع إعرابه بإعراب ما أضيف إليه شرط، وهو أنه لا يصلح أن يؤدي ما يؤدي المحذوف؛ ألا ترى تباين أهل والقرية في قوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، فإذا كان شرطاً في هذا فأحرى أن يكون شرطاً فيما بقي مجروراً بعد الحذف، وحين وإذ معناهما واحد، وتصلح إذ لما تصلح له حين، فلا يجوز فيها الحذف.

وقوله ويقبح أن يليها اسم بعده فعل ماض مثاله: كان ذلك إذ زيد قام، فهذا قبيح. فإن وليها اسم بعده مضارع، نحو: إذ زيد يقوم، أو ماض، نحو: إذ قام زيد، أو مضارع، نحو: إذ يقوم زيد- كان ذلك حسناً. وعللوا قبح ذلك بأنه لما كانت هي ظرف زمان لما مضى، وكان الفعل الماضي مناسباً له في الزمان وفي دلالة الماضي عليه بلفظه، وكانا في جملة واحدة- لم يحسن الفصل بينهما، بخلاف ما سواه من حيث الصيغة، وإن كان الزمان واحداً.

وقوله وتجيء للتعليل ثبت في بعض النسخ: وتجيء حرفاً للتعليل. قال المصنف في الشرح: «كقوله تعالى {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَاوُوا إِلَى

ص: 296

الْكَهْفِ}، وكقوله:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ} ، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ}. ومثله قول الشاعر:

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر

وأشار إليها س، فقال في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي:(إن أن في قولهم أما أنت منطلقاً انطلقت بمعنى إذ، وإذ بمعنى أن، إلا أن إذ لا يحذف فيها الفعل، و «أما» لا يذكر بعدها الفعل المضمر)، هذا نصه» انتهى كلام المصنف.

وقال الأستاذ أبو علي: قال بعض المتأخرين: إن إذ تستعمل بمجرد التسبيب معراة من الظرفية، وزعم أنه مراد س بقوله «لأنها في معنى إذ في هذا الموضع، وإذ في معناها أيضاً» ، واستشهد على ذلك بقوله تعالى:{وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} ، وقال: محال أن تكون ظرفاً؛ لأن الفعل المستقبل لا يقع في الظرف الماضي، فإنما هي لمجرد التسبيب. ومثله قول الشاعر:

ألا رجلاً، أحلوه رحلي وناقتي

يبلغ عني الشعر إذ مات قائله

ص: 297

والجواب أن كلام س لا دليل فيه على ما ذكر، وإنما معناه: لأنها في معنى إذ في السببية ليس غير، بل ظواهر الكتاب في غير هذا الموضع تدل على أنها /لا تخرج من الظرفية. وأما البيت والآية فلا دليل فيهما؛ لأن العامل في إذ في الآية محذوف، والتقدير: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب وجب لكم ذلك إذ ظلمتم أنفسكم بالكفر والطغيان، فإذ ظرف ماض، فيه معنى التسبيب، وكذلك لا يكون التقدير في البيت وأمثاله. انتهى. ودل على أن ما اختاره المصنف هو قول لبعض المتأخرين، وأن ظاهر كلام س مخالف لهذا القول.

وقوله وللمفاجأة ثبت في بعض النسخ بعد هذا ما نصه: وليست حينئذ ظرف مكان ولا زائدة، خلافاً لبعضهم. أما كونها للمفاجأة فذكر ذلك ابن جني، قال ابن جني في بينما زيد قائم إذ قعد عمرو:«قعد ينصب إذ؛ لأنها ليست بمضافة إليها، إنما هي الآن للمفاجأة، فهي على حد الشرط» انتهى.

ويظهر من كلام المصنف في الفص والشرح أنها لا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما. ومذهبه فيها أنها حرف إذا كانت المفاجأة.

وذهب كثير من النحويين إلى أنها زائدة في مثل قوله:

بينما نحن بالأراك معا

إذ أتى راكب على جمله

ص: 298

وقوله:

بينا كذلك، والأعداد وجهتها إذ راعها لحفيف خلفها فزع

ويأتي تأويل هذا البيت وما أشبهه إن شاء الله.

وحكى هذا المذهب السيرافي عن بعضهم. وحكى أيضاً أن بعضهم جعلها ظرف مكان، وكأن هذا قاسها على «إذا» إذا كانت للمفاجأة في نحو: خرجت فإذا الأسد، فإن كثيراً من أصحابنا ذهبوا إلى أنها ظرف مكان، وعزوه إلى س.

وقال المصنف: «المختار عندي الحكم بحرفيتها» . وإلى ذلك ذهب الأستاذ أبو علي في أحد قوليه.

والذي نختاره نحن خلاف قوله، وأنها ظرف زمان على حالها التي استقرت لها، ولا نخرجها إلى الزيادة ولا إلى الحرفية ولا إلى كونها ظرف مكان؛ لأنه يمكن إقرارها ظرف زمان على ما نبينه، إن شاء الله.

وقوله وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها إنما كان أقيس لأن المعنى يستفاد بدونها، ولوضوح بيان العامل في بينا وبينما، وهو ما يشبه الجواب في نحو: بينما زيد قائم أقبل عمرو، فالناصب لـ «بينما» هو أقبل.

ص: 299

وبعضهم يطلق عليه جواباً، وليس بجيد؛ لأنّ ذلك ليس بشرط، ولو كان شرطاً لم يسغ أن يقال إنه يعمل فيه الجواب، وأمّا مع وجود إذْ فلا يمكن أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، سواء أكانت حرفاً أم ظرفاً؛ لأنه إذا كانت حرفاً للمفاجأة فلا يعمل ما بعد المفاجأة فيما /قبلها، وإن كانت ظرفاً فما بعدها مضافٌ إليه، والمضاف إليه شيءٌ لا يعمل فيما قبله، فلذلك ذكروا أنّ بينما وبينا ينصبهما فعلٌ يقدَّر مما بعد إذْ، ويكون ما بعد إذْ يفسِّر ذلك العامل، فيقدّر في مثل بينما زيدٌ قاعدٌ إذْ أقبلَ عمرٌو العامل في بينما أقبلَ محذوفة، ويفسّرها قوله: إذْ أقبلَ عمرٌو، نص علي ذلك ابن جِنِّيْ وابن الباذَش وغيرهما من أصحابنا.

وأمّا مَن جعل إذْ زائدة فالعامل في بينما وبينا العامل المذكور بعد إذ الزائدة، وذلك واضح. وإلي زيادة إذْ ذهب أبو عبيدة، وحمل عليه إذْ في القرآن في قوله {وَإِذْ قُلْنَا} حيث وقع في أول الكلام. وردَّه الزَّجّاج، وقال:«هذا إقدام منه في القرآن» . وقال س: «بينا أنا كذا إذْ جاءَ زيدٌ، فهذا لِما تُوافِقُه وتَهجُم عليه» .

ومثال تركها بعد بَيْنا قول الشاعر:

[فَبَينا نحُن نرْقبُهُ أَتانا

مُعَلِّقَ وَفْضةٍ وزِنادَ راعِ]

ص: 300

وقال آخر:

فَبَيْنا تَمارِينا وعَقْدُ عِذارِهِ

خَرَجْنَ علينا كالجُمانِ المُثَقّبِ

ومثالُ تركها بعد بَيْنَما قولُ الشاعر:

[بينما نحنُ مُرْتعُونَ بفَلْج

قالت الدُّلِّحُ الرِّواءُ: إِنيهِ]

ومثالُ ذكرها بعد بَيْنا قولُ الشاعر:

وكنتَ كَفَيْءِ الغُصْنِ، بَيْنا يُظِلُّنِي

ويُعْجِبُنِي إذْ زَعْزَعَتْهُ الأَعاصِرُ

ومثالُ ذكرها بعد بَيْنما قولُ الشاعر:

بَيْنَما الناسُ علي عَلْيائها

إذْ هَوَوْا في هُوَّةٍ فيها فَغارُوا

وقال الآخر:

اسْتَقْدِرِ اللهَ خيراً، وارْضَيَنَّ بهِ

فبَيْنَما العُسْرُ إذْ دارَتْ مَياسيرُ

ص: 301

وقوله وكلاهما عربيّ يعني ألّا تأتي بإذْ وأن تأتي بها. وكان الأصمعي يؤثر تركها علي ذكرها. وعن أبي

عمرو: ولا يجاوب بإذْ. وقال أبو علي: الظاهر أنه لا يجوز؛ لأنَّ العامل في بينما وبينا بعد إذْ، وهو مضاف، [وما بعد المضاف لا يعمل فيما قبله]. ثم أجازه أبو على علي إضمار عامل يدلُّ عليه المضاف، وشبهه بقوله تعالي {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} الآية، وقولِه {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} ، وقولِ الشاعر:

أبا خُراشةَ .................... ..............................

البيت، التقدير: إذا مُزِّقْتُم تُجَدَّدون، فإذا نُفخ في الصور يَتَناكَرون، وأتَفخَرُ أن كنت.

[3: 172/ب] وقال الأستاذ أبو علي: اللغويون / يمنعون: بينما أنا كذلك إذْ جاء فلان، وقالوا: الصواب: جاء، دون إذ. وقد حكاه س. وهو مشكل لاحتياج بينَ إلي عامل، وكذلك إذْ، ولا يصح إعمال إذْ لأنه مضاف إليه، فلا يعمل فيما قبله.

ص: 302

قال الأستاذ أبو علي: وأقول: إنّ العامل في بينَ ما يُفهم من معني الكلام. وأقول في إذْ: إنها بدل من بين، أي: حينَ أنا كذلك حينَ جاء زيدٌ وافقتُ مجيءَ زيد.

وقال الفراء في قوله تعالي: {إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} : «العرب تجعل إذا تكفي من فعلت، وهذا الموضع من ذلك، اكتُفي بإذا من فعلوا» . قال: «وكذلك يفعلون بإذْ» . قال: «وأكثر الكلام أن تطرح إذْ» .

وقوله وتلزم بينا وينما الظرفية الزمانية أصل بينَ أن تكون ظرفاً للمكان، وتتخلل بين شيئين أو ما في تقدير شيئين أو أشياء، ثم إنها استُعملت لمّا لحقتها ما أو الألف ظرف زمان، وصرَّح بعض أصحابنا أنها ظرف زمان بمعني إذْ.

وقوله والإضافة إلي جملة الجملة تارة تكون اسمية، نحو الأبيات التي أنشدناها، وتارة تكون فعلية، وذلك قليل، تقول: بينَما أَنصَفَنِي ظَلَمَنِي، وبينَما اتَّصَلَ بي قَطَعَنِي. وزعم ابن الأنباري أنّ بينَ يُشرَط بها في مثل هذين المثالين.

وزعم بعض النحويين أنَّ «بَينا» إنما تضاف إلي الجملة الإبتدائية، وحَمل قولَه:

بينا أُنازِعُهُمْ ثَوِبي، وأَجْذِبُهُمْ

إذا بَنُو صُحُفٍ بالحَقِّ قد وَرَدُوا

ص: 303

وقول حُرْقة بنت النعمان:

فبَينا نَسُوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا ...............

وقول الشَّمّاخ (:

بَينا كَذاكَ رَأّيْنَنِي مُتَعَصَّباً

بالْخَزِّ فَوقَ جُلالةٍ سِرْداحِ

علي تقدير: بَينا أنا، وقولَ الآخر:

بَينا تُراعِيهِ بِكُلِّ خَميلةٍ

يَجري عليها الطَّلُّ، ظاهِرُها نَدِي

غَفَلَتْ، فَخالَفَها السِّباعُ، فلَمْ تَجِدْ

إلا الإرهابَ، تَرَكْنَهُ بِالْمَرْقَدِ

وقولَ زهيرَ:

فَبَينا نُبَغِّي الصَّيدَ جاءَ غُلامُنا

يَدِبُّ ويُخفي شَخصَهُ ويُضائلُهْ.

علي إضمار نحن. ولا دليل.

واختلف النحويون في الجملة التي تقع بعد بينا أو بينما علي ثلاثة مذاهب: أحدهما: أنها في موضع خفض بالإضافة، وبَينا وبَينَما مضافان إلي الجملة نفسها دون حذف مضاف له لكثرة وجود ذلك.

ص: 304

وذهب ابن جني وشيخه أبو علي إلي أنّ إضافتها إلي الجملة علي تقدير حذف زمان مضاف إلي الجملة؛ لأنّ المضاف إلي الجمل ظرف الزمان دون ظرف المكان، ولأنّ «بينَ» تقع علي أكثر من واحد؛ لأنها وسط، فلا بدَّ من اثنين فما فوقهما، / وتقديره: بَينا أَوقاتِ زيدٌ قائمٌ عمرٌو، وهو اختيار أبي الحسن بن الباذش. [3: 173/أ]

المذهب الثاني: أنّ «ما» كافّة بدليل عدم الخفض بعدها. فإنْ وليها مفردٌ فبشرط المصدرية، ولا يجوز فيه سَمع الأصمعي غير الخفض. أو جملةٌ فلا موضع لها من الإعراب، وأنّ ألف بَينا إنْ وَلِيَتْها الجملة فالألف إشباع- والجملة في موضع خفض بالإضافة- لا كافّة ولا للتأنيث، فوزنها فَعْلاً، خلافاً لزاعمي ذلك؛ لأنَّ كون الألف كافّة لم يَثبُت، وثَبت كونها إشباعاً في رواية:

بَينا تَعانُقِهِ الكُماة ............. ..............

ولأنّ كون الألف للتأنيث فاسد؛ لأنّ الظروف كلها مذكّرة إلا ما شذّ، وهو قُدّام ووَراء، والقول بذلك يؤدي إلي الدخول في الشاذّ من غير داعية. وهذا هو المذهب المختار عند أصحابنا.

ص: 305

ورَدُّوا على ابن جِنِّيْ بأمرين:

أحدهما: أنَّ العرب لا تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه إلا في المفردات.

والآخر: أنها لم تضفها لمفرد حتى يكون مصدراً، ولم تضفها لزمان، وقول ابن جني «إنّ الظرف في الزمان يشبه المصدر» . ليس بمسوِّغ إضافة بينا إليه؛ لأنه ليس فيه دلالة علي معني الفعل المقتضي للجواب كما في المصدر دلالة عليه.

فإن قلت: إنما تضاف بينَ إلي شيئين فصاعداً، فلذلك لزم أن يقدر: بَينا أوقاتِ زيدٌ قائمٌ.

فالجواب: أنها قد تضاف إلي الواحد المتجزِّئ، فكذلك تضاف إلي الجملة، فـ «بَينا زيدٌ قائمٌ» في المعني بمنزلة: بَينا قيامُ زيد، وبَينا تضاف إلي المصدر لأنه متجزِّئ، فكذلك إلي الجملة.

وقوله وقد تُضاف بَينا إلي المصدر اختصاصه بَينا دون يدلُّ علي أنَّ حكمهما في ذلك مختلف.

فأمّا بَينما فجعلها بعضهم من قبيل ما لا يليه إلا الجملة، وهو ظاهر كلام المصنف.

وذهب بعضهم إلي أنها من قبيل ما تليه الجملة تارة والمفرد أخري، فأجازوا بَينما قيامِ زيدٍ قامَ عمرٌو. والصحيح أنه لا يجوز؛ لأنه لم يُسمع، ولا يسوغ قياس بَينَما علي بَينا.

وتخصيصه جواز إضافة بَينا إلي المصدر دليل علي أنه لا تجوز إضافته إلي الجُثَث، والحكم كذلك لا يجوز في الجثة الخفض بحال. والسبب في أنَّ بَينا لا يليها إلا الجملة، أو المفرد بشرط- أنها تستدعي جواباً، فلم يقع بعدها إلا ما يعطي معني الفعل، وذلك الجملة، والمصدر من المفردات.

ص: 306

ومثال إضافة بينا إلي المصدر قول الشاعر:

بَينا تَمارِيهمُ أُرْسِلَتْ

علي شَبَهِ الرَّأيِ لَمْ تَسْتَبِنْ

وقول الآخر:

/بَينا تَعانُقِهِ الكُماةَ ورَوْغِهِ

يَوماً أُتِيحَ لَهُ كَمِيُّ سَلْفَعُ [3: 173/ب]

قال المصنف: «ويروي تَعَنُّقُه بالرفع علي الابتداء، والخبر محذوف» ، وأنشده المصنف تَعَنُّقه بالخفض، ولم يعرف الأصمعي في تَعانُقه الرفع، وزعم [أنَّ] ابن أبي طَرَفة الهذلي أنشده تَعانُقِه بالخفض، وكان من أفصح الناس.

قال ابن عصفور: «وزعم أبو محمد بن السَّيْد أنَّ رواية الخفض غير جائزة؛ لأنَّ تَعانُقاً مصدر تَعانَقَ، قال: وتَفاعَلَ لا يتعدي. وهذا الذي ذهب إليه باطل، بل في ذلك تفصيل، وهو أنَّ التاء الداخلة علي فاعَلَ لا تخلو أن تكون داخلة عليه وهو متعدٍّ إلي اثنين أو إلي واحد، فإن كان متعدياً إلي اثنين صار يتعدي إلي واحد، نحو: عاطَيتُ زيداً الدرهمَ، وإذا أدخلت التاء قلتَ: تَعاطَيتُ الدرهمَ أنا وزيد. وإن كان متعدياً إلي واحد صار غير متعدٍ، نحو: ضارَبَ زيدٌ عمراً، تدخل عليه التاء، تقول: تَضارَبَ زيدٌ وعمرٌو، وقد تدخل علي المتعدي إلي واحد فيبقي علي حاله، نحو قولك: تجاوزني موضع كذا، ومنه:

ص: 307

تَجاوَزتُ أَحْراساً وأَهْوالَ مَعْشَرٍ .................

ووجهه عندي ألَّا تقدر التاء داخلة علي فاعَلَ، بل هي أصل بنفسها، فكذلك تَعانق يكون من هذا القبيل، إلا أن ذلك مما يحفظ ولا يقاس عليه» انتهي كلام ابن عصفور. ويعني بقوله «بل هي أصل بنفسها» .

أنها بُنيت الكلمة عليها، ونُطق بها أولُ علي تَفاعَلَ لا علي أنَّ الأصل كان فاعَلَ، ثم أُدخلت التاء.

وقال استاذنا أبو جعفر بن الزبير: «لم يتعرض ابن السِّيْد لذكر خفض في تَعانُق ولا غيره، لا في النقد ولا في شرح الأبيات، إنما قال: «وقع في نسخ الكتاب تَعانُقه، وهكذا قرأناه، وهو غلط» . وقال في شرح الأبيات: «ووقع في نسخ الجمل تَعانُقه بالألف وهو خطأ، والصواب تَعَنُّقه، وكذا وقع في شعر أبي ذؤيب؛ لأنَّ تَعانَقَ لا يتعدي إلي مفعول، إنما يقال: تَعانَقَ الرجلان» .وقال في النقد مثل هذا. ويمكن أن ينفصل عنه بما ذكره ابن عصفور، إلا أنَّ ذلك غايته أن يكون علي الإمكان، فتمام هذا الانفصال إنما هو ما أبداه ابن سِيْدَه في «شرح الأبيات» من أنه يقال: تَعانَقتُه وتَعَنَّقتُه، بمعنًي واحد متعديين إلي مفعول» انتهي كلام الأستاذ أبي جعفر، رجمه الله.

وبإضافة «بَينا» . إلي المصدر احتج أبو عليَّ علي أنَّ «بَينا» ليست محذوفة من بينَما كما قال بعضهم؛ لأنَّ بينما لا تضاف، وإنما هي مكفوفة بـ «ما» داخلة علي الجملتين.

وقد يُحذف الخبر الذي للمبتدأ في هذا الباب لدلالة المعني عليه، نحو قوله:

ص: 308

............... فبَينَما العُسْرُ إذْ دارَتْ مَياسِيرُ

كما قد يُحذف الجواب لدلالة /المعني عليه، كما قال مَصَادُ ابن مَذعُور:[3: 174/أ]

فَبَينا الفَتَي في ظِلِّ نَعْماءَ غَضّةٍ

تُباكِرُهُ أَفْياؤها وتُراوِحُ

إلي أَنْ رَمَتْهُ الحادِثاتُ بِنَكْبةٍ

تَضيِقُ بِهِ مِنها الرِّحابُ الفَّسائِحُ

-[ص: ومنها «إذا» للوقت المستقبل مضمَّنةً معني الشرط غالباً، لكنَّها لِما تُيُقِّنَ كونُه، أو رُجِّح، بخلاف «إنْ»، فلذلك لم تَجزم غالباً إلا في شعر، وربما وقعتْ موقع «إذْ»، و «إذْ» موقعها. وتضاف أبداً إلي جملة مصدَّرة بفعلٍ ظاهر أو مقدَّرٍ قبلَ اسمٍ يليه فعلٌ، وقد تُغني ابتدائيةُ اسمٍ بعدَها عن تقدير فعل وِفاقاً للأخفش. وقد تفارقها الظرفية مفعولاً بها، أو مجرورةً بحتي، أو مبتدَأةً. وتدلُّ علي المفاجأة حرفاً لا ظرفَ زمان، خلافاً للزَّجّاج، ولا ظرفَ مكان، خلافاً للمبرد، ولا يليها في المفاجأة إلا جملةٌ اسمية. وقد تقع بعد «بَينا» و «بَينَما».]-

ش: استَدلَّ علي اسمية إذا بدلالتها علي الزمان دون تعرض للحدث، وبالإخبار معها بالفعل، نحو: القيامُ إذا طلعت الشمس، وبإبدالها من اسم صريح، نحو: أجيئك غداً إذا طلعت الشمس. قال المصنف في الشرح: «وبوقوعها مفعولاً بها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، رضي الله عنها: (إني لأَعلَمُ إذا كُنتِ عني راضيةً، وإذا كُنت عليَّ غَضْبَي)» انتهي. ولا دليل في ذلك؛ لأنَّ مفعول علمت

ص: 309

محذوف، يدل علي المعني، وإذا ظرفٌ علي بابها، والتقدير: إني لأعلم حالك معي في وقت رضاك وفي وقت غضبك.

وقوله مضمَّنةً معني الشرط غالباً ولتضمُّنها معني الشرط. وقعت الفاء بعدها علي حدٍّ وقوعها بعد أداة الشرط، نحو: إذا جاء زيدٌ فَقُمْ إليه. وكَثُرَ مجيء الماضي بعدها مراداً به المستقبل، وغيرها من الظروف نحو حين ووقت لا يجوز فيه ذلك، لو قلت: حينَ جِئتَنِي أَكرَمتُك، لم يكن إلا ماضي اللفظ والمعني.

واحترز بقوله غالباً من ألا تتضمن معني الشرط في بعض مواردها، بل تتجرد للظرفية المحضة، نحو قوله تعالي {أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} ، {وَاللَّيْل إِذَا سَجَى} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ، والماضي بعدها بمعني المستقبل، كما كان إذا كانت شرطية.

وزعم الفراء أنَّ «إذا» لا يكون بعدها الماضي إلا إذا كان فيها معني الشرط والإبهام، لو قلت: أكرمتُك إذا زُرتَنِي، تريد: إذ زرتَنِي لم يصحّ، وكذلك: لأضربَنَّ هذا الذي ضربَك إذا سَلَّمت عليه، فلو قلت: لا تضربْ إلا الذي ضربَك إذا سَلَّمت عليه، لجاز؛ لأنك أَبْهَمتَ، ولم تُوَقِّت. وكذلك: كنتَ صابراً إذا ضُربتَ، علي معني: كُلَّما ضُربتَ صَبَرتَ، ولو أردت زمناً مخصوصاً بمنْزلة إذْ لم يجز، [2: 174/ب] ومنه قوله /تعالي {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} ، كأنه قال: كُلَّما ضَربوا في الأرض، أي: لا تكونوا كهؤلاء إذا ضَرب إخوانُهم في الأرض.

ص: 310

وقوله لكنَّها لِما تُيُقِّنَ كَونُه أي: وجوده، نحو: آتيك إذا احمرَّ البُسْرُ. أو رُجِّح، آتيك إذا دَعَوتَنِي، ولا تقول: آتيك إنِ احمرَّ البُسْرُ.

وقد تُستعمل «إذا» في غير المقطوع بوقوعه، وذلك قليل، نحو قوله:

إذا أنتَ لَمْ تَنْزِعْ عنِ الجَهلِ والخَنا

أَصَبتَ حَليماً، أو أَصابَكَ جاهِلُ

وقد يجوز أن تنْزع وألّا تنْزع، ولا يحيط علماً بأي ذلك يكون إلا الله تعالي.

وقوله بخلاف إنْ يعني فإنها تدخل علي الممكن وجوده، وقد تدخل علي ما تُيُقِّنَ كونه، لكنه منبهم الزمان، كقوله تعالي:{أَفَإِين مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .

وهذا الاستدراك بـ «لكنَّها» من قوله «مضمَّنةً معني الشرط» لأنها من حيث ضُمِّنت معني الشرط كان مقتضي ذلك أن تكون كأدوات الشرط في دخولها علي الممكن أو المنبهم الزمان دون ما ذكر؛ فاستدرك لها هذه الحالة التي انفردت فيها بهذا الحكم.

وقوله فلذلك لم تَجزم غالباً إلا في شعر الإشارة بـ «ذلك» إلي كونها تكون لما تُيُقِّنَ كونُه أو رُجِّحَ، وظاهر كلامه الاقتصار في عدم الجزم غالباً علي هذه العلة وحدها. وذكر في الشرح أنه لم يجزم بها لأمور ثلاثة:

أحدها: هذا.

والثاني: كونُ تضمُّن الشرط ليس بلازم لها؛ إذ تتمحض للظرفية خاصة، أو تتجرد عن الشرطية والظرفية معاً، نحو:(إني لأعلمُ إذا كُنتِ راضيةً). وقد رددنا عليه هذا الحكم، وتأوَّلْنا ما جاء في الحديث.

ص: 311

الثالث: إضافتها إلي ما يليها، والمضاف يقتضي جرّاً لا جزماً، وإذا جُزم بها في الشعر فليست مضافة إلي الجملة. انتهي. ويأتي الكلام معه علي هذه العلة الثالثة إن شاء الله، والاستدلالُ علي الجزم مذكور في أواخر باب عوامل الجزم.

وقوله ورُبَّما وقعتْ موقعَ إذْ، وإذْ موقَعها هذا الذي ذكره المصنف هو قول بعض النحويين، والصحيح عند أصحابنا أنَّ كل واحدة منهما لا تقع موقع الأخرى، بل جعلوا إذْ بعد المضارع إلي معني المضي، نحو قوله:

يَجزيِه رَبُّ العالَمِينَ إذْ جَزَي

جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلالِيِّ العُلا

قالوا: «كأنه قال: جزاه ربُّ العالمين إذ جَزي، وجعل الوعد بالجزاء جزاء، وهذا أَولَي من أن يُعتقد في إذْ أنها بمنْزلة إذا؛ لأنَّ صرف معني المبهم إلي الماضي بقرينة قد ثَبت من كلامهم، ولم يثبت وضعُ إذْ موضع إذا بقاطع» .

[3: 175/أ] وجعلوا أيضاً وقوع إذا بعد الماضي /مما يَصرف الماضي إلي الاستقبال، نحو قوله:

ونَدْمانٍ، يَزيدُ الكأسَ طِيباً

سَقَيتُ إذا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ

قال بعضهم: «المعني: أسقيه إذا تَغَوَّرت النجوم» . وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ أكثر ما تدخل رُبَّ علي ما يكون العامل ماضياً من حيث المعني. والأَولي في مثل هذا البيت ما كان يُخَرِّجه عليه ونظائره أستاذنا أبو جعفر بن الزُّبَير من أنَّ «إذا» .

ص: 312

معمول لفعل محذوف، يدلُّ عليه سَقيتُ، التقدير: وأَسقيه إذا تَغَوَّرَت النجوم، فلا يجعل العامل فيه لفظ سَقَيت لِمُضيِّه من حيث المعني، ولا يتأوله بالمستقبل لكونه جاء بعد رُبَّ.

قالوا: «فأمّا قول الحطيئة:

شَهِدَ الحُطَيئةُ حَينَ يَلْقِي رَبَّهُ

أنَّ الوَليدَ أَحَقُّ بالعُذْرِ.

فيحتمل أن يكون التقدير: يَشهد الحطيئة حين يلقي ربَّه».

واستدلَّ المصنف علي دعواه أنَّ «إذا» تقع موقع «إذْ» بقوله تعالي: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ، وبقوله:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا} ، وقول الشاعر:

حَلَلتُ بِها وِتْرِي، وأدْرَكتُ ثُؤْرِتي

إذا ما تَناسَي ذَخْلَهُ كُلُّ غَيْهَبِ

وقولِ الآخر:

ما ذاقَ بُؤسَ مَعيشةٍ ونَعيمَها

فيما مَضي أحدٌ إذا لم يَعْشَقِ

واستدلَّ أيضاً علي دعواه أنَّ «إذْ» تقع موقع «إذْا» بقوله تعالي: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى} ، وهي بدل من:{يَوْمَ يَجْمَعُ} ، وهو مستقبل المعني، فتعين استقبال

ص: 313

البدل. وبقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - إِذْ الْأَغْلَال فِي أَعْنَاقهمْ} . وبقوله: {يَوْمَئذٍ} بعد: {إذَا زُلْزِلَتِ} . وبقول الشاعر:

متى يَنال الفَتَي اليَقْظانُ حاجتَهُ

إذِ الْمُقامُ بأرضِ اللَّهوِ والغَزَلِ

ويَحتمل ما استدلَّ به التأويلَ.

وقوله وتُضاف أبداً إلي جملة مصدَّرة بفعلٍ ظاهر شرطه أن يكون مضارعاً مجرداً، كقوله تعالي:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} ، أو مصحوباً بلَمْ، نحو قوله تعالي {وَإِذَا لَمْ تَاتِهِم بِآيَةٍ} ، أو ماضياً، نحو قوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} .

وقوله أو مُقَدَّرٍ قبلَ اسمٍ يليه فعلٌ نحو: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ - وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} ، فـ {الشَّمْسُ} مرفوع بـ {كُوِّرَتْ} مضمرة. وأكثر ما يكون الفعل المقدَّر موافقاً للفعل المفسَّر، وقد لا يوافق، نحو قوله:

ص: 314

إذا ابنُ أبي موسى بِلالاً بَلَغْتِهِ ....................

في رواية من رفع ابن، التقدير: إذا بُلِغَ، مبنيَّاً للمفعول وإن كان المفسِّر مبنيّاً للفاعل، وارتفاع الاسم في نحو:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} / بفعل مضمر، أي: إذا انْشَقَّت السماءُ انْشَقَّت، [3: 175/ب]

قال المصنف في الشرح: «لا يجيز س غير ذلك» انتهي.

وقال السهيلي عن س: «إنه يجيز علي رداءةٍ الابتداء بعد إذا الشرطية وأدوات الشرط إذا كان فعلاً» . انتهي.

وما ذكره المصنف من أنَّ «إذا» تضاف أبداً إلي جملة هو مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلي أنها ليست مضافة إلي الجملة بعدها، بل هي معمولة للفعل بعدها، وليست معمولة بفعل الجواب كما ذهب إليه الجمهور. وهذا المذهب هو الذي نختاره لها علي أخواتها من أسماء الشرط؛ ألا تري أنك إذا قلت متى تقمْ أقمْ كان متى منصوباً بالفعل الذي يليه، يدلك علي قولك: أيَّاً تضربْ أضربْ.

وما ذهب إليه الجمهور فاسد من وجوه:

أحدهما: أنَّ «إذا» الفجائية تقع جواباً لـ «إذا» الشرطية، نحو قوله تعالي:{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} ، وما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها، وأجمعوا علي أنَّ جواب «إذا» هو «إذا» الفجائية مع ما بعدها كما أُجيب بها إنْ في قوله:{إذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} .

ص: 315

الثاني: وقوع الجواب لـ «إذا» وقد قرن بالفاء، نحو: إذا جاءك زيدٌ فاضربْه، وما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبله.

الثالث: أنَّ جوابها جاء منفيّاً، نحو قوله تعالي:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا} ، وما بعد «ما» النافية لا يعمل فيما قبلها.

الرابع: اختلاف الظرفين في بعض الصور؛ نحو: إذا جئتَنِي غداً أَجيئُك بعدَ غَدٍ، ولا يمكن إذ ذاك أن يكون الجواب عاملاً فيها وعاملاً في «بعد» لاستحالة وقوع الفعل الواحد في زمانين.

وقوله وقد تُغني ابتدائيّةُ اسم بعدها عن تقدي فعلٍ وفاقاً للأخفش قال المصنف في الشرح: «اختار الأخفش ما أوجبه س، وأجاز مع ذلك جعل المرفوع بعد إذا مبتدأ، وبقوله أقول؛ لأنَّ طلب إذا للفعل ليس كطلب إنْ، بل طلبها له كطلب ما هو بالفعل أَولي مما لا عمل له فيه، كهمزة الاستفهام، فكما لا تلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا تلزم بعد إذا، ولذلك جاز أن يقال: إذا الرجل في المسجد فظُنَّ به خيراً، ومنه قول الشاعر:

إذا باهِلِيُّ تَحتَهُ حَنْظَلِيَّةٌ

لهُ وَلَدٌ منها فَذاكَ الْمُذَرَّعُ

جعل بعد الاسم الذي ولي إذا ظرفاً، واستغني به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بما هو مختصّ بالفعل. ومما يدل علي صحة مذهب الأخفش قولُ الشاعر:

ص: 316

فأَمْهَلَهُ حتَّى إذا أنْ كأنَّهُ

مُعاطي يَدٍ في لُجَّةِ الماءِ غامِرُ

فأَولي إذا أنِ الزائدة، وبعدها جملة اسمية، ولا يُفعل ذلك بما هو مختصّ بالفعل، /وأنشد ابن جِنِّيْ لِضَيْغَم الأَسَديّ:[3: 176/أ]

إذا هو لم يَخَفْنِي في ابن عَمِّي

- وإنْ لَمْ أَلْقَهُ الرَّجُلُ الظَّلُومُ

وقال في هذا دليل علي جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء؛ لأنَّ هو ضمير الأمر والشأن، وضمير الشأن لا يرفع بفعل يفسِّرهما بعده. ومثل ما أنشده ابن جني قولُ الشاعر: وأنتَ امْرُؤٌ خِلْطٌ، إذا هيَ أَرسَلَتْ

يَمينُكَ شيئاً أَمْسَكَتْهُ شِمالُكا

لأنَّ هي ضمير القصة» انتهي كلام المصنف.

واستُدِلّ للأخفش أيضاً بقول الشاعر:

فهلّا أَعَدُّوِني لِمِثْلِي تَفاقَدُوا

إذا الخَصمُ أَبْزَي مائلُ الرأسِ أَنْكَبُ

ص: 317

والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز؛ إذ ما ذكروه محتمل للتأويل، ولا يتعين فيه الابتداء، ولا نُثبت قانوناً كليَّاً ونَخرج عن القانون المستقر الثابت في لسان العرب بالمحتمل.

فأمّا قوله أولاً «لأنَّ طَلَبَ إذا للفعل» فتلك دعوي مخالفة لنص الأئمة أنَّ إذا وكل ظرف زمان مستقبل هو طالب للفعل كطلب إنْ.

وأمّا ما استدلّ به من السماع فمتأوَّل: أمَّا:

إذا باهِلِيٌّ تَحتَهُ حَنْظَلِيَّةٌ ....................

فالمعني: استقرَّت تحته حنظليَّةٌ، فحَنْظَليَّةٌ: فاعل، لا مبتدأ، وتحته: خبر عنه، فباهِلِيٌّ بفعل يفسِّره الفعل في تحته.

وأمّا:

فأّمْهَلَهُ حتى إذا أنْ كأنَّهُ .............

فـ «أنْ» زائدة، و «كان» محذوفة بعد إذا، التقدير: حتى إذا كان كأنه، و «كان» تحذف بعد الشرط كثيراً، نحو: إنْ خيراً فخيرٌ.

وأما «هو لم يَخَفْنِي» و «هي أَرسلَتْ» فذلك مرفوع بفعل محذوف يفسِّره ما بعده؛ أي: إذا لم يَخف هو، وإذا أرسَلتْ هي، ولمّا حذف الفعل انفصل الضمير، والرجل الظَّلومُ: بدل من هو، ويمينك: بدل من هي، وليسا فاعلين، ولا «هو» ولا «هي» ضميراً شأن وقصة، ويجوز الإضمار قبل الذكر في باب البدل، ويفسره البدل، حطاه الأخفش، وقد ذكر المصنف أنَّ مما يفسر الضميرَ المتقدم بدلُه، نحو: مررتُ به المسكين، واللهم صَلَّ عليه الرؤوفِ الرحيمِ.

وأمّا:

ص: 318

....... إذا الخَصمُ أَبْزَي مائلُ الرأسِ أَنكَبُ

فأَبْزَي: فعل ماض، وليس باسم، فيرتفع الخصمُ بإضمار فعل يفسره هذا الظاهر، ومائلُ الرأس: خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو مائلُ الرأس.

وقوله وقد تفارقها الظرفية مفعولاً بها تقدم استدلاله علي ذلك بما ورد في الحديث من قوله (إنِّي لأعلم إذا كنت راضية) وتأويلنا له.

وقوله أو مجرروة بحتي قال المصنف في الشرح: «انفردت بدخول حتى الجارة عليها، كقوله تعالي: {حَتَّي إِذَا جَاءُُوهَا}، كما انفردت إذْ بلحاق التنوين والإضافة إليها» .ويعني «انفردت بدخول حتى الجارة» انفرادها دون إذْ، ولذلك قال «كما انفردت إذْ بلحاق التنوين والإضافة». ودخول حتى علي الجملة المصدرة بإذا الشرطية/ كثير في القرآن وكلام العرب. [3: 176/ب]

وزعم المصنف أنَّ إذا في موضع جر بحتَّي، وهذا يُخرجها عن الظرفية، ويُصَيَّرها مع ما بعدها في حيز المفرد، ولا تبقي إذ ذلك جملة شرطية تستدعي جواباً؛ لأنها تصير إذ ذاك مع ما بعدها لما قبلها، وإذا كان الأمر علي ما زعم المصنف لم يأت بعدها جواب لاذا لأنها معمولة لما قبلها، وأنت تري جميع ما ورد في لسان العرب وكلام الله لا يخلو عن الجواب، فدلَّ ذلك علي أنها ليست معمولة لما قبلها ولا مجرورة بحتي، قال تعالي {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ

ص: 319

الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ - حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ}، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمرَاً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي} ، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ، {فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ، {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} ، فأنت تري هذه الآيات وما أشبهها «إذا» فيها باقية علي كونها شرطاً، ولذلك جاء لها جواب تارة بالفعل الماضي، وتارة بالفاء، وكما جاءت لو الإمتناعيه بعد حتي وهي شرط في الماضي كذلك جاءت إذا، ولا يدعي أحد أنَّ لو في موضع جر بحتي، ومثال ذلك في لو قول كُثَيّر:

وما زالَ بي ذا الشَّوقُ، حتى لَوَ انَّنِي

مِنَ الوِجْدِ أَسْتَبْكي الحَمامَ بَكي لِيا

وإذا تقرر هذا فأقول: حتى هنا دخلت علي الجملة الشرطية؛ بدليل انتظام ما بعدها شرطاً وجزاءً كما رأيته في هذه الآيات؛ ونصَّوا علي أنَّ حتى إذا دخلت علي الجملة لا تعمل فيها ولا في شيء من أجزائها؛ بل تُخَرَّج علي أحد وجهين:

أحدهما: أن تكون حرف ابتداء، وليس من شرط تسميتها حرف ابتداء ألا يليها إلا المبتدأ، بل المعني أنها يكون بعدها المبتدأ، كقوله:

ص: 320

...... وحتى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ

أو يصلح أن يقع بعدها الابتداء وإن لم يكن بعدها المبتدأ، كقولك: ضربتُ القومَ حتى زيداً ضربتُه، بنصب زيد، فهي هنا حرف ابتداء؛ لأنه يصلح أن يكون بعدها المبتدأ، فتقول: حتى زيدٌ ضربتُه، كذلك في هذه المواضع يصلح أن يجيء بعدها الابتداء وإن لم يكن موجوداً فيها حالة النطق؛ ألا تري إلي صلاحية التقدير في قوله:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} : حتى هم إذا ما جاؤوها شَهِدَ عليهم سمعهم.

وقال ابن هشام في قول أبي علي في خطبة النصف الثاني من «الإيضاح» : «حتى ما تجد إلا فقيراً محبوراً أو غنيّاً موفوراً» : «حتى/ هنا ابتدائية» . [3: 177/أ]

والوجه الثاني أن تتقدر حتى بمعني الفاء، كما قدرها النحويون في قولهم: سرتُ حتى أدخلُ المدينة، برفع أدخل، وتقدير كونه قد وقع، قالوا: التقدير سرتُ فدخلتُ المدينة، فكذلك حتى في هذه المواضع التي جاءت بعدها إذا تتقدر بالفاء، ولا ينخرم منها موضع. فهذان وجهان يجوز أن تخرّج عليها هذه الآيات وما اشبهها من كلام العرب.

والدليل علي بقائها شرطيّة اتفاق النحويين علي ذلك في قوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، واختلفوا في الجواب: فقيل: الواو زائدة. وقيل: الجواب محذوف. وقد طالعت كثيراً من المبسوطات وغيرها في النحو، فلم أر من تعرض لهذه المسألة بخصوصها إلا

ص: 321

الزمخشري، فإنه أجاز فيها أن تكون حرف ابتداء، وأن تكون حارّة لـ «إذا» بمعني الوقت.

وأمّا أبو البقاء فإنه جري علي القواعد، فقال في قوله تعالي {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ}:«إذا في موضع نصب بجوابها. وهو يقول، وليس لِحَتَّى هنا عمل، وإنما أفادت معني الغاية، كما لا تعمل في الجمل» . انتهي.

وأمّا صاحب البسيط فإنه قال فيه: «وتقول: اجلسْ حتى إذا جاء زيدٌ أعطيتُك، فحتى هنا غير عاملة لأنها دخلت علي اسم معمول لغيرها؛ لأنَّ إذا في موضع نصب بالجواب علي الظرف، كأنك قلت: اجلسْ فإذا جاء زيدٌ أعطيتُك» .

وأمّا المصنف فتعرض لها علي قلة كلامه فيها وعدم جريه علي القواعد وكان بعض الأذكياء يستشكل مجيء هذه الجملة الشرطية من إذا وجوابها بعد حتى؛ ويذكر لي ذلك، ويقول: كيف تكون حتي غاية وبعدها جملة الشرط؟ فقلت له: الغاية في الحقيقة هو ما ينسبك من الجواب مرتباً علي فعل الشرط، فالتقدير المعنوي الإعرابي: فهم يُوزَعًون إلي أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وقتَ مجيئهم إلي النار فينقطع الوَزْع، وكذلك: وسيق الذين كفروا إلي جهنم زمراً إلي أن تُفتح أبوابها وقتَ مجيئهم فينقطع السَّوق. وأمّا إذا كانت حتى بمعني الفاء فيطيح هذا الإشكال؛ إذ لا تكون حتى إذ ذاك حرف غاية.

وقوله أو مبتدأ مثاله {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ. إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ} في قراءة من نصب خافضةً رافعةً، فـ «إذا وقعت» مبتدأ،

ص: 322

و «إذا رُجَّت» خبر، و «ليس» و «خافضةً» و «رافعةً» أحوال ثلاثة، والمعني: وقتُ وقوعِ الواقعةِ صادقةَ الوقوعِ خافضةَ قومٍ رافعةَ آخرينَ وقتُ رَجِّ الأرض. قال المصنف: «هكذا أعربه أبو الفتح في المحتسب،/ وهو صحيح» . انتهي [3: 177/ب]

ولا يتعين ما قاله أبو الفتح؛ إذ يجوز أن تكون إذا باقية علي ظرفيتها، وتلك أحوال ثلاثة، و «إذا رُجَّت» بدل من «إذا وَقَعَت» ، وجواب إذا {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} علي زيادة الواو، كما خَرَّجوا {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، أي: فُتِحَتْ، وقولَ الشاعر:

فَلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحَيِّ، وانْتَحَي

بِنا بَطنُ حِقْفٍ ذي رُكامٍ عَقَنْقَلٍ

أي: انْتَحَي. وهذا تخريج كوفيّ أخفشي.

وإما أن يكون الجواب محذوفاً: فإما أن تقدره قبل «وكنتم» ، أي: انقسمتم وكنتم، وحذفت هذه الجملة لدلالة الكلام عليها. وإما أن تقدره بعد {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} ، وتقديره: عرفتم مراتبكم ومنازلكم. وإما أن يكون الجواب {فَأصْحَابُ

ص: 323

الْمَيْمَنَةِ} وما بعده، والمعني: فأصحابُ الميمنة ما أعظمهم وما أنجاهم، وأصحاب المشأمة ما أحقرهم وما أشقاهم. وهذا الوجه أحسن؛ إذ لا يحتاج فيه إلي تكلف حذف.

وما ذكره من أنه تكون إذا مبتدأ ينبغي ألا يجوز؛ لأنّ إذا من الظروف التي لا يُتصرف فيها، ولا تكون فاعلة ولا مفعولة ولا مجرورة، فلا يجوز: سَرَّني إذا قام زيد، تريد: سَرَّني وقتُ قيام زيد، ولا يُحفظ من كلامهم: إذا جاء زيدٌ مباركٌ، تريد: وقتُ مجيءِ زيدٍ مباركٌ.

وقوله وتدلُّ علي المفاجأة حرفاً لا ظرفَ زمان، خلافاً للزجاج، ولا ظرفَ مكان، خلافاً للمبرد وقال بعض الشراح للكتاب:«مذهب الرياشي والمبرد أنها ظرف زمان، ومذهب الفارسي وأبي الفتح أنها ظرف مكان، وقد نُسبا إلي س، وإلي أنها ظرف مكان ذهب س في باب عدة ما يكون عليه الكلم» انتهي.

فيمكن أن يكون للمبرد قولان. ومذهب أبي بكر بن الخياط أنها ظرف مكان. فأما كونها حرفاً فهو قول الكوفيين.

وأما كونها ظرف زمان فهو مذهب الرياشي والزجاج، واختاره ابن طاهر وابن خروف والأستاذ أبو علي، فإذا قلت خرجتُ فإذا زيدٌ فلا يصح أن تكون إذا خبراً عن زيد لأنه ظرف زمان، وزيد جثة، فيقدر من أجل هذا على حذف

ص: 324

مضاف، التقدير: خرجتُ فالزمانُ حضورُ زيدٍ، أو مفاجأةُ زيدٍ. وقالوا هذا ظاهر كلام س، قال س:«وتكون -يعني إذا للشيء توافقه في حالٍ أنتَ فيها، وذلك قولك: مررتُ فإذا زيدٌ قائمٌ» . قال ابن طاهر: إذا علي بابها من الزمان، ودخلها معني المفاجأة، فلم تعدّ الأسماء. وقال الأستاذ أبو علي: الأَولي في إذا المفاجأة أنها ظرف زمان بقاء علي ما ثَبت، وإذا قُدِر علي إبقاء الشيء علي أصله من وجه من الوجوه فهو أولي.

وأمّا كونها ظرف مكان فهو مذهب المبرد، واختاره بعض أصحابنا، وزعموا أنه مذهب س، قال المبرد: إذا قلت خرجتُ فإذا زيدٌ فهي خبر عن زيد، كأنك قلت: فبحضرتي زيدٌ،/ أو فبمكاني زيد. وقول س «وتكون للشيء توافقه في حالٍ أنت فيها». [3: 178/أ]

هذا الأكثر، وهو التوافق في الزمان أو المكان علي الخلاف. وقال الفراء: وقد يتراخي هذا، نحو قوله تعالي:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} ، ومنها قول أبي ذؤيب:

ولقد حَرِصَتُ بأنْ أُدافِعَ عَنهُمُ

فإذا المَنِيّةُ أَقْبَلَتْ لا تُدْفَعُ

يريد: غير مدفوعة.

واختلفوا في هذه الفاء الداخلة علي إذا التي للمفاجأة: فذهب الكازني إلي أنها زائدة. وذهب الزجاج إلي أنها دخلت علي حد دخولها في جواب الشرط وذهب أبو بكر مَبرَمان إلي أنها عاطفة

ص: 325

ورجَّح أبو الفتح قول المازني وذلك أنَّ إذا الفجائية فيها معني الإتباع، وكذلك كانت في جواب الشرط كما كانت الفاء، فقد اشتركت الفاء وإذا في هذا المعني، فدخول الفاء عليها دخول حرف زائد للتأكيد، ولا يعترض علي هذا بكون الفاء لا يجوز حذفها، فرُبَّ زائد يلزم، كقولهم: افعلْه آثراً ما.

وقال بعض أصحابنا: «ولا يجوز أن تقول: خرجتُ إذا زيدٌ، ولكن مع ذلك إذا وجد له نظائر لم يبعد» . انتهي. ويعني أنه قد وجد زوائد كثيرة حذفت.

ورُدَّ مذهب الزجاج بأنَّ قولك خرجتُ فإذا زيدٌ إخبار عن حال ماضية قد انقضت؛ والشرط مبنيٌّ علي الاستقبال، ولأنه لو كان في الكلام معني الشرط لاستغني بما في إذا من معني الإتباع عن الفاء كما استغني عنها في قولك: إنْ تفعلْ إذا زيدٌ يفعل.

ورُدَّ مذهب مَبرَمان بأنَّ مَبرَمان بأنَّ الجملة التي هي خرجتُ مركبة من فعل وفاعل، وقولك فإذا زيدٌ اسمية، وحكم المعطوف أن يكون وفق المعطوف عليه.

فإن قلت: ألست تقول: قام زيدٌ وأخوك محمدٌ، فتعطف إحدى الجملتين علي الأخرى؟

فالجواب: أنَّ الواو يجوز معها ما لا يجوز مع غيرها من حروف العطف؛ ألا تري أنَّ الثاني في العطف بالفاء معلَّق بالأول، والواو ليست كذلك. انتهي معني كلام أبي الفتح.

قال الشلوبين الصغير: «ويحتمل أن يُنتَصر لمبرمان بأن يقال له: امتناع قولك قامَ زيدٌ فعمرٌو جالسٌ لم يكن من جهة العطف، إنما كان من أجل [أنَّ] الفاء يصحبها في عطفها الإتباع، ولا إتباع هنا، فإذا صحَّ الإتباع فلا مانع من العطف،

ص: 326

ومسألتنا هذه الإتباع فيها بيِّن علي معني المبالغة، فكأنه لارتباط حضور الأسد عند الخروج معلل بالخروج وإن كان ليس معلَّلاً في الأصل، وإنما هي موافقة ومصادفة،/ ولكن للزوم العلة والمعلول جعل هذا مثله يعطف بالفاء، ومع أنَّ في قولك فإذا زيد معني: فحضرني زيد، وأنت لو قلت خرجتُ فحضرني زيدٌ لم يكن خَلفاً من الكلام، ولم يشك في أنَ الفاء عاطفة، فجاز هذا الجواز ذلك، فعلي هذا يكون توجيه مبرمان صحيحاً». انتهي. [3: 178/ب]

والذي يقطع بأنّ الفاء عاطفة وقوع غيرها من حروف العطف مقامها، كقوله {ثُمَّ إذَآ أَنتُم بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ، فـ «ثُمَّ» لا يصلح أن تكون دخلت دخولها في جواب الشرط؛ لأن ثُمَّ لا يُلَقَّي بها جواب الشرط، ودعوي الزيادة فيها علي خلاف الأصل، فثبت أنها عاطفة.

وما ذهب إليه المصنف من أنَّ إذا الفجائية حرف هو اختيار الأستاذ أبي علي في أحد قوليه. قال المصنف: «وروي عن الأخفض أنها حرف دالٌّ علي المفاجأة، وهو الصحيح عندي، ويدل علي صحته ثمانية أوجه:

أحدهما: أنها كلمة تدل علي معني في غيرها غير صالحة لشيء من علامان الأسماء والأفعال» انتهي.

وما ذكر من أنها تدلُّ علي معني في غيرها ليس كما ذكر، بل مَن جعلها ظرف زمان قدر: فالزمان زيدٌ قائمٌ، أي: ففي الزمان الذي خرجتُ فيه زيدٌ قائمٌ. ومن جعلها ظرف مكان قدَّر: فبِحَضرَتي زيدٌ قائمٌ. فقد دلت بهذين التقديرين علي معني في نفسها.

ص: 327

وأمّا قوله غير صالحة لشيء من علامات الأسماء والأفعال فغير صحيح؛ لأنه ينعقد منها مع اسم مرفوع كلام، فقد وقعت خبراً، واستقلَّ الكلام منها، ولو كانت حرفاً لَمَا جاز أن ينعقد منها مع الاسم وحده كلام.

قال المصنف: «الثاني: أنها كلمة لا تقع إلا بين جملتين، وذلك لا يوجد إلا في الحروف، كلكنْ وحتي الابتدائية» انتهي. وليس كما ذَكر، بل وجد الاسم بين جملتين، كقولك: ما رأيتُه منذُ خلقَ اللهُ كذا، فمنذُ اسم، وقد وقعت بين جملتين.

قال المصنف: «الثالث: [أنها] كلمه لا يليها إلا جملة ابتدائية مع انتفاء علامات الأفعال، ولا يكون ذلك إلا جملة ابتدائية، بل قد حكي الأخفش أنه تليها الجملة الفعلية إذا كانت مصحوبة بقد، وقد أحكمنا ذلك في باب الاشتغال، فيطالع هناك.

قال المصنف: «الرابع: أنها لو كانت ظرفاً لم يختلف مَن حكم بظرفيتها في كونها مكانية أو زمانية؛ إذ ليس في الظروف ما هو كذلك» انتهي. وهذا منقوض بـ «حيث» ، فإنّ النحويين اتفقوا علي أنها ظرف، واختلفوا أتكون ظرف مكان فقط أم تأتي ظرف زمان، وقد ذكر المصنف وغيره في ذلك عن الأخفش

قال المصنف: «الخامس: أنها لو كانت ظرفاً لم تربط بين جملتي الشرط والجزاء في نحو {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ}؛ إذ لا يكون ذلك إلا حرفاً» انتهي. [3: 179/أ] ولا نسلّم الحصر في أنه لا يكون ذلك إلا حرفاً؛ لأنه يقال: إذا هنا رابطة، وهي اسم.

ص: 328

قال المصنف: «السادس: أنها لو كانت ظرفاً لوجب اقترانها بالفاء إذا صُدِّر بها جواب الشرط؛ فإنَّ ذلك لازم لكل ظرف صُدِّر به الجواب، نحو: إنْ تَقُمْ فحينَئِذ أقوم، وإنْ تُقِمْ فعندَ مُقامك أُقيم» انتهي. ولا يلزم ما ذَكر لأنَّ جوابها مخالف لجواب بقية أدوات الشرط، فكذلك اختلفا في هذا، مثال ذلك أنَّ الفعل إذا وقع مرفوعاً فلا يكون جوابَ بقية الأدوات إلا إن اقترنت به الفاء، نحو قوله {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} ، ويصح وقوعه جواباً لـ «إذا» من غير فاء، كقوله تعالي {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} ، ويقال: إنْ تزرْنا فما نحن نُكرمُك، فلا بدَّ من الفاء، وتقول: إذا تزورُنا ما نُكرمُك، فلا يحتاج إلي الفاء، قال تعالي {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} .

قال المصنف: «السابع: أنها لو كانت ظرفاً لأغنت عن خير ما بعدها، ولكان نصب ما بعده علي الحال كما كان مع الظروف المجمع علي ظرفيتها، كقولك: عندي زيدٌ مقيماً، وهنالك بشرٌ جالساً، والاستعمال في نحو مررت فإذا زيدٌ قائمٌ بخلاف ذلك» انتهي. وليس كما ذَكر، بل تغني عن خبرِ ما بعدها في نحو: خرجتُ فإذا الأسدُ، ولا خبر هناك محذوف، بل «إذا» هي الخبر، وقد تقدم تقرير هذا. وأمّا قوله «والاستعمال في نحو مررت فإذا زيدٌ قائمٌ بخلاف ذلك» ليس كما ذكر، بل الاستعمال في لسان العرب مثل الاستعمال في الظروف، تقول: خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ، وقائماُ، بل روي الكوفيون: فإذا عبدُ الله القائمُ، والقائمَ، بالرفع والنصب.

ص: 329

قال المصنف: «الثامن: أنها لو كانت ظرفاً لم تقع بعدها إنَّ المكسورة غير مقترنة بالفاء، كما لا تقع بعد سائر الظروف، نحو: عندي أنك فاضلٌ، وأمرُ إنَّ بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك، كقوله:

............................... إذا إنَّهُ عَبدُ القَفا واللهازِمِ

انتهي».

قال الأستاذ أبو علي: وأمّا ما احتج به مَن جعلها حرفاً من كسر إنّ الواقعة بعدها، والظروف لا تقع إنّ بعدها فلا يلزم؛ لأنَّ الظروف إنما يمتنع وقوع إنّ بعدها إذا جُعل ما بعد إنَّ عاملاً فيها، وأمّا علي غير هذا فلا يمتنع، إذ لا مانع منه، ويمكن أن يكون العامل في الظرف مع الكسر معني الكلام الذي فيه إن، فلا حجة في وقوع إنّ المكسورة بعد إذا التي للمفاجأة لمن قال إنها حرف. [3: 179/ب].

قال المصنف: «فثبت الاعتراف بثبوت الحرفية وانتفاء/ الاسمية» انتهي.

ويقال له: فثبت الاعتراف بثبوت الاسمية وانتفاء الحرفية.

وقال بعض أصحابنا: «الإشكال الذي يرد في فإذا إنّ زيداً قائم أنّ إذا لابدَّ لها من عامل؛ فإن كانت فهي أبداً مضافة لما بعدها، فتحتاج لمضاف تضاف إليه، ثم لعامل يعمل فيها، فلا يعمل فيها ما بعدها لأنّ المضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا يعمل فيها ما قبلها، فإنّ الفاء تمنع. وإن كانت مكانية فقد كان يعمل فيها قائم لولا إنّ؛ لأنها غير مضافة، فلا يعمل فيها لمكان إنّ، ولا ما قبلها لمكان الفاء، فلا يمكن أن يقال إلا العامل محذوف، تقديره: خرجتُ فإذا انطلاقُ عمرٍو إنه منطلقٌ، ويكون المحذوف المبتدأ، والجملة مفسرة للمحذوف دالةً عليه» انتهى.

ص: 330

وقوله ولا يليها في المفاجأة إلا جملة اسمية ليس كما ذَكر، وقد نبَّهنا علي ذلك قبلُ، وذكرنا في باب الاشتغال أنها تليها الجملة الفعلية المصحوبة بقد، نقل ذلك الأخفش عن العرب.

وقوله وقد تقع بعد بينا وبينما قال الأصمعي: «إذ وإذا في جواب بينا وبينما لم يأت عن فصيح» انتهي. ومثال قولُه.

وبَينا نَسُوسُ الناسَ، والأمرً أمرُنا

إذا نحنُ فيهم سُوقةٌ نَتَنَصَّفُ

ومثالُه بعد بينما قولُ الشاعر:

وبَينَما المرُ مَسروراً بِغبطَتِهِ

إذا هو الرَّمسُ تَعلُوهُ الأَعاصيرُ

وقولُ الآخر:

بَينَما الْمَرءُ في فُنونِ الأَمانِي

إذا زائرٌ الْمَنونِ مُوافِي

وزعم أبو عبيدة أنّ إذا قد تزاد، واستدلَّ علي ذلك بقول الشاعر:

ص: 331

حتى إذا سلَكوهُم في قُتائدةٍ

شَلّا كما الجَمّالةُ الشُّرُدا

قال: فزادها لعدم الجواب، فكأنه قال: حتى سَلَكُوهم. وتؤول حتى حذف جواب إذا.

ص: ومنها مُذ، ومُنذُ، وهي الأصل. وقد تُكسر ميمهما، ويضافان إلي جملة مصرَّحٍ بجزأيها، أو محذوف فعلُها، بشرط كون الفاعل وقتاً يُجاب به «متي» أو «كم» وقد يَجُرَّان الوقت، أو ما يُستَفْهَم به عنه، حرفين بمعني «مِن» إن صلَح جواباً لـ «متى» ، وإلا فبمعني «في» ، أو بمعني «مِن» و «إلي» معاً. وقد يُغني عن جواب «متى» في الحالين مصدرٌ معيَّنُ الزمان، أو أنَّ وصِلتُها. وليسا قبل المرفوع مبتدأين بل ظرفين، خلافاً للبصريين. وسكونُ ذال «مُذ» قبل متحرِّك أَعرَفُ مِن ضمِّها، وضمُّها قبلَ ساكنٍ أَعرَفُ مِن كسرِها.

[3: 180/أ] ش: مُنذُ بسيطة، ومذُ محذوفة منها. وذهب الكوفيون إلي أنَّ/ منذُ مركبة، واختلفوا: فقال الفراء: أصلها: مِنْ ذُو، مِن الجارة، وذو التي بمعني الذي في لغة طييء. وقال غيره من الكوفيين: أصلها: مِنْ إذْ، فحذفت الهمزة، فالتقت نون مِنْ وذال إذْ، وهما ساكنان، فحُركت الذال لالتقاء الساكنين، وجُعلت حركتها الضمة لأنهم ضمنوها معني شيئين، وهما مِن وإلي؛ لأنَّ تأويلها إذا قلت ما رأيتُه منذ يومان: ما رأيتُه مِن أوّلِ هذا الوقت إلي آخره، فقامت منذ مقام مِن وإلي، فقَوِيَتْ لذلك، فحَمَلت الضم الذي هو اثقل الحركات، ولهذه العلة نفسها

ص: 332

قالوا: ما كلِّمتُه قَطُّ، فضموا الطاء لأنَّ المعني: ما كلَّمتُه مِن أوَّلِ دَهري إلي هذا الوقت، فنابت قَطُّ عن مِن وإلي، ثم ضّمُّوا الميم إتباعاً لحركة الذال. ومَن قال مُذْ، فحذف النونَ رَدَّ الذال إلي أصلها من السكون لزوال موجب تحريكها. ومَن قال مِنَ العرب: مُذُ يومان، ومُذُ اليوم أَتبَع.

ورُدَّ مذهب الفراء بعُرُوِّ الصلة عن رابط، وبأنَّ ذو موصولة لا يَتكلم بها إلا طييء ومذْ ومنذُ يَتكلم بهما جميع العرب. ورُدَّ مذهب التركيب مِنْ «مِنْ» و «إذْ» بأنّ مِن لا يجوز دخولها علي إذ.

وقوله وهي الأصل يعني أنّ مُنْذُ أصل مُذْ. واستدلّ المصنف علي كون منذ أصلاً لِمُذْ بدليلين، قال في الشرح: «أحدهما أنّ ذال مُذ تُضم لملاقاة ساكن، كما يُفعل بميم هُم، وليس ذلك إلا لأنّ أصلها مُنذُ بالضم، فرُوجِع به الأصل حين احتيج إلي تحريكها، فقيل: لم أره مُذُ الجمعة، كما رُجع إلي الأصل في نحو: هُمُ القوم، ولو لم يكن الأصل الضم لقيل مُذِ الجمعة، كما قيل:{قُمِ الَّيْلَ} ، وقد يقال: مُذِ الجمعة، كما قد يقال:

................................... وهُمِ القُضاةُ ومِنْهُمِ الحُكّامُ

والثاني: أنّ بني غَنِيّ يضمون الذال قبل متحرك باعتبار أنّ النون محذوفة لفظاً لا نِيّة، فلو لم يكن الأصل منذ لم يصح هذا الاعتبار. ونظير هذا قولهم في لَدُنْ وقَطٌّ لَدُ وقَطُ، بضم الدال والطاء بعد الحذف علي تقدير ثبوت المحذوف» انتهي.

وقال ابن عصفور قريباً مما قاله المصنف، قال: وإنما جُعلت محذوفة منها لاتفاقهما في الحروف والمعني، ومما يبين صحة ذلك أنّ مِن العرب مَن يقول: ما

ص: 333

رأيتُه مُذُ يومان، فيُبقي الذال علي الضم الذي كان لها قبل النون، ويَجعل حذفها عارضاً، فلا يَعتدُّ به. فلا يَعتدُّ به. ومَن سكّن الذال اعتدَّ بالحذف، فرَدَّ الذال إلي أصلها من السكون لمّا زال موجي تحريكها، وهو النون الساكنة، ولو لم تكن محذوفة من مُنذُ لوجب أن تكون الذال ساكنة علي كل /حال؛ إذ لا موجب لتحريكها. [3: 180/ب]

ولا حجة فيما ذهب إليه المصنف وابن عصفور لاحتمال أن تكون الضمة في ذال مُذُ اليوم ومُذُ يومان حركة إتباع؛ فمن سَكّن في مُذ يومان فعلي الأصل من البناء علي السكون، ومن كسر في مُذ اليوم فعلي أصل الساكنين ومن ضم فيهما فإتباع لحركة الميم.

وقول المصنف «والثاني أن بني غَنِيّ يضمون الذال» عيّن بعضهم أن بني عُبَيْد من غَنِيّ يحركون الذال من مذ عند المتحرك والساكن.

وذهب الأستاذ أبو إسحاق بن ملكون إلي أنَّ مذ ليست محذوفة من منذ، قال: لأنَّ الحذف والتصريف لا يكون في الحروف، ولا في الأسماء غير المتمكنة.

وردَّ عليه الأستاذ أبو علي بأنه قد جاء الحذف في الحروف؛ ألا تري تخفيفهم لإنّ وأنّ وكأنّ، وقالوا في لعلّ عَلَّ، قال:«وقد جعل س عَلَّ من العلو» .

وقوله وقد تُكْسَرُ ميمُهما قال المصنف في الشرح: «وبنو سُليم يقولون مِنذُ ومِذ بكسر الميم» انتهي. وقال اللَّحياني في نوادره: «حُكي لي عن بعض بني

ص: 334

سُلَيم: ما رأيته مِنذُ سِتٌّ، بكسر الميم ورفع ما بعد، أراد: ستة أيام». قال: «وحُكي لي عن عُكْل: مِذُ يومان، بكسر الميم وطرح النون وضم الذال» انتهي.

وقوله ويضافان إلي جملة الإضافة دليل علي الاسمية، وهما إذا ذاك ظرفاً زمان. واستدلّ ابن عصفور علي اسميتهما بارتفاع الزمان بعدهما في جواب مَن قال: كم لك لم تر فلاناً؟ فتقول: مذ يومان، أو منذ يومان، وهذه جملة، فهما اسمان لا حرفان؛ لأنّ الحرف لا ينعقد منه ومن الاسم كلام باتِّفاق إلا في النداء علي خلاف فيه سيأتي إن شاء الله. انتهي.

ومن رفع يومان علي إضمار فعل صار الكلام بذلك الفعل جملة، وكان مذ ومنذ إذ ذاك غير مقوم لماهية الجملة، إلا أنّ هذا المذهب ضعيف، فيصح كلام ابن عصفور.

وقوله مُصَرَّحٍ بجزأيها الجملة تارة تكون اسمية، وذلك قليل، قال الشاعر:

وما زِلتُ مَحمولاً عليَّ ضَغِينةٌ

ومُضْطَلِعَ الأَضْغانِ مُذْ أنا يافِعُ

وقال أبو دَهْبَل الجُمحيّ:

تَبوع لِهَمٍّ، لم يزل بي طامحاً

إلي أَمْجَدِ الأَخلاقِ مُذْ أنا يافِعُ

والفعلية أكثر، قال الشاعر:

قالتْ أُمامةُ: ما لِجِسْمِكَ شاحِباً

مُنذُ ابْتُذِلْتَ، ومِثلُ مالِكَ يَنْفَعُ

ص: 335

وقال الآخر:

[3: 181/أ] /ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ .. فَسَما، فأَدْرَكَ خَمْسةَ الأَشْبارِ

وما ذهب إليه المصنف من أنهما ظرفان مضافان إلي الجملة هو مذهب س والفارسي والسيرافي. وذهب أبو الحسن إلي أنهما إذا وليتهما الجملة لفظاً لا يكونان إلا مرفوعين علي الابتداء، ولا بدَّ من تقدير اسم زمان محذوف، يكون خبراً عنهما؛ لأنهما لا يدخلان عنده إلا علي أسماء الزمان ملفوظاً بها أو مقدرة، وهو اختيار ابن عصفور، قال:«مذ ومنذ لا تدخلان إلا علي الزمان، فإن دخلتا علي جملة فعل حذف اسم الزمان، فإذا قلت ما رأيته مذ زيدٌ قائمٌ فالتقدير: ما رأيته مذ زمنِ زيدٌ قائمٌ» انتهي.

وفي البديع: «ولا يجوز أن ترفع إلا زماناً أو مقتضياً للزمان، قال ابن السراج: مذ إنما صيغت لتليها الأزمنة، فإذا وليها فعل فإنما هو لدلالة الفعل علي الزمان، فإذا قلت ما رأيته مذ قدمَ فلان فالتأويل: مذ يومُ قَدِمَ فلان، فإن لم يظهر لمذ عمل وعطفت علي ما عملت فيه [اسماً] حملته علي النصب دون حكم الإعراب المقدر بعد مذ، تقول: ما رأيته مذ قام ويومَ الجمعة، فإن ظهر العمل حملته علي لفظه، تقول: ما رأيته مذ يومان وليلتان، ولك نصب الثاني، كأنك

ص: 336

قلت: ما رأيته ليلتين، و [لا] تقول: ما رأيته مذ يومَ يومَ، فتبني كخمسةَ عشرَ، وقوم يجيزون: مذ يومُ يومُ، بلا تنوين، ولا يجيزون: مذ شهرُ شهرُ، ولا: دَهرُ دهرُ. قال ابن السراج: ولا أعرف الضم بلا تنوين في هذا من كلام العرب» انتهي.

وقال س في باب ما يضاف إلي الأفعال من الأسماء ما نصه: «ومما يضاف إلي الفعل أيضاً قولهم: ما رأيتُه مذ كان عندي، ومنذ جاءني» انتهي. فهذا الكلام بدل علي أنهما مضافان إلي الجملة الفعلية لا علي حذف مضاف كما ذهب إليه أبو الحسن.

وقال أبو علي في التذكرة شارحاً لكلام س: «مُذْ فيمن رفع بها بمنْزلة إذا وحيث، وجه الجمع بينهما أنه إذا رفع بها تصير اسماً من أسماء الزمان، كقولك: مذ يومان، وخبر المبتدأ يكون المبتدأ في المعني، فإذا كان كذلك علمت أنّ مذ إذا رَفعت اسم من أسماء الزمان، وإذا جُعل اسماً من أسماء الزمان جاز إضافته إلي الجملة كما جاز إضافة إذْ إليها، وذلك نحو قولهم: لم أره مذْ كان كذا، ومذْ خرجَ زيدٌ؛ أفلا تري أنّ مُذ المتصلة بالفعل لا تخلو من أن تكون اسماً أو حرفاً، فلا يجوز أن تكون حرف جرِّ لأنَّ حروف الجر لا تدخل علي الأفعال، فإذا لم يجز أن تكون حرف جرٍّ ثبت أنها اسم، وأنه أضيف إلي الفعل لمّا كان اسماً من أسماء الزمان» انتهي.

وقوله أو محذوف فعلُها بشرط كون/ الفاعل وقتاً يُجاب به متى أو كم [3: 181/ب]

مثال ما يجاب به متى: ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة، وما يجاب به كم: ما رأيتُه منذ يومان

ص: 337

واحترز من الوقت الذي لا يجاب به متى ولا كم، نحو وقت وزمان.

وهذا إذا جاء بعد مذ أو منذ زمان مرفوع في رفعه مذاهب:

أحدها: مذهب الكوفيين، واختاره ابن مضاء، والسهيلى، وهذا المصنف، وهو أن يكون فاعلاً بفعل محذوف، تقديره: منذ مضي يومان، أو كان يومان. وحمل الفراءَ علي ذلك اعتقادُه أنّ مذ ومنذ أصلهما: مِنْ ذو، فما بعدهما في صلة ذو. وحمل غيرَه من الكوفيين علي ذلك اعتقادُه أنّ أصله: مِنْ إذْ، فما بعدهما مضاف إليهما، فعلي هذا المذهب يكون الكلام جملة واحدة.

قال المصنف في الشرح: «والصحيح عندي أنهما ظرفان مضافان إلي جملة حُذف صدرها، والتقدير: مذ كان يومُ الجمعة، ومذ كان يومان، وهو قول المحققين من الكوفيين. وإنما اخترته لأنَّ فيه إجراء منذ ومذ في الاسمية علي طريقة واحدة مع صحة المعني، فهو أولي من اختلاف الاستعمال، وفيه تخلُّص من ابتداء بنكرة بلا مسوغ إن ادُّعي التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادُّعي التعريف. وفيه أيضاً تخلُّص من جعل جملتين في حكم جملة واحدة من غير رابط ظاهر ولا مقدر» انتهي كلامه.

وقد رُدَّ هذا المذهب بأنه مبني علي قول الكوفيين في أنها مركبة مِن «مِنْ» و «ذو» الطائية، أو مِن «مِن» و «إذ» ، وتقدم بطلان هذين القولين.

والذي ذهب إليه المصنف غير مذهب الكوفيين من حيث زعم أنَّ منذ بسيطة في أصل الوضع، وأنَّ المرفوع بعدها فاعل.

ص: 338

وقد رُدَّ هذا المذهب بأنَّ إضمار الفعل ليس بقياس. وأيضاً فإنَّ العرب تقول: ما رأيته مذْ أنَّ الله خلقَه، ومذْ إنَّ، بالفتح، وبالكسر، ولو كان كما زعموا لم يجز إلا فتح أنَّ، أي: إنّ الموضع الذي ينفرد بالاسم أو بالفعل تُفتح فيه أنّ ليس إلا، وهذا قد انفرد بالفعل، فكان يجب التزام فتحها، وهم قد كسروها فيه، وقد تقدم الكلام علي أنّ بعد مذ ومنذ في «باب إنّ» والخلاف فيه مشبعاً.

المذهب الثاني: أنه مرفوع علي أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو قول بعض الكوفيين؛ لأنها عنده مركبة مِن مِنْ وذو الطائية، والتقدير: ما رأيته من الزمن الذي هو يومان. وتقدم بطلان هذا المذهب من التركيب، فبطَل ما انبني عليه وعلي هذا المذهب، فالكلام جملة واحدة.

المذهب الثالث: أنه مرفوع علي أنه خبر لِمُذْ ومنذ، ومذ ومنذ مبتدآن، وتقديرهما في المنكور: الأَمَد، وفي المعرفة: أولُ الوقت، وبه قال ابن السراج والفارسي، فإذا قلت/ ما رأيتُه مذ يومان فالتقدير: أمدُ انقطاع الرؤيةِ يومان، وإذا قلت: ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة، فالتقدير: أولُ انقطاع الرؤية يومُ الجمعة.

ص: 339

المذهب الرابع: أنه مرفوع علي الابتداء، ومذ ومنذ الخبر، وهما منصوبان علي الظرف كما إذا أضيفا إلي جملة، وهو مذهب الأخفش والزجاج وطائفة من البصريين، والتقدير: بيني وبين لقائه يومان.

وإنما ذهبوا إلي ذلك لأنك إذا جعلتهما مبتدأين والمرفوع بعدهما الخبر كانا من قبيل الأسماء الملتزَم فيها الرفع علي الابتداء، نحو ايْمُنُ الله، وما التعجيبة، وعلي مذهبهم كانا من قبيل الأسماء الملتزم فيها النصب علي الظرفية، نحو: بُعَيداتِ بين، وسَحَرَ من يوم بعينه، وعدمُ التصرف في الظروف أوسع منه في الأسماء التي ليست بظروف ولا مصادر، فكان حملها علي الأوسع أولي.

قال بعض أصحابنا: والصحيح مذهب الفارسي وابن السراج من وجهين:

أحدهما: أنهما مفردان، لم يُعطف عليهما غيرهما، كما أنّ الأمد وأول الوقت كذلك، فكان الحكم لهما بحكم ما يساويهما في الإفراد أولي، وليس كذلك بيني وبين لقائه؛ لأنهما اسمان منصوبان علي الظرف معطوف أحدهما علي الآخر.

والوجه الثاني: أنّ تقديرهما بـ «بين» في بعض الصور لا يتصور، وذلك إذا قلت مثلاً يومَ الأحد: ما رأيت زيداً مذ يومُ الجمعة، فليس بينك وبين لقائه يوم الجمعة، بل قدر من الزمان أوله يوم الجمعة، وآخره الوقت الذي أنت فيه، ولا يقدر بيني وبين لقائه يوم الجمعة وما بعده إلي الآن؛ لأنّ فيه حذف حرف العطف والمعطوف، وهو قليل، وأيضاً فلم يصرحوا بهذا المعطوف المقدَّر في موضع ما، فدلَّ علي عدم إرادته.

وعلي هذا المذهب الكلام جملتان وإذا فرَّعنا علي أنَّ الكلام جملتان فاختلفوا في الجملة من مذ أو منذ والمرفوع بعدهما هل لها موضع من الإعراب:

ص: 340

فذهب الجمهور إلي أنها لا موضع لها من الإعراب. وذهب أبو سعيد إلي أنها في موضع الحال، كأنه قال: ما رأيتُه متقدماً. وليس هذا بالوجه؛ لأنها خرجت مخرج الجواب، كأنه قيل له: ما أمدُ ذلك؟ فقال: يومان. ومما يبطل كونها حالاً أنّ الجملة إذا وقعت حالاً فلا بدَّ فيها من رابط يعود علي ذي الحال، أو من واو الحال، وهذه الجملة خالية من الضمير ومن واو الحال.

وقوله وقد يَجُرّان الوقتَ أو ما يُستَفهَم به عنه مثال جرَّهما الوقتَ: ما رأيتُه مذْ يوم الجمعة، أو منذُ الجمعة. ومثال جرذَهما ما يُستفهم به عن الوقت: مُذْ متى رأيتَه؟ ومُذْ كَمْ فَقَدتَه؟ واللغة الفصيحة في منذُ الخفض علي كل حال، قال:

قَفَا نَبْكِ مِن ذِكْرَي حَبيبٍ وعِرْفانِ

ورَسْمٍ عَفَتْ آياتُهُ مُنذُ أَزْمانِ

وقوله/ حرفين أمّا كونهما حرفين إذا انجرَّ ما بعدهما فهو مذهب الجمهور. [3: 182/ب]

واستدلَّ علي ذلك بإيصالهما الفعل إلي كَمْ كما يُوصِل حرفُ الجر، نحو قولك:

منذُ كَمْ سِرتَ؟ كما تقول: بِمَنْ تَمُرُّ؟ ولو كانا منصوبين علي الظرف لجاز أن يَستغني الفعل الواقع بعدهما عن العمل فيهما بإعماله في ضمير عائد عليهما؛ فكنت تقول: منذُ كمْ سِرتَ فيه؟ أو سِرتَه، إن اتَّسَعتَ في الضمير، كما تقول: يومَ الجمعة قمتُ فيه، أو قمته، وامتناع العرب من التكلم بذلك دليل علي أنهما حرفا جر، وكذلك قولهم: منذُ متى سِرتَ؟ وامتناعهم من قولهم منذ متى سِرتَ فيه، أو سِرتَه. وأيضاً فإنَّ مذْ ومنذ يتقدَّران في موضع بـ «في» ، وفي موضع بـ «من» ؛ إذ هما بمعناهما إذا جَرّا، و «في» و «من» حرف، فكذلك ما بمعناهما.

ص: 341

وذهب بعض النحويين إلي أنهما إذا انجرَّ ما بعدهما اسمان. واستدلَّ علي ذلك بأن قال: قد ثَبت لهما الاسمية إذا ارتفع ما بعدهما، فلا نُخرجهما عن الاسمية ما أمكن بقاؤهما عليها، وقد أمكن بأن يُجعلا ظرفين في موضع نصب بالفعل قبلهما.

ورًدَّ هذا المذهب بأنَّ الظرف إذا نُفي عنه الفعل لم يقع الفعل في جزء منه، تقول: ما رأيته يومَ الجمعة، فانتفت الرؤية في جميع اليوم وفي جزء منه، وإذا قلت ما رأيته منذُ يومِ الجمعة أمكن أن تكون رأيته في بعضه، ثم انقطعت الرؤية، أو لم تره. وأيضاً فالظرف إذا نُفي عنه الفعل لم يَنتفِ إلا عنه خاصّة، فإذا قلت ما رأيته يومَ الجمعة انتفت الرؤية عن يوم الجمعة خاصّة، وأمكن أن [تكون] رأيته قبل إخبارك إلي آخر انقضاء يوم الجمعة، ومنذ ليس كذلك، فإذا قلت ما رأيته منذ يومِ الجمعة فالمعني انتفاء الرؤية منذ يوم الجمعة إلي زمان إخبارك. وأيضاً يبطُل هذا المذهب بأنهما موصلان الفعل إلي اسم الزمان المستفهم به واسم العدد دون ضمير عائد عليهما؛ كما تقدم في الاستدلال لمذهب الجمهور.

وقوله بمعني مِن إن صلَح جواباً لـ «متى» ، وإلا فبمعني «في» أو بمعني «مِن» و «إلي» معاً مثال ما صلَح جواباً لِمَتَى قولك: ما رأيته مذْ يومِ الجمعة، ومنذُ يومِ الجمعة، مذ ومنذ في هذين لابتداء الغاية في الزمان بمنْزلة مِن في: سِرتُ مِنَ البصرة، وهذا لمعني مِن، ولا تكون مذ ومنذ بمعني مِن إلا كان الزمان ماضياً معرفةً دالّاً علي وقت معلوم.

ومثال كونهما بمعني في قولك: أنت عندنا مُذ الليلةِ، أو ما رأيتُه منذُ الليلةِ، وهذه بمعني في، ولا تكون بمعني في إلا إذا كان الزمان حالاً، وكان معرفة.

ص: 342

ومثال كونهما بمعني من وإلي معاً: ما رأيتُه منذُ أربعةِ أيام، ولا تكون بمعني مِن وإلي /إلا إذا كان الزمان نكرة، فيدخلان علي الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه، كمِن في نحو قولك: أخذتُه مِن ذلك المكان. [3: 183/أ]

وقال أصحابنا: اسم الزمان الواقع بعد منذ أو مذ إن كان مرفوعاً معدوداً فهما للغاية، أو غير معدود فهما لابتدائهما، وإن كان مخفوضاً فكذلك، إلا إن كان المخفوض حالاً، فإنَّ ما بعدهما يكون إذ ذلك غاية، ويكون معناهما كمعني مِن.

وقالوا أيضاً: إن دخلا علي الحال فلا يكون إلا مخفوضاً، والحال هو اليوم والليلة والحين والساعة والآن وما أضفته إلي نفسك مثل يومنا؛ وما أشرت إليه من أسماء الزمان، ومعناهما إذ ذاك الغاية. وإن دخلتا علي الماضي فمذ يرتفع الاسم بعدها، وحكي الخفض قليلاً، ومنذ ينجرِّ الاسم بعدها، والرفع قليل.

والظاهر من كلام المصنف أنّ الجر بهما قليل لقوله «وقد يَجُرّان حرفين» وأنهما يضافان إلي الجملة، وأنّ ما جاء بعدها مرفوعاً هو علي إضماء الفعل، فلم يخرجا عنده عن إضافتهما إلي الجملة إلا إذا جَرّا، فهما حرفان.

وقال الأخفش: منذ لغة أهل الحجاز، يجرُّون بها كل شيء من المعرفة والنكرة، وبنو تميم وغيرهم يرفع بِمُذْ ما بعدها، فيقولون: لم أر زيداً مذ يومان، أي: بيني وبين لقائه يومان. والحجازيون يقولون في هذا: لم أره مذ يومين، فيجعلونها حرفاً بمنْزلة مِن. وأمَا عامة العرب فيقولون لشيء أنت فيه: لم أره مذ اليومِ، أو منذ العامِ، أو منذ الساعةِ، أو منذ الليلةِ، فيجرُّون. وإنما يختلفون فيما مضي، فيقول بنو تميم: لم أره منذ العامُ الماضي. وروي الكوفيون أنّ مذ يرفع بها الماضي تميم وأسد، ويخفضه بها مُزَينة وغَطَفان وعامِر بن صَعصَعة ومن جاورهم من قيس، وروَوَا عن جميع من ذكرنا الخفض بها في الماشي، فإن أدخلت النون فقلت منذ خفضتْ بها عامِر في الماضي، ورفعتْ بها هَوازن وسُلَيم.

ص: 343

قال اللحياني: الرفع بعد مذ أكثر من الخفض ومن الرفع بعد منذ، وضبَّة والرَّباب تخفض بِمُذْ ما مضي ومت لم يمض، وبعض العرب بيرفع ِبِمُنْذُ ما مضي وما لم يمض، وبنو عُبَيْد من غَنِيّ يحركون الذال من مذ عند المتحرك والساكن، ويرفعون بها ما بعدها، فيقولون: مُذُ اليومُ، ومُذُ يومان، وبعضهم يخفض الذال عند الساكن، فيقولون: مُذ اليومُ.

وقال عبد الظاهر: «إذا رفعت ما بعدها جاز التنكير، نحو: ما رأيته مذ يومان، تريد أول الوقت وآخره، والتعريف علي أن تقصد ذلك أيضاً، نحو: ما رأيته مذُ المحرمُ، تريد أنك لم تره في الشهر كله. وينبغي/ أن تقول ذلك عند انسلاخ الشهر. والوجه الثاني أن تريد أول الوقت، نحو: ما رأيته مذ يومُ الجمعة، وإذا جررت لم يجز إلا هذا الوجه، وهو قصد أول الوقت، كمِن في الأمكنة» [3: 183/ب]

وقال أبو البقاء العكبري: «إذا كانت للابتداء كان ما بعدها معرفة، نحو: ما رأيته مذ يومُ الجمعة؛ لأنه جواب متى. وإذا كانت لتقدير المدة كان ما بعدها عدداً نكرة، ما رأيته مذ يومان» .

وقال أيضاً: «الفرق بين التي للابتداء والتي لتقدير المدة أنّ الأولي لا يمتنع [معها] أن تقع في بعض اليوم؛ لأنّ اللازم أن تكون الرؤية انقطعت فيه، واستمر الإنقطاع إلي حين الإخبار به، والتي تقع بعدها المدة لا يجوز أن تكون الرؤية وجدت في بعضها؛ لأنّ العدد جواب كم، فكأنك قلت: كم زمانُ انقطاع الرؤية؟ فقال: يومان» انتهى.

ص: 344

وزعم أبو علي الفارسي وغيره أن الأغلب علي مذ أن تكون اسماً، قالوا: وذلك أنّ الحذف يكثر في الأسماء والأفعال، ويقل في الحروف، فلا يكاد يوجد الحذف فيها إلا في المضعف، نحو رُبّ وإنّ، فلما كانت مُذ محذوفة من مُنذ وليست من قبيل المضعف غَلَّبَتت العرب فيها جانب الاسمية. وإنما جعلت محذوفة منها لاتفاقهما في الحروف والمعني. ويبين صحة ذلك أنّ من العرب مَن يقول: ما رأيته مُذ يومان، مراعاة للأصل، ومَن سكن ردَّها إلي أصلها لما زال موجب تحريكها، وهو التقاء الساكنين، بحذف النون. ويبين أيضاً صحة ذلك أنّ الرفع بد مُذ أكثر من الخفض بها، ومن الرفع بعد مُنذ. انتهي.

والعجب لهم أنهم يجعلون مُذْ فرعاً من مُنذُ وأنّ الغالب علي مُذ الاسمية، والغالب علي منذُ الحرفية. ويستدلون علي ذلك بأنّ الحذف في الأسماء أكثر منه في الحروف لأنه تصرف، والتصرف بابه أن يكون في الأسماء، وكون مُذ محذوفة مِن مُنذ يقتضي أن تكون مُنذُ اسماً؛ لأنها هي، ومحال أن يكون الشيء حرفاً، فإذا حذف منه شيء صار اسماً؛ لأنّ الحذف من الشيء لا يغيِّر الماهيّة؛ ألا تراهم حين حذفوا من حِرٍ الحاء وهو اسم بقي اسماً، وحين حذفوا من رُبَ الباء وهو حرف بقي حرفاً، وحين حذفوا من يَعِدُ الواو وهو فعل بقي فعلاً، فالذي ينبغي أن يقال: إنّ مُذْ إذا استعملت اسماً مرفوعاً ما بعدها فهي محذوفة من منذُ الاسمية أيضاً، لكن جاء الرفع بعدها أكثر مما جاء بعد مُنذ، وقد يغلب علي الفروع حكم يَقِلُّ في الأصول.

ص: 345

وقوله وقد يغني عن جواب في الحالين مصدرٌ معيَّن الزمان يعني بقوله في الحالين إذا كانا ظرفين، وإذا كانا حرفي جر. ومثاله: ما رأيته/ مذُ قدومِ زيد، فيرفع، ويجر، وهو علي حذف زمان، أي: مُذ قدومُ زيدٍ، ومذ زمنِ قدومِ زيد، حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. [3: 184/أ]

واحترز بقوله معيّن الزمان من أن يكون مبهم الزمان، نحو: ما رأيته مُذ قدومٍ، أو ما رأيته مُذ قدومِ رجلٍ.

وقوله أو أنّ وصِلَتُها مثاله: ما رأيتُه مُذْ أنّ اللهَ خَلَقَنِي، فيُحكم علي موضعها بما حُكم للفظ المصدر من رفع أو جر؛ لأنها مؤولة به، ويكون ذلك علي حذف مضاف، تقديره: مُذ زمنُ أنّ اللهَ خلقني.

قال ابن عصفور: «ويجوز أن تكون أنّ وما بعدها بتأويل المصدر الموضوع موضع الزمان، مثل: خفُوقَ النجم» .

وقوله وليسا قبل المرفوع مبتدأين، بل ظرفين، خلافاً للبصريين تقدمت المذاهب علي أيِّ شيء ارتفع ما بعدهما، أعلي الفاعلية، أو علي الابتدائية، أو علي الخبر لهما، أو علي الخبر لمبتدأ محذوف. إلا أنّ في كلام المصنف نقداً من حيث قال «بل ظرفين خلافاً للبصريين» وليس البصريون قالوا كلهم إنهما مبتدآن لا ظرفان، بل هم في ذلك فرقتان كما نقلناه قبل، إحداهما قالت بأنهما اسمان مبتدآن لا ظرفان، والأخرى قالت إنهما ظرفان منصوبان في موضع الخبر للمرفوع بعدهما.

ص: 346

وقوله وسكون ذال مُذ قبل متحرك أعرف من ضمها مثاله مُذْ يومان، ومُذُ يومان، تقدم أنّ الضم لغة بني عُبَيْد من غَنِيّ.

وقوله وضمها قبل ساكن أعرف من كسرها مثاله مُذُ اليوم ومُذِ اليوم، وتقدم أن كسر الذال لغة لبعض بني عبيد من غني.

انتهي شرح كلام المصنف. ولنذكر مسائل من باب مُذ ومُنذ، تكون كالتتمة لكلام المصنف.

المسألة الأولي: مُذْ ومُنذُ لا يجرّان إلا الظاهر من اسم الزمان أو المصدر ما ُبيّن. وأجاز أبو العباس أن يجرا مضمر الزمان، يومْ الخميس ما رأيتك مُنْذُه أو مُذْه. والصحيح المنع لأنّ العرب لم تقله.

المسألة الثانية: اسم الزمان المخصّص الواقع بعدهما إذا كان بمعني أوّل الوقت، نحو: ما رأيته مُذْ يومِ الجمعة ذهب الأخفش إلي أن الفعل لا يكون أبداً في جميعه بل في بعضه، فأنت قد رأيته في بعض يوم الجمعة، ثم فقدتَه بعد ذلك إلي الزمان الذي أنت فيه.

واختلف النقل عن المبرد: ففي «المقتضب» ما يدل علي موافقة الأخفش، قال فيه:«إن قال قائل: ما بالي أقول: لم أرَك مُذْ يومِ الجمعة، وقد رأيتك يوم الجمعة؟ قيل:/ إنّ النفي إنما وقع علي ما بعد يوم الجمعة، والتقدير لم أَرَك مذ وقتِ رؤيتي لك يوم الجمعة، فقد أثبتَّ الرؤية، وجعلتها الحدَّ الذي لم تره منه» .

وقال ابن السراج عن أبي العباس: «إنه يجوز أن يكون نفي الفعل في جميعه، وأن يكون في بعضه» . قال: «فيقال: كيف اجتمعا في النفي والإيجاب على أنّ

ص: 347

الرؤية واقعة في يوم الجمعة؟ والجواب في هذا أنك تقول: رأيت زيداً يومَ الجمعة، وإنما رأيتَه في بعضه أو في جميعه، فهل يستقيم علي هذا أن تقول: ما رأيته مذ يومِ الجمعة، فيقع النفي في جميعه كما كانت الرؤية مستقيمة في جميعه؟ ويجوز أن يكون النفي واقعاً علي بعضه».

والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن وأبو العباس في مقتضيه؛ لأنك لا تقول ما رأيته مذ يومِ الجمعة إلا وقد وقع فقد الرؤية بعد دخول الوقت الذي يقال له يوم الجمعة؛ إذ لو كان فقد قبل طلوع الفجر لَمَا كان فاقداً للرؤية الجمعة بل ليلة الجمعة.

المسألة الثالثة: مذ ومنذ لا يتقدمهما من الأفعال إلا الأفعال المنفية لفظاً ومعني، أو المنفية لفظاً، أو الأفعال الموجبة التي تقتضي الدوام، نحو: ما رأيتُ زيداً مذ يوم الجمعة، وما زلتُ أَصحَبُك منذ سنةٍ، أو صَحِبتُه مذ يومِ الجمعة، وسرتُ مذ يومِ الجمعة إذا أردت اتصال السير.

قال أبو الحسن في «الكبير» له: لو قلت: رأيته مذ يومِ الجمعة، وأنت تعني أنك رأيته يوم الجمعة، ثم انقطعت الرؤية إلي ساعتك لم يجز. وقال أبو بكر في «الأصول» له:«تقول: أنا أراك مذ سنة تتكلم في حالة، إذا أردت أنك في حال رؤيته مذ سنة» . قال: «ولذلك قلت أراك لأنك تخبر عن حال لم تنقطع، فإن أردت أنك رأيته ثم غَبَرتَ سنةَ لا تراه قلت: رأيتك مذ سنة؛ لأنك أخبرت عن رؤيةٍ مضت وانقطعت» .

وقال بن عصفور: والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن من أنه لا يراد بما بعدهما تبيين مدة الانقطاع، أو تبيين أول مدة الانقطاع إلا بعد الفعل المنفي. وأمّا إذا وقعا بعد الفعل الموجب فإنما يراد بهما تبيين مدة دوام الفعل أو تبيين أول مدة

ص: 348

دوامه، وسواء في ذلك كون الفعل علي صيغة الماضي أو صيغة المضارع. ويدلُّ علي صحة ذلك قول سَلَمة بن يزيم الفَهْمي:

رأيتُ الناسَ مُذْ خُلِقُوا وكانوا

يُحِبُّونَ الغِنِيّ مِنَ الرِّجالِ

[3: 185/أ] ألا تري أنّ مراده أنه لم يزل يري الناس مذ خُلق يحبون الغني إلي ساعته التي قال فيها هذا البيت. والنفي إذا كان في المعني موجباً يجري مجري الموجب في ذلك، نحو قول الفرزدق:

ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداه إزارَهُ

فِسَماً، فأَدْرَكَ خَمْسة الأَشْبارِ

يُدْنِي خوافِقَ مِنْ خوافِقَ، تَلتَقي

في ظِلِّ مُعْتَرَكِ العَجاجِ مُثارِ

مراده الإخبار عن الممدوح بأنه مُذْ عَقَدت يداه إزازه يُدني خَوافِق من خَوافق. وكذلك أيضاً حكمهما إذا جرّا الحال، نحو: ما رأيتُه مُذُ اليومِ، وأقامَ عندنا مُذُ اليومِ.

قال أبو الحسن: ولا يحسن: قَدمَ فلانٌ يوم الجمعة، ولا: قَدمَ فلانٌ مُذْ اليومِ، إلا أن تكون العرب تُجيز هذا،، كأنك لم تذكر مذ، كما يقولون: رأيتُه مُذ اليوم، وهم يريدون: اليومَ. قال: وذلك قبيح إلا أن تدوم الرؤية. قال: وكذلك يقبح: ماتَ زيدٌ مُذ اليومِ، إلا أن تجعل الموت شيئاً دائماً له، وهو قبيح؛ لأنك لو قلت ماتَ مُذُ اليومِ، إلا أن تجعل الموت شيئاً دائماً له، وهو قبيح؛ لأنك لو قلت ماتَ مُذُ اليومِ إلي الساعة لم يَحسُن.

المسألة الرابعة: إذا كانا حرفين فلا إشكال في بنائهما، وإذا كانا اسمين فللزومهما طريقةً واحدة كالحرف.

المسألة الخامسة: اسم العدد الواقع بعدهما إذا كانا بمعني الأمد فيه للعرب مذاهب:

ص: 349

أحدها: أنه لا يُعتَدُّ به إلا إذا كان كاملاً.

الثاني: أنه يُعتَدُّ بالأول والآخر وإن لم يكونا كاملين. قال أبو الحسن في «الكبير» له: يجوز أن يقول الرجل يومَ الاثنين لمن رآه الجمعة: ما رأيتُك مُذ يومان، ولا يحتسب بالاثنين ولا بالجمعة؛ لأنه قد رآه فيهما، رأيت بعض العرب يذهب إلي هذا، وبعضهم يقول: مُذ أربعةٌ، يحتسب الاثنين والجمعة من الأيام التي لم يره فيها لما كان قد ترك رؤيته في بعضها. وزعم أن أرباب هذه اللغة لا يقولون: ما رأيتُه مُذ يومان، لم رآه أمس، وإنما يقولون: مُذ أمسِ إلي اليوم. وإنما لم يقولوا ذلك لأنه يقع فيه لبس من جهة أنّ اليومين جميعاً لم يتمَا، فكل واحد منهما علي المجاز، ولم يحسن لمّا اجتمعا علي المجاز.

المذهب الثالث: أن يعتدّ بالناقص الأول، ولا يعتد بالآخر، حكي أبو الحسن أيضاً في «الكبير» له أنه سأل بعض العرب عن قوله «لم أره مُذ يومان»: متي رأيتَه؟ فقال: أولَ مِن أمسِ. وإنما حمل ذلك علي الاعتداد بالناقص الأول لا الثاني أنهم لا يكادون يحتسبون بالذي هم فيه إذا كان ناقصاً؛ ألا تري أنه إذا قال ما رأيتُه مُذ اليوم كان/ قد فقد رأيته في اليوم، ولم يره في شيء منه؛ لأنّ معناه: ما رأيته في اليوم. هذا هو المختار. [3: 185/ب]

وقد أجاز الأخفش بالقياس أن يحتسب بالناقص الثاني دون الأول، ويجعل العدد علي الليالي، فإن العدد علي ذلك يقع، قال: وهو قياس حسن.

المسألة السادسة: لمّا كان النفي واقعاً في جميع ما بعد مُذ ومُنذُ إذا كانا بمعني أول الوقت منع أبو الحسن أن يُعطف علي اسم الزمان الواقع بعدهما اسم زمان مختصّ متقدم عليه أو متأخر عنه؛ فلا يقال: ما رأيته منذ شهرُ رمضان وشهرُ

ص: 350

شعبان، لأنّ قولك ما رأيته مذ شهرُ رمضان يقتضي أنك رأيته فيه، فكيف تقول: منذ شهرُ شعبان، وأنت لا تقول «من شهرُ شعبان» إلا وقد رأيتَه فيه، ثم لم تره إلي أن قلت: ما رأيته مذ شهرُ شعبان.

وكذلك أيضاَ عنده: ما رأيتُه منذ شهرُ رمضان وشهرُ شوال؛ لأنك إذا قلت ما رأيتُه منذ شهرُ رمضان وقد جزت شهر شوال عُلم أنك لم تره في شهر شوال.

قال: وكذلك لو قلت: ما رأيته منذ يومُ الجمعة ويومُ السبت [لم يجز]، ولو نصبت يوم السبت لم يجز أيضاً؛ لأنك إنما تريد إذ ذاك: وما رأيته يومَ السبت، وأنت إذا قلت يومَ الأحد: ما رأيته مذ يومُ الجمعة عُلم أنك لم تره يوم السبت، فإن كان ما بعد حرف العطف متقدماً علي الزمان الواقع بعدهما جاز عنده النصب، نحو: ما رأيته مُذْ يومُ الجمعة ويومَ الخميس، تريد: وما رأيته يومَ الخميس.

قال ابن عصفور: ويجوز عندي بالقياس أن يقال: أَمَدُ انقطاع الرؤية يومُ الجمعة ويومُ السبت، وتكون الواو إذ ذاك لا تنوب مناب عامل يتكرر، مثلها في قولك: اختصَم زيدٌ وعمرٌو، وتكون إذ ذاك قد عرَّفت مخاطبك بعدّة مدة الانقطاع، وزدت مع ذلك تعريفاً لتلك المدة، إلا أنّ الذي منع أبا الحسن أن يذكر هذا الوجه ما حكاه عن العرب من أنها لا تَستعمل اسم الزمان المعرفة في كلامها بعد مُذْ ومُنذُ إلا إذا كانا بمعني أول الوقت.

المسالة السابعة: منع أبو الحسن العطف إذا اختلف الاسمان الواقعان بعدهما بالتعريف والتنكير، فلا يجوز عنده: ما رأيتُه مُذْ يومْ الجمعة ويومان، ولا: ما رأيته مُذْ أمسِ ويومان، قال: لأنك لا تقول ما رأيتُه مُذْ أمسِ إلا وقد رأيته أمسِ،

ص: 351

وكذلك: ما رأيتُه مُذْ يومانِ وأمسِ. وإنما منع ذلك لأجل المخالفة؛ لأنّ اسم الزمان إذا كان معرفة بعدهما كانا بمعني: أوَّل، ولزم إذ ذاك أن تكون الرؤية قد وقعت في ذلك الزمان، وإذا كانت /نكرة كانا بمعني: أمَد، ولم يلزم إذ ذاك أن تقع الرؤية في الزمان الواقع بعدهما، فلمّا اختلف المعني امتنع العطف. [3: 186/أ]

قال ابن عصفور: والعطف عندي أيضاً جائز في القياس مع الاختلاف علي الوجه الذي ذكرته مع الاتفاق؛ وذلك بأن تجعل مُذْ بمعني: أَمَدُ انقطاعِ الرؤيةِ يومُ الجمعةِ ويومان، وتكون الواو مثلها في: اختصمَ زيدٌ وعمرٌو.

وزعم ابن السَّرَاج في «الأصول» له أن يجوز أن تقول: ما رأيتُ زيداً مُذْ يومان ويومُ الخميس، فالرفع علي تكرير مذ، والنصب كأنك قلت: وما رأيتُه يومَ الخميس. قال: وتنسق علي المعرفة المعرفة، فترفع إذا اتفق، وهو أحسن، ويجوز النصب، وتنصب إذا اختلف، وهو أحسن، ويجوز الرفع.

قال ابن عصفور: والصحيح ما ذكره أبو الحسن مِن أنّ العطف ليس من كلام العرب، اتفق الاسمان في التعريف أو اختلفا، فكان أحدهما معرفة والآخر نكرة للعلة التي تقدم ذكرها.

المسألة الثامنة: إذا وقع بعدهما اسم الزمان مختصاً، ولم يفد عِدّة مدة الانقطاع لم يقع بعدها إلا إذا كان المعني: أوّل، نحو: ما رأيتُه مُذْ يومُ الجمعة، تريد أنّ انقطاع الرؤية كان أوَّلُه يوم الجمعة، وإن أفاد فالمحفوظ من كلام العرب إذا وقع بعدهما أن يكونا بمعني: أوَّلُ الوقت، فتقول: ما رأيتُه مُنذُ الشهران الماضيان، تريد أنك رأيته في الشهرين الماضيين، ثم انقطعت الرؤية من أحدهما إلي وقت إخبارك.

ص: 352

قال ابن عصفور: ويجوز في القياس وقوعه بعد مُذْ ومُنذُ إذا كان تخصيصه لا يُخرجه عن أن يفيد عِدّة مدة انقطاع الرؤية؛ إلا أنّ العرب لم تَكَلّم بذاك.

قال أبو الحسن في «الكبير» له: ولو قلت: ما رأيتُه مُذُ الشهران كما تقول: ما رأيتُه مُذْ شهران تريد: بيني وبين لقائه الشهران الماضيان كان جائزاً القياس وإن كان لا يُتَكلَّم به.

تم بحمد الله تعالي وتوفيقه

الجزء السابع من كتاب «التذييل والتكميل»

بتقسيم محققه، ويليه إن شاء الله تعالي

الجزء الثامن، وأوله:

«ص: ومنها الآنَ لوقتٍ حضرَ جميعُه أو بعضُه»

ص: 353