المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مدخل … التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده فضيلة الدكتور عباس محجوب أستاذ مساعد - التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده

[عباس محجوب]

الفصل: ‌ ‌مدخل … التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده فضيلة الدكتور عباس محجوب أستاذ مساعد

‌مدخل

التربية

في عصور ما قبل الإسلام وبعده

فضيلة الدكتور عباس محجوب

أستاذ مساعد بكلية الدعوة بالجامعة

من البديهيات أن نقول: إن التربية قد ارتبطت بظهور الإنسان على الأرض، وإحساسه بنفسه، وتعامله في نطاق الأسرة ثم الجماعة.

ويحدثنا مؤرخو التربية أن الصغار كانوا يتعلمون من الكبار في المجتمعات الأولى عن طريق التقليد والمحاكاة، أو عن طريق المشاركة فيما يقوم به الكبار سعيا وراء ضروريات الحياة، بطريق عفوية يهيئ الأطفال عن طريقها لاكتساب المهارات العملية في الحياة.

والقرآن الكريم يحدثنا أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد البشر تربويا بتعليمهم منذ أن خلق سيدنا آدم وأودع فيهم القوى والطاقات التي تمكنهم من استعمار الأرض وإظهار ما أودع الله فيها من كنوز وخيرات؛ فكان الإنسان هو الخليفة الذي سلم أمر الأرض إليه، وأعطي من العلم ما ييسر له استعمال خاصية اللغات برموزها وإشاراتها إلى الأشياء والأشخاص وإعطائها المسميات التي تميزها، وهذه القدرة التي أودعها الله في الإنسان هي سر من أسرار تكريمه للإنسان على كثير ممن خلق، وترفعه إلى المعرفة والعلم فوق درجات الملائكة هي درجة مسؤوليات الخلافة في الأرض؛ يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ

ص: 101

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1.

ففي هذه الآيات نلمح بوادر التربية الإلهية للإنسان ممثلا في سيدنا آدم الذي كرمه الله، وعلمه مسميات الأشياء، ووكل إليه تحمل مسؤولية المواجهة للغواية ووسوسة الشيطان والمحافظة على عهد الله، ثم ما أعقبت المعصية من تنبه ويقظة وندامة وحسرة، وما ترتب على هذه التجربة من طلبٍ للمغفرة وتوبة إلى الله؛ كل ذلك ليستفيد الإنسان منها على الأرض مكان الخلافة التي خلق لها وأنزل إليها مزودا بتجارب متهيئة لمواجهة أعدائه في الأرض: النفس والشيطان.

فالتجربة التربوية الأولى كانت من عند الله سبحانه، وفي غير الأرض، ثم تتعدد التجارب التي تربي الإنسان في الأرض في أحداث القرآن، وبسائل خارجة عن تجارب البشر ومعارفهم، فإذا كانت التجربة الأولى ممثلة من خليفة الله في الأرض للخير وإبليس رمزا للشر؛ فإن التجربة تتكرر في أول جريمة على هذه الأرض من ابني آدم قابيل وهايبل، وهذه التجربة توضح أن وسائل التربية للإنسان ليست هي التحذير والموعظة والتذكير دائما؛ إذ إن النفوس تتباين وتختلف، ولابد تبعا لذلك من اختلاف الوسائل والطرق التربوية؛ يقول الله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} 2.

فالقصة تعلمنا أن النفس الشريرة إذا ما اندفعت في اتجاهها تطوع للإنسان كل جريمة من إزهاق روح بريئة، كما أن حيرة القاتل تظهر حداثة التجربة وجدتها في الأرض،

1 سورة البقرة الآيات: 30- 38.

2 سورة المائدة الآية: 27- 31.

ص: 102

وتظهر عجز الإنسان أمام التجارب والأحداث الجديدة في حياته مهما كانت قوته وجبروته وبطشه، ما لم تتعده التربية بالتهذيب والتعليم والتوجيه لطاقاته وخبراته الوجهة الصحيحة.

وكانت وسيلة التعليم والتربية في القصة أن بعث الله خلقا من مخلوقاته هو الغراب؛ ليظهر للإنسان ضعفه ويعلمه كيف يدفن أمواته.

وسواء أقتل الغراب غرابا آخر معه ثم حفر له أو جاء إلى غراب ميت فدفنه؛ فإن الله هو الذي أودع هذه الغريزة في هذا الحيوان ليعلم الإنسان وليأخذ منه العظات والعبر، وليكون وسيلة أيضا لبيان أحكام شرعية تتعلق بحماية الإنسان في الأرض.

وقد أدرك سيد البشر صلى الله عليه وسلم الناحية التربوية في هذه القصة؛ فوجه المسلمين إليها وقال: "إن ابني آدم عليه السلام ضربا لهذه الأمة مثلا؛ فخذوا بالخير منهما"، كما قال:"إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم".

والقرآن مليء بنماذج كثيرة تدل على المواقف التربوية في حياة الأنبياء والأمم التي تعاقبت على الأرض قبل الرسالة المحمدية التي جاءت خاتمة للرسالات، كاملة الأسس والأهداف والنظريات التربوية.

ويذكر مؤرخو التربية الحديثة أن البشرية قد عاشت آلاف السنين وهي لا تعرف التربية المنظمة التي نمارسها في مدارسنا أو معاهدنا التي تعتبر الأماكن المخصصة لممارسة عملية التربية، وإذا كانت التربية الأولية أو البدائية لا تمارس في حجرات الدراسة فإنها كانت تمارس في واقع الحياة من خلال المهارات التي يتعلمها الفرد عن طريق المحاكاة والتقليد من خلال ممارسات الزراعة والصيد وغيرهما، أو من خلال المعلومات التي تتبادلها الناس في حياتهم، ولم تكن تلك المهارات والمعلومات من التعقيد بمكان؛ نسبة لبساطة الحياة وقلة الحضارة وبدائية الثقافة وغير ذلك من المكونات التراثية في حياة الأمم.

وكانت التربية آنذاك من وظيفة الآباء والمجتمع الصغير الذي يعيش فيه الفرد، وكان لابد لهذه التربية البدائية من أن تتطور بتطور البشرية في سلوكها ومهاراتها ومعارفها وحضارتها، وكان لابد أن يتبع التطور والتغيير في حياة الناس المادية تطور في الأفكار والاتجاهات واختلاف وجهات النظر في أمور الحياة وطرقها ومعيشة الناس وقيمهم وأخلاقياتهم.

وتبع هذا التطور الحاجة إلى جماعة من المجتمع يهتمون بالأبناء ويقومون بواجب التربية والتعليم نيابة عن الآباء والأسرة؛ فظهر المعلم الذي يعلم أبناء مجتمعه في مكان ما من البيئة، ثم تطور الأمر إلى وجود أماكن مخصصة يتعلم فيها الأبناء أصول القراءة والكتابة وما وصلت إليه الأمة من تراث يمثل

ص: 103

تاريخها وشرائعها، ولذلك كله نجد في بلاد الصين قبل خمسة آلاف سنة مدارس تنتشر في القرى في مبان ضيقة لا تزيد عن حجرة أو في أركان المعابد، ويتعلم الأطفال فيها الكتابة وبعض الأشعار ومبادئ الحساب، ولم تكن هناك صلة أول الأمر بين لغة التخاطب ولغة التعليم، وينتقل الطلاب من مرحلة دنيا إلى مرحلة عليا يدرسون فيها التاريخ والفلسفة والدين والشؤون الزراعية والحربية، ولأن التربية كانت خاضعة للدولة فإنها كانت تهيئ لها الموظفين الذين يعينون حسب شهاداتهم والامتحانات الدورية التي تعقد لهم، ويجتاز الطالب عدة امتحانات ليمتحن أخيرا في كلية (هان لين بوان) ، وهي أكاديمية امبراطورية في بكين؛ قاعة الامتحانات فيها تتكون من عشرة آلاف حجرة، ولكل طالب حجرة يختبر فيها ويأكل فيها ويعيش فيها؛ حيث تستمر ثلاثة عشر يوما في الأدب والأخلاق والفلسفة، ثم يعين الناجحون - بعد تلك الأيام القاسية التي عاشوها في حجرات غير صحية - في مناصب الدواة الكبرى1.

وكان غرض التربية إلى جانب ذلك (إعداد القادة؛ بتزويدهم بالمعارف القديمة التي تتصل بنظام المجتمع وصلات الأفراد بعضهم ببعض، وإعداد كل أفراد الشعب ليكون سلوكهم حسنا في جميع أعمالهم وفي جميع ما يزاولونه في حياتهم) 2، أي أن التربية كانت تعنى بالناحية الخلقية الاجتماعية.

أما في مصر الفرعونية فقد هدفت التربية إلى تهيئة الأفراد ليكونوا أعضاء عاملين في المجتمع، وذلك بمدّهم بالخبرات اللازمة لذلك، كما عملت التربية على تنمية الناحيتين الثقافية والمهنية، والدينية والدنيوية (فالدنيوي تخريج المتعلمين في الفنون المختلفة مما يضمن لهم المعيشة الراضية، والديني هو العمل على محبة الآلهة في الآخرة بالتعبد والتقرب إليهم)3.

أما الهند فقد كان التعليم محتكرا لدى البراهمة الذين قصروا التعليم أول الأمر على عدد قليل من الطبقة العليا، ثم سمحوا به للطبقات كلها، ويشمل التعليم الدين والأخلاق والحساب والكتابة، ثم ينتقل الجميع إلى الجامعات، وكانت التربية تعمل على اكتساب الطلاب لعادات التفكير والإحساس والتحكم في الجسم والسلوك؛ فكان الطالب يجلس جلسة واحدة مدة تستغرق ساعات طويلة يتعود بها على التحكم في نزعات نفسه ورغبات جسمه4.

1 د. سعد موسى أحمد - تطور الفكر لتربوي ط 1 ص 74- 85.

2 مونرو - تاريخ التربية نقلها عن التربية وطرق التدريس لصالح عبد العزيز وعبد العزيز عبد المجيد.

3 د. سعد موسى تطور الفكر التربوي ص 84- 85.

4 التربية وطرق التدريس ص 33.

ص: 104

(وقد اهتم قدماء المصريين بالعلم والمدارس؛ باعتبار المعرفة وسيلة إلى المجد والثروة، ووصايا حكمائهم تحث على الثقافة والمعرفة اللتين لا يسمو شيء عليهما، وقد قسموا المجتمع إلى طبقات: أولى تتكون من الكهان والأطباء والمهندسين ورجال الفكر والعلم والكتاب، وثانية هم المحاربون، وثالثة يمثلها الفلاحون والرعاة والتجار والعمال، كما أنهم قسموا التعليم إلى مراحل: أولية للأطفال، ومتقدمة تقتصر على أبناء الفراعنة - الطبقة الأولى - وكان لديهم جامعة مشهورة هي «جامعة اون» عين شمس، كما كان التعليم العسكري عندهم منفصلا)1.

أما في أوربا فقد كان لمدينة اسبرطة نظامها التربوي العجيب؛ إذ إن الدولة كانت تتعهد الطفل منذ مولده؛ فإذا أحسوا بضعفه تركوه في العراء ثم عادوا إليه بعد فترة؛ فإذا تحمل الجوع والبرد أبقوا على حياته وإلا تركوه حتى يموت بدلا من أن يشب مواطنا ضعيفا، والطفل يظل مع أمه سبع سنوات ثم يرسل إلى إحدى مؤسسات الدولة؛ ليعيش مع غيره من الأطفال تحت نظام قاس عنيف من التربية؛ ليأخذ على مظاهر التقشف والنظام، ومن يبدي منهم شجاعة وإقداما أصبح رئيسا للجماعة، وعلى الآخرين طاعته.

فالتربية في اسبرطة تهدف إلى إعداد الطفل إعدادا عسكريا في المقام الأول؛ ليقوم بوظائفه القتالية، ثم تأتي التربية الأدبية والخلقية، كما تهدف التربية العسكرية على تقوية روح الطاعة المطلقة.

أما الفضائل الإنسانية - مثل الصدق والأمانة - فهي نسبية؛ إذ إن الكذب يجوز على غير الاسبرطيين، ولا يعاقب السارق إلا إذا ضبط متلبسا بجريمته؛ لأنه فشل في إخفاء نفسه ولم يكن حريصا، وكان أغلبهم لا يتعلم القراءة والكتابة مع أنهم كانوا أذكياء.

وإذا انتقلنا إلى أثينا الدولة المنافسة دائما لاسبرطة فإنها مع اهتمامها بالشجاعة والإقدام إلا أنها لم تكن تربية عسكرية؛ إذ كانت تعمل على أن يتحلى الإنسان بالحكمة المغلفة بالعقل والابتكار الجديد في الحياة، والعمل على سعادة الإنسان وكماله الجسماني والعقلي والخلقي، وتطلب الدولة من الأسرة الاهتمام بالطفل، ويعلم الطفل السلوك الطيب والقراءة، ويحفظ مؤلفات أعظم الشعراء حيث يجد فيها النصائح والقصص ومفاخر مشاهير الرجال، والتعليم طبقي يكتفي فيه أبناء الفقراء بالمرحلة الابتدائية، ويستمر أبناء الأغنياء في اكتساب الخبرات والمعلومات وتذوق الفن2.

1 د. إبراهيم ناصر مقدمة التربية ص 35.

2 مونرو - تاريخ التربية ترجمة صالح عبد العزيز ص 86- 88.

ص: 105

وفي مجال المقارنة بين التربية الصينية والأثينية يقول برتراند رسل فيه: (إن التربية الصينية التقليدية كانت كبيرة الشبه من بعض النواحي بنظيرتها في أثينا في أعزّ أيامها؛ كان الصبية الأثينيون يحملون على حفظ هومر عن ظهر قلب من أوله إلى آخره، وكذلك كان الصبية الصينيون يحملون على حفظ المأثورات الكنفوشية، وكان الأثينيون يعلمون نوعا من احترام الآلهة، يقوم على المحافظة على المظاهر، ولا يضع حاجزا في طريق النظر الفكري الحر، وكذلك كان الصينيون يقيمون طقوسا خاصة، تتصل بتقديس الأسلاف، من غير أن يجبروا بحال على اعتقاد ما كان منطويا في تلك الطقوس) .

أما الرومان فمع عراقة دولتهم لم تكن لهم نظريتهم التربوية المميزة، ومرت التربية عندهم بمراحل؛ وشملت الاهتمام بالدين والأخلاق والرياضة وفنون القتال، ثم ظهرت المدارس النظامية التي تعلم مهارات الحياة العملية وإعداد المواطن البليغ خطابة والفصيح بيانا، وفي الثقافة العالية الملم بصنوف المعرفة والمهارات الفلسفية والقانون والسياسة والحرب والذي يتولى أرفع المناصب في الدولة 1.

وقد عاشت أمم الشمال والغرب من أوربا في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية؛ لم ينبثق منها فجر الحضارة والعلم بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس العربية الإسلامية لأداء رسالتها في العلم والمدنية، وكانت بمعزل عن ركب الحضارة الإنسانية يقول عنها ?- ج. ويلز:(لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاما وسوادا، قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولا وأفظع من همجية العهد القديم؛ لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي - كإيطاليا وفرنسا فريسة - الدمار والفوضى والخراب)2.

أما عن أوربا الغربية فيقول البروفيسور شيلي في كتابه تاريخ الفلسفة: (لعل القرنين السابع والثامن كانا أظلم عهد في تاريخ حضارة أوربا الغربية؛ أنه كان عهد بربرية وجهالة لا نهاية لها، غمرت فظائعها أعمالا تدمر جميع المنجزات الأدبية والجمالية للعهد

1 د. سعد موسى – تطور الفكر التربوي ص 147- 150.

2 الشيخ أبو الحسن الندوي -ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 45- 46.

ص: 106

الماضي الكلاسيكي) ، كما يقول دربير:(يصعب القول عن سكان أوربا القدماء بأنهم تجاوزوا مرحلة البربرية والوحشية؛ فقد كانت أجسامهم قذرة وأخيلتهم مفعمة بالأوهام؛ يؤمنون إيمانا راسخا بكل ما ينقل من الأساطير والحكايات التافهة التي لا أساس لها عن كرامات الضرائح ودعاوى القداسة المزعومة) .

أما التربية المسيحية فلم تخرج عن رسالة المسيح عليه السلام في نشر روح التعاطف والتسامح والمحبة والتواضع، مع استخدام وسائل مختلفة مثل الأمثلة والحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقي المستمد من الواقع والمألوف، إلى جانب الحكم والأمثال كوسائل سريعة إلى قلوب المستمعين، وقد أخذت التربية المسيحية عن سقراط طريقته في استخدام الحوار للكشف عن المغالطات والأخطاء، وأخذ على هذه الطريقة أن النتائج ونهاية الحوار معدتان سلفا، ولا يمكن تغييرها، وكانت التربية المسيحية تعتمد على الأسرة ثم الكنيسة، ثم دخلتها الانحرافات التي دخلت على المسيحية فتغيرت عن صبغتها الدينية الخالصة، ثم بدأت المسيحية في إنشاء المدارس في اليونان، وجاءت فترة سيطرت فيها الكنيسة فيها على التعليم إلى نهاية القرن الحادي عشر، وكان التعليم قاصرا على أبناء الأغنياء والطبقات العليا ورجال الكنيسة1.

إن التربية المسيحية يمكن النظر إليها من خلال طبيعة الديانة المسيحية؛ فمع ما تقدم ذكره مما جاء في كتاب تاريخ التربية فإن الواقع التاريخي يدل على أن المسيحية لم تكن بطبيعتها ديانة تبنى عليها حضارة أو تقام على ضوء تعاليمها دولة، وقد جاء (بولس) فطمس نورها وأزال البقية من آثار تعاليمها وطعمها بخرافات الجاهلية والوثنية التي نشأ عليها، ثم قضى (قسطنطين) على البقية الباقية فأصبحت النصرانية مزيجا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية؛ فتلاشت تعاليم المسيح كتلاشي القطرة في اليم؛ فأصبحت معتقدات لا تغذي الروح ولا تمد القلب ولا تشعل العاطفة ولا تحل مشاكل الحياة، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية؛ يقول (SALE) مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية، عن نصارى القرن السادس الميلادي:(وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية؛ حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر)2.

والمعروف أن العالم قد وصل إلى درجة كبيرة من الانحطاط في القرنين السادس والسابع؛ نتيجة لانقطاع صلة العالم بالله سبحانه وتعالى، وبعد الشقة بينها وبين رسالات

1 راجع المرجع السابق ومقدمة تاريخ التربية د. إبراهيم ناصر ص 38.

2 راجع الشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (37) .

ص: 107

الأنبياء، وفقدان الأديان لروحها وتعاليمها؛ لكثرة ما لحق بها من تحريفات وما لحق الأمم من فوضى وانحلال، وطبيعي أن ديانة كهذه لا تستطيع، بل ليست من طبيعتها أن تقدم نظرية متكاملة في التربية؛ لأنها لم تأت بمنهج كامل للحياة كالإسلام.

أما اليهود فكانت التربية عندهم من واجبات الأسرة باعتبارها قوام حياة المجتمع اليهودي، وظلت على هذه الحالة في اعتمادها على الأسرة وعلى التعليم الخلقي والديني والقومي (كشعب الله المختار) ، وقد أنشأوا المدارس بعد ظهور المسيحية ليتعلم أطفالهم القراءة والكتابة والتاريخ والهندسة والفلك، (وكان الإسرائيليون الأوائل يجهلون معنى لأي نظام اجتماعي سوى الأسرة، ولا يتخذون رئيسا سوى الإله، وكان على أطفالهم أن يتربوا على أن يكونوا مخلصين لـ (يهود) .

وكان تعليمهم يتم عن طريق المثال الصالح القدوة، وكانوا يتعلمون القواعد الأخلاقية والمعتقدات الدينية الخاصة بهم، أما تعليم القراءة والكتابة فكانت مقصورة على الفتيان، في حين تتعلم الفتيات الغزل والحياكة وتهيئة الطعام ورعاية شئون المنزل والغناء والرقص) 1.

أما في القرنين السابقين للإسلام فقد كان اليهود أمة في أوربا وآسيا وإفريقيا، وكانوا أغنى أمم الأرض مادة في الدين، إلا أنهم لم يكونوا من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين المؤثرة في غيرهم؛ إذ قضي عليهم أن يتحكم غيرهم فيهم وكانوا عرضة للاضطهاد والاستبداد والنفي، وأورثهم تاريخهم الخاص - تاريخ العبودية والاضطهاد والإذلال والجشع وشهوة المال والربا - أورثهم نفسية غريبة وخصائص لا توجد في أمة أخرى، منها الخنوع عند الضعف والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله، وقد وصف القرآن حالهم في القرنين السادس والسابع وما وصلوا إليه من تدهور خلقي وانحطاط نفسي وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن قيادة العالم.

وقد تجددت حوادث في أوائل القرن السابع بينهم وبين المسيحيين بغضتهم إليهم، وحدثت بينهما حروب طويلة وقتل وقسوة، كما فصل ذلك المقريزي في الجزء الرابع من كتابه؛ بما يدل على استهانة الفريقين بالدم الإنساني وتحين الفرص في النكاية بالعدو وعدم مراعاة الحدود في ذلك، مما يبعدهم جميعا بأخلاقهم هذه من قيادة البشرية وأداء رسالة الحق والعدل والسلام وإسعاد البشرية في ظلها2.

1 د. إبراهيم ناصر مقدمة في التربية ص 34.

2 ماذا خسر العالم ص 44.

ص: 108

أما عن إيران أو مملكة الفرس، فقد قاسمت مملكة فارس الروم حكم العالم؛ كانت الأخلاق فيها منحطة والمحرمات موضع خلاف، حتى أن يزدجر الثاني الذي حكم أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته وقتلها، كما أن (بهرام جوينى) في القرن السادس كان متزوجا بأخته، فالإيرانيون اعتادوا الزواج بالمحرمات، وكانوا يعتبرون ذلك وسيلة تقرب إلى الله، وقد سبق ظهور دعوة (ماني) في القرن الثالث إلى تحريم النكاح استعجالا للفناء، ثم دعوة (مزدك) المولود في القرن الخامس إلى المساواة في المال والنساء، وجعل الناس شركاء فيهما حتى لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه.

أما الأكاسرة ملوك فارس فكانوا يدعون أنه يجري فيهم دم إلهي؛ فنظر الفرس إليهم كآلهة يقدسونهم ويؤلهونهم فوق البشر؛ لذا كان بعض ملوكهم أطفالا لأن هذا الحق لا يخرج عنهم.

كما اعتقد الناس في البيوتات الروحية والأشراف الذين يرونهم فوق طينة العامة في نفوسهم وعقولهم؛ مما عمق نظام الطبقات في المجتمع، وجعل كل واحد لا يعمل إلا بالحرفة التي خلقه الله لها، ولا يشتري عقارا لأمير أو كبير، ولا يتولى الوضيع وظيفة، وقصة المغيرة بن شعبة مع الفرس توضح هذا1.

كما كان الفرس يمجدون قوميتهم الفارسية التي يرون لها فضلا على سائر الأجناس والأمم التي يزرونها، وينظرون إليها باحتقار وسخرية، ويرون أن الله قد خصهم - دون الأمم - بمواهب خاصة.

وكانوا في عبادتهم قديما يعبدون الله ويسجدون له، ثم عبدوا الشمس والقمر والنجوم، ثم جاءت (زرادشت) الذي دعا إلى التوحيد وأبطل الأصنام، وقال: إن نور الله يسطع في كل ما يشرق ويلتهب في الكون، وأمر بالاتجاه إلى الشمس والنار ساعة الصلاة؛ لأن النور رمز إلى الإله، ثم مجدوا النار إلى أن عبدوها وبنوا لها المعابد والهياكل، وانتهت كل عقيدة وديانة إلى عبادة النار2.

ولا تذكر كتب تاريخ التربية نظريةً تربوية مميزة للفرس، ولكن تلك المعتقدات والعادات هي التي كانت تحدد فلسفتهم التربوية.

1 راجع الطبري ج 4 ص 108.

2 الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 47.

ص: 109